14 - 08 - 2014, 05:06 PM | رقم المشاركة : ( 5181 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الصلاة بمعرفة أنطلاق للعالم الاخر:
(( القديس كليمندس الاسكندري)) إن الصلاة حديث بثقة مع الله وحتى إذا كنا نهمس بدون تحريك شفاهنا أو نصلي بصمت فإننا من الداخل نصرخ نحوه! والله يسمع باستمرار لحديثنا الداخلي. حينئذآ نرفع رؤوسنا ونمد أيدينا نحو السماء بل ونقف على أطراف أرجلنا, صارخين معآ بأقصى ما تبلغ اليه الصلاة, منقادين بشهوة الروح نحو الجوهر العقلي الاسمى. وكأننا نحاول بأتصالنا باللوغوس أن ننفصل بالجسد عن الارض. ونجعل نفوسنا تنطلق وكأن لها أجنحة بشهوات الخيرات الفائقة فالنقتحم الاقداس العليا متجاهلين رباطات الجسد فإننا نعلم أن من يُصلي بمعرفة بإرادته يعبر من العالم كله تماما كما عبر اليهود قديمآ من مصر ويصير بذلك أقرب ما يمكن من الله ستروماتا 7:7 |
||||
14 - 08 - 2014, 05:08 PM | رقم المشاركة : ( 5182 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
من شريعة سيناء إلى شريعة يسوع (متى 5- 7) ......قيل لكم أما أنا فأقول لكم الأب بولس الفغالي مقدمة إنجيل متى هو إنجيل الكنيسة (الجماعة المؤمنة) كما يظهر لنا في الفصول 16- 17- 18. هذا الإنجيل هو المذكر الدائم للكنيسة. كُتِبَ في السنة 85 بعد الميلاد. كان عند اليهود الكثير من الوصايا تقريباً 613 وصية. لذالك سألوا يسوع عن الوصية الأعظم بين الوصايا, عندها أجابهم يسوع أحب الله من كل قلبك وأحب قريبك كحبكَ لنفسك. إنجيل متى هو الوحيد الذي يعطي صورة واضحة عن سر المعمودية كما يوضح لنا كيف يكون سر التوبة في الفصل (9) الآية (2). كيف كانت التوبة في عهد متى. متى هوَّ أول من كتب للعالم اليهودي (أنطلق مما هو موجود). نجد في إنجيله (5) وعظات, وهنا تبرز مقارنة جميلة فكما أن موسى لديه (5) كتب كذلك متى لديه (5) وعظات. - العظة الأولى: (وعظة الجبل) مثلما كان موسى على الجبل, جبل سيناء, وتسلم كلام الله (الكلمات العشر). كذلك يسوع وقف على الجبل, لم يذكر الجبل سواء أكان جبل أورشليم أو سيناء أو الجبل الأخير جبل الإنجيل. - العظة الثانية: (الفصل 10) لدينا هنا إنجيل الرسالة (يسوع يرسل تلاميذه, ويعطي أعظم وصاياه). - العظة الثالثة: (سر الله) أو تدعى أيضاً أسرار الملكوت وهي موجودة في الفصل (13). وقد طرحت من قبل يسوع بأسلوب الأمثال, انطلاقا من مبدأ أن الفكرة الغير المنظورة يجب أن تصبح منظورة ولا تصبح الأمور أوضح إلا إذا كان الإنسان مستعد تماماً ليدخل في المثل وفي السر. - العظة الرابعة: (عظة الجماعة المسيحية) وهي موجودة في الفصل (18). - العظة الخامسة: (وعظة النهاية) ليس نهاية العالم. بل يتكلم عن نهاية عالم (بدون أل التعريف) وهي موجودة في الفصلين 24- 25. دمار أورشليم كان أساس هام لبداية الكنيسة (75 م). وعند دمار الهيكل بدأ تحرر المسيحية من اليهودية ومن الشريعة القديمة.
يقول القديس بولس أو المدرسة البولسية في الرسالة إلى العبرانيين: في الشريعة القديمة كانت تقدم 1000 أو حتى 2000 ذبيحة لله ولكن لماذا هذا العدد الكبير من الذبائح فيسوع ذبيحة واحدة, من حيث أنه مات مرةً واحدة, ولكنه عن كل الذبائح الأخرى. ولماذا كِثرَتْ الكهنة (24000 كاهن في العهد القديم لخدمة الله) خصوصاً أن الكاهن المسكين هو مجبر أن يقدم ذبيحة عن نفسه وعن الآخرين, أما يسوع فليس بحاجة إلى أن يقدم ذبيحة عن نفسه بل فقط عنا لذلك قدم نفسه كذبيحة. كما أن يسوع تألم معنا وبكى معنا ولم يستحي بنا. لم يستطع المسيحيون أن يتخلوا عن هذه الأشياء (كِثرَتْ الكهنة والذبائح) إلى أن انتهى العالم بدمار أورشليم عندها فقط أدركوا أنه ما من رجوعٍ إلى الوراء أبداً. لذلك علينا أن نقرأ إنجيلنا اليوم بهذه الطريقة طريقة الإنسان الجديد حتى نستطيع أن نرى كم هناك من العادات والتقاليد التي تقيدنا وتَحُدنا. مثلاً هناك سؤال كثيراً ما يُطرَحُ على الكهنة اليوم: أبونا ما قدرنا نقدس بالأربعين فينا نقدس بالخمسة والثلاثين؟ العظة الأولى: (العظة على الجبل: 5- 6- 7) هذه العظة تعطينا أولاً دستور المسيحية. ليست العظة كلها دستور بل فقط القسم الأول منها (بدايتها). الطوبى أو هنيئاً أو ما أسعد هذه الكلمات هي دستور المسيحية فإذا كنا نعيش هذه التطويبات فهذا يعني أننا نعيش الإنجيل لأن الإنجيل ككل هو هذه التطويبات. التطويبات تعني أتريد أن تبحث عن السعادة هذه هي السعادة. هذه التطويبات أو هذه السعادة قد قلبت كل المفاهيم. إنجيل متى يقول تماماً: طوبى للمساكين بالروح يعني طوبى لمن هم ليسوا متعلقين بشيءٍ أبداً لا بالبشر ولا بالمال ومثلما يقول المزمور: الاعتصام بالله خيرٌ من الاعتصام بالبشر أو حتى بالعظماء. لوقا أيضاً لا يمجد الفقراء وعندما يتكلم عن هؤلاء الفقراء فهو يقصد الأشخاص الذين أصبحوا فقراء لأنهم جُردوا وحرموا من أموالهم لأنهم مسيحيون لذلك يقول لهم لوقا هنيئاً لكم. وكونه أصبح هناك فقراء هذا يعني أن هناك أشخاصٌ آخرون اغتنوا. في التقليد السرياني مثلاًً, يقول (الشاه إيران) ليعقوب المقطع: أنكر إيمانك فأعطيك مالاً وأرفعُكَ كثيراً وقَبِلَ يعقوب ذلك واغتنى ولكنه ووجِهَ بامرأته وأمه فارتد. هنيئاً للودعاء لا تعني أن يذلني الناس. هنيئاً للجياع والعِطاش إلى البر, العطش ليس إلى الخبز والماء بل إلى كلمة الله. وكلمة البر تعني دائماً العمل بوصايا الله ومشيئته ولذلك نقول عن يوسف خِطّيب مريم أنه كان باراً. طوبى للرحماء, فنحن في عالمٍ القتل والتدمير والخراب لذلك نحن بحاجة شديدة إلى الرحمةِ والرحماء. إذاً هذا القسم الأول الصغير من العظة يخبرنا كيف يكون المسيحي الحقيقي ونحن ممنوعون من أن نكون كالآخرين في كل شيء. فإذا عشنا هكذا نستطيع أن نكون ملحاً ونوراً أما إذا لم نفعل أي لم نعش بحسب التطويبات فنحن لسنا ملحاً يطيب الطعام وإذا لم نكن محبة ولم يتجسد الإنجيل فينا فحن لسنا نور. في القسم الثاني من العظة هناك مقابلة بين الشريعة القديمة والشريعة الجديدة. المسيح لم يلغي الشريعة القديمة, يسوع لا يلغي شيء أبداً بل يصححه فقط وإلا فإذا كان هناك شخصٌ معاق مثلاً فإن يسوع يلغيه. علينا أن نأخذ مبدأ في تفكيرنا أن لا شيءَ يُلغى, يقول لنا مار بولس: "كلُّ شيءٍ لكم شرطَ أن تكونوا للمسيح". فيسوع صحح الشريعة القديمة وكملها أي أعطاها كمالها. الشريعة القديمة مثلاً تقول لا تقتل أما يسوع فلم يقل فقط لا تقتل بل أعطاها كمالها قائلاً كل من قال كلمةً باطلة على أخيه فقد قتله وكل من يغضب على أخيه فهو يقتله. وهنا نرى يسوع يقول: قيل لكم (أي موسى) أما أنا فأقول لكم. لباس الكهنة الذي يرتديه الكهنة اليوم في الاحتفال بالذبيحة الإلهية هو نفسه في العهد القديم كما نرى في سفر اللاويين. ولكن الكهنة اليوم ليسوا كهنة العهد القديم كما يُفترض. يسوع في كل مرة كان يتكلم كان يعمق الشريعة ويفتحها فكل شريعة مغلقة هيَّ ضد الشريعة لذلك كان يقال اللاتيني: أفضل وأكبر شريعة هيَّ أكثرها ظلم. إذا من الممنوع أن نقول مثلاً: الشريعة هكذا تقول وأنا سأعمل تماماً وبالحرف مثلما تقول الشريعة لأنه عندها سنتحول إلى مجرد أجهزة تحكم. يقول لنا يسوع هنا جملة رائعة وهامة جداً هي: " إذا كان بركم لا يفوق برَّ معلمي الشريعة والفريسيين فلن تدخلوا ملكوت السموات". الشريعة القديمة كانت تقول عينٌ بعين وسنٌ بسن, ونحن حياتياً لا نزال نؤمن بنفس الشريعة القديمة. لكن في الحقيقة موسى يقصد القول بهذه الجملة أنه إذا أحدٌ ما, مثلاً, خلع لكَ سنك فاخلع لهُ سنه لا له كل فمه أو قلع لكَ عينك فاقلع له عينه لا رأسهُ. وفي الحقيقة هذا ما نفعله نحن إذ أننا عملياً مازلنا على مستوى العين بالعين والسن بالسن. هناك جملة نحن لا نفهمها اليوم هيَّ: (من ضربكَ على خدكَ الأيمن فحول له الأيسر) هذا لا يعني أن ندير له خدنا الآخر بل يعني من عاملك بالعنف فحاول معاملته باللطف. ولدينا مثل رائع عن ذلك بيسوع المسيح في إنجيل يوحنا: عندما صفعه خادم رئيس الكهنة رد عليه يسوع, فيسوع لا يريدنا أن نكون خانعين, فلو خاف الرسل في بداية رسالتهم لكانت المسيحية اليوم تقتص على بضعة أشخاصٍ أو جماعات ولكانت الكنيسة قد انتهت حتى قبل أن تبدأ. يسوع لم يتحدث عن الأصنام والآلهة المتعددة لأنه لم يكن هناك سوى الإله الواحد في زمنهِ بل حتى كان من الممنوع على اليهود ذكر أسم الله (أي يهوه) بل كان يقال السيد أو السماء. لذلك عندما نقول, مثلاً, أبانا الذي في السماء فهذا يعني أبانا أنت يا الله. فيسوع تكلم بشكل أساسي عن الوصايا الثلاث الأولى. من ثمَ يُعطي يسوع القاعدة للممارسات اليهودية التي انتقلت تلقائياً إلى المسيحية والإسلام أيضاً: الصدقة, الصلاة, والصوم. أنت تريد أن تعمل للناس تأخذ أجركَ من الناس, أنت تريد أن يراك الناس إذاً خذ أجركَ من الناس. كل ما نعمله لكي يرانا الناس هوَّ ضياعٌ للوقت بينما مع الرب فكل شيء يجب أن يتم في الخفية, إن أعطينا فبالخفية, إن صلينا فبالخفية, وإن صمنا فأيضاً بالخفية. فإن رآنا الناس نقوم بذلك فليكن ولكن لا يكن هدفنا ذلك. الحركات الخارجية ليست دائماً دليلاً على الإيمان. كما يقول المثل, الأفراح الكبرى في الداخل والأحزان الكبرى في الداخل والمحبة الكبرى أيضاً في الداخل. البساطة هي أهم شيء في الحياة المسيحية, عندما سؤلَ توما الأكويني: من أين أتيت بكل هذا العلم من أرسطو؟ قال لا بل هذا الصليب هوَّ معلمي. ثم يختم متى فصلهُ بصورة الشجرة والثمرة وينهي كل هذا بالحديث عن البناء. عندما أقول أنا مسيحي فيجب أن أسأل نفسي ما الثمرة التي أملكها, لأن الشجرة تُعرف بثمرها. في القسم الثاني من الإنجيل أي الفصلين 8- 9 لدينا (10) عظات. متى هوَّ أكبر معلم لأنه يعلم مؤمنين, هوَ يعلم تعليم مسيحي. يقول لنا يوحنا: لو أردنا أن نحصي كل العظات التي قالها يسوع فكل الدنيا لن تتسع. لذل أختار متى (10) عظات وكل عظة فيها تعليم. الأبرص: من خلاله يظهر حنان الرب يسوع. علينا أن ننتبه هنا أن الأبرص ليس هوَّ من أتى ليسوع أولاً بل يسوع هو الذي ذهب إلى الأبرص في الغابة, فيسوع هو دائماً المبادر. من المعروف أنه في ذلك الوقت كان البرص يعيشون بعيداً عن بقية الناس الأصحاء لذلك كان من المستحيل أن يأتي الأبرص إلى يسوع أولاً. حماة بطرس: دائماً المرأة تدل على الكنيسة (قامت تخدمهم). عظمة متى أنه لا يترك أي أشخاص جانبيين أبداً مثلاً إذا قرأنا مرقس نجد: "قالوا له حماة بطرس ..." أما عند متى فهناك يسوع والحماة فقط هوَّ وهيَّ. في المخلع أيضاً يسوع والمخلع فقط. لذلك دائماً عندما نقرأ متى نشعر أن أفكارنا مرتبة وأننا أمام يسوع فإما نقول نعم أو لا. العاصفة: إذا كان لدينا إيمان لا نخاف وإذا كنا نخاف فليس لدينا إيمان. طرد الشياطين: يسوع المسيح فتح الطريق إلى العالم الوثني. الشيطان يدل على عالم الشر فأنزلهُ في الماء أي أعاده إلى أصله. الكسيح: التعليم الأول يقول أن يسوع يغفر الخطايا ويشفي المرضى ولكن التعليم الأساسي هو: أعطى البشر مثل هذا السلطان. دعوة متى- الصوم. إحياء صبية بنت يائيروس: صبية عمرها 12 سنة ستموت وكذلك امرأة نازفة منذ 12 سنة لا تستطيع الإنجاب. منابع الحياة ماتت. ماذا فعل يسوع؟ أعاد ينبوع الحياة: النازفة شفيت فأصبحت قادرة على إنجاب الأولاد, والصبية الصغيرة أصبح بإمكانها الزواج. رقم (12) هوَّ رقم الكمال. الأعميان: يا ابن داوود أرحمني. أعميان لأنه عند متى حتى تكون الشهادة مقبولة يجب أن يكون هناك شاهدين. وأخيراً الأخرس: آخر عجيبتان هامتان جداً فيسوع لم يكن يشفي أعميان بل يقول لهم أيضاً أنتم عميان لا ترون وأنت أخرس لست تتكلم بكلمة يسوع. هذه هي أول عظة وقد ربطناها بأعمال يسوع. الفصل 10: (خطبة الإرسال) يسوع أرسل تلاميذه وقال لهم أنتم كالفرسان سريعون لذلك لا تتعلقوا بشيءٍ أبداً لأنه أمامكم طريق. اذهبوا إلى القرى والمدن ولكن انتبهوا أنا لن أكذبَ عليكم سوف تضطهدون. أنتم ستقلبون العالم كله كما سبق وبدأت أفعل فلا تتوقعوا أن يترككم الناس بشأنكم ويرضوا بكم. نحن تعودنا أن نقرأ الإنجيل ولكن من وقتٍ لآخر علينا أن نشعُرَ بهذا الإنجيل وكأنه سيف. إذاً أيها التلاميذ العالم سيضطهدكم وهناك موقفين إما الاعتراف أو الإنكار وهنا أيضاً تصح المقولة: عينٌ بعين وسنٌ بسن فإن عرفتموني عرفتكم وإن لم تعرفوني فلا أعرفكم وأنكركم أمام أبي. لكن العظمة هنا, أن يسوع الذي أرسل التلاميذ إلى الرسالة ذهب قبلهم ليكون مثالاً لهم, وهكذا حتى نهاية الفصل 12 يسوع هو المثال أمام التلاميذ خصوصاً في العلاقة مع اليهود. لذلك على الكهنة والرهبان والراهبات أن ينتبهوا أنه من الممنوع العمل بكبرياء أو استبداد أو كصاحب سلطة فبقدر ما نكون ضعفاء نكون أقوياء. خاتمة هنا نقرأ نص جميل جداً يمكن لكل شخص يحمل مسؤولية أن يتأمل فيه: "هوذا فتايَّ الذي اخترتهُ, حبيبي الذي بهِ رضيت, أّفيضُ روحي عليه فيعلن للشعوب إرادتي. لا يخاصمُ ولا يصيحُ وفي الشوارع لا يسمعُ أحدٌ صوتَهُ, قصبةً مرضوضة لا يكسرْ, شعلةً ذابلة لا يُطفئ, يُثابرُ حتى تنتصر إرادتي, عندها على اسمهِ يكون رجاء الشعوب." (متى 18:12- 21). هكذا يجب أن يكون الرسول يقول لنا يسوع |
||||
14 - 08 - 2014, 05:10 PM | رقم المشاركة : ( 5183 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الإيمان والعقل رسالة جامعة لقداسة البابا يوحنّا بولس الثاني أصدر قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني بتاريخ 14 أيلول 1998 رسالة جامعة مطلعها "الإيمان والعقل" يتطرّق فيها إلى العلاقات بين الإيمان والعقل، بين اللاهوت والفلسفة. ودفعه إلى ذلك ما ظهر من تيارات حديثة تحجب الصبغة العقلانية عن الإيمان وتقلّل من مقدرة العقل والفلسفة على الوصول إلى الحقائق المطلقة مما ينعكس سلباً على القناعات الأساسيّة التي توّجه الحياة والقيم الأخلاقيّة. وكان حريّا بالبابا يوحنا بولس الثاني رجل الإيمان الصلب والمتضلعّ في الفلسفة الحديثة أن يكتب هذه الرسالة الجزيلة الأهميّة. تشتمل الرسالة على تمهيد وسبعة فصول وخاتمة ويمكن أن نلخصّها حول ثلاث نقاط: أولاً: التأكيد الأساسي: الإيمان والعقل طريقان متكاملان للبلوغ إلى الحقيقة. ثانياً: تاريخ العلاقات بين الإيمان والعقل، بين اللاهوت والفلسفة. ثالثاً: توجيهات للفلاسفة واللاهوتيين حول التعاون الذي يجب أن يقوم بينهم. أولاً: الإيمان والعقل طريقان متكاملان للبلوغ إلى الحقيقة الإيمان والعقل هما بمثابة الجناحين اللذين يمكنّان العقل البشري من الارتقاء إلى تأمل الحقيقة. الإنسان منذ نشأته يطرح على ذاته أسئلة عميقة تطبع مسيرة الوجود البشري بطابع متميز: من أنا وإلى أين؟ لماذا وجود الشرّ وماذا يعقب الحياة؟ (نجدها في كتب العهد القديم وحِكم الشرق الأقصى وأشعار اليونان وفلاسفتها والميثولوجيات القديمة). هذه الأسئلة لها مصدر مشترك: البحث عن المعنى. والجواب على هذه الأسئلة هو الذي يوجّه حياة الإنسان. الكنيسة ليست غريبة عن هذه المسيرة ومن مهامها خدمة الحقيقة. إنّها تعلن حقيقة المسيح الطريق والحق والحياة وتشجّع الجهد البشري للبلوغ إلى الحقيقة وتؤكد على مقدرة العقل على الوصول إلى الحقائق الأساسيّة وتشجّع التفاعل والتكامل بين الإيمان والعقل. الكشف عن حكمة الله لقد رضي الله في جودته وحكمته أن يكشف لنا ذاته ويطلعنا على سرّ مشيئته (أفسس1/9). تلك مبادرة مجانية على الإطلاق تصدر من الآب لتتدارك البشريّة وتخلصّها. في المجمع الفاتيكاني الأول أكبّ الآباء على التنويه بالطابع السماوي في الوحي الإلهي. النقد العقلاني الذي كان يطعن في الإيمان انطلاقاً من طروحات خاطئة كان يهدف إلى نفي كلّ معرفة لا تجنى من طاقات العقل الطبيعية. فأكّد المجمع بقوّة أنّ هناك معرفة هي من نتيجة الإيمان إلى جانب المعرفة النابعة من العقل البشري. والإيمان يرتكز على كلام الله ووحيه وهو لا يغلط ولا يريد أن يخدع. الحقيقة التي نحصل عليها عن طريق الفكر الفلسفي والحقيقة الصادرة عن الوحي لا تختلطان والواحدة لا تُغني عن الأُخرى. وهما متميزتان من حيث المصدر (العقلّ ? الوحي) والموضوع (ما يكشفه الخلق ? أسرار الله الحميمة). وآباء المجمع الفاتيكاني الثاني ثبّتوا نظرهم على يسوع الذي كشف لنا سرّ الله عبر أفعاله وتعاليمه وخاصة بموته وقيامته. جاء المسيح في التاريخ وملء الزمن وهو قمّة الوحي. إنّ تجسّد ابن الله يتيح لنا أنّ نشهد الحصيلة النهائية التي لم يكن العقل البشري من منطلق ذاته يتصورها ولو بالخيال، وهو أنّ الأبدي اقتحم الزمن والله اتخذ وجه إنسان. الحقيقة التي عبّر عنها وهي المسيح لم تعد محصورة في حيّز جغرافي أو ثقافي محدود بل هي مفتوحة على كلّ إنسان. مما لاشك فيه أن مصير الإنسان لا يستضيء حقاً إلاّ في ضوء سرّ الكلمة المتجسّد. أين يستطيع الإنسان أن يلقى جواباً على الأسئلة الخطيرة كالعذاب وعذاب البريء والموت إلاّ في الضوء المنبعث من سرّ آلام المسيح وموته وقيامته. العقل في مواجهة السرّ الوحي يظل مطبوعاً بطابع السرّ. يذعن المؤمن للوحي بطاعة الإيمان. والدلالات الماثلة في الوحي تساعد هي أيضاً العقل على فهم السرّ. العلاقة العميقة بين المعرفة بالإيمان والمعرفة بالعقل يعبّر عنها الكتاب المقدّس الذي يشيد في كتبه بالجهد للبلوغ إلى الحكمة (ابن سيراخ 14/20-27). التاريخ وتقلبات الشعوب هي بمنأى عن هذا السياق. فالإيمان لا يتدخلّ ليقلّل من استقلالية العقل أو لينتقص من رقعة عمله ولكن ليفهم الإنسان أنّ الله يتجلى ويعمل من خلال هذه الأحداث. الإيمان يرهف النظر الباطن ويتيح للعقل أن يكتشف في سياق هذه الأحداث ملامح العناية الإلهية وحضورها الفاعل. من المستحيل أن يقوم صراع أو منافسة بين العقل والإيمان. وسفر الحكمة يؤكد أنّ الإنسان إذا عمل فكره في الطبيعة بإمكانّه أن يرتقي منها إلى الخالق: "إنّه بعظم جمال المبرؤات يبصر خالقها على طريق المقايسة" (حكمة17/5). ويرى القديس بولس أنّ الله قد وضع في جذور الخلق قدرة العقل على أن يتخطى المعطيات الحسيّة بلا عناء ليدرك مصدر كلّ شيء أعني الخالق. ولكن على أثر تمرد الإنسان على الله ورغبته في أن يجعل نفسه في حالة استقلال كامل ومطلق زالت قدرته على أن يرتقي بلا عناء إلى الخالق والقديس بولس يكشف لنا إلى أي مدى أمست باطلة أفكار الناس بسبب الخطيئة (روم1/21-22). وجاء المسيح فكان مجيئه هو الحدث الخلاصي الذي افتدى العقل من ضعفه وحرره من القيود التي بات سجينها وبالتالي أصبحت علاقة المسيحي بالفلسفة بحاجة إلى تمييز جذري. يبرز القديس بولس العلاقة بين "حكمة هذا العالم" وحكمة الله المتجليّة في يسوع المسيح (كورنتس1/20-27) العلاقة بين الإيمان والفلسفة تجد المناداة بالمسيح المصلوب والناهض من الموت الصخرة التي يمكن أن ترتطم بها فتغرق كما يمكن أن تتخطاها لترتمي في محيط الحقيقة الذي لا حدود له. هنا يظهر بجلاء الحدّ الفاصل بين العقل والإيمان ولكنّ نرى أيضاً أين يمكنهما التلاقي. التقدّم في البحث عن الحقيقة نوّه القديس بولس في خطابه في أثنيا (أعمال فصل 17). بحقيقة ما برحت الكنيسة تستفيد منها وهي أن الله قد زرع في عمق الإنسان التوق والحنين إلى الله. "كلّ الناس يحنّون إلى المعرفة (أرسطو) ويبتغون البلوغ إلى الحقيقة. قال القدّيس اغسطينوس: لقد لقيت أناساً كثيرين يبتغون الغشّ ولكني لم ألتقِ أحداً يرضى أن يُغَش". إنّ ما تحقق من بحوث في المجال العملي يضاهي في الأهمية ما تحقق في الصعيد النظري أعني البحث عن الحقيقة في مجال الخير. لابدّ من أن تكون القِيَم التي نختارها وننتهجها في الحياة قيماً حقيقيّة. الحقيقة يتمثلها الإنسان في البدء في صيغة تساؤلية: هل للحياة معنى وما غايتها. وإلى جانب وجودنا هناك حقيقة مبرمة هي أنّنا سنموت. وكلّ منا يريد أن يعرف هل الموت هو خاتمة وجوده أم هناك شيء يتخطى الموت. لا يستطيع أحد أن يفلت من هذه الأسئلة. ويتوق الإنسان إلى حقيقة شاملة تصح في كلّ مكان وزمان. الفرضيّات تستطيع أن تعزينا ولكنها لا تستطيع أن تروي عطشنا. ويأتي يوم لابدّ لنا جميعاً من أن نرسي وجودنا على حقيقة نعتبرها مرتكزاً نهائياً وتتيح لنا يقيناً لا يرقى إليه الشك من بعد. العطش إلى الحقيقة هو من التجذّر في قلب الإنسان حيث لا يمكن صرف النظر عنه وإلاّ يصبح الوجود في أزمة. بفضل مؤهلات الفكر باستطاعة الإنسان أن يظفر بالحقيقة ويعترف بها. هذه الحقيقة يستطيع الإنسان أن يحصّلها لا عن طريق البحث العقلي وحسب بل أيضاً عن طريق الوثوق بأشخاص آخرين بإمكانهم أن يضمنوا له يقين الحقيقة وسلامتها. من يستطيع أن يراقب لحسابه الخاص ذاك السيل المتفق من المعلومات التي تصل إلينا من كلّ أنحاء العالم ومن يستطيع أن يعود وينتهج الدروب الاختباريّة والفكريّة التي اختزنت بفضلها كنوز الحكمة والتدّين لدى البشريّة. الإنسان ينتهج في البحث طريقاً لا نهاية لها بشريّاً بحث عن الحقيقة وبحث عن شخص يضع فيه ثقته، ويستطيع الإيمان المسيحيّ أن يساعده ويؤهله عملياً ليفلح في هذا البحث. الإيمان المسيحي يتخطى مجرّد التصديق ويُدخل الإنسان في نظام النعمة الذي يمكنه من المشاركة في سرّ المسيح والتعرّف على الله الواحد في تثليث أقانيمه. هذه الحقيقة التي يكشفها الله لنا في يسوع المسيح لا تناقض الحقائق التي ندركها بالفلسفة. وحدة الحقيقة هي من أسس مسلّمات العقل البشري يعبّر عنها مبدأ اللاتناقض. ونجد في الوحي يقين هذه الوحدة عندما يؤكد لنا أنّ الإله الخالق هو أيضاً إله تاريخ الخلاص. الإله الذي هو أساس وضمانة النظام الطبيعي الذي يرتكز عليه العلماء هو نفسه الذي يكشف لنا ذاته أبا ربنا يسوع المسيح. وحدة الحقيقة هذه الطبيعيّة والمنزلة تجد في المسيح تناغمها الحيّ والشخصي على حدّ ما يذكّر به الرسول بولس: "الحقيقة التي في يسوع" (أفسس4/21، قولسي1/15-20) إنّه الكلمة الأبدي الذي به كُونّ كلّ شيء وفي آن واحد الكلمة المتجّسد الذي كشف لنا الآب. من هذا المنطلق علينا أن نستوضح العلاقة الصحيحة بين الحقيقة الملهمة والعلم الفلسفي نتناول أولاً العلاقات بين الإيمان والفلسفة عبر التاريخ ثمّ نستوضح بعض المبادئ التي يمكن اعتمادها لإقامة الصلة الصحيحة بين هاتين المنزلتين في المعرفة. ثانياً: تاريخ العلاقات بين الإيمان والعقل اللاهوت والفلسفة 1- العهد الرسولي يورد كتاب أعمال الرسل كيف اصطدم البلاغ المسيحي منذ البداية بالتيارات الفلسفيّة السائدة في ذلك العهد. وجادل بولس في أثينا بعض الفلاسفة الأبيقوريين والرواقيين (أعمال17/28). المسيحيّون الأولون لم يقصروا استشهاداتهم على "موسى والأنبياء" في خطبهم إلى الوثنيين بل عمدوا أيضاً إلى معرفة الله الطبيعية وإلى صوت الضمير عند كلّ إنسان (روم1/19-21، 2/14-15، أعمال14/16-17) وعمد بولس إلى الاستناد إلى فكر الفلاسفة اليونان الذين نقدوا الديانة الميثولوجيّة الخرافيّة وارسوا معتقدهم في الألوهة على مرتكز عقلي. تجاه هذا الانفتاح على الفلسفة كان هناك تحفظ تجاه بعض التيارات التي كانت تدّعي المعرفة الباطنيّة كالغنوصيّة. وإياها على ما يبدو أشار القديس بولس في رسالة إلى أهل قولسي: "إياكم وأن يخلبكم أحد بالفلسفة، بذلك الغرور الباطل القائم على سنّة الناس وأركان العالم لا على المسيح" (قولسي2/8). وثمّة كتّاب آخرون من القرون الأولى من مثل القديس ايريناوس وترتليانوس ساروا في خطى القديس بولس وأبدوا تحفظاتهم على بعض من المواقف الثقافية المدعية إخضاع الحقيقة المنزلة لتأويل الفلاسفة. وانتقد الفيلسوف الوثني شلسيوس المسيحيين بأنّهم قوم "أميّون وأفظاظ" فملتقى الفلسفة والمسيحيّة لم يكن فورّياً ولا هيّناً. فالمسيحيّون الأولون ركزوا على المناداة بالقيامة وبشرى الخلاص وإن لم يكونوا تخلوا عن واجب التعمق في فهم الإيمان وحوافزه. 2- عصر الآباء لـمّا انتمى إلى المسيحيّة عدد من المثقفين الذين خرجوا من الأوساط الفلسفيّة جرى لقاء مثمر بين الإيمان المسيحيّ والفكر الفلسفي. ومن روّاد هذا اللقاء القديس يوستينوس (من نابلس استشهد عام 165) وكذلك اكليمنضوس الأسكندري الذي يشبّه الفلسفة اليونانيّة من باب القياس بالشريعة الموسويّة ويري فيها تعليماً ممّهداً للإيمان المسيحيّ ومدخلاً إلى الإنجيل. واعتمد المفكرون المسيحيّون الفكر الفلسفي لتوضيح العقيدة المسيحيّة بطريقة نقديّة. ومن أوائل الأمثلة على ذلك أوريجانوس فهو يردّ على هجمات شلسيوس الفيلسوف مستخدماً الفلسفة الأفلاطونيّة في تكوين أول نواة في تاريخ اللاهوت المسيحي. لفظة اللاهوت نفسها /ثاولوجيا/ ومفهومها كخطاب عقلاني حول الله كانا حتى ذاك مرتبطين بجذورهما اليونانيّة: في فلسفة أرسطو كانت هذه اللفظة تشير إلى الجزء الأشرف بل إلى ذروة الخطاب الفلسفي. واستعملها المفكرون المسيحيّون في توضيحهم العقيدة الحقيقيّة في شأن الله. وإذ استعان اللاهوتيون بالفكر الفلسفي لا سيما الأفلاطوني والأفلاطوني الجديد أخضعوه لتغييرات عميقة على ضوء الوحي وبخاصة في نطاق بعض المقولات كخلود النفس وتأليه الإنسان وأصل الشرّ. في هذا المسعى إلى مسحنة الفكر الأفلاطوني والأفلاطوني الجديد لابدّ من أن نذكر خصوصاً في الشرق الآباء الكبادوكيين باسيليوس الكبير وأخاه غريغوريوس النيصيّ وصديقه غريغوريوس النازيانزي وصاحب المؤلفات المنسوبة إلى ديونيسيوس الأريوباغي وفي الغرب القديس اغسطينوس. وهذا بعد أن اختبر كافة المذاهب والمدارس الفلسفيّة ركن إلى المسيحيّة وكان يوجه الملامة إلى الأفلاطونيين أنفسهم الذين كان يركن إليهم بطريقة مميزة لأنّهم عرفوا الغاية التي يجب النزوع إليها ولكنّهم جهلوا الطريق المؤديّة إليها، وأفلح اغسطينوس في وضع أولى كبريات الخلاصات في الفكر الفلسفي واللاهوتي. لقد رحّب الآباء ترحيباً كاملاً بالعقل المنفتح على المطلق ورفدوه بالثروة الصادرة عن الوحي. ومع ذلك لم يخشَ الآباء في مواجهة الفلاسفة من الإقرار بالعناصر المشتركة كما بالفوارق القائمة بينها وبين الوحي 3- العصر المدرسي في القرون الوسطى كان رائد الفكر المدرسي في الغرب القديس انسلموس أسقف كانتربوري (قرن حادي عشر) واصبح اللاهوت يدّرس في الجامعات أسوة بالفلسفة لاسيما مذهب ارسطو. وكان الأستاذ لاهوتياً وفيلسوفاً في الوقت نفسه. وقمة ذلك العصر القديس توما الأكويني (+1274) الذي له الفضل الكبير في التركيز على التناغم القائم بين العقل والإيمان. الطبيعة وهي موضوع الفلسفة بإمكانها أن تساعد في فهم الوحي الإلهي وكما أنّ النعمة تفترض الطبيعة وتكملّها كذلك الإيمان يفترض العقل ويكملّه. ونادى بالتوفيق بين دنيوّية العالم وجذرية الإنجيل فتجنّب بذلك النزعة اللاطبيعيّة المتنكرة للعالم وقيمه من دون أن يخلّ بالنظام العلوي ومقتضياته الصارمة. استعان بالفلسفة ليتفهّم حقائق الإيمان ويدافع عنها من دون أن يتنكرّ للسرّ. وقناعاته اللاهوتية مكّنته من صياغة فلسفة مرتكزة على الكيان والواقع. 4- العصر الحديث مأساة الفصل بين الإيمان والعقل كان القديس البرتوس الكبير والقديس توما في طليعة المعترفين بضرورة التسليم باستقلالية الفلسفة والعلم في مجالات أبحاثهما مع المحافظة على العلاقة العضويّة بين اللاهوت والفلسفة. ولكن مع نهاية العصر الوسيط أخذ الفرق الشرعي بين علمي اللاهوت والفلسفة يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى انفصال. وتوصلوا إلى فلسفة معزولة ومستقلة تماماً عن محتوى الإيمان. وماتوصّل إليه الفكر الآبائي والوسيطي من إقامة وحدة عميقة وفاعلة، معرفة قادرة على الوصول إلى أرقى أشكال الفكر قد أنهار عملياً تحت وطأة المذاهب الفلسفية المنادية بمعرفة مفصولة عن الإيمان وتحلّ محلّه. توصلّت بعض المذاهب إلى فرض ذهنية وضعيّة لم تكتفِ بالابتعاد عن كلّ نظرة مسيحيّة إلى العالم بل أهملت أيضاً كلّ مرجعيّة إلى أيّ رؤية ميتافيزيقية وأخلاقيّة. ولا مجال هنا لاستعراض تاريخ الفلسفة الحديثة لاسيما الايديالية والعدمية والماركسية والوجودية والعلومية الوضعيّة. من جراء التغييرات الثقافية أعرض بعض الفلاسفة عن التماس الحقيقة في ذاتها واتخذوا لهم هدفاً وحيداً الحصول على يقين شخصي أو على منفعة عملية. ولكن حتّى عند الفلاسفة الذين ساهموا في توسيع الهوّة بين الإيمان والعقل نجد جذوراً فكرّية نفيسة بإمكانها أن تساعد في الكشف عن طريق الحقيقة (التحاليل العميقة في شأن الإدراك والخبرة واللاوعي والشخصيّة والتبادل الشخصي والحريّة والقيم والزمن والتاريخ). هذا لا يمنع من أنّ العلاقة بين الإيمان والعقل قد أصابها الخلل وكلاهما قد افتقرا وضعفا. الإيمان بدون العقل أخذ يركز على الإحساس والاختبار وأخذ يتعرض لأن يمسي مجرّد أسطورة أو خرافة. وكذلك العقل إذا لم يدركه إيمان بالغ لا يعود يهتم لما هو جدّي وجذري في الحياة لذا على الكنيسة اليوم أن توجه النداء ليعود الإيمان والعقل إلى سابق ما كانا عليه من وحدة عميقة. ثالثاً: توجيهات بشأن العلاقة بين اللاهوت والفلسفة 1- تدخلات السلطة التعليمية الكنسية في نطاق الفلسفة الكنيسة تشجب الفلسفات المنافية للوحي مع احترامها لاستقلالية النهج الفلسفي ترى الكنيسة أنه بإمكانها بل من واجبها أن تمارس في ضوء الإيمان ما أوتيت من سلطة التمييز والنقد تجاه الفلسفات والنظريات التي تناقض العقيدة المسيحيّة. يجب أن لا ننظر إلى هذا التميز من منظار سلبي، وتدخلات الكنيسة تهدف بالعكس إلى حثّ الفكر الفلسفي وتعزيزه وتشجيعه. والفلاسفة هم أول من يتفهّم ضرورة النقد الذاتي وتخطي الحدود التي انصهر فيها فكرهم. شجبت الكنيسة في العصور القديمة مقولة تواجد النفوس المسبق وفي العصور الوسطى بعض تأثيرات فلسفة ابن رشد على اللاهوت وفي عصرنا حذّرت من الوقوع في العقلانية التي تحصر المعرفة في العقل دون الوحي وفي الإيمانية التي تنكر مقدرة العقل على التوصل إلى معرفة وجود الله بدون الإيمان، وأدان البابا بيوس الحادي عشر رسمياً الماركسيّة الملحدة واسمع البابا بيوس الثاني عشر صوته عندما حذّر في رسالته العامة "الجنس البشري" من التآويل الزائفة المرتبطة بطروحات التطورية والتاريخانيّة. وحذّر مجمع الإيمان في الحقبة الأخيرة من خطر التسليم بلا نقد من قبل بعض لاهوتيي التحرير بالطروحات والمنهجيات المنبثقة من الماركسيّة. اهتمام الكنيسة بالفلسفة لم تكتفِ السلطة التعليميّة في الكنيسة بالتنبيه إلى الأخطاء والانحرافات في التعاليم الفلسفية بل أرادت بنفس الاهتمام التأكيد على المبادئ الأساسيّة لإجراء تجديد صحيح في الفكر الفلسفيّ. وأنجز البابا لاون الثالث عشر في رسالته العامة "الأب الأزلي" خطوة بات لها تأثير كبير في حياة الكنيسة. هذا النصّ لا يزال اليوم الوثيقة الحبرية الوحيدة بهذا المستوى المكرسة كلياً للفلسفة. هذا الحبر العظيم استعاد وطوّر ما جاء في المجمع الفاتيكاني الأول بشأن العلاقات بين الإيمان والعقل مبنياً أن الفكر الفلسفي إنّما هو رافد أساسي للإيمان والعلم اللاهوتي وبدا للبابا لاون الثالث عشر أن العودة إلى التنويه بفكر توما الأكويني هي أمثل طريق لنعود ونكتشف نمطاً في استعمال الفلسفة يتلاءم ومقتضيات الإيمان. فهو في ذات اللحظة التي يميّز فيها كما ينبغي بين الإيمان والعقل تمييزاً كاملاً يربطهما بربط صداقة متبادلة فيحفظ لكل منها حقوقه ويسهر على كرامته. ومن جرّاء هذا النداء عرفت الأبحاث في فكر القديس توما وبقيّة المؤلفين المدرسيّين نهضة جديدة. وأكثر اللاهوتيين الكاثوليك في عصرنا والذين ساهموا مساهمة جلّى في أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني هم ابناء هذا التجدّد في الفلسفة. علاوة على استعادة الفكر التوماوي ظهر عدد كبير من الفلاسفة الكاثوليك الذين التحقوا بتيارات فكرية حديثة ووضعوا مؤلفات فلسفية لها أثر كبير. والمجمع الفاتيكاني الثاني في دستوره "فرح ورجاء" يقدم في فصل كامل شبه ملخص للانثروبولوجية البيبلية وشجباً للإلحاد. هذه الصفحات تكتسب في مضامينها معنى فلسفياً عميقاً. واهتم المجمع أيضاً بتدريس الفلسفة للمرشحين للكهنوت هذا التدريس يقود الطلاب إلى تحصيل معرفة عميقة ومتلاحمة الأجزاء للإنسان وللعالم والله معتمدين على التراث الفلسفي ذي القيمة الخالدة ولا تغفل البحوث الفلسفية المعاصرة. في كثير من المدارس الكاثوليكية في غضون السنوات التي عقبت المجمع الفاتيكاني الثاني لوحظ في هذا الشأن بعض الذبول الناجم عن تراجع لا في قيمة الفلسفة المدرسية وحسب بل بوجه أشمل في تقدير دراسة الفلسفة ذاتها حقّ قدرها. وأخذ عدد من اللاهوتيين ينتحلون هذه اللامبالاة بدرس الفلسفة. وسبب ذلك حذر الفلسفة المعاصرة تجاه العقل وإهمال كلّ بحث ميتافيزيقي والانصباب على العلوم الإنسانية. إنّ الاستغناء عن دراسة الفلسفة يقود إلى عدم التروّي والاستسلام لكل تعليم بدون تمحيص فالكنيسة تدعو إلى تنشئة فلسفية ولاهوتية واعية. الكنيسة تعير الفلسفة اهتماماً كبيراً ونظراً للرابط العميق القائم بين العمل اللاهوتي والبحث الفلسفي عن الحقيقة يبقى توضيح المبادئ والضوابط لإقامة علاقة متناغمة وفاعلة بين اللاهوت ومختلف المقولات والنظريات الفلسفية المطروحة في العالم المعاصر. 2- التفاعل بين اللاهوت والفلسفة ينتظم اللاهوت بصفته علم الإيمان في ضوء مبدأ منهجي مزدوج: سماع الإيمان وفهم الإيمان. تطبيقاً للمبدأ الأول يتناول اللاهوت محتوى الوحي كما تطور شيئاً فشيئاً في التقليد المقدس والكتب المقدّسة والتعليم الحي في الكنيسة. من منطلق المبدأ الثاني يهدف اللاهوت إلى تلبية مقتضيات العقل باللجوء إلى الفكر النظري. على اللاهوت العقائدي أن يتمكن من فهم سرّ الله الواحد والثالوث في معناه الشامل وفهم التدبير الخلاصي. بدون رفد الفلسفة يستحيل الخوض في قضايا لاهوتية كالكلام عن الله أو العلاقات الشخصيّة داخل الثالوث وعمل الله الخلاق في العالم والعلاقة بين الله والإنسان وهويّة المسيح الإله التام والإنسان التام. فاللاهوت العقائدي النظري يفترض فلسفة مبنيّة على الحقيقة الموضوعيّة في كلّ ما يتعلق بالإنسان والعلم والكيان. عندما يقبل اللاهوت الأساسيّ على دراسة الوحي ومصداقيته متلازمة مع فعل الإيمان الذي يوازيه عليه أن يبيّن كيف تظهر في ضوء المعرفة الإيمانيّة بعض الحقائق التي يدركها العقل في طرق بحثه المستقلّة. هذه الحقائق يفرغ عليها الإيمان كامل معانيها. ويتوصل الذهن إلى التحقق من وجود طريقة تؤهب الإنسان حقاً لقبول الإيمان من دون أن يناقض العقل مبادئه الخاصة واستقلاليته المميزة. اللاهوت الأدبي قد يكون بحاجة أشدّ إلى الرفد الفلسفي وعليه أن يستعين بنظريّة فلسفية سليمة في شأن الطبيعة البشريّة والمجتمع كما في شأن المبادئ العامة التي يجب أن يحتكم إليها القرار الأخلاقي: الشريعة، الضمير، الحريّة، المسؤولية الشخصية، الخطيئة،? رُبَّ معترض أن اللاهوت المعاصر بدلاً من أن يحتكم إلى الفكر الفلسفي عليه أن يستعين بأشكال أخرى من العلم البشري كالتاريخ والعلوم. وهناك من يؤكد من منطلق تحسّس متزايد للعلاقة بين الإيمان والثقافة أن اللاهوتي يجب أن يُؤثر التوجه إلى التراثات الحكمية التقليديّة على التوجه إلى الفلسفة الصادرة من بلاد اليونان أو أوربا الوسطى. وهناك من ينطلق من تصّور خاطئ لتعدّد الثقافات فينكر على التراث الفلسفي المعتمد في الكنيسة كلّ قيمة شمولية. كلّ هذا مع ما فيه من حقيقة جزئية لا يغني عن فكر فلسفي ناقد وشامل يمكنّنا من أن نمحّص في مختلف رؤى الحياة كما في مختلف الثقافات لا ما يتصوره الناس بل ما هي الحقيقة الموضوعيّة. موضوع العلاقة بالثقافات جدّير بأن يدرس بطريقة مميّزة. تاريخ اللقاء والتواجه مع الثقافات اختبار عاشته الكنيسة منذ بدء مناداتها بالإنجيل. اللقاء بين الإيمان ومختلف الثقافات ولّد واقعاً جديداً وسقطت الحواجز القائمة بين مختلف الثقافات "أنتم الذين كانوا قبلاً بعيدين قد صرتم قريبين بدم المسيح لأنّه هو سلامنا هو الذي جعل من الشعبين واحداً" اللقاء بين الإيمان ومختلف الثقافات ولّد في الحقيقة واقعاً جديداً. الطريقة التي يعيش فيها المسيحيّون إيمانهم مشبعة بثقافة المحيط وتساهم بدورها في تكوين ميزاتها شيئاً فشيئاً. إنّ البشارة التقت أولاً في طريقها الفلسفة الإغريقية. واليوم بمقدار ما يتصل الإنجيل بمساحات جديدة بقيت حتى الآن خارج نطاق الإشعاع المسيحيّ تنفتح مجالات جديدة للانثقاف. ونذكر بالأخص الهند الغنية بالتراث الروحي، وهناك قاعدتان يجب مراعاتهما يجب أن لا ننسى الطابع الشمولي للإيمان فلا نسقط شيئاً منه للتكيّف مع الثقافات الأخرى. ثانياً لا يجوز التنكر لما اكتسبته الكنيسة من قبل بإنثقافها في الفكر الإغريقي اللاتيني. وبمقدار ما يستعين اللاهوتي بالفكر الفلسفي ليتفهم محتوى الإيمان فالفيلسوف المؤمن يتوصل إلى عمق فلسفي ما كان يصل إليه لولا نور الوحي. نورد مثالاً على ذلك علاوة على من ذكرناهم في العصور القديمة والوسطى شخصيات من العصر الحديث: نيومن، جاك ماريتان، إيتيان جلسون، سولوفييف، لوسكي? إنّ التنبه للمسيرة الروحيّة التي حققها هؤلاء المعلمون لا يمكن إلاّ أن يدعم التقدم في البحث عن الحقيقة وتطويع نتائجها لخدمة الإنسان. يمكن أن تستوضح الآن أوضاع الفلسفة المختلفة تجاه الوحي هناك الفلسفة التي نشأت خارج نطاق الوحي، الفلسفة اليونانيّة التي سبقت المسيح والفلسفات التي نشأت في الهند والشرق الأقصى. وهناك فلسفة الذين عرفوا الوحي وتنكروا له وقالوا بمادئ تتعارض مع الوحي المسيحيّ. وهناك فلسفة المؤمنين الذين وضعوا فاصلاً بين إيمانهم وفلسفتهم بحيث لا تأثير للإيمان على الفلسفة ولاتناهض الفلسفة مبادئ الإيمان، وهناك الفلسفة التي سميت بالمسيحيّة لا وجود لفلسفة رسميّة في الكنيسة وهذه التسمية تعني منهجاً فلسفياً مرتبطاً بالإيمان المسيحيّ ونشمل بهذه العبارة ما أحرزه الفكر الفلسفي من تطورات هامة لم يكن بالإمكان أن تتحقق لولا ما رفدها به الإيمان المسيحيّ بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ونظراً لهذا الارتباط بالوحي ولكون الفلسفة تعتبر أيضاً خادمة اللاهوت فللسلطة الكنسية أن تقدم بعض التوجيهات مانتمناه على اللاهوتيين والفلاسفة أن يهتدوا بهدي سلطة الحقيقة الواحدة فيصوغوا فلسفة تتجانس مع كلام الله. هذه الفلسفة تكون فسحة اللقاء بين الثقافات والإيمان المسيحي ومكان التوافق بين المؤمنين وغير المؤمنين والإيمان وسلامته يقويان عندما يرتبط الإيمان بفكر لا تخلّى عنه "من يؤمن يعقل وعندما يعقل يؤمن" (القديس اغسطينوس). 3- مقتضيات الإيمان وتحديات الفكر المعاصر يتبيّن من الكتاب المقدّس أن الواقع الذي نختبره ليس بالأمر المطلق. الله وحده مطلق والإنسان مخلوق على صورة الله (عاقل، حرّ، خالد) الشر الأدبي ناجم عن جرح في الإنسان مصدره انحراف في استعمال الحريّة البشريّة. ونجد في كلام الله إيضاحاً لمعنى الوجود وجواباً يوجه الإنسان إلى يسوع المسيح كلمة الله المتجسّد وفيه ملء كمال الوجود البشري ينتج عن ذلك رفض كلّ شكل من أشكال النسبويّة والماديّة والحلوليّة. القناعة الأساسيّة في هذه الفلسفة المتضمّنة في الكتاب المقدّس هي أن الحياة البشريّة والعالم لها معنى وتوجّه نحو اكتمالها في يسوع المسيح وسيبقى سرّ التجسّد المحور الذي يجب أن نتخذه منطلقاً لفهم لغز الوجود البشري والعالم المخلوق والله نفسه.في سر الكلمة المتجسد تصان كلّ من الطبيعة الإلهيّة والطبيعة البشريّة وتبقى كلّ منهما مع استقلاليتها وتتجلى في الوقت نفسه الصلة الفريدة في علاقتهما المتبادلة من غير اختلاط ولا تشوّش. تجاه قناعات الإيمان هناك تصدّع وضياع في الفكر المعاصر. كثيرون يتساءلون هل هناك بعد من معنى للتساؤل عن المعنى. إنّ تعدّد النظريات في تفسير الكون وحياة الإنسان يثيران الشكوك في النفوس و يفضيان إلى الوقوع في الريبة واللامبالاة أو في مختلف أشكال العدميّة. كلّ فلسفة لا تتساءل عن معنى الوجود تتعرض لخطر تحجيم العقل وحصره في الوظائف الأدائية بمنأى عن كلّ شغف بالبحث عن الحقيقة. كي تكون الفلسفة في تناغم مع كلام الله لابدّ لها من ثلاثة مقتضيات - أن تكتسب قبل كلّ شيء بعدها الحكمي وقدرتها على البحث في الحياة بمعناها الأخير والشامل، أن تكون المرجعيّة الأخيرة لتوحيد العلم والعمل الإنساني (وليس مجرد منطق ونقد لمختلف أساليب المعرفة) - أن تثبت قدرة الإنسان على الوصول إلى معرفة الحقيقة الموضوعيّة من منطلق مبدأ المعادلة بين الواقع والعقل الذي ارتكز عليه ملافنة الفلسفة المدرسيّة (التحفظ من الايديالية والنسبوية). - أن تتسّم بقيمة ميتافيزيقية حقيقيّة بإمكانها أن تتخطى المعطيات الاختباريّة للوصول في سعيها إلى الحقيقة إلى ما هو مطلق. كلام الله في علاقة دائمة مع ما يتخطى الاختبار وحتى الفكر البشري نفسه. البحث الميتافيزيقي يظهر بمثابة وساطة مميزة في البحث اللاهوتي كلّ لاهوت خال من النظرة الميتافيزيقية لا يمكنه أن يذهب أبعد من تحليل الاختبار الديني كثيرون من علماء التفسير يتوقفون عند الجانب الأدبي واللغوي للتعبير عن الحقيقة ويتحاشون التحقيق في ماهيتها. إن الإيمان يفترض أن اللغة البشرية بوسعها أن تعبر عن الحقيقة الإلهيّة والعلويّة بتعابير تشبيهية ولكنّها لا تقل بلاغة عن غيرها. ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان بوسع كلام الله ? وهو دائماً كلام إلهي بلغة بشريّة ? أن يقول شيئاً عن الله وإلاّ لم يكن ثمّة من وحي إلهي بل مجرد تعبير عن مفاهيم بشريّة في شأنه تعالى أو ما نفترض أنّه يفكرّ في شأننا. الإنسان قادر على الوصول إلى تصوّر للمعرفة موّحد وعضوي. وهذه مهمة يجب على الفكر المسيحي أن يطلّع بها على مدى الألف المقبل. إنّ الذين يودون الاستجابة فلسفياً للمقتضيات التي يفرضها كلام الله عليهم أن يبنوا خطابهم مرتكزاً على هذه المسلّمات ويضعوا ذواتهم على خط متماسك مع التقليد الكبير الذي ابتدأه القدامى وتابعه آباء الكنيسة ومعلمو الفلسفة المدرسيّة واندمج أخيراً في المكاسب الجوهريّة التي احرزها الفكر الحديث والمعاصر. إن الركون إلى التقليد ليس مجرد تذكير بالماضي بل هو الإقرار بقيمة تراث هو ملك البشريّة كلها. الإلحاح على ضرورة علاقة تداخل وثيقة بين الفكر المسيحي المعاصر والفكر الذي أفرزه التقليد المسيحي يهدف إلى اتقاء الأخطار التي تلازم بعض أنماط من الفكر المنتشرة اليوم بطريقة لافتة (الانتقائية، التاريخانية، المثالية العلومية، البراغماتيةـ العدمية?) هناك مفكرون أطلقوا على عصرنا "صفة ما بعد الحداثة". وفي هذا التعبير عدة التباسات وفي نظر بعض التيارات أن وقت اليقينات قد ولّى بلا رجعة وأن على الإنسان من الآن فصاعداً أن يتعوّد العيش في جوّ انتفاء كلّ معنى وتحت مظلة الوقتي والزائل. وهناك من الكتاب من ينكرون أيضاً يقينات الإيمان في نقدهم الهدّام لكلّ يقين وفي جهلهم التمييزات التي لابدّ منها. هذه الذهنية تجد لها بعض ما يفسّرها في خبرة الشرّ الفظيعة التي وسمت عصرنا. في مواجهة هذه الخبرة الفاجعة لم تتمكن التفاؤلية العقلانيّة من الصمود بعد ما توسمت في التاريخ مسيرة العقل الظافرة وفي العقل ينبوع السعادة والحريّة وقد تنتج عن ذلك أن أخطر ما يهدّد الإنسان في نهاية القرن هو تجربة الانسياق إلى اليأس. وما يزال هناك شيء من الذهنية الوضعية لا يزال يروّج للوهم القائل بأنّ الإنسان بفضل مكاسبه العلميّة والتقنيّة وبصفته كائناً خلاّقاً يستطيع أن يجعل ذاته سيداً مطلقاً يسيطر على مصيره. 4- مهام اللاهوت المعاصر في مختلف حقب التاريخ وجد اللاهوت بصفته قيّماً على فهم الوحي ما يدفعه دائماً إلى الاستفادة من العناصر المبثوثة في مختلف الثقافات ليدخل فيها بواسطة محتوى الإيمان طبقاً لأسلوب عقلاني متماسك واليوم مطلوب من اللاهوت مع التمسّك بالتقليد الكنسي متابعة التعمّق في تفهّم كلام الله و |
||||
14 - 08 - 2014, 05:18 PM | رقم المشاركة : ( 5184 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
نشيد الأناشيد قدس أقداس الكتاب المقدس مقدمة يندرج سفر نشيد الأناشيد في الكتاب المقدس بين الأسفار الحكمية، ولا عجب أن نرى هذا السفر الذي يتكلم عن الحب بين أسفار الحكمة لأن التفكير الحكمي بطبيعته يتطرق إلى المواضيع الهامة في الحياة ومنها طبعاً موضوع الحب. من الطبيعي إذاً أن يتكلم الكتاب المقدس عن الحب، ومن الطبيعي أن تشيد الأسفار الحكمية بالحب الحقيقي والصحيح وسمّوه، لكن الغريب في الأمر، والذي يثير كثيراً من التساؤلات لدى عدد كبير من المؤمنين، هو أن نشيد الأناشيد لا يتكلم عن معنى وسمو الحب كما يتصوره قارىء الكتاب المقدس للوهلة الأولى، بل إنه يستعمل لغة خاصة تظهر الحب البشري بماديته المحضة، فيغدو هذا النشيد قصيدة رائعة تتغنّى بالحب البشري في كثافته الجسدية وبواقعية لا ينكرها الشعراء العصريون، إلى درجة يصعب القبول بهذه اللغة على أنها لغة كتاب مقدس، وهي من وحي الله وإلهامه. إن نشيد الأناشيد في الحقيقة كتاب فريد من نوعه، ولكي نفهمه، علينا أن نغوص في أعماق هذا السفر لنستنبط مكنوناته الخفية وكنوزه الثمينة، ولنتعرف على مكانته السامية في الكتاب المقدس وفي حياة وتاريخ الكنيسة، وهذا ما سنحاول أن نفعله. أ - مصادر نصوص النشيد وقانونيته لا شك أن النص ينطلق من قصائد حب قديمة تبادلها رجل وامرأة وكانوا ينشدونها في السهرات، ولعله يستوحي من الطقوس الوثنية كما تؤكده المقارنة مع قصائد من الشرق القديم. والسفر لا يذكر أية مؤسسة دينية ولا أي شخص من شعب إسرائيل (باستثناء سليمان)، ولا يذكر اسم الله سوى مرة واحدة، وبشكل خفي (8: 6). عندما اجتمع اليهود في يمنيا حوالي سنة 90 م. ليحددوا قانونية كتبهم المقدس، كان هناك جدل كبير حول قانونية نشيد الأناشيد الذي يبدو أنه كُتب بعد العودة من المنفى، أي حوالي نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، فكان لتدخل الرابي عقيبة فائدة كبيرة في معرفة معلومات قيّمة تخص هذا الكتاب. فقد تبيّن أن نص نشيد الأناشيد كان يقرأ بمعنى دنيوي في بيوت المشروبات، وهذا كان محل اعتراض واستنكار هذا الرابي الذي دافع عن هذا الكتاب وأكد مقامه في يهودية ذلك العصر قائلاً: إن العالم كله لا يضاهي اليوم ما أُعطي فيه هذا النشيد لإسرائيل. فالكتابات كلها مقدسة، لكن النشيد هو قدس الأقداس" (مقالة يدعيم 3/5). لقد دخل السفر بعد ذلك في القانونية الكتابية اليهودية، وكانت قراءته كما يبدو قراءة رمزية تمثيلية تعتبر قصائده تنشد العهد، أي عهد الحب بين الله وإسرائيل، وهكذا كان يُقرأ أيضاً في قُمران حيث عثر في مكتبتها على أربع نسخ منه. ب- قراءة تحليلية مبدئية للنشيد يقسم أغلب الباحثين نشيد الأناشيد إلى مطلع (1: 2-4)، وخمس قصائد تتوزّع بحسب فصول السنة. تمثّل القصيدة الأولى (1: 5-2: 7) فصل الشتاء وزمن المنفى. والقصيدة الثانية (2 :8- 3: 5) فصل الربيع وزمن الخطوبة. والقصيدة الثالثة (3: 6- 5: 1) فصل الصيف والزواج. والقصيدة الرابعة ((5: 2-6: 3) تجعلنا نتردّد قبل أن نصل إلى فصل الخريف وقطف الثمار كما تحدّثنا عنه القصيدة الخامسة(6: 4-8: 4). وجاءت النهاية (8: 5-7) تعلن أنّ الحب قويّ كالموت. وكانت الأشعار الأخيرة (8: 8-14) بشكل صدى لما قيل في الأسفار الأولى. إن ما يلفت انتباهنا ويثير تعجّبنا لدى قراءة النشيد هو أنه في زمنٍ كانت فيه المرأة خادمة للرجل، نرى في هذه القصائد أن الواحد يحب الآخر على قدم المساواة، في نضارة حنان لا يتنافى مع المصاعب. لذلك في قراءتنا المبدئية للنشيد يجب أن نأخذ بعين الاعتبار النقاط التالية:
ج - القراءة اليهودية للنشيد أشرنا أن نشيد الأناشيد دخل في قانون الكتاب المقدس اليهودي في يمنيا في نهاية القرن الأول، وقد اعتبره الرابي الأول عقيبة قدس أقداس الكتاب المقدس. وبموجب هذه القراءة الدينية الرمزية، تصبح القصائد حوارا متبادلا بين الرب وشعبه. لقد أطلّت صورة نشيد الأناشيد أوّل ما أطلّت مع هوشع نبيّ الحبّ، فقد أصبحت حياته مع امرأته جومر رمزاً إلى حياة الله مع شعبه، مع ما في هذه الحياة من اندفاع إلى الله، وخيانته، والعودة إليه بالتوبة (هو1-3). وتتابعَ هذا الموضوع مع إرميا(2-3) وأشعيا(اش54) وحزقيال(16) الذين رسموا ملامح إسرائيل بمثابة زوجة خائنة، طلقها زوجها، ومن ثم غفر لها. هكذا يعيد النشيد في هذا المفهوم ذكر التاريخ المضطرب عن هذه العلاقات وعن البحث المتبادل الذي قام به الله وشعبه. فعلى سبيل المثال، يوحي "نوم" الحبيبة بأزمنة خياناتها، فيما يعني "هرب" الحبيبة محن إسرائيل، وفي مقدمتها محنة الجلاء. وهنا تبرز فكرة تقول إنّ العريس يمثّل الهيكل وبالتالي الله المقيم في الهيكل، والعروس تمثّل أرض فلسطين. فالعريس يقيم في قلب العروس كما الهيكل يقع في قلب فلسطين. من هنا نرى أن القراءة اليهودية للنشيد تعتبره نشيداً يتغنّى بالحب المتبادَل بين الرجل والمرأة والذي هو رمز الحب المتبادل بين الله وإسرائيل. لا يذكر النشيد الله أبداً، لكنه يتأمل في تك 2/23-24 وملا 2/14 وفي نصوص الأنبياء الذين أشادو بحب الله لشعبه على صورة حب العروسين. إنه يصف الحب البشري كأنه غاية في حد ذاته في العمل الحسن الذي عمله الله (تك 2/23-24)، لذلك فهو يحتوي، عن علم واضح أو غير واضح، على عناصر الزواج الوثني المقدس، ولكنه ينزع عنها طابع الأسطورة نزعاً تاماً، ليبيّن في وصف الحب الجسدي الأصيل (مثل 2/16-17 و ملا 2/14) بلغة العهد، إن محبة الله لشعبه هي مثال كل حب. إنه من أقرب نصوص الكتاب المقدس إلى الإنسان لأنه يتكلم عن الشيء الأشد أُنساً والأكثر شمولية وهو الحب الذي يتبادله الحبيب والحبيبة. وإذا وُصف بأنه قدس أقداس الكتاب المقدس فلأنه يصف حقيقة هذا الاختبار البشري التي يجسّدها اللقاء بين الرجل والمرأة، ليس فقط ليذكّر بجمالها وعظمتها فحسب، بل ليفتح من خلال هذا التذكير آفاقاً أوسع تكون على مستوى تاريخ الخلاص، فيجمع بجرأة لا تنثني بين ما هو الأكثر إنسانية وما هو الأكثر ألوهية، بين اختبار الحب البشري في حد ذاته واختبار حب الله لشعبه. هكذا قرأ اليهود هذا الكتاب فرأوا فيه من خلال نشيد حبّ بين العروس وعريسها، بين الزوجة وزوجها، نشيد حبّ الله لشعبه وحبّ الشعب لربّه. د - القراءة المسيحية للنشيد تبنّى آباء الكنيسة هذه القراءة اليهودية الرمزية وطبّقوها على العهد الجديد، ورأوا أن نشيد الأناشيد ينشد حب الله لشعبه في المسيح، هذا الحب الإلهي للبشر الذي سيتجلّى في ملء الزمان عندما يرسل الآب ابنه يسوع المسيح الذي من خلاله وبالاتحاد به يختبر الإنسان بشكل مطلق أن "الله محبة"(1يو4/8،16). اختبار الحب هذا في النشيد الذي يجد صورته البشريّة في حبّ الرجل لامرأته، وصورته الإلهية في حب الله لشعبه، رآه أباء الكنيسة في نشيد حبّ المسيح للكنيسة وحب الكنيسة للمسيح مستندين في ذلك إلى نص الرسالة إلى أهل أفسس، حيث يُقابِل بولس الرسول حبّ المسيح للكنيسة بحبّ العريس لعروسه، ويُعلّم كيف ينبغي على المسيحيين المتزوجين أن يعيشوا (أف 5/25). إن حب المسيح لكنيسته هو بمثابة وتد الحب الزوجي ونوره، وبكلمة أخرى، يتم تحوّل في حقيقة الحب البشري، بفضل حب الله المعلن في يسوع، والمعاش في الكنيسة. وهكذا لا يبدو في هذا الحب معنيان متضادان وكأنهما حُبّان: الحب البشري والحب الإلهي! لقد كان يسوع "إلهاً حقا وإنسانا حقا"، لذلك لا تفصل الكنيسة ولا تُقيم، بأولى حجة، تَضادّاً بين الواقع البشري وسر الخلاص. ففي قلب كل أوجه الحياة البشرية - وبضمنها الحب والجنس- يتحقق الخلاص وتأليه أبناء الله. وإذا كانت حياة الرجال والنساء- وبضمنها الحب والجنس- قد تشوّهت بفضل الخطيئة، إلاّ أنها مدعوّة، بالمسيح، إلى الاهتداء وتجديد العلاقة معه والنمو في نعمته عبر الأسرار. لكن القراءة المسيحية للنشيد تُشدِّد أيضاً على أنه نشيد الحبّ بين المسيح والنفس التقيّة. فالنفس التقية هي العروس، والرب يسوع هو العريس. ومن غير المستغرب هنا أن يكون سفر النشيد هو الكتاب الذي قرأه أكبر عدد من الرجال والنساء غير المتزوجين في الأديرة والبيوت الرهبانية: لقد تمّ تطبيق القراءة الرمزية على علاقة المسيح مع كل راهب أو راهبة. فالنشيد إنما يُشيد بالحياة الروحية، بارتفاعاتها وهبوطاتها، التي يعيشها أولئك الذين كان لهم المسيحُ الحبَّ الأول، لا بل الحب الوحيد، بانتظار رؤية وجهه والاتحاد به كُلّياً في الملكوت. هكذا، فالقراءة المسيحية للنشيد لا تتوقف فقط على مستوى التكامل الجنسي ومستوى حياة الزوج مع زوجته واهتماماتهم الجسدية. إن القراءة المسيحية ترفعنا إلى مستوى الروح، إلى مستوى حبّ المسيح للكنيسة، إلى مستوى حب المسيح للنفوس المؤمنة، فنستطيع أن نقرأ هذا الكتاب ونتغذّى منه من أجل حياتنا الروحيّة والكنسيّة، لذلك وحدها النفوس التي يملؤها الروح تستطيع الولوج إليه والاستقاء من غناه. إن نشيد الأناشيد هو كتيّب مهمّ جداً لأنه يربط العهد القديم بالعهد الجديد، ويربط الإله الخالق بالإله المحبّ، ويربط شعب التوراة بكنيسة المسيح، ويجعل كل النفوس المؤمنة على مستوى الروح الذي يُدخِلنا في تيّار الحبّ، حبّ الآب والابن، حبّ الله والعالم، حبّ المسيح ونفوس المؤمنين. لهذا، فالقراءة المسيحية لهذا الكتاب تحاول أن تَلِج إلى قلب الله الذي هو حبّ وعطف وحنان، والذي يريد أن يأتي إلينا ويجعل منّا مسكناً له. هـ - نشيد الأناشيد في تاريخية تحليله وتفسيره 1- طبيعة النشيد وتكوينه لقد خضع نشيد الأناشيد عبر الزمن لدراسات نقدية متعدّدة من خلال كثير من الباحثين والعلماء البيبليين، وفيما يخصّ تكوين النشيد وطبيعته، يقول فريق أنّ النشيدَ محبوكٌ بعناية، وهناك تطوّر وتوتّر في سياق قراءته ليجعل منه مؤلفاً درامياً. وفريق آخر لا يرى في النشيد إلاّ حركة تكرار ومراوحة، ويعتبره مختارات من أغاني الأعراس المجموعة والمُدْرَجة في مجلد واحد. والحقيقة أنه لا يمكن أن يُعتبر السِفْر حبكة روائية حقيقية، إنما نحن أمام سلسلة من القصائد، تعيد كل واحدة منها اجتياز الطريق نفسه بوجه من الوجوه، لكنها ترسم في الوقت المحدد بعض التقدم نحو الأمام في اتجاه الامتلاك المتبادل، وفي اتجاه المستقبل الذي بات ممكنا الوصول إليه. من ناحية أخرى، يُجمِع الباحثون أنّ النشيد دُوِّن في فترة ما بعد الجلاء حوالي نهاية القرن الخامس، لكن له تاريخ طويل في عمق الزمن. لكن هناك فريق يربط النشيد بالعالم الوثني والثقافات المجاورة لإسرائيل ? مصر وبلاد الرافدين - والتي كان له معها علاقة، فيأخذ هنا النشيد طابع التغنّي بجمال الحب البشري حيثما اختبره رجل وإمرأة، أو طابعاً طقسياً مرتبطاً باحتفالات الحب والزواج بين الآلهة (تموز وعشتار). وفريق آخر يجعل النشيد في قلب العالم اليهودي، في المجال الخاص بإسرائيل والكتاب المقدس، فيكون بذلك وثيقة تتحدث عن المؤسسة العائلية في إسرائيل والتي ترقى إلى حقبة قديمة. انطلاقاً من هذه الاعتبارات ينقسم المفسِّرون إلى فريقيْن فريق يُعلِن أن النشيد يتناول فقط موضوع الحب البشري وقراءته هي قراءة حرفية؛ وفريق آخر يعتبر أن معنى النشيد الحقيقي لا يمكن إلاّ أن يكون روحياً وأنّ قراءته هي قراءة تمثيلية محضة، واستخدام موضوع الحبيب والحبيبة هو فقط ليوحي بقصة العهد بين الله وشعبه. هذا التباين أدّى بدوره إلى تمييز رأيين يخصّان انتماء النص الأدبي. فمنهم فريق أول يبرهن أن النص ينتمي إلى التقليد النبوي، أي إلى الخط الذي افتتحه هوشع واصفاً بتعبير الأعراس علاقة الله بإسرائيل، وتابَعَه بعده إرميا وحزقيال وأشعيا الثاني. فَيَهْوه هو العريس، وإسرائيل هي العروس، والموضوع هو تاريخ العلاقات بين الله وشعبه، وبذلك تغدو خلفية النشيد اختبار إسرائيل في بابل ثم تحرّره وعودته. هكذا يبدو النشيد بِمُجمله صدى واسعاً لأقوال ومواضيع نبوية سابقة، يستمد منها تماسكه الوثيق مثل: الكرم والشجرة والندى والعريس الذي هو تارة راعيٍ وتارة ملك، وموضوع التيقظ المرتبط بأقوال صهيون...وفي هذا الإطار يكشف النشيد عن ذاته أنه رواية درامية تندرج من نشيد إلى نشيد وتُخبِر قصة حب الله وشعبه، وتتطلّع نحو استيقاظ الأُمة. فيظهر هنا النشيد كأنه مدراش تمثيلي يواصل نصوص الأعراس الواردة في الأدب النبوي منذ هوشع، ويقودها إلى لحظة تحقيق العهد وكمال الحب المتمثّل في الرجاء المتجدِّد في الزمن الذي تلى الجلاء، حيث "سيعرف إسرائيل الله يوماً وسيحبه حباً في ملء الحق" كما يُعلِن ذلك (هو2/18-25) وإرميا (إر31/32-34). إنه من الروعة أن يكون هذا السفر مُنشَغِلاً جداً بتاريخ إسرائيل الروحي وفي نفس الوقت مُصِرّاً بذكاء على جعلنا نعتقد بأنه لا يهتم إلاّ بقصةِ رجل وامرأة يحبان أحدهما الآخر حباً بشرياً وحسب. أما الفريق الآخر فيعتبر أن النشيد ينتمي إلى عالم التقليد الحِكَمي, ويرفض أي تفسير تمثيلي له (تيودورس المصيصي). فالنشيد يسبَح في جوٍ من الحب الوفي بينما يتميّز التقليد النبوي باختبار عدم الأمانة في الحب. والنشيد تغنٍ بالحب البشري يوازي ما جاء في موضوع الحب الزوجي في الأسفار الحكمية، خصوصاً عند ابن سيراخ. إنه قصيدة حب تحوّلتْ إلى مؤلَّف حِكَمي في الكتاب المقدس. وإذا كان النص يتحدث عمّا يدل عليه بوضوح شديد فيعلن جودة الحب البشري وجماله، فإنه في الوقت نفسه ينزع عن هذا الحب الصُبغة الوثنية التي كانت تُضْفي طابعاً جنسياً على ما هو إلهي وطابعاً قُدْسياً على الهوى، ويتكلم عن الحب الصريح والمتبادَل مُدْخِلاً أهدافاً تربوية عليه: ففي مجتمع ينتشر فيه تعدّدُ الزوجات يؤكد النشيد على حب واحد وحصري، وأمام الطلاق الذي كان شائعاً يُشيد بالحب الذي هو قوي كالموت، وأمام عدم تساوي دوريْ الرجل والمرأة يُظهِر النشيد تساوياً تاماً، فيُحرّر الحب، الذي ينظر إليه نظرة كلّية تشمل التعبير الجسدي، من طابعه الأسطوري الوثني، أي من النزعة الطبيعية التي لا حشمة فيها ولا إنسانية، والتي تعطي للعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة بُعْدَ العلاقة الزواجية بين الآلهة من أجل الخصب. وإذا عُدنا إلى التقليد النبوي فإننا نراه يعتبر أن هناك علاقة زوجية جديدة حلّت مكان علاقة الزواج الإلهي، وهي العهد بين الله وشعبه والذي من خلاله يتدخّل يَهْوَه في تاريخ شعبه وتاريخ العالم، وهذا العهد يهدف إلى صنع التاريخ. إن هذا الكلام يُعيد للعلاقة بين الرجل والمرأة دورها الأساسي، وبكلامه عن خالق التاريخ، يدعو الخليقة لأن تعيش في قلب ذلك التاريخ وبهذا يبدو النشيد تفسيراً للفصل الثاني من سفر التكوين. والخلاصة إن نشيد الأناشيد يتضمّن بِمُجْمله أقوالاً نبوية وأقوالاً حِكَمية، وفي كثير من القصائد هناك عناصر بعيدة جداً عن اهتمامات العهد، وبالتالي فالكتاب ليس من عمل مُؤلِّفٍ واحد بل هو تحرير لنصوص ترقى في جزء منها إلى ماض بعيد وفي جزئها الآخر إلى العصر الذي يقارب تحريرها وتدوينها وذلك بدون أن يكون هناك أي تنافر أو تناقض بينها. إنه شبيه بنهر يستمد منبعه من أرض بعيدة وغريبة، ثم يتّخذ عبر مجراه الطويل مكانه وشخصيته الخاصة. وإنه شبيه بقطعة موسيقية سيمفونية متعددة الأصوات ترتسم على عدة مُدرّجات وتُعزف على عدة أوتار من المعاني، لكنها تطرح موضوعاً رئيسياً هو تاريخ إسرائيل والوحي مع كل مراحله التي تقود هذا التاريخ وتجذبه نحو نهايته. وإذا أردنا أن نفهم ذلك علينا أن نتصوّر أنّ هذا النشيد كان في البداية نصاً يشبه تقليد أغاني الحب على الطريقة المصرية، ثم رُبط في إحدى مراحل انتقاله بالتقليد النبوي خصوصاً في القرن الخامس، حيث يعود القسم الأساسي من النشيد وحيث يبلغ التأمل النبوي في الوحي ذروته. في هذا التأمل النبوي تبرز صورة أنثوية مُدهِشة وخفية: فالحديث، عند أشعيا وبعد هوشع، عن الله عريس الشعب يؤدي إلى صورة غير مألوفة عند إسرائيل هي صورة صهيون المقدسة التي تلد أمة في يوم واحد (أش66/8)، وهنا نرى إسرائيل العروس ترتدي سمواً وقداسة جديدين يبعدان ذكريات الخيانة إلى ماضٍ بعيد. ولا غرابة أن نجد في نصوص ما بعد الجلاء دوراً نسائياً إيجابياً مشاركاً بوجه سري في الدفاع عن إسرائيل وفي مستقبله والخلاص الآتي مثل راعوت وأستير ويهوديت. هناك نقطة أخرى هامة في التقليد النبوي, وهي صورة سليمان الذي يُنسَب إليه النشيد، فالتأمل في هذه الصورة المثالية هو توسّع في التفكير الحِكَمي المتعلق بالعهد المشيحاني المنتظَر، وبالتالي يكون الحبيب في النشيد ذلك الملك المشيح الذي تنتظره بنت صهيون والذي تنبّأت به صورة سليمان الذي يصفه سفر الأحبار بأنه المؤتمن على حكمة الله (2أخ1/1-12). كل هذا يؤدي بنا إلى أن نرى أن يهوه يبقى هو عريس إسرائيل الوحيد، ولا نجد غموضاً عندما يحل الملك المشيح مكان يهوه في النشيد الذي يُعتَبر في هذه الحالة وحي مسبق عن العهد المسيحاني الآتي، وصورة مسبقة عن ذلك السر الذي سينكشف مع يسوع المسيح ابن الله العريس الوحيد للكنيسة عروسته، الذي معه سيكون هناك عهد جديد وأزمنة جديدة، إحدى علاماته عهد الرجل والمرأة اللذين يعيشان فيه الإتحاد الذي أراده الله في البدء. إنّ النشيد هو نوعٌ من الكلمة الشاملة التي تشير إلى سر الخلاص، حتى ولو اعتراه شيء من الغموض ? وهذا طبيعي لأنه من ميزات سر الخلاص ? وهو في كلامه عن اتحاد الرجل والمرأة يتحدث عن اتحاد البشرية والله جامعاً البداية بالنهاية، سائراً في اتجاه أسرار الخلق والتاريخ. 2- تفسير نشيد الأناشيد انطلاقاً من نشيد الأناشيد كُتِبت نصوصٌ تعتمد القراءة التمثيلية وهي من أجمل ما كُتِب في الأدب الروحي المسيحي: تفسير أوريجانوس النموذجي والرائع في القرن الثالث، وتبعه غريغوريوس النيصي، ثم القديس برناردوس التي تتّسم مواعظه بالروحانية والعبقرية في القرن الثاني عشر، ثم النشيد الروحي للقديس يوحنا الصليب والذي هو تحفة التصوف المسيحي، ويوحنا السالسي وتريزا الأفيلية وغيرهم. هكذا نرى أنه لم يتجاسر أن يُفسِّر هذا الكتيّبَ الذي يتضمن نشيد حبّ الله لشعبه وحبّ الشعب لربّه إلاّ النفوسُ المشُبَعة بالحبّ الإلهي. إن القراءة التمثيلية تقوم، كما رأينا سابقاً، على إعادة تفسير روحي فوري لدوريْ الحبيب والحبيبة، يتخطّى المعنى المادي والحرفي للنص إلى المعنى المجازي. هكذا من خلال كلمات الحبيبين في النشيد، نسمع الحوار القائم بين إسرائيل ويهوه، أو بين المسيح والكنيسة، أو بين المسيح والنفس الفردية. وقد شاعت هذه القراءة عند آباء الكنيسة في مدرسة الإسكندرية (اقليمنضس الاسكندري وأوريجانوس) ولاقت استنكاراً من مدرسة أنطاكية المعاصرة لها (تيودورس المصيصي ويوحنا فم الذهب) والتي كانت تهتم بحرفية النص ومعطياته التاريخية. لقد أتت القراءة التمثيلية المسيحية للنشيد صدى للقراءة اليهودية ل "شير ها شيريم" والتي كانت تقرأ النص على أساس اقتناع لاهوتي ثابت، وهو أن الكتاب المقدس واحد، والتاريخ المقدس ينتمي إلى قصد واحد حيث تتجاوب الأحداث ويُمهِّد بعضُها لبعض ويُخاطب بعضُها بعضاً بوجه خفي، وبالتالي فَمَن يقرأ النشيد عليه أن يسير في داخل السر, ويتعرف على التخطيط الإلهي الذي يتجلّى شيئاً فشيئاً لبصيرة الإيمان. لقد اعتبر التقليد اليهودي النشيد رمزاً تمثيلياً للمحبة التي يكنُّها الله لإسرائيل، والترجوم يعتبر أنّ النشيد يرسم مجمل تاريخ إسرائيل بطريقة رمزية، من موسى إلى عصر التلمود مروراً بالخروج من مصر وإعطاء الشريعة وبناء الهيكل وتدشينه، والجلاء والعودة وانتظار الملك المشيح. والمدراش يسير أيضاً على هذا النحو، فيعتبر مثلاً أن الفصح يشرح بإسهاب في نش 2/8-9 : "صوت حبيبي. هوذا مقبل وهو يطفر على الجبال ويقفز على التلال". هذا الحبيب هو تارة الله نفسه، وتارة موسى، وتارة المشيح الذي موسى هو صورة له، لأن عيد الفصح اتخذ تفسيراً أخيرياً ومشيحياً. لكن النشيد يأخذ دوره أيضاً في قلب التقليد التصوّفي اليهودي منذ القرون الأولى، وخصوصاً في الحركة القبلانية التصوفية المتأثرة ب الزُهَر والذي اكتشف سفره (كتاب البهاء) على يد قابل اسباني في القرن الثالث عشر، وللنشيد فيه قيمة وإكرام كبيران حيث يعلن الزهر: " إن نشيد الأناشيد هو خلاصة الكتاب المقدس كله، وعمل الخلق كله، وخُلاصة سر الآباء...". انطلاقاً من هذه الشهادة الإيمانية التي تعلن أن المسيح هو تحقيق لرجاء إسرائيل, ترى الكنيسة أن نصّ نشيد الأناشيد يعنيها بالدرجة الأولى، فالحبيب هو هنا المسيح والحبيبة تصبح صورة الكنيسة تارة في كيانها الجماعي، وتارة بوجهها الفردي. هكذا قرأت الكنيسة النشيد على أنه كلمة تختص في قلب الاختبار المسيحي، وفسره الآباء في هذا الإطار الروحي، ولنأخذ بعض الأمثلة:
هذا الموضوع أيضاً تناوله في نفس الخط التفسيري القديس برناردوس والقديس يوحنا الصليب فرأيا في نفسيهما نفس الرغبة التي شعر بها إسرائيل تجاه العروس. من هنا نرى أن الحوار في النشيد يصبح كلمة الأزمنة الأخيرة كما أورده مار بولس في افتتاح رسالته إلى العبرانيين: "إن الله، بعدما كلّم آباءنا مرات كثيرة بلسان الأنبياء كلاماً مختلف الوسائل، كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة بالابن الذي جعله وارثاً لكل شيء" (عب1/1).
في هذا الإطار تأمّلَ آباء الكنيسة في الغنى المعنوي الروحي الذي وصف به مار بولس الكنيسة بأنها جسد المسيح، مُطبِّقاً تلك العلاقة المقدسة على علاقة الزوج بالزوجة (أف5/25-27). وهنا القديس برنردوس يفهم التجسد على أنه سر زواج فيقول في عظة الميلاد: "إنّ الكنيسة، التي ينعشها شعور العريس إلهها وروحه، تريح حبيبها على حضنها، في حين أنّها تحتل للأبد المرتبة الأولى في قلبه وتحتفظ بها. ذلك بأنّها جرحت قلب عريسها. وأدخلت عين التأمّل حتى عمق أعماق الأسرار الإلهيّة. هو وهي يجعل كلٌّ منها مسكنه الأبديّ في الآخر".
لقد أخذ النشيد في القرون الأولى وانطلاقاً من هذا المفهوم دوراً في تفسير حياة الأسرار في الكنيسة، فالكنيسة بأسرها، من أوضع الناس إلى أرفعهم، مدعوة إلى أن ترى نفسها في حبيبة النشيد، وكل عضو فيها مدعو أن يرى في نفسه عروس المسيح التي تُوجَّه إليه كلماتُ الحبيب، وأن يتحلّى باستعدادات قلب العروس ليستطيع بالتالي أن يقول هو أيضاً كلمات الحبيبة. لأنّ الحياة المسيحية نفسها يُنظرَ إليها كأنها حقيقة زواجية، والأسرار تُحقِّق خصوصاً هذا الاتحاد الذي يتحدث عنه النشيد. القديس أمبروسيوس يُفسِّر سر التثبيت فيقول: "كما أنّ الروح القدس في قلبك، كذلك المسيح في قلبك أيضاً. كيف؟ إنّك تجد ذلك في نشيد الأناشيد: اجعلني كخاتمٍ على قلبك، كخاتمٍ على ذراعك" (في الأسرار 6/6). 3- النشيد في التقليد الآبائي I. مكانة النشيد وسموّه في الكتاب المقدس : أوريجنوس يشجع على قراءة النشيد يقوله: "اسمع كلمات نشيد الأناشيد وأسرع في الدخول إليه، مردّداً مع العروس ما قالته العروس، لتستطيع أن تسمع ما سمعته العروس نفسها" (مواعظ في نشيد الأناشيد1/1) غريغوريوس الكبير يقول إنّ الدخول في النشيد لا يتم إلا بشرط هو المفهوم الصحيح للمحبة والذي يطابق بينه وبين حُلّة العرس اللائقة: "علينا أن نأتي إلى ذلك العرس المقدّس، إلى زفاف العريس والعروس، مع أعمق مفهوم للمحبّة وبكلام آخر، أن نأتي إليه مع لباس العرس. وهذا ضروريّ: فإذا لم نلبس لباس العرس- أي مفهوم صحيح للمحبّة- سنُطرد من وليمة العرس إلى الظلمات البرانيّة، أي إلى عمى الجهل (4/6- 10). غريغوريوس النيصيّ يتكلم أيضاً عن نفس الموضوع ويقول: "أنتم الذين، بناءً على نصيحة بولس، خلعتم الإنسان القديم مع أعماله وشهواته، كما تخلعون ثوباً بالياً، ولبستم، بنقاوة حياتكم، الثياب الباهرة التي أظهرها الربّ يوم تجلّيه على الجبل، أو بالأحرى لبستم سيّدنا يسوع المسيح نفسه، مع قميصه المقدّس، وتجليّتم معه لتصبحوا متحرِّرين من الأهواء وإلهيّين، تعلّموا أسرار نشيد الأناشيد. أُدخلوا إلى الخِدْر الذي لا يُفسد، لابسين اللباس الأبيض، لباس الأفكار النقيّة التي لا عيب فيها؟ (العظة الأولى). II. النشيد كمال الحب التصوفي والنسكي : لقد كان لنشيد الأناشيد التأثير الكبير في عمق الحياة التصوفية المسيحية على مر تاريخ الكنيسة. فأوريجانوس يصف النشيد بأنه يتلاءم مع كمال الحياة الروحية، في آخر درجات مسيرة النفس إلى الله. ويُشبِّه أوريجانوس الحياة المسيحية بأنها ارتقاء يحاول من مرحلة إلى مرحلة أن ينمو في علاقة حميمة مع الله. لقد شبه أوريجانوس هذا النمو بسبع مراحل أو درجات سُلَّم يصل الأرض بالسماء، ولكل مرحلة أو درجة نشيد من الكتاب المقدس يرافق سبع مراحل من حياة إسرائيل إبتداءً من نشيد موسى (خر15) إلى نشيد داود (1أخ 16) وإنتهاءً بنشيد الأناشيد. وكما تجد أيام الأسبوع الستة راحتها في السبت، هكذا يكون نشيد الأناشيد بمثابة اليوم السابع وذروة الأناشيد كلها. من هنا يحُدِّد أوريجانوس ويُوضِّح، وهو أول من شدَّد على ذلك، أنّ عملية فهم النشيد وفقاً لمعناه الإلهي يفترض أن يكون المرء قد تقدم بما فيه الكفاية بمعرفة الله: "فمَن كان غريباً عن معرفة الله لن يرى فيه سوى تعبير عن حبِّ بشريّ قد تكون عباراته الملتهبة نفسها حجر عَثَرة في إطار الوحي الكتابيّ. وقد يرى فيه دعوة إلى التمتّع يخشى أن تجعل من النشيد، في نظره، نصّاً مُضِرّاً وفي المقابل، يُمكن للقارئ "الروحي" أن يرى في الكلمات نفسها تجلّياً لأعظم حبّ ودخولاً في سرّ قلب الله. وأكثر من ذلك، سيرى هذا الإنسان نفسُه أنّ معنى النصّ يتجدّد بقدر ما يتعمّق فيه اختبارُ الله، لأنّ "كُلَّ نَفْس تجذب كلمة الله وتُدخِله فيها وفقاً لقدرتها وإيمانها". يتبع أوريجانوس في نفس الموضوع القديس برناردوس فيقول: "في نشيد العرس الذي هو نشيد الأناشيد، يبرز الحبّ من كل مكان. وإذا رغبنا في التوصّل إلى فهم ما نقرؤه فيه، فلا بدّ لنا من أن نحبّ. وإلاّ فإننا نسمع قصيدة الحبّ هذه أو نقرؤها عبثاً: من دون حبّ لا نتوصّل إلى شيء، والقلب البارد لا يمكنه أن يفهم شيئاً من كلمة النار هذه" (العظة 79/1 حول النشيد). ويتوسّع غريغوريوس النيصيّ بطريقة مميزة في فكرة أوريجانس القائلة بأنّ النشيد يتناسب وأعلى درجة في الحياة الروحيّة, فيصف مفارقة الحياة الروحية حيث يستطيع الإنسان أن يتقدّم في معرفة الله، ولكن من دون أن يُلغى شيئاً من التعالي الإلهيّ. وخلافاً للفكرة اليونانية الشائعة بوجه عامّ في عصره، والقائلة بأنّ التغيير لا يمكنه أن يكون إلاّ تقهقراً وخسارة، أكّد أنّ الحياة الروحيّة نموّ وديناميّة وحركة. وبما أن الله لا يحدّه حدّ، فإنّ التماس وجه الله طريقٌ غير متناهٍ لا يولّد السير فيه أي تعب أو إعياء. وَوَصَف النفس التي يدفعها العريس إلى الأمام من وقت إلى آخر قائلاً لها: "قومي، تعالي"، وداعياً إياها باستمرار إلى الانتقال إلى مكان آخر. ولأنّ الكمال لا يعرف حدّاً، فهي تقدُّم مستمر، وتحوّل "من مجد إلى مجد"، كما يقول القدّيس بولس (2قور 3/18). فالمطلوب إذا، بحسب عبارة غريغوريوس الجميلة، أن "نذهب من بداية إلى بداية ببدايات لا نهاية لها أبداً". والقديسة تريزا الأفيلية تؤكد أيضاً: "إنّ النشيد يرسم خطّاً، عند قرّائه، بين مَن لا يجدون فيه سوى ذريعة للضحك ومَن يدركون، لأنّهم يعيشونه، "ما يجري بين الله والنفس". لقد كان أوريجانوس أول من قرأ في النشيد قصيدة عن اتحاد النفس بكلمة الله فكان ذلك مصدر إلهام أساسي للتصوف المسيحي الذي فيه يتطور مفهوم الحواس الروحية الذي يجعل من التصوفية معرفة اختبارية للأمور الإلهية. منذئذٍ، وشيئاً فشيئاً، أصبح نشيد الأناشيد ذلك النشيد المثاليّ الذي يتغنّى بإلفة الحبّ مع الله، والنصّ المفضَّل عند الذين "يلتمسون وجه الله". إنّه قصيدة الحياة المسيحيّة التي تُفهَم بمعناها الجذريّ كحياةٍ مطعَّمة في سرّ الله، ومهتمّة بالنموّ، برعاية الله، في إلفة حضوره. |
||||
14 - 08 - 2014, 05:19 PM | رقم المشاركة : ( 5185 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الفردوس
الأرشمندريت توما بيطار باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين. وكان أعمى جالساً على الطريق يستعطي. من السهل جداً أن يتكلّم الواحد منّا عن العمى إذا كان مُبصراً. العمى أمرٌ فظيع. أن يكون الإنسان محروماً من النور، من البصر، وغير قادر على أن يتحرّك في الظلمة، في العتمة، كلّ أيّام حياته، خبرة مؤلمة جداً. لكنْ ما هو آلَم، أي أكثر ألماً من العمى الجسدي، هو عمى القلب، أن يكون الإنسان محروماً من معاينة نور الله وأن يكون محروماً من معاينة كلّ الجمالات التي خلقها الله. العمى الروحيّ أفظع بما لا يُقاس من العمى الجسدي. وحين نتحدّث عن العمى الروحيّ إنما نقصد أن يكون الإنسان محروماً من الله، كما أنّ العمى الجسدي يجعل الإنسان محروماً من نور الشمس. وطبعاً، يُطرَح السؤال التالي: ما هو الذي يجعل الإنسان محروماً من الله؟ هو الخطيئة بالذات. ربما كثيرون لا يعرفون ما معنى الخطيئة. الخطيئة معناها أن يكون الإنسان منقطعاً عن الله. كلّ ما يقطع الإنسان عن ربّنا يُدعى خطيئة. الخطيئة تضرب عصب القلب بحيث لا يعود حسّاساً لنور الله. وشيئاً فشيئاً، إذا تمادى الإنسان في خطاياه، يفقد الإحساس بحضور الله، فيصير عائشاً وكأنّ الله غير موجود. إذا كان هناك أناس في العالم، وطبعاً هناك الكثيرون، ممَّن لا يحسّون بحضور الله، فهؤلاء، بكل بساطة، بشرٌ غارقون في خطاياهم. ومن جديد، حين نقول إنّ الإنسان غارق في خطاياه، فهذا معناه أنّه يتصرّف على هواه كما يرغب وكما يريد وكأنّه ليست هناك وصيّة إلهيّة وكأنّ الله غير موجود. الإنسان الذي يُطلق العنان لأهواء نفسه هذا يكون مقيماً في الخطيئة، وبالنتيجة يكون منقطعاً عن الله. ليس المهمّ أبداً أن يعمل الإنسان كما يحلو له وكما ترغب نفسه. لأنّ ما ترغب به النفس تلقاء ليس أبداً مفيداً للإنسان. دَعونا نُعطي بعض الأمثلة: الإنسان بصورة تلقائية، نفسه ميّالة إلى الشراهة، يحبّ الأكل. هو يأكل ليتمتّع، ونفسه ترغب دائماً في المزيد. لذلك أكثر الناس هم أسرى الشراهة في المأكول. نفس الإنسان ترغب في الشراهة، لكن، في النتيجة، الشراهة تؤذي الإنسان ولا تنفعه إطلاقاً. مثلٌ آخر، كلّ إنسان يحبّ الكلام والثرثرة ويحبّ أن يُطلق لسانه في الكلام دون حسيب أو رقيب. يتسلّى بالكلام. قد يكون في الكلام ضرر كبير للآخرين. والمهمّ أيضاً أنّ الإنسان الذي يثرثر إنما هو يتضرَّر. الكلام ليس للثرثرة بل لتعزية الناس، هو للتعبير عن المحبّة للناس، هو لتشديد الناس، هو لخير الناس، لبناء الناس. الكلام ليس القصد منه أبداً الثرثرة. وبالتالي تَرَوْن أنّ نفْس الإنسان ميّالة إلى الثرثرة كما إلى الشراهة، لكن هذا يؤذيه جداً. مثَل آخر: نفْس الإنسان ميّالة إلى الزنى. كلّ إنسان، إلاّ إذا كانت عليه نعمة من عند الله، كلّ إنسان تميل نفسُه إلى الزنى. نظرتُه فيها زنى، فكره فيه زنى، طريقة تصرّفه فيها زنى، النفْس ميّالة إلى ذلك. لكنْ هذا يؤذيه جداً، لأنّ الإنسان الزاني لا نصيب له مع الله وتالياً هو لا يحبّ أحداً بل يحبّ نفسه فقط. لذلك، بناءً على هذه الأمثلة الثلاث، الخطيئة تقطعنا عن الله لأنّ الإنسان الخاطئ لا يحبّ إلاّ نفسه ولا يطلب إطلاقاً إلاّ ما هو مناسب لأهوائه. كلّ ما نعمله لكي نرضي أنفسنا وأهواءنا ورغباتنا إنما هو غير مبارَك ونهايته دائماً وخيمة ومؤذية. يستحيل على الإنسان أن يحبّ الله وأن يسلك في أهواء نفسه. لا يمكنه ذلك. الإنسان الذي يحبّ الله ويريد أن تكون له علاقة بالله، هذا عليه دائماً أن يقمع أهواء نفسه، هذا عليه دائماً أن يقمع رغبات نفسه، وذلك حتى لا تأخذ رغبات نفسه وأهواء نفسه مداها. السيّارة التي ليست فيها فرامل هذه تتهوَّر، والإنسان الذي لا يعرف أن يقف عند حدود يؤذي نفسه وينقطع عن الله. لهذا السبب أُعطيت لنا الوصيّة. وصيّة الله أُعطيت لنا لكي نعرف حدود أنفسنا، لكي يعرف الواحد منّا ما يجب أن يعمله وما لا يجب أن يعمله. الطعام، مثلاً، أُعطي لنا للغذاء وأُعطي لنا للفرح وللتعزية. هذه هي حدود الطعام: الغذاء، الفرح، التعزية. لذلك لا يجوز لنا أن نتخطّى هذه الحدود لنقع في الشراهة. لهذا السبب تُعلِّمنا الكنيسة أن نصوم، لكي نتعلّم أن نعرف حدودنا في التعامل مع الطعام. والشيء نفسه يُقال عن اللسان. الكلام، كلمة واحدة قد تعزّي إنساناً، قد تنتشله من جبّ اليأس، قد تشدِّد إنساناً. لكن هذه هي حدود الكلام، وعلينا أن ننتبه لكي لا نقع في الثرثرة. وكذلك الأمر بالنسبة للزنى، الله أعطانا قوّة الإنجاب حتى نفرح ونتعزّى، حتى نحبّ وحتى يتكاثر الجنس البشري. لكن ما هو للتكاثر لم يُعطَ لنا للزنى. يجب أن نعرف دائماً أن نتوقّف عند حدود. الوصيّة دائماً، وصيّة يسوع ووصيّة الكنيسة هي لكي تساعدنا على معرفة حدودنا. لم يَحرمنا ربّنا من أيّ شيء على الإطلاق بل أعطانا، وبكثرة، نِعماً وخيرات وبركات. لكن علينا دائماً أن نبقى في حدود ما يرضي الله، علينا دائماً أن نبقى في حدود ما يمجِّد الله، علينا أن نبقى دائماً في حدود ما يساعدنا على أن نكون مع الله. لا تتصوَّروا أبداً أنّ إنسان الله إنسانٌ محروم من أفراح هذا العالم، ليس محروماً أبداً من أفراح هذا العالم. هذا العالم أُعطي لنا للفرح، لكنّه لم يعطَ لنا لنستغرق في شهوات نفوسنا. على الواحد منّا أن يعرف أن يقول "نعَم" وأن يقول "لا". عليه أن يعرف ما هو المقبول وما هو غير المقبول. إذا ما سلك الإنسان في حدود الوصيّة الإلهيّة فإنّه، داخلياً، في قلبه، يكون نور. نور الله يسكن فيه. هذا الإنسان الذي يبصر يبصر في داخل نفسه ما هو مناسب وما هو غير مناسب، ما ينفع وما لا ينفع، لأنّ نعمة الله تسكن فيه. بينما الإنسان الذي يسترسل في أهواء نفسه بلا رادع، هذا يصاب بالعمى. والإنسان الذي يصاب بالعمى لا يعود يعرف يمينه من يساره ولا نهاره من ليله. ربّنا لم يعطنا وصيّته لكي نتعذّب، بل بالعكس لكي نفرح. ولا أحد يفرح في هذا الدهر وفي الدهر الآتي أكثر من الرجل القدّيس أو المرأة القدّيسة. هنا على الأرض يفرحون بكل شيء. نحن نمرّ بقرب الناس وكأنّهم غير موجودين، ليس لدينا إحساس بالفرح بالناس. لأنّ كل واحد منّا مشغول بأموره ولا يبالي بأحد. هو ينظر إلى مصالح نفسه وإلى أهواء نفسه. لذلك فإنّه في البناية الواحدة، أحياناً كثيرة، لا أحد يعرف مَن يسكن فوقه ومَن يسكن تحته. ونحن، أحياناً كثيرة، لا نلاحظ أبداً كم أنّ وجود الآخرين في حياتنا هو تعزية وكم فيه من الفرح وكم هو نعمة من عند ربّنا. تصوّروا أن يعيش الواحد منّا في بناية ليس فيها أحد إطلاقاً، أو أن يمشي في الشارع ولا يكون هناك أحد، أو أن يعيش الإنسان في جزيرة وحيداً دون أن يرى وجه إنسان. الآخر أُعطي لنا للفرح، أُعطي لنا للتعزية. نحن دائماً ننظر إلى الآخرين إمّا لنرى مصلحتنا أو رغبتنا أو لنرى الأمور البشعة فيهم، لكي نبتعد عنهم. فيما نحن بأمسّ الحاجة لأن نرى كم من الحلاوات موجودة في الآخرين. هناك الكثير من الأمور الحلوة عند الناس. ولأنّ المحبّة دائماً ما تأخذ المبادرة، فإذا ما نحن أهملنا الناس أهملونا وإذا ما اهتمَمْنا بهم تجاوَبوا معنا. أكثر الناس يتجاوبون معنا. كم هو جميل أن يأخذ الواحد منّا المبادرة دائماً ويهتمّ بالناس الذين يلتقيهم والذين يمشي معهم. كم هو جميل أن يخرج الواحد منّا من نفسه لكي يهتمّ بالناس الذين هم حوله. كم هو جميل أن ينسى الواحد نفسه لكي يتذكّر الناس الذين هم حوله. تصوَّروا، مثلاً، أنّ هناك إنساناً قريباً منكم مريض وفقير، وقَبِلتُم أن تتعبوا لكي تسدِّدوا عنه فواتيره وتأتوه بالدواء ولكي تأخذوه إلى المستشفى، فهذا الإنسان الذي تصنعون له هذا الإحسان إنما يرى فيكم الفردوس. الفردوس يُعاش هنا على الأرض. ومَن لا يعيش في الفردوس على الأرض، هذا لا يمكنه أن يعيش في الفردوس بعد الموت. هذا مستحيل. الفردوس نحن نصنعه، نحن وربّنا. ربّنا يعطينا إيّاه ونحن نحقِّقه في حياتنا. الفردوس هو أن نحبّ الناس وأن نأخذ المبادرة لكي نهتمّ بهم. كم هو جميل مثلاً أن يكون الواحد منّا سائراً بسيّارته في الشارع، وإذ يبصر إنساناً يريد أن يجتاز الطريق ولا يتمكّن لأنّ كل السيّارات مستعجلة ولا أحد يترك له المجال ليجتاز الطريق، كم هو جميل أن يتوقّف ويقول له: تفضّل! ماذا سيكون شعور هذا الإنسان الذي ندعه يمرّ؟ سوف يكون شعوره الفرح والشكر وسوف ينظر إلينا بابتسامة كبيرة ويشير لنا بيده. سوف يرى فينا لمحة من لمحات الفردوس. كلّ الناس بحاجة إلى الحنان واللطف. لا نتوقّعنّ منهم أن يأخذوا المبادرة بل علينا نحن أن نأخذ المبادرة. نحن موجودون ههنا، ربّنا أَوجدنا ههنا، لكي نحبّ الناس. هذا هو عملنا على الأرض، أن نحبّ الآخرين. أن نحسّ مع الجائع ونطعمه، وأن نحسّ مع العطشان ونسقيه، وأن نحسّ مع المظلوم ونُنصِفه، وأن نحسّ مع الموجوع ونداويه لو أمكن. وإن لم نكن قادرين على أن نداويه، فعلى الأقل أن نقف بلهفة أمامه وأن نعزّي قلبه بما يعطينا إيّاه الربّ الإله. الإنسان هو الذي يجعل الحياة فردوساً وهو الذي يجعل منها جحيماً. الجحيم هو أن يحبّ الإنسان نفسه، والفردوس هو أن يحبّ الإنسان الآخرين. الإنسان الذي يحبّ الآخرين في كلّ مناسبة، هذا يكون إنساناً يعاين الله في قلبه. مَن كانت عينه الداخليّة مفتوحة على الله، فلا يمكن إلاّ أن تكون عينه الخارجيّة مفتوحة على الناس. لا يمكن للإنسان الذي لديه قلب إلاّ أن يحسّ مع الآخرين، يبكي مع الباكين ويفرح مع الفرحين. أتريدون أن تعرفوا أين الفردوس؟ هذا الإنسان الجالس بجانبكم، هذا الإنسان الذي هو مقابلكم، الفردوس ساكن فيه. وأنتم بمحبّتكم له واهتمامكم به ونظرتكم إليه وخروجكم من ذواتكم، بخروجنا من أنفسنا حتى نعتني بالآخرين ندخل الفردوس. لأنّه ما هو الفردوس؟ الفردوس هو أن نحبّ. مَن لا يحبّ ههنا فلن يتمرّس على الحبّ هناك. لأنّ الله محبّة، فمَن لا يعرف أن يحبّ الناس الذين ينظرهم هذا لا يمكنه أن يحبّ الله الذي لم ينظره. هذا هو الإنسان الذي يبصر جمالات الله في كلّ الخليقة. وهذا هو الإنسان الذي يتقدّس. الإنسان النجس إذا ما أبصر امرأة زانية أو رجلاً زانياً فهو يقول عنهما: ما هذه الوساخة! أحد القدّيسين أبصر مرّة امرأة زانية فماذا فعل؟ صار يبكي، وقال: يا ربّ، هذه المرأة الزانية ربما أخطأت اليوم لكنّها غداً تتوب، لكن ويلي أنا إنْ لم أتبْ. الرجل القدّيس ينظر في وجوه الناس بطريقة مختلفة، ينظر برحمة، برأفة، ولهذا السبب هو يبصر. القلب الذي يتحرّك بالرأفة والرحمة، القلب الذي يلهف على أوجاع الناس وضيقاتهم، القلب الذي يتحرّك للكلام الإلهي الذي هو كلام حبّ أوّلاً وثانياً وأخيراً، هذا القلب هو القلب الذي يبصر. أما القلب الذي لا يرى إلاّ البشاعات، فهذه البشاعات هي فيه هو، هذه البشاعات هي الظلمة التي يعيش هو فيها. ليس الناس هم البشعين والسيِّئين، بل نظرته للآخرين هي السيّئة والغير النقيّة. لهذا السبب، يا إخوة، كلّ واحد مدعوّ لأن يفرح. والفرح معطى لنا في كل حين. لاحظوا أنّ العطاء، عطاء الناس والاهتمام بالآخرين لا يفرّح الآخرين فقط بل يُفرِّحنا نحن بالأكثر. لهذا السبب يقول الكلام الإلهي: "مغبوط العطاء أكثر من الأخذ". الذي يعطي يفرح أكثر بكثير من الذي يأخذ. إن أردتم أن يمتلئ قلبكم بالفرح، أَعطوا. بقدر ما يُعطي الإنسان بقدر ما يمتلئ من عطايا الله التي هي الفرح والحبّ. الإنسان، بعد الربّ يسوع المسيح، لم يعد ينقصه شيء. الربّ يسوع المسيح أغدَق عليه محبّته إلى المنتهى، ولم يعد في وسعه إلاّ أن يفرح. لكنّنا، في أحيان كثيرة، وبسبب أنانيّاتنا وتمسّكنا برأينا وأهوائنا وبما نريد، لأنّنا لا نريد أن نخرج من ذواتنا لنلتقي الآخرين، نحرم أنفسنا من نِعَم الله وعطاياه. هذا الأعمى الجالس على الطريق هو صورة عن كلّ واحد منّا، جالسٌ على طريق هذه الحياة ويستعطي ثمار الخطيئة. في حين أنّ ربّنا قد أعطى ذاته لكلّ واحد منّا حتى يصير غنيّاً بالنِّعَم الإلهيّة بما لا يقاس وحتى يفرح بلا حدود وحتى يحبّ إلى الأبد. الإنسان أُعطي الكنوز السماويّة حتى يتمتّع بها، حتى يفرح. لهذا السبب نحن لسنا بحاجة أبداً إلاّ إلى أمر واحد فقط هو أن نفتح هذا القلب للآخرين حتى يقيم الآخرون فينا. ومَن يفتح قلبه للآخرين، الذي يفسح في المجال للآخرين أن يقيموا في نفسه، أي، بكلام آخر، مَن يحسّ مع الآخرين، مَن يبذل نفسه لأجل الآخرين، مَن يشترك بما لديه مع الآخرين، مَن يهتمّ بتعزية قلوب الآخرين، هذا يفتح قلبه لهم، وهذا هو بالذات مَن يفتح له ربّه قلبه حتى يأتي الآب والابن والروح القدس ويسكنوا فيه. هذا القلب هو مسكن الله. "ملكوت السماوات في داخلكم". وما هو ملكوت السماوات؟ الله أعطانا ويعطينا أن يقيم فينا. المهم أن نخرج إلى الآخرين حتى نقيم فيهم وفي جراحهم وفي دموعهم وفي آلامهم. وهذا الكلام يصحّ بصورة خاصة على هذه الأيّام الصعبة. فطوبى للذين يعرفون أن يخرجوا إلى الناس حتى يعزّوهم بما لديهم، قليلاً كان أو كثيراً. المهم أنّه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي هناك أكون في وسطهم. الله هو الذي يغنينا، الله هو الذي يعطينا كلّ شيء. المهم أن نجتمع في محبّةٍ إلى محبّة الله، حتى يصير لنا نصيب في حضور الله في حياتنا. فمَن له أذنان للسمع فليسمع |
||||
14 - 08 - 2014, 05:21 PM | رقم المشاركة : ( 5186 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
المسيح قام!
عظة للقديس يوحنا مكسيموفيتش ألقاها في أبنائه في باريس، فصح سنة 1956 نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي لننقِ حواسنا وننظر عِبر نور قيامة المسيح المضيئة التي لا يمكن بلوغها. الآن كل شيء ممتلئ بالنور، السماوات والأرض وما تحت الأرض. الكل يستحمّ الآن بالنور. المسيح قام من بين الأموات. السماوات تبتهج، الأرض تفرح وما تحتها يمجّد. الملائكة ينشدون "بقيامتك أيها المسيح السيد، أنت اجعلنا على الأرض أيضاً مستحقين لتمجيد بقلب نقي. جوق الملائكة، الذي ارتعب من رؤية الخالق والسيد ميتاً، ينشد الآن نشيد الفرح ويمجدونه قائماً. اليوم آدم يتهلل وحواء تبتهج، معهما الأنبياء وبطاركة ينشدون المدائح اللائقة بخالق الكل ومخلصنا، الذي نزل إلى تحت الأرض من أجلنا. إن معطي الحياة يقود البشر من الجحيم في هذا اليوم، ويرفعهم إلى السماوات. إنه يطرح قوى العدو ويكسر أبواب الجحيم بقوة سلطانه الإلهي. على الأرض، الملائكة يذيعون الأنباء السارة للبشر ويعلنون قيامة المسيح. متزينين بثياب بيضاء منيرة، الملائكة يسألون حاملات الطيب: "لماذا تطلبن الحي بين الموتى؟ لقد قام. إنه ليس ههنا! تعالين وانظرن المكان حيث كان رقد". تجري حاملات الطيب إلى الرسل حاملات لهم الأخبار السعيدة. ومن خلال الرسل والإنجيل يُبَشَّر بقيامة المسيح في كل العالم اليوم. لم يرَ كل الرسل المسيح القائم مباشرة بأعين روحية. تلميذان مسافران إلى عمواص رأوا المسيح سائراً معه ولم يعرفاه عندما أدفأ قلبيهما الحزينين، ومن ثم انفتحت أعينهما الروحية. مريم المجدلية تحدّثت مع المسيح في الحديقة، لكنها لم تعرفه ولم تضطلع على سر القيامة، إلى أن لمس صوت معلمها المحبوب قلبها وأنار نفسها، التي كانت سابقاً غارقة في الأفكار دنيوياً. التلميذ المحبوب يوحنا، الذي كان قلبه نقياً وغير معطّل بالجبن، هو قبل كل الآخرين تبيّن بعينيه الروحيتين نور المسيح القائم، وبعيني جسده شاهد الرب الظاهر. المسيح، مبدداً ومبعثراً سحابة الخطيئة المظلمة العابسة، وهو شمس البِر، ظهر لامعاً وامضاً ليس في قلوب الرسل ونفوسهم وحدهم، بل ومعهم كل الذين تقرّبوا منه بإيمان ساعين إلى الخلاص. "طوبى للذين لم يروا وآمنوا"، "طوبى للذين رأوني ليس في عيني الجسد بل بعيني القلب". رئيس الشمامسة استفانوس أول الشهداء، رأى بعينيه الروحيتين السماوات مفتوحةوالرب يسوع المسيح عن يمين الله الآب. العظيم في الشهداء جاورجيوس اللابس الظفر رأى المسيح القائم بعيني الإيمان، ومثله كل الشهداء الذين قدّموا حياتهم الأرضية للمسيح لكي يحصلوا منه على الحياة الخالدة. إن مجاهدي الروح ثبّتوا نظرهم الروحي عليه، مزدرين بالملذات الأرضية، فتتوجوا في السماوات بمجد لا يذبل. لكن لا الكتبة ولا الفريسيون، أعداؤه، رأوا المسيح القائم. معذبو الشهداء لم يروه يشدد الشهداء. ومثلهم كل الذين نظرهم الروحي معاب بقلة الإيمان، قلبهم غير ملوّث بالخطايا والشرور، ومشيئتهم موجهة فقط نحو الأرضيات، لن يروا نور مجد المسيح القائم. لننقِ قلوبنا من كل الوحول والوسخ، وأعيينا الروحية سوف تستنير. نور قيامة المسيح سوف يفيض ويملأ نفوسنا، كما تمتلئ كنيسة القيامة بالنور، سنوياً وعبر القرون، في سبت النور، عندما يتسلّم البطريرك الأرثوذكسي، دون سواه، النور. لنضع قلوبنا فوق! فلنتخلَّ عن كل ما هو أرضي، لنفرح في هذا اليوم ولنزدد فرحاً. المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت. المسيح قام |
||||
15 - 08 - 2014, 01:14 PM | رقم المشاركة : ( 5187 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
أَرْبَحَ الْمَسِيحَ كثيرون يخطئون وهم يتصورون ان الخلاص سهل وميسور ، متاح ٌ دائما ًُُ . هو متاح ٌ فعلا ً ، من حق كل من يؤمن ويقبل الى المسيح نادما ً يطلب بايمان ، لكنه ليس سهلا ً رخيصا ً يعقب خطوة التوبة خطوة الاتباع . واتباع المسيح ليس نزهة ً مريحة ، اتّباع المسيح صعب . بينما كان المسيح يسير وسط الجموع جائه شاب وقال : " أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي ". عيناه مشحونتان بالاعجاب ، عامراتان بالحماس ، اراد ان يسير وراء المسيح ويتبعه . والتقت عيناه بعيني المسيح ، رأى فيهما نفسه ، كشف المسيح غايته من رغبته في اتباعه . قال له : " لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ ، وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ " (لوقا 9 : 58 ) ادرك الفتى صعوبة اتّباع المسيح لأن يكون له مكان اقامة وراحة فتراجع . ورأى المسيح بالقرب منه شابا ً آخر يسير ورائه لا يفارقه ، قال له : " اتْبَعْنِي " وارتجف الفتى ، ارتج قلبه ، ما اعظم دعوة المسيح له ، لكنه قال : " ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي " ارتباطات ٌ وقيود ٌ والتزامات ٌ تشده وتجذبه نحو المسيح ونحو العالم ، بين الاتّباع ودفن الموتى . وبوضوح ٍ اعلنه المسيح : ان الموتى يدفنون الموتى . اتّباع المسح مناداة ٌ بملكوت الله الحي . وطلب ثالث أن يأذن له أولا ً أن يودع أهل بيته ، يرتمي على اعناقهم ويبكي . لا يا ولدي ، لا " لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللهِ . " الخلاص متاح ٌ للجميع واتّباع المسيح حق ٌ لكل انسان لكن التلمذة مكلّفة . الله يفتح ذراعيه لك ، الله يدعوك اليه ، الله فتح الباب امامك للخلاص . إن جئت اليه ، إن دعوته للدخول يدخل الى قلبك وحياتك ويتعشى معك وانت معه ، لكن وهذه الـ لكن هامة ٌٌ جدا ً ، لا بد ان تجلس وتحسب النفقة ، هل عندك ما يلزم ؟ هل لديك ما يكفي لبناء برج اتّباع المسيح والتلمذة له قبل أن تبدأ ؟ احسب ( لوقا 14 : 28 ) . " مَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا." ( لوقا 14 : 27 ) حمل الصليب ثمن التلمذة . يقول بولس الرسول : " مَا كَانَ لِي رِبْحًا ، فَهذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي ، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ " ( فيلبي 3 : 7 ، 8 ) إن اردت ان تربح الابدية ألق ِ بالنفاية الزائلة من يدك وتعال ، تعال اليه . |
||||
15 - 08 - 2014, 01:15 PM | رقم المشاركة : ( 5188 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
لا يُحجب شيء عن المسيح للعالم اسلوب للربح والخسارة والأخذ ، كل ما تأخذه ربح ، وكل ما تعطيه خسارة . ولله اسلوب ٌ يختلف تماما ً بخصوص الربح والخسارة ، كل ما تعطيه ربح وما تقدمه افضل . وحتى تحقق في العالم ربحا ً فانت تسعى لتقبض وتحصل وتستولي وتجمع وتكدّس وتخزّن . ولكي تحقق ربحا ًَ في العالم الروحي فانت تعطي وتبذل وتضحي وتتنازل وتترك وتنفق . وفي سبيل الربح والأخذ في العالم ، تأخذ ما ليس حقك وتحصل على ما تريد بكل الوسائل . اذا وقف في طريقك من يهدد حصولك على ما تريد ، تحاربه ، تهاجمه ، وتحطمه وتسحقه . تريد لنفسك الاكثر والاوفر ، تضع نفسك في اول الصف في المقدمة قبل غيرك . في الحياة الروحية تكسب حين تخسر ، تنجح حين تفشل ، تعلو حين تخضع وتتضع " مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا ، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا." ( متى 10 : 39 ) اذا وضعت نفسك رفعك الله ومجدك . قال المسيح : " إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضًا ، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا." ( لوقا 14 : 26 ) وقال له بطرس : " هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ " فاجاب يسوع وقال : " الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ:لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولاً، لأَجْلِي وَلأَجْلِ الإِنْجِيل ِ، إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ الآنَ فِي هذَا الزَّمَانِ ، بُيُوتًا وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ وَأُمَّهَاتٍ وَأَوْلاَدًا وَحُقُولاً، مَعَ اضْطِهَادَاتٍ ، وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ " ( مرقس 10 : 29 ، 30 ) هذه هي اساليب الربح والخسارة الروحية " مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ " ( اعمال الرسل 20 : 35 ) تجارة مختلفة عن تجارة العالم ، ان تعطي ، ان تهب ، ان تقدّم ، ان تضحي وتبذل ، تقديم الكل ، كل شيء ، تسليم الكل ، كل شيء ، لا يغلو شيء ولا يُحجب شيء عن المسيح . ترك الصيادون شباكهم وقواربهم ، تركوا صيد السمك فجعلهم صيادي ناس . اخلى المسيح نفسه ، أخذ صورة عبد ، صار في شبه الناس " وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا ، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ. " ( فيلبي 2 : 7 – 11 ) لا تتاجر تجارة العالم بالاخذ والصراع للحصول على ما لا حق لك فيه ، تاجر تجارة الله ، أعطه قلبك ليملأه ُ ، حياتك لتربحها ، رأسك ليكلّله . |
||||
15 - 08 - 2014, 01:16 PM | رقم المشاركة : ( 5189 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
لاَ تَخَفْ كان بولس الرسول مسافرا ً ضمن عدد من الاسرى والجند على سفينة ٍ في البحر ، وهاجت على السفينة ريح ٌ شديدة ، ولم تكن السفينة قادرة على مقاومة الزوبعة . و لشدة الريح كانت السفينة تُحمل ، ولتخفيف حمولة السفينة ألقوا بالاثاث في البحر . اشتدت العاصفة وكانت تتلاعب بالسفينة التي كانت كقشة ٍ صغيرة في مهب الريح . وفي الليل والظلام يلف البحر والسفينة في غلالته ، والامواج تتلاطم وتعلو ، زمجر الرعد وكأنه ايقظ شياطين اليَم وامتلأت السماء السوداء بالبرق . كانت ألسنته ُ كسيوف نار مشرّعة لتحصد أرواح ركاب السفينة وحمولتها . وبينما الكل خائف ٌ يرتعب ولا يعرف ماذا ستكون نهاية العاصفة ونهايته ، كان بولس يرقد في جوف السفينة في هدوء ٍ وسكون واطمئنان ليس غريبا ً عليه . لم يكن يعرف الخوف ، لم يعرف شكله أو ملامحه ، لم يزره ُ الخوف في صحوه ِ أو نومه ِ . ووقف به في تلك الليلة ِ ملاك الله ، قال له : " لاَ تَخَفْ يَا بُولُسُ. " ، ولم يكن خائفا ً . ثم قال له : " يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَقِفَ أَمَامَ قَيْصَرَ. وَهُوَذَا قَدْ وَهَبَكَ اللهُ جَمِيعَ الْمُسَافِرِينَ مَعَكَ. " ( اعمال الرسل 27 : 24 ) . في قلب المخاطر كان يرى ملاك الله ، وكان يسمع صوت الله ويتقبل اعلاناته . قلبه ُ مضبوط ٌ موجه ٌ على صوت الله ، جهاز استقباله معدّ ٌ لاستقبال الارسال الالهي . إذا كنا ساكنين الملجأ الآمن الحصين ، إذا كنا نعيش حياة ً يمتلكها المسيح ، عنايته ُ تحصرنا ، تحيط بنا ، تحمينا ، تصد الزوابع والعواصف عنا ، تطردها بعيدا ً فلا نشعر بالخوف ، لا يدخل ساحتنا ، لا نعرف الخوف . الخوف ُ غريب ٌ عنا . ثم نتلقى عونه ، يرسل لنا ملائكته التي تخدمنا وتكون طوع أيدينا ما دمنا ننتمي له . ونعرف صوته ، وندرك اعلاناته ، ويكشف لنا مشيئته ، ويعلن لنا قصده . ونصلي كما صلى بولس وسط العاصفة ، وسط البحر الهائج والموج الصاخب ، وسط الظلام والسنة البرق تخطف الابصار ، نصلي وسط هدير الرعد . ويسمع لنا ، يصل صوتنا له ، لا يعوق صلاتنا عواصف أو زلازل ، ثم نسمع نحن ايضا ً صوته ، نفهم رسالته ، نعرف ارادته ، ننفذ مشيئته . وهب الله بولس جميع المسافرين معه . طلب منه ذلك واستجاب له " لاَ تَخَفْ يَا بُولُسُ . …… هُوَذَا قَدْ وَهَبَكَ اللهُ جَمِيعَ الْمُسَافِرِينَ مَعَكَ. " ، لا تخف . بثقة ٍ وتأكيد ٍ قال بولس : " لِذلِكَ سُرُّوا أَيُّهَا الرِّجَالُ، لأَنِّي أُومِنُ بِاللهِ أَنَّهُ يَكُونُ هكَذَا كَمَا قِيلَ لِي. " . لك مكان ٌ آمن ٌ عند الله ، في المسيح الملجأ الحصين . هناك لا خوف ، عنده يظهر لك ملاكه يُعلن لك حمايته . |
||||
15 - 08 - 2014, 01:17 PM | رقم المشاركة : ( 5190 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
هو هناك معك سار شعب الله في البرية يجرّون اقدامهم جرّا ً ، كانت اقدامهم ثقيلة . الرمال ناعمة تغوص فيها الاقدام وتغرق ، تحتاج الى جهد ٍ كبير لاقتلاعها منها ، الشمس تحرق رؤوسهم ، اشعتها سياط ٌ لامعة تلدغ ، تلسع ، تكوي . الجفاف يمزق جوفهم ، يهري امعائهم ، يعتصر حياتهم ، يفترس عصارة اجسامهم . نار ٌ فوقهم ونار ٌ داخلهم . السماء عاقر بلا ماء ، الشمس تمتص كل رجاء . رأوا الموت يدنو منهم . لفحت وجوههم انفاسه العفنة الحارقة . صرخوا ، نادوا . وسمع الله ندائهم ، اسرع لخلاصهم ، فجّر داخل البرية ينابيع ماء ٍ رطبة . ارتموا وسط الماء يرتشفون ، يشربون ، يغتسلون ، يسبحون ، يرتوون ويشبعون . ثم بنى الله لهم خيمة ً يستظلون بها ويقفون بحضرته يتمتعون بوجوده معهم . ولم تعد البرية ، برية . لم تعد الصحراء ، صحراء . وجود الله معهم جعلها جنة ً خضراء . كما وقف الشعب في البرية تحت خيمة الاجتماع ينعمون بحضور الله وتواجده معهم ، فلنقف جميعا ً على شاطئ الابدية ايدينا في أيدي بعض في مسكن معد لنا هناك ، مسكن الله مع الناس ، هو سيسكن معنا ونكون له شعبا ً والله نفسه يكون معنا . في البرية كما في الابدية " اللهُ خَلاَصِي فَأَطْمَئِنُّ وَلاَ أَرْتَعِبُ ، لأَنَّ يَاهَ يَهْوَهَ قُوَّتِي وَتَرْنِيمَتِي وَقَدْ صَارَ لِي خَلاَصًا " ( اشعياء 12 : 2 ) . في البرية اطمأن لا ارتعب ، احتمي بخيمته ، استظل برحمته ، هو قوتي وترنيمتي . في الابدية اطمأن لا ارتعب ، اتمتع بحضرته ، اسكن في نعمته ، هو قوتي وترنيمتي . في البرية كما في الابدية اسمع صوت الله : يا ابني انت معي في كل حين وكل ما لي ، فهو لك . مع الله اينما كنت تتفجر ينابيع الخلاص ، نستقي مياه ينابيع مائه ِ هذه بفرح . الماء الحي حولنا . المسيح يمد يده الينا به ، بالماء الحي الذي يصير ينبوعا ً ينبع الى حياة ابدية . البئر ممتلئة بالماء ، الماء الصافي الرطب ، النقي ، الحي . القي بدلوِك فيه واملئه . الله يملأ كل دلو ٍ يُلقى بالايمان الى بئر الرحمة ، بئر النعمة الفائض بالماء الحي . إن أردت ارتواء ً الق ِ بدلوك ، يمتلئ بالرضى والراحة ، والارتواء والاكتفاء . إن اردت راحة ً من تعب الق ِ بدلوك الى البئر يمتلئ بالراحة والسلام . إن طلبت شفاء ً من مرض الق ِ بدلوك الى بئره ، تمتلئ بالصحة والقوة . إن شئت نصرة ً وغلبة ً على عدو ، ألق ِ بدلوك اليه يُعطك َ الفوز والنجاح . في الصحراء القاحلة ، في الابدية الممتدة هو هناك معك |
||||