![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 51771 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() <h1 dir="rtl" align="center"> يد الله الخلاصية </h1> تشرب يوحنا روح الحق على يديّ أمه التقية، التي أرضعته لبن تعاليمها منذ الطفولة. لكنها لم تكتفِ، بهذا بل اجتهدت في تثقيف عقله بالعلوم والمعارف، فأودعته لدى ليبانيوس يتدرب على البلاغة والمنطق، ولدى أندروغاثيوس Androgathius يدرس الفلسفة(5). <h1 dir="rtl" align="center">نبغ يوحنا نبوغًا فريدًا، وأُعجب به كثيرون، فتنبأ الكل له بمستقبل باهر ومركز سام. وشعر هو بذلك، فأراد إظهار قدراته ومواهبه بممارسته المحاماة نحو عامين، يرفع إلى القضاء دعاوى المظلومين والفقراء ببلاغة وفصاحة، حتى صار يوحنا محط آمال الكثيرين والكثيرات، يتوقعون له منصبًا قضائيًا في وقتٍ قصيرٍ. أما هو فإذ تبسَّمت له الدنيا انجذب إلى ملاهيها ومسارحها وأنديتها، لكن تعاليم أمه بقيت حية في داخله، فكان بين الحين والآخر يتوق لو كرس حياته للفلسفة الحقة، يمارس الإنجيل ويعيش من أجل الأبدية. </h1> سيره القديس يوحنا ذهبي الفم † وعظه للبابا شنودة الثالث † 1994 |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 51772 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() <h1 dir="rtl" align="center"> باسيليوس صديق يوحنا </h1> كانت يد الله تعمل في حياته(6)، فبعث إليه صديقه القديم، رفيق الصبا، باسيليوس(7). فقد توطدت الصداقة بينهما بسبب التشابه من جهة السن والظروف والوطن والميول والدراسات وحتى في الشعور الباطني. كان باسيليوس يسلك بحياة إنجيلية تقوية، مشتاقًا إلى الحياة الرهبانية النسكية. عاش في بيته في حياة الإماتة، مكرسًا نفسه للقراءة والتأمل في الأسفار المقدسة، والممارسات النسكية. أما صديقه يوحنا فلم يكن يستطِع أن يفصل نفسه عن العالم بهذه السهولة. فقد وجد مسرة عظيمة في المسارح والمشاهد في ساحات القضاء. روى عنه يوحنا نفسه قائلًا: [مال الميزان بيننا، فعلَت كفَّته، وهبطت كفَّتي تحت ثقل شهوات هذا العالم والأهواء التي ينغمس فيها الشباب(8).] بدأ باسيليوس يستميله نحو حب الله، فانجذب يوحنا، أخيرًا بتأثير صديقه بدأ يوحنا "يرفع رأسه فوق أمواج العالم المضطربة". واشتاق لو كرس كل حياته للتعبد ودراسة الكتاب المقدس، فترك المحاماة وتلقفه مليتيوس Meletius أسقف إنطاكية الأرثوذكسي، وتلمذه ثلاث سنوات، ثم منحه سرّ العماد حوالي عام 369 أو 370 م، وهو في حوالي الثالثة والعشرين من عمره وكان العماد بداية انطلاقة روحية جادة، إذ يقول عنه بالاديوس Palladius أنه منذ ذلك الحين [لم يحلف قط، ولا افترى على أحد ما، ولا نطق بكلمة باطلة، ولا سب ولا حتى سمح بأي مزاح طريف(9).] <h1 dir="rtl" align="center"> </h1> سيره القديس يوحنا ذهبي الفم † وعظه للبابا شنودة الثالث † 1994 |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 51773 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() تلمذته لمليتيوس Meletias يقول بالاديوس(10) أن مليتيوس Meletias رئيس كنيسة إنطاكية قد لاحظ على هذا الشاب بهاء طلعته، انجذب إلى جمال شخصيته، وسمح له بمرافقته على الدوام، مدركًا بعين النبوة ما يكون عليه، وإذ عمده أقامه قارئًا أو أغنسطسًا Anagnostes عام 370 م. هكذا استطاع صديقه باسيليوس لا أن ينتشله من أمواج البحر الجائشة، إنما كان يسنده على الدوام، مشتاقًا أن يعيش معه على الدوام، مكرسين قلبيهما للعبادة، فقد حثه على أن يعيشا معًا في الحياة الرهبانية. روى لنا الذهبي الفم بنفسه أحداث هذه الفترة، قائلًا(11): [لم يكن يحتمل مفارقتي لحظة واحدة. كان يحثني على الدوام أن نترك بيتنا ونسكن معًا. وإذ أقنعني بذلك صار الأمر تحت التنفيذ، لكن نحيب أمي المستمر عاقني عن تلبية طلبه، أو بالأحرى أن أنعم بهذه العطية على يديه. لقد شعرت أمي أني أفكر في هذه الخطوة، فدخلت بي حجرتها الخاصة، وجلست بجواري على السرير الذي أنجبتني عليه، وسكبت سيوَلًا من الدموع، ثم نطقت بكلمات تستحق الرثاء أكثر من دموعها، ففي نبرات الحزن قالت لي: "يا بني، لم تكن إرادة السماء أن أنتفع بقوة أبيك طويلًا، فقد ولى موته الآلام التي اجتزتها من ولادتك، تاركًا إياك يتيمًا وأنا أرملة قبل الأوان، أواجه كل متاعب الترمل التي لا يدركها بحق غير اللواتي اختبرنها. فإن الكلام يعجز عن وصف العواصف والزوابع التي تجتاح صبية تركت بيت والديها منذ عهد قريب، وإذ هي عديمة الحنكة في تصريف الأمور، يصيبها فجأة حزن لا يطاق، وتجد نفسها ملتزمة أن تتحمل أعباء اهتمامات أثقل بكثير مما يحتمله سنها وجنسها. فعليها أن تصلح كسل الخدام وتحذر خُبثهم، وتصد الفخاخ التي ينصبها لها الأقرباء، وتتحمل بشجاعة إهانات جباة الضرائب. إذا خلف الراحل طفلًا، ولو كان بنتًا، فإن الأم تعتني بها بكل العناية، غير أن النفقات والمخاوف تكون أقل وطأة. أما الابن (الولد) فيسبب لها ربوات من المخاوف مع هموم يومية كثيرة، بغض النظر عن النفقات الباهظة التي يتحتم على الأم بذلها، إذا أرادت أن تهذبه بما يليق بالأحرار. ومع ذلك فإن شيئًا من هذه الأمور لم يقدر أن يدفعني إلى زواج آخر، أن أدخل بزوج آخر بيت أبيك. فبقيت وسط الإعصار في صميم العاصفة، لا أحاول الخروج من حالة الترمل المتقدة كفرن صاهر للحديد. وقد ساعدني على ذلك -في المقام الأول- النعمة النابعة من فوق. ولم تكن تعزيتي وسط هذه التجارب المرعبة قليلة، إذ أنظر دومًا وجهك، فأرى فيك صورة الراحل، حية وصادقة تمامًا. إذ كنت بعد رضيعًا لم تتعلم الكلام، في سن يلهى فيه أصغر الأولاد والديهم، كنت أنت سرّ تعزيتي! أضف إلى ذلك، أنك لا تقدر أن تلومني أني احتملت ترملي بشجاعة، ولا أنقصت ميراثك. الأمر الذي يحدث لكثيرين عندما يتيتمون. أما أنا فقد حافظت على ميراثك كاملًا. لم أحذف منه شيئًا كنفقات لازمة لتهذيبك لتكون في مركزٍ لائقٍ، فقد دفعتها من مالي الخاص، من مهر زواجي! لست أقول هذا لتوبيخك، إنما أطلب منك مقابلة إحساني لك بأمر واحد: لا تدفعني للترمل ثانية! <h1 dir="rtl" align="center">لا تحيي فيَّ الحزن الذي ألقيته لكي أستريح. انتظر موتي، لقد بقي لي قليل ثم أرحل. حقًا يتطلع الصبي إلى عمر طويل، أما نحن الذين كبرنا، فليس لنا إلا أن نترقب الموت. عندما تواري جسدي التراب، لا يوجد ما يعوقك. لكني مادمت حية، اقبل الحياة معي. أتوسل إليك ألا تعصى الله باطلًا، ولا تسيء إليَّ بغير سبب، فإني لم أخطئ إليك في شيءٍ وسط هذه الشدائد الثقيلة. لو كنت تشتكي علي أني ألزمك بالارتباك في اهتمامات عالمية، أو أجبرك على العمل، فلا تلتزم حتى بقوانين الطبيعة، بل اهرب مني كما من عدو! لكن، إن كنت على العكس، أصنع كل شيءٍ من أجل راحتك خلال رحلة هذه الحياة، فاسمح على الأقل بهذا الرباط إن لم يوجد شيء آخر يلزمك البقاء معي. حقًا تستطيع أن تقول أن ربوات الناس يحبونك، لكن ليس من يقدم لك الراحة هكذا في حرية مثلي! ليس من يغير على خيرك مثلي!" بهذه الكلمات وأكثر منها نطقت أمي، فرويت هذا للشاب النبيل باسيليوس.] في طاعة أذعن يوحنا لتوسلات أمه الأرملة التقية ودموعها، إذ رأى من الحكمة أن يخضع لها ويطيعها، فقد تركته حرًا يتفرغ للعبادة والتأمل والدراسة، ممارسًا حياته النسكية الإنجيلية بغير عائقٍ، فإن كانت ظروفه لم تسمح له بالدخول في الحياة الرهبانية الديرية، لكن الرهبنة ليست مظهرًا، إنما هي في جوهرها حياة داخلية، يستطيع يوحنا أن يمارسها في العالم حتى يشاء الله له أن ينطلق في الوقت المناسب! للحال حول يوحنا بيت أمه إلى شبه قلاية، لا بالاسم أو الشكل، لكن في انعزال عن الاهتمامات الزمنية، ليمارس "وحدته مع الله" ودراسته في الكتاب المقدس. عاش يوحنا ناسكًا، يحب الله، ويهيم في التسبيح له، يكثر الصلاة ويقلل الطعام، يفترش الأرض وينام القليل، ممارسًا السكون في بيته ليرتفع قلبه نحو السماء، مختبرًا "الحديث مع الله". لعله في هذه الفترة التقى بالأب ثيودور الذي كان رئيسًا لجماعة رهبانية بجوار إنطاكية(12) ومعلمًا لمدرسة إنطاكية، يدافع عن قانون الإيمان النيقوي ضد الوثنيين والهراطقة، مقتبسًا منه منهجه في تفسير الكتاب المقدس(13)، والذي انضم لجماعته فيما بعد. </h1> سيره القديس يوحنا ذهبي الفم † وعظه للبابا شنودة الثالث † 1994 |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 51774 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() هروب من الأسقفية بلا شك كان يوحنا على اتصال دائم على الأقل بإحدى الجماعات الرهبانية المقيمة بجوار إنطاكية، ينقل عنها الحياة الرهبانية. ليختبرها في بيته، حيث بدأت رائحة المسيح الذكية تفوح في قلبه بقوةٍ، وانطلقت في بيته، فانجذب الكثيرون إليه، أما هو فكان حريصًا على حياة "الوحدة" وإذ خلا كرسيان في سوريا اتجهت الأنظار حالًا نحو يوحنا وصديقه باسيليوس ليتسلما العمل الرعوي. <h1 dir="rtl" align="center">قال يوحنا: [شاع بغتة خبر أزعجنا كلينا، أنا وباسيليوس، وكان حديث القوم أن نرقى إلى المقام الأسقفي. حين وقفت على هذا النبأ، أخذ مني الخوف والقلق كل مأخذ. كنت أخشى أن ألزم على قبول السيامة للأسقفية، وبقيت مضطربًا، وسائلًا ذاتي: لأي الأسباب خطر مثل ذلك الخاطر في شأني؟(14)] كان ذلك وهو بعد شاب في الخامسة والعشرين من عمره، حين أخذ منه الخوف كل مأخذ، لماذا؟ لقد امتاز يوحنا بوضوحه وصراحته مع نفسه ومع من هم حوله، لا يعرف التردد، لا في داخله ولا في مظهره، إذن فلماذا الخوف والقلق؟ أمور كثيرة جالت في فكره، فقد كان يوحنا يتهيأ داخليًا -من يوم إلى آخر- للانطلاق نحو الحياة الديرية متى سمح له الله بذلك، كل ما كان يربطه بالمدينة أُمه الأرملة التقية الوحيدة! وفي نفس الوقت كانت الكنيسة بكل جراحاتها تملأ قلبه، وتمتص كل مشاعره، كانت نفسه مُرّة في داخله من أجل فساد حياة المسيحيين وإغراءات اليهود وألاعيبهم وسموم الهراطقة، هذا كله بجانب حياة البذخ والترف التي تعيشها إنطاكية بأسرها، كان قلبه يدمي كل يومٍ، مشتهيًا أن يرى خلاص الجميع! هذان الاتجاهان -ميله الديري وحبه لخلاص الناس- لم يخلقا في داخله يومًا ما صراعًا: الدير أم الأسقفية؟ أو بمعنى أصح: الرهبنة أم الخدمة؟ فهو أن دخل الدير يتهلل بالحياة الملائكية، وإن خدم يفرحٍ بالبذل كل يوم من أجل الخراف الضالة، لا يشعر بصراعٍ في محبته للطريقين، فلماذا القلق؟ لو أن يوحنا قد شعر بقدرته على تسلم العمل الأسقفي لما هرب، وإن هرب فهو لا يحمل تمنعًا ظاهريًا لعلة أو أخرى، يود الهروب ليس تفضيلًا لحياة على الأخرى، ولا هربًا من المسئولية، لكن في إحساس داخلي بضعفه عن تسلم مثل هذا العمل الرعوي السامي. وفي نفس الوقت أن هرب تبعه صديقه باسيليوس، فيكون قد أفقد الكنيسة راعيًا جليلًا، يشتهي أن يراه عاملًا في كرم الرب! أمور كثيرة شغلت قلب يوحنا وفكره، لكنه إذ التقى بصديقه باسيليوس، لم يكشف له شيئًا، ليس خبثًا لكن من أجل خير الكنيسة. وربما تحادثا معًا في "العمل الأسقفي وبركة البحث عن الخراف الضالة" في صدق وأمانة. حسب باسيليوس في هذا الحديث موافقة ضمنية على قبول السيامة. خاصة أنه يعلم أكثر من غيره ما يكنه قلب يوحنا صديقه من شوقٍ جادٍ نحو خدمة النفوس. رضخ باسيليوس للسيامة، متوقعًا بفرحٍ سيامة صديقه يوحنا، ليعملا معًا بروح واحد، يسند أحدهما الآخر. لكن جاء دور يوحنا فاختفى في الجبال الأمر الذي أحزن قلب باسيليوس، فاضطر أن يكتب إليه يؤنبه على فعله هذا وخداعه له، أو ما يسميه خيانة العهد. لم يرد يوحنا أن يترك صديقه متألمًا، فكتب إليه فيما بعد مقالًا غاية في الإبداع، يكشف له عن حقيقة موقفه بروح صريح واضح، تواضع مع محبة وعلم غزير، ألا وهو مقاله "عن الكهنوت De Sacredotio" المؤلف الذي يغذي أجيالًا من الكهنة والخدام. كتب في بلاغة بروحانية صادقة، فبكل تواضع يروي في غير خجل أن توقفه عن دخول "الدير" سرَّه دموع أمه، ثم عاد يتحدث عن العمل الكهنوتي كعملٍ إلهيٍ فائقٍ، هو عمل السيد المسيح نفسه، العامل في كهنته. وفي غير خجلٍ يعلن شوقه للخدمة بل وشهوته لها، فهو لم يهرب إلى الجبال هربًا من الأسقفية، لكنه مع شوقه لها يشعر بعدم أهليته! لقد عرف أن الأسقفية بذل وألم، لكنها تحتاج إلى مؤهلات روحية عالية وقدرات! لقد خط هذا الشاب مقاله في ستة كتب! وكأنه كان يكتب دستورًا يلتزم به في حياته الكهنوتية، أمام الله وأمام نفسه. </h1> سيره القديس يوحنا ذهبي الفم † وعظه للبابا شنودة الثالث † 1994 |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 51775 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() <h1 dir="rtl" align="center"> <h1 dir="rtl" align="center">رهبانيته </h1></h1> هدَّأت عاصفة رسامته أسقفًا فعاد إلى الظهور في إنطاكية، لكن سرعان ما تنيحت والدته فخلا له السبيل إلى الانطلاق نحو الحياة الديرية بجوار إنطاكية، يسعد بأربع سنوات من أعذب أيامه، يقضيها في التأمل والصلاة والدراسة تحت قيادة شيخ مختبر يدعى ديؤدور(1)، والذي يعتبر أحد مؤسسي إنطاكية اللاهوتية، وقد رسم أسقفًا على طرسوس فيما بعد. وكان يزامله صديقاه منذ الدراسة عند ليبانيوس وهما ثيؤدور (2) الذي صار أسقفًا على موبسويست (ما بين النهرين) Mopsuestia ومكسيموس الذي صار أسقفًا على سيليكية. على أي الحالات، فهؤلاء في مجموعهم لا يمثلون مجرد مجموعة نسكية، بل وأيضًا جماعة دراسية، وضعوا على عاتقهم تفسير الكتاب المقدس بالمنهج الأنطاكي، إلا وهو المنهج اللغوي أو الحرفي، التاريخي. يقوم هذا المنهج على التفسير البسيط حسبما تشرحه اللغة، لذا دعي "المنهج اللغوي أو الحرفي". كما قام على تأكيد الحقائق التاريخية، كما وردت في الكتاب المقدس كحقائقٍ واقعيةٍ وليست أعمالًا مجازية رمزية، لذا سمي أيضًا بالمنهج التاريخي. أعماله الكتابية في الدير 1. إذ انطلق يوحنا إلى الدير تهللت نفسه فيه، أحس أنه في السماء عينها، وقد بقيت أحاسيسه هذه تلازمه كل أيام خدمته، إذ نجده تارة يقول: "بالنسبة للقديس اللجوء إلى الدير هو هروب من الأرض إلى السماء!(3)" وأخرى يصف الراهب في قلايته: [كأنما يسكن عالمًا آخر، هو في السماء بعينها. لا يتحدث إلا في السماويات، عن حضن إبراهيم وأكاليل القديسين والطغمات المحيطة بالمسيح(4).] على أي الحالات فإنه في فرحة قلبه أراد أن يجذب بعض أصدقائه من إنطاكية، خاصة ثيؤدور، للحياة الرهبانية، فسجل لنا مقاله الأول: "مقارنة بين الملك والراهب(5) Comparatio regis et monachi". جاء هذا العمل يكشف ليس فقط عن حبه للحياة الرهبانية، وإنما عن منهجه المسيحي إلا وهو إدراك المؤمن، راهبًا كان أو كاهنًا أو من الشعب، مركزه الجديد كابن لله وإمكانياته في المسيح يسوع. يرى البعض أن هذا العمل جاء مشابهًا لعمل أفلاطون في الكتاب التاسع من عمله "عن الدولة On the State"، حيث يقدم مقارنة بين فيلسوف وطاغية". أ. أيهما يستحق لقب ملك؟ يبدأ الكاتب بالقول بأن غالبية البشر يُعجبون بالمظاهر الخارجية أكثر مما هو بالحقيقة صالح. لذلك فإنهم يحسبون السعادة الأرضية العظمى هي أن يصير الإنسان ملكًا. أما الراهب الذي يسلك حياة الوحدة ويخدم الله وحده فلا يبالي به أحد. لذا فإننا نقارن بين حياة ملك بفلسفة الحياة الرهبانية. يحكم الملك مدنًا وبلادًا وشعوبًا وجيوشًا. أما الراهب، فيسيطر على الغضب والحسد والطمع والشهوات الدنيئة وكل جمهرة الأهواء. إنه بالحق يستحق بالأكثر أن يُدعى ملكًا أكثر من الذي يجلس في الأرجوان ويكلل بالعرش الذهبي، فإنه بالحق متحرر داخليًا. من جانب آخر من يحكم البشر بينما يحكمه الغضب والطمع والشهوات الدنيئة، يقوم بدورٍ سخيفٍ، ونادرًا ما يستطيع أن يكون حاكمًا صالحًا. ب. معارك الملك والراهب: يحارب الراهب الشياطين ويغلبهم بالعون الإلهي، يحول مدنًا وقرى بأكملها من الهراطقة، ويتوج بواسطة المسيح. يحارب الملك البرابرة، فقط بهدف كسب أراضٍ وكنوزٍ أو لإشباع مطامعه أو عطشه نحو السلطة. ت. العمل اليومي للملك والراهب: أيضًا حياتهما اليومية مختلفة جوهريًا. يرافق الراهب الأنبياء والقديس بولس؛ من موسى إلى إشعياء، ومنهم إلى يوحنا، وهكذا. ويرافق الملك فقط القادة وحاملي السهام، الذين غالبًا ما يستسلمون للخمر والشهوة، ويقضون أغلب اليوم في السُكر. أيضًا يظهر الليل اختلافًا بينهما ليس بقليلٍ. يقدم الراهب صلوات وعبادة لله، يسبق تغريد الطيور (في الصباح المبكر) ويجتمع مع الملائكة، ويحفظ نفسه في حضرة الله، ويحيا كما في السماء عينها. أما الملك الذي يأمر الشعب والجيوش، ويحكم مدنًا كثيرة ومحيطات متسعة، فينام على سريره، ويغط في النوم حتى يحل نور النهار، لأنه يقيم ولائم ملوكية، بينما يحيا الراهب بنسكٍ، فلا يغرق في نومٍ عميقٍ. أيضًا يجد الملك في الخاضعين له متاعب، بسبب إصداره أوامر بإيواء جنود غير مؤدبين في بيوت البعض، هؤلاء غالبًا ما يسلبون وينهبون ويطلبون أمورًا ليست لهم بكونها من حقهم. ث. الاهتمام بكل الفئات: ينشغل الملك بالعظماء، بعد ذلك بمحصلي الضرائب، الذين لا يقدرون الشيخوخة، ولا الترمل، ولا أي شيء آخر. هؤلاء لا يعاني منهم الأغنياء، أو ربما يعانون القليل، إنما يضغطون على الفقراء، ويلتزم الفلاح بتقديم ما تنتجه له الأرض لهم. أما بالنسبة للراهب فالأمر مختلف. إنه يعيش في بساطةٍ ووادعةٍ، وينصف بين الغني والفقير خلال الصدقة، فيجعل الغني تقل إمكانياته (يفتقر) والفقير تزداد. فيريح الواحد من خطاياه (بتقديم الصدقة)، والآخر من عوزه. ج. من هو سخي في العطاء؟ أيضًا الهدايا (الإحسانات) الفردية مختلفة جدًا. يقدم الملك ذهبًا فقط، ويعطي الراهب نعمة الله. فإن كان أحد يعاني من روح شرير، فلا يذهب للملك، بل إلى راهب قديس، الذي يُخرج الشيطان بصلواته التقوية كما بسيفٍ. حقًا، ليس فقط نحن، بل وحتى الملوك أنفسهم يدعون مثل هؤلاء من رجال الله لمعاونتهم في ضيقتهم. هكذا طلب أخاب شفاعة إيليا، وحزقيا شفاعة إشعياء، وآخرون جاءوا إلى أليشع لأجل المعونة. ح. يوم الانكسار: علاوة على ذلك، إن كان راهب في جهاده من أجل الفضيلة، يسقط من النعمة ويفقد ضبطه لنفسه، فإن الصلوات والدموع والندامة ومعاونته في خدمة الفقراء، تسنده ليسترد بسرعة سيادته على نفسه. أما الملك فإن فقد سلطانه على مملكته، يلزمه أن يعتمد على عونٍ خارجيٍ، يحتاج إلى تحالفاتٍ وجنودٍ وفرسانٍ وخيولٍ وأموالٍ، ويتعرض لمخاطر كثيرة. خ. عند الموت وبعده: عندما يأتي وقت الوفاة، فالموت مخيف للملك، أما الراهب فلا يقلق منه نهائيًا، لأنه يجحد الممالك من مدة طويلة، والملذات والحياة المترفة. إن عانى أحدهما موتًا عنيفًا، يموت الراهب كشهيدٍ ويذهب إلى السماء، وأما الملك فيستسلم لسيف منافسه بالحقيقة. يلزمه أن يقضي حياته كلها في اضطرابٍ وقلقٍ، ويحمي نفسه بواسطة حارس. والراهب على العكس، يحمي مدنًا بصلواته كما بسورٍ، ولا يحتاج أن يخشى شيئًا ما على نفسه. عندما يأتي وقت موته كثيرون يصلون لكي يقتدي به آخرون على مثاله. بعد الموت طريقاهما منفصلان أيضًا. الراهب الصالح يدخل إلى مجد الرب وبهائه، هذا الذي كان قائدًا ومعلمًا له في طريق الفضيلة النافع. الملك، إن كان صالحًا ينال كرامة أقل درجة وبركة، فإن الملك الصالح لا يكون بأية وسيلة مثل الراهب، الذي يعيش لخدمة الله فوق كل شيء. أما إذا كان الملك شريرًا، وصنع أعمالًا شريرة، فمن يقدر أن ينطق بعذابات الجحيم التي تسقط عليه؟ د. لا تحسد ملكًا، وتمثل بالراهب الصالح: إذن إن رأيت غنيًا يسير في تشامخ، لا تحسده. لكن إن رأيت راهبًا متواضعًا ولطيفًا ووديعًا، اذهب وتمثل بحكمته. هذا هو الخير الوحيد والبركة التي تقتنيها وتبقى قيمتها دائمة، خلال عناية يسوع المسيح المحِّبة، الذي له الكرامة والسلطان إلى كل الأبد. آمين. [لا تُفتن ألبابنا عند رؤيتنا ملكًا ينعم في مجده، فذلك عز زائل، بل لنجتهد بالاقتداء بالراهب الوديع المتواضع الفقير لنبلغ إلى يوم تتويجه الملكي.(6)] في هذه المقارنة يبعث في أهل إنطاكية الانطلاق نحو الحياة الديرية، إذ كان الشباب يتنافسون على مراكز القيادة والحكم والإدارة. يعلق A. Moulard(7) على كتابه هذا أن الذهبي الفم كتبه بعد شهور من دخوله الدير، إذ كان يرى كل شيء ورودًا، وأن صح لنا القول إنه في "شهر العسل!" على أي الأحوال، بقي الذهبي الفم أمينًا في حبه للرهبنة رغم تفضيله لخدمة النفوس والكرازة. 2. في عام 373م كان غضب فالنز قد جاش على الأرثوذكس، فألزم نساكهم ورهبانهم على الخدمة العسكرية والمدنية، واعتبر بعض المسيحيين في النسك ضربًا من الجنون، وقامت حملات عنيفة ضد الرهبنة مما اضطر يوحنا أن يخط كتبًا ثلاثة تحت اسم(8) "ضد أعداء الرهبنة" Adverssus oppugnatores vitae monastiac يهاجم أعداء الرهبنة ويفند حججهم. يرى البعض أن المناسبة الحقيقية لوضع هذا العمل هو أن النساك والرهبان الذين كانوا بجوار أنطاكية، كانوا يتعهدون بتعليم أبناء المدينة وتهذيبهم. وهذه كانت قاعدة عامة في بعض المناطق، فنسمع عن الأنبا شنودة رئيس المتوحدين أنه كان يذهب إلى الدير الأبيض في سوهاج بصعيد مصر، وهو في التاسعة من عمره. كان من ثمر ذلك أن كثير من الشباب من إنطاكية ارتبطوا بالرهبان، ولم يرغبوا في العودة إلى عائلاتهم، الأمر الذي سبب ضيقًا شديدًا. وأساء البعض معاملة الرهبان في شوارع أنطاكية وأسواقها، خاصة المناطق التي كان بها وثنيون. لذلك أراد القديس يوحنا أن يدافع عنهم، موضحًا أنه ليس من معلمين ومرشدين أفضل من المتوحدين والرهبان، لأبناء المسيحيين والوثنيين أيضًا(9). بدأ عمله بإيضاح أن مضطهدي رجال الله يهلكون كما ورد في الكتاب المقدس،يشبه القديس الحياة العادية في المدينة أشبه ببيتٍ مشتعلٍ بالنار، وأن العالم محتاج إلى الرهبان لممارسة الحياة المتعقلة، وأن يكون للرهبان عملهم النافع في المدينة. يفترض القديس يوحنا في الكتاب الثاني أن ابنًا متميزًا وغنيًا لوالدٍ وثنيٍ ذهب إلى الجبال لينضم إلى الحياة الرهبانية. بالمنطق ماذا يقول لأبيه؟ إنه صار غنيًا بتحرره من كل الضروريات. هذا ويودع أبوه فقط أمواله، أما الراهب فيودع الغنى الذي للمسيحيين الصالحين. يليق بأبيه إلا يخجل من ملبس الراهب البسيط، فإنه في عيني الشعب المسيحي أثمن من الثياب الملوكية الفاخرة. وأيضًا أثر الراهب الصالح على الشعب أعظم من أثر الملك. لا يستطيع أحد أن يحرمه من شيءٍ، لأنه لا يملك شيئًا، ويعفو عن الذين يسيئون إليه بفرحٍ. وإذ هو يجحد العالم، يستطيع أن يعزي الحزانى، وفي وقت الاضطهاد يصير مثلًا للبطولة أمام الآخرين. أما عن علاقته بأبيه، فإن مثل هذا الابن يكون أكثر لطفًا عن الغير. إنه يقتني عظمة حقيقية وفرحًا صادقًا لا يزول، لأنه روحي. لهذا يليق بالأب إلا يحزن من أجل ما يليق به أن يهنئ ابنه. في الأزمنة القديمة كان قدماء اليونانيين (الوثنيين) يفكرون هكذا. إنهم يعرفون أن الإنسان الصالح سعيد والشرير بائس. لهذا انتظر قليلًا، فستفكر كما أفكر أنا، وربما أنت نفسك تسلك الطريق الذي سلكه ابنك. أخيرًا في الكتاب الثالث يأتي دور الأب المسيحي المؤمن. يقول له الذهبي الفم إنه ملتزم أولًا أن يربي ابنه حسنًا، أو يقوم آخر بتعليمه. وألا يكون الإنسان أشر من ابن القاتل. للأسف فإن مطامع أغلب الآباء تتجه فقط نحو الغنى والمراكز الممتازة وذات السلطة، فهم يفسدون نفوس أبنائهم من صبوتهم المبكرة بالطمع والطموح (الخاطئ)، ويسلكون بمبادئ ضد مبادئ المسيح. كيف يمكن للطفل أن يخلص نفسه؟ إن كان أحد يفكر في جريمة اللواطة، فإن الشخص يدهش إن هذه المدينة أنها لم تتدمر بعد بالنار والكبريت مثل سدوم وعمورة. ينبع كل هذا الشر عن حقيقة أن الشخص يستهزئ هكذا بفلسفة الحياة الرهبانية. ومع هذا فإن الرهبان أكثر سعادة من أهل العالم الذين يعيشون في الحسيات والمبالغة. إنه بكل دقةٍ، هؤلاء يجلبون كل ضررٍ على أنفسهم، أما الآخرون منهم كمنارة في بحر عاصفٍ، يُظهرون للذين هم مهددين طريق الميناء الهادئ. النوع الأول هم وباء للأرض كلها. الرهبان -على العكس- يسلكون حياة الملائكة المملوءة سلامًا وهدوءًا وانسجامًا وحبًا وسعادة أصيلة. لهذا ليس شيء أفضل من أن يعهد بأبنائه لمثل هؤلاء الناس، مبكرًا ما أمكن. إن كانوا لا يطلبون تعليمًا هكذا، فإنهم يطلبون فضيلة أعظم، وهذه أثمن بكثير. هكذا يفكر الفلاسفة الوثنيون، كما يعلم الرسل بهذا: أولًا الفضيلة وبعد ذلك الثقافة؛ أولًا الحكمة وبعد ذلك المعرفة. فإن ارتبط الاثنان معًا يكون الأمر الأول أفضل. كل من الرهبان وأهل العالم على السواء يرتبطون بالفضيلة، لكن الذين يعيشون حياة دنيوية يسقطون من الفضيلة بسهولة عن الرهبان. قد تقول إنك تريد أن ترى أحفادك. لكن كيف تعرف أن أبناءك سيتزوجون؟ وكم من آباء كثيرين ليس لهم خبرة سوى الحزن والمرارة من أبنائهم! ويفسد العث ممتلكاتك وأموالك، بينما غنى الحياة الرهبانية لن يفسد. لكنك تقول يمكنه أن يتزوج أولًا، وبعد ذلك يبدأ الحياة الرهبانية في شيخوخته. وكأن الشباب ليس بذي قيمة، هذا الذي يحتاج إلى حفظٍ لفضيلتهم، وأيضًا أنت لا تعرف إن كان ابنك يعيش حتى الشيخوخة. أخيرًا فإن المتزوج لا يقدر أن يفصل نفسه بسهولة عن زوجته وعائلته. هكذا اترك ابنك في سلامٍ في مدرسة الرهبان حتى إن قام فيها لمدة عشر أو عشرين عامًا. فإنه سيكون بالتأكيد أكثر قوة ونضوجًا في أخلاقياته، وفي علاقته بك وبالمجتمع البشري. حقًا لو أن كل الأطفال تعلموا هكذا، فالعالم يتحول حالًا إلى فردوس. الناس في المدن يصيرون مثل الملائكة. وإن لم يصير ابنك قديسًا عظيمًا فليكن قديسًا صغيرًا. إنما يلزمه أن يبدأ السباق من أجل مكافأة النصرة وهو بعد صغير، عوض أن يبدأ الصمود وهو شيخ. لقد تكرس صموئيل لله منذ صبوته، وإبراهيم كان مستعدًا أن يذبح ابنه الشاب لله. قدموا إذن خدامًا لله متأهلين، ولا تضعوا عقبات في طريق أبنائكم، لئلا يسلكوا هذه الفلسفة السامية بغير رضاكم. إنكم تجلبون على أنفسكم عقوبة، وتمدحون نصيحتي بعد أن تصير بلا نفع لكم. في هذه الكتب أعلن لنا بهاء الرهبنة وجمال حياتها النسكية، كما قدم لنا صورة مشرقة لهذه الحياة كما كانوا يعيشونها في ذلك الحين. فالرهبان يسكنون القلالي المنعزلة، يعيشون بنظام الشركة تحت قيادة أب abbot. كانوا يلبسون ثيابًا من وبر الإبل أو شعر الماعز، فوق "تونية" من التيل. يستيقظون قبل الشروق، ويبدءون يومهم بالتسبيح والصلوات المشتركة تحت قيادة الأب. عندئذ يذهبون إلى أعمالهم الموزعة عليهم من قراءة ونسخ وأعمال يدوية تقدم أثمانها للفقراء. أما طعامهم، فمن الخبز والماء وقليل من بعض الخضروات، ينامون على مرقد من القش، ولا يحتاجون إلى شيء، متحررين من كل قلقٍ وهم لا يعرفون كلمتي "لي ولك"، اللتين تسببان الكثير من المشاكل في العالم. إن رحل أحدهم لا ينوحون عليه، بل يقدمون شكرًا لله. يحملونه إلى القبر وسط تسابيح الحمد، إذ هو لم يمت بل صار كاملًا. لقد سمح له أن يرى وجه المسيح. في اختصار -بالنسبة لهم- الحياة هي المسيح والموت ربح!(10) لقد بقيت هذه الصورة حية في داخله حتى بعد انغماسه في الخدمة، فنراه يحدث شعبه عن الحياة الديرية، قائلًا: [كأنما نجلس على سرير من العشب كما كان السيد المسيح يجلس على البَرّ! كانت الغالبية منهم يتناولون وجبتهم في الهواء الطلق، السماء لهم سقف، والقمر سراج، ليسوا في حاجة إلى زيت ولا إلى خدم. كأنما القمر يتلألأ بجلاله لهم وحدهم!(11)] مرة أخرى يرفع أنظارهم إلى برية مصر، مسجلًا لنا أحاسيسه الرهبانية الصادقة، قائلًا: [هلموا إلى برية مصر لتروها أفضل من كل فردوس! ربوات الطغمات الملائكية في شكل بشري، وشعوب من الشهداء، وجماعات من البتوليين... لقد تهدم طغيان الشيطان وأشرق ملكوت المسيح ببهائه! مصر هذه أم الشعراء والحكماء والسحرة، حصنت نفسها بالصليب! لم تفعل هذه الأمور الصالحة (الحياة مع المسيح) في المدن فحسب بل وفي البراري أكثر من المدن. أينما حللت في هذا البلد تشاهد معسكر المسيح، القطيع الملوكي، ودولة القوات العلوية! لا نجد هذا بين الرجال فحسب بل وبين النساء أيضًا... فقد مارسن طلب الحكمة في صورة لا تقل عن الرجال، لا مثل قضاة اليونانيين وفلاسفتهم الذين يتسلحون بأتراس وركوب الخيل، إنما يخضن معارك أشد ضراوة! السماء بكل خوارس كواكبها ليست في بهاء برية مصر الممتلئة من قلالي النساك(12).] 3. تحدث الذهبي الفم في المقالين السابقين عن مجد الرهبنة في صورة عامة، لكن هناك حالتين فرديتين كادتا أن تحطما أعمال الرهبنة، هما حالتا ثيؤدور وستاجير. لقد انجرف صديقه ثيؤدور وراء شهوته فأُعجب بامرأة جميلة تدعى Hermoine. فترك طريق الرهبنة وأراد الزواج منها، لكن يوحنا أسرع فكتب مقالين لصديقه "Paraeneses ad Theodorum lapsum" يدعوه فيهما للتوبة والعودة إلى الحياة الرهبانية. لقد شعر ثيؤدور باليأس، كيف وهو راهب يهوى بشهوته إلى الزنا، وينخدع في الشهوات، وهنا يبرز دور يوحنا كطبيب ماهر يعرف كيف يعالج النفس. فلا يوبخه على سقطته ولا يدخل به في أمجاد الرهبنة في تأملات عقلية عالية، ولا يؤنبه كثيرًا على كسره نذر الرهبنة، لكن بروح الحب والترفق يسند ضعفه ويكشف له محبة الله وحنانه، لقد برز يوحنا في معالجته للنفوس المحطمة، يدفعها نحو القيام من السقوط في رجاء. وكانت خلاصة حديثه [من يخطئ يكون قد سقط في ضعف بشري، أما من يستمر في الخطأ فيبطل إنسانيته ليصير شيطانًا.] أثمرت الرسالتان، وتاب ثيؤدور حيث عاد إلى الرهبنة، الأمر الذي وجه الأنظار إلى شخصية يوحنا كخادم للنفوس. 4. تعزية ستاجيريوس Ad Stagirium a daemone vexatum: كتب مقاله هذا في ثلاثة كتب موجهة لراهب شاب، يشجعه في تجربة قاسية حلت به. لقد انهمك ستاجير في ممارسة نسكية عنيفة، أصيب بنوبة صرع، وحَكم عليه البعض أن به روحًا نجسًا. نقل الراهب إلى أنطاكية للعلاج، فتضاعف الهجوم على الرهبنة، وأحس الراهب كأن الله لا يعتني به، فأنكر عناية الله وفكر في الانتحار، فأسرع إليه يوحنا يكتب له يعزيه في شدته. نحو الوحدة عاش يوحنا أربع سنوات في الدير يمارس حياة الشركة، يحسبها أجمل فترات عمره. فقد أحب الرهبنة حبًا لا يُوصف، وتغنى بتعزيتها، وامتلأ قلبه خلالها بحب السماويات، وقد حسب أن العالم قد نسيه كما نسى هو العالم. لكن كتاباته الرهبانية التي سجلها لجذب أصدقائه نحو الدير أو لدفاعه عن الرهبنة والرهبان سحبت أنظار الناس إليه، فانفتحت قلايته لهم وأفقدوه فترات هدوئه. أما كتاباته لثيؤدور وستاجير، فقد كشفت للكنيسة عن موهبته في الخدمة، والتهاب قلبه بخلاص الآخرين، وحكمته في رعايتهم. سحبته كتاباته الرهبانية من غير أن يدري خارج الدير، إذ لم يجد بدًا إلا أن يهرب من المجد الباطل إلى "الوحدة" يمارس حياة أكمل. انطلق إلى الوحدة كما يقول بلاديوس(13) -ثلاث دفعات- في كل مرة قضى ثمانية شهور، حارمًا نفسه من النوم بصفة تكاد تكون مستمرة، يدرس إنجيل المسيح بشغف، خلال هذين العامين، لم يستلقِ نهارًا ولا ليلًا، فانهارت طاقته، وأصابه نوع من الفالج، فأحس بعجزه عن الاستفادة من هذه الحياة، وعاد إلى الكنيسة (بأنطاكيا). عاد بعد عامين إلى إنطاكية بعد أن مارس حياة الوحدة بنجاح، وكأن يد الله قد ألزمته خلال مرضه بالعودة للخدمة والكرازة في نضوجٍ روحيٍ، وبغير ضجر أو تردد. أو لعل الله قد رأى ميوله الداخلية الدفينة في نفسه نحو خدمة النفوس، بالرغم من حبه للنسك والوحدة، فألزمه بالخروج. فهو نفسه الذي يقول: [خير للإنسان أن يكون أقل فضيلة ويهوى خلاص غيره، من أن يسكن الجبال ويرى إخوته يهلكون!] [لو صنع الإنسان كل التقشفات، لو أقمع جسده بكل نسك، لو صام حياته كلها، ونام على الحضيض، لو وزع كل مقتنياته على الفقراء والمساكين، فهذه كلها لا توازي خلاص النفس(14).] أخيرًا نختم حديثنا عن هذه الفترة بأمرين ذكرًا عنه خلال حياته الديرية(15): 1. إذ كان في دير الرهبان رأى أزيكوس مرشده رؤيا إلهية: اقترب شخصان بلباس أبيض من تلميذه يوحنا وهو يصلي، وأمسكا بيديه وقالا له: إن سيدنا يسوع المسيح قد أرسلنا إليك. ثم ناوله أحدهما كتابًا وقال له: أنا يوحنا الرسول، خذ هذه الهدية المرسلة إليك من قِبل الله لكي يساعدك على فهم الكتاب المقدس. ثم ناوله الآخر مفاتيح، وقال له: أنا بطرس، وقد أعطيتك هذه المفاتيح دليل السلطان المعطى لك من قبل إلهنا. وكان يوحنا جاثيًا ووجهه إلى الأرض، فأجاب: أنا لست أهلًا لذلك. فعانقه القديسان وغابا عنه. 2. تسلط أسد على أهل تلك النواحي وافترس الكثيرين، فلما شعر القديس بذلك أقام صليبًا، فنظروا في الغد، وإذا بالأسد ميت تحت الصليب! سيره القديس يوحنا ذهبي الفم † وعظه للبابا شنودة الثالث † 1994 |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 51776 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() هدَّأت عاصفة رسامته أسقفًا فعاد إلى الظهور في إنطاكية، لكن سرعان ما تنيحت والدته فخلا له السبيل إلى الانطلاق نحو الحياة الديرية بجوار إنطاكية، يسعد بأربع سنوات من أعذب أيامه، يقضيها في التأمل والصلاة والدراسة تحت قيادة شيخ مختبر يدعى ديؤدور(1)، والذي يعتبر أحد مؤسسي إنطاكية اللاهوتية، وقد رسم أسقفًا على طرسوس فيما بعد. وكان يزامله صديقاه منذ الدراسة عند ليبانيوس وهما ثيؤدور (2) الذي صار أسقفًا على موبسويست (ما بين النهرين) Mopsuestia ومكسيموس الذي صار أسقفًا على سيليكية. على أي الحالات، فهؤلاء في مجموعهم لا يمثلون مجرد مجموعة نسكية، بل وأيضًا جماعة دراسية، وضعوا على عاتقهم تفسير الكتاب المقدس بالمنهج الأنطاكي، إلا وهو المنهج اللغوي أو الحرفي، التاريخي. يقوم هذا المنهج على التفسير البسيط حسبما تشرحه اللغة، لذا دعي "المنهج اللغوي أو الحرفي". كما قام على تأكيد الحقائق التاريخية، كما وردت في الكتاب المقدس كحقائقٍ واقعيةٍ وليست أعمالًا مجازية رمزية، لذا سمي أيضًا بالمنهج التاريخي. </h1> سيره القديس يوحنا ذهبي الفم † وعظه للبابا شنودة الثالث † 1994 |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 51777 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() أعماله الكتابية في الدير 1. إذ انطلق يوحنا إلى الدير تهللت نفسه فيه، أحس أنه في السماء عينها، وقد بقيت أحاسيسه هذه تلازمه كل أيام خدمته، إذ نجده تارة يقول: "بالنسبة للقديس اللجوء إلى الدير هو هروب من الأرض إلى السماء!(3)" وأخرى يصف الراهب في قلايته: [كأنما يسكن عالمًا آخر، هو في السماء بعينها. لا يتحدث إلا في السماويات، عن حضن إبراهيم وأكاليل القديسين والطغمات المحيطة بالمسيح(4).] على أي الحالات فإنه في فرحة قلبه أراد أن يجذب بعض أصدقائه من إنطاكية، خاصة ثيؤدور، للحياة الرهبانية، فسجل لنا مقاله الأول: "مقارنة بين الملك والراهب(5) Comparatio regis et monachi". جاء هذا العمل يكشف ليس فقط عن حبه للحياة الرهبانية، وإنما عن منهجه المسيحي إلا وهو إدراك المؤمن، راهبًا كان أو كاهنًا أو من الشعب، مركزه الجديد كابن لله وإمكانياته في المسيح يسوع. يرى البعض أن هذا العمل جاء مشابهًا لعمل أفلاطون في الكتاب التاسع من عمله "عن الدولة On the State"، حيث يقدم مقارنة بين فيلسوف وطاغية". أ. أيهما يستحق لقب ملك؟ يبدأ الكاتب بالقول بأن غالبية البشر يُعجبون بالمظاهر الخارجية أكثر مما هو بالحقيقة صالح. لذلك فإنهم يحسبون السعادة الأرضية العظمى هي أن يصير الإنسان ملكًا. أما الراهب الذي يسلك حياة الوحدة ويخدم الله وحده فلا يبالي به أحد. لذا فإننا نقارن بين حياة ملك بفلسفة الحياة الرهبانية. يحكم الملك مدنًا وبلادًا وشعوبًا وجيوشًا. أما الراهب، فيسيطر على الغضب والحسد والطمع والشهوات الدنيئة وكل جمهرة الأهواء. إنه بالحق يستحق بالأكثر أن يُدعى ملكًا أكثر من الذي يجلس في الأرجوان ويكلل بالعرش الذهبي، فإنه بالحق متحرر داخليًا. من جانب آخر من يحكم البشر بينما يحكمه الغضب والطمع والشهوات الدنيئة، يقوم بدورٍ سخيفٍ، ونادرًا ما يستطيع أن يكون حاكمًا صالحًا. ب. معارك الملك والراهب: يحارب الراهب الشياطين ويغلبهم بالعون الإلهي، يحول مدنًا وقرى بأكملها من الهراطقة، ويتوج بواسطة المسيح. يحارب الملك البرابرة، فقط بهدف كسب أراضٍ وكنوزٍ أو لإشباع مطامعه أو عطشه نحو السلطة. ت. العمل اليومي للملك والراهب: أيضًا حياتهما اليومية مختلفة جوهريًا. يرافق الراهب الأنبياء والقديس بولس؛ من موسى إلى إشعياء، ومنهم إلى يوحنا، وهكذا. ويرافق الملك فقط القادة وحاملي السهام، الذين غالبًا ما يستسلمون للخمر والشهوة، ويقضون أغلب اليوم في السُكر. أيضًا يظهر الليل اختلافًا بينهما ليس بقليلٍ. يقدم الراهب صلوات وعبادة لله، يسبق تغريد الطيور (في الصباح المبكر) ويجتمع مع الملائكة، ويحفظ نفسه في حضرة الله، ويحيا كما في السماء عينها. أما الملك الذي يأمر الشعب والجيوش، ويحكم مدنًا كثيرة ومحيطات متسعة، فينام على سريره، ويغط في النوم حتى يحل نور النهار، لأنه يقيم ولائم ملوكية، بينما يحيا الراهب بنسكٍ، فلا يغرق في نومٍ عميقٍ. أيضًا يجد الملك في الخاضعين له متاعب، بسبب إصداره أوامر بإيواء جنود غير مؤدبين في بيوت البعض، هؤلاء غالبًا ما يسلبون وينهبون ويطلبون أمورًا ليست لهم بكونها من حقهم. ث. الاهتمام بكل الفئات: ينشغل الملك بالعظماء، بعد ذلك بمحصلي الضرائب، الذين لا يقدرون الشيخوخة، ولا الترمل، ولا أي شيء آخر. هؤلاء لا يعاني منهم الأغنياء، أو ربما يعانون القليل، إنما يضغطون على الفقراء، ويلتزم الفلاح بتقديم ما تنتجه له الأرض لهم. أما بالنسبة للراهب فالأمر مختلف. إنه يعيش في بساطةٍ ووادعةٍ، وينصف بين الغني والفقير خلال الصدقة، فيجعل الغني تقل إمكانياته (يفتقر) والفقير تزداد. فيريح الواحد من خطاياه (بتقديم الصدقة)، والآخر من عوزه. ج. من هو سخي في العطاء؟ أيضًا الهدايا (الإحسانات) الفردية مختلفة جدًا. يقدم الملك ذهبًا فقط، ويعطي الراهب نعمة الله. فإن كان أحد يعاني من روح شرير، فلا يذهب للملك، بل إلى راهب قديس، الذي يُخرج الشيطان بصلواته التقوية كما بسيفٍ. حقًا، ليس فقط نحن، بل وحتى الملوك أنفسهم يدعون مثل هؤلاء من رجال الله لمعاونتهم في ضيقتهم. هكذا طلب أخاب شفاعة إيليا، وحزقيا شفاعة إشعياء، وآخرون جاءوا إلى أليشع لأجل المعونة. ح. يوم الانكسار: علاوة على ذلك، إن كان راهب في جهاده من أجل الفضيلة، يسقط من النعمة ويفقد ضبطه لنفسه، فإن الصلوات والدموع والندامة ومعاونته في خدمة الفقراء، تسنده ليسترد بسرعة سيادته على نفسه. أما الملك فإن فقد سلطانه على مملكته، يلزمه أن يعتمد على عونٍ خارجيٍ، يحتاج إلى تحالفاتٍ وجنودٍ وفرسانٍ وخيولٍ وأموالٍ، ويتعرض لمخاطر كثيرة. خ. عند الموت وبعده: عندما يأتي وقت الوفاة، فالموت مخيف للملك، أما الراهب فلا يقلق منه نهائيًا، لأنه يجحد الممالك من مدة طويلة، والملذات والحياة المترفة. إن عانى أحدهما موتًا عنيفًا، يموت الراهب كشهيدٍ ويذهب إلى السماء، وأما الملك فيستسلم لسيف منافسه بالحقيقة. يلزمه أن يقضي حياته كلها في اضطرابٍ وقلقٍ، ويحمي نفسه بواسطة حارس. والراهب على العكس، يحمي مدنًا بصلواته كما بسورٍ، ولا يحتاج أن يخشى شيئًا ما على نفسه. عندما يأتي وقت موته كثيرون يصلون لكي يقتدي به آخرون على مثاله. بعد الموت طريقاهما منفصلان أيضًا. الراهب الصالح يدخل إلى مجد الرب وبهائه، هذا الذي كان قائدًا ومعلمًا له في طريق الفضيلة النافع. الملك، إن كان صالحًا ينال كرامة أقل درجة وبركة، فإن الملك الصالح لا يكون بأية وسيلة مثل الراهب، الذي يعيش لخدمة الله فوق كل شيء. أما إذا كان الملك شريرًا، وصنع أعمالًا شريرة، فمن يقدر أن ينطق بعذابات الجحيم التي تسقط عليه؟ د. لا تحسد ملكًا، وتمثل بالراهب الصالح: إذن إن رأيت غنيًا يسير في تشامخ، لا تحسده. لكن إن رأيت راهبًا متواضعًا ولطيفًا ووديعًا، اذهب وتمثل بحكمته. هذا هو الخير الوحيد والبركة التي تقتنيها وتبقى قيمتها دائمة، خلال عناية يسوع المسيح المحِّبة، الذي له الكرامة والسلطان إلى كل الأبد. آمين. [لا تُفتن ألبابنا عند رؤيتنا ملكًا ينعم في مجده، فذلك عز زائل، بل لنجتهد بالاقتداء بالراهب الوديع المتواضع الفقير لنبلغ إلى يوم تتويجه الملكي.(6)] في هذه المقارنة يبعث في أهل إنطاكية الانطلاق نحو الحياة الديرية، إذ كان الشباب يتنافسون على مراكز القيادة والحكم والإدارة. يعلق A. Moulard(7) على كتابه هذا أن الذهبي الفم كتبه بعد شهور من دخوله الدير، إذ كان يرى كل شيء ورودًا، وأن صح لنا القول إنه في "شهر العسل!" على أي الأحوال، بقي الذهبي الفم أمينًا في حبه للرهبنة رغم تفضيله لخدمة النفوس والكرازة. 2. في عام 373م كان غضب فالنز قد جاش على الأرثوذكس، فألزم نساكهم ورهبانهم على الخدمة العسكرية والمدنية، واعتبر بعض المسيحيين في النسك ضربًا من الجنون، وقامت حملات عنيفة ضد الرهبنة مما اضطر يوحنا أن يخط كتبًا ثلاثة تحت اسم(8) "ضد أعداء الرهبنة" Adverssus oppugnatores vitae monastiac يهاجم أعداء الرهبنة ويفند حججهم. يرى البعض أن المناسبة الحقيقية لوضع هذا العمل هو أن النساك والرهبان الذين كانوا بجوار أنطاكية، كانوا يتعهدون بتعليم أبناء المدينة وتهذيبهم. وهذه كانت قاعدة عامة في بعض المناطق، فنسمع عن الأنبا شنودة رئيس المتوحدين أنه كان يذهب إلى الدير الأبيض في سوهاج بصعيد مصر، وهو في التاسعة من عمره. كان من ثمر ذلك أن كثير من الشباب من إنطاكية ارتبطوا بالرهبان، ولم يرغبوا في العودة إلى عائلاتهم، الأمر الذي سبب ضيقًا شديدًا. وأساء البعض معاملة الرهبان في شوارع أنطاكية وأسواقها، خاصة المناطق التي كان بها وثنيون. لذلك أراد القديس يوحنا أن يدافع عنهم، موضحًا أنه ليس من معلمين ومرشدين أفضل من المتوحدين والرهبان، لأبناء المسيحيين والوثنيين أيضًا(9). بدأ عمله بإيضاح أن مضطهدي رجال الله يهلكون كما ورد في الكتاب المقدس،يشبه القديس الحياة العادية في المدينة أشبه ببيتٍ مشتعلٍ بالنار، وأن العالم محتاج إلى الرهبان لممارسة الحياة المتعقلة، وأن يكون للرهبان عملهم النافع في المدينة. يفترض القديس يوحنا في الكتاب الثاني أن ابنًا متميزًا وغنيًا لوالدٍ وثنيٍ ذهب إلى الجبال لينضم إلى الحياة الرهبانية. بالمنطق ماذا يقول لأبيه؟ إنه صار غنيًا بتحرره من كل الضروريات. هذا ويودع أبوه فقط أمواله، أما الراهب فيودع الغنى الذي للمسيحيين الصالحين. يليق بأبيه إلا يخجل من ملبس الراهب البسيط، فإنه في عيني الشعب المسيحي أثمن من الثياب الملوكية الفاخرة. وأيضًا أثر الراهب الصالح على الشعب أعظم من أثر الملك. لا يستطيع أحد أن يحرمه من شيءٍ، لأنه لا يملك شيئًا، ويعفو عن الذين يسيئون إليه بفرحٍ. وإذ هو يجحد العالم، يستطيع أن يعزي الحزانى، وفي وقت الاضطهاد يصير مثلًا للبطولة أمام الآخرين. أما عن علاقته بأبيه، فإن مثل هذا الابن يكون أكثر لطفًا عن الغير. إنه يقتني عظمة حقيقية وفرحًا صادقًا لا يزول، لأنه روحي. لهذا يليق بالأب إلا يحزن من أجل ما يليق به أن يهنئ ابنه. في الأزمنة القديمة كان قدماء اليونانيين (الوثنيين) يفكرون هكذا. إنهم يعرفون أن الإنسان الصالح سعيد والشرير بائس. لهذا انتظر قليلًا، فستفكر كما أفكر أنا، وربما أنت نفسك تسلك الطريق الذي سلكه ابنك. أخيرًا في الكتاب الثالث يأتي دور الأب المسيحي المؤمن. يقول له الذهبي الفم إنه ملتزم أولًا أن يربي ابنه حسنًا، أو يقوم آخر بتعليمه. وألا يكون الإنسان أشر من ابن القاتل. للأسف فإن مطامع أغلب الآباء تتجه فقط نحو الغنى والمراكز الممتازة وذات السلطة، فهم يفسدون نفوس أبنائهم من صبوتهم المبكرة بالطمع والطموح (الخاطئ)، ويسلكون بمبادئ ضد مبادئ المسيح. كيف يمكن للطفل أن يخلص نفسه؟ إن كان أحد يفكر في جريمة اللواطة، فإن الشخص يدهش إن هذه المدينة أنها لم تتدمر بعد بالنار والكبريت مثل سدوم وعمورة. ينبع كل هذا الشر عن حقيقة أن الشخص يستهزئ هكذا بفلسفة الحياة الرهبانية. ومع هذا فإن الرهبان أكثر سعادة من أهل العالم الذين يعيشون في الحسيات والمبالغة. إنه بكل دقةٍ، هؤلاء يجلبون كل ضررٍ على أنفسهم، أما الآخرون منهم كمنارة في بحر عاصفٍ، يُظهرون للذين هم مهددين طريق الميناء الهادئ. النوع الأول هم وباء للأرض كلها. الرهبان -على العكس- يسلكون حياة الملائكة المملوءة سلامًا وهدوءًا وانسجامًا وحبًا وسعادة أصيلة. لهذا ليس شيء أفضل من أن يعهد بأبنائه لمثل هؤلاء الناس، مبكرًا ما أمكن. إن كانوا لا يطلبون تعليمًا هكذا، فإنهم يطلبون فضيلة أعظم، وهذه أثمن بكثير. هكذا يفكر الفلاسفة الوثنيون، كما يعلم الرسل بهذا: أولًا الفضيلة وبعد ذلك الثقافة؛ أولًا الحكمة وبعد ذلك المعرفة. فإن ارتبط الاثنان معًا يكون الأمر الأول أفضل. كل من الرهبان وأهل العالم على السواء يرتبطون بالفضيلة، لكن الذين يعيشون حياة دنيوية يسقطون من الفضيلة بسهولة عن الرهبان. قد تقول إنك تريد أن ترى أحفادك. لكن كيف تعرف أن أبناءك سيتزوجون؟ وكم من آباء كثيرين ليس لهم خبرة سوى الحزن والمرارة من أبنائهم! ويفسد العث ممتلكاتك وأموالك، بينما غنى الحياة الرهبانية لن يفسد. لكنك تقول يمكنه أن يتزوج أولًا، وبعد ذلك يبدأ الحياة الرهبانية في شيخوخته. وكأن الشباب ليس بذي قيمة، هذا الذي يحتاج إلى حفظٍ لفضيلتهم، وأيضًا أنت لا تعرف إن كان ابنك يعيش حتى الشيخوخة. أخيرًا فإن المتزوج لا يقدر أن يفصل نفسه بسهولة عن زوجته وعائلته. هكذا اترك ابنك في سلامٍ في مدرسة الرهبان حتى إن قام فيها لمدة عشر أو عشرين عامًا. فإنه سيكون بالتأكيد أكثر قوة ونضوجًا في أخلاقياته، وفي علاقته بك وبالمجتمع البشري. حقًا لو أن كل الأطفال تعلموا هكذا، فالعالم يتحول حالًا إلى فردوس. الناس في المدن يصيرون مثل الملائكة. وإن لم يصير ابنك قديسًا عظيمًا فليكن قديسًا صغيرًا. إنما يلزمه أن يبدأ السباق من أجل مكافأة النصرة وهو بعد صغير، عوض أن يبدأ الصمود وهو شيخ. لقد تكرس صموئيل لله منذ صبوته، وإبراهيم كان مستعدًا أن يذبح ابنه الشاب لله. قدموا إذن خدامًا لله متأهلين، ولا تضعوا عقبات في طريق أبنائكم، لئلا يسلكوا هذه الفلسفة السامية بغير رضاكم. إنكم تجلبون على أنفسكم عقوبة، وتمدحون نصيحتي بعد أن تصير بلا نفع لكم. في هذه الكتب أعلن لنا بهاء الرهبنة وجمال حياتها النسكية، كما قدم لنا صورة مشرقة لهذه الحياة كما كانوا يعيشونها في ذلك الحين. فالرهبان يسكنون القلالي المنعزلة، يعيشون بنظام الشركة تحت قيادة أب abbot. كانوا يلبسون ثيابًا من وبر الإبل أو شعر الماعز، فوق "تونية" من التيل. يستيقظون قبل الشروق، ويبدءون يومهم بالتسبيح والصلوات المشتركة تحت قيادة الأب. عندئذ يذهبون إلى أعمالهم الموزعة عليهم من قراءة ونسخ وأعمال يدوية تقدم أثمانها للفقراء. أما طعامهم، فمن الخبز والماء وقليل من بعض الخضروات، ينامون على مرقد من القش، ولا يحتاجون إلى شيء، متحررين من كل قلقٍ وهم لا يعرفون كلمتي "لي ولك"، اللتين تسببان الكثير من المشاكل في العالم. إن رحل أحدهم لا ينوحون عليه، بل يقدمون شكرًا لله. يحملونه إلى القبر وسط تسابيح الحمد، إذ هو لم يمت بل صار كاملًا. لقد سمح له أن يرى وجه المسيح. في اختصار -بالنسبة لهم- الحياة هي المسيح والموت ربح!(10) لقد بقيت هذه الصورة حية في داخله حتى بعد انغماسه في الخدمة، فنراه يحدث شعبه عن الحياة الديرية، قائلًا: [كأنما نجلس على سرير من العشب كما كان السيد المسيح يجلس على البَرّ! كانت الغالبية منهم يتناولون وجبتهم في الهواء الطلق، السماء لهم سقف، والقمر سراج، ليسوا في حاجة إلى زيت ولا إلى خدم. كأنما القمر يتلألأ بجلاله لهم وحدهم!(11)] مرة أخرى يرفع أنظارهم إلى برية مصر، مسجلًا لنا أحاسيسه الرهبانية الصادقة، قائلًا: [هلموا إلى برية مصر لتروها أفضل من كل فردوس! ربوات الطغمات الملائكية في شكل بشري، وشعوب من الشهداء، وجماعات من البتوليين... لقد تهدم طغيان الشيطان وأشرق ملكوت المسيح ببهائه! مصر هذه أم الشعراء والحكماء والسحرة، حصنت نفسها بالصليب! لم تفعل هذه الأمور الصالحة (الحياة مع المسيح) في المدن فحسب بل وفي البراري أكثر من المدن. أينما حللت في هذا البلد تشاهد معسكر المسيح، القطيع الملوكي، ودولة القوات العلوية! لا نجد هذا بين الرجال فحسب بل وبين النساء أيضًا... فقد مارسن طلب الحكمة في صورة لا تقل عن الرجال، لا مثل قضاة اليونانيين وفلاسفتهم الذين يتسلحون بأتراس وركوب الخيل، إنما يخضن معارك أشد ضراوة! السماء بكل خوارس كواكبها ليست في بهاء برية مصر الممتلئة من قلالي النساك(12).] 3. تحدث الذهبي الفم في المقالين السابقين عن مجد الرهبنة في صورة عامة، لكن هناك حالتين فرديتين كادتا أن تحطما أعمال الرهبنة، هما حالتا ثيؤدور وستاجير. لقد انجرف صديقه ثيؤدور وراء شهوته فأُعجب بامرأة جميلة تدعى Hermoine. فترك طريق الرهبنة وأراد الزواج منها، لكن يوحنا أسرع فكتب مقالين لصديقه "Paraeneses ad Theodorum lapsum" يدعوه فيهما للتوبة والعودة إلى الحياة الرهبانية. لقد شعر ثيؤدور باليأس، كيف وهو راهب يهوى بشهوته إلى الزنا، وينخدع في الشهوات، وهنا يبرز دور يوحنا كطبيب ماهر يعرف كيف يعالج النفس. فلا يوبخه على سقطته ولا يدخل به في أمجاد الرهبنة في تأملات عقلية عالية، ولا يؤنبه كثيرًا على كسره نذر الرهبنة، لكن بروح الحب والترفق يسند ضعفه ويكشف له محبة الله وحنانه، لقد برز يوحنا في معالجته للنفوس المحطمة، يدفعها نحو القيام من السقوط في رجاء. وكانت خلاصة حديثه [من يخطئ يكون قد سقط في ضعف بشري، أما من يستمر في الخطأ فيبطل إنسانيته ليصير شيطانًا.] أثمرت الرسالتان، وتاب ثيؤدور حيث عاد إلى الرهبنة، الأمر الذي وجه الأنظار إلى شخصية يوحنا كخادم للنفوس. 4. تعزية ستاجيريوس Ad Stagirium a daemone vexatum: كتب مقاله هذا في ثلاثة كتب موجهة لراهب شاب، يشجعه في تجربة قاسية حلت به. لقد انهمك ستاجير في ممارسة نسكية عنيفة، أصيب بنوبة صرع، وحَكم عليه البعض أن به روحًا نجسًا. نقل الراهب إلى أنطاكية للعلاج، فتضاعف الهجوم على الرهبنة، وأحس الراهب كأن الله لا يعتني به، فأنكر عناية الله وفكر في الانتحار، فأسرع إليه يوحنا يكتب له يعزيه في شدته. <h1 dir="rtl" align="center"> </h1> سيره القديس يوحنا ذهبي الفم † وعظه للبابا شنودة الثالث † 1994 |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 51778 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() أعماله الكتابية في الدير 1. إذ انطلق يوحنا إلى الدير تهللت نفسه فيه، أحس أنه في السماء عينها، وقد بقيت أحاسيسه هذه تلازمه كل أيام خدمته، إذ نجده تارة يقول: "بالنسبة للقديس اللجوء إلى الدير هو هروب من الأرض إلى السماء!(3)" وأخرى يصف الراهب في قلايته: [كأنما يسكن عالمًا آخر، هو في السماء بعينها. لا يتحدث إلا في السماويات، عن حضن إبراهيم وأكاليل القديسين والطغمات المحيطة بالمسيح(4).] على أي الحالات فإنه في فرحة قلبه أراد أن يجذب بعض أصدقائه من إنطاكية، خاصة ثيؤدور، للحياة الرهبانية، فسجل لنا مقاله الأول: "مقارنة بين الملك والراهب(5) Comparatio regis et monachi". جاء هذا العمل يكشف ليس فقط عن حبه للحياة الرهبانية، وإنما عن منهجه المسيحي إلا وهو إدراك المؤمن، راهبًا كان أو كاهنًا أو من الشعب، مركزه الجديد كابن لله وإمكانياته في المسيح يسوع. يرى البعض أن هذا العمل جاء مشابهًا لعمل أفلاطون في الكتاب التاسع من عمله "عن الدولة On the State"، حيث يقدم مقارنة بين فيلسوف وطاغية". أ. أيهما يستحق لقب ملك؟ يبدأ الكاتب بالقول بأن غالبية البشر يُعجبون بالمظاهر الخارجية أكثر مما هو بالحقيقة صالح. لذلك فإنهم يحسبون السعادة الأرضية العظمى هي أن يصير الإنسان ملكًا. أما الراهب الذي يسلك حياة الوحدة ويخدم الله وحده فلا يبالي به أحد. لذا فإننا نقارن بين حياة ملك بفلسفة الحياة الرهبانية. يحكم الملك مدنًا وبلادًا وشعوبًا وجيوشًا. أما الراهب، فيسيطر على الغضب والحسد والطمع والشهوات الدنيئة وكل جمهرة الأهواء. إنه بالحق يستحق بالأكثر أن يُدعى ملكًا أكثر من الذي يجلس في الأرجوان ويكلل بالعرش الذهبي، فإنه بالحق متحرر داخليًا. من جانب آخر من يحكم البشر بينما يحكمه الغضب والطمع والشهوات الدنيئة، يقوم بدورٍ سخيفٍ، ونادرًا ما يستطيع أن يكون حاكمًا صالحًا. ب. معارك الملك والراهب: يحارب الراهب الشياطين ويغلبهم بالعون الإلهي، يحول مدنًا وقرى بأكملها من الهراطقة، ويتوج بواسطة المسيح. يحارب الملك البرابرة، فقط بهدف كسب أراضٍ وكنوزٍ أو لإشباع مطامعه أو عطشه نحو السلطة. ت. العمل اليومي للملك والراهب: أيضًا حياتهما اليومية مختلفة جوهريًا. يرافق الراهب الأنبياء والقديس بولس؛ من موسى إلى إشعياء، ومنهم إلى يوحنا، وهكذا. ويرافق الملك فقط القادة وحاملي السهام، الذين غالبًا ما يستسلمون للخمر والشهوة، ويقضون أغلب اليوم في السُكر. أيضًا يظهر الليل اختلافًا بينهما ليس بقليلٍ. يقدم الراهب صلوات وعبادة لله، يسبق تغريد الطيور (في الصباح المبكر) ويجتمع مع الملائكة، ويحفظ نفسه في حضرة الله، ويحيا كما في السماء عينها. أما الملك الذي يأمر الشعب والجيوش، ويحكم مدنًا كثيرة ومحيطات متسعة، فينام على سريره، ويغط في النوم حتى يحل نور النهار، لأنه يقيم ولائم ملوكية، بينما يحيا الراهب بنسكٍ، فلا يغرق في نومٍ عميقٍ. أيضًا يجد الملك في الخاضعين له متاعب، بسبب إصداره أوامر بإيواء جنود غير مؤدبين في بيوت البعض، هؤلاء غالبًا ما يسلبون وينهبون ويطلبون أمورًا ليست لهم بكونها من حقهم. ث. الاهتمام بكل الفئات: ينشغل الملك بالعظماء، بعد ذلك بمحصلي الضرائب، الذين لا يقدرون الشيخوخة، ولا الترمل، ولا أي شيء آخر. هؤلاء لا يعاني منهم الأغنياء، أو ربما يعانون القليل، إنما يضغطون على الفقراء، ويلتزم الفلاح بتقديم ما تنتجه له الأرض لهم. أما بالنسبة للراهب فالأمر مختلف. إنه يعيش في بساطةٍ ووادعةٍ، وينصف بين الغني والفقير خلال الصدقة، فيجعل الغني تقل إمكانياته (يفتقر) والفقير تزداد. فيريح الواحد من خطاياه (بتقديم الصدقة)، والآخر من عوزه. ج. من هو سخي في العطاء؟ أيضًا الهدايا (الإحسانات) الفردية مختلفة جدًا. يقدم الملك ذهبًا فقط، ويعطي الراهب نعمة الله. فإن كان أحد يعاني من روح شرير، فلا يذهب للملك، بل إلى راهب قديس، الذي يُخرج الشيطان بصلواته التقوية كما بسيفٍ. حقًا، ليس فقط نحن، بل وحتى الملوك أنفسهم يدعون مثل هؤلاء من رجال الله لمعاونتهم في ضيقتهم. هكذا طلب أخاب شفاعة إيليا، وحزقيا شفاعة إشعياء، وآخرون جاءوا إلى أليشع لأجل المعونة. ح. يوم الانكسار: علاوة على ذلك، إن كان راهب في جهاده من أجل الفضيلة، يسقط من النعمة ويفقد ضبطه لنفسه، فإن الصلوات والدموع والندامة ومعاونته في خدمة الفقراء، تسنده ليسترد بسرعة سيادته على نفسه. أما الملك فإن فقد سلطانه على مملكته، يلزمه أن يعتمد على عونٍ خارجيٍ، يحتاج إلى تحالفاتٍ وجنودٍ وفرسانٍ وخيولٍ وأموالٍ، ويتعرض لمخاطر كثيرة. خ. عند الموت وبعده: عندما يأتي وقت الوفاة، فالموت مخيف للملك، أما الراهب فلا يقلق منه نهائيًا، لأنه يجحد الممالك من مدة طويلة، والملذات والحياة المترفة. إن عانى أحدهما موتًا عنيفًا، يموت الراهب كشهيدٍ ويذهب إلى السماء، وأما الملك فيستسلم لسيف منافسه بالحقيقة. يلزمه أن يقضي حياته كلها في اضطرابٍ وقلقٍ، ويحمي نفسه بواسطة حارس. والراهب على العكس، يحمي مدنًا بصلواته كما بسورٍ، ولا يحتاج أن يخشى شيئًا ما على نفسه. عندما يأتي وقت موته كثيرون يصلون لكي يقتدي به آخرون على مثاله. بعد الموت طريقاهما منفصلان أيضًا. الراهب الصالح يدخل إلى مجد الرب وبهائه، هذا الذي كان قائدًا ومعلمًا له في طريق الفضيلة النافع. الملك، إن كان صالحًا ينال كرامة أقل درجة وبركة، فإن الملك الصالح لا يكون بأية وسيلة مثل الراهب، الذي يعيش لخدمة الله فوق كل شيء. أما إذا كان الملك شريرًا، وصنع أعمالًا شريرة، فمن يقدر أن ينطق بعذابات الجحيم التي تسقط عليه؟ د. لا تحسد ملكًا، وتمثل بالراهب الصالح: إذن إن رأيت غنيًا يسير في تشامخ، لا تحسده. لكن إن رأيت راهبًا متواضعًا ولطيفًا ووديعًا، اذهب وتمثل بحكمته. هذا هو الخير الوحيد والبركة التي تقتنيها وتبقى قيمتها دائمة، خلال عناية يسوع المسيح المحِّبة، الذي له الكرامة والسلطان إلى كل الأبد. آمين. [لا تُفتن ألبابنا عند رؤيتنا ملكًا ينعم في مجده، فذلك عز زائل، بل لنجتهد بالاقتداء بالراهب الوديع المتواضع الفقير لنبلغ إلى يوم تتويجه الملكي.(6)] في هذه المقارنة يبعث في أهل إنطاكية الانطلاق نحو الحياة الديرية، إذ كان الشباب يتنافسون على مراكز القيادة والحكم والإدارة. يعلق A. Moulard(7) على كتابه هذا أن الذهبي الفم كتبه بعد شهور من دخوله الدير، إذ كان يرى كل شيء ورودًا، وأن صح لنا القول إنه في "شهر العسل!" على أي الأحوال، بقي الذهبي الفم أمينًا في حبه للرهبنة رغم تفضيله لخدمة النفوس والكرازة. <h1 dir="rtl" align="center"> </h1> سيره القديس يوحنا ذهبي الفم † وعظه للبابا شنودة الثالث † 1994 |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 51779 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() في عام 373م كان غضب فالنز قد جاش على الأرثوذكس، فألزم نساكهم ورهبانهم على الخدمة العسكرية والمدنية، واعتبر بعض المسيحيين في النسك ضربًا من الجنون، وقامت حملات عنيفة ضد الرهبنة مما اضطر يوحنا أن يخط كتبًا ثلاثة تحت اسم(8) "ضد أعداء الرهبنة" Adverssus oppugnatores vitae monastiac يهاجم أعداء الرهبنة ويفند حججهم. يرى البعض أن المناسبة الحقيقية لوضع هذا العمل هو أن النساك والرهبان الذين كانوا بجوار أنطاكية، كانوا يتعهدون بتعليم أبناء المدينة وتهذيبهم. وهذه كانت قاعدة عامة في بعض المناطق، فنسمع عن الأنبا شنودة رئيس المتوحدين أنه كان يذهب إلى الدير الأبيض في سوهاج بصعيد مصر، وهو في التاسعة من عمره. كان من ثمر ذلك أن كثير من الشباب من إنطاكية ارتبطوا بالرهبان، ولم يرغبوا في العودة إلى عائلاتهم، الأمر الذي سبب ضيقًا شديدًا. وأساء البعض معاملة الرهبان في شوارع أنطاكية وأسواقها، خاصة المناطق التي كان بها وثنيون. لذلك أراد القديس يوحنا أن يدافع عنهم، موضحًا أنه ليس من معلمين ومرشدين أفضل من المتوحدين والرهبان، لأبناء المسيحيين والوثنيين أيضًا(9). بدأ عمله بإيضاح أن مضطهدي رجال الله يهلكون كما ورد في الكتاب المقدس،يشبه القديس الحياة العادية في المدينة أشبه ببيتٍ مشتعلٍ بالنار، وأن العالم محتاج إلى الرهبان لممارسة الحياة المتعقلة، وأن يكون للرهبان عملهم النافع في المدينة. يفترض القديس يوحنا في الكتاب الثاني أن ابنًا متميزًا وغنيًا لوالدٍ وثنيٍ ذهب إلى الجبال لينضم إلى الحياة الرهبانية. بالمنطق ماذا يقول لأبيه؟ إنه صار غنيًا بتحرره من كل الضروريات. هذا ويودع أبوه فقط أمواله، أما الراهب فيودع الغنى الذي للمسيحيين الصالحين. يليق بأبيه إلا يخجل من ملبس الراهب البسيط، فإنه في عيني الشعب المسيحي أثمن من الثياب الملوكية الفاخرة. وأيضًا أثر الراهب الصالح على الشعب أعظم من أثر الملك. لا يستطيع أحد أن يحرمه من شيءٍ، لأنه لا يملك شيئًا، ويعفو عن الذين يسيئون إليه بفرحٍ. وإذ هو يجحد العالم، يستطيع أن يعزي الحزانى، وفي وقت الاضطهاد يصير مثلًا للبطولة أمام الآخرين. أما عن علاقته بأبيه، فإن مثل هذا الابن يكون أكثر لطفًا عن الغير. إنه يقتني عظمة حقيقية وفرحًا صادقًا لا يزول، لأنه روحي. لهذا يليق بالأب إلا يحزن من أجل ما يليق به أن يهنئ ابنه. في الأزمنة القديمة كان قدماء اليونانيين (الوثنيين) يفكرون هكذا. إنهم يعرفون أن الإنسان الصالح سعيد والشرير بائس. لهذا انتظر قليلًا، فستفكر كما أفكر أنا، وربما أنت نفسك تسلك الطريق الذي سلكه ابنك. أخيرًا في الكتاب الثالث يأتي دور الأب المسيحي المؤمن. يقول له الذهبي الفم إنه ملتزم أولًا أن يربي ابنه حسنًا، أو يقوم آخر بتعليمه. وألا يكون الإنسان أشر من ابن القاتل. للأسف فإن مطامع أغلب الآباء تتجه فقط نحو الغنى والمراكز الممتازة وذات السلطة، فهم يفسدون نفوس أبنائهم من صبوتهم المبكرة بالطمع والطموح (الخاطئ)، ويسلكون بمبادئ ضد مبادئ المسيح. كيف يمكن للطفل أن يخلص نفسه؟ إن كان أحد يفكر في جريمة اللواطة، فإن الشخص يدهش إن هذه المدينة أنها لم تتدمر بعد بالنار والكبريت مثل سدوم وعمورة. ينبع كل هذا الشر عن حقيقة أن الشخص يستهزئ هكذا بفلسفة الحياة الرهبانية. ومع هذا فإن الرهبان أكثر سعادة من أهل العالم الذين يعيشون في الحسيات والمبالغة. إنه بكل دقةٍ، هؤلاء يجلبون كل ضررٍ على أنفسهم، أما الآخرون منهم كمنارة في بحر عاصفٍ، يُظهرون للذين هم مهددين طريق الميناء الهادئ. النوع الأول هم وباء للأرض كلها. الرهبان -على العكس- يسلكون حياة الملائكة المملوءة سلامًا وهدوءًا وانسجامًا وحبًا وسعادة أصيلة. لهذا ليس شيء أفضل من أن يعهد بأبنائه لمثل هؤلاء الناس، مبكرًا ما أمكن. إن كانوا لا يطلبون تعليمًا هكذا، فإنهم يطلبون فضيلة أعظم، وهذه أثمن بكثير. هكذا يفكر الفلاسفة الوثنيون، كما يعلم الرسل بهذا: أولًا الفضيلة وبعد ذلك الثقافة؛ أولًا الحكمة وبعد ذلك المعرفة. فإن ارتبط الاثنان معًا يكون الأمر الأول أفضل. كل من الرهبان وأهل العالم على السواء يرتبطون بالفضيلة، لكن الذين يعيشون حياة دنيوية يسقطون من الفضيلة بسهولة عن الرهبان. قد تقول إنك تريد أن ترى أحفادك. لكن كيف تعرف أن أبناءك سيتزوجون؟ وكم من آباء كثيرين ليس لهم خبرة سوى الحزن والمرارة من أبنائهم! ويفسد العث ممتلكاتك وأموالك، بينما غنى الحياة الرهبانية لن يفسد. لكنك تقول يمكنه أن يتزوج أولًا، وبعد ذلك يبدأ الحياة الرهبانية في شيخوخته. وكأن الشباب ليس بذي قيمة، هذا الذي يحتاج إلى حفظٍ لفضيلتهم، وأيضًا أنت لا تعرف إن كان ابنك يعيش حتى الشيخوخة. أخيرًا فإن المتزوج لا يقدر أن يفصل نفسه بسهولة عن زوجته وعائلته. هكذا اترك ابنك في سلامٍ في مدرسة الرهبان حتى إن قام فيها لمدة عشر أو عشرين عامًا. فإنه سيكون بالتأكيد أكثر قوة ونضوجًا في أخلاقياته، وفي علاقته بك وبالمجتمع البشري. حقًا لو أن كل الأطفال تعلموا هكذا، فالعالم يتحول حالًا إلى فردوس. الناس في المدن يصيرون مثل الملائكة. وإن لم يصير ابنك قديسًا عظيمًا فليكن قديسًا صغيرًا. إنما يلزمه أن يبدأ السباق من أجل مكافأة النصرة وهو بعد صغير، عوض أن يبدأ الصمود وهو شيخ. لقد تكرس صموئيل لله منذ صبوته، وإبراهيم كان مستعدًا أن يذبح ابنه الشاب لله. قدموا إذن خدامًا لله متأهلين، ولا تضعوا عقبات في طريق أبنائكم، لئلا يسلكوا هذه الفلسفة السامية بغير رضاكم. إنكم تجلبون على أنفسكم عقوبة، وتمدحون نصيحتي بعد أن تصير بلا نفع لكم. في هذه الكتب أعلن لنا بهاء الرهبنة وجمال حياتها النسكية، كما قدم لنا صورة مشرقة لهذه الحياة كما كانوا يعيشونها في ذلك الحين. فالرهبان يسكنون القلالي المنعزلة، يعيشون بنظام الشركة تحت قيادة أب abbot. كانوا يلبسون ثيابًا من وبر الإبل أو شعر الماعز، فوق "تونية" من التيل. يستيقظون قبل الشروق، ويبدءون يومهم بالتسبيح والصلوات المشتركة تحت قيادة الأب. عندئذ يذهبون إلى أعمالهم الموزعة عليهم من قراءة ونسخ وأعمال يدوية تقدم أثمانها للفقراء. أما طعامهم، فمن الخبز والماء وقليل من بعض الخضروات، ينامون على مرقد من القش، ولا يحتاجون إلى شيء، متحررين من كل قلقٍ وهم لا يعرفون كلمتي "لي ولك"، اللتين تسببان الكثير من المشاكل في العالم. إن رحل أحدهم لا ينوحون عليه، بل يقدمون شكرًا لله. يحملونه إلى القبر وسط تسابيح الحمد، إذ هو لم يمت بل صار كاملًا. لقد سمح له أن يرى وجه المسيح. في اختصار -بالنسبة لهم- الحياة هي المسيح والموت ربح!(10) لقد بقيت هذه الصورة حية في داخله حتى بعد انغماسه في الخدمة، فنراه يحدث شعبه عن الحياة الديرية، قائلًا: [كأنما نجلس على سرير من العشب كما كان السيد المسيح يجلس على البَرّ! كانت الغالبية منهم يتناولون وجبتهم في الهواء الطلق، السماء لهم سقف، والقمر سراج، ليسوا في حاجة إلى زيت ولا إلى خدم. كأنما القمر يتلألأ بجلاله لهم وحدهم!(11)] مرة أخرى يرفع أنظارهم إلى برية مصر، مسجلًا لنا أحاسيسه الرهبانية الصادقة، قائلًا: [هلموا إلى برية مصر لتروها أفضل من كل فردوس! ربوات الطغمات الملائكية في شكل بشري، وشعوب من الشهداء، وجماعات من البتوليين... لقد تهدم طغيان الشيطان وأشرق ملكوت المسيح ببهائه! مصر هذه أم الشعراء والحكماء والسحرة، حصنت نفسها بالصليب! لم تفعل هذه الأمور الصالحة (الحياة مع المسيح) في المدن فحسب بل وفي البراري أكثر من المدن. أينما حللت في هذا البلد تشاهد معسكر المسيح، القطيع الملوكي، ودولة القوات العلوية! لا نجد هذا بين الرجال فحسب بل وبين النساء أيضًا... فقد مارسن طلب الحكمة في صورة لا تقل عن الرجال، لا مثل قضاة اليونانيين وفلاسفتهم الذين يتسلحون بأتراس وركوب الخيل، إنما يخضن معارك أشد ضراوة! السماء بكل خوارس كواكبها ليست في بهاء برية مصر الممتلئة من قلالي النساك(12).] <h1 dir="rtl" align="center"> </h1> سيره القديس يوحنا ذهبي الفم † وعظه للبابا شنودة الثالث † 1994 |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 51780 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() تحدث الذهبي الفم في المقالين السابقين عن مجد الرهبنة في صورة عامة، لكن هناك حالتين فرديتين كادتا أن تحطما أعمال الرهبنة، هما حالتا ثيؤدور وستاجير. لقد انجرف صديقه ثيؤدور وراء شهوته فأُعجب بامرأة جميلة تدعى Hermoine. فترك طريق الرهبنة وأراد الزواج منها، لكن يوحنا أسرع فكتب مقالين لصديقه "Paraeneses ad Theodorum lapsum" يدعوه فيهما للتوبة والعودة إلى الحياة الرهبانية. لقد شعر ثيؤدور باليأس، كيف وهو راهب يهوى بشهوته إلى الزنا، وينخدع في الشهوات، وهنا يبرز دور يوحنا كطبيب ماهر يعرف كيف يعالج النفس. فلا يوبخه على سقطته ولا يدخل به في أمجاد الرهبنة في تأملات عقلية عالية، ولا يؤنبه كثيرًا على كسره نذر الرهبنة، لكن بروح الحب والترفق يسند ضعفه ويكشف له محبة الله وحنانه، لقد برز يوحنا في معالجته للنفوس المحطمة، يدفعها نحو القيام من السقوط في رجاء. وكانت خلاصة حديثه [من يخطئ يكون قد سقط في ضعف بشري، أما من يستمر في الخطأ فيبطل إنسانيته ليصير شيطانًا.] أثمرت الرسالتان، وتاب ثيؤدور حيث عاد إلى الرهبنة، الأمر الذي وجه الأنظار إلى شخصية يوحنا كخادم للنفوس. سيره القديس يوحنا ذهبي الفم † وعظه للبابا شنودة الثالث † 1994 |
||||