منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 14 - 08 - 2014, 03:04 PM   رقم المشاركة : ( 5151 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

الأب ايلي طوبجي

مع أنبياء الماضي وأنبياء الحاضر

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

مقدمة
للأنبياء مكانة كبيرة في العهد الجديد.
يعلمنا القديس بولس أن الكنيسة قد بُنيت على أساس الرسل والأنبياء كما نقرأ في الرسالة إلى أهل أفسس: "بُنيتم على أساس الرسل والأنبياء، وحجر الزاوية هو يسوع المسيح نفسه" (2/2). وهذا الذي ما تزال تكرره وتعلنه الليتورجيا السريانية والمارونية، حيث يُذكر دوما الأنبياء مع الرسل كأساس للكنيسة. فمهمة الرسل ومهمة الأنبياء مهمتان أساسيتان متكاملتان عبر الزمان والمكان. والكنيسة تمنح الموهبة النبوية لكل مسيحي بواسطة سري العماد والتثبيت، ولن نفهم هذه الموهبة إلا إذا تعمقنا في درس أنبياء العهد القديم. فالنبوءة في العهد الجديد تفترض الحركة النبوية في العهد القديم.
ومشوارنا في حاضر الكنيسة، يدعونا للعودة إلى أنبياء الماضي واكتشافهم من جديد، فنفهم أنبياءنا اليوم..
1- تعريف بالأنبياء :
إن فعل أنبأ لغوياً يعني: أخبر، أعلم. أما بالمعنى الديني، فالنبي هو، من جهة، المُخبر عن الغيب والمستَقبَل بإلهامٍ من الله. ومن جهة ثانية، هو المُخبر عن الله وما يتعلق به.
إن النبي إنسان يتكلم باسم الله. هوت صوتُ صارخٍ أمام اله يهيئ له الطريق، وهو رسوله لدى البشر. يرى ما لا يراه الناس، لأنه ينظر إلى الأمور بعين الله. وهو إنسان حلّ عليه روح الرب فاتّحد بالرب اتحاداً حميماً لأنه إنسان مدعوّ، إذ يختار الله نبيّه ويدعوه ويرسله، ويطلب منه أن يعطي ذاته الكاملة قلباً وفهماً وروحاً، رغم الصعوبات والآلام التي يمكنه أن يتكبّدها في سبيل رسالته.
وللرسالة التي يحملها وجهان: وجه يتعلق بالحاضر، ووجه يتعلّق بالمستقبل. فكانت رسالته لمعاصريه تنبيه للشعب وتحذيره ليُصلح أخطاءه وليشدد على الأمانة لعهد الرب، ويدافع عن المظلومين والمساكين ويدعو الشعب إلى التوبة الحقيقية ويزرع الرجاء في المستقبل، فإنه يتطلع إلى الخلاص الآتي من عند الرب، فيشجّع الشعب ويطلب منه أن يتطلع إلى المسيح المنتظر الذي يحقق مواعد الرب في شعبه.
ولأن الأنبياء يعنفون الشعب، فقد واجهوا مقاومة معاصريهم ولم يفهموهم. اضطهدوهم فمات بعضهم ليشهد للكلمة. ولمّا تبيّن صدق نبوءتهم وظهر عمق كلامهم، في ما بعد، تعلّق الشعب بتعليمهم وأعاد قراءة ما كتبوا، ففهم مخطّط الله وإرادته في ما قالوا.
ولعلّ أكبر مناقض للأنبياء كان الأنبياء الكذبة الذين يقولون ما يرضي الملك والشعب. فيسمع لهم الشعب لأنّهم يقدّمون له الطمأنينة والسلام ويجارون نزواته ورغباته. ولكنّ الشعب سيكتشف خبثهم وشرّ كلامهم. وبعد فوات الأوان، يعود إلى أنبيائه الحقيقيين الصادقين .
إن أنبياء العهد القديم ساهموا مساهمة فعّالة في تطوّر الإيمان الذي بدأ وحيه في العهد القديم وتكمّل في الإيمان المسيحي. وهذا ما يبرر الأهمية التي أعطتها الكنيسة الأولى لكتب الأنبياء فأدخلتها في قوانينها وتبشيرها وطقوسها.
والفضل يعود، بنوع خاص، إلى كتاب العهد الجديد الذي اعتبر النبوءة عنصراً لاهوتياً أساسياً في مفهوم المسيحية. (دستور المجمع المسكوني "الكنيسة" عدد 12).
هذا هو وجه الأنبياء في العهد القديم. كلّموا الشعب باسم الله ووعظوه وشدَّدوا همته في طريق الرجاء المشيحاني. ولقد كان تأثيرهم عظيماً، فهيأوا شعب الله لاستقبال المسيح، قمة الأنبياء كما أُعلن في تبشير الكنيسة الأولى كلقب له (أعمال 3/22؛ 7/37)، كما أن المؤمنين بعد أن حل الروح القدس عليهم، يوم العنصرة، وجعل منهم إسرائيل الجديد، يتمتعون هم أيضا بموهبة النبوءة (أعمال 2/17). (دستور المجمع المسـكوني "الكنيسة"
(عدد 12).
2- دور ومكانة النبي في جماعة المؤمنين :
إن يقين الأنبياء بأنهم يقولون كلمة الله وليس كلمتهم، جعل أنبياء الكتاب المقدس ولا سيما يسوع، يقومون بأعمال جرأة غريبة. فقد تكلموا على موضوعات تفوق القوى البشرية، ويلتزمون بها بثقة تعود إلى الصبيانية، ظاهرياً، إلا أن التزامهم بها يعود إلى يقين سامٍ متماسك جداً. وعلى سبيل المثال لم يخشوا تحديداً سابقاً لمستقبل قريب جداً، ولم يكن للسخرية التي يسببها بعض التأخير في تحقيق ما أنبأوا به، (اش 5/19 وحز 12/21-23) أن تثنيهم عن الالتزام للمستقبل بثقة وبسلطة مطلقة آتية من الله.
والأنبياء أنفسهم يفسرون ثقتهم الكبيرة هذه، بيقينهم بأنهم يقولون كلمة الله وليست كلمة بشرية من عندهم. يُعَبَّر عن هذا اليقين في عبارات تفتتح وتختم الأقوال النبوية: "هكذا قال الرب" في البدء، و"قال الرب" في النهاية .
هذه الكلمة التي يحملها النبي والتي تغيّر حياة الجماعة من حال إلى حال، لم يكن مرغوبا بها دوما، لأنها ستغيّر ما هو مألوف في التقليد وتعيد تنظيم الحياة الرتيبة للناس والبعيدة عن الله. في الحقيقة لم يكن الأنبياء ضد التقاليد الموروثة في شعب الله، لكنهم توصلوا عبر اختبارهم الشخصي لله، أن يكونوا أحراراً إزاء التقاليد، كانوا لا شك مرتبطين بهذه التقاليد ومن خلالها بشعوب الشرق القديم، إنما لم يؤثر ذلك على مسلكهم، بل كان اختيارهم الشخصي لله هو الحاسم، فصاغوا لهم شخصية مميزة خاصة، فابعدوا الأشكال الإيمانية المبنية على القشور والمساومة وعملوا انطلاقا من حقيقة عاشوها وجوديا. وهكذا لم يلغوا التقليد، بل استعانوا به أحياناً في تبشيرهم، إنما التقاليد لم تكن أساساً لإيمانهم. بل فهموها على ضوء جديد هو ثمرة تغيير باطني جذري قادر على أن يحول الإنسان إلى خليقة جديدة.
فالأنبياء الحقيقيون هم أقل تعلقا بالمؤسسات القائمة مع أنهم لم يكونوا منعزلين، بل كانوا محاطين بمعاونين، فقد كان لإيليا النبي تلميذٌ هو اليشاع (2مل 1)، وكان لأشعيا تلاميذ (2مل 8/16)، وكان لإرميا كاتب (2مل 36/4)، هؤلاء الكتاب والتلاميذ كان لهم الدور الأكبر في تدوين ونشر ما وصلنا من أسفار وكتابات نبوية. فمعظم الأنبياء اللاحقون استوحوا من أسلافهم السابقين وعملوا على تطوير وتحديث هذه الأفكار. وحافظوا بذلك على الاستمرارية الفكرية والنبوية المرتكزة على قراءة الماضي. فبذلك نكتشف النبي الحقيقي من النبي الكاذب كما يشرح لنا ذلك إرميا (23/16، وحز 13/2). فالأنبياء الكذبة هم الذين يتنبأون بكلمة الرب على هواهم.
وتعرّض الأنبياء للمقاومة لأنهم كانوا يدافعون عن حقوق الشعب الأساسية بجرأة لاهبة فيندّدون بالحرمان من الأجر ومن الملكية (ار 22/13) ويفضحون الغش والاختلاسات (عا 8/5؛ هو 22/8) وارتشاء القضاة وتحيزهم (اش 1/23؛ مي 3/11) وطمع الدائنين (حب 1/4) والخبث (ار 6/6) والانحلال الخلقي (اش 5/20) وفساد الرعاة معكري ماء الخراف (حز 34/81) وأصحاب السلطة الدينية والمدنية الذين يُضِلُّون الصغار (عا 2/7) ويخالفون أحكام الشريعة (هو 5/1). اتخذ الأنبياء مواقف جذرية ضد الخبث في العبادات إبّان الأضاحي (عا 5/21) وتجاه الهيكل (ار 26/1-15) وتابوت العهد (ار 3/16)..
ولكن إذا صح أن الأنبياء هم ثوار زمانهم، فإن ثورتهم هي دعوة إلى الارتداد الروحي، وإلى تغيير ما في داخل الإنسان وهذا هو الأساس. يظهر الأنبياء ملحاحين يستعجلون استقدام المستقبلات، وبهم تفاؤل لا يتزعزع بانتصار دعواهم، لذا يعنفون معاصريهم على معاصيهم، ويدعونهم لتغيير سلوكهم والسير باستقامة أمام الله. يحدو الأنبياء رجاء راسخ، بان إله العهد سوف يحقق الوعد، من اجل إرساء مجتمع الغد على قاعدة العدل والبر والسلام، ولن يناقض يسوع هذا التوجه بل سيكمله بشرعة التطويبات في عظته على الجبل (متى 5/1-15) .
وما يميز النبي انه كان يؤمن حقيقة بأن الله يصب غضبه على أحداث التاريخ، ومع ذلك كان يؤمن بأن لهذه الكوارث معنى. كان الأنبياء يكتشفون بعفوية، تصدع البشرية في ظلمها وغرورها؛ فيستبقون بالرؤيا ما سيحدث من تناقضات ونزاعات وصراعات ومآسي.
فالنبي في الكتاب المقدس يحسن الانخراط في منطق التاريخ، فينطلق من كل المعطيات الماضية ويحكم على الحاضر، واكثر من ذلك يمكنه استشراف المستقبل. هكذا يمكنه أن يحافظ على ديناميكية في التغيير، فيتجنب الأفكار الكيفية وعدم الاستقرار في نسق التفكير والشعور وخضوع الموظف وخداع الممالق.
أخيرا إن الأنبياء معكرو حياة إسرائيل، وهم القادة الروحيون لمجتمع يكون مركزه الله، وهم حماة العهد، وشهود المستقبل. إنهم رجال الكلمة والروح أيضاً (هو 9/7). يتقصون الأحداث المعاصرة، ويكتشفون في مسيرة التاريخ المتقلبة والمأساوية آثار الله فيصبحون أصدقاء له حميمين، ورسله، يتركون كل ما من شأنه أن يُقيِّد لا محدودية الكلمة، وكل الاعتبارات البشرية، والعسكرية والديبلوماسية.. التي تعوق عظمة طرقه، وطبيعة ندائه القاطع.
3- التسلسل التاريخي للأنبياء :
آ - أنبياء العهد القديم :
وُجد الأنبياء منذ البداية عندما عقد الله الآب عهداً مع الشعب الذي آمن به فصار إلهه المعبود. بِدءاً من موسى وأخوَيه مروراً بصموئيل وجماعة الأنبياء وبداود الملك وأنبياء بلاطه كناتان النبي، وانتهاءً بالأنبياء الشعبيين ويمثلهم ايليا النبي وتلميذه اليشاع. هؤلاء جميعهم لم يكتبوا نبوءاتهم إنما كانت تُلقى إلى الشعب الذي حفظها وذَكَرها في بعض نصوص العهد القديم، وكان أنبياء هذه الفترة يشكلون السلسلة المتصلة التي بدأت من موسى والعهد الذي أبرمه الله معه في سيناء، وملتزمين مع داود وعائلته الأبدية المسيحانية، ومع تابوت العهد والهيكل اللذان يمثلان رموز العبادة الأصلية للإله والمتجذرة بالتقليد المتوارث.
في القرن الثامن قبل المسيح، تحول هذا التيار النبوي القديم الذي كان يتحرك باندفاع وحرارة الروح، إلى تيار نبوي مكتوب مؤَسَّس على الكلمة والدعوة الخاصة. نميز بين هؤلاء الأنبياء: أنبياء ما قبل السبي إلى بابل، وكانت غايتهم الرئيسية تعنيف ضد البلاط، وضد الرؤساء، وضد الشعب، الذين كانوا يخونون تقليد موسى، عائشين في شَرْك عبادة الإله الآلهة الأخرى. وكان خراب السامرة وأورشليم تأكيدٌ لما أنبؤوا به.
ويمثلهم عاموص وهوشع واشعيا الأول وناحوم وحبقوق وارميا، فهؤلاء الأنبياء الذين كتبوا قبل السبي وعظوا ضد تفسير بعض عقائد الإيمان وكأنه أمر سحري، مثل: إن أورشليم آمنة دوما لأنها مدينة الله، وان سلالة داود أبدية، والحماية الإلهية الدائمة للشعب المختار. كلها حقائق موحاة، لكنها مرتبطة بالتمسك بالعهد وبالعبادة الداخلية والروحية، وهذا ما لم يعد متوفراً في الملوك، والرؤساء والشعب، فقد غدوا كلهم مشركين.
ويأتي بعد ذلك أنبياء فترة السبي، وفي خلال هذه الفترة وضع الأنبياء سلسلة من النبوءات المعزية، كي يدعموا الشعب الذي وقع في اليأس، ممن بقي أو ممن سُبي، محرضينهم على النظر إلى ما بعد فترة الامتحان، إلى صهيون الجديدة المطهرة من قِبَل المسيا. ويمثلهم حزقيال وارميا واشعيا الثاني، هؤلاء الأنبياء تطرقوا إلى مواضيع مشتركة، مثل: تعزية المسبيين الذين في آلامهم يتطهرون من آثامهم القديمة ومن ثقتهم ببعض العقائد الإيمانية القديمة كأنها سحرية: كاختيار إسرائيل كشعب الله، والإيمان بأبدية بيت داود، والإيمان بقداسة الهيكل وبالعبادة الخارجية؛ وتكلموا عن الرجاء بخروج جديد، أفضل من الأول، مع عهد جديد مكتوب في القلوب مع تحوّل القديم إلى جديد والالتزام الفردي به؛ إصلاح صهيون المقدسة، المتحولة إلى جنة أرضية، كلها قداسة وطهارة؛ الانتصار على الأعداء التقليديين لمركزية الإله في الجماعة، خصوصا على بابل التي تجاوزت دورها كـ"مطرقة" الله.
ثم أنبياء ما بعد السبي وفترة الإصلاح، تمتد هذه الفترة من قورش إلى الاسكندر الكبير، ركّز الأنبياء كلهم، وكل واحد بحسب طبعه وميله وبحسب الجماعات التي يتوجهون إليها، على "الإصلاح".
بعضهم يقفون عند الإصلاح المادي. وآخرين ينشغلون بإصلاح كوني، يتمركز في صهيون المقدسة، وهو مكان اللقاء للـ"العائدين" وللأمم المهتدية. وهناك مجموعة ثالثة تتكلم ببساطة عن إصلاح كوني غير مركزي. من هؤلاء الأنبياء دانيال (1-6) واشعيا الثالث وحجاي وزكريا (1-8) ويونان ويوئيل.
إن أنبياء هذه الفترة تأملوا بإصلاح شامل: إعادة بناء الهيكل وأسوار مدينة الحضور الإلهي وروحنة صهيون المقدسة؛ وعودة المسبيين واهتداء الأمم كلها؛ وإعادة قيام خيمة داود عند ظهور إشعاع الشرق الحقيقي؛ وإصلاح الشريعة في الشعب وإطلاق القانون الذي يعظه عبد يهوه لكل الشعوب؛ وحياة سهلة تكون في جنّة أرضية جديدة وقبول تحمل الألم بدلا عن الآخرين محبة لكل الناس.
الفترة الهلينية. بعض الأنبياء الذين خاب أملهم من الأسلوب الإصلاحي الذي تحقق، أن كان أولئك ذوي الطابع الوطني، أو ذوي الطابع الكوني، إن كان المركزيين أو اللا مركزيين، حلموا بأن يتحول هذا العصر الشرير بواسطة تدخل مباشر من الله، الذي يفتتح ملكوت "ابن الإنسان" وقديسي العالي (تيار رئوي).
يوصف المسيح المرغوب به من قِبَل هؤلاء الأنبياء بأنه: سيصل أورشليم، وسيكون متواضعاً وعادلاً، راكباً جحشاً مثل المواهبيين القدماء، مفتتحاً ملكوتاً سلامياً عالمياً. عندها ستصبح فلسطين كلها فردوساً مفتوحاً وكل الشعوب ستهرع إليها لتحتفل، بالقداسة، بعيد الأكواخ.
أنبياؤه باروك ورسالة أرميا. هؤلاء الأنبياء يحولون الخلاص إلى العصر الآتي، وينسبونه إلى ابن الإنسان، وهو كائن آت من السماء.
فترة التيارات الصوفية والمسيحانية. كان التعليم الرسمي في هذه الفترة يقول بان سلسلة الأنبياء قد توقفت، ولا يمكن لأحد أن يزيد شيئا جديدا على النبوءات القديمة. وكان يُنتَظر فقط وصول المسيح، لكي يقرر في مسائل بقيت معلقة (1مكابيين 4/46). وبسبب هذا الإيمان، انتهت النبوءة من اليهودية الرسمية وتراجعت إلى التيارات الصوفية والمسيحانية.
1) أنبياء الصدوقيين. بالنسبة لهم فان الحبر الأعظم وحده يحوز على التقدير الذي كان للأنبياء، لأنه الشخصية الوحيدة التي كانت تستطيع أن تحتك، في قدس الأقداس، مع الألوهية، والذي يحمل اسمه على جبينه. فقط هو، لأجل أسباب الخدمة، كان بإمكانه التنعم بالتواصل الإلهى، ولذلك يعتبر الخليفة الرسمي للأنبياء القدماء.
2) أنبياء الحسانيين. في تيار الحسانيين وُجد منهم أفراد آمن بهم معاصروهم واعتبروهم كأنبياء حقيقيين.وفي الحقيقة أن النبوة في الفترة القريبة من المسيح كانت قد اختلطت مع مهمة الكهنة ومع موهبة الصوفيين الذين يستكشفون المستقبل، من خلال تفسير الأحلام، وتفحص أسرار الأنبياء القدماء، باستعمال موهبتهم في تفسير الكتب المقدسة.
ب - أنبياء العهد الجديد:
أن المسيحية كجماعة مسيحانية أعضاء ورأس ومؤمنين، وَعَت بأنها وريثة الروح النبوي للعهد القديم.
فقد كانت الكنيسة، منذ انطلاقتها مع العنصرة، مقتنعة بأنه قد بدأت في العالم كله حقبة الروح التي تنبأ بها يوئيل (3/1ت؛ 2/16-21). وشعرت بان النبوءة واحدة من أساسات تكوينها نفسه (اف 2/20)؛ وهذا ما اختبرته في يوم المعمودية (اع 19/6-7)، واحتفظت دوما بمكانة جليلة للأنبياء واعتبرتهم من جوهر ايمانها ووضعتهم بالأهمية بعد الرسل مباشرة (1قور 12/28؛ اف 4/11).
إن موهبة النبوة في الكنيسة كانت من الأساسيات (1قور 12/7-11)؛ فهي تلزمها لأجل بنيانها، وتحريضها للسعي نحو الأفضل، وتعزيتها في الشدائد (1قور 14/3-5). حتى ان المعرفة العميقة للإنجيل غالبا ما كانت متأتية من هذه الموهبة (1قور 13/2؛ 14/6).
ولأن للنبوءة كل هذا الاجلال والتقدير في الكنيسة، يمكننا فهم لماذا كان للموضوع النبوي دور في توضيح وإظهار أن أعمال وأقوال المسيح والكنيسة ذاتها كانت معلنة مسبقا من قبل أنبياء العهد القديم، وانه كان موضوعا أساسياً لمعلمي التعليم المسيحي. فقد كانوا مقتنعين بان النبوة لم تكن ثمرة الإرادة الإنسانية، بل من الهام الهي، لهذا كانت النبوءات مشرقة كسراج في ليل معتم (2بط 1/19-21).
وهكذا نفهم أيضاً لماذا قدمت الكنيسة مؤسسها كـ"نبي" قبل أن تقدمه كإله، ولماذا توارثت أسماء كل الذين حظوا، بحسب التقليد، بالموهبة النبوية.
يسوع الناصري، النبي. اكثر من مرة، خلال حياته الأرضية، آمن الناس بيسوع كواحد من الأنبياء ذوي الأسلوب القديم: ربما نبي مشهور "عاد للحياة" (مثلا ايليا أو ارميا: متى 16/14؛ مر 8/28؛ لو 9/19). وفي بداية تبشير الكنيسة به، قدّمته كالنبي الذي سيأتي والذي تكلم عنه موسى وأعلنه مساويا له بالذات (تث 18/15)، فان العبرانيين والسامريين كانوا ينتظرونه. وهكذا قدمه بطرس عند وعظه بشفاء المقعد (أع 3/22)، كذلك فعل اسطفانس أمام المجمع (اع 7/37).
حوله سيدور، أثناء حياته، أنبياء آخرين صغار، كنجوم حول الشمس. زكريا، اليصابات، سمعان الشيخ، حنة النبية، يوحنا المعمدان.
في العهد الجديد، تابع يسوع مسيرة الأنبياء، وان كان في أسلوب جديد وفي إبداع جديد. وأول ردة فعل قام بها الشعب حين التقى بيسوع لأول مرة، هو انه آمن به نبيا كبيرا: "لقد قام بيننا نبي عظيم وافتقد الله شعبه" (لو 7/16. ويسوع نفسه كان يعتبر ذاته نبيا (متى 13/57؛ لو 13/33) وكان يتصرف كنبي. وان فحوى ندائه النبوي يحمل المميزات الجوهرية لخطب الأنبياء: يتكلم لغة واقعية تفضح التباس رؤساء الدين والسياسة في عالمه.
والكنيسة أيضا توارثت أسماء أنبياءها، أي أولئك الذين أرسلهم الله لأجل "بنيانها، وحضّها وتعزيتها" خلال السنوات الصعبة من طفولتها. مثل حنانيا دمشق (أع 9/10-19)، وأنبياء أورشليم (أع 11/27)، واغابُس من أورشليم (أع 11/28ت، 21/10-11)، وأنبياء إنطاكية (أع 13/1-3؛ اف 3/5-6)، ويهوذا وسيلا (أع 15/32)، وأنبياء مختلفين: في طرواس (أع 20/22) وفي لبنان (اع 21/4)، بنات فيلبس (أع 21/9)، أنبياء طيموتاوس (1تيم 1/18، 4/14؛ أع 13/2)، نبوءة الرؤيا (رؤ 1/3؛ 11/6؛ 19/10؛ 22/7. 10. 18. 19) والكلام عن الشاهدين (رؤ 11/1-14) في نهاية العالم وبهما تنتهي سلسلة أنبياء العهد القديم والجديد .
في الحقيقة أسس يسوع كنيسته لتكون صدى صوته النبوي في كل العصور وفي كل العالم. وهذا هو هدف الكنيسة ورسالتها. ولذا يجب أن يأخذ التبشير بالكلمة مكانه الأساسى والليتورجيا ذاتها هي عبادة تبشيرية بالكلمة. ومع أن يسوع على مثال الأنبياء، اخذ موقفا انتقاديا من الليتورجيا ومن الكهنة. فلقد أسس ليتورجيا جديدة، ولكنها ليتورجيا ذات طابع نبوي إذ معه تحوّل العشاء السري الفصحي إلى عشاء افخارستي، هو محور العهد الجديد. وقد شددت الجماعات المسيحية الأولى على هذا الطابع النبوي والتبشيري للعشاء الافخارستي.
ولذا من الصعب أن نتصور كنيسة خالية من كل طابع نبوي، وإلا تخون الإنجيل. وتستعيد الكنيسة اليوم تدريجيا مواهب النبوة، فان شعب الله بأسره يشارك في هذه رسالة المسيح المثلثة الكهنوتية والنبوية والملوكية. ويقول البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي "حول دعوة المؤمنين العلمانيين ورسالتهم في الكنيسة والعالم": "يشارك المؤمنون العلمانيون في الخدمة النبوية للمسيح التي تؤهلهم وتجندهم لقبول الإنجيل بالإيمان والتبشير به بالكلمة والأعمال دون التردد في التنديد بالشر بجرأة إذ يتحد العلمانيون المؤمنون بالمسيح النبي العظيم، ويشهدون بالنبوة لقيامته" .
4- أنبياء الحاضر والحركة النبوية اليوم في كنيستنا :
إن رسالة أنبياء الحاضر في الكنيسة، هي في الحقيقة ذاتها رسالة أنبياء العهد الجديد كما مر معنا. فهم موجودون لأجل "بنيانها، وحضّها على الثبات، وتعزيتها في الشدائد". إن المسيحيين جميعا بحكم عمادهم هم أنبياء لأجل بنيان الكنيسة بما يتكلمون ويعملون في هذا العالم، "إن السيد المسيح "الذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم"
(يو 10/36) أشرك جسده السري كله بمسحة الروح التي مُسح بها. فبه يصبح المؤمنون جميعهم كهنوتا مقدسا وملوكيا، يقدمون الذبائح الروحية لله بيسوع المسيح ويخبرون بعظائم ذاك الذي دعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب. فليس من عضو إلا وله دور في رسالة الجسد كله، إنما على كل واحد أن يقدس يسوع في قلبه وان يشهد للمسيح بروح النبوة". (قرار مجمعي في حياة الكهنة وخدمتهم الرعوية، رقم 2).
إن غاية العمل النبوي اليوم في الكنيسة، هي تركيز على الأمانة للمسيح رأسها، فيصبح ملكاً حقيقياً على القلوب وعلى الحياة في كل جوانبها، يتجلى ذلك بقول البابا يوحنا بولس الثاني: "افتحوا الأبواب، بل شرّعوا الأبواب للمسيح"، وهي أيضا عيش الدعوة الإنجيلية بأمانة في واقع عصرنا اليوم، والذي يتم باتباعنا المسيح مثالنا الحقيقي.
وتأخذ النبوءة اليوم شكل الوعظ والتعليم والبحث اللاهوتي الأمين لكلمة الله، يضاف إلى ذلك العمل النابع عن إلهام الله للأشخاص كي يقوموا بأعمال الرحمة والمحبة، بكل تجرد وطاعة ومحبة، تجعل المسيح نفسه يتجسد في عالم اليوم.
وإذا أردنا رسم صورة لنبي اليوم لنتعرف إليه في ما بيننا فسيكون على مثال أنبياء الماضي، انه إنسان "يرى ما لا يراه الناس، لأنه ينظر إلى الأمور بعين الله". أن الله اختاره ودعاه أرسله إلى اخوته لينبئهم بما يصلح مسيرتهم ويعيدهم إلى أصالة الإيمان، إلى العلاقة مع الله، وذكر عهدهم معه منذ عمادهم. روح الله عليه فهو متحد بالرب اتحادا حميما، يعاني من معاصريه الإهمال وعدم الفهم فيتحمل الصعوبات والآلام في سبيل رسالته، ويبقى منبوذا رغم انه يقابل الجميع بالمحبة التي علمنا إياها المسيح (1يو 4/19-21) أن كلامه قد يكون قاسيا لأنه يؤنب المسيحيين على عدم أمانتهم للمسيح وكنيسته، لكن ثقته هي في المسيح الذي يقويه ويرسله وليس في البشر، إذ انه لا يأتي من عنده بما يقول بل قد اختبر الرب في الكنيسة وفهم مشيئته وإياها يعلن. سيواجه الأنبياء الكذبة من حوله الذين يفنّدون كلامه ويحاجّوه ليفرغوا رسالته من مضمونها لتبقَ الأمور كما هي عليه.
انه لا يلغي تقليد الكنيسة بل هو مرتبط به، لقد عاش تقليد الكنيسة وتعليمها الموروث ومن خلاله اختبر الله اختبارا شخصيا فتمّ تغير جذري في حياته وكان نقطة تحول مميزة، فغدى يفهم التقليد على ضوء اختباره الشخصي لله ضمن الكنيسة. وهو ليس بالضرورة ضد المؤسسات الكنسية إنما يبحث فيها عن روح الله القدوس الذي أسسها والذي يجب أن يحييها دوما. وهو أيضا قارئ جيد للتاريخ: تاريخ الكنيسة وتاريخه الشخصي وتاريخ العالم، فالماضي الذي يحمل كل دروس الله لشعبه، هو ذاته ما يعيشه البشر في أحداث الحاضر، ومنها يستشف ما قد يكون عليه المستقبل مع الله أو بدونه.
إن كان أنبياء الحاضر ثوارا فان ثورتهم هي دعوة الناس إلى التوبة وإلى أحياء الحياة الروحية التي فيهم، وإلى تغيير ما في داخل الإنسان، تغيير السلوك والسير بأمانة أمام الله.
أحداث نبوية كثيرة جرت في القرن العشرين تتوجت بأهم حدث كنسي نبوي وهو المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي جعل الكنيسة تعيد التفكير بذاتها وبالأمانة لرأسها المسيح ولرسالتها في عيش الحياة الإنجيلية في العالم، وهاهي ذي كنائسنا في الشرق يهب عليها روح الله القدوس ويوقظها من غفلتها وعدم أمانتها، فقد انعقد مجمع لأجل لبنان سنة 1995، واليوم ينعقد مجمع بطريركي للكنيسة المارونية، والمجمع الأبرشي الأول لطائفة الروم الكاثوليك، أحداث تقرأ الكنائس فيها تاريخها وتنظر إلى ذاتها نظرة صدق لتعود إلى العيش بأمانة للمسيح وإنجيله في عالمنا المشرقي المتألم والمشتت والمُنتظِر تجلي الرب فيها، فتكون خميرة في العجين وتعود إليها الشجاعة في فتح قلبها لبيئتها والتخلي عن قوقعتها وأنانيتها وحذرها من الآخر كائناً مَن كان.
ويرسل الله أشخاصاً أنبياء لكنيسته اليوم. فكل أسقف وكاهن وراهب وراهبة وعلماني وعلمانية يصلي ويتأمل كلمة الله ويحب الرب يسوع ويعطيه المكان الأول في حياته، ويعيش رسالة الإنجيل في مكانه في الكنيسة والعالم، بتجرد ودون مصالح ذاتية أو استغلال للكلمة هو إنسان تحركه روح نبوية، يفهم معنى حمل الصليب مع المخلص، فتنعش أقواله وأعماله اخوته المؤمنين والكنيسة، كي تثبت وتتجذر اكثر في مكانها وتكون شاهدة بأعمالها على حضور المسيح فيها وتستطيع أن تُجدسه في بيئتها التي تعيش فيها. من هؤلاء أشخاص معروفين أو مغمورين أشخاص عاديين أو منهم من أُعلنت قداسته.
ومن قديسي عصرنا البابا يوحنا الثالث والعشرون والأب بيو والأم تيريزا وكلهم عاشوا روح النبوة وهذا ما يتضح من أقوالهم وأعمالهم. حتى قديسي شرقنا كشربل ونعمة الله ورفقا وغيرهم ممن هو غير معروف بعد، عاش بروح النبوة والأمانة حتى النهاية للمسيح الرب، بطاعته وحبه للكنيسة جسد المسيح السري. انهم علامات أمامنا لنعيش على مثالهم تجددنا اليوم.
وإني أرى تيارات نبوية تحرك كنيستنا المشرقية اليوم، الخّصها بنقاط ثلاثة: معرفة الذات، وحدة المسيحيين، الحضور الإسلامى، وهي مرتبطة ببعضها حتماً.
سأتعرض لهذه التيارات من خلال أقوال نبي عصرنا الكبير والذي زار بلدنا الحبيبة سوريا من 5-8 أيار 2001، وهو قداسة البابا يوحنا بولس الثاني. ومن عظته في القداس سأقتطف ما يناسب موضوعنا:
1) في معرفة الذات
كل إنسان وكل جماعة إذا نسيت ماضيها فقدت رشدها، وكذلك الكنيسة، وكل كنيسة تحمل ماضيها بحسناته وسيئاته، وفي ماضي كل طائفة عُجن ما هو لله مع ما هو للبشر، وما تعيشه كنائسنا اليوم هو ناتج ذلك الماضي، وللأسف فان كنائسنا توقفت في ماضيها عند ما هو بشري فقط ولم تنبش فيه ما هو الهي لتعيد له الحياة. لذلك ينبهنا قداسة البابا كي لا نقف عند ذواتنا متقوقعين على ما تعودنا عليه في كل طائفة من طوائفنا، بل فلنعد إلى أصالة الكنيسة مهما كانت الطائفة فيقول متحدثا عن بولس الرسول: "فاللقاء بالإيمان، مع القائم من الموت، هو نور على درب البشر، نور يغير الوجود. إن حقيقة الله تتجلى بشكل رائع على وجه المسيح الساطع، فلنوجه، نحن أيضاً، أنظارنا إلى الرب! أيها المسيح نور العالم اشرق علينا وعلى جميع الناس بالنور الذي سطع من السماء وأحاط بالرسول! أضئ عيون قلوبنا وطهرها كي نتعلم أن نرى كل شيء بنور حقيقتك ومحبتك للإنسانية!
ليس للكنيسة نور آخر تنقله للعالم سوى النور الآتي من الرب. لقد أخذنا النور الإلهى نحن الذين اعتمدنا بموت المسيح وقيامته، فصرنا أبناء النور".
"إن الكنيسة مدعوة، على مثال بولس، إلى توسيع نظرتها لتشمل أقاصي الأرض، فتواصل الرسالة التي أُعطيت له بأن تنقل نور القائم من الموت إلى كل الشعوب وكل الثقافات، مع احترام حرية الأشخاص والجماعات البشرية والعائلات الروحية. إن الجماعات البشرية الغفيرة، إلى أي اصل انتمت، مدعوة إلى أداء المجد لله.
وعلى مثال بولس، يواجه تلاميذ المسيح تحديا كبيرا ولزاما عليهم أن ينقلوا البشرى السارة بلغة تناسب كل ثقافة دون أن يضيع منها الجوهر أو يتغير فيها المعنى. فلا تخافوا إذن أن تشهدوا انتم أيضا، بالكلام وبكل حياتكم، للبشرى السارة هذه".
2) في وحدة المسيحيين
بعد أن تنظر الطوائف إلى ذاتها ككنيسة المسيح الحية، ستصطدم حتما بوجود الانقسامات فيها والتي هي أمر جوهري في ذات الكنيسة، لذلك يقول البابا: "أن هذه البشرى السارة يجب أن تحث جميع تلاميذ المسيح لأن يفتشوا بكل غيرة عن سبل الوحدة حتى إذا ما جعلوا صلاة المسيح خاصتهم ليكونوا بأجمعهم واحد يؤدون شهادة اكثر أصالة ومصداقية.
متحدين ببطاركتكم وأساقفتكم، المسيح ينادينا لنعود إلى بعضنا البعض بالمحبة التي تصنع وحدتنا. كونوا فخورين بتقاليد ليتورجية كنائسكم الشرقية الروحية العظيمة! فهي تعود أصولها إلى تقاليد كنيسة المسيح الواحدة وتشكل جسورا بين مختلف المشاعر".
3) في الحضور الإسلامى
في الوقت الذي تعي فيه الكنيسة السورية نفسها وتسعى لوحدتها، تعي أيضا وجودها في بيئة إسلامية وهي تسائلها دوما وعليها أن تجيب. وهذه الإجابة تنعكس على معرفتها ذاتها وعلى تألمها لانقساماتها، يقول البابا: "لا شك أن انقسام المسيحيين هو عائق في طريق إعلان الإنجيل، والأكثر من ذلك، فان الحركة المسكونية ليست فقط مسألة داخلية في الجماعات المسيحية، بل أنها تتعلق أيضا بحب الله للبشرية جمعاء في يسوع المسيح. الوقوف عائقا أمام هذه المحبة هو إهانة لله في تصميمه على جمع الناس في المسيح، لا شك أن العيش، على مدى عصور، بكل هذا القرب من المسلمين، يتيح للمسيحيين في سورية أن يفهموا العلاقة الحميمة بين وحدة الجماعة والشهادة النابعة من الشراكة الأخوية".
كما أن وجود الكنيسة في الوسط الإسلامى يدفعها لتشهد على أيمانها بالمسيح بالاشتراك مع الإسلام في بناء الوطن الواحد، يقول البابا متوجها إلى الرعاة: "تستطيعون أولاً أن تسهموا في بنيان البلد المزدهر اقتصاديا، حيث لكل مواطن ذات الحقوق والواجبات أمام القانون، وحيث الشعب كله يهتم بالعيش في سلام عادل داخل حدوده مع جيرانه. الإسهام في رفع الثقة بمستقبل وطنكم هو إحدى أهم الخدمات التي يمكن للكنيسة أن تؤديها للمجتمع. إن وسيلة عمل أخرى هي تشجيع المسيحيين على التضامن بمشاركة صعوبات شعبكم وآلامه. إن تأثيركم على الشبيبة كبير: خاطبوا قلبهم السخي، اشرحوا، صححوا، شجعوا وبالأخص ازرعوا فيهم، بمثلكم الشخصي، القناعة بان القيم المسيحية، قيم القلب والروح، هي القادرة على إسعاد الإنسان، انقلوا إلى شبيبتكم مثالاً إنسانياً ومسيحياً واجعلوهم يكتشفون، "إن المكانة التي خصهم الله بها هي من النبل ما لا يسمح لهم بالهروب منها". بهذه الروحية، يغدو الحوار بين الأديان والتعاون المتبادل، لا سيما بين المسيحيين والمسلمين، إسهاما مهماً في السلام والتفاهم بين الناس وبين الجماعات. وعلى هذا الحوار أن يوصل أيضا إلى شهادة مشتركة من أجل الاعتراف الكامل بكرامة الشخص البشري".
فلنكن جميعنا أنبياء لنحقق فعلاً غاية العهد الجديد بأن نكون أبناء الله
 
قديم 14 - 08 - 2014, 03:12 PM   رقم المشاركة : ( 5152 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

دعوة موسى للخدمة



همسات روحية


لنيافة الأنبا رافائيل

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة



ظهر الله لموسى بلهيب نار في وسط عُلّيقة ليدعوه للخدمة.. وكان موسى قد سبق وتطوع بإرادته للخدمة منذ أربعين سنة سبقت، ولكنه فشل لأنه اعتمد على ذراعه وحكمته وسلطته الملكية.



الآن وبعد أن صار موسى شيخًا في الثمانين من عمره، وبعد أن فقد مكانته الاجتماعية والسياسية، وبعد أن طعن في السن وماتت عنده حكمة الكلام والمعرفة التي استقاها في مصر، وبعد أن تدرب على فنون الرعي.. جاء الله يكلفه بأخطر وأصعب مهمة شهدها التاريخ البشري.. خروج شعب بأكمله من وسط شعب آخر يحكمه ملك عنيد متسلط قوي.



لقد كانت المهمة صعبة ومرعبة لموسى، لذلك اعتذر خمس مرات عن عدم قبول الدعوة، ولكن الله سنده وشجعه، وأمره بالذهاب إلى فرعون لإخراج الشعب، ونجح موسى في ذلك بقوة الرب.



ونحن أيضًا مدعوون أن نخدم المسيح إلهنا.. أولاً في حياتنا الخاصة بإخراج حياتي ووقتي وجهدي وما لي من تحت نير الشيطان، وثانيًا بخدمة أخوتي وافتقادهم للخروج من سلطان إبليس.



تعالوا نرى معًا كيف شجّع الله موسى على إكمال الخدمة التي طلبها منه:



(1) احتج موسى بضعفه: "فقالَ موسَى للهِ:"مَنْ أناَ؟" (خر3: 11). فشجعه الله قائلاً: "إني أكونُ معكَ" (خر3: 12).



وكذلك حينما نشعر بضعف يعدنا الله أن يكون معنا.. "تكفيكَ نِعمَتي، لأنَّ قوَّتي في الضَّعفِ تُكمَلُ. فبكُل سُرورٍ أفتَخِرُ بالحَري في ضَعَفاتي، لكَيْ تحِلَّ علَيَّ قوَّةُ المَسيحِ. لذلكَ أُسَرُّ بالضَّعَفاتِ والشَّتائمِ والضَّروراتِ والاِضطِهاداتِ والضيقاتِ لأجلِ المَسيحِ. لأني حينَما أنا ضَعيفٌ فحينَئذٍ أنا قَويٌّ" (2كو12: 9-10). ثق أن الله معك يسندك ويقويك ويعطيك مهابة ونصرة في عيون أعدائك.. فقط اشعر بعجزك أمامه وسلِّم له طريقك.



(2) احتج موسى بأنه لا يعرف اسم الله، فأجابه: "يَهوهْ" (خر3: 15).



وأنت أيضًا لن تنتصر على الشيطان دون أن تتعرف على اسم الرب (يسوع).. "اِسمُ الربِّ بُرجٌ حَصينٌ، يَركُضُ إليهِ الصِّدِّيقُ ويتمَنَّعُ" (أم18: 10). "كُلَّ مَنْ يَدعو باسمِ الرَّب يَنجو" (يؤ2: 32)



(3) خاف موسى أن لا يصدقوا أن الله كلّفه بهذه المأمورية، فسنده الله بالآيات والمعجزات.



وأنت كذلك سترى عجائب الله في حياتك حينما تسير معه.. "مَنْ مِثلُكَ بَينَ الآلِهَةِ يارَبُّ؟ مَنْ مِثلُكَ: مُعتَزًّا في القَداسَةِ، مَخوفًا بالتَّسابيحِ، صانِعًا عَجائبَ؟" (خر15: 11). "الفاعِلِ عَظائمَ لا تُفحَصُ وعَجائبَ لا تُعَدُّ" (أي5: 9). إن الله يسند أحبائه حتى إنه لا بد أن يعترف الأعداء بيد الله العاملة في حياتنا.. "إذا كانَ مُردَخايُ الذي ابتَدأتَ تسقُطُ قُدّامَهُ مِنْ نَسلِ اليَهودِ، فلا تقدِرُ علَيهِ، بل تسقُطُ قُدّامَهُ سُقوطًا" (أس6: 13).



(4) احتج موسى بأنه ليس صاحب كلام، وأنه ثقيل الفم واللسان، فوعده الرب "اذهَبْ وأنا أكونُ مع فمِكَ وأُعَلمُكَ ما تتكلَّمُ بهِ" (خر4: 12).



وهو نفس الوعد الذي وعدنا به مخلصنا الصالح: "فمَتَى أسلَموكُمْ فلا تهتَمّوا كيفَ أو بما تتَكلَّمونَ، لأنَّكُمْ تُعطَوْنَ في تِلكَ السّاعَةِ ما تتَكلَّمونَ بهِ، لأنْ لستُمْ أنتُمُ المُتَكلمينَ بل روحُ أبيكُمُ الذي يتكلَّمُ فيكُم" (مت10: 19-20). إن الله لا يتركنا نخدم بدونه إن سلّمنا له واتكلنا عليه، وصار هو العامل فينا حقًا.



(5) أخيرًا .. لم يجد موسى حجة أخرى فقال: "أرسِلْ بيَدِ مَنْ تُرسِلُ" (خر4: 13). فحمي غضب الرب عليه وأرسل معه هرون.



لا ينبغي يا أخوتي أن نتكاسل عن تلبية دعوة الرب للخدمة، بل نقول مع إشعياء النبي: "هأنذا أرسِلني" (إش6: 8).



وأيضًا يجب أن نفهم أن ذهاب موسى إلى فرعون ومعه هرون معناه أنني يجب أن أواجه الشيطان ومعي موسى وهرون، موسى يمثل كلام الله، وهرون يمثل العبادة والطقس والكهنوت.. لن تنتصر على فرعون الفعلي إلا بالصلاة والكتاب المقدس، ينبغي أن يكون معك هرونك أي أب اعترافك الذي يسندك ويقويك أمام فرعون الشيطان
 
قديم 14 - 08 - 2014, 03:12 PM   رقم المشاركة : ( 5153 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

مطالب المسيح الثلاثة للخلاص


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة



الأرشمندريت/ سلوان أونر - اليونان

لم يتوقع تلاميذ المسيح أن يكون حالهم أفضل من حال سيدهم، فالتلميذ الأمين لا يتبع معلمه فقط في الحياة بل وفي الموت.

فكرة موت المسيح بالنسبة لتلاميذه لم تكن مقبولة بل وبعيدة عن أذهانهم.

فكرة المخلّص المتألم غير واردة في الفكر اليهودي ولذلك لم يفهمها التلاميذ

بل حاول بطرس أن يجنّب المسيح عن الآلام: "فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره" (مر 32:8)، والمسيح اعتبر هذه الحركة من بطرس عبارة عن حركة شيطانية لأنه ستؤدي لعدم تحقيق الهدف الذي تجسد له السيد: "فانتهر بطرس قائلاً اذهب عني يا شيطان" (مر32:8).

وعندها خاطب الشعب والتلاميذ كي لا يظنوا أن الذي يتبع المسيح سيعيش براحة وبحبوحة قائلاً: "ودعا الجمع مع التلاميذ وقال لهم من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (مر34:8) موضحاً ماذا ينتظر الذين سيقبلون تعليمه ويتبعونه.


مطالب المسيح الثلاث:

الطلب الأول هو أن ننكر ذاتنا (مر34:8). النكران يعني التخلي عن محبة الذات وعن كل ما في هذه الحياة أي التخلي عن كل المتطلبات الجسدية وبالإضافة لها أن نكون محبي للتعب.

والتخلي عن المتطلبات البشرية يعني موت الأنا. بالنهاية نكران الذات يعني التخلي عن كثير من أمور حياتية أرضية للسير في طريق الصليب والآلام. قدرتنا على نكران ذاتنا تتحدد بمدى كرهنا للخطيئة وبمدى عمل نعمة الله فينا.

الطلب الثاني هو أن يحمل كل منا صليبه "ويحمل صليبه"، وبحمله يعني القبول بكل مصاعب الحياة وتجاربها بفرح و مجاهدين في كل لحظة لطلب نعمة الرب المنقذة، فلم يصعد أحد إلى السماء بسهولة.

كل القديسين حملوا صليبهم الذي أعطاهم إياه الرب سائرين به حتى النهاية ناكرين هذه الحياة وما فيها من أجل المسيح والإنجيل وهذا ما يعني الخلاص: "ومن يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يخلصها" (مر35:8).

الطلب الثالث هو أن نتبع المسيح "ويتبعني" الكثير من اللصوص صلبوا أيضاً، لذلك أراد المسيح القول لا يكفي أن نصلب ذاتنا بل يجب أن نتبعه

وهذا يعني أن نطبق وصاياه ونكتسب الفضائل كارهين الخطيئة مطبقين بغيرة وصايا وناموس الرب.

واجب المسيحي:

في البداية يجب معرفة أن لا خلاص خارج صليب المسيح. وهذا ما شدد عليه بقوله: "الحق الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض تمت فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير" (يو24:12). وبقدر ما نحن متعلقين بهذا العالم بقدر ما هو صعب حمل الصليب، ولنواجه الحقيقة ونكون صريحين أغلبنا متعلّق بحب الذات وهذا العالم.

وحب الذات له أشكال كثيرة فنراه في حب المال و التعلق بملذات هذا العالم و مرض العجُب والحقد و الملذات الجسدية و التمسك بآرائنا... الخ

وإذا لا نقلع جذور حب الذات صالبين أنفسنا وأهوائنا لا يمكننا أن نكون تلاميذ حقيقيين للمسيح.

القوى الشيطانية تفعل المستحيل كي نقع في حب الذات وهن نحن بحاجة لمعونة الرب، صليب المسيح سيساعدنا كي نتشدد في جهادنا.

فلنبتعد عن كل ما هو متجذّر فينا ويفصلنا عن المسيح، هذا التخلي عن الذات للارتباط بالمسيح صعب جداً لكن من ورائه يأتي الخلاص، هو الطريق الضيق للكنيسة. وحتى نستطيع السير فيه علينا أن نقوى بأسرار الكنيسة فنستطيع أن نواجه أهوائنا وخطايانا.

يقول بولس الرسول: "أموت كل يوم" (1كو31:15) هو كان يموت كل يوم في العالم ليعيش قرب المسيح ونحن علينا فعل ذات الشيء كي ننال الخلاص.

امين
 
قديم 14 - 08 - 2014, 03:16 PM   رقم المشاركة : ( 5154 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

الصلاة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الأب بسام آشجي
مقدمـة
لقد عرف الإنسانُ الصلاةَ، منذ فجر التاريخ، "على صور وأشكال مختلفة"


1. ولقد تميّز بها، من جملة ما تميّز، عن باقي الكائنات. إنها فتح الآفاق للتواصل مع ما، أو مَنْ، يتجاوز الحدود الإنسانية. فالأديان، وهي ظاهرة إنسانية، عرفت بمعظمها الصلاة، وقد تميّزت هي الأخرى بعضها عن بعض، بطرق وأشكال صلواتها. واختلفت الصلوات من دين إلى آخر ليس بمحتواها وتوجهها وحسب، بل أيضاً في مكانتها وموقعها ومنهجيتها.
إن تلاميذ يسوع، وقد اعتادوا على صلوات معاصريهم آنذاك، شاهدوا في صلاة يسوع ما تميّز به، لذلك أرادوا بدورهم أن يختبروا هذه الفرادة فهتفوا إليه: "علمنا أن نصلي" (لو11/1). كأنهم بهذا السؤال يكتشفون المنطلق في اتبّاع يسوع، والتشبه به. وكأن صلاته هي مفتاح فهم شخصه. ألم يتميّز بالهتاف إلى الله بـ"أبّا" يا أبتِ!؟... فهل يمكننا، إنطلاقاً مما سبق، دراسة ظاهرة "الصلاة" بحسب الإيمان المسيحي بوجه خاص؟.. هل هناك صلاة مسيحية تختلف بمفهومها وممارستها بشكلٍ جذري عن باقي الصلوات في الأديان؟.. هل الصلاة في المسيحية "ركن" من أركان الإيمان أم أنها منطلقه، أي لا يمكن للمسيحي أن يكون ملتزماً بإيمانه ما لم تكن الصلاة الأساس فيه؟.. كيف يقال أن المسيحية هي دين معاملة؟.. ما هي الصلاة في المسيحية؟.. وما علاقتها بالحياة والأخلاق؟.. سنحاول تلمس الإجابة على هذه التساؤلات في همسات الروح القدس من خلال هذا الحديث.
الصلاة في الكتاب المقدس
الصلاة عند معاصري يسوع
لقد كانت صلوات العهد القديم هي الصلاة المعاصرة ليسوع. وقد ترافقت غالباً مع أعمال طقسية كانت تقام في الهيكل أو المجامع أو البيوت، كالبركات والذبائح والمزامير. إن الميزة الأساسية لهذه الصلوات هي ارتباطها المباشر بتاريخ شعب العهد القديم، بالرغم من أنها كانت، في الكثير من الأحيان، تتأمل عمل الله في الكون. إن صلوات العهد القديم ترتبط بشكل مباشر بالأحداث: "تنبع انطلاقاً مما حدث، أو يحدث، أو لكي يحدث شيء ما، حتى يمنح الله خلاصه للأرض. فمضمون الصلاة يحدّد صلتها بالتاريخ. والتاريخ المقدس من جهته مطبوع على الصلاة: المدهش أننا نلاحظ كيف تبدو الفترات الحاسمة من هذا التاريخ مقرونة بصلاة الوسطاء أو الشعب بأسره، استناداً إلى معرفة قصد الله، طلباً لتدخله في اللحظة الراهنة"


2. فالصلاة عند معاصري يسوع هي محاولة لتأوين صلوات العهد القديم في اللحظة الحاضرة. أي يود المصلي، من خلال صلاته للكتاب المقدس، أن يشاهد عمل الله الآن، أو يقول له من خلال الصلاة أن يعمل الآن كما عمل في ذلك الزمان، ويرجوه أيضاً العمل في المستقبل. فيُعبر من خلالها عن تمجيده أو شكره أو طلبه أو استغاثته أو توبته. وبذلك "ترافق الصلاة كل تاريخ الخلاص كنداء متبادل بين الله والإنسان"

3.الصلاة في حياة يسوع
إن للصلاة مكانة مهمة وأساسية في حياة يسوع. لقد صلّى يسوع كثيراً (مت14/23). وتنوّعت صلواته. فمنها ما كان بمشاركة أهل زمانه، كالمزامير (مت22/44، مز110/1)، وبركات وطقوس الهيكل (يو11/56)، والاحتفال بالأعياد (يو7/14). ومنها، وهي الأكثر، ما كانت خاصة به (لو6/12، مر1/35). لقد كان يصلي في الإصغاء والعزلة (لو9/18)، وغالباً ما يحي الليل كله في الصلاة (لو6/12). واتسمت صلاته بطابع الحمد والشكر (مت11/25)، والثقة (يو11/42)، وتسليم الذات (لو23/46). وكان يتوجه إلى الله بصلاة شخصية عميقة قبل أي عمل يقوم به. فصلّى قبل اعتماده وانطلاقه الرسولي (لو3/21)، وقبل اخياره لتلاميذه (لو6/12)، وعند التجلي (لو9/29)، وقبل صنعه المعجزات وبعدها (يو6/00) وكأن بتمرّسه على الصلاة المستمرّة يود أن يقول: "إنني أعمل أعمال من أرسلني" (يو9/4) لذلك عليَّ اللقاء به بشكلٍ مستمر، فمنه وحده أتلقى المجد، وبه وحده أستطيع كل شيء.
لا نستطيع فهم تجاوز يسوع محنة الألم والموت (إقرأ بعمق: يو17/1-27) وبالتالي غفرانه يسوع لصالبيه (لو23/34) إلا على ضوء فهمنا لمكانة الصلاة عنده. إن الرسالة إلى العبرانيين تشاهد يسوع في حركة مستمرة من الصلاة والتضرع والشفاعة وتربط بين صلاته ورسالته الفصحية التي حققها بالموت والقيامة، "فهو الذي في أيام حياته البشرية رفع الدعاء والابتهال بصراخٍ شديد ودموع ذوارف إلى الذي بوسعه أن يخلصه من الموت، فاستجيب لتقواه" (عب5/7).
"ستبقى صلاة يسوع بالنسبة لنا سراً، بمقدار سر تجسد ابن الله المتأنس. صلاة يسوع كانت مشاهدة للآب وجهاً لوجه لا يشوبها وهن، ولا موضع للحديث عن صعوبات في صلاة يسوع أو عن طريقته في الصلاة. ومع هذا فإنه كان يصلي بصفته إنساناً وإنساناً كاملاً، وصلاته في الجتسمانية هي أبلغ شهادة على ذلك"


4.إن يسوع الذي كانت الصلاة محور حياته ومنطلقها دعا إلى ضرورة ممارستها (مت7/7-19، لو21/36) وشدّد على أنه يجب أن تكون نقية ومجانية (مت5/23-24) ومرتبطة بالعمل (مت7/21)، ومملوءة بالإيمان (مر11/24)، ومقترنة بالتواضع (لو18/9-14) والبساطة (مت6/7-8). وأكد على أهمية الصلاة المشتركة وعمق فعاليتها (مت18/19-20، يو14/13، 16/23-24). وأنها مع الصوم سلاح فعّال أمام تجارب الشر (مر9/29، لو22/40).
صلاة الـ"أبانا" نموذج يسوع للصلاة
"يا رب علمنا أن نصلي".. يهتف التلاميذ نحو يسوع، وهو بدوره، بعد أن يشدّد على عدم التشبّه بصلاة المرائين والوثنيين (مت6/5-8)، أي بعد أن يظهر وجه الصلاة المزيفة والخاطئة، يقول: " وأما أنتم فصلّوا هكذا: أبانا الذي في السماوات.." (مت6/9-00). إنه يعلّم تلاميذه الوجه الحقيقي والصحيح للصلاة.
لم يعد الله، في هذه الصلاة، أباً ليسوع فقط بل هو أبٌ للجميع، وبالتالي فصلاة يسوع تتجه إلى الله باسم البشر كافةً. أن لصلاة يسوع دائماً الطابع الشمولي، فهو نداء البشرية المصالَحة مع الآب. وهذا التوجه هو في البداية من أجل تقديس اسم الله. يقول القديس أثناسيوس: "الإنسان كائن تمجيدي"، ويسوع في صلاة الـ"أبانا" يمثل كل البشر في تمجيد الله الأب. ويعبر عن مجانية العلاقة معه: "ليأتِ ملكوتك"، وعن رغبة الإنسان في العيش انطلاقاً من هذه العلاقة: "لتكن مشيئتك". يحقق يسوع في هذه الصلاة ما لم يرد أدم تحقيقه وهو الارتباط الحر بالله. فآدم فصل ذاته عن الله، وبالتالي عن الآخر (تك3/12)، أما يسوع فهو في عمق كيانه مرتبط بالله ومتضامن مع البشر كافة.
لم يشأ يسوع أن يفصل صلاته عن الواقع اليومي للحياة فيطلب لنا الخبز مع كل ما نحتاجه للحياة. ويطلب لنا المغفرة لنقوم بدورنا بها تجاه المسيئين إلينا، لكي لا نرتهن للخطيئة، لا لتلك التي تصدر عنا أو التي تصدر عن الآخرين.
إن يسوع الذي اختبر التجربة بعمق، وقهر الشرير ببسالة (لو4/1-00)، يطلب لنا أن نحتمي بالله في التجربة، لكي لا تقوى علينا، فالله أقوى من الشرير، له الملك والعزة.
الصلاة في حياة الكنيسة الأولى
يخبرنا كتاب أعمال الرسل عن حياة الكنيسة الأولى. ونستنتج من ذلك خصائص الجماعة المسيحية في بدء انطلاقتها: المواظبة على التعليم، المشاركة، كسر الخبز، والصلاة. لقد تابع الرسل صلواتهم في الهيكل (لو24/53، رسل3/1، 5/12، 10/9) وأقاموا الصلاة فيما بينهم ومع من تبعهم خصوصاً صلاة الافخارستيا. وكيسوع كانوا يصلون قبل البدء بأي عمل، كاختيار البديل ليهوذا (1/24-26)، واختيار الشمامسة السبعة (6/6). وصلّوا أيضاً من أجل إطلاق سراح بطرس (4/24-30)، ومن أجل المعمدين على يد فيلبس في السامرة (8/15). وتدلُنا الدراسات اللاهوتية أن الكنيسة الرسولية الأولى، قبل أن تدوّن ما آمنت به في كتب العهد الجديد، صلّت، واختبرت لقاء الله بالمسيح يسوع، ولقد حفظت لنا بعض نصوص العهد الجديد هذه الصلوات (إقرأ: يو1/1-18، فيل2/6-11،..). ومنذ البداية توجّه المسيحيون للصلاة "إلى الآب وإلى يسوع نفسه"


5. ونلاحظ أيضاً في كتاب أعمال الرسل مكانة الصلاة الفردية فنرى كلا من بطرس وبولس يصليان (9/40، 10/9، 9/11،13/3، 14/23، 20/36، 21/5،..). ولو درسنا مفهوم الصلاة في فكر القديس بولس لرأينا أنه "يقرن الألفاظ الدالة على الصلاة بعبارة "دون انقطاع" أو "في كل حين" (رو1/10، أف6/18، 2تسا1/13و11، 2/13، فيلم4، كول1/9)، أو "ليل نهار" (1تسا3/10، 1تيمو5/5)"

6، وذلك للتأكيد ليس فقط على أهميتها بل على التمرس الدؤوب عليها. فهو يتصوّر الصلاة على أنها فعل جهاد ومواظبة، عليه اختياره في كل مراحل حياته. وهكذا نشأ حوار عميق بين بولس والرب. ويركز بولس أيضاً على صلاة الشفاعة من أجل الآخرين (2كور13/9، 2تسا1/11). وهو بدوره يطلب الصلاة من أجله (فيل1/19، 1تسا5/5). وتتصدر صلوات "الشكر" و"الحمد" في معظم رسائله. ويعترف بتواضع عميق بالحاجة إلى الروح القدس ليعضد ضعفنا ويشفع فينا بأنّات لا توصف، لأننا لا نحسن الصلاة كما يجب (رو8/26).
وتتصف أيضاً صلاة الكنيسة الرسولية الأولى بانتظار ملء الأزمنة والمجيء الثاني للمسيح. وكأن الصلاة هي استباق لهذا المجيء: "ماران أتا.. تعال أيها الرب" (1كور16/22، رؤ22/20).
الصلاة في حياتنا
الصلاة.. ما هي؟.. كيف تكون؟..
نصلي بمفردنا. نصلي مع جماعة صغير. نصلي مع جماعة الكنيسة. نمجّد، نتضرّع، نشكر، نطلب، ونتوب. لدينا صلوات نقراؤها وأخرى نسمعها، فتبعث فينا تأملاً، قد ننسى معه كثافة الزمن وحدود الطبيعة. هناك ما نرتله فنصليه مضاعفاً، نسجد، نرسم إشارات ونضع ورود ونحرق بخور ونضيء شموع ونقيم طقوس. ونؤلّف في بعض الأحيان صلواتنا كما ألّف غيرنا ما نقرأه ونصغي إليه، ونتذوق اللقاء إلى الله من خلاله.
هناك إذاً صيغ عديدة للصلاة، لعل أهمها، و"قبل كل شيء، الافخارستيا وهي الصلاة التامة، الصلاة الكاملة، إذ أنها امتداد لصلاة المسيح نفسها، وحول الافخارستيا صلاة الفرض الإلهي كإكليل لآلئ تحيط بألماس"


7، حيث أن الافخارستيا هي النموذج والمحور لكل حركة صلاة نختبرها.
إن "التأمل" هو شكل من الأشكال الهامة للصلاة. قد يدعونا مشهداً من الطبيعة للصلاة، أو حدثاً من أحداث الحياة.
أن نشاهد أنفسنا في "تأوين" نصٍ من نصوص الكتاب المقدس هو صلاة، خصوصاً حين ينتزع منّا موقفا نحياه ونجعل الرب مصدراً لعيشه، فيصبح الإنجيل صلاتنا.
ولكن في النهاية، ما هو المعنى لكل ذلك.. ما هي الصلاة؟.. هل يمكن أن نجد تعريفاً نهائياً لها؟... نستعرض بعض الأقوال في الصلاة دون أن ننتهي من البحث عن ماهية الصلاة:
"الصلاة هي رفع العقل إلى الله" (القديس يوحنا الدمشقي). الصلاة التصاق بالله في جميع لحظات الحياة ومواقفها فتصبح الحياة صلاة واحدة بلا انقطاع ولا اضطراب" (القديس باسيليوس الكبير). الصلاة هي ترداد الأقوال المقدسة بشكل أن تصدر من القلب.. هي سجود أمام الله.. هي مزامير تهليل وتمجيد.. هي الإرادة في الحياة مع الله.. (مار اسحق السرياني)


8."يقول القديس يوحنا السلمي، وهو كاتب لاهوتي من القرن السابع، إن الصلاة والكلمات الخاصة بالصلاة هي أشبه بالسهم. ولكن لا يكفي أن يكون لدينا سهم. فإذا شئنا أن نصيب المرمى، ينبغي أن يكون في حوزتنا قوس له حبل من نوع جيد وذراع متين لوتره. فلو كنا نملك القوس الجيد بدون القوة التي تسمح بإطلاقه، فسرعان ما يسقط السهم على بعد أمتار. وإذا لم نرمِ بما يكفي من جهد فسوف لن يبلغ السهم المرمى، ينبغي إذاً أن يكون لنا قوس وسهم وذراع وقوة. وبما أن الصلاة هي سهمنا فعلينا أن نصوب في داخلنا إلى أعمق نقطة حيث يوجد الله"

9.علينا في الصلاة "أن نتعرّف أولاً على من نتحدث". وفي ذلك "لا ينبغي الاعتماد على كثرة التفكير بل على وفرة الحب". حيث أن الصلاة "هي التعاطي مع الرب تعاطينا مع أبٍ أو أخٍ أو عروس" (القديسة تيريزيا الأفيلية). الصلاة هي "أعظم نوع من الطاقة يمكننا استعماله".. الصلاة "تجعلنا نؤلف نغماتنا على موجات الله، ونتلقى ما يرسله إلينا" (الأب جيوفاني مارتنتي)

10. "هناك حوار مع أنفسنا نسميه الفكر، وهناك حوار مع الأشياء أو مع الأحداث نسميه العمل، وهناك حوار مع الآخرين ونسميه الرفقة أو الصداقة أو الحب، وهناك حوار مع الله ونسميه الصلاة".. "ليست الصلاة مجرد تلاوة عبارات، بل هي بالأحرى حديث خاص مع الله. فنعبر عما هي حياتتنا برغباتها ومصاعبها وشدائدها وأفراحها".. وهي أن نسمح بفرح أن يعبر الله لنا عن نفسه.. الصلاة هي التعبير عن المحبة.. الصلاة هي التعبير عن الإيمان.. الصلاة إسرارٌ متبادل بين الله والإنسان.. الصلاة هي تقبل عطية الله.. الصلاة هي تزامن الوعي لما هو الله ولما يعمل في حياتنا.. (الأب فرنسوا فاريون).

11لا شكّ أنه توجد تعاريف كثيرة عن الصلاة غير التي ذكرت، ولكن في نهاية الأمر الصلاة هي خبرة لا تُعرف إلا بالتذوق: صلِّ.. فالصلاة تعلّمك كيف تصلي، وما هي الصلاة.. تقول القديسة تيريز: نتكلم كثيراً عن الله، ولكننا بحاجة أن نتكلّم مع الله.
ولكن، هناك صعوبات!.. ما هي؟..
إن الصور الخاطئة عن الله تنشئ صلاة خاطئة وسرعان ما تظهر الصعوبات. عندما نظن أن الله هو مجرّد "ملبي طلبات"، نأتي إليه فقط في حاجاتنا، سنصدم حتماً حين لا يلبي ما نطلب. وعندما نظنه مراقباً لتصرفاتنا تتصف صلاتنا بالخوف. علينا أن ننقّي فينا صورة الله. فيسوع الذي قال: "أطلبوا تجدوا.." قال أيضاً: "أطلبوا ملكوت الله وبره" (مت6/33). لا شكّ أن صلاة الطلب صلاة، ولكنها ليست هي فقط الصلاة. والطلب إلى الرب هو طلب الدالة البنوية لا الحاجة الاستهلاكية. وما لا شكّ فيه أيضاً، أن الله يهتم لتصرفاتنا، ولكنه لا يراقبنا كأنه شرطي أو قاضي. إن عدالته لا تحجب محبته. هذا لا يعني أن الله، إذا كان كيان محبة، لا يعنيه ما يصدر منا من شر، بل إنه معنا في حمل ما يتسبب الشر فينا من أزمات. يصلي القديس أغسطينوس لله: "لا تحجبك عني ظلمة خواطري القلقة". فلا نصلي لأنه يراقب ويعاقب بل لأننا نتوب ونتنعم بالغفران.
من صعوبات الصلاة أيضاً: كثرة مشاغل الحياة وهمومها واهتماماتها وضيق الوقت، وبالمقابل حين نصلي نشعر بالملل والروتين والتكرار. أو الشعور أننا نخاطب أنفسنا حين نخاطب الله، خصوصاً إن كنا لا نعرف كيف نصمت لكي يتكلّم الله. هناك فخ حقيقي في أن تتحول الصلاة إلى تأمل نرجسي، فيظن المصلي أنه أمام الله، "لكنه في الحقيقة أمام نفسه، ويصبح طرح الأسئلة وإعطاء الأجوبة أمراً سهلاً. ويسمى مشيئة الله ما ليس سوى إرادة النفس، أو، ينصرف الإنسان إلى ثرثرة حميمة مع نفسه"


12.قد لا نشعر أحياناً بحضور الله في صلاتنا، وقد تكون صلاتنا حقيقة وصحيحة. وهذه خبرة عاشها كبار القديسين كيوحنا الصليب الذي يتكلم بعمق عن "ليل الإيمان". وقد لا نجد هذا "الليل" و"غياب الله" في المنشورات القديمة لمؤلفات القديسة تيريز خوفاً من تشكيك القراء. ينصح الآباء عادة في هذا الشعور بالصبر ومتابعة الصلاة وكافة الأفعال الروحية ولو كان صاحبها لا يجد لها معنى، يقول أحدهم: "لو كنت تصلي وقت تحب أن تصلي، يأتي يوم لا تصلي أبداً". قد يسمح الرب لنا بأن نشعر بغيابه ، ربما لأننا لا نتوجه إليه بشكل صحيح، أو لكي يقول لنا ما تطلبونه هو إنما من اختصاصكم، أو لكي يساعدنا أن ننمو ونتكل على ذواتنا. وهنا يوجد فخٌ آخر في مسألة تتميم مشيئة الله: "نعلم عن خبرة إلى أي حد يصعب علينا أن نقول حقاً: ليأتِ ملكوتك. فحتى في نشاطاتنا السخية والرسولية، حين نقول بالفم (نصلي): ليأت ملكوتك، نفكر في قلوبنا: لأعمل على مجيء ملكوتك،.. هذا القول قريب من: ليأتِ ملكوتي! ولو أردنا أن نكون قساة القلب إلى أقصى أحد، لأضفنا أننا نقول لله في صميم قلوبنا، من دون أن نشعر: ليأتِ ملكوتي عن طريق ملكوتك!.."

13. أظن أن هذه الصعوبة في الصلاة هي على الله وليست علينا!
الصعوبة الكبرى، فيما أظن، هي عدم الانسجام بين صلواتنا وحياتنا. هناك ازدواجية بين ما نصلي وما نعيش. هل هذه الازدواجية متأتية بسبب واقع ضعفنا؟ أم هناك مشكلة في القناعة وقلة الإيمان. لقد انتقد يسوع هذا المظهر من الحياة الفريسية (لو18/9-14)، ولعله ألمح طريقاً لتجاوز هذه الصعوبة هو الاتضاع وطلب الرحمة. هناك صلاة عُرفت في التقليد الشرقي باسم "صلاة يسوع" تعبر عن الاتضاع وطلب الرحمة الآنفي الذكر. يصليها المؤمن مع حركة التنفس مرات عديدة حتى تتواصل في حياته كتواصل التنفس: "أيها الرب يسوع المسيح، ارحمني أنا الخاطئ"


14، فتصبح حياته صلاة وصلاته حياة.
خاتمة
إن الصلاة هي منطلق الحياة الروحية في المسيحية، فبها نلتقي الله حيث يتحقق الهدف من التزامنا بالمسيح. فنحن على غرار يسوع، نصبح بالروح القدس، في الصلاة كما في شهادة الحياة، أبناء أحباء لله بالتبني فننادي الله: أبّا يا أبتِ (غلا4/4-6). الصلاة هي المنطلق لأنها توصلنا إلى الهدف، صدق إفاغريوس البنطي (القرن الرابع) حين قال: "أنت تصلي، فأنت لاهوتي". اللاهوتي هو من يدخل مسيرة الفهم الثلاثي الأبعاد: الله، الذات، الآخر. الصلاة ببساطتها تدخلنا في مسيرة الفهم هذه.
الحواشي
1- أنظر: موسوعة المورد، على قرص الـ CD، عدد 7790 فقرة الصلاة

2- أنظر: معجم اللاهوت الكتابي، دار المشرق، بيروت، فقرة صلاة ص477
3- أنظر: التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، عدد2591 فقرة الصلاة
4- أنظر: رنيه فوايوم، صلِّ لتحيا، ترجمة الأب بيوس عفاص، منشورات المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص9
5- أنظر: كارل راهنر، معجم اللاهوت الكاثوليكي، دار المشرق، بيروت، فقرة الصلاة ص187
6- أنظر: معجم اللاهوت الكتابي، المرجع السابق، ص481
7- أنظر: فرنسوا فاريون، فرح الإيمان بهجة الحياة، دار المشرق، ص163 -182
8- أنظر: الأب متى المسكين، حياة الصلاة الأرثوذكسية، الطبعة الثانية، مصر1968
9- أنظر: المتروبوليت أنطوان بلوم، مدرسة الصلاة، منشورات النور، ص39-40
10- أنظر: الأب جيوفاني مارتينتي، دواعي الإيمان في عصرنا، دار المشرق، ص180-181
11- أنظر: فرنسوا فاريون، المرجع السابق
12- أنظر: المرجع السابق
13- أنظر: المرجع السابق
14- إقرأ لو شئت حول هذه الصلاة قصة: سائح روسي على دروب الرب، منشورات النور
 
قديم 14 - 08 - 2014, 03:17 PM   رقم المشاركة : ( 5155 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

المطران بطرس مراياتي
إنجيل بولس و إنجيل يسوع


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
في العهد الجديد شخصيّتان بارزتان: يسوع وبولس.
وبشـارتان أساسيّتان: إنجيل يسوع ورسائل بولس (عددها 13 بالإضافة إلى العبرانيّين).
ولا شكّ في أنّ بولس الرسول وضع في رسائله القواعد المثبتة لديانة ذات طابع عقائديّ: التجسّـد، الفداء، الثالوث الأقـدس، ألوهيَّة المسيح، النعمة الإلهيَّة، الأسرار، السُلطة الكنسيَّة، التبرير، الخلاص...
فهل يختلف "إنجيل بولس" عن إنجيل المسيح؟ وهل بولس هو المؤسِّس الحقيقيّ للديانة المسيحيَّة كما يعتقد بعضهم؟
هذا ما سنسعى للإجابة عنه في دراستنا هذه.



أوّلاً- مقارنة بين الأناجيل ورسائل بولس


مَن يقرأ الأناجيل ثمّ ينتقل إلى مطالعة رسائل بولس يشعر وكأنّه يقوم بقفزة بين جبلين، ولكن، لا يلبث أن يتأكّد له أنّه لم يقفز، بل تابع المسيرة صعوداً منطلقاً من قمم الإنجيل إلى قمم الرسائل. يعود هذا الاختلاف إلى أمور عديدة نلخّصها في ما يلي:
آ- الفنّ الأدبيّ
تتميّز الأناجيل بفنّ أدبيّ خاصّ يرتكز على الرواية، فهناك سيرة حياة المسيح وأعماله وتعاليمه. وقد جاءت هذه التعاليم من دون رباط منطقيّ واستند أكثرها إلى فنّ الأمثال والحكم وهو الأقرب إلى أسلوب "المدراش" التعليميّ المنتشر في ذلك الزمان.
أمّا رسائل بولس فهي تُصنَّف في فنّ الخطابة حيث يُعرَض الموضوع في ثلاثة أبواب: مقدّمة - مناقشة جدليَّة ? خاتمة. راجع مثلاً: المواهب الروحيَّة (1قور 12 إلى 14)، وقيامة الموتى (1قور 15).
وتأتي المناقشة ضمن منطق معيّن مرتكزة على مصطلحات فلسفيَّة ولاهوتيَّة.
لقد أخذ بولس هذا الأسلوب من العالَم الهلّينيّ اليونانيّ الذي قلّما نجده في الأناجيل الإزائيَّة وفي منطق يسوع التعليميّ.
ربّما نجد تأثير الأسلوب اليونانيّ في إنجيل يوحنّا حيث يضع تعاليم المسيح ضمن خطب طويلة يستخدم فيها التعابير والثنائيّات اليونانيَّة بدءاً من المقدّمة: الكلمة والعالَم، النور والظلام، النعمة والحقّ ، الماء والروح، الخبز والحياة، الموت والقيامة، المجد والفرح..
ولكنّ إنجيل يوحنّا يبقى إنجيلاً ولا يخرج عن هذا الفنّ الأدبيّ إلاّ عندما يحرّر الكاتب رسائله اللاحقة.
ب- شخصيَّة المسيح
يشعر الدارس، لأوّل وهلة، أنّ ثمّة تمييزاً بين وجه المسيح كما ترسمه الأناجيل ووجه المسيح الذي يرسمه بولس الرسول.
تصف لنا الأناجيل الإزائيَّة وجه المسيح الإنسانيّ انطلاقاً من مولده إلى مختلف مراحل حياته الأرضيَّة. ونكتشف مع الرسل تدريجيّاً ألوهيّته إلى أن نصرخ مع قائد المئة: "حقّاً كان ابن الله". ويبقى الشكّ إلى ما بعد القيامة والصعود حتَّى نزول الروح القدس.
أمّا بالنسبة إلى رسائل بولس فالمسيح هو ابن الله أوّلاً وأخيراً حتَّى قال بعضهم: "إنّ صورة المسيح لدى بولس هي من البعد السماويّ بمكان، حتَّى إنّها ابتعدت عن الإنسانيَّة". حقّاً إنّ القارئ ليستغرب ضآلة ما ذكره بولس الرسول عن حياة يسوع الأرضيَّة. أضف إلى ذلك أنّه لا يذكر شيئاً عن عجائبه وأمثاله.
يحدّثنا "بولتمان Bultmann" عن التمييز بين مسيح الإيمان (القائم من بين الأموات موضوع الكرازة الرسوليَّة الأولى) وبين يسوع التاريخيّ، النبيّ والمبشّر الجوّال بملكوت الله.
لا نريد أن ندخل في مناقشة هذه المقولة ولكنّها تبدو مقبولة في مجموعة رسائل بولس حيث نجد وجه المسيح الربّ، ولا نجد ملامح وجه النبيّ الجوّال، والمعلّم، وصانع المعجزات كما وصفته الأناجيل.
قليلاً ما يذكر بولس يسوعَ باسمه. غالباً ما يشير إليه بتعبير "يسوع المسيح"، أو "الربّ يسوع المسيح"، ويكتفي أحياناً بالصفـات والألقـاب: "المسيح"، "الربّ". وتعود كلّها، في سياق الكلام أو في الخطـابات، إلى يسوع.
وهنا أيضاً لا بدّ من الإشارة إلى إنجيل يوحنّا الذي هو أقرب إلى منطق بولس فيبدأ مشدِّداً على كون المسيح منذ الأزل ابن الله: "في البدء كان الكلمة..." ولكنّه يعود إلى مولده بالجسد ولا يتخلّى عن فنّ الرواية كسائر الإنجيليّين.
ج- البيئـة والمحيـط
تدور أحداث الأناجيل في محيط ضيّق لا يتجاوز حدود فلسطين.
فكان يسوع المسيح يتجوّل بين الجليل واليهوديَّة مروراً بالسامرة. وقد تمركزت أهمّ الأحداث في أورشليم العـاصمة الدينيَّة آنذاك. وبالرغم من وجود السُلطة الرومانيَّة والتجّـار الغرباء فإنّ الحياة كانت مطبوعة بالعادات اليهوديَّة والتقاليد الموسويَّة والطقوس التشريعيَّة التي حاربها السيّد المسيح وسعى إلى تنقيتها متمِّماً عمل الأنبياء الذين سبقوه.
أمّا كتابات بولس فهي تخرج من هذا المحيط الضيّق وتأخذ بعين الاعتبار الشعوب المنتشرة حول البحر الأبيض المتوسّط من ديار العرب (غلا 1/17) إلى أورشليم إلى أنطاكية إلى أفسس إلى قورنتس إلى أثيناوصولاً إلى روما.
فالتفاعل واضح بين الثقافات والحضارات والعادات. وقد استطاع بولس بعبقريّته الخاصّة أن يجمع بين التقاليد اليهوديَّة والثقافة اليونانيَّة تحت الحكم الرومانيّ وحضارته.
فلا عجبَ إذا كان بولس أشدّ ابتعاداً عن الشريعة اليهوديَّة، وأكثر تشديداً على الشموليَّة.
وما هذا الانتقال من الفكر اليهوديّ التشريعيّ الضيّق إلى الفكر الشموليّ العالَميّ سوى تطبيق لما قاله يسوع قبل انتقاله إلى السماء: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم..".
د- بين المبشِّر والكاتب
اقتصرت رسالة المسيح على إعلان البشرى، فلم يكتب شيئاً ولم يترك وصيَّة خطّيَّة.
بشّر المسيح طيلة ثلاث سنوات شفويّاً. وبعد موته تناقل الرسل هذه البشرى، وما دوّنوها إلاّ بعد مضيّ نحو أربعين سنة على موته وقيامته أي بدءاً من العام 70 (الإنجيل بحسب مرقس).
ولذلك، فمَن يقرأ الأناجيل يكتشف أنّها لم تُنقل حرفيّاً، بل دُوّنت في وقت لاحـق امتدّ بين العـامين 70 و95 استناداً إلى الذاكرة وقراءة الأحداث في ضوء القيامة.
أمّا بولس فقد كان كاتباً. لا شكّ في أنّه بشّر أوّلاً، بشكل شفويّ كما جاء في أعمال الرسل ولكنّه أعطى الكتابة أهمّيَّة كبرى. وخير دليل على ذلك أنّ الرسالة الأولى التي كتبها بولس تعود إلى العام 51 (الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيقي) أي قبل تدوين أوّل إنجيل بعشرين سنة.
هذا لا يعني أنّ الكتابة أرفع شأناً من الكلام الشفويّ. فانطلاقة الكنيسة لم تكن مبنيَّة على الرسائل، بل على الشهادة الشفويَّة. وما الرسائل سوى وسائل للحفاظ على البشارة الأولى والإيمان الأصيل.
وكما أنّ جميع أقوال المسيح لم تُدوَّن (يو 21/25) كذلك لم تُدوَّن جميع أقوال بولس الرسول.
نستنتج ممّا سبق:
إنّ المقارنة بين الأناجيل والرسائل ليست على مستوى واحد فثمّة اختلاف واضح بينهما على صعيد الفنّ الأدبيّ، والكشف عن شخصيَّة المسيح، والبيئة، والتدوين.
هذا لا يعني أنّ الاختلاف موجود أيضاً على مستوى الفكر وفحوى البشرى. ربّما تغيّر الأسلوب وتطوّر التفسير، ولكنّ جوهر البشارة يبقى واحداً إن في الأناجيل وإن في الرسائل البولسيَّة.
بعد هذا العرض المقتضب حول الاختلاف بين أسلوبَي الأناجيل ورسائل بولس، يبادرنا السؤال: هل يعني ذلك أنّ بولس لم يكن أميناً لفكر السيّد المسيح وأنّه أنشأ ديانة جديدة؟
ثانياً- بولس والتعاليم الإنجيليَّة
إذا بحثنا بحثاً جدّيّاً عن طريق المقارنة بين تعليم بولس الرسول وتعليم المسيح وتعليم سائر الرسل لوجدنا أنّ بولس لم يكن وراء تأسيس ديانة جديدة وذلك لسببين أساسيّين:
آ- السبب الأوّل يعود إلى المطابقة التامّة بين تعليم بولس والمسيح. إليكم بعض المواقف والآيات التي تؤكّد صحّة ما ذهبنا إليه:
1- إنّ بولس لا يخالف أبداً تعاليم المسيح، بل على العكس، يعدّ قول يسوع مرجعَ كلامه الأوّلَ والأخير: "مِن بولس عبد المسيح يسوع دعي ليكون رسولاً وأفرد ليعلن بشارة الله" (روما 1/1).
2- يميّز بولس بين الأوامر التي أخذها عن المسيح والتوجيهات التي تأتي من عنده. ولا شكّ في أنّه يعطي كلام المسيح الصـدارة والأولويَّة: "لستُ أنا الموصي، بل الربّ"، "أمّا الآخـرون فأقول لهم أنا لا الربّ" (1قور 7/10-12).
3- إنّ بولس، رغم نجاح رسالته، لا يستقطب اهتمام المسيحيّين، بل يوجّه أنظارهم نحو المسيح: "أناشدكم بالمسيح... تخلّقوا بخلق المسيح... كيمـا تجثو لاسم يسوع كلّ ركبة في السموات وفي الأرض وتحت الأرض ويشهد كلّ لسان أنّ يسوع المسيح هو الربّ" (فيلبي 2/1).
4- يعدّ بولس نفسه مرسَلاً من المسيح ومن أجل المسيح، فحياته كلّها هي المسيح: "فالحياة عندي هي المسيح، والموت ربح" (فيلبي 1/21).
5- إنّ محور تفكير بولس وتعليمه هو المسيح فمنه كلّ شيء وبه كلّ شيء وإليه كلّ شيء. فعبثاً نسعى إذا أردنا أن نكتشف في صفحات رسائله شخصيَّة أخرى غير المسيح ابن الله الذي تجسّد ومات وقام ليخلّصنا: "وجعل كلّ شيء تحت قدميه ووهبه لنا فوق كلّ شيء رأساً للكنيسة، وهي جسده وملء ذاك الذي يمتلئ تماماً بجميع الناس" (أفسس 1/22).
ب- أمّا السبب الثاني فيعود إلى الوحدة التامّة بين تعليم بولس وتعليم الرسل. فالمقارنة بين رسائل بولس وسائر الرسائل في العهد الجديد تصل بنا إلى النتائج التالية:
1- إنّ العقائد التي بشّر بها بولس موجودة في رسائل يوحنّا وبطرس ويعقوب، وهذا دليل على أنّها ليست من تأليفه، بل مأخوذة من منبع واحد. نذكر مثلاً مصطلحَي: "التبرير، والخلاص". (راجع: يع 2/24، 4/12، 5/15، 5/20، 1بط 1/3-12، 2بط 3/15، 1يو 1/7، 1يو 4/10-15...).
2- كان هناك، منذ البدء، تعليم رسوليّ مشترك وحقائق متعارف عليها. فهناك مجموعة من التعاليم الثابتة التي انطلق منها الرسل في تبشيرهم. وكانت هذه التعاليم في جعبة بولس أيضاً لمّا بدأ رسالته فاستند إليها شارحاً ومقيِّماً (أقام في دمشق مع حنَنْيا والتلاميذ، وأقام في أورشليم مع الرسل، كما جاء في أعمال 9/19-30). ونذكر من هذه الموضوعات:
آ- معطيات تاريخيَّة: حياة يسوع. وُلد من امرأة في حكم الشريعة (غلا 4/4)، من نسل داود بحسب الطبيعة البشريَّة (روما 1/3)، كسر الخبز في العشـاء الأخير (1قور 11/23)، مات على الصليبوقـام من بين الأموات
ب- معطيات عقائديَّة: الثالوث الأقدس (الآب والابن والروح القدس)، الفداء والصليب، القيامةوالصعود، الدينونة والمجيء الثاني...
ج- معطيات طقسيَّة: العماد والإفخارستيا، ثمّ الصوم والصلاة والصدقة، والأناشيد المسيحانيَّة، وكلمة أبّـا، يا أبتاه
د- معطيات أدبيَّة: الأخلاق الحميدة والمحبّة (الوصيَّة الكبرى) والصفح عن الخطأة، ورفض الطلاق،وقبول الصغار والضعفاء، ودخول الملكوت، والطاهر والنجس...
3- كانت جماعة الرسل قلباً واحداً وفكراً واحداً وجاءت شهادتهم واحدة، وخير دليل على ذلك مجمع أورشليم حيث تمّ توحيد الكلمة. فلم يكن هناك مجال لأن ينفرد كلّ رسول بتعاليم جديدة، بل كان عليه أن يبقى حامياً لتعليم المسيح. ولذلك نجد بولس، رغم رحلاته، على اتّصال دائم بأورشليم وسائر الكنائس. كما نجده محافظاً على الوديعة. وهكذا بقيت العقيدة واحدة في منطقة البحر الأبيض المتوسّط ولم تنشأ الخلافات العقائديَّة في الكنيسة إلاّ بعد موت الرسل جميعاً.
4- لمّا كانت هناك عقيدة واحدة، ومسيح واحد يجمع بين مختلف أسفار العهد الجديد فلم يكن في استطاعة بولس أن يعرض أفكاراً خارجة عن هذا النطاق وأن يفسّر الحقائق على هواه، فإنّه كان، كسائر الرسل، مؤتَمناً على تقاليد، وكان عليه أن يوصل الأمانة من دون تحريف وأن يحافظ عليها من الضلال.
وهذا ما فعل في الواقع وإن اختلف عن سائر الرسل في طريقة الشرح والعرض بأسلوبه المنطقيّ الجدليّ.
خلاصة القول:
1- لم يخترع بولس شيئاً جديداً عن حياة يسوع وتعليمه. فالأناجيل تحتوي على جميع الحقائق الواردة في رسائله بشكل نواة. وجديده أنّه عاش تجربة ذاتيَّة مع المسيح تختلف عن سائر الرسل، هزّت كِيانه وأنارت بصيرته فأدرك تعليم المسيح على وجه خاصّ.
2- لم يؤلِّف بولس من عنده شيئاً جديداً، بل جمع ونظّم ونسّق على نحوٍ أفضل من الآخرين في ما كانوا يبشّرون به هم أيضاً وفي ما أخذوه عن المسيح. وسبب ذلك يعود إلى تبحّره في العِلم والفلسفة والثقافة.
3- لم يضع بولس العقيدة المسيحيَّة، بل تسلّمها وشرحها في ضوء الأنبياء والعهد القديم. فكأنّنا به يكتشف سرّ المسيح المختفي في العهد القديم ويفهم العهد القديم في ضوء الإنجيل.
استناداً إلى ما سبق نقول:
إنّ بولس لم يُنشئ ديانة جديدة، ولم يضع عقائد إيمانيَّة تختلف عن إنجيل المسيح، ولم ينحرف عن تعاليم الرسل والتقليد الذي أُوكل إليه. وكما حافظ هو شخصيّاً على الإيمان (2طيم4/7)، طلب في رسائله إلى تلميذه طيموثاوس أن "يحفظ الوديعة التي أُوكلت إليه" (1طيم 6/20 و 2طيم1/14).
زِدْ على ذلك تأكيد بولس في رسائله أنّ الإنجيل الذي أعلنه هو إنجيل يسوع. نذكر على سبيل المثال: "فأعلمكم، أيّها الإخوة، بأنّ البشارة التي بشّرت بها ليست على سنّة البشر، لأنّي ما تلقّيتها ولا أخذتها عن إنسان، بل بوحي من يسوع المسيح" (غلا 1/11، 2/2، روم 16/25، 2طيم 2/8). "فقد بلغنا إليكم حقّاً ومعنا بشارة المسيح" (2قور 10/14، 1قور 9/12-20، 2قور 4/3).
فإذا كان الأمر كذلك فما دَور بولس إذاً، وما هي مكانته، وما هو الجديد الذي أتى به فأصبح رسول الأمم وركناً من أركان الكنيسة؟
ثالثاً- دَور بولس في حياة الكنيسة
كان لبولس دَور هامّ فريد في انتشار الديانة المسيحيَّة من خلال تفعيل الفكر اللاهوتيّ أوّلاً، وتطوير العقيدة الدينيَّة ثانياً.
آ- بولس والمنطق اللاهوتيّ
كان دَور بولس لاهوتيّاً. فإنّه لم يُنشئ العقيدة المسيحيَّة، بل جعلها مترابطة رغم أنّ رسائله لا تشبه كتاباً عقائديّاً لاهوتيّاً متسلسل الأفكار. إنّ عند بولس ما يُسمّى "المنطق اللاهوتيّ" أي النظرة الشاملة التي تدور حول محور واحد. لقد سعى علماء الكتاب المقدَّس إلى اكتشاف هذا المحور الذي تدور حوله تعاليم بولس بشكل متكامل ومنطقيّ فجاؤوا بحلول كثيرة: فمنهم مَن وجد هذا المحور في فكرة الخلاص المجّانيّ أو ملكوت الله أو الجسد السرّيّ أو حياة المسيح فينا أو الموت والقيامة أو كشف السرّ الخفيّ.
هذا لا يعني أنّ المسيح لم يكن لاهوتيّاً. أو أنّ الإنجيليّين لم يكونوا لاهوتيّين.
أليس ما نقرأ في إنجيلي مرقـس ومتَّى عن "ابن الإنسان الذي جاء ليعطي ذاته فـداء عن الكثيرين"(مر10/45، متَّى 20/28) مطابقاً لتعليم بولس حول الفداء والخلاص؟
والأمثلة كثيرة في هذا الشأن، فالتعابير مختلفة ولكنّ الفكرة اللاهوتيَّة واحدة.
هذا وإنّ الإنجيليّين ينطلقون من لاهوت خاصّ بهم فهم يعطون المسيح وجهاً بحسب مخطّطهم التربويّ والتاريخيّ واللاهوتيّ. ومن هنا تميّز إنجيل يوحنّا بكونه "الإنجيل اللاهوتيّ".
إنّ اللاهوت الإنجيليّ يبقى روائيّاً أمّا اللاهوت البولسيّ فهو خطابيّ رسائليّ، ولمّا كانت لكلّ أسلوب أدبيّ لغته الخاصّة، فليس بالأمر المهمّ أن يُحافظ على المصطلحات فهذه قشور، وإنّما الأهمّ أن يُحترم المضمون، وإذا كان بولس غير أمين للحرف فهو أمين كلّ الأمانة للروح كما قال: "الروح يُحيي والحرف يقتل"(2قور 3/6).
ولكن، سيكون من البساطة بمكان أن نجمع في بضع كلمات غزارة تعليم بولس الرسول. فكلّما حصرنا هذا الفيض في بضع كلمات أفقدناه قوّته وغناه، وعلى العكس، كلّما توغّلنا في شرحه أبرزنا عمقه ومعاصرته.
ولذلك، يحتاج تعليم بولس دوماً إلى تفسير وشرح لا إلى تلخيص وحصر. وهذا ما فعله آباء الكنيسة منذ البدء وتبعهم المعلّمون والدارسون فأخذ بولس هذا الدَور المميَّز في توجيه حياة الكنيسة وتطوّر الفكر اللاهوتيّ.
ولعلّ ما كتبه بطرس الرسول في رسالته الثانية خير توضيح لذلك: "عُدّوا صبر ربّنا وسيلة لخلاصكم، كما كتب بذلك أخونا الحبيب بولس على قدر ما أُوتي من الحكمة، شأنه في جميع الرسائل كلّما تناول هذه المسائل. وقد ورد فيها أمور غامضة يحرّفها الذين لا علم عندهم ولا ثبات، كما يفعلون في سائر الكتب، وإنّما يفعلون ذلك لهلاكهم" (2بط 3/15-16).
ب- بولس وتطوّر العقيدة المسيحيَّة
أمّا عن دَور بولس الأهمّ فنقول: إنّه أسهم، كسائر الرسل، في تطوّر العقيدة المسيحيَّة التي أسّسها المسيح. لا شكّ في أنّ هناك تطوّراً في العقيدة بما فيها من شكل ومضمون. فحين بشّر المسيح دامت بشارته ثلاث سنوات وانحصرت في بيئة محدّدة. وبموته وقيـامته ترك للرسـل إنجيل تعليمه وطابع شخصيّته وضمـان روحـه القدّوس.
وكان على الرسل أن يجابهوا عالَماً جديداً وبيئات مختلفة ومذاهب معادية وفلسفات متعدّدة بعد أن انتشرت دعوتهم وكثُر عدد المسيحيّين. فكان هذا الاحتكـاك بالديانة اليهوديَّة التقليديَّة والديانات الوثنيَّة والخرافات الشعبيَّة والفلسفات اليونانيَّة والحكم الرومانيّ دعوة ملحّة إلى مزيد من التوضيح لتعـاليم المسيح وشخصيّته: الإيمان الشريعة المعموديَّة الفداء الآخرة...
ولعلّ بولس الرسول أفضل مَن أسهم مِن بين الرسل في هذا التطوّر. والسبب يعود إلى رحلاته التبشيريَّة الواسعة الأرجاء التي فتحت أمامه آفاقاً جديدة، وطرحت أمامه مشكلات لم تكن في الحسبان.
إليكم بعض خصائص هذا التطوّر اللاهوتيّ عند بولس:
1- تطوّر العقيدة عنده ليس ترجمة لما يشعر به أو يخطر بباله، وليس تحليلاً علميّاً أو شخصيّاً لمسلّمات أو مبادئ، بل هو من وحي إلهيّ بحسب متطلّبات وأحداث خارجيَّة. فالرسائل كلّها توجيه إلى الحقّ، وحثّ على الخير، وتحذير من الضلال. ولذلك نقول مع الأب "برات -Prat ": "تطوّر العقيدة عند بولس يوازي ويتماشى مع تاريخ تطوّر الكنيسة الناشئة".
2- علماً بأنّ بشارة بولس لم تُكتب بكاملها في رسائله أو في أعمال الرسل، بل هناك تعليم شفويّ بشّر به في عظاته لم يُدوَّن بكامله. وهو يفترض في قارئيه أنّهم مطّلعون على بشارته الشفويَّة. فهناك تطوّر واضح بين بشارته الشفويَّة وتعليمه المكتوب.
3- وتجدر بنا الإشارة إلى أنّ التطوّر وارد في أفكار بولس ليس بالنسبة إلى تعليم المسيح وسائر الرسل وحسب، بل حتَّى في تعليمه أيضاً. فالعقيدة تظهر عنده تدريجيّاً وَفقاً لاحتياجات الكنائس. ولا عجبَ في أن نجده أكثر وضوحاً وتنسيقاً في الرسائل التي كتبها في آخر أيّام حياته. ومثالنا على تطوّر العقيدة عنده، الكنيسة: جسد واحد (جماعة واحدة)، جسد سرّيّ رأسه المسيح (جماعة روحيَّة)، جسد متدرّج الأعضاء (جماعة منظَّمة). وكذلك أيضاً تطوّر فكرة الدينونة الأخيرة: عودة المسيح قريبة (الرسالة الأولى إلى تسالونيقي) وتأخّر الموعد (الرسالة إلى روما)، التبرير الآن والخلاص بعد الموت. ويبدو التطوّر واضحاً في لاهوت المعموديَّة. فالمعموديَّة مرتبطة بالصليب (1قور 1/13-17) وهي دفن مع المسيح للقيامة معه إلى حياة جديدة (روم 6/3-5)، وهي ختان روحيّ، علامة التطهير والانتماء إلى الجماعة (قول 2/11).
وهذا لا يعني أنّه مع بولس تمّ تطوّر العقيدة، فالعقيدة في تطوّر أبداً بحسب تطوّر احتياجات المسيحيّين الدينيَّة. وخير دليل على ذلك أنّ رسائل بولس نفسها كانت تحتاج عبر تاريخ الكنيسة إلى مزيد من التوضيح والتفسير والشرح والتنسيق. فليس هناك إنجيل بولسيّ أو عقيدة بولسيَّة بقدر ما هو لاهوت بولسيّ أو روحانيَّة بولسيَّة.
أضف إلى ذلك أنّ بولس الرسول أصبح قدوة لجميع اللاهوتيّين اللاحقين من حيث التأصّل والإبداع. فكما أنّه كان متأصّلاً في تعاليم المسيح كان أيضاً خلاّقاً في شرح هذه التعاليم وتطبيقها وفق احتياجات أهل عصره.
أليست هذه رسـالة كنيسة اليوم: أن تكون أمينة للإنجيل من جهة، وأن تعطي، من جهة أخـرى، أجوبة عمليَّة وفق تسـاؤلات عالَمنا المعـاصر؟ (مثال على ذلك مسـألة الاستنساخ وأطفـال الأنابيب وصنع الأجنّة في المخابر...).
الخـاتمة
إذا أعدنا طرح السؤال الذي انطلقنا منه: هل بولس هو مؤسِّس الديانة المسيحيَّة؟ نستطيع أن نجيب مع "ويسترمان ? Westermann" أحد علماء الكتاب المقدَّس: "إنّ بولس هو الأوّل بعد الأوحد". أي هو أوّل مَن أخرج العقيدة المسيحيَّة في حلّة جديدة بعد المسيح الذي وضعها. فهو، بصفته مسيحيّاً وعضواً من الجسد السرّيّ وبصفته رسولاً ومعلّماً، استقى عقيدته وأفكاره كلّها من "المعلّم الأوحد" الذي كان يحيا فيه وتكلّم بلسانه. أو كما يقول آخر بشكل أكثر وضوحاً: "إنّ بولس هو المؤسِّس الثاني للديانة المسيحيَّة".
ربّما نستطيع أن نقول إنّ بولس هو مُنشىء اللاهوت العقائديّ المسيحيّ، وهو بالتالي "أكبر لاهوتيي القرن الأوّل" على حدّ قول الأب "كينيل Quesnel". وإذا كان ثمّة اختلاف بين الأناجيل والرسائل في عرض البشرى، إلاّ أنّه لا خلافَ بين بشارة بولس وبشارة يسوع. ولنقلْ: إنجيل بولس هو إنجيل يسوع نفسه.
ولذلك لم تُدعَ كتابات بولس في بدايات الكنيسة وفي العصور اللاحقة بالأناجيل، بل بالرسائل التي حملت البشارة والتعليم بوحي من المسيح وإلهام من الروح القدس.
فإذا استطاع بولس أن يُعيد صياغة ما تسلّمه وأن يضعه في قالب فكريّ منطقيّ لاهوتيّ فهل يعني ذلك أنّه خان الأمانة؟ كلاّ، إنّ إعادة صياغة الحقيقة بتعابير جديدة ليس خيانة لها، بل هي ضرورة حيويَّة للحفاظ عليها.
حقّاً إنّ حدث اختيار بولس وظهوره في الوقت المناسب ودَوره في انتشار الإنجيل دليل على تدخّل إصبع الله ودَور الروح القدس الذي اختار من الرعاة أنبياء، ومن الصيّادين رسلاً. وشاء أيضاً أن يجعل من الفِرّيسيّ المتعصّب داعياً للمسيح وراعياً للكنيسة.
مع بولس نكتشف اكتشافاً حسّيّاً كيف أنّ المسيح بروحه القدّوس يستطيع أن يغيّر قلب الإنسان ليجعل منه أداة له. وكما قال أحد الدارسين: "المسيح شمسنا. منه كلّ نور وحياة. وبولس مرآة عكست أشعّة هذه الشمس فألهبت عالَماً بكامله" .
راجع :
- بولس ورسـائله، دراسات بيبليَّة رقم 23، منشورات الرابطة الكتابيَّة لبنان، 2001.
- مدخل إلى رسائل القدِّيس بولس، الأب فاضل سيداروس اليسوعيّ، دراسات في الكتاب المقدَّس رقم 17، دار المشرق ? بيروت 1989
 
قديم 14 - 08 - 2014, 03:21 PM   رقم المشاركة : ( 5156 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

الأب فوزي نصري اليسوعي
لا داع لكثرة الصلاة بشرط ...


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

تعريف الصلاة

الصلاة هي لقاء بين الله والانسان، مقابلة واتصال بينهما، يبحث فيها الانسان عن الله ليجده ويتحد به، أو بالأحرى يبحث فيها الله عن الانسان ليجده فيتحد به. الصلاة اذا هي لقاء بين المسيح والمسيحي، المسيح الذي يحبني حبا شخصيا، يحبني كما أنا وينظر اليّ بحُب. عليّ أن أشعر خلال الصلاة، بنظرة المسيح الذي يحبني شخصيا.
("لو كنت تعرفين عطيّة الله" (يو 4/ 10) إن أعجوبة الصلاة تتكشّف هنا، على جانب البئر حيث نأتي لنلتمس ماءنا: هناك يأتي المسيح إلى لقاء كل كائن بشري. يسوع عطشان، وطلبه صادر من أعماق الله الذي يريدنا. والصلاة هي إاتقاء ظمأِ الله وظمئنا. فالله ظامئ إلى أن نكون ظامئين إليه.) كثرة الصلاة ... هل من داع؟
نقرأ في متى 6/ 25-34، نص العناية الإلهية، هذه الأية: "انظروا الى طيور السماء، كيف لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن في الأهراء وأبوكم السماوي يرزقها". هل علينا اذا أن نتكاسل ونتواكل بحجة أن الله يقوتنا بدون أن نعمل ونتعب؟
هل يمكن أن نختار بين أمرين: إما أن نصلّي وبالتالي لا نعمل، أو نعمل وبالتالي لا نصلّي بحجة أننا لا نملك الوقت الكافي للأمرين معا؟

السؤال الذي أحاول الإجابة عنه هو: كيف تكون حياتنا صلاة وصلاتنا حياة؟


كثيرا ما نختبر في رياضة روحية جو الصمت والهدوء الذي يساعد على تقوية الصلة بالله. في هذه الأماكن المعدّة للخلوة غالبا ما يتوفر لنا التأمل لساعات طوال ولكن بمجرد الإنتهاء من الرياضة والعودة الى "دوامة الحياة" نختبر أنّ الضوضاء وضيق الوقت عاملان قد يمنعانا من اكمال ما اختبرناه في الخلوة الروحية فنبتعد عن النبع الحقيقي. يواجه المسيحيُّون إذا صعوبات في الصلاة فيستصعبون التوفيق بين حياتهم اليومية العادية وحياتهم الروحية، بين عملهم وصلاتهم فأغلب الذين يجتهدون في المواظبة على الصلاة يعتبرون الأعمال وكثرة الإنشغالات أكبر معوق للصلاة، ذلك لانهم لا يجدون الوقت الكافي للصلاة والتامل! كيف نجد بشكل عملي إجابة لهذا الواقع؟
عندما يتكلم يسوع عن العناية الإلهية، ممثلا ذلك بطيور السماء التي لا تزرع ولا تحصد ومع ذلك تقتات، فإنه لا يحكم ابدا على العمل البشري أو يدينه. وكذلك فهو لا يدين من يعمل لغده (الجمع في الأهراء) بحثا عن الضمان للمستقبل. إنه يتكلم عن القلق المبالغ فيه نتيجة هذا العمل وما يتبع ذلك من انشغالات تحول دون الإهتمام بملكوت الله الذي يتحدّث عنه. فينبغي على الإنسان في ممارسته لعمله- وهذا أساسي- أن يضع كامل ثقته بالله فيما يختص بنتيجة عمله.
إن مِثال عصافير السماء ليس دعوة للكسل والتواكل إنما تأكيد على الإهتمام بالعمل اليومي. بعبارة أخرى إن عصافير السماء تعمل جيدا والله، نتيجة لعملها، يكافئها. فإن كان الله يكافئ طيور السماء أفلا يكافئ بالأحرى الإنسان؟ لا يدعو يسوع الى اللامبالاة بل إلى الإتكال المعبَّر عنه في الصلاة الى الله الأب السماوي الذي يحرر من القلق. هنا يختبر الإنسان محدوديته فهو يستطيع أن يزرع ولكن الله هو الذي ينمي. إن الإنسان في خضّم إيقاع حياته السريع قد ينسى شيئا أساسيا، إن عجيبة العجائب التي ينساها هي نعمة الحياة الموهوبة له من الله الخالق. فهذا النص إذا يذكّر بعظمة الخالق الذي يعتني لا فقط بزنابق الحقل البرّية الرائعة الجمال بل بسيد المخلوقات الإنسان الأعظم والأجمل والأقرب الى الله من الطبيعة. إن واهب الحياة هنا يجدد الثقة بالانسان ويذكِّره بقربه منه داعيا إياه الى إنماء تلك العلاقة بينه وبين صورته لا عن طريق اهتمامه الشرعي بعمله بل بإعطاء الله الخالق نزهة من الوقت تسمح بنمو ما هو أساسي في كل علاقة وأعني الحوار. يشير يسوع هنا الى ثلاثة أمور يعرف مسبقا كم هي تشغل بال الانسان وتقلقه: المأكل والمشرب والملبس. إنه لا ينكر ما لها من أهمية ولكنه لا يعطيها كل الأهمية. إنها وسائل بشرية في خدمة هدف أسمى: العلاقة مع الله وهذه هدف. على الإنسان ألاّ يجعل من الوسيلة هدفاً في مسيرة حياته فتلك الحياة وُهبت من الخالق الذي يهدف الإنسان الى الإتحاد به من خلال صلاته. فإن كانت الصلاة صلة فعلى الإنسان ان ينميها وإلاّ فهو يحوّل الوسيلة الى غاية وهو في ذلك قليل الإيمان وناكر للجميل. فغاية الوثنيين، وهم لا رجاء لهم لأنهم لا يؤمنون بإله الحياة، هي المأكل والمشرب والملبس. يشير يسوع الى الله الخالق كأب داعيا الانسان أن يجّد في السعى اليه وهنا دور التمييز بين ما هو أساسي وما هو ثانوي.
علينا اذا لا أن نتكاسل في أمور مأكلنا ومشربنا وملبسنا بل أن نعمل، ولكن علينا ايضا أن نجتهد دون كلل ولا ملل في معرفة وشكر واهب المأكل والملبس والمشرب وهذا هو اندفاع التلميذ الذي يسعى نحو الملكوت الذي سيأتي والموجود هنا والأن. فإن كان للتلميذ أن يقلق إن جاز التعبيرفلماذا يقلق فقط لأموره الحياتية ولا يقلق من أجل الملكوت؟ يقول القديس اغسطسنوس "خلقتنا يا اْلله وقلبنا لن يرتاح إلا بلقياك" فالقلب قلق وغير مرتاح لأنه بعيد عن الخالق، خالق الإنسان الذي هو أهم من زنابق الحقل وطيور السماء. فالإنسان، صورة الله، لا يرتاح في ابتعاده عن أصله. لا تناقض اذا بين الصلاة والعمل ولا أن تلغي الواحدة الأخرى. علينا أن نتعلم كيف تطبع صلاتنا عملَنا وكيف يستمد عملُنا قوته من الصلاة، تلك هي الصلاة الحقيقية.
إنّ الصلاة الحقيقية،كما يشير إلى ذلك هنري كافاريل ، توجّه المسيحي ،حتما وبدون أي جدل، إلى العمل. ولا يترك لنا مَثَلُ القديسين، مجالا للشك في ذلك. فكم من الرجال والنساء من كبار المُصلّين، كانوا أيضا عباقرة في العمل! ومهما كانت مواهبهم الطبيعية ثريّة، فلا شك أن عملهم، كان يستمدّ من الصلاة ديناميّته وفعاليته. فالقديس بولس هو الأنموذج الأفضل فقد كان، بحسب شهادة أعمال الرسل والرسائل، رجل صلاة ممتاز. إن الصلاة الحقيقية هي نتيجة تمرين طويل مُتطَلّب ومُكلّف ينتج عنه حتما في بعض الأحيان صراعا.
إن الصلاة الحقيقية تولد من المسيرة الروحية التي لا تخلو من الجهاد والإستعداد لأن يبدأ الإنسان دائما من جديد تاركا أفكارا قد يكون كوّنها سابقا ولا تناسبه انطلاقا مما هو عليه الان. لنرَ مثلا من أباء البرية:
"زار أخ الأب سلوان في جبل سيناء. فلما رأى الإخوة يعملون، قال للشيخ: لا تعملوا للطعام البائد لأن مريم قد اختارت النصيب الصالح (يوحنا 6/27، لوقا 10/ 42). فقال الشيخ لتلميذه: زخريا، اعطِ الأخ كتابا وأوصله الى قلاية فارغة. فلما كانت الساعة التاسعة، كان ذاك ينتبه الى الباب علّهم يرسلون من يدعوه الى الطعام. لكن خاب أمله في الإنتظار إذ لم يأت أحد لدعوته. فنهض وجاء إلى الشيخ وقال له: ألم يأكل الإخوة يا أبت؟ قال له الشيخ: نعم. فقال الأخ: ولماذا لم تدعُني إلى تناول الطعام؟ أجابه: لأنك إنسان روحي ولا تحتاج إلى طعام . أما نحن فإننا بشر ونحتاج إليه، لهذا نعمل. اخترت النصيب الصالح لأنك تقرأ طوال النهار، ولا تريد ان تأكل طعاماً بشرياً (جسدياً). فلما سمع هذا، سجد له وقال: سامحني يا أبت. فقال له الشيخ: في كل الأحوال، تحتاج مريم إلى مرثا، لأن مريم تُمتدح، بسبب مرثا."
نلمح في هذا القول أن لدى هذا الأخ فكرة واحدة وحيدة عقد عليها العزم وهي التكرس للصلاة، وهو متشبث بهذه الفكرة ولا يرى غيرها وسيلة للإتحاد بالرب. كما أن والشيخ لا يوبخه بادئ ذي بدء بل يفهمه شيئا فشيئا أن العمل يقود الى الصلاة كما تقود الصلاة الى العمل، وهذه هي خلاصة تعليمه، فمريم بحاجة الى مرتا كما تحتاج مرتا الى مريم. إن على هذا الأخ المبتدئ أن يفهم ماهية الصلاة فهي في آنٍِ واحد، مبدأ عمله والدافع إليه كما أنها مصدر المزايا الفريدة التي تحلّى بها هذا العمل. عليه أيضا أن يعود بفكره الى المعلّم الحقيقي أَوَ ليس يسوع المسيح هو المِثال بذاته على ذلك؟
يُذهلنا ذلك الإنتقال المتتابع، خلال حياة يسوع العامة، من الصلاة إلى العمل ومن العمل إلى الصلاة فالعلاقة وثيقة بين الإثنين.
إنه يصعُب علينا أن نتحد بالله في الصلاة لو لم يكن يسوع المسيح قد صلى وعلمنا كيف نصلي. كان يسوع يصلي في أوقات كثيرة. فقبل أن يبدأ التبشير بملكوت الله، مضى به الروح إلى البرية للصلاة والصوم . وقبل أن يختار رسله، ذهب إلى الجبل ليصلي ، وهكذا أيضا قبل أن يختبر إيمانهم في العاصفة صعد الى الجبل ليصلي في العزلة ، وقبل أن يطلب إليهم الاعتراف والشهادة بألوهيته، كان يصلي في عزلة . ,كان يصلي أيضا قبل معجزاته ليمجِّد الله ويحمده. ونراه بعد أن شفى مقعدا وردَاً على الإنتقادات الموجّهة له قال: "إن أبي ما زال يعمل، وأنا أعمل معه" (يوحنا 5/17). هكذا، كانت صلاة يسوع المسيح مرتبطة ارتباطا وثيقا بحياته، تنبع منها ومن حوادثها، من مقابلاته وعلاقاته الإنسانية.
لا صلاة اذا منفصلة عن العالم والدنيا؛ فكل صلاة تنبع وتنطلق من صميم واقع الحياة.
قد يكون العمل من أكبر معوقات الصلاة ولكن لا بسبب كثرة العمل وضيق الوقت إنما بسبب نوعية العمل وما يتسّم به من عَجَلة وتوتر وضوضاء سعياً وراء نتائج ملموسة وسريعة.
يتناقض هذا الجو من التوتر مع هدوء الصلاة اللازم للبحث عن الذات واللقاء مع الله ولذلك قد يعتبر المؤمن الملتزم أنه يفقد في أثناء عمله الطاقة التي نالها في صلاته، وكأنه بهذا يشبِّه حياة الإنسان بالدلو الذي يمتلي بماء الطاقة والنعمة في أثناء الصلاة ويفرَغ من طاقته في أثناء العمل، فيجد المرء نفسه فارغا مرهقا بعد يوم عمل شاق ولابد أن يملأ حياته مرة ثانية بوساطة الصلاة. لا عجب اذا اعتبار العمل إن رأيناه بهذه الصورة عاملا مُهدّدا للحياة الروحية، وكأنّ العمل وحياة الصلاة قطبان متناقضان وحقيقة الأمر أنهما يتناديان ويتجاوبان.


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة


العمل هو مساهمة في عمل الله


نرى أن التهديد الحقيقي لجو الصلاة في حياة الإنسان لا ينشأ بسبب كثرة العمل أو قساوته بل بسبب أسلوب العمل الذي يتّسم بالطمع والكبرياء. خُلِق الإنسان على صورة الله، وعليه أن يُكمِل عملية الخلق. فدعوة الانسان الحقيقية هي أن يحقق ذاته من خلال استثمار عمله في العالم، وهكذا يمجّد الخالق بمساهمته في عمل الله الخلاق (راجع تكوين 1 و2 ومزمور 8). في إطار هذه الرؤية الإيمانية لا يُعتبر العمل خطراً على علاقة الانسان بالله، بل بالعكس يُعتبر العمل وسيلة مميّزة ومفضّلة لاتحاد الانسان بالله الخالق.
ومع ذلك المشكلة قائمة: ضيق الوقت! أيحق لنا القول: طوبى للرهبان اذاً لأنهم يجدون الله في هدوء أديرتهم أو في الصحراء بعيداً عن ضجيج الدنيا والويل للعلماني المضطر لأن يكافح في سبيل لقمة العيش في وسط الدنيا منقسما بين الصلاة والعمل، بين اشتياقه الى صفاء الحياة الروحية وإحباطه بسبب انشغالاته الدنيوية؟
هل الله إله الصحراء فقط لا إله المدينة؟ أهو إله الهدوء والصمت فحسب لا إله العمل والمعاملات؟
أيستطيع الإنسان أن يتقدس من خلال العمل في سبيل مجتمع أكثر إنسانية؟ أم أنّ السبيل الوحيد إلى القداسة هو حياة التجرد في الصحراء؟
نقول لا وألف لا، إن الله يدعو الإنسان إلى العمل المستمر مع المسيح، المسيح الذي أجاب اليهود الذين لاموه لأنه يشفي المرضى في يوم السبت قال: "أبي يعمل في كل حين وأنا أعمل مثله" (يو 5/ 16-17) كيف نجمع إذاً بين الصلاة والعمل أو كيف نشاهد الله في العمل؟ كيف يتحول العمل إلى وسيلة للإتحاد بالله؟
نظرة جديدة إلى العمل


هناك طريقة عملية تساعد على أن يصير العمل نفسه وسيلةً للتقدم الروحي والسلام الداخلي، وهي عدم الاهتمام بنتيجة العمل في أثناء تنفيذه، فبقدر ما تنشغل بالعواقب يزداد احتمال فشل العمل! فالانشغال الزائد بنتيجة العمل هو إحدى أسباب التوتر والقلق الذي نعاني منه. أنا لا أطالب بعدم الاهتمام بنتائج العمل ولكن علينا ألاّ نبالغ في هذا الاهتمام إلى حد قد يؤثر ذلك نفسه على نتيجة العمل. المسيحي يعتبر ان ثمرة أعماله في يد الرب، وما عليه إلاّ القيام بما هو مطلوب منه في هذه اللحظة من جِدٍّ وكد وهو بهذا يضع عمله بين يدي الرب بكل ثقة. بعبارة أخرى إن قصد الله في حياتي هو أن أنغمس فيها ولكن بدون أن أغرق، فلاأتساءل قط عن النتيجة المحتملة لعمل ما، ولكن أسأل سؤالا أهم: ماذا يجب علي عمله في هذه اللحظة؟ الصلاة ليست تفريغا للقلب من المشاكل والمصاعب والهموم، ولا من الأفراح والأمال والمشاريع، ولا من العلاقات البشرية من محبة ولا مبالة وكراهية، ولا من الأعمال اليومية والأنشطة ... على نقيض هذا، نحن نصلي كما نحن، وبما نحن فيه. هكذا يريدنا الله في الصلاة، يريدنا ويحبنا كما نحن في الحياة. فالحياة التي نحياها هي مادة صلاتنا. وهناك من قد يقع في خداع روحي في حياة الصلاة عندما تصبح صلاته هروبا من واقع الحياة ومشاكل العمل وكأن الصلاة تخص ما هو روحي وتنفصل عمّا هو حياتي، في حين أن الصلاة تنبع من العمل وترافقه من دون أن تفارق الواقع وتنفصل عن الحياة.
نستطيع أن نستخلص أن هناك دائرة للصلاة والعمل. ثمة تضافر وتفاعل وتكامل بينهما. ثمة وِفَاق وتلاحم وانسجام بينهما. هما وجهان لخدمة واحدة، فقيمة العمل لا تعلو شأنا عن قيمة الصلاة، ولا هذه عن تلك. فتمتد الصلاة الى العمل، ويمتد العمل إلى صلاة. داخل هذه الدائرة تصبح الصلاة عملا ويصبح العمل صلاة.
لا داعٍ لكثرة الصلاة كما في الرياضات الروحية التي لا تهدف أن يبقى المتروّض في الجو نفسه وسط دوامة الحياة. وعليه فإن أردنا أن نتبنى العنوان "المستغرَب" الذي أعطيته للمحاضرة والذي يستفزنا للوهلة الأولى، نوجز تلك الشروط فيما يلي:
على شرط تحرير الذات في سبيل المزيد من المشاركة في رسالة المسيح.


إنّ هدف كل مسيرة روحية هو تحرير الإنسان من كل ما يتعلق به و يتسبّب في فقدان حريته الداخلية والتمارين الروحية تساعد الإنسان أن يتغلب على نفسه وينظِّم حياته بمعزل عن كل ميل منحرف وذلك لمزيد من الإتحاد بين الله والإنسان. كلما تحررت ألمس أكثر كيف أستطيع مشاركة المسيح رسالته في بناء الملكوت. في الصلاة يسأل المسيحي الله، كما فعل القديس بولس يوم لتقى المسيح على طريق دمشق: "ربي! ماذا علي أن أعمل؟" فيكتشف، يوما بعد يوم، الرسالة التي يطلبها منه الرب. فالرب هو الذي يرسلني إلى عملي وهكذا لا أعتمد فقط على قواي ومع بولس أقول: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (فل 4/13) على شرط التمييز الشخصي لترجمة دعوة المسيح في الحياة اليومية
بمقدورنا أن نتحد بالله في كل عمل إنساني نقوم به، أيّا كان هذا العمل، أكان يوميّاً أم عاديا، فكرياً أم يدوياً، دراسيا أم مهنيا، كبيرا ام صغيرا، ظاهرا أم خفيا ... بمقدورنا أن نتحد بالله في كل علاقة بشرية نكوِّنها، في كل حديث مع شخص أخر ... فالله يكلمنا، ومشيئته تظهر لنا من خلال حياتنا اليومية العادية، وإنّ ملكوت الله، الذي يحققه الإنسان على وجه الأرض على مدار الأجيال، يتحقق بالأعمال اليومية العادية التي تقوم بها البشرية بأجمعها. هذا ما فعله يسوع في الناصرة مدة ثلاثين سنة. فقبل أن يستهلّ البشارة بالملكوت، كان قد عاش حياة متَّحدة بأبيه بوساطة الصلاة والأعمال اليومية، شأن البشرية قاطبة منذ أجيال فأجيال. فلا يتأسس ملكوت الله على الأرض بالأعمال العظيمة والباهرة فقط، بل في بساطة العمل اليومي العادي أيضا. ولقد احتفظ يسوع بهذا الطابع البسيط في تعاليمه، حتى أنه كان يحدّث الجموع عن الآب انطلاقا من الواقع المادي. واتّصل كذلك بتلاميذه انطلاقا من وضعهم اليوميّ وواقعهم المعيشي. فدعا رسله بينما كانوا منصرفين إلى أعمالهم ومهنهم، فمنهم مَن كان يصطاد السمك، ومنهم مَن كان يجبي الضرائب ... ولما تراءى لهم بعد قيامته على بحيرة طبرية، كانوا قد رجعوا إلى حياتهم المهنيّة اليومية. وكذلك عندما تراءى لتلميذي عمّاوس، اشترك في همومهما وضيقهما ...
يمكن تلخيص مسيرة الحياة الروحية بأنها اتّحاد بالله بوساطة واقع الحياة، هنا يكمن دور التمييز الروحي وأهميته، فهو وسيط، بمعنى أنه يسمح للإنسان أن يبحث عن الله فيكتشفه في كل شيء، وأنه يتيح له الفرصة لأن ينظر إلى كل شيء فيجد الله فيه. قد يبدو لأوّل وهلة أن الأمر سهل، فمن البدهي أن يتكلّم الله من خلال واقع الحياة. غير أن الأمر أكثر تعقيدا إن أخذنا بعين الاعتبار تواجد الزؤان مع الزرع الطيّب، والظلام مع النور، والكذب مع الحق، وبابل مع أورشليم. فالتمييز الروحي يكشف انّ هناك قوّتين تعملان في العالم وفي الإنسان: الخير والشر.
رؤية الله في كل شيء وتعاون الإنسان مع الله
اشتُهِرت صيغةٌ تعبّر عن تعاون الإنسان مع الله ترقى إلى أحد الروحانيين اليسوعيين من القرن الثامن عشر تقول:


"ثِق بالله كأن النجاح كله يأتي منك
ولا شيء من الله.
ولكن حينذاك
اعمل جاهدا
كأن لا شيء يأتي منك
وكل شيء من الله وحده"


إن مفارقة هذه الحكمة تُظهر عدة عناصر. أولا أن قمة الثقة بالله تفترض تعاون الإنسان مع الله، وأن قمة العمل البشري تفترض عمل الله. فالله يثق بالإنسان حتى إنه يُشركه في عمله الإلهي؛ وبالتالي فعلى الإنسان أن يثق بالله فيتعاون معه كما يريده الله وبحسب دعوته للإنسان. وعلى الإنسان أن يثق بالله ثقة تامة بدون أن يعتمد على ذاته، كما أنّ عليه أن يعمل مجتهداً بدون أن يعيش أيّة اتكالية سلبية. وليست الثقة بالله والعمل المجتهد في تناسباً عكسي، كأنّ ازدياد الثقة بالله يُقلّل من عمل المجتهِد، أو كأن عمل الإنسان يقلل من ثقته بالله. فما من تضارب بين دور الله ودور الإنسان، لأنّ الله نفسه يدعو الإنسان إلى التعاون معه. وهذا هو المقصود بلفظ "حينذاك": إن أردت الإعتماد على الله بالإجتهاد الشخصي فعليك أن تجتهد كل الإجتهاد بثقة كاملة بالله لا بذاتك. فعندما يثق الإنسان بالله، يكون مفعولاً به لا فاعلا فقط- ومشاهِدا لله ولعمله وهنا يكمن النجاح. عندما يجتهد الإنسان فهو يعي ويختبر أنّ الله يعمل فيه وفي الأخرين، فالنجاح في الواقع يأتي من الله الذي عمل في الإنسان، وقد دعاه إلى التعاون معه؛ فالله هو مصدر عمل الإنسان.
الخلاصة
في النهاية نستطيع استخلاص ثلاث ركائز للصلاة:
الصلاة اتحاد بين الله والانسان، لا بمعنى أنها توحِّد الإنسان بالله فقط، بل توحِّد الإنسان بالإنسان أيضا. فتقود الصلاة الإنسان إلى الله من جهة، كما أنها تقود إلى الإنسان الأخر من جهة أخرى. إنّ العلاقة الوثيقة والعضوية القائمة بين الله والإنسان تؤسس الصلاة ، كما أنّها ثمرة الصلاة.
الصلاة صلاة رسولية، فهي لا تُغلِق الإنسان على نفسه، ولا على الله، ولكنها تقوده إلى خدمة البشر تعبيراً منه عن محبته لله، كما أن مادة الصلاة تتغذّى بكل ما يتعلّق بالبشر وبخدمتهم.
الصلاة توحيد لحياة الإنسان. فالإنسان، في صلاته، وكثمرة لصلاته، يعيش وحدة حياته الروحية والعملية، واحتياجاته الجسديّة والنفسية والروحية، واتصاله بماضيه وحاضره ومستقبله، وعلاقته بالله وبالبشر. في الصلاة يبحث الإنسان عن الله ويجده في كل شيء ويجد كل شيء في الله، فتتوحَّد هكذا حياته.
الصلاة في النهاية تعني علاقة الانسان بالله، بأخيه الانسان، وبنفسه، في وحدة تامة.
عندما تتناغم حياة الإنسان وصلاته نتيجة مسيرته الروحية ومثابرته فإنه ينمو في معرفة ومحبة الله بشكل أعمق فيصلي كل حين إذ يرى الله في كل شيء وكل شيء في الله
 
قديم 14 - 08 - 2014, 03:24 PM   رقم المشاركة : ( 5157 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

المسيحيّ والالتزام


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الأب/ نقولا مالك


« كَانَ لإِنْسَانٍ وَلَدَانِ. فَقَصَدَ أَوَّلَهُمَا وَقَالَ لَهُ: يَاوَلَدِي، إذْهَبِ الْيَوْمَ وَإعْمَلْ فِي كَرْمِي! فَأَجَابَ: لاَ أُرِيدُ. وَلَكِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ نَدِمَ وَذَهَبَ. ثُمَّ قَصَدَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ الثَّانِي وَقَالَ لَهُ مَا قَالَهُ لِلأَوَّلِ.


فَأَجَابَ: لَبَّيْكَ يَاسَيِّدِي! وَلَكِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ.

فَأَيُّ الاِثْنَيْنِ عَمِلَ بِإِرَادَةِ الأَبِ؟» فَقَالُوا: «الأَوَّلُ!» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ العشّارِينَ وَالزَّوانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ.(مت 28:18- 31).


· رُبَّ مسيحيٍّ يسأل: ألا يكفي أن أكونَ مسيحيًّا مستقيمَ العقيدة؟ فيُغنيني فكريَ المستقيمُ عَنِ التَّمَسُّكِ بِتَفاصيلِ الصَّومِ والصَّلاة والعبادة؟


أو: أَنا مُلْتَزِمٌ طُقُوسَ الكنيسةِ وتقاليدَها، فهلْ يَنقُصُني شيءٌ بَعد؟ أَلَسْتُ مؤمنًا كاملاً؟


أو: أنا أقومُ ببعضِ الأعمالِ الخيريّة، وأتجنّبُ الأُمورَ السَّيِّئة.

فما حاجتي إلى النّقاشاتِ اللاهوتيّة الّتي تسبِّبُ الصُّداع. أَفَلَيسَ الدِّينُ "معاملة"؟


·مِنَ جِهة، يجبُ أن نؤكِّدَ على أنَّ المسيحيَّةَ دِيانةُ حَياة.. عَيش.. تطبيق. وليست دِيانةَ تَرَفٍ فِكريّ. ولو أنّ التَّرفَ الفكريَّ يُنشئُ ديانةً حقيقيّةً، لكانتِ الوثنيَّةُ خَيرَ ديانة، لأَنّها أنجبت فلاسفةً عُظَماء.

فصحيحٌ أنَّ التَّصديقَ شَرطٌ أساسيٌّ لِقَبُولِ البِشارة، وتالِيًا الإيمان، وتالِيًا تَبَنِّي التَّعالِيم والعقائد؛ إلاّ أنَّ هذا كُلَّهُ لَيسَ مِن بابِ الغَرَقِ في النَّظَرِيّات على حِسابِ الحَيِّزِ العَمَلِيّ.


فالرَّبُّ الّذي قال: "فَمَن آمَنَ واعتَمَدَ يَخلُصُ، وَمَن لم يُؤمِنْ يُدان"، لم يَقصدْ بهذا الكلامِ الإيمانَ النَّظَرِيّ؛ لأنَّهُ أيضًا القائل: أي


"ليسَ كُلُّ مَن يقولُ لي يا رَبُّ يا رَبُّ يدخلُ ملكوتَ السَّموات، بَلِ الّذي يعملُ مشيئةَ أبي الّذي في السَّموات" (مت 21:7).

وهو الّذي شَبَّهَ الّذي يسمعُ أقوالَهُ ويعملُ بها بإنسانٍ حكيمٍ بنى بيتَهُ على الصَّخر (مت 24:7).


وَبُولسُ الرَّسولُ الّذي تَوَجَّهَ إلى أهلِ روميةَ بدعوةٍ مُلِحَّةٍ للإيمانِ، مُرَكِّزًا على أهَمِّيَّتِهِ الكُبرى، وَمُستَشهِدًا بِما وَرَدَ في سِفرِ التَّكوين:

"فآمَنَ إبراهيمُ فَحُسِبَ لَهُ ذلكَ بِرًّا" (رو 3:4)،

هُوَ نفسُه القائلُ، في الرِّسالةِ عينِها: "المَجدُ والكرامةُ والسَّلامُ لِكُلِّ مَن يَفعَلُ الخَير" (رو 10:2).


ويعقوبُ أخو الرَّبِّ الَّذي عَلَّمَنا في رِسالَتِهِ أَنَّ "طِلْبَةَ البارِّ تَقتَدِرُ كثيرًا في فِعلِها" (يع 15:5)، أَوضَحَ لَنا، في الرِّسالةِ عَينِها أَنَّ الإِيمانَ بِدُونِ أعمالٍ مَيت" (يع 19:2).


وَبِاختِصار، نُكَرِّرُ أَنَّ المسيحيَّةَ هِيَ دِيانَةُ حَياةٍ، على حَدِّ تَعبيرِ رَبِّنا: "أمّا أنا فقد جئتُ لتكونَ لَكُم حياةٌ، بَلْ لِتَكُونَ لَكُمْ أَوفَر" (يو 10:10)، "وأمّا هذه فقد كُتِبَتْ لِتُؤمِنُوا بأنَّ يسوعَ هُوَ المسيحُ ابنُ الله، ولكي تكونَ لكُم إذا آمَنتُم حَياةٌ باسمِهِ" (يو 30:20).


·مِن بَعدِ هذا الكلام، نَقُولُ إنَّ الأَساسَ في عَيشِ المسيحيَّةِ هُوَ المَحَبَّة: مَحَبَّةُ اللهِ لَنا، الَّتي نَسعى، بِقَدْرِ طاقَتِنا،لاِستِيعابِها والجَوابِ المُوافِقِ لَها، عَن طَريقِ التَّعبيرِ الفِعليّ عَن محبَّتِنا لله.


فاللهُ عَبَّرَ عَن محَبَّتِهِ لَنا: بالخَلقِ، وبإرسالِ الأنبياء، وَبالتَّجَسُّد، وَبِخَوضِ الآلامِ والصَّلب.


مِنْ هُنا كانَ الالتِزامُ المسيحيُّ عمليَّةَ تَجاوُبٍ مَعَ مَحبّةِ الله، لا مُجَرَّدَ واجباتٍ أَو فُرُوض، وَلا مِن بابِ اللَّياقةِ الاجتماعيّة، أَوِ المُقايَضَةِ القانونيّة.


الالتزامُ المسيحيُّ أقوى مِن كلِّ ما ذُكِرَ، لأَنَّهُ يَنطَلِقُ مِن مَبدَإِ المَحَبَّةِ الّتي تُسَبِّبُ الحَياة، وهذِهِ المحبَّةُ أقوى مِنَ الموت

"فَمَن يَفصلُنا عن مَحَبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ؟ أَم ضِيقٌ؟ أَم جُوعٌ؟ أَمْ عُرْيٌ؟ أَم خَطَرٌ؟ أَمِ اضطِهادٌ؟ أم سَيفٌ؟


وَكَما كُتِبَ: إِنَّنا مِن أجلِكَ نُماتُ النَّهارَ كُلَّهُ، وَقد حُسِبْنا مِثلَ غَنَمٍ لِلذَّبح. لكِنَّنا في هذِهِ كُلِّها تَشتَدُّ غَلَبَتُنا بالّذي أَحَبَّنا. فَإِنِّي لَواثِقٌ بِأَنَّهُ لا مَوتٌ وَلا حَياةٌ، وَلا ملائكةٌ وَلا رئاساتٌ، وَلا قُوّاتٌ، وَلا أشياءُ حاضرةٌ وَلا مُستقبَلَة، وَلا عُلُوٌّ وَلا عُمقٌ، وَلا خليقةٌ أُخرى تَقدرُ أن تفصلَنا عن محبَّةِ اللهِ الّتي في المسيحِ يَسُوعَ رَبِّنا" (رو 35:8-39).


· مدى الالتزام المطلوب:


في سائرِ أُمُورِ الحياةِ نحنُ نلتزِمُ بِدِقَّةٍ. مَثَلاً: مَعَ الطَّبيب.. مَعَ الزُّمَلاءِ.. مَعَ الجِيران... فَلِماذا لا نلتزمُ مَعَ الرَّبِّ بِالأَوْلى؟!


عليكَ أوَّلاً أن تُحَدِّدَ موقِفَكَ مِنَ المسيح: "أَتُحِبُّني؟" (يو 15:21).

فإذا كانَ جوابُكَ إيجابًا، لا يُمكِنُكَ أن تُحِبَّ بَعضَ الحُبِّ، بل عليكَ أن تُحِبَّ المسيحَ فَوقَ كُلِّ شيء، وَقَبلَ كُلِّ شيء. والّذي يمنعُكَ مِن هذا الالتزام الكامل هُوَ انشِغالُكَ بالدُّنيا: بِشَهَواتِها..


معرفةُ الحقّ الّذي في المسيحِ ليست شيئًا نَظَرِيًّا، بل هِيَ قُوَّةٌ فائقة، قوّةٌ مُحَرِّرة، يَفُوقُ سُلطانُها قُوَّةَ الفعلِ والمنطقِ والإرادةِ والطَّبْعِ والعادة.

فَقُوّةُ الحقّ الّذي نَنالُهُ مِن المسيحِ هِيَ قُوَّةُ حَياةٍ تتحدّى الموت.


بِهذه القُوَّةِ واجَهَ الشُّهَداءُ الموتَ، مُستمدِّينَ القوّةَ مِن معرفةِ الحقِّ الّذي في المسيحِ الّذي أَحَبُّوه.

وَلَمْ يَدْرِ مُعَذِبُوهُم أَنَّ الحَقَّ الّذي فِيهِم حَرَّرَهُم مِن كُلِّ ارْتِباطاتِهِم بالدُّنيا، وَمِنَ الخَوفِ مِنَ الموت، فَكانَ دَمُهُم شَهادَةً لِصِدْقِ اخْتِبارِهِم الرُّوحِيّ.


فَلْنَلْتَزِمْ حَياةَ المسيح، طالِبِينَ المَجْدَ الّذي مِن عِندِه، وَمُفَضِّلِينَ إيّاهُ على مَجدِ النّاس



 
قديم 14 - 08 - 2014, 03:26 PM   رقم المشاركة : ( 5158 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

صليب يسوع
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
لماذا صُلِبَ يسوع؟ مَن صَلَبَ يسوع؟ وما معنى صليب يسوع؟
ما يعني لنا رفض القرآن واخوتنا الأسلام لصلب يسوع؟ ليس ما يعني لهم بل ما يعني لنا نحن كمسيحيّين.
نطرح السؤال، ونحاول التفتيش في الإنجيل: لماذا صُلِبَ يسوع؟
نلاحظ: أن عند الإنجيلييّن الأربعة سببين لصلب يسوع.
إرادة الآب، ونتذكر كم تكلّمنا عن الآب الذي يقبل أن يُصلَب ابنه.1-
والناس. يسوع يذهب عكس التيار، ورؤساء الكهنة والفريسيون وبعض الكتبة وكل الذين لم يناسبهم تعليم يسوع المسيح، أو بنظرهم هيَ إدّعاءات يسوع المسيح، قرّروا أن يصلبوه.2-
في الأناجيل الثلاثة الأولى، أي الإزائيّة عند متى مرقس ولوقا، يسوع يعمل مشوار واحد إلى أورشليم ويُصلَب، وفي هذا المشوار ثلاث مرّات يقول لتلاميذه أن ابن الإنسان سيعاني كلّ هذه الآلام ويجلدونه ويبصقون في وجهه ويموت ويقوم، وموقف التلاميذ في كل هذه الأحوال كان موقفاً أو سلبيّاً أو متسائلاً. إذاً التلاميذ أمام واقع الصليب، أو رفضوا هذا الواقع أو لم يفهموا. ولآخر لحظة في بستان الزيتون، في مرحلة نعسوا وناموا وفي مرحلة ثانية رحلوا? وبقيَ يسوع وحده يواجه الموت على الصليب. صحيح سيعود يلتقي بأمّه والتلميذ الحبيب تحت أقدام الصليب؛ نعود إلى هذا لاحقاً.
إذاً لماذا صلبوه؟ : إرادة الآب وحقد البشر.
مَن صلَبَه؟ - عمليّا الإنسانيّة، يعَبَّر عن هذه الحقيقة في الأناجيل: أن اليهود يريدون قتله والرومانيين هم الذين حكموا عليه بالموت.
الرومانيون كانوا يُعتَبَرون أنّهم تقريباً كل الدنيا.
واليهود كانوا يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار.
أمام الصليب تساوى في الخطيئة، اليهود والوثنيون. الإثنين صلبوه.
أتوقف عند الجملة التي كُتبَت على صليبه، علّه موته ولماذا حُكِمَ عليه بالموت.
يسوع الناصري ملك اليهود.
نتذكّر كيف بالأناجيل احتجّ الناس ورفضوا ما كُتِبَ وقالوا هوَ الذي قال، فأجاب بيلاطس كُتبَ ما كُتِبَ فلننتبه هذه الكتابة كُتبَت بالعبريّة واليونانية واللاتينية.
العبريّة تمثّل لغة الإيمان أو الدين.
اليونانية تمثلّ لغة الحكمة أو الفلسفة.
اللاتينيّة تمثّل لغة الحقوق والسياسة.
لأن الأمبراطوريّة الرومانية مسيطرة واللغة الرسميّة هي اللاتينية. إذا البشريّة بقطاعها الديني والفكري والسياسي حكمت على يسوع وبنفس الوقت اعترفت بيسوع. فما كان الصليب؟
الصليب إذاً كشف بعدَين مهمّين.
كشف خطيئة الإنسانية التي صلبت يسوع والتي أنا وأنتَ وأنتِ منها، لا أحد منّا خارج اللعبة. خطيئة الإنسانية التي قتلت الربّ، وبذات الفعل كشفت عظمة الحبّ الإلهي الذي يشمل هذه الإنسانية التي قتلته. هذا شيء مهمّ جدّاً.
الصليب هو في آن معاً: دينونةٌ للإنسان، وخلاصٌ للإنسان.
كلّ مرّة أنتَ تقف أمام الصليب ستعرف أنّكَ القاتل، وتعرف في نفس الوقت أنّكَ بذات الفعل الذي قتلت فيه، ربّنا كشف فيه حبّه.
ما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه.
لنوضح:
عندما نحن صلبنا إبن الله، ماذا فعلنا. قلنا له تنح عن طريقنا، نحن سنمشي في طريقنا ولن تضع لنا حدود. أنت حاجز زل. وفي النهاية وبطريقة أخرى أكلنا من شجرة معرفة الخير والشرّ. أي استغنينا عن الله، الغيناه. وعندها اكتشف الإنسان عُريَه وأُخرِجَ من الفردوس. ويسوع، وكأنّ الإنسانية تنتقم أخرجته من أورشليم وعلقته عاري على الصليب خارج أسوار أورشليم. وصوت الله في الفردوس اكّدَ للإنسانية أن نسل المرأة سيسحق رأس الحيّة، وصوت يسوع على الصليب اكّدَ للبشر أن رحمته أكبر من حقدهم إغفر لهم يا أبتي لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون.
لا يدرون ماذا يفعلون: نتوقف لنرى أهمية هذا الكلام.
نقول: هم يعرفون، رجل بار صدّيق، يعرفون ويصلبونه، لماذا؟ ألأنّه ليس من رأيك تصلبه. ألأنّهُ يجعلك تفكّرأكثر تصلبه؟ لماذا؟
هم يعرفون ماذا يعفلون. يعرفون أن مصالحهم يحققونها بصلبه، وبيلاطس أيضاً يعرف أنّه صلبه لأنّه خاف.
ولكن ما معنى كلمة يسوع : لا يدرون ماذا يفعلون.
صحيح لا يدرون ماذا يفعلون، لأنّهم يريدون لأنفسهم ما يريده الله لهم. لا يدرون ماذا يفعلون أي يظنّون أن ما يريدونه لأنفسهم لا يريده يسوع المسيح لهم. لهذا أزالوه.
وبهذا المعنى لا يدرون ماذا يفعلون، اي لا يعرفون انّهم لا يمكن أن يحقّقوا رغباتهم الأساسيّة بالانطلاق نحو المطلق إلاّ بيسوع المسيح. لا يعرفون، لهذا أزالوه من الطريق. ونحن في كلّ مرّة ندخل في الخطيئة نكون من الذين لا يدرون ماذا يفعلون بهذا المعنى.
إغفر لهم يا أبتاه، لأنّهم فعلاً لا يدرون ماذا يفعلون. يعرفون جيّداً أنّها جريمة، وأنّهم يقتلون إنساناً بريئاً، لكن الذي لا يعرفونه، أنّ بالنهاية هذا الإنسان الذي يقول أحب قريبك أحب عدوّك، والذي يقول أن الخطيئة ليست فقط بالفعل إنما بالتفكيرأيضاً، وهو يقول هذا ليجعلك تكون كاملاً مثل الله، وهذه ليست حدود. ونحن البشر لم نفهم بل صلبناه وأزحناه من الطريق.
إذاً أول فكرة لاهوتية هي أنّ الصليب دينونة وتجلّي الحبّ الإلهي.
ننتقل لنتكلّم عن الصليب علامة آدم الجديد.
أ- فلنعمل مقارنة بين آدم الأول والمصلوب. ببساطة.
1- آدم الأول مع إنّه إنسان عارٍ أراد أن يصل إلى الألوهة بدون الله، لا بل أكثر بمعصية الله.
2- يسوع، مع كونه في صورة الله ما اعتبر مساواته غنيمة له، بل أخلى ذاته واتخذ صورة العبد صار شبيهاً بالبشر فيليبي 2: 6-7.عمل العكس تماماً.
ماذا حلّ بآدم بعد الخطيئة: اكتشف عريَه وصار خارج المحبّة.
ماذا حلّ بيسوع: تواضعَ اطاعَ حتى الموت، الموت على الصليب. فرفعه الله أعطاه اسماً فوق كلّ اسم لتنحني لاسم يسوع كلّ ركبةٍ في السماء وفي الأرض وتحت الأرض ويشهدَ كلّ لسان أنّ يسوع المسيح هوَ الربّ تمجيداً لله الآب فيليبي 2: 8-11.
إذاً، الذي فعله يسوع هو تماماً عكس الذي فعله آدم الأول.
أولاً، آدم الأول الخالي ظنّ نفسه ممتلئاً ولم يرد أن يملّيه الله.
ويسوع الملآن، قبل أن يصير فارغ كي يقبل الملء من الآب.
ب- زوجة آدم الأول، أُخذت من جنبه المفتوح، من ضلعه. وعروس المسيح آدم الجديد، أُخِذت كذلك من الجنب المفتوح. بالماء والدم خرجت الكنيسة، الروح القدس الذي يرمز للماء والافخارستيا التي ترمز للدم، عروس المسيح من جنبه المطعون بالحربة.
الصليب إذاً هوَ قمّه التعبير عن خلاص الإنسان.
نتوقف عند فكرة سائدة: نقول دائماً يسوع خلّصنا بصليبه. ليست غلط لكن فكرة ناقصة. إنّ الخلاص الذي حقّقه يسوع هوَ في حياته الإنسانية كلّها، وليس فقط في صليبه. فلا صليب بدون التجسّد، ولا تجسّد بدون الحبّ الثالوثي.
خبرة الحبّ المخلّصة الأساسيّة موجودة في الثالوث، فإذا يسوع أخلى ذاته، الثالوث هو الذي قَبِلَ أن يصل إلى هذه المرحلة.
إذاً عمليّة الخلاص هي عمليّة ثالوثيّة.
فما هوَ إذاً دور الصليب؟
وربَّ سائلٍ يسأل. أكان من الضروريّ أن يصلب يسوع؟
ما دام بكلمة يشفي المرضى، بكلمة يُقيم الموتى، هو قادربكلمة أن يخلّص الإنسان. ولكن إذا يسوع قبل أن يصل إلى الصليب فهذه معناه أن هذه هي أفضل طريقة، ومن المؤكّد، لا أنا ولا أنتم ولا كفانر ولا جاسبر الألماني، ولا كولمان الهولندي؛ لا أحد قادر أن يدخل في عمق السرّ. إنّما قادرين أن نحاول على الأقل أن نستكشف بعض مظاهر الصلب. يسوع ماذا عمل على الصليب؟ هنا اربط بعض الأحداث ببعضها البعض، لنفهم يسوع ماذا عمل بالتحديد على الصليب.
1- هوَ قال ما من حبّ أعظَم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبّائه. وما اسطع من هكذا برهان على البذل، وهذا البرهان أكّدَهُ يسوع من خلال الذي حدث قبل صلبه بليلة خذوا كلوا هذا جسدي، خذوا اشربوا ها هو دمي: الصليب.
إذاً هذه الكلمات: ما من حبّ اعظم خذوا كلوا لم يكن لها معنى لولا الصليب. والصليب لم يكن ليُفهَم لولا هذه الكلمات، والقيامة تقول لكَ أن الذي قال هذه الكلمات وعاش واقع الصليب، هوَاليوم حيٌّ معكَ، لهذا شربل حيّ، وإلاّ من أين له الحياة. لهذا رفقا حيّة ونعمة الله وتريزا التي تجوب بلادنا حيّة لأنّ يسوع الذي ساروا معه، حيٌّ ولأنّهم اقتنعوا أن الذي كان أسطورة في الماضي بمعنى Mythe، وليس بمعنى خرافة، طموح الإنسانيّة، صار حقيقة وواقع بيسوع المسيح.
والعجائب التي تتحقق على يد القديسين هي ثمرة حضور المسيح الحيّ وليس شيءٌ آخر وليست هيَ الأساس.
فالأساس هوَ يسوع المسيح الحيّ.
يسوع يحبّكَ:
يسوع يحبّكَ، اين؟ في المكان الذي انت فيه محبوب، و في المكان الذي لست فيه محبوباً.
عندما تكون اكتر وقت مبشّع، لا صورة له ولا منظر تشتهيه، هناك ايضاً اتى يقول لكَ أن بشاعتك انا احملها وليس لوحدِكَ، الظلم الذي تُظلَم أنا أيضاً احمله وليس لوحدَك، الموت الذي تموته أنت، أنا احمله لست أنتَ تحمل شيئاً وحدَكَ.
واكبر برهان على كلمة يسوع الأخيرة في آخر إنجيل متى:
ها أنا معكم طوال الأيام إلى إنقضاء الدهر، اكبر برهان هو صليبه.
هو معكَ، حتى عندما تُصبح في القبر، حتى عندما تصير أنتَ لستَ مع نفسك، هوَ معكَ.
وإذا أخذنا كلماته على الصليب، أنا عطشان، صرخة ليست للماء، إنما للحبّ، صرخها معك، وفي وقت وجعكَ القويّ الكبير الذي تصرخ فيه أينَ انتَ يا الله، هو صرخَ إلهي إلهي لماذا تركتني، أيضاً كان معك. ما أجمل إنجيل يوحنا، كان معك في قانا الجليل، في أولّ المشوار، وفي آخر المشوار.
كان معك في فرحة الوجود، في وجع الخروخ من الوجود. قال لكَ هذا الخروج من الوجود هو خروج من وجود قادر على استعبادك إلى وجود أنتَ فيه حرّ.
انتقال من عبوديّة إلى عبادة، تقف أمام وجه الله، وتمجّده.
كل هذه المعاني في الصليب.
ويبقى سؤال، كيف ممكن أن تلتقي إرادة الخير مع إرادة الشرّ؟
الصليب هو علامة المصالحة، بين الإنسان الذي يريد أن يقتل الله، والله الذي يريد أن يحيي الإنسان. وكأن الله يقول للإنسان، إلى أينَ ستصل بالقتل، أنا أعطي الحياة وسأبقى دائماً، وسأبقى أعطيكَ الحياة أنتَ المجرم.
ولا مرّة سأعلّق لكَ مشنقتك رغم أنّكَ علقت لي مشنقتي. يمكن سأركع على رجليكَ وأقول لكَ، لا توجع قلبي وتنتحر في الخطيئة، أنا لن انتقم منك لا احاكمكَ بالعدل أني أترجّاكَ ويديَّ مفتوحتين على الصليب الذي علقتني عليه، وأقول لكَ لا تنتحر.
أما رفض الإسلام في القرآن لصلب يسوع، ماذا يعني بالنسبة لنا.
وما صلبوه وما قتلوه بل شبّه لهم بالنسبة إليهم هذا الإنسان الذي اسمه عيسى، الذي لا يعتبرونه حتى الله، وهو مجرّد نبيّ، ولأنّه رسول من قبل الله، ولأنّه إذا صلبوه فهذا يعني أنّهم انتصروا على الله، رفضوا أن يُصلَب. هذا يعني أنهم ليسوا قادرين أن يرهنوا حياتهم لإله مهزوم. ولا يقدروا أن يروا أن المحبّ لينتصر، عليه أن يعطي حبيبه كل حريّته، فإذا أخذ جزء من حريته لا يمكن أن ينتصر. أنت مقابل أنا. إنسان مقابل حرّ مثلي. لآ حبّ حقيقيّ إلا في التقاء حريتين. لهذا إلهنا يقبل أن يُهزَم لينتصر. هيهات أن يقدروا أن يختبروا إلهنا المحبّ، إلا إذا قبلوا يسوع المسيح.
شيء رائع، يوعينا عليه ألإسلام، أنّ حبّ الله للإنسان جدّي لهذه الدرجة، في الإسلام تبقى علاقة الله بالإنسان علاقة عبوديّة إلى أبعد حدود. أما في المسيحيّة فلا.
وفي النهاية من هوَ الأضعف ومَن هوَ الأقوى. لن أجيب على هذا السؤال.
أنتم طبعاً عندكم الجواب.
آمين. والله معكم.
اسئلة للحوار :
1- في حياتك، احياناً كثيرة تسمع أنّكَ انتَ مسيحيّ أي يجب أن تحمل الصليب. هل يا تُرى أنتَ تقدر أن تميّز بين صليب تحمله لأنّك لست قادر على غير هذا، وصليب تحمله لأنّك تحبّ.؟ بتعبير آخر، إذا مرضت هل تقول أمري لله، ماذا أقدر أن اعمل، أو تقول هذا صليب من اجلي ومن اجل الآخرين؟ وكيف.
2- ما الفرق بين الجبان الذي يُصلَب، ويسوع المسيح الذي صُلِبَ؟ هل بصليب يسوع قوّة تتجلّى عبر الصليب؟ وأي قوّة؟.
3- هل يا تُرى أساس الصليب الوجع؟ أُوضِح: هل يسوع بيديه ورجليه المسمّرين، كان موجوع أكثر؟ أم يسوع الذي تركه تلاميذه، وبقيَ وحده. مواجهة مصيرك وحدك. هل تعرّضتَ لهكذا اختبار، وما كان موقفك؟
4- عيلة مار شربل، انت طبعاً تعرف سيرة حياة شربل، وإذا لم تكن تعرفها فأسرع وإلا لا معنى لوجودك في هذه العيلة، وطبعاً لديك فكرة عن الحبساء الذين ملأوا التاريخ في الكنيسة الشرقيّة. كيف ترى عبر حياة مار شربل، وخاصة في المحبسة، كيف ترى عيشه للصليب؟
اختاروا من الأسئلة ما يلمس قلوبكم.
والله معكم.
 
قديم 14 - 08 - 2014, 03:28 PM   رقم المشاركة : ( 5159 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

تدبير الخلاص فى العهد القديم
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

الخلاص فى فكر الشعوب الوثنية

مقدمة

أولاً : أصل التدبير
ثانياً : الخط العام للخلاص فى الفكر الوثنى
ثالثاً : الخلاص فى العبادات الوثنية
رابعاً : مظاهر الخلاص فى العبادات الوثنية
خامساً : الخلاص فى الفنون لدى الشعوب الوثنية .
سادساً : الخلاص فى الفلك والعلوم لدى الشعوب الوثنية
سابعاً : الخلاص فى فكر الفلاسفة والشعراء والمؤرخين الوثنيين .
ثامناً : عرض لحضارات الشعوب ورؤيتهم حول الخلاص .
مقدمة
ـ الذى يتتبع تاريخ الشعوب الوثنية يلمس أثار من مفاهيم وعبادات ومواقف وممارسات دينية تحمل تدبير الخلاص بالرغم أنها قد تكون غير مفهومة لممارسيها وكلها مفهوم لنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور .
أولاً : أصل التدبير :
ـ أن إنتظار الخلاص كان فى وجدان البشرية كلها متمثلة فى آدم وحواء (أصل كل البشرية) وأنتقل منهم إلى نسلهم المنتشر فى أنحاء المسكونة فبعضهم من عاش حسب تعاليم الأب الأول آدم مثل نوح وأسرته ومنهم من عاش فى أنحراف كنسل قايين وظلوا يبحثون عن الإله المجهول .
ثانياً : الخط العام للخلاص فى الفكر الوثنى :
ـ من يتتبع العقيدة الوثنية عند كل الشعوب يجدها لا تخرج عن فكرة أنه يوجد إله للخير (الله) وتوجد قوى للشر (الشيطان) وأن الخير لابد فى النهاية أن ينتصر (المخلص) .
ـ فالعالم القديم على مختلف شعوبه بالرغم من أفكارهم المنحرفة إلا أنهم كانوا ينتظرون ذلك المنقذ (وأن كان فى شكل مبهم) الذى سترسله السماء يوماً ليحررهم .
ثالثاً : الخلاص فى العبادات الوثنية ( الذبائح ـ الدم )
1- أرتباط الخلاص بالدم .
ـ التقليد الشفوى الذى انحدر إلى البشرية من آدم وراعاه نوح من بعده تناقلته كل الشعوب بما فيها الوثنية ... وبالرغم من انحراف هذا التقليد إلى أنه ترسخ فى وجدانهم أنه لابد من وجود مخلص وأن الدم وسيلة للخلاص .
2- الذبائح إرضاء للإله .
ـ ونجد أن العبادات الوثنية ارتبطت بتقديم ذبائح دموية إرضاء للإلهة الوثنية أو لتكوين علاقة مودة مع الآلهة أو لاستعادة هذه العلاقة أو للحفاظ عليها وكانت تعتبر الوسيلة الوحيدة للاقتراب من الإله ومن هنا جاءت كلمة ( قربان ) لأنها كانت تعبر عن التقرب إلى الإله وإمعاناً فى التقرب إلى الله كانوا يقدمون ذبائح بشرية لإرضاء الآلهة .... بل وأكثر من ذلك قدموا الأطفال ذبائح لاعتقادهم أن هذا يرضى الله أكثر .
3- أصل الذبائح
ـ أرتبط فى ذهن آدم وحواء أن الله أراد أن يكسوا عريهما بجلد الحيوانات وهذا لا يكون إلا بذبح الحيوانات ( تك 21:3 ) ... وأصبح راسخاً فى وجدان الإنسان الأول أن التكفير عن الخطية وستر العرى بالذبائح وأصبحت هى أساس العبادة .... وكانت الأجيال المتعاقبة كل يتعلم من سلفه أن يقدم الذبائح وإن كانت تشوهت عبر الأجيال .
4- تشوه فكر الذبيحة
ـ بسبب إنحراف الفكر المسلم من آدم تشوهت فكرة الغاية من الذبيحة وذلك على النحو التالى :
أ ـ قايين قدم من ثمار الأرض فرفضت تقدمته .
ب ـ فى العبادات الطوطمية والتى تعتقد بوجود روح الإله فى حيوان ما وإذ يأكل العابد الذبيحة فهو يأكل الإله ويكتسب فى نفسه كل الصفات الجسمانية والعقلية والأدبية التى للذبيحة وفى بعض الحالات كان يشرب الدم وبذلك يمتص الحياة كما كانوا فى بعض الأحيان ينهشون لحم الحيوان قبل أن يموت تماماً وهو مازال ينبض بالحياة هذا الأسلوب الدموى البشع يلفت الانتباه إلى الارتباط بين الذبيحة والله نفسه .
ج ـ تقديم الأطفال ذبيحة ... ولعل هذا ليلفت انتباهنا شروط ذبيحة الفادى الذى يموت نيابة عن البشر .
ـ أن يكون بشراً = ذبيحة بشرية . ـ بلا خطية = طفل .
5- عقيدة الختان وارتباطها بالدم :
ـ كان الختان عادة معروفه لدى شعوب الشرق نلاحظ أن إبراهيم لم يستفسر عن معنى الختان من الرب لأنه كان يمارس كطقس إحتفالى عند مشارف الرجوله وممارسته يكتسب المختون حقوقاً أدبية ودينية .
ـ أن اقتران عملية الختان بسفك الدم أعطى نوعاً من القدسية للأمر منذ فجر التاريخ وكان الارتباط المؤسس على الدم غير قابل للانتهاك .
ـ كانت هذه العادة شائعة بين العرب وموآب وبنى عمون وأدوم ومصر وفى مقبرة عنخ ماحور فى سقارة ، وفى الأسرة السادسة 2350 ? 2000 ق.م نقوش واضحة تماماً تصور عملية الختان بسكاكين حجرية ( يش 3:5 ) .
ـ وإن لم تكن منشأة فى بابل وأشور كان الفلسطينيون فى كنعان استثناء بالنسبة للمنطقة التى أطلق عليها ( الغلف ) راجع ( تك 24:34 ) .
ـ هذا الترابط بين الذبائح والختان كبديل لها له مرجعية واحدة ... الدم ودوره فى التكفير فى ذهن المتدين القديم سواء كان يعبد إله أبائه القدير أو متعدد الألهة الوثنية لم يكن يدرك ذلك العابد أن سفك الدم هو مشورة الله ولكنه توارث فى وجدان البشرية أن أرضاء الألهة لا يكون إلا بسفك الدماء لماذا ? لا يعلم ولكننا نحن نعلم يقيناً لماذا وتأكد ذلك فى شريعة الختان والذبائح فى الناموس كانت كل هذه الدماء لا تكفى لذا كان الاحتياج للذي يكفى لكل البشر ( فكم بالحرى يكون دم المسيح الذى بروح أزلى قدم نفسه لله بلا عيب يطهر ضمائركم من أعمال ميته ( عب 14:9 ) .
رابعاً : مظاهر الخلاص فى العبادات الوثنية
ـ الدين الأكدى وهو من العبادات البابلية والأشورية التى هى كلها من أصل سامى كانت خصائص آلهته من نوع مماثل لخصائص الإنسان ولا تختلف عنه إلا أنها أكثر كمالاً وتجريداً ولباس الآلهة أبهى من ثياب الأمراء ويصدر عنها بريق يخطف الأبصار ما هذا إلا محاولة فاشلة لإقناع أنفسهم بأن الآلهة قريبة جداً منها !
ـ وفى العبادات الهندية القديمة يعتقدون أن الإله ( منيشنو ) تجلى فى شكل متجسد كمخلص جاء ليعاقب الأشرار ويكافئ الأخيار فى عهد جديد من القداسة والنعيم أما الإله (كارشينا ) أخذ شكل بشرى فى صورة سائق عربة أرجواناً وقام بإبلاغ رسالة مؤثرة للبشرية معلماً طريقه لعبادة الرب ورغم أنه فى هيئة بشرية إلا أنه الخالق والوحدة الكاملة لكل الكون وكل الأشياء مائلة فيه وهو حال فيها .
خامساً : الخلاص فى الفنون لدى الشعوب الوثنية :
1- فى غاليا (فرنسا حالياً) كان السكان يقيمون تمثالاً ومذبحاً للعذراء المزمعة أن تهبهم مولوداً يحررهم .
2- فى المكسيك ... كان المكسيكيون ينحتون فى الصخر وعلى الأبنية العامة تمثالاً للإله الذى سوف يسحق التنين .
سادساً : الخلاص فى علوم الفلك لدى الشعوب الوثنية :
1- المجوس وجدهم الأكبر بلعام تنبأ عن مجئ المسيح (عدد 15:24) ورئيسهم دانيال قال أن بعد 490 سنة سيأتى المسيا لذلك كانوا يراقبون النجوم لاعتقادهم أن كوكباً سيظهر عند ميلاده وعلى الأبنية العامة تمثالاً للإله الذى سوف يسحق التنين .
2- الاسينيون فى قمران حددوا ميعاد مجئ المسيح بالجسد .
3- مدرسة بابل وهى أكبر المدارس الفلكية القديمة حددت زمن مجئ المسيح ... فقد كان علماء الفلك يعتقدون أنه فى العام الرابع قبل الميلاد سوف يتم لقاء المشترى وزحل فى منطقة برج الحوت والذى يجب أن يظهر 3 مرات على الأقل فى29 مايو، 1 أكتوبر، 5 ديسمبر .... وهذا اللقاء لا يمكن ملاحظته قبل 794 سنة ولمرة واحدة أما فى عام 4 ق.م ظهر بوضوح 3 مرات وهذا التاريخ يعتبره الاختصاصيون أكثر التواريخ دقة لولادة السيد المسيح .
سابعاً : الخلاص فى فكر الفلاسفة والشعراء والمؤرخين الوثنيين :
ـ [ متى يأتى هذا الشخص الذى يعلمنا كل شئ أننى بغاية الشوق إلى معرفته ... ] (أفلاطون)
ـ [لقد حانت الأيام الموعودة .. طفل صغير مرسل من السماء إلينا وعلى عهده ستمحى آثار جريمتنا والأرض لن تعرف الخوف فيما بعد ولسوف يتخذ له مقراً مع الإلهة ويحكم العالم الهادى بقوة فضائل أبيه فهلم أيها الابن العزيز يا ابن جوبيتر أنظر إلى المسكونة فهى خاشعة باحترام أمامك تسلم عليك وأنظر فكل إنسان قد سر وابتهج بقدوم هذا العهد الجديد] ( الشاعر الرومانى فريجيل ) .
ـ [ إن أكثر الشعوب مقتنعة بأنه مكتوب فى كتب الكهنة القديمة أنه فى تلك الفترة سيعظم الشرق بالقوة وأنه من اليهودية سيأتى الذى يسود العالم ] ( رافتيس مؤرخ رومانى ) .
ـ [ كانت فى الشرق فكرة قديمة وثابتة تسيطر على الأذهان مفادها أنه سيأتى من اليهودية فى تلك الأيام ذلك الذى يسود العالم ]
( سويطونيوس مؤرخ رومانى ) .

ثامناً : عرض لحضارات الشعوب ورؤيتهم حول الخلاص :
ـ نجد أن أغلب الأساطير فى كل حضارات الشعوب لها جذور متشابهة ، ولها عناصر ثابتة مما يؤكد وحدة المصدر وحقيقة الموضوع . فمثلاً أسطورة ( إيزيس ) الفرعونية التى أنجبت ( حورس ) بقوة إلهية وقد صارع ( ست ) الشرير وأعاد عرش ( أوزوريس ) الذى قام من الأموات وصار ملكاً للخلود . فأننا نجد ذات الفكرة عند بلاد اليونان فى أسطورة ( دمتر ) وبلاد الرومان فى أسطورة ( سيريز ) وبلاد بابل فى أسطورة ( جلجاميش ) .
ـ والعجيب أن يأتى بعض المفكرين الذين يجدوا التشابه بين سفر التكوين وبين بعض الأساطير فيستنتجوا أن موسى النبى قد تأثر بالأساطير وكتب بعض منها فى السفر ، بينما هذا المنطق مقلوب ، لأننا نجد تشابهاً عاماً عند كل الشعوب فى أهم الأساطير التى تحدد العلاقة مع الله وتكون الصورة هكذا : إن العالم كله كان عنده الفكرة الحقيقية عن الله ثم تشتت فصاغوا الأساطير عن الحقائق الموروثة لذلك فهى متشابهة لأنها تحمل بعض من الحقيقة ولكنها مع كم الأساطير والأفكار صارت الحقائق مشوهة ، فجاء الله وكلم موسى النبى ليخبره عن الحقيقة التى كانت قبل الأساطير . لذلك فلابد أن نجد تشابهاً بين الأساطير وكلام سفر التكوين لأن الحقيقة المعلنة لموسى النبى بجلاء تام تشابه الحقائق التى عند الشعوب ولكنها مشوهة . إذ أن المصدر واحد وهى حقيقة الأحداث .
الحضارة السومرية والبابلية :
ـ فى الجزء الجنوبى لما ما بين النهرين كانت هناك حضارة قديمة تسمى الحضارة السومرية وقد وجدت حفريات يرجع تاريخها إلى ( 2300 ق.م ) فيها كتابات على النحو التالى :
ـ [أى سومر أيتها الأرض العظيمة بين كل أراضى الكون ، أنت التى يغمرك ضوء لا يخبو يا من تسنين القوانين الإلهية لكل الشعوب من المشرق إلى المغرب ].
ـ فأطلقوا الأساطير التى تحكى عن هذه الأمور وعبدوا إلهاً أسموه " البانثيون السومرى " يقولون عنه : [ حينما هبطت السلطة الملكية من السموات وضع الآلهة الشعائر والقوانين العليا .... ] والبانثيون هى آلهة تسيطر على الطبيعة وتضع الإنسان تحت رحمتها .
ـ وهناك أساطير أخرى تعكس تفكيرهم فى الخلاص والخلود والحياة الأبدية . وكان هناك ملوك آلهة وهم " ميسكيا نكاشير " وهو ابن إله الشمس ، وهو قد نزل وبنى مدينة مقدسة (لو كالبا ندو) وهو نصف إله ، وكان راعياً . ثم الإله (دموزى) وهو إله يموت ليبعث من جديد .
أسطورة جلجاميش فى بابل :
ـ وهى أسطورة يرجع تاريخها إلى ما قبل المسيح بثلاثة آلاف عام . وجلجاميش شخص ثلثه إله وثلثيه إنسان . وقد أستطاع أن يعرف أسرار الكون وأخبار ما قبل الطوفان فهو من نسل ( شمس نشتين ) المخلوق الوحيد الذى نجا من الطوفان والذى كان يعرف كل الأسرار وقد مات صديق جلجاميش الذى يدعى ( أنجيدوا ) وقد كانا معاً يصارعان ثوراً ضخماً أرسلته آلهة الشر ( اشتار ) . فملأ الحزن قلبه ، وبدت له صورة الموت بشعة ومخيفة ، وأخذ يفكر فى طريقه يهزم بها الموت . ولم يكن هذا إلا بمعرفة سر الخلود . ولم يكن هذا ممكناً إلا إذا ذهب إلى جده الأكبر ( شمس نشتين ) الذى يعرف كل الأسرار.
ـ وبدأ جلجاميش رحلة مرعبة ليصل إلى جده الأكبر ، واستغرقت هذه الرحلة أربعين يوماً وأربعين ليلة فى نهايتها وجد نفسه أمام جزيرة صغيرة هى التى كان يقيم فيها جده الخالد أبا الدهر . ولكن حينما وصل إلى هذه الجزيرة كان قد أعى من التعب ودخله مرض شديد ، فسقط فى قاربه أمام جده الأكبر وبينما هو يصارع الموت أخذ يتوسل إلى جده أن يمنحه سر الخلود .
ـ فقال له الجد : أن الموت هو نهاية كل بشر ، ولا يمكن لأحد أن يعرف سر الخلود ولا حتى ساعة النهاية .
ـ فأجاب جلجاميش : أننى أشبهك تماماً فكيف أموت أنا بينما أنت جدى وأنا منك وأنت تعرف سر الخلود وتتركنى أموت ؟!!!!
ـ فأخذ يحكى له قصة الخلق والطوفان والموت والخلود وعندما أنتهى من قصة كان جلجاميش قد سقط من الإعياء فى قاع القارب . فتألم الجد وهو يرى حفيده يموت ووعده أن يعيد إليه الحياة . فأحضر الجد الخالد السبعة عناصر المقدسة وقطر بين شفتى جلجاميش ، فنام سبعة أيام ، وبعدها استيقظ وطلب من جده أن يعطيه سر الخلود . فأخذه وأنزله إلى ينبوع الماء المقدس ليزيل عن نفسه مفاسد حياته الماضية . ثم رجع مرة أخرى وطلب أن يعرف سر الخلود فأخذه الجد الخالد إلى حيث نبتة الخلود وحصل عليها وأخذها ، وهى النبتة التى من يأكلها تعود إليه الحياة وتمنحه الخلود . ثم رجع جلجاميش ليصارع الشر من جديد فى رحلة الرجوع إلى الأرض وهو يحمل نبتة الخلود .
حضارة فـــارس :
ـ لقد كانوا يؤمنون بوجود إله عظيم واحد منه كل الأشياء هو الإله ( هرمز ) وهو إله النور والخير ، وكان قادراً على كل شئ وكل ما يفكر فيه لابد أن يكون . ويوماً فكر فى أنه ماذا لو كان له منازع ؟ وبمجرد ما فكر فى هذا ظهر إله الظلام والشر (أهرمان). فقام إله الخير بخلق جميع الملائكة والبشر حتى يساعدوه ضد غريمه ( أهرمان ) . وحاول إله الشر أن يؤثر على البشر لينضموا إليه . وهكذا بدأ الصراع بين الخير والشر .
حضارة الهند :
ـ وقد عبد الهنود إلهاً يسمى ( ميثهرا ) وقد عبده الفرس أيضاً وهو إله الزراعة والخصب والحياة . واعتقدوا أنه يدخل سنوياً فى معركة مع إله الموت والظلام . وكان يتعرض فى هذه المعركة للأسر ثم للاستشهاد موتاً على الصليب . فتصاب الأرض بالجفاف ويتوقف النسل ، لكنه يعود ويقوم من الأموات . فيعم الربيع بعد القيامة المجيدة لتفرح الأرض وتعود لها الحياة .
حضارات الفلاسفة وحضارة الفراعنة :
ـ وقد حاول الفلاسفة الإغريق الوصول بالمنطق العقلى للإجابة على الأسئلة الميتافيزيفية . ومع أنهم لم يعرفوا طبيعة الله ولكنهم بالمنطق وصلوا إلى مسلمات وضرورات عقلية لابد أن تكون ثابتة حيثما تفكر فى الإلهيات .
ـ فقد قالوا بحتمية وجود الإله الخالق العظيم ، وأنه لابد أن يكون الوجود كله من صنع إله واحد ليس له بداية ولا نهاية . كما أنهم لم يتصوروا أن يكون الإله خامل أو ساكن بل هو فى حالة عمل دائم ومعرفة دائمة . ولكنهم مع هذه الصور المنطقية الهامة جداً من الحقيقة الإلهية ، ولكنهم لم يستطيعوا أن يعرفوه على مستوى شخصى . لأن هذه الأمور كانت مجرد أفكار . وهذا على عكس حضارات أخرى مثل حضارات الفراعنة الذين حاولوا إقامة علاقة مع الصور التى فكروا فيها . وصنعوا من تصوراتهم حقائق لاهوتية آمنوا بها ونادوا للشعب أن يؤمن بها بل صاغوا حولها الأساطير والقصص التى تقرب الحقائق للشعوب . والأغرب أنهم جعلوا هذه الحقائق كأنها موروثة من تراث عالم إلهى حقيقى . فقد كانوا يحاولون أن يبحثوا عن صور للتعبير عن الله ، فأخذوا من الطبيعة صوراً تعبر عن الأفكار الإلهية ونادوا بحلول الله فى هذه الصور فعبدوها .
ـ فمثلاً عبدوا الثور ولكنهم كانوا يدركون تماماً أن الله ليس هو الثور نفسه كطبيعة . لأنهم آمنوا فعلاً بأن الإله خالق كل شئ فكيف يكون هو محدود ومخلوق . ولم يزعجهم عدم توافق كل جوانب الصورة مع ما ينظرون إليه من ملامح الألوهية ، ولكنهم كانوا يكتفون بإقامة علاقة مع أحد مظاهر الألوهية فى المثال الذى يقربهم من الإله الذى يعيش معهم وهذا لضعف العلاقة مع الله الحقيقى مع احتياجهم الشديد لذلك .
ـ وعلى سبيل المثال عبدوا الشمس فى عصور كثيرة وأعطوها اسم الإله الأعظم ( رع ) ثم ( أتون ) فى عصر اخناتون .
ـ وفى كتابات اللاهوتيين هليوبوليس الفرعونية المحفوظة إلى الآن فى المتاحف المصرية كانوا يقولون :
" أتوم الإله الذى بادئ ذى بدء خلق نفسه بنفسه وجاء للوجود من تلقاء ذاته "
ـ هكذا نرى أن الإله فى أذهانهم غير محدود برغم محدودية الرمز ، ولكنهم كانوا يقيموا علاقة مع الرمز ليعطى لهم إمكانية تجسيد الفكرة الإلهية التى بداخلهم فعبدوا مثلاً الحيوانات مثل العجل والتمساح رمزا للقوة . والبقرة والإوزة والعنزة والكبش رمزا للحياة . وعبدوا القط والكلب والدجاجة وابن آوى والأفعى رمزا للقوة المجهولة . وفى عصور أخرى عبدوا آلهة باسمائها مع احتفاظهم بصورتها المحسوسة المادية الحيوانية مثل الإله أمونه كان يرمز له بالكبش والإله حورس فى صورة الصقر .
ـ وقد كانت لهم إشراقات قوية جعلتهم يتصورون حقائق هامة مهدت فكرهم لاستقبال عمل الله الحقيقى . فمثلاً فى " كتاب الموتى " (فصل 85) الذى يرجع تاريخه إلى (2000 ق.م) يقول الإله : " لقد خرجت إلى الوجود من ذاتى فى خضم المياه الأزلية "
وفى كتاب نصوص الأهرام فى الفقرة ( 1146 ) يقول الإله :
إننى فيــض الــدم الأزلى الــذى انبثــق مــن المــياه
أنا مـن يكتب الكتاب المقـدس الذى يقول ما كان ويجعل ما سيكون
ـ وقد كان هناك إشراقات من الحقائق الإلهية التى كان غالباً ما يرسلها الله لهم ولكن على مستواهم وحسب طريقة تفكيرهم . فمثلاً فى عهد الإمبراطورية الحديثة كانوا يؤمنون بأن آمون هو الإله العظيم وأمون كلمة تعنى " الإله الخفى " وآمنوا بأن القوى الإلهية تمثلها ثلاثة آلهة ( آمون ورع وبتاح ) وآمنوا بأن ( آمون ) هو اسم الإله ( ورع ) هو وجهه ( وبتاح ) هو جسمه .
ـ وأيضاً أمون هو الإله العظيم الخفى ، ورع هو إله الشمس الذى يرسل أشعته ، وبتاح هو الإله الخالق للعالم والواضع صورته المرئية وهو يخلق بفكره ولسانه ( بالنطق وبالكلمة ) وكانوا يصورنه فى هيئة إنسان ملتحف بثوب محكم الالتفاف .
ـ وفى تطور الفكر اللاهوتى الفرعونى ، صار الإله بتاح هو أزوريس إله الخلود الذى قام بعد الموت وهو الذى يعطى الحياة .
وفى نشيد رائع يسمى نشيد ليدن يقولون الإله أمون :
ذاك الذى بدأت صـورته أول مــرة آمــون الذى أنجـب نفســـه
فى البدء دون أن يعـــرف ســره لــم يوجــد قبــله إلـــه
ولم يكن إله أخر معه ليحدثه على شكله ولم تكـــن له أم لتصنع إسمه
ولم يكــن له أب وقال هذا هو أنــا القـــوى الغـامض المــيلاد
والذى خـــلق جمـــــــاله الإله الذى جاء للوجود من تلقاء ذاته
أنه خفى عن الآلهة ولا يعرف المرء مظهره
ويوجد نشيد أخر للإله بتاح يقولون فيه :
أعرف اسمه إن اسمه هو الخلود
الخلود رب السنين هو اسمه المبجل فوق قبو السماء
الذى يعيد الشمس إلى الحياة كل يوم
وفى إحدى نصوص التوابيت وجدوا هذا النشيد الرائع أيضاً للإله بتاح :
إننى أنا الخالق المتربع فى ذرى السماء
وكل إله لا ينزل إلى جوارى
أنا الروح الحى ذو الوجه البسيط
أنا الكلمة الطيبة أنا المخلص
وأخلـص كـل شــــئ
ـ وتوجد أيضاً جملة غريبة جداً عن الإله بتاح لأنها تماثل الفكر الحقيقى المعلن فى التوراة عن الخلق إذ يقولون عن الإله بتاح :
" حينئذ استراح بتاح بعد أن خلق كل شئ وكل كلمة مقدسة "
ـ وفى الفصل السابع عشر من " كتاب الموتى " يأتى هذا النص الرائع على لسان الإله العظيم :
جاءت الكلمة إلى الوجود
كان لى كل شئ حينما كنت وحيداً
كنت رع فى كل تجلياته الأولى
كنت العظيم الذى أتى إلى الوجود من ذاته
أنا من لا يقاومه إله

ـ هذا من حيث الأفكار المصاغة فى الأناشيد وإيمانهم المصاغ فى كتاب الموتى ونصوص الأهرام وغيرها . ولكن يوجد ما هو أكثر قرباً للناس وهى الأساطير التى كانوا يعلمونها للشعب من خلال طقوس جماعية تحكى لهم هذه الأساطير ، وبصورة تمثيلية أحياناً فى المعابد وفى الأعياد وهم يقدمون القرابين للآلهة .
مثلاً أساطير الخلق :
ـ يقولون أن الإله ( رع ) الذى يرمز له بالشمس هو الإله الخالق على الدوام ولما أشرق أول مرة ورأى الأرض صحراء جرداء غمرها بأشعته فبعث فيها النشاط فخرجت من عيونه كل الكائنات الحية من نبات وحيوان وإنسان . وأول من خلق من البشر كانوا سعداء وكاملين ولكن أبناءهم انحدروا شيئاً فشيئاً إلى طريق الضلال ، فغضب عليهم الإله وأهلك منهم عدد كبير من جنس البشر وخسروا ما كانوا عليه من كمال وسعادة .
أسطورة أخرى للخلق والطوفان :
ـ كانت السماء متصلة بالأرض حين تمرد البشر على الآلهة الذى كانوا يعيشون بينهم. وازداد الفساد بالبشر حتى ثار غضب الإله (رع) وقرر أن ينزل بهم نقمة. وبعد طوفان من الدم عفا الله عمن حافظ على عهده من الناس غير أنه منذ ذلك الحين امتنع (رع) عن مخالطة الناس وفصل السماء عن الأرض وسكن فوق حيث السماء .
أسطورة لنتائج الخطية :
ـ وحينما كثر شر الناس واستهانوا بالإله (رع) ولم يفعلوا وصاياه، غضب وقرر أن يترك مقاليد الحكم لابنه (شو) وقال له: "أنا تارك لك مقاليد الحكم فأكمل مشيئتى وتول أنت الأمر، وأنت يا ابنتى (نوت) أحملى أباك فوق ظهرك ودعيه مُعلقاً فوق الأرض" .
ـ وحاولت ( نوت ) أن تعترض ولكنها أذعنت لرغبة الإله الأعظم فتحولت إلى بقرة وحملت أباها ( رع ) فوق ظهرها الكبير . وطلع الصباح على الناس ، فإذ ( رع ) العظيم قد غادر مكانه ونظر الناس فوق رؤوسهم إذ بقرة إلهية هائلة ، وفوق ظهرها الإله الغاضب على الأرض الذى تركها وترك الناس فسجد له الناس وأخذوا يتوسلون له أن يبقى فلم يرض ، فأقسموا له أن لا يكون هناك من يغضب الإله أو لا يعمل وصاياه فقتلوا أمام عينيه كل الذين أغضبوه ورفضوا مشيئته .
ـ ولكن لم تستمر المذبحة طويلاً حتى صرخ الإله ( رع ) : " كفى مغفورة لكم خطاياكم " . فتوقف أتباع ( رع ) عن قتل الأشرار . وأقسموا أمامه بأن يقتلوا فيما بعد كل من يستهين بالإله حتى لا يغضب مرة أخرى بل يقدموا كل من يخطئ ذبيحة وقرباناً له . ولكن (رع) كان رحيماً بأبنائه البشر فلم يحتمل أن يضحى البشر ببعضهم البعض ويقدموا له ذبائح بشرية لكى يرضى عنهم ويغفر ذنوبهم . فقرر أن يستبدل المذنبين بذبائح وقرابين من الثيران والطيور بدلاً من البشر . على أن يصلى الكاهن الذى يقدم القربان صلوات خاصة لتحل الحيوانات محل الخطاة . وبعد هذا اعتلى ظهر البقرة الإلهية ( نوت ) فارتفعت به وتقوست وأمتد بطنها كالقبة ، وصارت فيما بعد السماء الزرقاء التى تغطى الكون . وأخذ ( رع ) ينثر على صفحتها النجوم لتنير الليل .
ـ هكذا لعبت الأساطير دوراً هاماً فى تفسير الأمور الميتافيزيقية والأسئلة المتعلقة بالإله والكون . حتى وإن كانت توجد بعض الأمور نراها نحن الآن أنها ساذجة جداً ولكن هذا لأننا لا نعرف ونرى الحقيقة بجلالها ، فننظر إلى هذه الأمور على أنها ساذجة . كما أنهم كانوا بمثابة الأطفال فى الفكر الإلهى الذين لابد أن يصوروا لهم هذه الأمور غير المحسوسة على أنها محسوسة حتى يتعايشوا مع الإله على أنه حقيقة .
اخناتون وأعظم إشراق للفراعنة :
ـ فى السنوات الأولى لأخناتون كان الإله يصور على شكل إنسان له رأس صقر ، أو فى صور أخرى . ولكن جاء أخناتون وأحدث انقلاباً فى الفكر الدينى وسنرى أنهم لم يستوعبوه حتى أنهم قتلوا أخناتون ليعيدوا الفكر القديم كما كان . وما حدث لأخناتون هو حالة إشراق إلهى لا منازع ، لأنه لا يمكن لفكر أحد فى هذه الفترة أن ينادى بهذه الأمور دون إعلان .
ـ وقد نادى أخناتون بعبادة الإله الواحد دون غيره لأن الإله واحد فقط ولا يوحد آلهة أو أرباب آخرين وأنه لا يتصور فى شئ ، وأنه غير محدود بأى حال . ونادى بأنه يعبد بالحب والسلام . لذلك نزل أخناتون من عرشه وطاف المدن والقرى ينادى بذلك . ولكن الإمبراطورية الفرعونية المترامية الأطراف ، كانت لها أعداء فحينما سمعوا ذلك أغاروا على مصر وأملاكها . ولكنه لم يحاربهم . فثار عليها الجيش بجانب ثورة كهنة آمون لأنه أغلق كل معابد الآلهة الأخرى ومحى ذكرهم ورفع أتون الإله الذى لا يتصوره أحد . وهذا جعل الثورة ضده كبيرة جداً التى انتهت بقتلة عام ( 1362 ق.م ) حسب إحدى التقديرات التاريخية .
صلاة لأخناتون :
أنك فى قلبى
ليس هناك من يعرفك سوى ابنك
أن رع الذى أطلعته على أسرارك وقوتك
أنك أنجبت جلالك
كما تنجب نفسك كل يوم ودون توقف
لقد خلقته مثل أشعتك
لتجعل حياته مثل أتون
يا أتون الحى الوحيد
أنك أنت الأبدية
والسماء هى معبدك
الذى تشرق فيك كل يوم
لتلد ابنك
الذى خرج من جسدك
أنك أنت الأبدية وأبنك مثلك

ـ ويوجد بعض المفكرين الذين وجدوا صلوات أخناتون مشابهة لمزامير داود ، فقالوا أن داود أخذ صلوات أخناتون وأعاد نظمها . ولكن عالم المصريات والاس بدج ( Budge ) أكتشف أن أناشيد أخناتون تطابق أناشيد الفيدا ( ALFIDA ) السورى فهل الفيدا أيضاً أخذ أناشيد أخناتون وأعاد صياغتها . هذا تحميل ملفق على الحقيقة . ولكن حينما تقدم مشاعر حب وعبادة لله سواء من أخناتون أو الفيدا أو داود النبى فحتماً سنجد أن هناك أشياء مشتركة فى الأفكار والمشاعر ، إذ أن قلب الإنسان حينما تشرق فيه المحبة الإلهية فأن محتوى الكلمات ستتشابه فى أشياء كثيرة لأنها تصف ما هو حقيقى كما كان أخناتون يقول عن نفسه ( أنا الذى يعيش الحقيقة ) .
ـ ويقول لنا التاريخ أنه منذ تفرقت الشعوب ( من بابل ) إلى الألف الثالثة قبل الميلاد فإن الشعوب كانت فى ارتحال دائم نتيجة لتحركات الإمبراطوريات الكبرى ، ومع فرض نفوذها العسكرى والسياسى كانت تفرض أيضاً عبادة الآلهة العظمى لها .
ـ لذلك حينما طلب الله من موسى النبى أن يكتب سفر التكوين كان الهدف هو إعلان حقيقة الأحداث والأفكار عن الله ، ليتخلص الإنسان من الشوائب التى تركتها الأساطير الخاصة بالآلهة المنتشرة فى العالم كله ، ولتبقى الحقيقة الإيمانية موجودة ، فالإنسان لم يفقد الإيمان بوجود الإله ، ولكنه نتيجة بعده عنه شوه هذا الإيمان . فالله كان موجوداً عند الشعوب كحقيقة ولكن صنعوه كموضوع . وأصبح الإنسان يصنع الإله من مادة ملموسة حجر أو بحر أو شمس أو قمر لأنه لم يستطع أن يعرفه جيداً ، وكلما أزداد الإنسان فى الرقى والحضارة كلما كان الإله المكون فى عقله أعظم وأرقى وغير مادى ، فنجد آلهة الأمم المتحضرة لها صورة متحضرة ، وآلهة الأمم الهمجية لها صورة همجية ، والأمم التى لها فكر ومنطلق آلهتها تعطى الحكمة وتسكن فى الأعالى مثل آلهة اليونان .
 
قديم 14 - 08 - 2014, 03:29 PM   رقم المشاركة : ( 5160 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

من الليتورجيا إلى الفرح الافخارستي

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

جاء في التوجيه لتطبيق المبادئ الليتورجية الواردة في " مجموعة قوانين الكنائس الشرقية ما يلي: "كل يوم وبطرق عديدة وفي أوقات مختلفة، تقوم الليتورجيا ببناء المؤمنين هيكلاً مقدساً في الرب، مسكناً لله في الروح". ويعرض لنا الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد لوحات ليتورجية رائعة. نقرأ في سفر أشعيا (6/1-8) حيث يتجلّى الله لأشعيا النبي فيدعوه للرسالة في وسط احتفال ليتورجي مهيب. وفي المزمور (21/23) نجد دعوة إلى البشارة والتسبيح وسط الجماعة المصلّية: "سأبشّر باسمك إخوتي وفي وسط الجماعة أسبحك". وفي المزمور (41/5) يدعو صاحب المزامير الجمهور" إلى العبور معه إلى بيت الله بصوت ترنيم وهتاف تعييد". كما نقرأ في سفر الرؤيا في الفصلين 4-5 لوحات جميلة في جو ليتورجي رائع كما يختم في الفصل الأخير بصلاة ودعاء: " آمين تعال، أيها الرب يسوع فلتكن نعمة ربنا يسوع المسيح معكم أجمعين آمين". إنها صلاة بركة يرددها المحتفل في كل الاحتفالات الليتورجية.
يوم الخميس 10 حزيران 2004 بينما كان قداسة البابا يوجنا بولس الثاني يحتفل بعيد القربان في التطواف في شوارع روما، أعلن عن بدء سنة الافخارستيا في شهر تشرين الأول الفائت في وقت انعقاد المؤتمر الافخارستي العالمي في غوادلاجارا المكسيك، وتنتهي في تشرين الأول 2005 في أثناء سينودس الأساقفة وموضوعه: الافخارستيا ينبوع وقمة الحياة ورسالة الكنيسة، مع العلم أنه في سنة 2003 أصدر قداسته الرسالة العامة بعنوان:


"الافخارستيا حياة الكنيسة".
من هنا نفهم أهمية هبة الافخارستيا، التي أوكلها يسوع المسيح إلى الكنيسة، التأوين المستديم للسر الفصحي. وفي إطار الحياة الليتورجية العميقة نحن مدعوون إلى عيش الفرح الافخارستي، في قلب الجماعة وفي وسطها، ومع إخوتنا نعبر إلى بيت الله بفرح إلى حياة جديدة مع المسيح الافخارستي. نوعاً ما نعيش اختبار تلميذي عمّاوس، كما أعلن قداسته في خبرته الشخصية قائلاً:" كل يوم سمح لي إيماني بأن أعرف في الخبز والخمر المكرّسين الحاج الإلهي الذي، في يوم من الأيام، سار مع تلميذي عمّاوس ليفتح أعينهما على النور وقلبهما على الرجاء ( لو 24/13-35). ويتابع قداسة البابا شهادته بهذا الابتهال:"السلام عليك أيها الجسد الحقيقي المولود من مريم العذراء، الذي تألم حقاً وذبح على الصليب من أجل الإنسان". "إني أعبر مع الجمهور..." الاحتفال الليتورجي عبور غايته اللقاء بشخص يسوع المسيح، واللقاء بالمسيح بحدّ ذاته هو فرح. ولكي نعبر من الاحتفال الليتورجي إلى الفرح الافخارستي علينا أن نمارس الاختبار الشخصي في وسط وقلب الجماعة الكنسية المصلّية، لأن الكنيسة هي جماعة مصلّية. نعيش الفرح الافخارستي عندما نختبر بالفرح وبأشكال مختلفة التحقيق الدائم للوعد:" هاءنذا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" ( متى28/12 ).
الافخارستيا حضور يسوع المسيح الخلاصي وسط جماعة المؤمنين وغذاءها الروحي، هي أثمن ما يمكن أن تمتلكه الكنيسة في مسيرتها على امتداد التاريخ. أي في قلب الحياة الليتورجية ومن خلالها تختبر الكنيسة الفرح بحضور الرب معها في الافخارستيا. هذا الفرح تعبّر عنه وتعيشه الكنيسة اليوم مثلما عبّرت عنه وعاشته جماعة الكنيسة الأولى كما جاء في أعمال الرسل( 2/42 ) " وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات". أعني : بالإصغاء إلى كلمة الرب والحياة المشتركة وتناول جسد الرب والصلوات الطقسية إذا صحّ التعبير. أكتفي هنا بأن أتوقف على النقطة الأخيرة وهي المشاركة في الصلوات، أي رفع الدعاء والتراتيل والتسابيح إلى الله في أثناء الاحتفال الليتورجي. لقد ركّز بولس الرسول على هذه النقطة بالذات عندما حثّ أهل أفسس بقوله:" دعوا الروح يملأكم، وليكن حديثكم تلاوة مزامير وتسابيح وأناشيد روحانية، رتّلوا وسبّحوا الرب من صميم القلب واحمدوا الله الآب حمداً دائماً على كل شيء باسم ربنا يسوع المسيح"(أفسس 5/19-20 ). ويتوجه أيضاً بهذا الطلب إلى أهل كولوسي:" لينزل فيكم كلام المسيح وافراً لتعلّموا بعضكم بعضاً وتتبادلوا النصيحة بكل حكمة، رتّلوا لله من صميم القلب شاكرين بمزامير وتسابيح وأناشيد روحانية"( كولوسي 3/16 ).
إن الصلاة الليتورجية في الشرق تظهر استعداداً عظيماً لإشراك الشخص البشري بأكمله. فالسر ينشد في سمو محتواه، ولكن أيضاً في حرارة العواطف... وفي العمل القدسيّ تُدعى الطبيعة الجسدية هي أيضاً إلى التسبيح.
إن الصلاة الليتورجية تتطابق مع وديعة الإيمان وتعبّر عنها بالتمام وفقاً للعبارة:" شريعة الصلاة هي شريعة الإيمان أو شريعة الإيمان يعبّر عنها بالصلاة الليتورجية". إن الكنيسة تعي وتفهم نفسها انطلاقاً من طبيعتها كجماعة محتفلة، والاحتفال مشاركة وعلى المشاركة أن تكون كاملة وبالتالي فاعلة وملأى وتقوية وذكية ومثمرة. فإذا كانت الكنيسة تصنع الافخارستيا ، فالافخارستيا تصنع وتبني الكنيسة لتصبح ( هيكلاً مقدساً في الرب، مسكناً لله في الروح). فتصبح هكذا صلاة الكنيسة مشاركة في الليتورجيا السماوية واستباقاً للسعادة الأخيرة.
يقول القديس أوغسطينوس (+430 ):
" أنشد الآن لكي تتعزى في التعب ، لا لتتمتع بجمال الراحة.
أنشد كما تعوّد المسافرون أن ينشدوا.
أنشد وسر وخفّف بترانيمك من تعبك، ولا تستسلم إلى الكسل.
أنشد وتقدّم، تقدّم في الخير، إن تقدمت سرت، تقدم في الإيمان والأخلاق الصالحة.
لا تضلّ ولا تتراجع ولا تتوقف أبداً ... أنشد.
وهكذا الاحتفال الليتورجي يغيّرنا وينقلنا إلى حياة مع الله إلى الفرح الحقيقي، إلى الفرح الافخارستي، الذي يحوّل أرضنا إلى فردوس وحياتنا البشرية إلى حياة الهبة.
وفي الختام، يدعونا قداسة البابا أن نشاركه صلاة القديس توما الأكويني اللاهوتي (+ 1273 ):
أيها الراعي الصالح، الخبز الحقيقي
يا يسوع ارحمنا ، غذّنا ، احمنا
اجعلنا نرى الخير الأعظم في أرض الأحياء
أنت الذي يعرف كل شيء ويقدر على كل شيء
أنت غذاؤنا على هذه الأرض
اجعل منا مدعوّيك في العلى،
ووارثين لك إلى الأبد في أسرة القديسين آمين
 
موضوع مغلق


الانتقال السريع


الساعة الآن 08:47 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024