ما هي التشبيهات التي تقرب لنا معنى التجسد؟
ج: هناك تشبيهات كثيرة تقرب لنا معنى التجسد مثل:
1- العليقة.
8-تابوت العهد.
2- جمرة أشعياء.
8-سوسنة الأودية.
3- الروح والجسد.
10-إتحاد الحديد بالنار.
4- إتحاد الماء بالنار.
11- الملك المُنقِذ.
5- إنقاذ الغريق.
12-مدينة الملك.
6- الفنان العظيم والفخاري الكريم.
13- المعلم.
7- القشة المغلَّفة بالاسبستوس.
14- الفأس والشجرة المشمسة.
1- العليقة: إنها شجرة العوسج الخضراء (الناسوت) التي اشتعلت فيها النيران الإلهية (اللاهوت) ومع هذا فإنها لم تحترق، فيقول البابا كيرلس الكبير "الكتاب المقدس يُشبّه الطبيعة الإلهيَّة بالنار بسبب قدرة هذا العنصر الذي يغلب بسهولة كل ما يعترضه، وأما طبيعة الإنسان الترابي فهي على عكس ذلك تشبَّه بالزرع وبنبات الحقل، فالكتب المقدسة تقول من جهة "إن إلهنا نار آكلة" ومن جهة أخرى "الإنسان كالعشب وأيامه تفنى كزهر الحقل" فكما أن العوسج (الشوك) بطبعه لا يحتمل النار هكذا أيضًا الناسوت بطبعه لا يحتمل اللاهوت. وأما في المسيح فقد حلَّ كل ملء اللاهوت جسديًا.. لذلك فالنار (التي رآها موسى) ما كانت تحرق العوسج بل كانت تتلاطف وتتآلف مع طبيعته الخشب الضعيفة، وهكذا اللاهوت كان يتآلف مع الناسوت، وهذا هو السر الذي تم في المسيح" (1)
وقال أيضًا "كما أن النار كانت تضئ العليقة دون أن تحرقها هكذا أيضًا اللوغوس لما تجسَّد لم يحرق الجسد الذي اتحد به بل على العكس جعله جسدًا محيّيًا" (عظة فصحية 17) (2).
وردًا على القائلين بأن الطبيعة الإنسانية تلاشئت في الطبيعة الإلهية قال "فان الله قد نزل في العليقة في البرية بمنظر النار وكان يضئ العوسج ولا يحرقه، وكان موسى يتعجب من هذا المنظر، لأن الخشب (بطبعه) لا يحتمل النار، فكيف استطاعت هذه المادة القابلة للاحتراق أن تحتمل اشتعال النار فيها (بدون أن تحترق)؟ لقد كان هذا كما قلت مثلًا للسر الذي به استطاعت طبيعة اللوغوس الإلهيَّة أن تُخضِع نفسها لحدود البشرية، لأنه أراد ذلك ولأنه لا يستحيل عليه شيء قط" ( المسيح واحد) (3).
2- تابوت العهد: الذي أمر الله موسى بأن يصنعه من خشب السنط الذي لا يُسّوس (إشارة للناسوت الخالي من الخطية) ويغشيه بالذهب (إشارة لللاهوت) وكما أن كل من الخشب والذهب ظل محتفظًا بطبيعته هكذا الناسوت واللاهوت، فيقول القديس كيرلس الكبير " الخشب الذي لا يُسّوس هو رمز للجسد الذي لم يفسد لأن الأرز لا يُسّوس. أما الذهب وهو يفوق كل الأشياء فهو يشير إلى جوهر اللاهوت الفائق. لكن لاحظ كيف غطى التابوت كله بالذهب النقي من الداخل ومن الخارج، لأن الله الكلمة اتحد بجسد مقدس.. وحسب ما اعتقد فان هذا ما يشير إليه تغشية التابوت بالذهب من الخارج، والنفس العاقلة التي في جسده هي نفسه، وهذا ما يشير إليه تغشية التابوت من الداخل، وهكذا لم يحدث تشويش للطبيعتين، لأن الذهب الذي غُطى به الخشب ظل كما هو ذهبًا. أما الخشب فقد صار غنيًا بمجد اللاهوت، لكنه لم يفقد خصائصه كخشب" (1).
3- جمرة أشعياء: عندما نظر أشعياء الله جالسًا على كرسي عالٍ وشعر بخطيته وخطية شعبه أخذ واحد من السيرافيم بملقط جمرة من على المذبح ومسَّ بها فمه فانتزع إثمه وكفر عن خطيته (اش 6: 1-7) وإذا تأملنا في هذه الجمرة الناتجة عن إتحاد الفحم بالنار فإننا نجد فيها إشارة واضحة لإتحاد الناسوت باللاهوت، فيقول القديس كيرلس الكبير "ويمكننا أن نرى أيضًا الجمرة مثالًا لكلمة الله المتحد بالطبيعة البشرية دون أن يفقد خواصه النار عندما تتصل بالخشب تستحوذ عليه، لكن الخشب يظل خشبًا.. فقد يتغير إلى شكل النار وقوتها، بل يصبح له صفات النار وطاقتها ويعتبر واحدًا معها. هكذا أيضًا يجب أن يكون اعتقادنا في المسيح، لأن الله اتحد بالإنسانية بطريقة لا ينطق بها، ولكنه ابقى على خواص الناسوت على النحو الذي نعرفه، وهو نفسه لم يفقد خواص اللاهوت عندما اتحد به (الناسوت) بل جعله واحدًا معه، وجعل خواص (الناسوت) خواصه بل هو نفسه قام بكل أعمال اللاهوت فيه (في الناسوت) (2).
4- سوسنه الأودية: اقتبس هذا التشبيه القديس كيرلس الكبير من سفر الأناشيد فقال "قدم أناشيد الأناشيد ربنا يسوع المسيح قائلًا {أنا وردة السفوح وسوسنة الأودية} (نش 2: 1) وفي السوسنة الرائحة غير المجسَّمة (غير ظاهرة للعين) ولكنها لا توجد خارج السوسنة، لذلك فالسوسنة واحدة من أثنين (الرائحة وجسم السوسنة) وغياب رائحة السوسنة لا يجعلها سوسنة، وكذلك غياب جسم السوسنة لا يفسر وجود رائحة السوسنة لأن في جسم السوسنة رائحتها. هكذا أيضًا يجب أن يكون اعتقادنا في ألوهية المسيح الذي يعطر العالم برائحته الذكية ومجده الذي يفوق مجد الأرضيات، ولكي يعطر العالم كله استخدم (اللاهوت) الطبيعة البشرية، وتلك التي بطبيعتها غير جسمانية، صارت بالتدبير وعلى قدر ما نفهم متجسدة. لأنه عندما أراد أن يعلن عن ذاته من خلال الجسد جعل فيه (أي في الجسد) كل ما يخص اللاهوت. لذلك من الصواب أن نعتقد أن الذي بطبيعته غير جسماني اتحد بجسده وأصبح الإتحاد مثل السوسنة لأن الرائحة العطرة وجسم السوسنة هما واحد ويسميان السوسنة" (1).
5- الروح والجسد: كما إن الإنسان يتكون من جسد ترابي قابل للفساد والموت ونفس حية خالدة طبيعتها تختلف عن طبيعة الجسد، ومع هذا فبإتحاد الجسد والنفس يتكون الإنسان الواحد، دون أن تختلط الطبيعتان أو تتغير أحداهما إلى الأخرى، هكذا كان إتحاد اللاهوت بالناسوت في السيد المسيح. غير إن إتحاد اللاهوت بالناسوت إتحاد أبدي لا يمكن أن يحدث فيه افتراق ولا انفصال لحظة واحدة أو طرفة عين، بينما الروح تفارق الجسد في لحظة الموت وتعود إليه يوم القيامة.
وكما رأينا في الإنسان من قبل صورة التثليث والتوحيد، فإننا نرى فيه الآن صورة إتحاد الطبيعتين، حتى صار الإنسان الواحد طبيعة واحدة من طبيعتين مختلفتين متباينتين، فقال البابا كيرلس الكبير في رسالته إلى فاليريان "إن طبيعة الإنسان يُعترف بها انها واحدة، وانها اقنوم (هيبوستاسيس hypostasis) واحد، حتى بالرغم من أنه معروف عنها أنها ( مكوَّنة) من عناصر realities مختلفة متباينة الأنواع، لأن من المعروف أن الجسد من طبيعة مختلفة عن النفس، لكنه جسد بالنفس، ويُكمّل اقنوم الإنسان الواحد" (2).
وقال أيضًا في رسالته إلى سوكنس " نحن مخلوقون من نفس وجسد ونحن نرى الطبيعتين واحدة في الجسد وواحدة في النفس، بل واحد هو الإنسان بالإتحاد من اثنين، ولا نقول انه رجلان لهذا الواحد، وإن كان صار من طبيعتين، ولكن مثلما قلت انه واحد هو الإنسان الذي كان من نفس وجسد، وإذا رأينا هذا أن المسيح واحد كان من طبيعتين مختلفتين بعضهما من بعض، فهو غير مفترق من بعد الإتحاد" (1).
كما قال البابا كيرلس الكبير في رسالته إلى لوكيطس اسقف قيسارية "يجب أن نأخذ لنا مثالًا من طبعنا نحن البشر لأننا مخلوقون من نفس وجسد، وهما طبيعتان مختلفتان مثل الإتحاد، وبإتحادهما صار إنسانًا واحدًا بطبع واحد، لم تتغير النفس عن طبعها بإتحادها بالجسد فصارت جسدًا، ولا الجسد صار نفسًا، بل النفس والجسد طبع واحد وإنسان واحد" (الباب الرابع من كتاب المجامع لإبن المقفع) (2).
وقال يوليوس أسقف روما في القرن الرابع في رسالته الخامسة "انه إن دُعي إلهًا فليس أحد ينكر ناسوته الذي هو متحد بلاهوته، وإن دُعي بناسوته من أجل الجسد الذي أخذه فليس أحد يجحد ربوبيته، ولا يُقسَّم أصلًا لطبيعتين من بعد الإتحاد كما إن الإنسان من خاصتين كاملتين بنفس وجسد، طبيعتين مختلفتين ومن بعد الإتحاد طبع واحد يُعرف وباسم واحد، وإذا دُعي جسداني فليس تفارقه النفس، وإذا دُعي نفساني فليس يفارقه الجسد" (3).
في الإنسان نرى الروح متحدة بالجسد والجسد بالروح، ومع هذا فان الروح لا تتحوَّل إلى جسد، لأنها لو تحوَّلت إلى جسد لفقدت النطق والعقل والخلود ولتحول الإنسان إلى حيوان، والجسد لا يتحوَّل إلى روح، وإلاَّ تحوَّل الإنسان إلى ملاك، وقال القديس بطرس السدمنتي "كما قد جُعِل الإتحاد الصائر بين النفس الملائكية الروحانية، وبين الجسد الترابي الحيواني إنسانًا واحدًا طبيعة واحدة، وجوهرًا واحدًا، ليس في الملائكة من هو لابس جسدًا مثله، ولا في سائر الحيوان من هو متجسدًا بنفس عاقلة مثله، يوصف بصفتين مختلفتين. من جهة نفسه مساوًا للجواهر العقلية، ومن جهة جسده مساوًا للحيوان، ولا ينبغي أن يقال بعد إتحادهما وصيرورتهما إنسانًا واحدًا إنهما إثنان، ملاك وحيوان، وإن كان فيه جوهرا الملائكة والحيوان موجودين لم تنتقل النفس فتصير جسمًا، ولا الجسم فيصير نفسًا، بل كل منهما حافظ ما يخصه، وأبدع لهما الإتحاد إسمًا يخصهما الذي هو الإنسان، فلا النفس بمفردها تدعى إنسانًا، ولا الجسد بمفرده يُدعى إنسانًا، بل بالإتحاد دُعي مجموعهما إنسانًا، ذا طبيعة واحدة خاصة متقوّمة من طبيعتين عامتين، وهكذا في المسيح له المجد. انه لا يجوز أن يقال فيه بعد الإتحاد انه من طبيعتين مفترقتين، وإن كان اللاهوت لا يستحيل فيصير ناسوتًا، ولا الناسوت انبسط فصار لاهوتًا، بل كل منهما حافظ ما يخصه، من غير اختلاط، ولا امتزاج، ولا استحالة" (1).
وإن كان يصعب علينا فهم الإتحاد في الإنسان فكيف ندرك إتحاد اللاهوت بالناسوت في السيد المسيح؟! وكما إن الأمور التي تخص إحدى طبيعتي الإنسان تُنسب للإنسان ككل فهكذا ما يخص إحدى طبيعتي السيد المسيح ينسب للإله المتأنس، ويشرح هذه الحقائق القديس كيرلس الكبير فيقول "أي غرابة في أن يفوق (إتحاد اللاهوت بالناسوت) إدراك (العقل)؟
فنحن عندما نبحث بدقة عن أمورنا ونحاول إدراك كنهها نعترف أنها تفوق مقدرة الفهم الذي فينا. فما هي كيفية إتحاد نفس الإنسان بجسده؟ من يمكنه أن يخبرنا؟!! ونحن بصعوبة نفهم أو بقليل نتحدث عن إتحاد النفس بالجسد. لكن إذا طُلِب منا أن نحدد كيفية إتحاد اللاهوت بالناسوت وهو أمر يفوق كل فهم بل صعب جدًا، نقول انه من اللائق أن نعتقد أن إتحاد اللاهوت بالناسوت في عمانوئيل هو مثل إتحاد نفس الإنسان بجسده..
والنفس تجعل الأشياء التي للجسد هي لها رغم إنها (النفس) بطبيعتها لا تشارك الجسد آلامه المادية الطبيعية أو الآلام التي تسببها للجسد.. (النفس) لا تشارك الجسد رغباته، ومع ذلك تعتبر أن تحقيق الرغبة هو تحقيق لرغبتها هي (النفس) فإذا ضُرِب الجسد أو جُرِح بالحديد مثلًا فإن النفس تحزن مع جسدها، ولكن بطبيعتها لا تتألم بالآلام المادية التي تقع على الجسد.
ومع هذا يلزم أن نقول أن الإتحاد في عمانوئيل هو أسمى من أن يُشبَّه بإتحاد النفس بالجسد، لأن النفس المتحدة بجسدها تحزن مع جسدها وهذا حتمي حتى انها عندما تقبل الهوان تتعلَّم كيف تخضع لطاعة الله. أما بخصوص الله الكلمة فانه من الحماقة أن نقول انه كان يشعر -بلاهوته- بالإهانات، لأن اللاهوت لا يشعر بما نشعر به نحن البشر، وعندما اتحد بجسد له نفس عاقلة وتألم لم ينفعل اللاهوت بما تألم به، لكنه كان يعرف ما يحدث له، وأباد كإله كل ضعفات الجسد، رغم انه جعلها ضعفاته هو فهي تخص جسده.. لأنه كما إن الجسد في طبيعة مختلفة عن النفس، لكن الإنسان واحد من أثنين (النفس والجسد) هكذا المسيح واحد من الأقنوم الكامل لله الكلمة ومن الناسوت الكامل، والألوهة نفسها والناسوت نفسه في الواحد بعينه الأقنوم الواحد. وكما قلت أن الكلمة يجعل آلام جسده آلامه هو لأن الجسد هو جسده وليس جسد أحد آخر سواه. هكذا يمنح الكلمة جسده كل ما يخص لاهوته من قوة، حتى إن جسده قادر أن يقيم الموتى ويبرئ المرضى" (1)
6- إتحاد الحديد بالنار: شبه الآباء إتحاد اللاهوت بالناسوت بإتحاد النار بالحديد، فيقول البابا أثناسيوس انه بالتحام النار بالحديد نجد جمرة واحدة تشمل الحديد والنار، وكل منهما لم يفقد خاصيته، ولم يتحوَّل إلى الآخر "مثلما تلتحم النار بالحديد فيكوّنان معًا جمرة واحدة من غير أن تكون النار تغيَّرت أو تحوَّلت عن جوهرها مع كونها منيرة محرقة ولا قطعة الحديد تغيَّرت أو تحوَّلت عن أن تكون ثقيلة تُشَج وتُقطَع، هكذا دبَّر كلمة الله الخالق إتحاده بالطبيعة البشرية في قوام واحد جامع للطبيعتين الإلهية التي كُوّنت في آخر الزمان بلا اختلاط ولا تحوُّل ولا فساد ولا فرقة ولا انقطاع بينهما من غير أن تستحيل هذه إلى تلك، وتلك إلى هذه" (1).
وقال البابا كيرلس الكبير كما أن الحديد بإتحاده بالنار يكتسب طبيعتها هكذا اغتنى الناسوت بمجد اللاهوت " كما أن الحديد إذا قربناه من نار شديدة يكتسب للوقت مظهر النار ويشترك في صفات ذلك العنصر الغالب، هكذا أيضًا طبيعة الجسد التي اتخذها لنفسه اللوغوس غير الفاسد والمحيي لم تبقى على حالها الأول بل انعتقت من الفساد ومن الفناء وسادت عليهما" ( عظة فصحية 17) (2).
وقال أيضًا "إذا وضعتم حديدًا في النار، فانه يمتلئ كذلك بقوة النار.. وهكذا الكلمة المحيي لما وحَّد بذاته جسده الخاص.. بالكيفية التي هو وحده يعلمها جعل هذا الجسد محييًا" (تفسير لوقا 22: 19) (3).
وكما إنه في إتحاد النار بالحديد، ووقوع الطرق على كليهما إلاَّ إن الذي يتأثر هو الحديد دون النار، هكذا وقعت الآلام على الناسوت دون اللاهوت، فيقول القديس كيرلس الكبير "فأخذنا لنا مثالًا لإتحاد اللاهوت بالناسوت كإتحاد النار بالحديد، وإن كان طبعين مختلفين، فبإتحادهما صارا طبعًا واحدًا. لا أن طبع النار استحال فصار حديدًا، ولا إن طبع الحديد استحال فصار نارًا. بل نار اتحدت بحديد هي النار وهو الحديد.. وإن الحديد إذا ضُرِب بالمرزبة هي النار المضروبة والحديد الذي يتألم، والنار لا تتألم" (الباب الرابع من كتاب الجامع لإبن المقفع) (4).
7- إتحاد الماء بالنار: كما انه بإتحاد الماء بالنار يكتسب الماء المغلي طبيعة النار، هكذا بإتحاد اللاهوت بالناسوت صار جسد المسيح جسدًا محيّيًا، فقال البابا كيرلس الكبير "فان كانت النار المرئية تدخل قوة طبيعتها الخاصة في المواد إذ تتصل بها وتحوّل الماء نفسه البارد وبطبعه إلى ما يخالف طبيعته إذ تجعله حارًا، فكيف لا نؤمن أن الكلمة الذي من الله الآب قد جعل جسده الخاص المتحد به جسدًا محيّيا" (ضد نسطور) (1).
8- الملك المُنقِذ: عندما يجد الملك جيشه قد انهزم أمام الأعداء ولا مخلص، فانه يخلع ثياب الملك ويتزيّ بزي الجنود وينزل في وسطهم متخفيًا يتقدمهم في معركة الخلاص، ويقودهم إلى موكب النصرة ثم يعلن لهم عن ذاته فيفرحون به ويدينون له بالطاعة والخضوع ويقدمون له كل الحب، هكذا إلهنا الجبار عندما رأى بؤسنا وشقاءنا أمام مملكة الظلمة القوية المتسلطة خلع عنه ثياب المجد وتزيّ بزيّنا أي لبس جسدنا، وخاض المعركة الشرسة ضد مملكة ابليس وجنوده وقام ظافرًا وقد نفض عنه تراب الموت الذي قهر البشرية جمعاء وأعلن ذاته للكنيسة، فكم يجب أن يكون حبنا وإخلاصنا له وفرحتنا به؟!!.
9- إنقاذ الغريق: قال القديس يعقوب السروجي "إذا أردت أن تنقذ غريقًا أو تنهض إنسانًا مطروحًا، فلا ينفع أن تقدم له النصيحة. بل عليك أن تخلع ثيابك وتلبس ثياب البحر، وبعد أن تنزل تقيمه معك" (2). هكذا خلع الله ثياب المجد ولبس ثياب البحر أي جسدنا ونزل إلينا وأنقذنا وحملنا معه حيث أجلسنا معه في السماويات، وعلى حد تعبير القديس غريغوريوس في الليتورجيا " أصعدت باكورتي إلى السماء".
10- مدينة الملك: يقول البابا أثناسيوس عندما يقيم الملك في بيت من بيوت إحدى المدن، فانه يرفع من شأن المدينة، وهكذا رفع الله بتجسده من شأننا " وكما إنه لو دخل ملك عظيم مدينة عظيمة، واتخذ إقامته في أحد بيوتها، فان هذه المدينة تتشح بالشرف الرفيع، ولا يعود عدو أو لص ينزل إليها لإخضاعها، بل على العكس، تعتبر مستحقة كل عناية، لأن الملك اتخذ مقره في واحدة من بيوتها، كذلك كانت الحال مع ملك الكل. فانه إذ أتى إلى عالمنا، واتخذ إقامته في جسد واحد بين أترابه فقد بطلت كل مؤامرة العدو ضد الجنس البشري منذ ذلك الحين، وزال عنهم فساد الموت الذي كان سائدًا عليهم من قبل لأنه لو لم يكن الرب مخلص الجميع، ابن الله، قد جاء إلينا وحلَّ بيننا ليوفي غاية الموت لكان الجنس البشري قد هلك" (تجسد الكلمة 9: 3، 4) وقال أيضًا إذا أسَّس ملك عظيم منزلًا أو مدينة وسقطت بين اللصوص فانه يسعى لإنقاذها، وهذا ما فعله الله معنا نحن الذين سقطنا بين اللصوص " حقًا لقد كان هذا العمل العظيم متفقًا مع وجود الله بشكل عجيب. لأنه إذا أسَّس ملك منزلًا أو مدينة وأحدق بها اللصوص بسبب إهمال سكانها، فانه لا يهملها أو يتغاضى عنها بأي حال، بل يقوم ويهتم وينتقم من العابثين بها لأنها صنعة يديه غير مبال بإهمال سكانها، بل بما يليق بذاته. وهكذا الله، كلمة الآب الكلي الصلاح، لم يهمل الجنس البشري صنعة يديه، ولم يتركه للفساد، بل أبطل الموت بتقديم جسده، وعالج إهمالهم بتعاليمه، ورد بسلطانه كل ما كان للإنسان" ( تجسد الكلمة 10: 1).
لقد تعهدنا الله بالناموس والأنبياء ثم جاء إلينا بذاته، فيقول البابا أثناسيوس "ومرة أخرى نسوق هذا التشبيه: أي ملك من ملوك الأرض -وهو مجرد إنسان بشري- إذا امتلك بلادًا لا يتركها لآخرين لكي تخدمهم، ولا يتنازل عنها لغيره، ولكنه ينذر أهلها برسائله، ثم يتصل بهم بواسطة الأصدقاء مرارًا، وإذا اقتضى الأمر يذهب إليهم بشخصه كآخر وسيلة يلجأ إليها لتوبيخهم - كل ذلك لكي لا يخدموا آخرين فيذهب عمله هباءًا منثورًا" (تجسد الكلمة 13: 5).
11- الفنان العظيم والفخاري الكريم: شبه القديس أثناسيوس عملية التجسد بالفنان العظيم الذي يستطيع أن يعيد اللوحة البديعة التي رسمها إلى أصلها متى تعرضت للتلف، فيقول إن هذا ما فعله الله معنا، جاء إلينا، وأعاد رسم الصورة على نفس طبيعتنا الساقطة دون أن يفني هذه الخليقة الأولى التي حملت يومًا ما صورته الإلهية. وهكذا أُعيدت خلقة الإنسان.. وقد شبه الله ذلك في العهد القديم بالفخاري الذي صنع إناءًا من طينة وماء، وإذ لم يكن كما يريد، أعاد صنعه ثانية بعد أن فسد، وقال الرب "هوذا كالطين بيد الفخاري، هكذا أنتم بيدي" ( ار 18: 1-10) كذلك المسيحية هي الدين الوحيد الذي يتحدث عن إعادة خلقة الإنسان وتجديد طبيعته، وهذا عمل لا يقدر عليه سوى الخالق (أسئلة حول التجسد ص 26، 27).
وقال البابا أثناسيوس أيضًا إننا خلقنا على صورة الله، ثم فسدت هذه الصورة بغواية العدو، فكان لابد من حضور صاحب الصورة لكيما يساعد الفنان على إعادة الصورة إلى حالتها الأولى من الروعة والجمال " وإن تلطخت الصورة المرسومة على الخشب بالأدران من الخارج وأُزيلت، فلابد من حضور صاحب الصورة نفسه ثانية لكي يساعد الرسام على تجديد الصورة على نفس اللوحة الخشبية، لأنه إكرامًا لصورته يعز عليه أن يلقي تلك اللوحة، وهي مجرد قطعة خشبية، بل يجدد عليها الاسم. وعلى هذا المثال أتى إلى عالمنا ابن الآب الكلي القداسة، إذ هو صورة الآب، لكي يجدد خلقة الإنسان الذي خُلِق مرة أخرى على صورته" (تجسد الكلمة 14: 1، 2).
12- المعلم الصالح: كما إن المعلم الصالح يتنازل لمستوى تلاميذه ليرفعهم هكذا تنازل الله إلينا بالتجسد ليرفعنا، فيقول القديس أثناسيوس " وكما إن المعلم الصالح الذي يعتني بتلاميذه يتنازل إلى مستواهم، إن رأى البعض منهم لم يستفيدوا بالعلوم التي تسمو فوق إدراكهم، ويقدم إليهم تعاليم أبسط، هكذا فعل كلمة الله" (تجسد الكلمة 15: 1).
وقال أيضًا عندما نظر الله وإذ الإنسان انحط إلى عبادة المخلوقات ظهر له في شكل المخلوقات ليلتقي به ويرفعه " لأنه إذ رأي (الله) إن البشر رفضوا التأمل في الله، وانحطت نظراتهم إلى أسفل كأنهم قد غاصوا في العمق، باحثين عن الله في الطبيعة وفي عالم الحسيَّات، ومخترعين لأنفسهم آلهة من البشر القابلين للفناء ومن الجن، لهذا فان مخلص الكل المحب كلمة الله أخذ لنفسه جسدًا وكإنسان مشى بين الناس، وقابل إحساسات البشر في منتصف الطريق.. ففي الأمور التي ركزوا فيها إحساساتهم وجدوا أنفسهم قد قُوبِلوا في منتصف الطريق وعلموا الحق من كل ناحية" (تجسد الكلمة 15: 2، 3).
لقد علمنا السيد المسيح بأعماله المعجزية، فيقول القديس أثناسيوس "فإذا نظروا إلى الخليقة بدهشة ورهبة رأوها تعترف بالمسيح ربًا، وإذ اتجهت عقولهم نحو البشر ليتوهموا أنهم آلهة وجدوا من أعمال المخلص -إن قارنوها بأعمال البشر- قد أظهرته وحده ابن الله دون سائر البشر، لأنه لم يقم بينهم قط من استطاع أن يأتي الأعمال التي عملها كلمة الله. وإن انحرفوا إلى الأرواح الشريرة وجب أن يدركوا بعد إن رأوا (الكلمة) يطردها، انه وحده هو الله، وإن تلك الأرواح لا شيء. وإن انحدرت عقولهم فوصلت إلى الأموات حتى عبدوا الأبطال والآلهة التي تحدث عنها الشعراء، وجب -بعد أن رأوا قيامة المخلص- أن يعترفوا أن تلك آلهة كاذبة، وإن الرب وحده هو الإله الحق كلمة الآب، وهو رب الموت أيضًا.
لهذا السبب وُلِد وظهر كإنسان، ومات، وقام ثانية بعد أن غطى بأعماله كل أعمال البشر الذين سبقوه، حتى إذا ما اتجهت أفكار البشر إلى أية ناحية. استطاع أن يستردهم من هذه الناحية ويعلمهم عن أبيه الحقيقي، انه قد جاء كما يقول عن نفسه {لكي أطلب وأخلص ما قد هلك} (لو 19: 10)" (تجسد الكلمة 15: 4-7).
13- القشة والاسبستوس: القش مادة قابلة للاحتراق السريع، ولكن عندما يتم تغليفها بمادة الاسبستوس Asbestos التي لا تحترق فان النار لن تقوى عليه، فيقول القديس أثناسيوس "والمعلوم أن القش تفنيه النار بطبيعة الحال. فلنفترض أولًا: إن إنسانًا أبعد النار عن القش، فان القش ولو لم يحترق يبقى رغمًا عن ذلك مجرد قش يخشى خطر النار، لأن للنار خاصة إحراقه. ثانيًا: بينما لو أحاطه بمادة الاسبستوس -التي يقال عنها أنها تصمد أمام النار- فان القش لا يرهب النار فيما بعد، إذ قد تحصن بإحاطته بمادة غير قابلة للاحتراق.
كذلك أيضًا بنفس الطريقة يستطيع المرء أن يقول عن الجسد والموت، انه لو كان الموت قد أُبعد عن الجسد بمجرد إصدار أمر من الله، لبقى رغم ذلك قابلًا للموت والفساد حسب طبيعة الأجساد ولكن، لكي لا يكون هذا حال الجسد، فقد لبس ( الجسد) كلمة الله الخالي من الجسد، ولذلك فانه لا يعود يرهب الموت أو الفساد، لأنه لبس الحياة كثوب، ولأن الفساد قد أُبيد فيه" (تجسد الكلمة 44: 7، 8).
14- الفأس والشجرة المشمسة: قال القديس سلبطرس أسقف روما في مجادلة مع أحد اليهود "إذا كانت شجرة يُراد قطعها بالفأس في نصف النهار والشمس عامة عليها وضُربت بالفأس . أليس ضرب الفأس واقع على الشجرة والشمس عليها؟
قال نوح اليهودي: نعم.
قال سلبطرس: فيمكن أن يقطع الفأس الشمس أو يؤثر فيها وهي تعم الفأس والشجرة.
قال: لا.
قال له: هكذا قولنا في المسيح فالجسد كالشجرة، والألم كالفأس، والشمس كاللاهوت، وهكذا تألم المسيح بالجسد من غير أن ينال اللاهوت شيئًا من الآلام" (1).