الفصل التاسع: قسوة الذكريات
لم تكن سارة ممّن لاقوا الدهر وهم مستلقون على أسرّة مخمليّة هانئة؛ فالشقاء كان يترصّد خطواتها كما تترصّد أسراب الغربان الجيف الميّتة.
كانت والدتها تُدعَى روحامه من مدينة أنتينوبوليس الرومانيّة في مصر الوسطَى. كانت هي سرُّ شقائها؛ فقد ارتبطت مُبّكرًا بفتى يهودي. اتّفقوا على الزواج إلاّ أنّ الشيطان قد وجد له مكانًا في إحدى جلسات البوح بمكنونات النفس من مشاعر العشق والهوى. وبعد أنْ استفاقا أدركا حجم الكارثة. ولّى الفتى هاربًا وركب البحار سعيًا وراء رزقه المزعوم في تجارة الأخشاب إلاّ أنّه لم يعد تلك المرّة وتركها نهبًا للمجتمع اليهودي الذي لاحقها بالخزي والعار. طُرِدَت روحامه من المدينة بأسرها. فما كان منها إلاّ أنْ اتّخذت من الإسكندريّة موطنًا لها تخفي بين حناياه صفحات ماضيها.
التقت رجلاً تقيًّا من ساكني الحي اليهودي. قَبِلَها في داره لتعمل خادمةً وتضع مولودها. وُلِدَت سارة على يد أم منكسرة النفس وأب غائب لم تره يومًا. كانت تنمو وينمو معها الشعور بالخوف والغربة. كانت أمّها تُحدّثها عن ضرورة الحفاظ على نفسها من غواية الحبّ لأنّه أول خيوط الخطيئة. اقتنعت الفتاة وأوصدت بابها على أحزانها ومخاوفها.
ذات يومٍ وهي تُحضِّر لصلاة السبت وتخبز خبز «الحالّا» (الخبز اليهودي الذي يمثل أحد مكونات مائدة السبت الأساسيّة)، جاء إلى المنزل إليعازر التاجر الشهير ومعه ابنه أبشالوم، وحالما وقعت عينا أبشالوم عليها شعر بأنّ قلبه يخفق خفقات قلب يعقوب حينما رأى راحيل. منذ ذاك الحين بدأ محاولات حثيثة للتقرُّب منها وكان الرفض هو موقفها الدائم. كانت تتذكّر كلمات والدتها فتؤثِر قفر الوحدة عن أزاهير الحبّ. ولكن قلبها كان يتحرّك صوب أبشالوم دون وعي منها.
ذات يوم صارحها بأنّ مبتغاه أنْ يرتبط بها برباط الزواج المُقدّس حسب شريعة الربّ، حاولت التفلُّت من الردّ إلاّ أنّ إصراره الدائم وأخلاقه الرفيعة العفيفة دفعتها لإعلان موافقتها. من يومها، بدا لسارة أنّ الحياة باسمةٌ مشرقةٌ نضرةٌ شارعةً ذراعيها التي أوصدتها طوال السنين الغابرة.
إلاّ أنّ بذور الأماني كثيرًا ما تنبت على أراضٍ ملأى بأشواك الذكريات. فقد وَفَدَ إلى الإسكندريّة وفدًا من مجمع أنتينوبوليس وأثناء تزاورهم مع بعض الأُسَر هناك، تعرّفوا على روحامه فأعلموا الجميع بما بدر منها في الماضي.
لا يستطيع اليهود أنْ يغفروا للمرأة الزانية مهما قدّمت من توبةٍ ومهما أصلحت من طرقها ومهما ارتحلت بعيدًا عن موطن إثمها وخطيئتها. وبالرغم من أنّ اسمها روحامه أي التي تتلقَّى مشاعر الشفقة والرحمة من الآخرين إلاّ أنّ الرحمةَ كلمةٌ لم تتذوّق طعمها من أيدي البشر.
ثار التقاة من المجمع الذين لم يستطيعوا أنْ يرجموها بالحجارة نظرًا للقوانين المدنيّة، فقاموا برجمها بقسوتهم وجفوتهم. طردوها وابنتها من الحي اليهودي في هَدْءِ الليل (الثُلث الأوّل منه)، فلم تجد سوى الأجورا لتبيت فيها ليلتها.
حينما استيقظت سارة وجدت أنّها وحيدةٌ، فلقد تركتها أمّها لتبيع جسدها مقابل القليل من المال لحماية ابنتها من قسوة المدينة وهول لياليها الأثيمة. عادت ومعها المال المُلوَّث بالإثمِ، ولم تَدر سارة من أين جاءت بالمال الذي ابتاع لهن بعض الطعام وليلة مأوى في نزلٍ صغير على أطراف الإسكندريّة الجنوبيّة.
كان أبشالوم يبحث عن سارة بعد أن عرف بالأمر دون جدوى. سأل عنها في كلِّ مكانٍ ولم يجد مَنْ يدلّه، فخبا الأمل في قلبه وبدأت تغرُب ذكريات الحبّ من عالمه لتتركه لليلٍ أليل.
ذات ليلة، وبينما روحامه عائدةً إلى النزل بعد أنْ جاءت ببعض المال من بئر الخطيئة، تتبّعها جنديٌ من الرومان قد استولى الخمر على رأسه. خرجت سارة للقائها وقد بدا عليها الانزعاج لتأخُّرها عن المعتاد، لمحها الجندي فحاول غوايتها، وحينما رفضت أراد أنْ يُجبِرها على الخضوعِ له، فضربته بقطعةٍ من الخشب على رأسه فسقط مغشيًّا عليه. لَمَحَها أحدُ الشباب فأخذها إلى منزله، إلاّ أنّ الأمر وصلت أصداؤه إلى قائد المئة الذي أمر بتفتيش البيوت والقبض على الفتاة. نَزَلَ الجنود على المكان يقتحمون البيوت حتّى وجدوا سارة التي حاولت الفرار مذعورة من هول القصاص، إلاّ أنّ الجنود تمكّنوا من القبضِ عليها. زُجَّ بها في السجن لمُحاكمتها بتهمةِ الاعتداء على جنديٍّ رومانيٍّ.