القيم الروحية في عيد القيامة
يعود علينا عيد القيامة في كل عام، فيُذكّرنا بأحداث تُبهج القلوب وتُعزّي النفوس، وها نحن نتساءل: كيف سقط الموت مستصغراً عند قبر مخلصنا ؟ كيف عُتقنا من عبودية الخطية ؟ كيف ضعُفتْ مملكة إبليس وأُنقذنا من أسره ؟ أسئلة كثيرة ما كان ممكناً أن نجد لها إجابات مقنعة لولا أن قام المسيح !
كسر شوكة الموت
بقيامة المسيح انكسرتْ شوكة الموت وأُبطل سلطانه، فلم يعد بالشيء المُخيف كما كان بل صار شهوة المؤمنين " لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً " (فى23:1)، كما صار ربحاً كقول مُعلّمنا القديس بولس الرسول: " لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ " (فى21:1).
لقد سقط الموت تحت قدمَي مخلصنا، ففقد هيبته، وضعُف سلطانه، فلم نعد نخشاه لأنَّ يسوع نزع شوكته السامة المُميتة، فمات به ولكنَّه قام منتصراً عليه! ألم يقل معلمنا يوحنا الحبيب " وَطُرِحَ الْمَوْتُ وَالْهَاوِيَةُ فِي بُحَيْرَةِ النَّار؟ ِ" (رؤ14:20)، وهكذا سيمسح الله كل دمعة من عيون المؤمنين " وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ " (رؤ4:21).
لا نُنكر أننا جميعاً سنموت، وسوف تأكل أجسادنا الديدان، ولكن كما وُجد قبرُ يسوع فارغ، هكذا أيضاً ستفرغ كل قبور المؤمنين، بقيامتهم من بين الأموات، وهل يمكن أن تُسلّم القبور ما استولتْ عليه من جثث لو لم يقم المسيح؟!
أعتقد لو أنَّ القبر استطاع أن يضم جسد ابن الله، لباقي الأجساد الميتة لفقدت المسيحية قوتها في مهدها، ولم يبقَ لها أثر في الوجود، ولكنَّ المسيح قد نزل إلى القبر لا ليُدفن مثل الموتى فقط، بل ليدفن الموت أيضاً!
قال أحد الآباء:
إننا كطيور قد حبسنا الموت في فخه المخيف، ولكن هذا الفخ حطّمه مُخلّصنا أولاً وطار منه بعد قيامته، وأصبح الفخ مكسوراً، وإن كنا نجتاز فيه إلاَّ أنَّه ليس له باب يحبسنا، ولهذا نهتف مع داود النبيّ قائلين: " نَجَتْ أَنْفُسُنَا مِثْلَ الْعُصْفُورِ مِنْ فَخِّ الصَّيَّادِينَ، الْفَخُّ انْكَسَرَ وَنَحْنُ نَجونا، عَوْنُنَا بِاسْمِ الرَّبِّ الصَّانِعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ " (مز7:124).
نعم لقد نجونا ولم نعد بعد أسرى أذلاّء! وإن كنَّا نقع كأموات إلاَّ أننا ننهض أحياء، وإن كان يُغلق علينا في قبر مظلم، إلاَّ أنَّ المسيح بسلطانه يُقيمُنا، وبنور قيامته يُضيء علينا، والآن بعد أن قام المسيح منتصراً على الموت، كاسراً شوكته، هازماً سلطانه، أصبح الموت أشبه بمركبة سخّرها ابن الله لتحمل أولاده، من أرض الشقاء إلى أرض الراحة.
التحرر من عبودية الخطية
إنَّ كل مُن يرجع إلى التاريخ القديم، يعرف أنَّ الخطية كانت هى السبب في كل المصائب التى قد حلّتْ على العالم.. فهى التى أفسدتْ آدم وطردتْه من الجنَّة، وجعلتْه يشعر بعُريه وملأتْ قلبه بالخوف.. وجعلتْ قايين يخرج هائماً على وجهه، هارباً من مكان إلى آخَر وقلبه مضطرباً، خوفاً من أن يحصد ما زرعته يداه لقتله أخاه البار هابيل..
لولا الخطية ما أغرق الله العالم القديم بماء الطوفان، ولا أنزل ناراً وكبريتاً من السماء لكي تحرق سدوم وعمورة، ولولاها ما سقط شمشون الجبار النذير لله من بطن أُمه.. ولا سقط داود رجل الصلاة والمزاميرفي الزنى، ولا بخَّر سليمان الحكيم للأوثان..
الخطية هى التى جعلتْ هيروديا تطلب رأس يوحنا المعمدان، وعندما أحبَّها يهوذا أسلم سيده إلى الأثمة، لأنًّه لمَّا اشتهى المال أضاع الحياة، وماذا أعطاه حُب المال؟ لم يُعطهِ سوى ثلاثين من الفضة ثمن حبل المشنقة الذي شنق به نفسه!
لقد صيّرتْنا الخطية عبيداً بعد أن كنَّا أحراراً، قيَّدتْنا بعد أن كنَّا معتوقين، أفنتْ شجاعتنا، أضعفتْ قوتنا، فصرنا نخشى الحيوانات التي كنَّا أسياداً عليها، ملأتْنا من كل شهوة ردية، فصرنا محبين للخلاعة، نلهث وراء اللذة الممنوعة، صارتْ كسيف حاد فصلتْ الإنسان عن خالقه، وكحجاب أسود حجبتْ عنَّا نور شمس البر فصرنا " نَتَلَمَّسُ الْحَائِطَ كَعُمْيٍ وَكَالَّذِي بِلاَ أَعْيُنٍ نَتَجَسَّسُ، قَدْ عَثَرْنَا فِي الظُّهْرِ كَما فِي الْعَتَمةِ " (إش10:59).
إلى أن جاء ابن الإنسان وحمل خطايا البشرية في جسده المقدس، وحرقها على مذبح الصليب بنار الغضب الإلهيّ، وعندما نزل إلى القبر دفنها معه، ولكنَّه عندما قام خرج من القبر تاركاً إياها في أعماق الهاوية.
لقد قام المسيح وأصبحنا أحراراً، الأمر الذي جعل مُعلّمنا بولس الرسول أن يُقدّم الشكر لله قائلاً: " فَشُكْراً لِلَّهِ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَبِيداً لِلْخَطِيَّةِ وَلَكِنَّكُمْ أَطَعْتُمْ مِنَ الْقَلْبِ صُورَةَ التَّعْلِيمِ الَّتِي تَسَلَّمْتُمُوهَا، وَإِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ الْخَطِيَّةِ صِرْتُمْ عَبِيداً لِلْبِرِّ" (رو18،17:6)، ويوضّح كيفية هـذا التحرر فيقول: " لأَنَّ مَنْ دُعِيَ فِي الرَّبِّ وَهُوَ عَبْدٌ فَهُوَ عَتِيقُ الرَّبِّ " (1كو22:7).
أمَّا العِتق فيتم عن طريق شراء المؤمنين بثمن، تُرى ما هو هذا الثمن؟ إنَّه دم ابن الله المسفوك على الصليب! الذى أشار إليه معلمنا بطرس الرسول بقوله: " عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ دَمِ الْمَسِيحِ " (1بط1: 19,18).
وبما أنَّ " نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ " (رو2:8)، فنحن إذن مطالبون بأن نمجد اللهَ فِي أَجْسَادِنا وَفِي أَرْوَاحِنا الَّتِي هِيَ لِلَّهِ (1كو20:6)، ويجب أن " نَعْبُدَ بِجِدَّةِ الرُّوحِ لاَ بِعِتْقِ الْحَرْفِ " (رو6:7).
ويُحذرنا معلمنا بطرس الرسول، من أن نستخدم ما نلناه من حرية ستراً للشر، فيقول: " لأَنَّ هَكَذَا هِيَ مَشِيئَةُ اللهِ أَنْ تَفْعَلُوا الْخَيْرَ فَتُسَكِّتُوا جَهَالَةَ النَّاسِ الأَغْبِيَاءِ كَأَحْرَارٍ، وَلَيْسَ كَالَّذِينَ الْحُرِّيَّةُ عِنْدَهُمْ سُتْرَةٌ لِلشَّرِّ، بَلْ كَعَبِيدِ اللهِ " (1بط2: 15, 16).
أمَّا ثمار التحرر فيوضَّحه مُعلّمنا بولس الرسول بقوله " وَأَمَّا الآنَ إِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ الْخَطِيَّةِ وَصِرْتُمْ عَبِيداً لِلَّهِ، فَلَكُمْ ثَمَرُكُمْ لِلْقَدَاسَةِ وَالنِّهَايَةُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ " (رو22:6).
إثبات لاهوت السيد المسيح
ليس للبشر عدو أقوى من إبليس، فهو الذى استطاع بمكره أن يُسقط آدم وحواء، ولم يفلت من قبضته أحد قط، فالجميع قد صاروا تحت أسره! ولهذا دُعِيَ " إِلَهُ هَذَا الدَّهْرِ " (2كو4:4)، وهو الذى حرَّك أنصاره الأشرار، فصلبوا المسيح، وقد ظن أنَّه بذلك قضى عليه، لكنَّه لم يكن يعرف حكمة الله من تجسد ابنه ثم موته وقيامته!
فالسيد المسيح قد ظهر في الجسد " لِكَيْ يَنْقُضَ أَعْمَالَ إِبْلِيسَ " (1يو8:3)، ومات على الصليب " لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَـوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ " (عب14:3)، وبقيامته قد " طُرِحَ التِّنِّينُ الْعَظِيمُ، الْحَيَّةُ الْقَدِيمَةُ الْمَدْعُوُّ إِبْلِيسَ.. إِلَى الأَرْضِ وَطُرِحَتْ مَعَهُ مَلاَئِكَتُهُ " (رؤ12: 9).
وهكذا انتصر رب المجد يسوع بقيامته على الشيطان انتصاراً ساحقاً، فبدَّد سلطانه، وأضعف مملكته، وأنقذنا من أسره.. أمَّا انتصاره فهو انتصار لكل المؤمنين، الآن يستطيع كل إنسان أن يُحاربه ولكن بسلاح الله الكامل، ويُطفيء سهامه بتُرس الإيمان.. فإن كان الشيطان هُزم، فلا عجب أن نرى القديس بولس الرسول يقول لأهل رومية " وَإِلَهُ السَّلاَمِ سَيَسْحَقُ الشَّيْطَانَ تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ سَرِيعاً " (رو20:16).
إنَّ قيامة المسيح هى أعظم دليل، يؤكد لنا أنَّ السيد المسيح هو " اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ " (1تي16:3)، لأنَّه قام من ذاته بقوة اللاهوت المتَّحد بناسوته! كل الذين قاموا قبل المسيح أقامهم غيرهم: فابن أرملة صرفة صيدا أقامه إيليا النبيّ (1مل22:17)، وابن المرأة الشونمية أقامه أليشع النبيّ (2مل36)، أمَّا لعازر وابنة يايرس وابن أرملة نايين فأقامهم السيد المسيح.
يقول القديس ساويرس الأنطاكيّ:
" إنَّ القيامة قوة كانت في السيد المسيح قبل قيامته، وجسده المقدس كان يحمل هذه القوة لأنَّه لم يرَ فساداً، وأنَّ نفسه كانت فيها قوة القيامة، إذ نزلتْ إلى الهاوية وصعدتْ منها ".
تأكيد عقيدة الخلود
إننا عندما نتساءل عن معنى الموت، فإننا في الحقيقة إنَّما نتساءل عن معنى الحياة ومصير الإنسان.. وهكذا نتساءل: هذه الحياة ما معناها؟ هذا الوجود ما هدفه؟ هذه الرحلة أين تمضي؟ لماذا خُلقنا؟ هل حياتنا مجـرد نور لا يكاد يُضيء حتى ينطفيّ ؟ أو لحن ما يكاد يشجينا حتى ينقطع ؟ أعتقد أنَّ الخلود هو أمل الإنسان في الحياة، فأنا أحيا على أمل ما سأكون، وبقيامة السيد المسيح قد صار واضحاً أنَّ الروح لا تفنى ولا تموت.
لو لم تكن هناك حياة بعد الموت، فما الداعي لأنْ يتجسّد المسيح؟ ولماذا يموت؟ بل لماذا نجاهد ضد الخطية ونقاوم شهوات الجسد؟ ولماذا نحتمل ونصبر على كل ما يُصادفنا من تجارب؟ لولا القيامة لقلنا مع الأبيقوريين: لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت!
عن هذا الخلود تساءل أيوب الصديق قائلاً: " إِنْ مَاتَ رَجُلٌ أَفَيَحْيَا ؟ " (أى14: 14)، فجاء المسيح وقال: " مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا " (يو11: 25).
إنَّ قضية الموت شغلتْ، ولازالتْ حتى الآن تشغل عقول كثيرين، من فلاسفة وعلماء ومفكرين، وأكثرهم يتساءلون: لماذا الموت؟ موت كل واحد منَّا، وموت الذين نُحبَّهم؟ ما مصير الجسد الذي سنلبسه، والكون الذي نحيا فيه؟ ما مصير كل واحد منَّا؟
ما علاقة هذه الحياة بالموت وما بعد الموت؟ ومن ثَمَّ ما قيمة العمل في هذه الحياة؟ لماذا البناء والسعي وراء مجتمع أفضل.. إن كان الموت سيقضي على كل ما في الحياة ؟!
على هذه الأسئلة وغيرها أجاب المسيح بقيامته وبقوله " أنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ " (يو11: 25)،
لأنَّه إن كان المسيح قد قام منتصراً، فواضح أنَّ مصير كل من يؤمن به الحياة لا الموت، والجسد الفاسد سيتغير لنلبس جسداً ممجداً غير قابل للفساد! وأعمال الإنسان ليست للعدم، بل كما قال يوحنَّا الحبيب " وَأَعْمَالُهُمْ تَتْبَعُهُمْ " (رؤ14: 13).
عن كتاب عيد القيامة - للراهب كاراس المحرقى