منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 09 - 06 - 2014, 01:44 PM   رقم المشاركة : ( 4521 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

العنصرة


الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس
تعريب الأب أنطوان ملكي


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
أمر المسيح تلاميذه، قبل صعوده إلى السماوات، بأن يعودوا إلى أورشليم ويلبثوا هناك إلى أن يلبسوا قوة من العلاء. لقد وعدهم بأنهم سوف يأخذون الروح القدس الذي حكى عنه خلال حياته. وقد تحقق هذا الوعد بعد خمسين يوم من الفصح، في اليوم العاشر لصعوده إلى السماوات. وهكذا، نحن نحتفل بعيد العنصرة الخمسين الذي فيه نكرّم الثالوث القدوس وفي اليوم التالي نحتفل بعيد الروح القدس. فعيد الخمسين، العنصرة، هو عيد للثالوث القدوس.
لا ننوي الاستفاضة بالكلام عن الأقنوم الثالث، أي الروح القدس، بل سوف نركّز فقط على الأحداث التي تشير إلى المسيح في الكتاب المقدس والآباء القديسين. وعليه، سوف نشدد على الأحداث الخريستولوجية التي تشير إلى الروح القدس. وبما أنه يصعب فهم الخريستولوجيا بمعزل عن العقيدة الثالوثية، سوف فسوف نعالج أيضاً عقيدة سر الثالوث القدوس.
عيد الخمسين، العنصرة، هو من ضمن أعياد الكنيسة الإثني عشر، لأنه آخر أعياد التدبير الإلهي. هدف تجسد المسيح كان الانتصار على الموت وحلول الروح القدس في قلوب البشر. إلى هذا، معروف جداً أن هدف الحياة الكنسية والروحية هو أن نصبح أعضاء في جسد المسيح ونكتسب الروح القدس. وهذان أمران مترابطان.
يسمّي كاتب التسابيح عيد العنصرة آخر الأعياد المتعلّقة بإصلاح الإنسان وتجدده: أيها المؤمنون، لنعيّد بابتهاج العيد الأخير الذي هو آخر العيد لأن هذا هو الخمسيني، غاية الوعد المفترض وإنجازه (الاستيخولوجيا الأولى في سحر العيد). وهكذا، إذا كانت بشارة والدة الإله هي بداية تجسد الكلمة والتدبير الإلهي، فالعنصرة هو الختام، إذ فيه يصير الإنسان، بالروح القدس، عضواً في جسد المسيح القائم. أيضاً، يمكننا أن نضع العنصرة وكل ما يتعلّق بالروح القدس وبالمسيح، في هذا الإطار لأنه يستحيل فهم الخريستولوجيا بمعزل عن البنفمتولوجيا (Pneumatology)، ولا البنفمتولوجيا بمعزل عن الخريستولوجيا[1].
-1-
لقد جرى نزول الروح القدس يوم أحد. وهنا نرى قيمة الأحد، إذ إن أعياد السيد الكبرى جرت فيه. بحسب القديس نيقوديموس الأثوسي، بدأ خلق العالم في اليوم الأول، أي الأحد، بدءاً بالنور؛ وبدأ تجدد الخليقة يوم أحد مع قيامة المسيح؛ وجرى إتمام الخلق يوم أحد بنزول الروح القدس. الآب أتمّ الخلق بمعاونة الابن والروح القدس، الابن أتمّ التجديد بإرادة الآب ومعاونة الروح القدس، والروح القدس أكمل الخلق، منبثقاً من الآب ومرسَلاً من الابن.
بالطبع في هذا الكلام، نعطي أهمية للأقانيم التي أتمّت الجزء الأساسي من إبداع الخليقة وتجديدها وإكمالها. ولكن في النهاية، كما تعلّمنا وكما نؤمن، إن الثلاثة يشتركون في قوة الإله الثالوثي، ولا يمكن فصل أحد الأقانيم أو عزله عن الآخَرَين في الثالوث.
يتطابق عيد الخمسين المسيحي الذي نعيّد فيه لنزول الروح القدس مع عيد الخمسين اليهودي. لقد نزل الروح القدس على الرسل وجعلهم أعضاء في جسد المسيح القائم من الأموات، في اليوم الذي كان فيه اليهود يحتفلون بعيد الخمسين. وهذا العيد هو ثاني أهم أعياد اليهود بعد الفصح، وفيه يحتفلون باستلام موسى لناموس الله على جبل سيناء، بحسب التقليد. بعد أربعين يوماً من أول عيد فصح، صعد موسى إلى جبل سيناء واستلم ناموس الله. لكن في موازاة ذلك، كان عيد الخمسين اليهودي تعبيراً عن شكرهم لقطاف الأثمار. وبما أنّه يتوافق مع فترة الحصاد، فقد سمّوه عيد الحصاد وقدّموا فيه بواكير الثمار إلى الهيكل. عيد الخمسين الذي كان اليهود يحتفلون به بفخامة، سُمّي أيضاً عيد الأسابيع (أنظر خروج 22:34، لاويين 15:23-17، عدد 26:28-31، وتثنية 9:16-19).
يشير الإلماح المقتضب إلى عيد الخمسين اليهودي إلى أنّه كان نموذجاً لعنصرة العهد الجديد. إذا كان موسى قد أخذ ناموس العهد القديم في اليوم الخمسين، فالتلاميذ أخذوا الروح القدس في اليوم الخمسين وبالتالي اختبروا ناموس العهد الجديد، ناموس النعمة الإلهية. إذا كان الكلمة غير المتجسد هو مَن أعطى الناموس على جبل سيناء، ففي العهد الجديد، الكلمة المتجسد القائم أرسل الروح القدس إلى التلاميذ الذين كانوا في العليّة، فصاروا أعضاء لجسده البهي. إذا كان اليوم الخمسين في العهد القديم يوم تقديم بواكير الثمار، ففي يوم خمسين العهد الجديد، قُدّمَت بواكير الثمار العقلية من الحصاد الذي زرعه المسيح نفسه، أي أن الرسل قُدِّموا إلى الله.
بالطبع، هناك فرق واضح بين إعلان الله على جبل سيناء، وإعلانه في عليّة أورشليم. لقد كان جبل سيناء كُلُّهُ يُدَخِّنُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّبَّ نَزَلَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، وَصَعِدَ دُخَانُهُ كَدُخَانِ الأَتُونِ، وَارْتَجَفَ كُلُّ الْجَبَلِ جِدًّا.(خروج 18:19). بالواقع قد أعطيت وصية بألاّ يقترب أحد من الجبل كي لا يموت: كُلُّ مَنْ يَمَسُّ الْجَبَلَ يُقْتَلُ قَتْلاً. (خروج 12:19). لم يحدث أمر مماثل في يوم نزول الروح القدس في العليّة. لقد امتلأ الرسل فرحاً وتحوّلوا: من رجال خائفين إلى باسلين، ومن مائتين إلى آلهة بالنعمة.
يظهر الفرق بين سيناء وعليّة أورشليم في الفرق بين ناموس العهد القديم وناموس العهد الجديد. في القديم، أُعطي الناموس على لوحين حجريين، والآن الناموس محفور على قلوب الرسل. يقول الرسول بولس: ظَاهِرِينَ أَنَّكُمْ رِسَالَةُ الْمَسِيحِ، مَخْدُومَةً مِنَّا، مَكْتُوبَةً لاَ بِحِبْرٍ بَلْ بِرُوحِ اللهِ الْحَيِّ، لاَ فِي أَلْوَاحٍ حَجَرِيَّةٍ بَلْ فِي أَلْوَاحِ قَلْبٍ لَحْمِيَّةٍ. (2كورنثوس 3:3). لقد حقّق نزول الروح القدس نبوءة النبي إرميا كما يكتب الرسول بولس: أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي أَذْهَانِهِمْ، وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلهًا وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا.(عبرانيين 10:8).
-2-
عيد الخمسين هو عيد للروح القدس، لأننا نتعلّم من نزوله أن الله ثالوثي. في السابق أيضاً، بشكل مغمور في العهد القديم وفي تعليم المسيح، كان الناس يتعرّفون إلى الوجه الثالوثي لله، لكن في العنصرة اكتسبوا خبرة عملية عن أقنومه الثالوثي. وهكذا فالعنصرة هو عيد اللاهوت الأرثوذكسي.
في اللاهوت الأرثوذكسي، ما يُقال عن الله (اللاهوت) هو غير ما يُقال عن التجسّد (التدبير). وهكذا، في عيد العنصرة نعبّر عن اللاهوت بطريقة أرثوذكسية، لأننا نفهم أن الله ثالوثي، آب وابن وروح قدس. بحسب التعليم الأرثوذكسي عن الإعلان، الآب بلا ابتداء ولا علّة وغير مولود، أي أنّه لم يأخذ وجوده من أيّ كان، الابن يأتي من الاب بالولادة، والروح القدس يأتي من الآب بالانبثاق. لقد كشف لنا المسيح هذه التعابير: غير مولود، ولادة وانبثاق، ولا نستطيع أن نفهمها عقلياً، لهذا هي تبقى سراً. الحقيقة هي أن الابن والروح يأتيان من الآب بطريقتين مختلفتين، لكل منهما شخصيته الأقنومية، أو طريقة كينونته، لكنهما من ذات جوهره.
بالرغم من أن الآب هو المصدر، والابن مولود والروح منبثق، فللثلاثة نفس الطبيعة-الجوهر والإرادة-القوة. يشترك أقانيم الثالوث القدوس الثلاثة في نفس الطبيعة، نفس الفكر، نفس القوة، وأيّ منهم ليس أعظم من الآخرين. بكلمات أخرى، ليس الابن ولا الروح القدس أدنى مرتبة من الآب. وعندما نتحدّث عن الأقانيم الأول والثاني والثالث في الثالوث القدوس، نحن لا نقارن بينهم بحسب القيمة والرِفعة والقدرة، بل بحسب طريقة الكينونة (القديس باسيليوس الكبير). في النهاية، يعجز المنطق البشري والفهم البشري والكلمات عن صياغة سر الإله الثالوثي.
لقد عاش الآباء القديسون هذا السر بقدر ما استطاعوا في خبرة الإعلان. يتحدّث القديس غريغوريوس اللاهوتي عن ثلاثة أنوار تلمع حوله خلال الرؤيا التي رآها فيكتب: ما أن فهمت الواحد، حتى أحاط بي ثلاثة أنوار، وما أن فرّقت بين الثلاثة حتى عدت إلى الواحد.
لقد كشف لنا المسيح بنفسه سر الثالوث القدوس، حين أخبر تلاميذه بأن الروح القدس ينبثق من الآب وهو نفسه يرسله (يوحنا 26:15). هذا يعني أن الابن لا يشارك في انبثاق الروح القدس، بل في إرساله وفي إيفاده إلى العالم، وهذا الإرسال هو إظهار للثالوث القدوس في قوته. وهكذا، على ما يشرح القديس غريغوريوس بالاماس، ينبثق الروح القدس من الآب، ولكننا نستطيع القول بأنه مرسَل من الابن فقط في قوته وظهوره إلى العالم وليس في كينونته بالجوهر. إن كينونة الروح القدس أمر مختلف عن ظهوره في القوة.
الآب مكتفٍ بذاته، وقبل الأزمنة ولد الابن، إلهاً مساوياً له بذاته، ويرسل الروح القدس، إلهاً مساوياً، من دون أن تنقسم الألوهة بانفصال الأقانيم، بل تتوحّد من دون تشوش من تعداد الثالوث. إن ولادة الابن من الآب وانبثاق الروح منه لا يعنيان أن الروح أكثر فتوة لأن الزمان لا يطرأ بين عدم ولادة الآب وولادة الابن وانبثاق الروح القدس. إن أقانيم الثالوث القدوس أبدية ومن غير ابتداء، متساوون بالرتبة والشرف (ليون الحكيم).
-3-
إن خلق العالم وإعادة خلقه هما عمل مشترك للإله الثالوثي. هذه الحقيقة اللاهوتية هي ما يقودنا إلى القول بأن عمل المسيح وعمل الروح القدس ليسا مختلفين. نقول هذا لأن هناك خطر ممكن وجديّ يكمن في الكلام عن تدبير المسيح وكأنه مستقل عن الروح القدس، وفي الكلام عن تدبير الروح القدس وكأنه منفصل عن المسيح.
كلمة الله صار إنساناً بإرادة الآب الصالحة وبالتعاون مع الروح القدس. حُبِل بالمسيح في رحم والدة الإله الفائقة القداسة بالروح القدس. من ثمّ المسيح، بعد قيامته، وبالتأكيد في يوم العنصرة، أرسل الروح القدس، لأن الروح القدس مرسَل من المسيح. وعندما أتى إلى الرسل شكّل المسيح في قلوبهم، أي جعلهم أعضاء جسد المسيح. لهذا لا يمكننا الكلام عن اختلاف بين عمل الابن وعمل الروح القدس.
يظهر هذا جلياً في الكتاب المقدس. خلال حياته، كان المسيح يشفي قلوب الرسل ويطهرها بتعليمه، بإعلانات أسراره وبمعجزاته. ولهذا قال في النهاية: أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكَلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ (يوحنا 3:15). وفي مكان آخر قال أن مَن يحبه ويحفظ كلمته، فسوف يحبه الآب أيضاً وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً. (يوحنا 23:14).
أن يصنع الآب والابن منزلاً عند الإنسان الذي تطهّر وتقدّس لا يعني أنّه محروم من حضور الروح القدس أو أن الروح القدس سوف يكون مفصولاً عن عمل التقديس. إذ في مكان آخر، يعِد المسيح تلاميذه بأنه سوف يرسل الروح القدس الذي ينبثق من الآب ويكون مَاكِثاً مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ? (يوحنا 17:14). إذاً، مَن يحصل على نعمة الإله الثالوثي يصبح عضواً لجسد المسيح ومكاناً لسكنى الله الآب وهيكلاً للروح القدس، وبتعبير آخر وعاءً للإله الثالوثي.
في طروبارية من قانون عيد العنصرة، يصف القديس يوحنا الدمشقي الروح القدس كعلامة للابن المولود من الآب، لأنّه يكشف ويظهِر كلمة الله، إذ من دون الروح القدس لا يُفهَم الابن المولود الوحيد (القديس غريغوريوس النيصصي). إلى هذا، يقول الرسول بولس لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ:«يَسُوعُ رَبٌّ» إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. (1كورنثوس 3:12). ويُدعى الروح القدس أيضاً علامة للكلمة لأنه وجّه التلاميذ بحسب ما تعلّموا وذكّرهم بما قال المسيح لهم. لهذا السبب هو إشارة. بتعبير آخر، من خلال الروح القدس ظهر أنّ المسيح هو ابن الله الحقيقي وكلمته، وقد ظهر اشتراك الابن والروح القدس في الطبيعة نفسها وإجماعهما من خلال التعليم المشترك.
ابن الله وكلمته مجَّد الآب بتجسده. في يوم العنصرة، نزل الروح القدس على التلاميذ وبهذا مُجّد الابن (ليون الحكيم). على هذا الأساس يمكننا القول بأن الآب مجد الابن بتسميته ابناً محبوباً، الابن تمجّد بما فعله بالتناغم مع الروح القدس. الابن مجّد الآب في كل عمله لخلاص الجنس البشري؛ وفي الوقت نفسه مجّد الروح القدس لأنه أظهره وكشف عنه للتلاميذ؛ ولكن أيضاً الروح القدس، الذي يعمل بكثافة في الكنيسة، يمجّد الآب الذي منه يأتي، ويمجّد الابن لأن كثيرين من الذين يأخذونه يصبحون أولاداً لله وأعضاء في جسد المسيح.
واضح من كل هذه الأمور أن عمل الابن وعمل الروح القدس ليسا مختلفين. إن خلاص الإنسان هو عمل مشترك للإله الثالوثي. هذا هو الموضوع المهم، وسوف نرى هذه الحقيقة اللاهوتية العظيمة، بشكل أفضل، من خلال ما سوف نذكر في القسم التالي.
-4-
لقد أعطي الروح القدس أسماء كثيرة. أحدها، وهو يظهِر العمل الذي يعمله في الكنيسة كما في حياة الناس، هو المعزّي. المسيح نفسه استعمل هذه الكلمة عندما قال لتلاميذه قبل آلامه بوقت قصير: وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ، رُوحُ الْحَقِّ. وبعد هذا بقليل يقول المسيح عن الروح القدس بأنه المعزي الذي سوف يعلّم التلاميذ ويذكّرهم بكل ما قاله في حياته. أَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ. (يوحنا 26:14). وإذ نحن واثقون من أن الروح القدس هو المعزي نصلي إليه أيها الملك السماوي، المعزي، روح الحق.
إن الروح القدس يعزّي الإنسان المجاهد ضد الخطيئة، الذي يسعى إلى حفظ وصايا المسيح في حياته. هذا الصراع صعب، لأنّه الحرب ضد الأرواح الشريرة. لهذا، فالروح القدس هو المعزي، أو الذي يريح الناس، بحسب ما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم. إنه علامة على أن الله يؤاسي الناس، لهذا يوصف بنفس العبارات كما الروح القدس.
الأمر المهم في الدراسات الخريستولوجية التي نقوم بها هو أن المسيح يصف الروح القدس بأنّه المعزي الآخر. هذا لأن المسيح أيضاً هو معزٍّ يؤاسي الناس. في رسالته الجامعة، يدعو الإنجيلي يوحنا اللاهوتي المسيحيين إلى عدم الخطيئة، لكنه يقول أيضاً أنّهم ولو أخطأوا فعليهم ألاّ يتخاذلوا لأن فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ الآبِ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ (1 يوحنا 1:2). إذاً، المسيح والروح القدس هما معزيان في العالم. بالطبع الله الآب هو معزي الناس لأن التعزية هي عمل مشترك للإله الثالوثي.
إن عبارة المعزي الآخر تعني أن المسيح والروح القدس هما أقنومان مختلفان، لكن لهما الطبيعة والجوهر والقوة نفسها. في تفسير هذه العبارة، يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي أنها تشكّل وتصف الشركة الإلهية والاشتراك في نفس الطبيعة عند الأقنومين. أن يقول المسيح بأنه سوف يرسل معزياً آخراً تعني أنه هو نفسه معزٍّ. بهذا يمكن أن نرى المساواة في الشرف بين المسيح والروح القدس.
-5-
يشترك الروح القدس مع الابن والآب في نفس الجوهر، لأن لأقانيم الثالوث الثلاثة نفس الجوهر والطبيعة والقوة والإرادة والمجد. لهذا، حيث يكون المسيح يكون الروح القدس وحيث يكون الروح القدس يكون المسيح. لقد ركّزنا على أن الأقانيم غير منفصلين ولا عملهم مستقل.
يقول القديس مكسيموس المعترف بأن الروح القدس فاعل في كل الناس لكن بطريقة مختلفة في كل منهم. فهو يعمل في الجميع من دون استثناء لأن الجميع مخلوقون من الله، القادر على جمع البذار الطبيعية وتأمينها وجعلها تتحرّك. ففي الذين في زمن الناموس ينثر النور بالوعد بالمسيح من خلال الوصايا. وهو يعمل في العائشين بالمسيح ليجعلهم أبناء بقوة الروح القدس. وفي المتألهين، أي الذين جعلوا أنفسهم يستحقون المواطنية في الله وسكنى القوة الإلهية، فهو يعمل كحكمة مبدعة. هكذا، الروح القدس فاعل في الكل ولكن في كل واحد بشكل مختلف، بحسب وضعه الروحي.
في هذا الضوء نفهم أن الروح القدس كان فاعلاً في العهد القديم كما في الأنبياء، لأنهم بقوة الروح القدس رأوا الكلمة غير المتجسّد وتنبؤوا عن الكلمة المتجسد أي المسيح. نحن نعرف جيداً من اللاهوت الأرثوذكسي أن كل إعلانات الله في العهد القديم كانت إعلانات الكلمة غير المتجسد أي الأقنوم الثاني. وبما أن الابن لا يتواجد من دون الروح القدس، فالروح هو مَن أظهر الكلمة غير المتجسد للأنبياء وكشف لهم الأسرار المقبلة.
يقول القديس باسيليوس أن الروح القدس أتى إلى نوس الأنبياء فتنبأوا بالأمور الحسنة الآتية. مثال مميز هو حالة يوحنا السابق الذي كان مملؤاً من الروح القدس في بطن أمه منذ أن كان جنيناً ذا ستة أشهر، وعلى ما يقول القديس غريغوريوس بالاماس، بأنّه بالروح القدس تلقّى التأسيس للزمان الآتي في بطن أمه وصار لاهوتياً بالمسيح. وبالواقع نحن رأينا في عيد اللقاء أن سمعان البار تعرّف إلى المسيح بالروح القدس.
لهذا، فالروح القدس كان فاعلاً في العهد القديم كما في الجديد، أي الكنيسة، ولو بصورة مختلفة. إذ، كما ذكرنا سابقاً، في العهد القديم أشار إلى الأنبياء عن عصيان الوصايا وكشف مجيء المسيح، بينما في العهد الجديد هو يجعل البشر أبناء لله وأعضاء في جسد المسيح ويقودهم إلى التألّه.
-6-
يعتمد تجسد ابن الله وكلمته على الروح القدس، ومثله كل عمل التدبير الإلهي. هذا ما يعبّر عنه القديس باسيليوس الكبير بوضوح كبير إذ يقول بأن المسيح، عندما أتى ليسكن في العالم، سبقه الروح القدس معلناً مجيئه وكاشفاً حضوره. كذلك، الروح القدس لا ينفصل عن حضور المسيح المتجسّد في العالم، فإنجاز القوى والمواهب والأشفية وإخراج الشياطين من الناس هو بقوة روح الله. الشياطين تُسحَق بحضور الروح القدس. كما أن الحلّ من الخطايا هو بنعمة الروح القدس. ومثله إقامة الموتى.
وإذا كان الروح القدس عمل في أنبياء العهد القديم وأبراره، مشيراً إلى المسيح وكاشفاً إياه، فكم بالحري هو كان فعاّلاً في رسل المسيح وتلاميذه. لكن بما أن الروح القدس يعمل بحسب حالة الإنسان وفي الوقت المناسب، فقد عمل فيهم بثلاث طرق وفي ثلاث أوقات. فقد عمل بشكل خفي قبل أن يتمجّد المسيح بآلامه، أي قبل تألمه وتضحيته على الصليب، وبشكل أكثر وضوحاً بعد قيامته، وبالشكل الأكثر كمالاً بعد صعوده إلى السماوات. إلى هذا، الروح القدس يكمّل ويقدّس الناس ولا يتكمّل هو لأنه إله كامل. الروح القدس يكمّل ولا يتكمّل (القديس غريغوريوس اللاهوتي). وعليه فقد كمّل الرسل وملأهم إذ كانوا غير كاملين.
قال كلمة الله غير المتجسد، ابن الله، بنبيه يوئيل وَيَكُونُ بَعْدَ ذلِكَ أَنِّي أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ، فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ، وَيَحْلَمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَمًا (28:2). واضح هنا أنّه يتكلّم عن مجيء الروح القدس ومنح موهبة النبوءة الذي تمّ في يوم العنصرة. بحسب القديس كيرللس الإسكندري، تشير النبوءة إلى الأحداث التي جرت يوم العنصرة حيث راح التلاميذ يتكلّمون نبوياً معلنين أسرار المسيح التي سبق وأخبر عنها الأنبياء. بتعبير آخر، لقد فهم التلاميذ في ذلك الحين بقوة الروح القدس أن كل نبوءات العهد القديم أشارت إلى شخص المسيح. وبهذا تكمّلوا في المعرفة والوحي.
تعود الطبيعة البشرية إلى حالتها السابقة بقوة الروح القدس، لأنها تمتلك الموهبة النبوية التي كانت لآدم في الفردوس من النعمة (القديس نيقوديموس الأثوسي). بالواقع، في نظرنا إلى حياة آدم قبل السقوط، نميّز أنّه كان لنا نوس نقي وكنا نتنبّأ. الله أوجد حواء من جنب آدم في نومه، لكن عندما استيقظ ورآها، استنار بالروح القدس واعترف بأنها جاءت من جسده: هذه عظم من عظامي ولحم من لحمي (تكوين 23:2).
هذا يعني أن كل الذين يحصلون على الروح القدس ويصيرون أعضاء للكنيسة لا يعودون فقط إلى الحالة السابقة التي كان آدم فيها، بل يقومون إلى أعلى من ذلك لأنّهم متّحدون بالمسيح. مَن عنده الروح القدس يصير نبياً، يكتسب المواهب النبوية، على ما نرى في حياة القديسين، ويعرف أسرار المسيح ويرى ملكوت الله ويختبره. بقوة الروح القدس ومقدرته، تصبح الموهبة النبوية حالة طبيعية للإنسان. الصلاة النوسية هي إشارة إلى عطية الروح القدس هذه وقوته.
-7-
إن الطريقة التي عمل بها الروح القدس في العهد القديم ظاهرة بوضوح عند الكنيسة. في دراستنا يمكننا أن نرى بعض الأوجه المثيرة للاهتمام والتي تظهر العلاقة القوية بين الخريستولوجيا والبنفماتولوجيا.
بحسب آباء الكنيسة القديسين، لقد كانت الكنيسة موجودة حتى قبل التجسّد، إذ إن بدايتها هي مع خلق الملائكة والإنسان. بسقوط آدم سقطت الكنيسة، ومع ذلك هي ما زالت محفوظة في أنبياء العهد القديم وأبراره بشكل عام. بالرغم من وجود الكنيسة، إن ناموس الموت ما زال ملزِماًً وبالتالي، فيما أبرار العهد القديم بلغوا التألّه وعرفوا الكلمة غير المتجسّد، إلا أن قوة الموت سادت عليهم (الذهبي الفم)، وهكذا ذهبوا إلى الجحيم.
بتجسد المسيح، الذي تمّ بالروح القدس، اتّخذ المسيح جسد الكنيسة (الذهبي الفم)، أي أنّه اتّخذ الطبيعة البشرية النقية غير المسلوبة وأتحَدَها بألوهته. بهذه الطريقة صار للكنيسة رأس وصارت جسد المسيح. يقول إكليمندس الروماني أنّ الكنيسة كانت في البداية روحية وقد خُلقَت بظهور الملائكة، لكن لاحقاً بتجسّد المسيح ظهرت في جسده، صارت جسداً. كون التجسّد تمّ بتكافل الروح القدس، وكون ما يجري في الكنيسة يتمّ بقوة الروح القدس، فالعنصرة مرتبطة بالكنيسة.
قال المسيح مرة لبطرس أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها (متى 18:16). هذا تحقق بموت المسيح على الصليب ونزوله إلى الجحيم. نفس المسيح وألوهيتها نزلا إلى الجحيم، فيما جسده وألوهية هذا الجسد بقيا في القبر. هكذا غُلبت قوة الجحيم، أي الموت. إذاً، لم يكن للموت سلطان على الكنيسة ولا يمكن أن يكون له، كونها جسد المسيح.
تأسست الكنيسة يوم العنصرة، أي أن الرسل صاروا أعضاء لجسد المسيح. وهكذا، فيما كانوا سابقاً في شركة مع المسيح، صاروا الآن بقوة الروح القدس وفعله أعضاء لجسد المسيح. تغيّرت الكنيسة من روح إلى جسد. كان للقديسين، المتألّهين، علاقة وشركة ليس فقط مع الكلمة غير المتجسّد بل أيضاً الكلمة صار جسداً، أي المسيح الإله الإنسان. يشرح الرسول بولس لاهوت كون الكنيسة جسد المسيح والقديسين أعضاءه (1كورنثوس 1:12-31). فهو يقول أن الكنيسة ليست مؤسسة دينية بل هي جسد المسيح، وبأن توزيع مواهب النعمة يتمّ بقوة الروح القدس. استنتاجاً يقول الرسول بولس: وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجَسَدُ الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاؤُهُ أَفْرَادًا (1كورنثوس 27:12).
ينبغي أن نضيف أنه يظهر في تعليم الآباء القديسين حقيقتان تبينان القوة المشتركة بين الأقانيم. المسيحيون هم أعضاء جسد المسيح (1كورنثوس 27:12)، وفي الوقت عينه هم هياكل للروح القدس (1كورنثوس 19:6). ولا تلغي الواحدة الأخرى.
-8-
إن نزول الروح القدس في يوم العنصرة لا يعني أنه كان غائباً قبلاً، بل إلى أنّه يعمل في طريقة مختلفة، كما أشرنا سابقاً. يمكننا أن نعرض نقطتين تفسّران نزول الروح القدس وفعله المختلف. النقطة الأولى هي أنّ الرسل فهموا في يوم العنصرة أنّ الروح القدس هو أقنوم محدد وليس مجرّد قوة من قوى الله. الروح القدس، الذي ظهر باهتاً في العهد القديم كنَفَس، كَصوت، كَحفيف نسمة، كوحي للأنبياء، يستعلن في العنصرة كَأقنوم موجود بذاته. إذاً، عندما اكتملت الأحداث التي أظهرت أقنوم الابن، بدأت الأحداث التي أظهرت أقنوم الروح القدس (القديس غريغوريوس بالاماس).
النقطة الثانية التي بها نفسّر نزول الروح القدس يوم العنصرة هي أنّ الروح القدس جعل التلاميذ أعضاء جسد المسيح وأعطاهم القدرة على المشاركة في انتصار المسيح على الموت. القديس نيقوديموس الأثوسي، في تفسيره لنزول الروح القدس، يستعمل اقتباسات من القديسين نيكيتا ستيثاتوس وباسيليوس الكبير، فيها أنّه لم ينزل كخادم، بل كسيّد ذي سلطان. كما أنّ الابن كلمة الله تجسّد بإرادته الذاتية، طوعياً، كذلك الروح القدس بإرادته الذاتية جعل الرسل أعضاء في جسد المسيح. إلى هذا، إرادة الآب هي أيضاً إرادة الابن والروح القدس، وبالعكس. إن القدرة والإرادة مشتركتان في الثالوث القدوس.
تختلف الحرية عند الله والملائكة والبشر. فالله يمتلك الحرية بشكل بارز سامٍ وفائق الجوهر. لا يمكن مقارنة الله بالمعطيات البشرية. تمتلك الملائكة الحرية طبيعياً، لكنهم يمارسونها من دون إعاقة، ويرغبون باستعمالها مباشرة إذ ليس لديهم ما يعيقهم عن ممارستها، إذ ليس لهم لا جسد ولا أي قوة معارضة أخرى. البشر مستقلّون وذوو حرية، لكن إرادتهم الحرة قد فسدت وليس من السهل عليهم أن يتحمّلوا رغباتهم. لهذا السبب يحتاج الرغبة والإرادة الحرة إلى القوة من الله. يأتي في العهد القديم أنّ مَن يسمع يَنَالُ رِضًى مِنَ الرَّبِّ (حكمة 35:8). ويكتب الرسول بولس: ?لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ.(فيليبي 13:2).
هذا يعني أن الروح القدس نزل إلى قلوب الرسل وهو يعمل في البشر من خلال إرادتهم الذاتية وليس وكأنهم عبيد. لكن على البشر أن يتجاوبوا مع قوة الروح القدس بإرادتهم، لأن الله لا ينتهك حريتهم. في أي حال، ينبغي دعم الشهوة والإرادة الحرّة من الله لأن الإنسان في حالة السقوط مستعبَد وكائن تابع.
بالإجمال، عندما نتحدّث عن نزول الروح القدس في يوم العنصرة، لا يمكننا فهمه كتجسّد، لأن الابن كلمة الله هو الذي تجسّد، ولكن كظهوره الأقنومي (الشخصي) في العالم، الذي غيّر الرسل وحوّلهم من قابلين للموت إلى أعضاء حيّة في جسد المسيح.
-9-
بالمعمودية المقدّسة يصير الإنسان عضواً في الكنيسة، أي عضواً في جسد المسيح. العنصرة كان يوم معمودية التلاميذ لأنّهم صاروا فيه أعضاء جسد المسيح. بالتالي، المسيح ليس معلمهم وحسب بل هو رأسهم. لقد قال المسيح لتلاميذه مباشرة بعد قيامته: لأَنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. عندما نزل الروح القدس عليهم، عمَّدهم، وهكذا امتلأ البيت الذي كانوا فيه منتظرين وعد الآب، فامتلأوا من الروح القدس الذي حوّل المنزل إلى جرن معمودية روحي (القديس غريغوروس بالاماس).
صار حضور الروح القدس في العلية مصحوباً بريح قوية. يكتب الرسول لوقا: وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ. هذه الريح العاصفة قد صوّرَت مسبَقاً وكانت متوقَّعَة في عدة مواقع في العهد القديم. لإنها الصوت الذي سمعته والدة النبي صموئيل يقول: مِنَ السَّمَاءِ يُرْعِدُ عَلَيْهِمْ. الرَّبُّ يَدِينُ أَقَاصِيَ الأَرْضِ (1صموئيل 10:2). رؤيا النبي إيليا لله تنبأت عن هذا الصوت عندما رأى الله في صوت النسمة الخفيفة. المسيح أوحى بهذا الصوت عندما قال: مَن كان عطشاناً فليأتِ إليّ ويشرب، إذ بهذه العبارة القوية عنى الروح القدس الذي كان مزمعاً أن يتقبل كل المؤمنين به. على المنوال نفسه، لقد أشير إليه مسبقاً بنفخة المسيح في تلاميذه بعد قيامته معطياً إياهم الروح القدس لكي يغفروا الخطايا.
لظهور الروح القدس كمثل ريح عاصفة معنى، لأنه يظهر أن الروح القدس يغلب كل شيء، يخترق جدران الشر، يهدم مدن العدو وكل قلاعه. في الوقت نفسه هو يواضع المغرور ويرفع المتواضع القلب، يضمّ ما قد انكسر ويكسر رباطات الخطيئة ويعتق الذين في الضيقات (القديس غريغوريوس بالاماس). بقوة الروح القدس يصير الإنسان عضواً للكنيسة ويغلب كل قوى العدو ويقهر حتى الموت نفسه.
-10-
إن ظهور الروح القدس في يوم العنصرة يبرِز أن عمل المسيح لا يختلف عن عمل الروح القدس. يكتب الإنجيلي لوقا، الذي هو كاتب أعمال الرسل ايضاً: وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. في تحليله لهذه النقطة، يقدّم القديس غريغوريوس بالاماس ملاحظات لاهوتية مهمة نشير إليها هنا لأنها تظهر مساواة الروح القدس للابن في الشرف والمجد.
أولاً، الظهور المدرَك بالحواس للروح القدس كان على شكل ألسنة لإظهار الاتحاد مع كلمة الله، إذ لا شيء أكثر ارتباطاً بالكلمة من اللسان. فقد أظهر بهذا أن عمل الروح القدس لا يختلف عن عمل كلمة الله. في الوقت نفسه، برز حسياً من خلال اللسان ليقول أنه ينبغي بمعلم الحقيقة أن يكون ذا لسان مملوءاً بالنعمة. لقد كانت الألسنة نارية ولهذا أيضاً معنى كبير. إنّه يظهر مساواة الروح القدس للآب والابن بالجوهر لأن الله نار آكلة. يشير هذا الظهور إلى أن للروح القدس نفس الطبيعة والقدرة كما للآب والابن. النار تضيء وتحرق. إنها مثل تعليم المسيح تماماً: تنير الذين يطيعون وتعاقب الذين يعصون. بالطبع، هذه النار التي ظهر فيها الروح القدس لم تكن مخلوقة، إذا لم يقل الإنجيلي القديس ألسنة نارية بل قال ألسنة كما من نار.
توزعت ألسنة النار على رؤوس الرسل ولهذا أيضاً معناه، إذ يريد أن يظهر أن للمسيح وحده كل القدرة والقوة الإلهيتين، كونه مساوٍ للآب والروح بالطبيعة. ليست النعمة التي يحصل عليها القديسون من طبيعة الله، بل هي قوته التي تعطي مواهب النعمة المختلفة لكل واحد. لا أحد يمتلك النعمة الإلهية كاملة إلاّ المسيح وحده الذي عنده ملء نعمة الله في الجسد. يظهر من استقرار هذه الألسنة على رؤوس الرسل، قيمة السيد ووحدة روح الله. ليست قوة مخلوقة، بل هي قوة الله غير المخلوقة، ولهذا تصوَّر وكأنها جالسة، إشارة إلى المجد الملوكي. في الوقت نفسه، نعمة الله وقوته منفصلتان، فهما تبقيان واحداً. الروح القدس موجود فعلياً وفاعل منفصلاً من دون انفصال، ومساهَماً فيه بالكلية، مثل شعاع الشمس. هذا يعني أنه فيما يحصل الكل على نور الشمس وفي الوقت نفسه يحصلون أيضاً على قوتها غير منقسمة. عندما يحصل الإنسان على المناولة المقدسة مشترِكاً في جسد المسيح ودمه، لا يشارك في جزء من جسد الرب، بل في كامل الجسد. يقول الكاهن في القداس: حمل الله الذي يُكسَر ولا ينقسم، الذي يؤكَل ولا ينفد.
إذاً، قوة الروح القدس هي أيضاً قوة الكلمة والآب، إنها قوة الإله الثالوثي. خلاص الإنسان هو في الاشتراك في قوى الثالوث القدوس غير المخلوقة.
-11-
بعد أن وعد تلاميذه بأن يرسل الروح القدس، أعطى المسيح وصية واضحة: أَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي (لوقا 49:24). حفظ التلاميذ هذه الوصية وبقوا معاً في العلية في أورشليم في السكينة والصلاة منتظرين تدفق موهبة الروح القدس. هذا ما يؤكده الإنجيلي لوقا: وَكَانُوا كُلَّ حِينٍ فِي الْهَيْكَلِ يُسَبِّحُونَ وَيُبَارِكُونَ اللهَ (لوقا 53:24).
عند هذه النقطة سوف أتوقف قليلاً عند عبارة إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي لأنها مميزة. فالمسيح لم يقل أنّهم سوف يحصلون على الروح القدس وحسب بل سوف يلبسونه، كمثل بزة روحية من الدروع لمجابهة العدو. لا يتعلّق الأمر باستنارة أذهانهم، بل بالتحّول الكامل في كيانهم. لن يبقى أي نقطة في أجسادهم ولا قوة في نفوسهم من غير أن تغطيها قوة الروح القدس. معروف أنّ بالمعمودية المقدسة، التي تُعتَبَر سراً تمهيدياً لأنّها تدخلنا إلى الكنيسة ونصير أعضاء في جسد المسيح، نحن نلبس المسيح لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ (غلاطية 27:3). وأيضاً نحن نلبس الروح القدس في الوقت نفسه بحسب الوعد المعلَن للمسيح. إلى هذا، هذا هو هدف سرَّي المعمودية والميرون المترابطين.
إن لبس الروح القدس ليس خارجياً ولا سطحياً، لكنه داخلي كاتحاد الحديد بالنار. فالحديد المُحَمَّى يكون مشتعلاً بالكلية، وليس جزئياً فقط. وهكذا كل الذين يحصلون على الروح القدس يشعرون به يملأ قلوبهم وينير أعينهم ويقدّس آذانهم ويخمد أفكارهم السيئة، فيُمنَحوا الحكمة ويمتلئوا بالنعمة. إنهم يختبرون الشيء نفسه الذي اختبره رئيس الشمامسة أول الشهداء استفانس، الذي أظهر أولاً للسنهدرين البركةَ التي منحه إياها الروح القدس في نفسه، ومن ثمّ أبرز مجد الإنسان (مكسيموس خريسوكافلوس). إذاً، قوة الروح القدس تقدّس وتنير كامل الكيان البشري.
نحن نرتّل الترنيمة التالية: كل الحكمة تتقيّد بالروح القدس: فالنعمة للرسل، والشهداء يُتوَّجون لمآثرهم، والأنبياء يعاينون. كل النعَم والمواهب المعطاة لأعضاء الكنيسة هي من الروح القدس: المعاينة النبوية، الحياة الرسولية والنهاية الاستشهادية. هذا يعني أن رؤى الأنبياء ليست اختلاقات من الفكر والمخيّلة، الحياة الرسولية ليست رسالة ذات مركز بشري، وشهادة القديسين ليست تفعيلاً لإرادة قوية، بل هي جميعاً عطايا يمنحها الروح الكلي قدسه. من بين هذه المواهب التي تُعطى للإنسان الذي يحصل على الروح القدس، هي الحياة المقدّسة، الجهاد للحفاظ على وصايا الله إلى أعلى الدرجات والعيش في طهارة النفس والجسد، الحياة الزوجية في المسيح ضمن العادات الاجتماعية، والخدمة الرعائية في المسيح والعديد غيرها من الاهتمامات بكلام آخر، كل عطايا النعمة ممنوحة من الروح القدس. إذاً، الروح القدس يشكّل كل كيان الكنيسة التي هي جسد المسيح.
-12-
ما أن امتلأ الرسل بالروح القدس حتى غمرهم فرح عظيم. لقد كانت خبرة جديدة لهم. فيما كانوا سابقاً مجرّد أشخاص طيبين، فقد صاروا الآن أعضاء جسد المسيح القائم. لم يكونوا مرغَمين على عبادة المسيح، بل كانوا متّحدين به بشكل وثيق. كل الذين رأوهم ارتبكوا، والبعض قال ساخراً أنهم ممتلئين من الخمر، أي أنّهم سكروا من الخمر الجديدة (أعمال 13:2).
يسمّي آباء الكنيسة نزول الروح القدس إلى قلب الإنسان الثمالة الرزينة (ديونيسيوس الأريوباغي). وفي إشارة إلى هذه الحالات، يتحدّث القديس اسحق السرياني عن أن كل قوى الإنسان تغرق في ثمالة عميقة. وهي تسمّى ثمالة لأنّ فيها فرح عظيم وسعادة، وهي رزينة لأن الإنسان لا يفقد حواسه ولا عقله.
عندما يملأ الروح القدس إنساناً ما، فهو يبقى حرّاً، أو بتعبير أفضل، إنه يكتسب حرية حقيقية، لا تعمل كقوة للخيار، على ما تحكي الأخلاق الفلسفية، بل كإرادة طبيعة وغلبة للموت. يقول الرسول بولس بشكل مميز: أَرْوَاحُ الأَنْبِيَاءِ خَاضِعَةٌ لِلأَنْبِيَاءِ.(1كورنثوس 32:14). هذا يعني أن النبي يخضع لموهبة النعمة التي فيه، وهي تخضع له، أي أنّ حرية الإنسان لا تُبطَل وقوى عقله لا تُخضَع.
يقول القديس نيقوديموس الأثوسي أنّ هناك ثلاث أنواع من الثمالة. الأول، يأتي مع الخمر الكثيرة وهو سبب شرور كثيرة. الثاني هو الثمالة التي تحرّكها الأهواء، وهي الثمالة التي قال عنها النبي إشعياء: وَيْلٌ لإِكْلِيلِ فَخْرِ سُكَارَى الْمَضْرُوبِينَ بِالْخَمْرِ(إشعياء 1:28). وفي مكان آخر يقول النبي نفسه عن أورشليم: اسْمَعِي هذَا أَيَّتُهَا الْبَائِسَةُ وَالسَّكْرَى وَلَيْسَ بِالْخَمْرِ. (إشعياء 21:51). النوع الثالث هو الثمالة المسبَّبَة من الروح القدس.
نجدها عند والدة النبي صموئيل التي كانت تصلّي في الهيكل من كلّ قلبها وصلاتها كانت نوسية وقوية إلى درجة أن عالي الكاهن ظنّ أنّها سكرى وأراد أن يخرجها من الهيكل. وقد أجابت وقالت أنّها ليست سكرى بل كانت تسكب قلبها للرب (1صموئيل 14:1-15).
لقد اختبر الرسل هذا النوع الثالث من الثمالة في يوم العنصرة، لأنّهم حصلوا على الروح القدس واكتشفوا مكان القلب، وازدادوا معرفة بالمسيح، وصاروا أعضاء لجسده، وازدادت محبتهم وشوقهم للمسيح، وقد عبّروا عن كل هذا يالصلاة، بحسب ما يذكر الآباء.
 
قديم 09 - 06 - 2014, 01:46 PM   رقم المشاركة : ( 4522 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

مواهب الروح القدس



وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة


أودّ أن أبدأ حديثي هذا بقراءة نصّ من الإنجيل المقدس يُظهر لنا حقيقة المسيح: "لقد سمع يوحنا وهو في السجن بأعمال المسيح، فأرسل تلاميذه يسأله بلسانهم: "أأنت الآتي أم آخر ننتظر؟" فأجابهم يسوع: "اذهبوا فأخبروا يوحنا بما تسمعون وترون: العميان يُبصرون والعُرجّ يمشون مشياً سوّياً، والبرص يبرأون والصمّ يسمعون، والموتى يقومون والفقراء يبشّرون، وطوبى لمن لا أكون له حجر عثرة". (متى11/2-6).
أي قام المسيح بالأعمال التي قال عنها الأنبياء أن المسيح سيعملها وهي أعمال الرحمة لخلاص البشر.

1- يسوع ممتلىء من الروح القدس

عرف الناس يسوع في الناصرة، على أنه ابن يوسف النجار. وقد صنع لهم الأثاث وبنى لهم البيوت مدة سنوات. لكنّه ذهب ذات يوم إلى نهر الأردّن، وهناك حصل شيء عجيب، فدَهِشَ كثير من الذين سمعوه، وقالوا "من أين له هذا؟ وما هذه الحكمة التي أعطيها حتّى إنّ المعجزات المُبينة تجري عن يديه؟ أليس هذا النجّار ابن مريم. (مر5/2-3). ما الذي حدث في نهر الأردّن فجعل يسوع مختلفاً عن سائر الناس؟ يروي لنا الإنجيليون الأربعة هذا الحدث، لنقرأه في إنجيل القديس لوقا: "ولما انفتحت السماء، ونزل الروح القدّس عليه في صورة جسم كأنّه حمامة، وأتى صوت من السماء يقول: "أنت ابني الحبيب، عنك رضيت" (لو3/21-22). إذن نزلّ الروح القدّس على يسوع، ومنذ تلك اللحظة، كفَّ يسوع عن عمل النجار وأخذ يعمل بقوة إلهيّة فيشفي، ويعلّم، ويُعلن ملكوت الله.

2-يسوع يهب لنا روحه

عندما مات يسوع على الصليب، وَهَب لنا روحه كي يستطيع كلّ منا أن يناله. نقرأ في إنجيل (يوحنا19/30) "ثم حنى يسوع رأسه وأسلّم الروح". عندما يموت في أفريقيا شخص ذو شأن وقدرة، يعتقد الناس هناك أن طفلاً سيرث روح هذا الشخص. لمّا مات يسوع على الصليب، لم يهب روحه إلى بطرس ويوحنّا أو إلى شخص آخر فحسب، فقد أنبأ النبي يوئيل قبل بضع مئات من السنين: "إني أفيض روحي على كلّ بشر. فيتنبأ بنوكم وبناتكم، ويحلم شيوخكم أحلاماً، ويرى شبابكم رؤى، وعلى العبيد والإماء أيضاً أفيض روحي في تلك الأيام" (يوئيل3/1-2).

إنّ روح يسوع التي أسلمها على الصليب أُفيضت في بادئ الأمر على الأشخاص المجتمعين في العليّة وذلك في يوم العنصرة، ثمّ على الثلاثة آلاف الذين قبلوا المعموديّة في اليوم نفسه، ثمّ على جميع الناس. وكلما حلَّ روح يسوع في حياة شخص ما حصل فيها تبدّل. نلاحظ عندما امتلأ الرسل من روح يسوع صار بوسعهم أن يقوموا بالأعمال التي قام بها يسوع.
كان بطرس قبل العنصرة جباناً يخاف حتّى من كلمات الخادمة، وبعد أن نزل عليه الروح القدّس خرج من العليّة بجرأة وإيمان وأخذ يعظ لجموع غفيرة. "وأخذ الرسل، بعد العنصرة، يتكلمون بلغات غير لغتهم، على ما وهب لهم الروح القدّس أن يتكلموا" (رسل2،4).
"وبينما كان بطرس ويوحنّا صاعدين. إلى الهيكل لصلاة الساعة الثالثة بعد الظهر، كان هناك رجل كسيح من بطن أمّه يحمله بعض الناس ويضعونه كل يوم على باب الهيكل المعروف بالباب الحسن ليطلب الصدّقة من الذين يدخلون الهيكل فلما رأى بطرس ويوحنّا يوشكان أن يدخلا، التمس منهما الحصول على صدقة. فحدّق إليه بطرس وكذلك يوحنّا،
ثم قال له: "انظر إلينا". فتعلّقت عيناه بهما يتوقع أن ينال منهما شيئاً. فقال له بطرس: "لا فضة عندي ولا ذهب، ولكني أعطيك ما عندي: باسم يسوع المسيح الناصرّي امشِ!" وأمسكه بيده اليمنى وأنهضه، فاشتدَّت قدماه وكعباه من وقته، فقام وَثْباً وأخذ يمشي. ودخل الهيكل معهما، ماشياً قافزاً يسبّح الله. فرآه الشعب? فأخذهم العجب والدهش كلّ مأخذ ممّا جرى له" (رسل3/1-10).

وأيضاً كان يجري على أيدي الرسل في الشعب كثير من الآيات والأعاجيب? وكان الناس يخرجون بالمرضى إلى الشوارع، فيضعونهم على الأسرة والفُرش، لكي يقع ولو ظلُّ بطرس عند مروره علىأحد منهم. وكانت جماعة الناس تُبادر من المدن المجاورة لأورشليم، تحمل المرضى والذين بهم مسٌّ من الأرواح النجسة فيُشفون جميعاً"
(رسل5/12-16).

"كما كان في لُسترة رجل كسيح مُقعد من بطن أمّه، لم يمشِ قط. وبينما هو يُصغي إلى بولس يتكلم، حدّق إليه فرأى فيه من الإيمان ما يجعله يخلُص، فقال له بأعلى صوته: "قمّ فانتصب على قدميك!"
فوثب يمشي. فلما رأتِ الجموع ما صنع بولس، رفعوا الصوت فقالوا باللغة الليقونية: "تمثلّ الآلهة بشراً ونزلوا إلينا"? فلما بلغ الخبر الرسولين برنابا وبولس، مزّقا ردائيهما وبادرا إلى الجمع يصيحان فيقولان:
"أيها الناس، لماذا تفعلون هذا؟ نحن أيضاً بشر ضعفاء مثلكم نبشّرُكم بأن تتركوا هذه الأباطيل وتهتدوا إلى الله الحيّ الذي صنع السماء والأرض والبحر وكلّ شيء فيها" (رسل14/8-15).

3- ليس بوسعنا أن نكون مسيحيين أصلاء إذا لم ننل الروح القدّس.

لـمَّا أتى بولس الرسول أفسس، لم يهتّم بالعلامات الخارجية للجماعة المسيحيّة، بل تحقّق هل كانت حياة المسيحيين الجُدد تُظهر حضور الروح القدّس. "لـمَّا وصل بولس إلى أفسس? لقي فيها بعض التلاميذ. فقال لهم:

"هل نلتم الروح القدس حين آمنتم؟" فقالوا له: "لا، بل لم نسمع أنّ هناك روح قدّس".
فقال: "فأيّة معموديّة اعتمدتم؟"
قالوا: "معموديّة يوحنّا" فقال بولس: "إنّ يوحنّا عمّد معموديّة توبة، داعياً الشعب إلى الإيمان بالآتي بعده، أي بيسوع".
فلما سمعوا ذلك اعتمدوا باسم الربّ يسوع. ووضع بولس يديه عليهم، فنزل الروح القدّس عليهم وأخذوا يتكلمون بلغات غير لُغتِهم ويتنبأون. وكان عدد الرجال كلهم نحو اثني عشَرَ رجلاً". (رسل19/1-7).

ويؤكد القديس بولس في رسالته إلى أهل روما تأكيداً قاطعاً: "من لم يكن فيه روح المسيح فما هو من خاصّته" (روم8/9).
والآن نواجه مُشكلة: كلّ منّا، كان قد تعمّد وتثبّت، وقد نلنا الروح القدّس. ولكن ما يدعو إلى الأسف، هو أنّ مُعظمَنا لا يُظهِرُ، أو لا يختبر عمل الروح القدّس في حياته. إنّ قدرة الروح القدّس لم تتحرر فيه بعد.
نحن نُشبه إلى حدّ ما فنجان القهوة الذي سُكب فيه السكر من غير تحريك.
إذا لم نُحرك الملعقة كي يذوب السكر، لن نذوق طعم السكر كثيراً. إذن لن يكون الحلّ إضافة مزيد من السكر، بل تحريك المضمون. وهذا ما يحدث عندما نصليّ من أجل فيض أكبر للروح القدّس؟
إنّ الروح القدّس يُفاض وينتشر في كلّ كياننا فيبعث فينا حياة جديدة عجيبة. ولكن علينا أن ندعه يعمل فينا بقبولنا مواهبه الكثيرة.

4- إنّ الروح القدّس روح خلاّق، يهبُ لكل واحد بحسب حاجاته.

لنتأمل يسوع ونؤمن أنّ ما حدث له في نهر الأردّن سيحدث لنا أيضاً، "واعتمّد يسوع أيضاً وكان يُصلي، انفتحت السماء، ونزل الروح القدّس عليه" (لو3/21-22).
آتياً في الوقت نفسه بمحبّة الآب. "أنت ابني الحبيب، عنك رضيت" يقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل روما: "إنّ محبّة الله أُفيضت في قلوبنا بالروح القدّس الذي وُهب لنا" (روم5/5).
ما هي نتائج الفيض الكبير للروح القدّس. لنتصور أنّ قلبنا وعاء للروح القدّس، فإذا كان قلبنا ممتلئاً بالمحبّة أو بالروح حتى أنّه ليطفح، فإنّ المحبّة التي فيه ستبغي أن تفيض باتجاهين: نحو الله ونحو القريب.

آ- فيض المحبّة نحو الله: موهبة التكلم باللغات

إنّ الله هو الذي يَهب الروح والمحبّة، فنشعر بالفرح حقاً. نريد أن نُسبح هذا الإله العجيب الذي هو إلهنا، ونريد أن نشكره. ولكن حينئذ ستنقصنا الكلمات، ولا نعلم ما نقوله له. آنذاك "يأتي الروح القدّس لنجدة ضعفنا لأنّنا لا نُحسِن الصلاة كما يجب، والروح نفسه يشفع لنا بأنّات لا توصف" (روم8/26).

دعوني أشرح بطريقة مختصرة. إنّ موهبة التكلم باللغات كما نفهمها هنا، ليست موهبة الوعظ بلغة مجهولة يفهمها جميع الناس كالتي ذُكرت في أعمال الرسل (2/4). وليست موهبة نبوءة، إذّ تُقدّم رسالة من قبل الله وقد أعطيت باللغات وتحتاج إلى ترجمة كما الحالة هي في الرسالة الأولى إلى أهل قورنتس (14/26-28).
إنّ موهبة التكلّم باللغات التي نعيها هنا هي بالأحرى موهبة تسبيح الله، أو موهبة شفاعة عندما تنقصنا الكلمات ولا نعلم ما نقول. إنّ الطريقة الحسنة لشرح هذه الموهبة وردت في رسالة القديس بولس إلى أهل روما
"لم تتلّقوا روح عبودية لتعودوا إلى الخوف، بل روح تبنٍّ به ننادي: أبَّا، يا أبتِ" (روم8/15).

تصّوروا طفلاً في نحو السنة من عمره بوسعه أن يُعبرّ، ولكن لا يستطيع بعد أن يُبلّغ أفكاره بالكلام، إنّه يتكلمُ لغة الطفل". هكذا موهبة التكلم باللغات هي تمتمّة حقاً، لغة ابن الله الذي يكلّم بها أباه السماوي،
والله يفهم كل ما يُقال له. إنّه يعلم عندما نسبّحه أو نتوسل إليه، ولو كنّا نحنُ أنفسنا لا نفهم ذلك.
إنّ موهبة الصلاة باللغات هذه المتدفقة من قلب يطفح بالمحبّة لله، يُمكن أن تعبّر في بعض الأحيان على أنّ الروح القدّس قد امتلك حياتنا حقاً.
كانت موهبة التكلم باللغات سبب قلق للكنيسة في قورنتس، لأنّها سبب التشويش في أثناء العبادة،
والتكلم باللغات موهبة صحيحة من مواهب الروح القدّس، ولكن المؤمنين في قورنتس استخدموها علامة التفوّق الروحي أكثر منها وسيلة للوحدة الروحيّة. يضع الرسول بولس عدة نقاط عن التكلم باللغات:

1- إنّها موهبة روحيّة من الله (1قو14/2).
2- إنّها موهبة مرغوبة حتى لو لم تكن مطلباً أساسياً للإيمان (1قو12/28-31).
3- إنّها أقل أهمية من النبوءة والتعليم (1قو14/4-5) "فالذي يتكلم بلغة مجهولة يبني نفسه، وأمّا الذي يتنبأ، فيبني الكنيسة. إنّني أرغب في أنّ تتكلموا جميعاً بلغات مجهولة، ولكن بالأحرى أن تتنبأوا."
ومع أنّ بولس الرسول نفسه تكلم باللغات ويذكر ذلك في (1قو14/18-19)
"أشكر الله لأنّي أتكلم بلغات مجهولة أكثر منكم جميعاً. ولكن، حيث أكون في الكنيسة، أفضل أن أقول خمس كلمات بعقلي، لكي أُعلّم بها الآخرين أيضاً، على أن أقول عشرة آلاف كلمة بلغة مجهولة".

إلاّ أنّ بولس يُزكيّ النبوءة (الوعظ) كما سمعنا لأنّها نافعة لكل الكنيسة، بينما التكلم باللغات ينفع أساساً المتكلم نفسه. فيجب أن تكون العبادة بين الجماعة مفهومة ونافعة لكل الكنيسة.
لذلك يتابع بولس الرسول قوله في (1قو14/12) "إذ أنّكم متشوّقون إلى المواهب الروحية، اسعوا في طلب المزيد منها لأجل بنيان الكنيسة".

يجب أن يتّم كلّ شيء في أثناء العبادة في توافق وترتيب،
ولا يوجد ضرورة للتشويش حتى أثناء ممارسة المواهب الروحية،وعندما تحدث فوضى
فهذا دليل على أنّ الكنيسة لا تسمح لله أن يعمل بين المؤمنين كما يشاء، لأنّ الله ليس إله تشويش بل إله سلام.

يقول الأب اميليان تارديف في كتابه يسوع حيّ "عندما نصلي باللغات، يكون فكرنا بتصرف الربّ ليستعملنا كواسطة خلاص. فالصلاة باللغات وسيلة رائعة، قادرة على النفاذ إلى حيث لا يقدر أن يصل لا الإنسان ولا العلم
" في أثناء رياضة روحية للكهنة في مدينة "ليون" الفرنسية، حضر منهم مَنْ يتقبّلون موهبة الصلاة باللغات وآخرون يُبدون تحفظاً يصل إلى حدّ السخرية. وكان أشد هؤلاء تطرفاً
يقول الأب اميليان تارديف، أحدُ المُبشّرين الذي يُدّرس اللغة العربية في أفريقيا. ولكن هذا الكاهن وقف في اليوم الثاني أمام الجميع وكتب على اللوح إشارات غريبة،
ثم شرحها لنا بتأثر عميق قائلاً: "البارحة، في أثناء الصلاة باللغات كنتم تقولون بالعربية ما يلي: الله رحيم".

إنّ الله في كلّ صلاة يمنحنا رحمته حقاً. يتابع الأب اميليان قوله: "إنّ الصلاة باللغات مذهلة وبما أنّنا نجهل كيف نصلي يأتي الروح ليعضد ضعفنا? ويشفع فينا بأنّات لا توصف" (روما8/26).
إنّ موهبة الصلاة باللغات هي واقع حقيقي في كنيسة اليوم. كلّ ما أريده هو أن أنقل إليكم ما لديّ حولها. يقول الأب تارديف: "لقد شاهدت عجائب وأنا أصلي باللغات أكثر مما شاهدت وأنا أصلي الصلاة العادية. دُعيت ذات يوم إلى برنامج تلفزيوني في كولومبيا وطُلب إليّ أن أصلي من أجل المرضى دقيقة واحدة فقط. عجباً ماذا أقول خلال دقيقة المقابلة؟ أَمِنْ أجل ذلك أُطلق على البرنامج عنوان: "دقيقة الله"؟
بدت لي هذه المدّة قصيرة جداً فاعترضت لدى المسؤولين قائلاً: "تُكرسّون ثلاث دقائق من أجل الدعاية لمصنوعات البيرة ولا تكرسّون للربّ سوى دقيقة واحدة؟?" بدأت الصلاة من على الشاشة الصغيرة يستحثّني الوقت فأسرعتُ. وما إن فرغتُ منها حتى نظرتُ إلى ساعتي فتبيّن لي أنّ لدي بعد ثلاثين ثانية من الوقت.
وهنا بدأت المشكلة: ماذا سأفعل خلال هذا الوقت؟ فصليت باللغات أمام عدسات المصّورين. وحسب شهادة الأب "دياغو" الواعظ المواهبي المعروف شفى الله الكثيرين بهذه المناسبة".

ب- فيض المحبّة للآخرين: مواهب الكلمة والشفاء

عندما نزل الروح القدّس على يسوع، أخذ يذهب من بلدة إلى أخرى ويُعلن البشارة الحقيقيّة، وهي مشجعة ومقوّية، وهكذا، عندما تمتلئ قلوبنا من الروح القدّس، بوسعنا أن ننال موهبة أو مواهب الكلمة،
على سبيل المثال، موهبة التعليم التي تبني الناس حقاً بالكلمات القادرة على الإرشاد والتشجيع. بوسع الكهنة على وجه خاص أن ينالوا موهبة جديدة للتعليم. وبوسع بعض الناس أن ينالوا موهبة الحكمة
والنصح وبوسع آخرين أن ينالوا موهبة المعرفة أو النبوءة. جميع المواهب التي ذُكرت حتى الآن هي مواهب الكلمة.

يقول الأب تارديف إنّ الصلاة باللغات، التي تكلمنا عنها سابقاً
تسهّل كلام النبوءة أو كلام المعرفة. ممّا يعني أنّ الربّ يستعين بنا عندما نكون في مُنتهى الحضور له لأنّنا إذ ذاك نكون كلّياً طوع يديه.

أثناء اللقاء المواهبي الثاني في "مونريال"
طُلب إلى الأب اميليان تارديف أن يصلي من أجل المرضى. حضر 65 ألف شخص الذبيحة الإلهية التي نُقلت وقائعها عبر الشاشة الصغيرة. وصليتُ كثيراً باللغات يقول الأب اميليان
وكانت تحضُرني كلمات معرفة أم نبوءة كثيرة أثناء هذه الصلاة فأنقلها بحرفيتها.
وإحدى هذه الكلمات كانت:
"هناك أمّ في الرابعة والسبعين من عمرها جالسة أمام الشاشة الصغيرة في منزلها. والربّ في هذه اللحظات يشفيها من العمى".

في نهاية القداس تقدم مني كاهن يثق بي وقال "هل جُننت؟ كيف تسمح لنفسك بأن تعلن أمام 65 ألف شخصاً أن امرأة عمياء تنظر إلى شاشة التلفزيون؟". كان اعتراضه منطقياً إلى حدّ أنّني لم أستطع الإجابة.
في صباح الغد توجهتُ لزيارة عائلتي التي تسكن على بعد 200 كيلومتر من "مونريال"
ما إن وصلت حتى قال لي أحدهم: "أبتِ، إنّ المرأة التي شُفيت عيناها من العمى أمام الشاشة الصغيرة تسكن على مقربة من هنا" فاجتاحني فرح حملني على زيارتها.

كانت تدعى "السيدة جوزف إدمون بولان". وهي فعلاً في الرابعة والسبعين من العمر، وقد أصيت بشبكة عينيها، وعالجها أخصائيون أكّدوا لها أنّ مرضها يتفاقم تدريجياً ولا أمل بشفائه، وأنّ صديقتها اقترحت عليها الجلوس أمام الشاشة الصغيرة أثناء قداس الشفاء الذي يُقام في مؤتمر "مونريال". وكان لهذه الصديقة ما أرادت، وعندما سمعت كلام النبوءة شعرت بحرارة شديدة في عينيها.
سألْتُها يقول الأب اميليان إن باتَ بإمكانها القراءة، فأجابت لا!
فأردف: "الربّ لا يرضى بأنصاف الحلول. سنصلي معاً لتتمكني من قراءة كلمته في الإنجيل".
وبعد ثلاثة أيام اتصلت السيدة بالأب اميليان هاتفياً لتبشرّه بأنّها أصبحت قادرة على قراءة الكتاب المقدّس.

إنّ الروح القدّس يَهب الناس الكلمات التي تساعدهم وتجعلهم ينمون في الربّ:
"إنّما كلّ واحد يوهَب موهبة يتجلّى الروح فيها لأجل المنفعة. فواحد يوهب، عن طريق الروح كلامُ الحكمة، وآخر كلام المعرفة وفقاً للروح نفسه" (1قو12/7-8).

وهناك فئة أخرى من الهدايا بوسع الروح القدّس أن يعطينا إيّاها وهي "مواهب الشفاء". وتشمل هذه المواهب، موهبة الرأفة لجميع الذين يتألمون، وموهبة الإصغاء إلى حاجات الآخرين، وموهبة صلاة الشفاء كي يشفى جميع المرضى في قلوبهم وروحهم وأجسادهم. (1قو12/9-10).

موهبة العجائب والشفاءات

يقول الأب اميليان إنّ كلّ الشفاءات التي يصنعها الربّ لا تعتبر أعاجيب. إنّ الشفاءات التي نلتمسها بالصلاة لا تُعتبر "أعجوبة" إلاّ إذا حقّق الربّ شفاء لا يقوى عليه أي علم طبي. وتُعتبر شفاء الحالات التي يُعّجل فيها الربّ مسار الشفاء الذي كان بالإمكان أن يحصل عن طريق عمليّة جراحيّة أو معالحة طبية. لذلك كلّ شفاء يحصل عن طريق الصلاة لا ندعوه "عجائبياً".

يُخطئ تماماً مَنْ يعتقد بأنّ الشفاءات، في تدبير يسوع الخلاصي، هي شيء هامشي. ويخطئ أيضاً من يعتقد بأنّنا لم نعد اليوم بحاجة إلى شفاءات وبأنّ الأساس فقط هو إعلان بشارة الإنجيل، فكلاهما ينسيان طرق يسوع في الرعاية. نحن اليوم نخّطط ونبحث عن ألف طريقة لاجتذاب الناس إلى الكنيسة. نُنظّم الأعياد والحفلات الموسيقية الخ? رغم ذلك يقلّ عددهم شيئاً فشيئاً.
أمّا يسوع، فكان يشفي المرضى وكان الناس يأتون إليه جماعات بأعداد كبيرة، حتّى أنّهم كانوا يضطرون إلى ثقب سطح البيت ليُنزلوا المّخلع منه، لأنّهم لم يتمكنوا من المرور بين الناس لشدة ازدحامهم. وهذا ما يحصل اليوم تماماً. فعندما يشفي يسوع المرضى تتدفق الجماهير بأعداد لا تحصى، عندئذ نُعلن لهم ملكوت الله فيُثمر ما هو أهم بكثير من الشفاءات الجسديّة البسيطة.
إنّ آيات قدرة الله ليست مجرَّد مشهد للتسلية بل تساعد بالفعل على تجديد الحياة بالإيمان.
وتكفي الإشارة إلى مثل واحد ن آلاف الشفاءات التي حصلت في "تاهيتي". يقول الأب امليان تارديف: أثناء القداس من أجل المرضى، وعند رفع جسد الربّ أي القربان المقدّس، أخذ أعمى بالبكاء، وبينما هو يمسح دموعه بدأ يبصر. لقد التقى يسوع، نور العالم، فأستعاد له نور عينيه. فتأثر بذلك كثيراً "كابيلو"
مُغنّي المحيط الهادي الشهير، الحاصل على الجائزة الثانية في مهرجان "أوروفيزيون" وسجّل اسمه للاشتراك في الرياضة الروحية اللاحقة، وأثناءها عاد إلى الربّ نادماً واعترف وتناول ثمَّ أعطى شهادته في أثناء القداس الختامي قائلاً: "حصلت هنا شفاءات عديدة وأكبرها كان شفائي، لأنّ الربّ شفاني روحياً.
فمنذ 16 سنة خلت، وأنا بعيد عن الحياة المسيحيّة وعن أسرارها المقدّسة، غير أنّ يسوع دنا مني في هذه الرياضة الروحية. وأنا بعد الآن لن أعيش ولن أغنيّ إلاّ ليسوع".
لقد ردّد "كابيلو" شهادته عبر شاشة التلفزيون، وبعدها في الملعب أمام 20000 شخص. واليوم يُبَشّر الشباب عن طريق أغاني مواهبية.

أعتقد بأنّ الجدال حول حدوث الشفاءات وعدم حدوثها هو عقيم، لأنّ نصوص الكتاب المقدّس وسيرة القديسين حافلة بآيات الشفاء. إنّ السؤال الجوهري هو: هل أنا أؤمن بأنّ الله قادر على شفائي؟
وهل عندي ثقة بقدرة يسوع على شفاء الآخرين من خلالي؟

دعا كاهن الرعيّة في "جانيكو" الأب اميليان تارديف لإحياء رياضة روحية ونبهّه إلى أنّ الناس هناك قُساة القلوب ولا يتشوقون للذهاب إلى الكنيسة. يقول الأب اميليان: "مساء يوم وصولنا،
كان الحضور قليلاً. وكان هناك رجل منطرحاً على الأرض، أشبه بلعبة خِرَق، لا يتمكن من الوقوف، ومشلول اليدين لا يقوى على الأكل يُثير الشفقة لدى مَرْآه.

تساءلت لماذا أُحضر هذا الرجل إلى هنا. وبينما كنت أحدّق في منظره المحزن، قلت:
"سنصلي من أجله حتى تتمكنوا من اصطحابه معكم". عندما بدأنا الصلاة أخذ يعرق ويرتجف حينئذ أمرته: "قمّ، شفاك الربّ".
ثمّ أخذت بيده وأمرته بأن يمشي. فمشى حتى بيت القربان. وهنا كشف لنا أنّه لم يكن يقوى على الوقوف منذ 19 سنة ولا على القيام بخطوة واحدة. وبعد ظهر ذلك اليوم أخبرنا بأنّ الربّ شفى أيضاً يديه وبدأ بتحريكهما.
امتلأت الكنيسة في صباح اليوم التالي بفضل شفاء المخلع، حتى أنّ الناس لم يتمكنوا جميعهم من الدخول فظلوا خارجاً عند المدخل. يوم نتقبل قدرة الشهادة للربّ تتبدّل موعظتنا. يتابع الأب اميليان قوله:
في الماضي، كنت أصرف وقتاً طويلاً لإعداد مواعظي، فأطالع المؤلفين التقليديين وأقرأ اللاهوتيين المُحدِثين. وكانت أبحاثي مختارة وعميقة، بحيث كنت اجتهد في أن لا أفوّت شيئاً مما سأقوله.
ولهذا كنت أكتب كلّ شيء على ورقة وأقرأه حتى أتمكن من نقل الكنز على أكمل وجه. غير أنّ الله بدّلني من هذه الناحية أيضاً.

ففي يوم أحد، بينما كنت أتأمل في أوراقي قال لي الربّ: إذا كنت أنت الذي قمت بكلّ هذه الدراسات غير قادر على استيعابها في ذاكرتك لتردّدها على مسامع الآخرين، فكيف يُمكن لهؤلاء الناس البسطاء أن يحفظوا ذلك في قلوبهم وأن الروح القدّس منذ ذلك الحين، غيّرت طريقة وعظتي فاليوم، لا أقوم بشيء غير الشهادة لقدرة الله فأُخبر بما يصنعه بفيض من حبّه. وليس من الضروري أن نُتقن الكلام عن يسوع، بل أن نفسح له المجال ليعمل هو بكلّ قوّة الروح القدّس. إنّ الإنجيل ليس مجرّد كلام وإنّما هو قدرة وقوّة تأتيان من العُلى وتظهران بيننا لبناء ملكوت الله.
إنّ مواهب الروح القدّس تتنوع وتتكامل مع احتياجات كلّ عصر، لكنّ بسبب قلّة إيماننا أو بسبب تفكيرنا المنطقي نظن أنّ مواهب الروح هي من حكايات الماضي، لكن الكنيسة هي عنصرة مستمّرة.
إنّ القديس مرقس، أقدم الإنجيليين يكلمنا في 16 فصلاً عن 18 أعجوبة شفاءات قام بها يسوع. فلو حذفنا من إنجيل مرقس هذه الآيات التي تُشير إلى قدرة الله، لما بقي إلاّ بضع صفحات. كثيرون هم الذين أهملوا هذا الواقع العجائبي فلم يبقَ لهم إلاّ إنجيل مبتور وضعيف، حُوِّلَ إلى عقيدة ونظرّيات.
يسوع هو هو، البارحة واليوم وإلى الأبد، هو سيّد التاريخ، يعمل كما يحلو له لتحقيق أعاجيبه، بدون أن يسألنا رأينا أو يستأذننا فَمَنْ نحن إذاً لنعترض أو لنضع حداً لفعل إلهنا؟

5- تنوّع مواهب ووحدتها

هناك تصوّرات خاطئة حول جوهر مواهب الروح القدّس وعملها. فيعتقد البعض أنّ الموضوع يتعلق خصوصاً بمواهب خارقة كالانخطاف بالروح، والرؤى، وصنع العجائب والتنبؤ بالغيب والتكلم باللغات،
وكلام الحكمة وكلام المعرفة الخ? لكنّ بولس يذكر من بين المواهب أيضاً نشاط الرسل والأنبياء والمعلمين، وغيرها من المواهب الإدارة والمساعدة. (1قو12/28).
المهمّ أنّ مواهب الروح العادية والخارقة، تهدف كلّها إلى بناء الجماعة "كلّ واحد يتلقى ما يُظهر الروح لأجل الخير العام" (1قو12/7).

ويعتقد البعض الآخر أنّ المواهب الخارقة كانت محدّدة فقط لزمن بداية الكنيسة. ولكنّهم في ذلك ينسون أنّ القديسين في كلّ الأزمنة نالوا مواهب خارقة، كانت بمثابة علاوات وأمثلة للشهادة أمام الآخرين لقدرة الروح القدس وحيوّيته في الكنيسة. وقد تمّ إدراك الكثير من هذا الأمر على نحوٍ جديد من خلال حركة التجدّد المواهبية. وقد رغب بولس الرسول في المحافظة على حيوية مواهب الروح القدّس بقوله: "لا تُطفئوا الروح" (1تس5/19).
ويدّل الرسول القورنثيّين، الذين منحهم الروح القدّس مواهب وافرة، على "الطريق المثلى"، التي تفوق كلّ المواهب، وهي المحبّة، التي يمتدحها بكلمات بليغة (1كو13). فالمحبّة هي أسمى ثمار الروح القدّس (غل5/22).

6-المواهب الروحية والخدمة الكهنوتية

إنّ المواهب الروحية والخدمة الكهنوتية الناجمة عن الرسامة ليسا أمرين متناقضين، بل يمكنّهما ويجب لهما أن يُكمل أحدُهما الآخر ويرتبط أحدُهما بالآخر. فمن جهة يجب على الخدّام الكنسيّين ألاّ يدّعوا لهم وحدهم الكفاءة المواهبية؛ ومن جهة أخرى يجب على أصحاب المواهب ألاّ يمارسوها ضد الخِدَمْ الثابتة.

لقد أدرجت الكنيسة الأولى خِدَم الرسل الأنبياء والمعلّمين في مصفّ المواهب (1قو12/28)،
ورأت في "الرسل والأنبياء والمبشّرين والرعاة والمعلمين" مواهب منحها الربّ لكنيسته (أف4/11).
وبحسب الرسائل الراعويّة، تُمنح بوضع الأيدي "موهبة روحية من قبل الله" (2طي1/6).
ولكن الخدمة المرسومة ليست حقاً الموهبة الوحيدة. ومن ثمَّ فهي بحاجة إلى أن تعمل مع المواهب الأخرى. فإنّ هدف الخدمة الكنسية ليس اطفاء الروح، بل امتحان كلّ شيء والتمسّك بالحسن (1تس5/19-21).
وفي الفصول عينها التي يستفيض فيها بولس في الكلام على المواهب، يشدّد على فكرة الوحدة والنظام (1قو12/14). "لأنّ الله ليس إله تشويش، بل إله سلام" (1قو14/33).

فالمجموعات التي تشعر بفيض جديد من الروح القدّس، والخدمة الكهنوتية المرسومة المنظمة في الكنيسة تنظيماً ثابتاً، بحاجة بعضهما إلى بعض. فالكنيسة
كي لا تتجمّد، بحاجة مُستمّرة إلى قوى التجديد؛ وهذه الأخيرة بحاجة إلى نقد وتصحيح من قبل التقليد الكنسي، الذي يحملُ الإيمان عبر الأزمنة، إلى أن تتّقد الشعلة من جديد. في كليهما بعمل روح الله
وروح الله لا يُناقض نفسه. وهذا لا ينفي الصراعات من أجل توضيح الموقف، ويبقى مع ذلك القول الآتي:
"اجتهدوا في حفظ وحدة الروح برباط السلام" (اف4/3).

أخيراً علينا أن نعلم بأنّ الروح القدّس هو مبدأ وحدة الكنيسة في تنوع مواهبه (1قو12/4-31)
وإنّ كمال المواهب وغناها هما من جوهر الكنيسة. فالكنيسة تحيا من كمال الروح، الذي يهبّ حيث يشاء (يو3/8).
وبهذا يتبين أن الكنيسة والتجديد الكنسي لا يمكن أن يكونا من صنع البشر. فما هو حاسم في الكنيسة لا يُمكن التصرف به فيجب على الكنيسة إذن أن تُصلي على الدوام لتنال مواهب الروح القدّس التي تُحييها وتنعشها وتُخصبها. كما يجب على المؤمنين أن يسعوا إلى المحبّة ويطمحوا إلى مواهب الروح (1قو14/1)
وليكن كلّ شيء من أجل البنيان (1قو14/26).



المراجع

1- المسيحيّة في عقائدها، سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم. نقله من الألمانية المطران كيرلس سليم بسترس.

2- يسوع حيّ، منشورات الحمل للأب اميليان تارديف وخوسيه برادو فلورس.
3- دورات للحياة في الروح نقلها من الفرنسية الأب جورج شهباز.
4- التفسير التطبيقي للكتاب المقدّس، شركة ماستر ميديا، القاهرة ? مصر.
مواهب الروح القدس للأب جورج شهباز

 
قديم 09 - 06 - 2014, 01:48 PM   رقم المشاركة : ( 4523 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

في العنصـــرة

عظة للقدّيس يوحنا الذهبي

الوجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة فم


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

1- أيها الأحبّاء لقد منحنا الله المحبّ البشر اليوم عطايا تتخطّى كلَّ منطق بشريّ. لذلك لنفرح كلّنا معاً ولنرقص بفرح مسبّحين ربّنا. لأن اليوم هو عيدنا واحتفالنا. كما أن عصراً يخلف الآخر ودورة شمس تخلف أخرى هكذا وفي الكنيسة عيدٌ يخلف آخر فتتوالى الاحتفالات الكنسيّة الواحد تلو الآخر.

قبل أيّام احتفلنا بالصليب بالآلام وبالقيامة. بعدها بصعود ربّنا يسوع المسيح إلى السماء. اليوم نلتقي بقمّة الصالحات بأمّ الأعياد ونصل إلى تحقيق وعد الربّ. يقول:


"لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي. ولكن إن ذهبتُ أُرسل لكم معزيّاً آخر ولن أدعكم يتامى" (يو 7:16)


مواهب الروح القدس

أنظروا إلى مثل هذه المحبّة للبشر. قبل بضعة أيّام صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب وأعطانا اليوم حضورَ الروح القدس. هو يحرّرنا من العبودية الروحيّة. يدعونا إلى الحريّة. يقودنا إلى البنوّة وبصورة عامة يُعيد ولادتنا من جديد ويُزيل عنّا حملَ الخطايا الثقيل.

بنعمة الروح القدس نرى الكهنة الكثيرين كما نرى مصفّ المعلّمين من هذا المعين تخرج الموهبة النبويّة والقوة لشفاء الأمراض. وكلّ ما يتبقّى ويزيّن كنيسة المسيح يخرج من هناك. فيصرخ بولس:

"هذه كلّها يعملها الروح الواحد بعينه قاسماً لكلّ واحد بمفرده كما يشاء" (1كور 11:12)

يقول كما يشاء لا كما أُمر. قاسماً لا مقسّماً. له سلطانٌ لا سيادة عليه لأن مثلَ هذه السلطة بالضبط التي لدى الآب ينسبها بولس أيضاً إلى الروح القدس. عن الآب يقول: "لكن الله واحد الذي يعمل الكلَّ في الكلّ" (1كور 6:12) وعن الروح القدس يقول أيضاً: "هذه المواهب كلّها يعملها الروح الواحد بعينه قاسماً لكلّ واحد بمفرده كما يشاء".

قوة الروح القدس

أنطر إلى مثل هذه السلطة الكاملة. لأن الذين لديهم جوهرٌ واحدٌ لديهم سلطانٌ واحدٌ. والذين عندهم مرتبة واحدة، عندهم قوّة واحدة وسلطانٌ واحدٌ. بالروح القدس نحصل على التحرّر من الخطايا ونتطهّر من كلّ دنس. بنعمته نحن البشر نصبح ملائكة. كلّ من لابس نعمته، دون أن تتغيّر طبيعته بل يبقى في طبيعته البشرية لكنه مع ذلك يُظهر مسلكاً ملائكياً. هكذا هي قوّة الروح القدس.

كما أن النار هذه التي نشاهدها عندما تقترب من اللِّبن الليّن تجعل منه قرميداً قاسياً كذلك يحصل مع الروح القدس عندما يتّخذ نفساً متعقَلة حتى ولو كانت ليّنة مثل اللبن يجلعها شديدة كالحديد. كما أن ذاك الذي كان ملّطخاً بالخطايا يجعله للحال ألمع من الشمس. هذا ما يعلّمنا إيّاه بولس المغبوط عندما يقول:

"أم لستم تعلمون أن الظالمين لا يرثون ملكوت الله. لا تضلّوا، لا زناة ولا عبدة أوثان، ولا فاسقون ولا مُفسدون ولا مضاجعوا ذكور ولا سارقون ولا طمّاعون ولا سكّيرون ولا خاطفون يرثون ملكوت الله" (1كور 9:6-10)

بعد أن عدّد أصنافَ الشرّ وأكدّ على أن مرتكبيها لا يرثون ملكوت الله للحال يضيف:

"وهكذا كان أناسٌ منكم. لكن اغتسلتم بل تقدّستم بل تبرّرتم باسم الربّ يسوع وبنعمة روح إلهنا" (1كور 11:6)

أرأيت أيها الحبيب قوّة الروح القدس؟ أرأيت كيف أنه يَمحو الشرَّ كلّه. أولئك الذين كانوا قبلاً عبيداً لخطاياهم يرفعهم للحال إلى الكرامة العلويّة.

أعداء الروح القدس- مساواته للآب

2- من يقدر إذاً أن يرثي للذين يزدرون بمرتبة الروح القدس؟ الذين يعملون كلّ شيء لكي ينزعوا عن الروح الإلهي مرتبته الإلهية ويجعلوه من المخلوقات. وأودّ أن أسألهم لماذا إلى هذا الحدّ تحاربون الروحَ القدس بل خلاصنا. الا تريدون أن تفهموا كلام المخلّص لتلاميذه:

"إذهبوا وعلّموا كلّ الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (متى 19:28)

ألم تروا في ذلك مساواة في الكرامة بين الأقانيم الثلاثة؟

بل انسجاماً تاماً لأن الثالوث القدّوس غير منقسم. ألا تعلمون أن الذي يحاول أن يغيّر شيئاً في أوامر الملك الأرضي يُعاقب بقسوة؟ كيف إذا نستطيع أن نسامح أولئك الذين يحاولون أن يشوّهوا أقوال مخلّص الكلّ، الملك السماوي ولا يريدون أن يسمعوا بولس يصرخ:

"ما لم ترَ عين ولم تسمع به اذنٌ ولم يخطر على بال إنسان ما أعدّه الله للذين يحبّونه" (1كور 9:2)

كيف نستطيع إذاً يا بولس أن نعرف هذه الأشياء كلّها؟

إن الرسول بعد قليل يُجيب:

"فأعلنه الله بروحه لأن الروح يفحص كلّ شيء حتى أعماق الله" (1 كور 10:2)

هذا كلّه قاله الرسول لكي يُبيّن قوّة الروح القدس العظيمة ومساواته للآب والابن في الجوهر والقوّة.

ثم يريد أن يوضح تعليمه بأمثال من الحياة البشريّة اليومية فيًضيف: "لأن مَن من الناس يعرف أمور الإنسان إلاّ روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحدٌ إلاّ روح الله" (1كور 11:2) هذا كلّه أمرٌ عظيمٌ هام كافٍ ليبيّن مرتبة الروح القدس.

لقد أعطانا الرسول مثلاً وقال لا يستطيع إنسان أن يعرف ما في فكر الآخر هكذا فإن الروح القدس وقال لا يستطيع إنسان أن يعرف ما في فكر الآخر هكذا فإن الروح القدس وحده يستطيع أن يعرف خصائص الله.

ومع ذلك كلّه لم يقتنع أولئك الذين يحاربون الروح القدس ويُنزلون من شأنه ليضعوه في مصفّ المخلوقات.

لكن لنقبل نحن العقائد الإلهية كإعلان إلهي ونقدّم للربّ التمجيد اللائق مظهرين إيماناً صحيحاً ومتّبعين الحقيقة بدقّة.

مواهب الروح القدس

لقد ذكرنا ما فيه الكفاية بالنسبة للذّين يعلّمون عكس ما يمليه علينا الروح القدس. أمّا لكم أيها الأحبّاء لا بدّ أن نقول لماذا لم يمنحنا الربّ الخيرات الكثيرة مباشرة بعد صعوده إلى السماء، بل جعل أن تمضي أوّلاً أيّام قليلة بقي فيها التلاميذ وحدهم وبعدها أرسل إلى الأرض نعمة الروح القدس. هذا كلّه لم يحصل بدون قصد وبطريقةعرضيّة. يعرف الربّ أن الناس لا يتمتّعون بالخيرات التي بين أيديهم ولا يقدّرون قيمة الأمور الأساسية الحسنة لو لم يوجد ما يعاكسها. أقصد ما يلي:

كلّ من كان صحيحاً في جسده لا يشعر ولا يعرف جيّداً كم هي الخيرات التي تأتي من صحّته إن لم يكتسب خبرة المرض. كما أن الذي ينظر إلى نور النهار لا يعتبر النور كفاية لو لم يليه ظلام الليل لذلك خبرة ما يعاكس تعلّمنا بإيضاح كيف نتمتّع بما حصلنا عليه سابقاً.

لذلك بالضبط تمتّعَ التلاميذ بخيرات كثيرة عندما كان الربّ معهم وقد أُعطوا مواهب كثيرة من جرّاء معاشرتهم لله كانوا يرون عجائب كثيرة: الموتى يقومون، البرص يطهرون، الشياطين يُطردون والمرضى يشفون...) فأصبح التلاميذ معروفين جداً لذلك جعلهم يُحرمون ولوقت قصير من القوّة التي كانت فيهم عندما كان معهم حتى عندما يوجدون وحدهم يتعلّمون ماذا منحهم حضور صلاح الرب.

وعندما يفهمون الصالحات التي أخذوها في الماضي يتقبّلون بعزم متزايد عطيّة الروح القدس.

في الواقع كانوا قلقين لذا عزّاهم. كانوا حزينين بسبب انفصالهم عن معلّمهم فأنارهم بنوره الخاص. كانوا أمواتاً فأقامهم وبدّد غيمة الحزن وأخرجهم من الوضع الصعب.

كانوا قد سمعوا كلمات الربّ "اذهبوا وتلمذوا كلّ الأمم" ووُجدوا فيما بعد في وضع صعب ولم يعلموا أين يجب لكلّ واحد أن ينطلق وإلى أيّة ناحية من الأرض لكي يكرز بكلام الله. يأتي الروح القدس بشكل ألسنة ناريّة ويوزّع على كلّ واحد أقطارَ الأرض إذ يعرفوا أن يتجّهوا للكرازة وباللسان الذي أُعطي لهم عرف كلّ واحد إلى أين يتّجه ومن يجب أن يعلّم من الشعوب. لذلك ظهر الروح القدس بشكل ألسنة نارية. هذا لكي يذكّرنا أيضاً بقصّة قديمة:

في السنين القديمة تشتّت الناس وأرادوا أن يبنوا برجاً يصل إلى السماء وعن طريق بلبلة الألسن قضى الله على قرارهم الرديء (تك 1:11-9). لذلك، بشكل ألسنة نارية، ينزل الروح القدس لكي يوحّد المسكونة المشتّتة قديماً.

]"إن الألسنَ تبلبلتْ قديماً بسبب جسارة صانعي البرج. أمّا الآن فإن الألسن قد حُكّمت من أجل رأي معرفة الله. هناك قضى الله بالعقوبة على الملحدينَ. وهنا المسيح بالروح أنار الصيادين. في ذلك الحين اصطنع اختلاف الأصوات للانتقام والآن فقد نجدّد اتفاق النغمات لخلاص نفوسنا" اللحن الثامن: الأبوستيخا غروب العنصرة ذكصا كانين الأينوس سحر اثنين الروح القدس[.

ثمار الروح القدس- المحبة

حصل شيء عجيب: كما أنه في السنين القديمة قسّمت ألسنَ المسكونة وقضيتَ على الوفاق الشنيع. كذلك اليوم جمعت ألسنَ المسكونة وأرشدتَ إلى اتفاق من كان منقسماً. لذلك ظهر الروح القدس بشكل ألسنة ناريّة من أجل شوك الخطيئة الذي نبت فيها.

لأنه كما أن الأرض وهي خصبة وغنيّة عندما تُفلح تُخرج أشواكاً كثيرة. هكذا الطبيعة الإنسانية بينما هي حسنة من جهة خالقها وجديرة بكلّ عمل صالح، كونها لم تقبل محراثَ التقوى ولا زرعَ المعرفة الإلهية، أنبتت فينا الإلحاد كأشواك ونباتات أخرى غير مفيدة. وكما أن سطح الأرض في كثير من الأحيان لا يظهر من كثرة الأشواك والعشب البرّي هكذا فإن شرفَ وطهارة نفسنا لم تكونا ظاهرتين إلى أن أتى فلاّح طبيعتنا البشريّة ووضع نارَ الروح القدس فطهّرنا وهيّاها لكي تتقبّل الزرعَ السماوي.

3- إلى هذا الحدّ وأكثر من ذلك كانت الخيرات في مثل هذا اليوم. لذلك أرجوكم لنعيّد وفقاً لأهمية الصالحات التي منحها الله لنا. لا بتزيين المدينة بل بتجميل نفوسنا لا بتزيين الأسواق باليافطات بل بجعل نفسنا تفرح بألبسة الفضيلة حتى نستطيع هكذا أن نتقبّل نعمة الروح القدس ونكسب الأثمار التي يمنحها لنا. ما هو ثمر الروح القدس؟ لنسمع بولس يقول:

"ثمر الروح القدس هو المحبّة، الفرح، السلام..." (غلا 22:5) انتبهوا إلى دقّة الكلمات وسلسلة التعليم. وضع أوّلاً المحبّة وبعدها ذكر الفضائل الأخرى. وضع أوّلاً الأساس ثم أضاف بقيّة البناء. بدأ بالنبع ثم وصل إلى الأنهار.

في الواقع لا نستطيع أن نشعر أولاً بالفرح إن لم نحسب فرح الآخرين فرحنا، إن لم نحسب خيرات الآخرين خيراتنا. إذاً لا نستطيع أن نصل إلى الثمار الأخرى إن لم تسدْ فينا المحبة.

المحبّة هي الجذر، النبع، أمّ الصالحات كلّها.

لأنه كجذر تجعل الفروع تنبت وتزهر بلا حدود. وهي كنبع يُخرج مياهاً غزيرة وكأمّ تجمع في أحضانها كلّ الذين يلجأون إليها.

هذا ما كان بولس يعرفه تماماً. لذا سمّى المحبّة ثمرَ الروح القدس وفي مكان آخر أعطاها ميزة عظيمة حتى قال:

"إن المحبّة هي كمال الناموس" (رو 10:13)

فاعتبرها الميزة الأولى لتلاميذه

"بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم محبّة بعضكم لبعض" (يو 35:13)

لذلك أرجوكم لنلتجئ كلّنا إليها. لنعانقْها وهكذا نتقبّل العيدَ الحاضر لأنه حيث تكون المحبّة لا تفعل أهواء النفس. حيث تكون المحبّة تتوقّف شهوات النفس الغريبة. "المحبة، يقول بولس، لا تتفاخر ولا تنتفخ لا تطلب ما لنفسها ولا تقبّح" (1كور 4:13-5)

المحبة لا تؤذي الآخرين، حيث المحبّة لا يقتل الواحد أخاه. أَخرج من قلبك مصدر الفساد تُخرج أنهار الرذائل كلّها. اقطع الجذرَ تقطع في الوقت نفسه الثمرَ أيضاً. أقول هذا لأني أحزن على الذين يفسدون ويُبغضون أكثر من المُبغضين لأن المبغضين هم الذين يتأذّون أكثر من غيرهم. لأن البغضَ إن تقبلّناه يصبح فرصة للإكليل والأجر.

أنظر أرجوك كيف أن الصدّيق هبيل يُمدح ويُذكر يومياً ومقتله أصبح له مدعاةً للمديح. وهو بعد موته يتكلّم بحريّة ويدين قاتله بصوت عال. لكن قاين أخاه بقي في الحياة أخذ أجره وفقاً لأعماله فبقي يتنهّد ويرتعد. أما هبيل الذي قُتل فقد ظهر بعد موته ذا دالةٍ كبيرة. كما أن خطية قاين جعلته يعيش حياةً شقيّة أشقى من الأموات، كذلك فضيلة هبيل جعلته يعيش بعد موته أبهى من قبل.

لذلك ونحن أيضاً لنكتسب دالة في هذه الحياة وفي الأخرى، لكي نتمتع بالفرح الناتج عن العيد لنقضِ على كلّ الألبسة الدنسة التي للنفس لنتعرَّ خاصة من لباس الغيرة والحسد...

أنتم إذاً الذين أصبحتم اليوم أبناء الله، الذين لبستم هذا اللباسَ البهجَ حافظوا بكلّ الطرق على الفرح الذي أنتم فيه الآن بعد أن أغلقتم على الشرّير من كلّ جانب لكي تتمتّعوا بفيض بنعمة الروح القدس ولكي تُعطوا أعمالاً حسنةً أضعافاً ولكي تستحقوا أن تواجهوا ملك السماوات عندما ينبغي له أن يأتي ويوزّع الصالحات التي لا توصف لأولئك الذين عاشوا في هذه الحياة حياةً فاضلة بمعونة ربّنا يسوع المسيح الذي يليق له المجد والقوّة الآن وكلّ أوان وإلى دهر الداهرين. آميــن.
 
قديم 09 - 06 - 2014, 01:50 PM   رقم المشاركة : ( 4524 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

أحدالعنصرة



وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
فكيفيسمعكلواحدمنالغته التيولدفيها
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
هناك حدث هام جدا تمّ يوم العنصرة وهو " تفاهم البشر". فحين امتلأ التلاميذ يوم الخمسين من الروح القدس " طفقوايتكلمون ... وتحير الجمهورالمجتمعمنكلأمةعلى وجهالأرضوقالوا :كيفنسمع كلمنالغتهالتيولدفيها ؟"
أليس كل هؤلاء الرسل المتكلمين جليليين ؟
كيف فهم كل المجتمعين وهم يتكلمون بلغات عديدة مختلفة كلام الرسل يوم العنصرة؟ هناك احتمالات عدة :
أولا : ان المجتمعين بفضل الروح القدس فهموا كلهم لغة الرسل الواحدة ( الجليلية العبرية) .
ثانيا : ان كل رسول صار يتكلم بنعمة الروح القدسلغات تلك الأمم.
ثالثا : كان هناك نوع من الأعجوبة ( ترجمة فورية) بحيث ترجم ما يقوله الرسول بالعبرية إلى اللغات المختلفة .
أما النص الكتابي فيقول :" وطفقوا يتكلمون بلغات كما أعطاهم الروح أن ينطقوا !) بداية وللوهلة الأولى يظهر بأن الاحتمال الثاني هو الوارد . أي أن كل رسول صار بفاعلية الروح يتكلم لغات مختلفة .
هناك تفسير آبائي يعتمد على القسم الثاني من الآية . أي على " كما أعطاهم الروح أن ينطقوا !" ماذا جرى إذن ؟ وكيف نفهم هذا التفاهم الفوري؟ هل هناك لغة جديدة لا تؤثر عليها " الألسن" البشرية المختلفة والعديدة ، وبهذه اللغة نطق الروح في الرسل ؟ الجواب هو نعم ! عندما حل الروح القدس وامتلأ التلاميذ روحا ، تكلموا بالطبع بلغتهم التي رَوحَنَها الروح وتفاهم الجميع معهم وفهموا عليهم . إنها حالة الترجمة ، روحية مباشرة.
يتكلم القديسون لغة واحدة رغم تفاسير الألسنة واللغات . نظرة سريعة على تقليدنا الكنسي توضح لنا كيف تكلم القديسون كلاما واحدا وكل بلغته الخاصة . هذه حالات استثنائية تفترض أن يمتلئ الشخص من الروح القدس . هذا ما تمّ يوم العنصرة ويمكن أن يتم أي يوم في " ملء الروح" . " بابل" وحدث " العلية" . بين " تبلبل الألسنة واللغات " في بابل وبين أن يفهم كل منا بلغته الخاصة ".
عندما تزايدت شرور البشر وطردوا الروح وتمسكوا إنما ... بالجسد . يقول الكتاب ، شاء الله أن يختلف الناس بلغاتهم ويتفرقون إلى شعوب وأمم لا تتفاهم الواحدة مع الأخرى .
في بابل تمّ التمزيق البشري ، في العنصرة " الاتحاد". عالمنا اليوم مشدود من الطرفين ، بين التمزق وعدم التفاهم وبين الوحدة والتآخي .
لماذا تتعدد الألسنة وينقطع التفاهم؟ هناك أناس لهم المفاهيم ذاتها ولكن بسبب لغاتهم المختلفة لا يستطيعون أن يتفاهموا .
وهناك أناس لغتهم واحدة ولكن مفاهيمهم متغايرة ، وهؤلاء أيضا لا يتفاهمون . ما تم في العنصرة هو ان الامتلاء من الروح غلب تعدد اللغات، ان الوحدة بالروح حققت التفاهم رغم تغاير اللغات .
تتعدد الألسنة ويتوقف التفاهم بالأساس بسبب من تغاير الغايات بين البشر واختلافها .
أسباب التمزق البشري وقطع التواصل عديدة وأهمها الايديولوجيات المختلفة والمتنوعة، والتي تظهر فيها السياسة والدين وجذورالحضارات الانسانية. فينعت تيارالآخر " بالضلال" وينصّب تيار ذاته كال" الهادي " .
وتتسابق وتتصارع التيارات في اقتناص الأسماء الرنانة فتفرّق وتصنّف وتمزّق.
وحين تتضارب المصالح ، بعد تعدد الايديولوجيات ، فإن اللغة الحقيقية المبطنة وراء سور كل اللغات هي لغة المكر والرياء . كيف سيتّحد الناس ولا تجمعهم المحبة؟ هنا نلاحظ فكر الاعلام والدعاية وهي قادرة أن تقيم الباطل وتهدم الحق .
ولغة الدعاية لا توحّد يوما بين الناس بل تخضع طرفا لآخر وتقيم الأول على الثاني ، دون أن تكون الحقيقة دائما هي المعيار ، بل السلطة فيها للقوي والقادر.
الروح يقود إلى "اتحاد واحد " تقول ترنيمة العيد . نحن اليوم بحاجة إلى عنصرة وليس إلى دعايات وإيديولوجيات .
لشهادة الكنيسة الحية التي هي فعل عنصرة دائمة.
العنصرة هي كمال التدبير الالهي ، لقد تجسد يسوع ومات وقام ليؤسس كنيسته التي هي مكان ارسال الروح القدس . غاية الكنيسة هي تأهيل النفوس لسكب الروح . الكنيسة برج محبة نبنيه بدل برج بابل. روح المصالحة وأرواح الايديولوجيات لطالما مزقت البشر . أما روح الحق ، الروح القدس ، " يجمع الكل إلى اتحاد واحد ".
فيا أيها الملك السماوي المعزي روح الحق ... هلم واسكن فينا .
أميـــــــــــــــــــــــــــن .
طروباريةعيدالعنصرة
"مبارك أنت أيها المسيح إلهنا
يا من أظهرت الصيادين غزيري الحكمة،
إذ سكبت عليهم الروح القدس.
وبهم المسكونة اقتنصت يا محب البشر المجد لك"
 
قديم 09 - 06 - 2014, 01:51 PM   رقم المشاركة : ( 4525 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

هبات الروح القدس
أصلها وإشكاليّاتها

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

الأقنوم المنسي
الروح القدس هو الأقنوم المنسي. قد يكون في هذا الكلام بعض المبالغة، لكنّنا حين ننظر إلى بهجة احتفالات أعياد الميلاد والشعانين والفصح، أو حتّى إلى بهجة احتفالات أعياد بعض القدّيسين أمثال العذراء مريم ومار الياس ومار جرجس والقدّيسة بربارة، وقارنّاها ببهجة الاحتفال بعيد الروح القدس في يوم العنصرة، لرأينا أنّ الفارق كبير جدّاً. ولو سمعنا صلوات المؤمنين العفويّة، وانتبهنا إلى مَن يوجّهونها، لما وجدنا كثيرين يذكرون الروح القدس. ولو أحصينا عدد الكنائس الّتي تحمل اسم الروح القدس أو هباته، وقارنّاه بعدد الكنائس الّتي تحمل اسم العذراء مريم أو ألقابها، لراودنا السؤال: "لماذا يغيب الروح القدس بهذه الطريقة عن ذاكرة الناس؟"
قد يعترض بعضهم ويقول: " لكنّ الروح القدس حاضر في كلّ صلاة. وهو الّذي يحرّكنا من الداخل كي نصلّي (را. روم 8/26). كما أنّنا نذكره مراراً في الصلوات الطقسيّة لجميع الليترجيّات والطقوس." إنّ هذا الكلام صحيح وسنخصّص له حديثاً منفرداً يلقيه سيادة المطران أنطوان أودو. ومع ذلك فإنّ الروح القدس منسيّ، وقلّما يخطر ببال مؤمنٍ أن يوجّه إليه صلاته. ولهذا النسيان أسبابه. فالآب تكلّم في العهد القديم، وتعامل مباشرةً مع شعبه. لذلك يستطيع الإنسان أن يكوّن عنه صورةً في مخيّلته. والابن تجسّد وعاش بيننا، فرأيناه وسمعناه ولمسته يدانا (1يو1/1. لذلك يستطيع الإنسان أن يكوّن عنه صورةً في مخيّلته، حتّى وإن لم يعش معه. أمّا الروح، فلم يقل شيئاً، ولم يجادل أحداً. إنّه كالريح، لا ندري من أين يأتي ولا إلى أين يذهب (يو 3/8).
وبما أنّ الإنسان يحتاج في عبادته إلى ما هو ملموس، أُهمِلَ الروح بدون قصد، فتوجّه في صلاته إلى ما له صورة في مخيّلته، أي إلى الأقنومَين الآخرَين: الآب والابن، اللذَين كشفا عن ذاتيهما بالقول والفعل، فتمكّن الإنسان من تخيّلهما انطلاقاً من تجلّياتهما.
إنّ اسم الروح يشير إلى أنّه غير ملموس، وإلى أنّ الحواس الخمس لا تستطيع أن تدركه. وللتغلّب على هذه المشكلة، استعمل الكتاب المقدّس صوراً كثيرة لإظهار عمله. فهو يريح وينعش (الريح)، ويحيي وينقّي (الماء)، وينير ويهدي (النار)، ويقوّي ويشفي (الزيت)، ويطمئن ويزرع السلام (الحمام).
غائب عن الحواس وحاضر في الخلاص
كان الروح حاضراً منذ بداية الخليقة "يرفّ على وجه المياه" (تك 1/2). وكان حاضراً في النَفَسِ الّذي جعل آدم إنساناً حيّاً (تك 2/7)، وفي الريح الّتي شقّت مياه بحر القلزم (خر 14/21)، وفي النار الّتي التهمت ذبيحة إيليّا (1مل 18/38). وكثيراً ما ذكره الأنبياء والمزامير. وفي حياة يسوع، حلّ على مريم العذراء لتلد مخلّص العالم (لو 1/35)، وظهر في هيئة حمامة عندما تعمّد يسوع على يد يوحنّا المعمدان (متى 3/6)، وقاد يسوع إلى البرّيّة (متى 4/1)، وجعله يرتعش في أثناء حياته التبشيريّة، لأنّ الآب أظهر للصغار ما أخفاه عن الحكماء والفهماء (لو 10/21). وقبل الآلام، وعد يسوعُ تلاميذَه بأن يرسل لهم الروح القدس، وشرح لهم ما سيفعله هذا الروح فيهم (يو 16/7-14)، وأتمَّ وعدَه بعد القيامة (يو 20/22-23).
فالروح القدس حاضر في التاريخ منذ بداية الكون، على الرغم من غيابه الملموس. وسيظلّ حاضراً حتّى نهاية الأزمنة. إنّه الروح الّذي يجدّد الخليقة، ويجعل حياة الإنسان سالمة وسليمة ومستسلمة لله. إنّه الله المقيم فينا. ففي العهد القديم، أظهر الله أنّه مع شعبه، فكان "الله معنا". وفي التجسّد، عاش الكلمة مع الناس، فكان "الله بيننا". وفي العنصرة، حلّ الروح القدس على التلاميذ، فكان "الله فينا". وهو لايزال يعمل في كلّ مؤمنٍ، ليقود الخليقة إلى خالقها. أمّا طريقة عمله، فتتمّ بمنح النفس هباتٍ ورد ذكرها في نبوءة أشعيا1.
من ستّ هبات إلى سبع
يقول أشعيا النبيّ في وصفه للمشيح: "ويخرج فرع من جذع يسّى، وينمو فرع من أصوله، ويحلّ عليه روح الربّ، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوّة، روح المعرفة والورع (والتقوى ومخافة الرب)" (11/1-2).
في النصّ العبريّ، لا يذكر النبيّ أشعيا سوى ستّ صفات للروح الّذي يحلّ على مسيح الرب. الأولى هي الحكمة، والخمس التالية: الفهم والمشورة والقوّة والمعرفة والورع، هي تفصيل لروح الحكمة المعطاة. أمّا سبب الانتقال من ستّ صفات للروح إلى سبع صفات فقد وردنا في القصّة التالية:
في القرن الثالث قبل الميلاد، دعا الإمبراطور بطليمُس الثاني الفيلادلفي (285-246) اثنين وسبعين عالم شريعة يهوديّ كانوا يعيشون في مدينة الإسكندريّة، وطلب منهم أن يترجموا الكتاب المقدّس من العبريّة إلى اليونانيّة، لإغناء مكتبة الإسكندريّة الشهيرة. فرحّب معلّمو الشريعة بهذا الطلب، لأنّ غالبيّة يهود الشتات، المنتشرين في حوض البحر الأبيض المتوسّط، كانت تجهل قراءة اللغة العبريّة وفهمها. فقد ولِدَ هؤلاء وتربّوا في أجواء الثقافة اليونانيّة، وأطلِقَ عليهم اسم اليهود الهلّينيّين (را. رسل 6/1). وبوساطة هذه الترجمة، سيتمكّنون من قراءة الكتاب المقدّس، ومن التعمّق في شريعة الرب وتأمّلها وحفظها.
وباشر علماء الشريعة بالترجمة، الّتي سُمّيَت فيما بعد باسم الترجمة السبعينيّة، نسبةً إلى عدد المترجمين. وتقول الأسطورة، الّتي رواها أرسطوبولس اليهوديّ المصري، إنّ المترجمين عمِلوا منفردين، فجاءت ترجماتهم متطابقة. لكنّ الحقيقة هي أنّ عمليّة الترجمة استغرقت أكثر من مئة سنة. وهناك كتب من العهد القديم تُرجِمَت بعد ذلك بكثير، ومن بينها سفر أشعيا.
على كلّ حال، حين وصل المترجمون إلى المقطع الّذي ذكرناه أعلاه من نبوءة أشعيا (11/2)، احتاروا في ترجمة كلمة "ورع" العبريّة، إذ ليس لها ما يكافؤها في اللغة اليونانيّة. فحلّلوا معنى الكلمة، ورأوا أنّها تشير إلى الهيبة والخوف في آنٍ واحد، فترجموها بكلمتين: التقوى ومخافة الرب.
الورع هو مخافة وتقوى
المخافة :
لقد اعتمد المترجمون في اختيارهم لهذه الكلمة على التقليد الكتابي. فمنذ أيّام موسى، يعتبر العبرانيّون أنّ مَن يرى الله يهلك. لأنّ موسى سأل الله أن يريه وجهه، فأجابه الرب: "أمّا وجهي، فلا تستطيع أن تراه، لأنّه لا يراني الإنسان ويحيا " (خر 33/20). وحين رأى أشعيا الله صاح مذعوراً: "ويل لي، قد هلكتُ، لأنّي رجل نجس الشفتين ... وقد رأت عينايَ الملك ربّ القوّات" (أش 6/5، را. قض 13/22-23). فبما أنّ الورع يرتبط بالعلاقة مع الله، لابدّ لهذه العلاقة أن تولّد شعوراً بالخوف.
وحين نقل آباؤنا العرب نصوص الكتاب المقدّس إلى اللغة العربيّة، لاحظوا أنّ لكلمة خوف معنىً سلبيّاً. فالإنسان يخاف حين يواجه شرّاً. لذلك صحّفوها وجعلوها " مخافة "، كي لا تعبّر الكلمة عن الشعور الّذي ينتاب الإنسان أمام الشرّ والخطر. لأنّ الحضور أمام الربّ مصدر للسلام والأمان. ولكنّه يُشعِرُ الإنسان في الآن نفسه بالهيبة والرهبة.
التقوى :
وتشير كلمة ورَع أيضاً إلى طريقة في العبادة. فشعور الرعدة الّذي يشعر به المؤمن أمام عظمة الله ليس رعدة عبدٍ أمام سيّده، بل رعدة ابنٍ أمام أبيه. وهو نابع من الاحترام الشديد الّذي يكنّه الابن لأبيه لا من الخوف الشديد الّذي يكنّه العبد لسيّده. وهذا الاحترام هو الهيبة، الّتي عبّر المترجمون عنها باستعمال كلمة تقوى، ليكون لهذه الكلمة طابعاً دينيّاً. فمَن نهابه ونخشع أمامه هو الله لا إنسان.
عندما ظهرت الترجمة السبعينيّة، لم يحتجّ أحد على تحويل صفات الروح من ستّ صفات إلى سبع، بل رأى كثيرون في هذا التحوّل إلهاماً ربّانيّاً. فالرقم سبعة يعني الكمال. وبالتالي، فإنّ مسيح الربّ ينال كمال الروح. وقد أكّد على ذلك يوحنّا الإنجيليّ حين ذكر في رؤياه المصابيح السبعة الّتي هي أرواح الله السبعة (رؤ 4/5).
من روح المعموديّة إلى روح التثبيت
متى ينال المسيحيّ هبات الروح القدس؟ وهل ينالها غير المسيحيّ؟
لا شكّ أنّ روح الله يعمل في كلّ إنسان، سواء كان مسيحيّاً أو غير مسيحيّ، إذا كان هذا الإنسان يسعى إلى الخير، ويقاوم الشر2، ويتوق إلى الصلاح . إنّه يعمل فيه ويؤازره ويلهمه ويرشده، حتّى وإن لم يعِ هذا الإنسان وجود الروح أو عمله فيه. ففي كتاب أعمال الرسل، حين وصل بولس الرسول إلى أفسس، التقى تلاميذ أتقياء، يعيشون حياة برٍّ وقداسة. فسألهم: "هل نلتم الروح القدس حين آمنتم؟" فقالوا له: لا! بل لم نسمع أنّ هناك روح قدس. فقال: فأيّة معموديّة اعتمدتم؟ قالوا: معموديّة يوحنّا. فقال بولس: إنّ يوحنّا عمّد معموديّة توبة ... فلمّا سمعوا ذلك اعتمدوا باسم الربّ يسوع. ووضع بولس يديه عليهم، فنـزل الروح القدس عليهم، وأخذوا يتكلّمون بلغاتٍ غير لغتهم ويتنبّأون" (رسل 19/2-6).
تبيّن هذه القصّة أمرين هامّين:
1- إنّ الروح القدس يعمل في غير المسيحيّين. لكنّه يعمل في المسيحيّين بطريقة خاصّة ومميّزة من خلال الأسرار.
2- قام بولس الرسول بعملين: المعموديّة ووضع الأيدي. وهبة الروح حلّت عند وضع الأيدي.
يقول كتاب أعمال الرسل إنّ الكنيسة بدأت تعمِّد منذ يوم العنصرة. "فانضمّ في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس" (رسل 2/41). وقد قامت بذلك عملاً بوصيّة المخلِّص قبل صعوده إلى السماء: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلّموهم أن يحفظوا كلّ ما أوصيتكم به" (متى 28/19-20). فالمؤمن ينال الروح القدس في المعموديّة. يقول كتاب التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة:
" إنّ الثالوث القدّوس يهب المعتمد النعمة المقدّسة ... وهي:
- تمكّن المعتمِد من أن يتوجّه إلى الله بالإيمان والرجاء والمحبّة، وذلك عن طريق الفضائل الإلهيّة.
- وتقوّيه ليحيا ويعمل بحفزٍ من الروح القدس، عن طريق مواهب الروح القدس.
- وتتيح له أن ينمو في الخير بواسطة الفضائل الأدبيّة" (تعليم 1266).
انطلاقاً من هذا التعريف، لابدّ لنا من طرح السؤال: إذا كان المؤمن ينال جميع هذه الهبات من الروح القدس في المعموديّة، ما هو دور سرّ التثبيت (الميرون) إذاً؟
تاريخ الالتباس ونتائجه الظاهريّة
في القرون الأولى، كان سرّ التثبيت يُمنَح عادةً مع المعموديّة في احتفالٍ واحدٍ، أسوةً بما فعل القدّيس بولس مع الجماعة الّتي نالت معموديّة يوحنّا (رسل 19/2-6)، فيكوِّنُ السرّان "سرّاً مزدوجاً "، كما يقول القدّيس قبريانُس. وكان الأسقف هو الّذي يمنح هذا السرّ المزدوَج. ومع ازدياد عدد المسيحيّين، وكثرة معموديّة الأطفال في كلّ وقتٍ ومكان، لم يعد الأسقف يستطيع أن يقوم بهذه المهمّة وحده. ففصلت كنيسة الغرب المعموديّة عن التثبيت، وأوكلت مهمّة المعموديّة للكهنة، وخصّت الأسقف بمنح سرّ التثبيت في وقتٍ معيَّن، وباحتفالٍ مهيب يضمّ عدداً كبيراً من المعمّدين. بينما حافظت الكنيسة الشرقيّة على السرّين معاً، ومنحت الكاهن حقّ منحهما.
إنّ وجود السرّين معاً منذ بداية المسيحيّة جعل المعموديّة تهمّش بعض السمات المميّزة لسرّ التثبيت. فأصبح يبدو وكأنّه إضافةً يستطيع المسيحيّ أن يستغني عنها أو يغتني بها. ففي كتاب التعليم المسيحي، ورد في شأن مفاعيل سرّ التثبيت:
يعمل سرّ التثبيت على إنماء نعمة المعموديّة وترسيخها:
- يرسّخنا ترسيخاً أعمق في البنوّة الإلهيّة ...
- يزيدنا ثباتاً في اتّحادنا بالمسيح.
- يجعل ارتباطنا بالمسيح أكمل" (تعليم 1303).
يُلاحَظ في هذا النصّ استعمال صيغة التفضيل: أعمق، أكمل، أكثر ثباتاً، وكأنّ لهذا السرّ دوراً ثانويّاً، تابعاً، إضافيّاً أو مكمّلاً لسرّ المعموديّة. المعموديّة هي الأساس والتثبيت سرّ مظلوم. لكنّ الحقيقة هي غير ذلك. فبالمعموديّة نصبح مسيحيّين، وبالتثبيت نصبح مرسَلين. هذه هي إحدى الفوارق بين السرّين. وهذا الفارق جوهريّ. إنّه الانتقال من حياةٍ تهتمّ بالأنا إلى حياةٍ تهتمّ بالآخر. ومن السعي لخلاص النفس إلى السعي لخلاص الآخر. ومن حالة الطفل المتمحور حول ذاته إلى حياة البالغ المسؤول.
فالروح القدس الّذي يحلّ في سرّ المعموديّة ينقّي المعتمِد ويحوّله ويجدّده، من أجل أن يعيش حياةً جديدة مع الله، حياة ابنٍ لا حياة عبد. ولكن، قد يصبح هذا الابن كسولاً متقاعساً، يهتمّ بنفسه ولا يكترث لغيره، كما كان الغنيّ في مثل الغني ولعازر (لو 16/19-31)، أو كالابن الّذي لم ينفّذ أوامر أبيه في مثل الابنين (متى 21/28-32). لذلك فإنّ الروح القدس الّذي يحلّ في سرّ التثبيت، يضع على عاتق مَن يناله مسؤوليّة تجاه غيره. إنّه يعطيه مواهب معيّنة كي يتمكّن بوساطتها من أن يكون عضواً فعّالاً نشطاً في الكنيسة، وأن يكون عضواً منتجاً لا عضواً مستهلكاً.
سرّان متكاملان في العمل ومتمايزان في المفعول
إنّ المعموديّة والتثبيت هما كالبذرة والشجرة المثمرة. ففي البذرة المزروعة كلّ طاقة الحياة. ولكن، ما فائدة هذه الطاقة إذا نمَت البذرة، وأصبحت شجرة، لكنّها لم تعطِ ثمراً؟ إنّها تعيش لنفسها. تتغذّى وتورق وتنمو، وتلبس حلّةً بهيّة، لكنّها كالتينة المورقة الّتي لم يجد يسوع فيها ثمراً (متى 21/18-19).
المعموديّة هي سرّ الدخول في العهد مع المسيح. إنّها الولادة الجديدة. ويُعطى سرّ التثبيت لكي ينبع من هذا العهد عمل من أجل الملكوت، ولكي تأتي هذه الولادة الجديدة بثمر. فهو السرّ الّذي يضمن الإثمار. لذلك عمّد القدّيس بولس تلاميذ يوحنّا ثمّ وضع عليهم يديه. وعند وضع الأيدي، "نزل الروح القدس عليهم، وأخذوا يتكلّمون بلغاتٍ غير لغتهم ويتنبّأون" (رسل 19/6). ونعلم من رسائل القدّيس بولس أنّ غاية النبوءة والتكلّم باللغات هي بنيان الآخر (1قور 14/1-5). فمفاعيل الروح القدس الّذي حلّ على هؤلاء التلاميذ هي مفاعيل سرّ التثبيت، لأنّ سمات العنصرة فيها واضحة بيّنة.
خلاصة القول: إنّ الروح القدس يحلّ في جميع الأسرار. لكنّ مفاعيله تختلف من سرّ إلى آخر. فهو كالمحرّك الكهربائيّ: يجعل آلةً تمشي وأخرى تدور وثالثة ترفع الأحمال ورابعة تضخّ المياه ... وهذا ما نسمّيه المفاعيل، أي الأثر الناتج من حلول الروح القدس في سرٍّ ما. فما يرجوه المؤمن من الروح القدس حين يُمسَحُ بزيت الميرون هو أن ينال هبات الروح السبع.
الحواشي
1 - نفضّل استعمال كلمة "هبة " بدل كلمة " موهبة "، لتمييز الهبات السبع الّتي ذكرها النبي أشعيا عن المواهب الّتي ذكرها القدّيس بولس في رسالته الأولى إلى أهل قورنثس (1قور 12)، الّتي سنأتي على ذكرها في أحاديث هذا الفصل مع سيادة المطران يوحنّا جنبرت.
2- إنّ الإيمان بعمل الروح القدس في غير المسيحيّين هو إيمانٌ كاثوليكيّ يعتمد على الكتاب المقدّس (را. 1طيم 2/4). وقد أكّد المجمع الفاتيكاني الثاني ووثائق الكنيسة، خصوصاً وثيقة "الربّ يسوع"، هذه الحقيقة الإيمانيّة. بينما تتحفّظ باقي الكنائس في هذا الموضوع، ومنها مَن يرفض قبول عمل الروح في غير المعمّدين

 
قديم 09 - 06 - 2014, 01:54 PM   رقم المشاركة : ( 4526 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

العنصرة

حلول الروح القدس


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

النص:

1 وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، 2 وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ، 3 وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. 4 وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا.

5 وَكَانَ يَهُودٌ رِجَالٌ أَتْقِيَاءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ تَحْتَ السَّمَاءِ سَاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ. 6 فَلَمَّا صَارَ هذَا الصَّوْتُ، اجْتَمَعَ الْجُمْهُورُ وَتَحَيَّرُوا، لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَانَ يَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَتِهِ. 7 فَبُهِتَ الْجَمِيعُ وَتَعَجَّبُوا قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:«أَتُرَى لَيْسَ جَمِيعُ هؤُلاَءِ الْمُتَكَلِّمِينَ جَلِيلِيِّينَ؟ 8 فَكَيْفَ نَسْمَعُ نَحْنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا لُغَتَهُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا؟ 9 فَرْتِيُّونَ وَمَادِيُّونَ وَعِيلاَمِيُّونَ، وَالسَّاكِنُونَ مَا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ، وَالْيَهُودِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وَبُنْتُسَ وَأَسِيَّا 10 وَفَرِيجِيَّةَ وَبَمْفِيلِيَّةَ وَمِصْرَ، وَنَوَاحِيَ لِيبِيَّةَ الَّتِي نَحْوَ الْقَيْرَوَانِ، وَالرُّومَانِيُّونَ الْمُسْتَوْطِنُونَ يَهُودٌ وَدُخَلاَءُ، 11 كِرِيتِيُّونَ وَعَرَبٌ، نَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا بِعَظَائِمِ اللهِ!».

الشرح:

تبدأ الرسالة التي نتلوها في عيد العنصرة (أعمال الرسل 2: 1- 11) بذكر المناسبة التي تجمع التلاميذ بعد صعود الربّ إلى السماء، نقرأ: "لمّا حلّ يوم الخمسين، كانوا مجتمعين كلّهم في مكان واحد" (الآية 1). في يوم "الخمسين".


والمقصود بعد الفصح الذي هو اليوم "الأوّل"، كان اليهود يحتفلون بعيد زراعيّ، هو عيد حصاد القمح، حيث كانوا يقدّمون باكورة غلاّتهم إلى الله المحسن إلى الأرض وسيّد التاريخ (خروج 23: 16؛ عدد 28: 26؛ تثنية 16: 9- 16).


الاسم التقليديّ لهذا العيد هو "عيد الأسابيع" (لاويين 23: 15)، أي العيد الذي يُحتفل به بعد سبعة أسابيع على يوم الفصح. بعد الجلاء وتدمير الهيكل (القرن الخامس) اتّخذ العيد طابعاً تاريخيّاً، فلم يعد احتفالاً بحدث زراعيّ يحصل مرّة في كلّ سنة، ولكنّه صار احتفالاً بحدث فريد، هو تذكار إعطاء الشريعة على جبل سيناء (خروج 19: 1).

في القرن الثالث ق. م.، أصبح معنى العيد عيد تجديد العهد. وهذا العيد كان يجمع، في أورشليم، جماهير من اليهود. يقول لوقا: "كانوا مجتمعين كلّهم في مكان واحد"، هكذا كان الشعب، في جبل سيناء، ينتظر الشريعة (خروج 20: 2). يقول "كلّهم"، وهذه اللفظة حيّرت المفسّرين، فبعضهم رأى أنّ المقصود هم الإخوة المائة والعشرون الذين ورد ذكرهم في أعمال 1: 15، وبعضهم الآخر قال إنّهم جماعة الرسل وبعض النسوة ومريم أمّ يسوع وإخوته الذين ذكروا في أعمال 1: 13و14.

غير أنّ هذا التحيّر لا يمنع الإشارة إلى ما هو أعمق من العدد، وهو أنّ عبارة "كانوا مجتمعين كلّهم في مكان واحد" تدلّ على اتّفاق الجماعة الأولى، فلقد كانوا كلّهم معاً لا في المكان وحسب، ولكن باتّحاد قلوبهم.

ويتابع، في الآية الثانية، فيصف الحدث بقوله: "وحدث بغتة صوت من السماء كصوت ريح شديدة تعسف، وملأ كلّ البيت الذي كانوا جالسين فيه". لفظة "السماء" ترتبط بالإيمان اليهوديّ، وذلك أنّ العبرانيّين كانوا ينتظرون الروح، الذي ترك إسرائيل منذ الأنبياء الأخيرين، أن يأتي من السماء.

أمّا ألفاظ "صوت" (الآية 2 و6)، و"ريح شديدة"، و"نار" فهي صور (رموز عن حضور الله في العهد القديم) تذكّر بحدث سيناء، وهي هنا تدلّ على مجيء الروح الإلهيّ "الذي ملأ كلّ البيت"، ويعني، كما يعتقد، "العلّيّة" التي ورد ذكرها في أعمال 1: 13.


ويتابع: "وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنّها من نار فاستقرّت على كلّ واحد منهم" (الآية 3)، "ألسنة منقسمة كأنّها من نار" تدلّ على أنّ الروح يوزّع موهبته على كلّ واحد من المجتمعين، وهذه الموهبة هي ناريّة، (ينبّهنا لوقا أنّ النار لم تكن ناراً حقيقيّة، ولكن "كأنّها من نار")،


إشارة إلى أنّ الله سيكلّم العالم، بواسطة رسله، بلغات جديدة وأسلوب جديد. وعن الحدث الذي لا يعبّر عنه يتكلّم لوقا بكلّ بساطة: "فامتلأوا كلّهم من الروح القدس"، ويضيف: "وطفقوا يتكلّمون بلغات أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا" (الآية 4).


السؤال الذي يطرح ذاته هو: هل لهذه العبارة الأخيرة علاقة بما قاله بولس في الرسالة الأولى إلى كنيسة كورنثوس عن "موهبة الألسنة" (14- 16)؟


ما يمكننا أن نلاحظه هنا هو أنّ هذه العطيّة عطيّة خاصّة (بعض المفسّرين قالوا إنّها من النوع النبويّ)، ولا تحتاج إلى عطيّة أخرى تفسّرها. وذلك أنّ الحاضرين سوف يكلّمهم الرسل مباشرة وسيفهمونهم من دون ترجمة (وهذه إحدى أهمّ وجوه الحدث)،


أمّا الموهبة التي تكلّم عليها بولس فتحتاج إلى موهبة أخرى (ترجمة الألسنة) من أجل الفهم. ولعلّ أهمّ ما يعنيه هذا الحدث هو أنّه يعيد وحدة البشريّة التي تفكّكت في بابل (تكوين 11: 1-9). وهذا ما نرتّله في قنداق عيد العنصرة:


"عندما انحدر العليّ مبلبلاً الألسنة كان للأمم مقسِّماً، ولمّا وزّع الألسنة الناريّة دعا الكلّ إلى اتّحاد واحد...".

في الآيات المتبقّية (5- 11)، يصوّر لوقا أوّلاً ردّات فعل الحاضرين (فتحيّروا، فدهشوا جميعهم وتعجّبوا)، وهذا التحيّر والدهشة والتعجّب علامات على أنّ الله هو هنا في وسط القوم الذين أحسّوا أنّهم أمام معجزة.


ما من شكّ في أنّ الحيرة باب يدخلنا عالم الإيمان، لا يعني هذا أنّ المعجزة تنتج إيماناً، ولكنّها بالطبع تهيّئه. ويورد، تالياً، أنّ هؤلاء الحاضرين كانوا يقيمون "في أورشليم"، وهذا يعني أنّهم ولدوا في أمكنة أخرى وجاءوا وأقاموا في المدينة المقدّسة.

وهم "يهود أتقياء من كلّ أمّة تحت السماء"، "يهود أتقياء" عبارة عزيزة على قلب لوقا، وهي تدلّ على مخافة الله وتنفيذ فرائضه وأحكامه تنفيذاً دقيقاً. ثمّ يعدّد البلاد التي جاءوا منها: "من الفرتيّين (وهم يعيشون في أقصى الشرق الأوسط) والمادّيّين والعيلاميّين (الذين يقيمون شمالي الخليج الفارسيّ) وسكّان ما بين النهرين واليهوديّة وكبادوكية (في آسية الصغرى) وبنطس (في شمال آسية) وآسية وفريجية (غربي آسية) وبمفيلية (على الساحل الجنوبيّ) ومصر ونواحي ليبية عند القيروان والرومانيّين واليهود والدخلاء والكريتيّين والعرب..."، وهمّه أن يؤكّد أنّ الكون كلّه هنا ليشهد مجيء الروح ويسمع كلمة الله وتعظيمه.


غير أنّ الحاضرين، كما تذكر الآية 11، ليسوا جميعهم يهوداً بالولادة، وذلك أنّ بعضهم "دخلاء"، أي وثنيّين تقبّلوا الختان وانضمّوا إلى شعب الله. وهذه دلالة على أنّ الله لا يميزّ بعطاياه بين يهوديّ ووثنيّ، فهو يأتي من أجل الجميع، ويمنح عطاياه للكلّ من دون تمييز.

بهذه الكلمات البسيطة يكتب لوقا عن حلول الروح الإلهيّ. فالروح المعزّي، كما وعد ربّنا تلاميذه، بات معنا، وهو يقود الكنيسة التي هي "مقرّ الله" كما يعبّر المغبوط أغسطينوس، ويكلّم العالم منها. ونحن بتعييدنا العنصرة لا نعيّد لأحداث من الماضي، ولكن لحدث فريد غيّر وجه التاريخ، وهو حلول الروح علينا دائماً.

فالروح كان قديماً يحلّ حيناً ويحجب نفسه أحياناً، أمّا بعد العنصرة فبات الروح يقيم فينا إلى الأبد ليقودنا إلى الابن الذي اشترانا لأبيه بدمه.

خواطر في الرسالة :

  • - "كانوا مجتمعين بنفس واحدة في الصلاة" أي عندما تكون المحبة سائدة عندها يظهر الروح القدس .
  • - " ظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نارٍ".. قال "منقسمة" لأنها تأتى من جذر واحد حتى تعلم أنها قد أرسلها المعزّي.
  • - "استقرّت على كل واحد منهم" أي سكن بشكلٍ دائم واستراح. الاستقرار هنا يشير إلى الثبات والى البقاء بشكل دائم..
  • وهل نزل الروح القدس فقط على الاثني عشر أم على آخرين أيضاً؟ لا بل نزل على المئة والعشرين شخصاً....
  • - "وامتلأ الجميع من الروح القدس" أي أنهم لم يتقبّلوا فقط نعمة الروح القدس بل قد امتلأوا منها أيضاً. وأضاف "الجميع" ليشير إلى الحاضرين كّلهم وليس فقط إلى الرسل...
  • - "أعطاهم الروح أن ينطقوا" لأن كلماتهم جاءت بشكلِ عباراتٍ إرشاديّة.
 
قديم 09 - 06 - 2014, 01:56 PM   رقم المشاركة : ( 4527 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




الروح القدس


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة






أيسر على الناس أن تكلّمهم عن الآب السماوي أو عن الربّ يسوع المسيح. وجه الروح القدس يكاد يكون محجوباً بين الناس. الروح كما بدا، قبل الربّ يسوع، كان أدنى إلى قوّة الله. هذا كان دائماً يفعل منذ البدء. به كان كل عمل الله، كل النبوءات، كل الشريعة.

لكنْ كشف يسوع، في شأن الروح القدس، ما هو جديد بالكلية، أن له كياناً خاصاً به، أنّه ليس مجرد قوّة الله بل هو شخص قائم بذاته. كلام يسوع عليه بيّن ميزته الشخصية بوضوح. في الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس، الآب هو "إله كل تعزية" (1: 3).

لذا أرسل ابنَ الله ليتجسّدَ من العذراء القدّيسة معزّياً. يسوع عزّانا بأعمال الآب التي جرت بيديه. من هنا قوله:

"الكلام الذي أكلّمكم به لست أتكلّم به من نفسي لكنّ الآب الحال فيّ هو يعمل الأعمال" (يو 14: 10).



الابن معزِّ أول من الآب. ولكن ثمّة معزٍّ ثان، هو المعزي الروح القدس (يو 14: 26).

يسوع يقول صراحة، عن الروح القدس، إنّه معز آخر (يو 14: 16). ما كان ابن الإنسان ليقول ذلك لو كان الروح القدس مجرّد قوّة الله. على هذه النغمة يسترسل السيّد الربّ في الكلام على الروح باعتباره المنبثق من الآب (يو 15: 26)،

المرسل من الآب باسم يسوع (يو 14: 26) وبناء لطلبه (يو 14: 16). ثم الروح القدس روحُ الحقّ (يو 14: 17) الآتي إثر مغادرة الربّ يسوع، إثر صعوده. من هنا قول يسوع لتلاميذه: "إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي. ولكن إن ذهبتُ أُرسله إليكم" (يو 16: 7).

إذ كان يسوع مزمعاً أن يصعد إلى السماء قال لتلاميذه "أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الآب الذي سمعتموه مني" (أع 1: 4). الموعد هو، بالضبط، موعد إرسال الروح القدس. "ستتعمّدون بالروح القدس" (أع 1: 5). إذ ذاك "ستنالون قوّة متى حلّ الروح القدس عليكم وتكونون لي شهوداً... إلى أقصى الأرض" (أع 1: 8).

الروح القدس يعطي القوّة. "ستنالون قوّة". ليس هو مجرّد قوّة. هو معطيها. لكنّه الفاعل والمنفعل في آن. هو من الآب ومع ذلك يأخذ مما ليسوع ويخبر التلاميذ (يو 16: 15).

"لا يتكلّم من نفسه" (يو 16: 13). على حدّ تعبير يسوع:

"يذكّركم بكل ما قلته لكم" (يو 14: 26).

بهذا المعنى الروح القدس منفعل. لكنّه فاعل في آن. "يخبركم بأمور آتية" (يو 16: 13). "يرشدكم إلى جميع الحقّ" (يو 16: 13). "يمكث معكم إلى الأبد" (يو 14: 16). "يكون فيكم" (يو 14: 17). هذا ما جعل الروح القدس يتكلّم ويشهد مع التلاميذ (يو 15: 26 ? 27).



يسوع بلا الروح القدس كتاب مغلق. ولو قعد يسوع سنوات مع التلاميذ لم يعرفوه على حقيقته ولا فهموا مقاصد كلامه. هذا لأنّ روح الفهم هو، بالذات، الروح القدس. هو ينير الأذهان. معرفة يسوع مستحيلة من دون الروح القدس. كذلك معرفة الآب من دون يسوع. لذا قيل: "كل مَن ينكر الابن ليس له الآب أيضاً" (1 يو 2: 23)،

و"لا أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي" (يو 14: 6). لذا بيسوع صار الكشف عن الثالوث القدّوس. به كانت معرفة الآب وباسمه نزل الروح القدس. ثمّ الروح القدس هو الذي جعل لا يسوع وحده بل الآب من خلاله معروفاً. فيه، في الروح القدس، انعرف الله آباً وابناً وروحاً قدساً. من هنا استعمال آبائنا صيغة "الآب يأتينا بالابن في الروح القدس".

ليس ممكناً أن يُعرَفَ اللهُ إلاّ بالابن في الروح القدس. تجدر الإشارة إلى أنّنا متى تكلّمنا على معرفة الله قصدنا، بالضبط، لا المعرفة بالعقل بل بالروح القدس. الله لا يُعرَف بالعقل. فقط متى حلّ الروح القدس، متى تفعّل فينا، متى انبثّ في كياننا، أمكننا أن نعرفه، أن نعرف الله. هذا لأنّ "أمور الله لا يعرفها أحد إلاّ روح الله" (1 كو 2: 11).

"ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله" (1 كو 2: 12). الحكمة التي صارت لنا بالروح "ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذي يُبطلون" (1 كو 2: 6). الله جهّل حكمة هذا العالم (1 :و 1: 20). هذا لأن الإنسان الطبيعي مستحيل عليه أن يعرف أمور الله. بالنسبة إليه أمور الله وروح الله جهالةٌ، ولا قدرة للإنسان الطبيعي على معرفة ما لله لأنّ هذه إنما يحكم فيها روحياً (1 كو 2: 14). أمور الله لا يُحكم فيها لا جسدياً ولا نفسياً ولا فكرياً.



من هنا كلام آبائنا أن أساس معرفة الله هو اقتناء الروح القدس. "غاية الحياة المسيحية اقتناء الروح القدس" على حدّ تعبير القدّيس سيرافيم ساروفسكي. هذا يتضمّن تفعيل الروح القدس فينا بحيث يعترينا بالكامل، يصير فينا، تخضع مشيئتنا لمشيئته، يصير هو فينا روحَنا، إيّانا، مع حفظ التمايز بيننا وبينه. لذا من دون الروح القدس لا قيمة لوجودنا. إذا ما ارتحلنا من ههنا من دونه نكون قد عشنا ومتنا عبثاً. غاية الحياة البشرية برمّتها أن يكون لنا الروح القدس.

هذا وحده ما يعطينا الحياة الأبدية. لا نقصد بالحياة الأبدية الحياة في المدى وحسب. الحياة الأبدية نوعية أولاً. في تحديد يسوع لها هي "أن يعرفوك [الآب السماوي] أنتَ الإله الحقيقي وحدك وابنك يسوع المسيح الذي أرسلته" (يو 17: 3). المسألة مسألة معرفة في مستوى الكيان أي محبّة في الروح. هذا، بتعبير الأنجيل، معادل للقول:

"إن أحبّني أحد يحفظ كلامي ويحبّه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23). "ليكون الجميع واحداً كما أنّك أنت أيّها الآب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا" (يو 17: 21).

أن نسكن في الروح القدس، نحن في الآب والابن والآب والابن فينا، هو ما نتشوّف إليه، هو المعرفة الحقّ، المعرفة السرّية التي تتجاوز كل معرفة. وهو معرفة الله كمحبّة بالمحبّة التي يعطينا الروح إيّاها. الروح القدس روح المحبّة، روح الحقّ، روح الحياة، روح الإنسان الجديد. لذا يتطاير المرنّم، في خدمة سحر العنصرة، في السماويات إذ يحاول أن يلتقط مزايا الروح القدس. كلّما التقط صفة انفتحت على صفات بحيث تستحيل الأنشودة نكهةً سماوية في القلب تتخطى كل كلام إلى طفرةِ تسبيحٍ وسجودٍ تناطح الحُجُب. دونك، مثالاً على ذلك، ما ورد في قطعة الإينوس الثانية:

"إن الروح القدس كان دائماً وهو كائن ويكون لأنّه ليس له ابتداء ولا له بالكليّة انتهاء. لكنّه لم يزل منتظماً مع الآب والابن، ومعدوداً حياة ومحيياً. نوراً ومانحاً للضياء، صالحاً بالطبع وللصلاح ينبوعاً. الذي به يُعرَف الآب ويُمجَّد الابن. ويُفهَم من الكل أن قوّة واحدة ورتبة واحدة وسجدة واحدة للثالوث القدّوس".



الروح القدس روحي وروحك في تراب وإلاّ التراب!
 
قديم 09 - 06 - 2014, 01:58 PM   رقم المشاركة : ( 4528 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

يوم الخمسين
عيد حلول الروح القدس المعزي



"ولما حضر يوم الخمسين كان الجميع معًا بنفس واحدة"
( أع 2 : 1 )

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
التفسير
جاء النص اليوناني يعني: "لما اكتمل يوم الخمسين"، أي لما بلغ الزمن إلى يوم الخمسين، أي بعد سبعة أسابيع حيث يأتي يوم الخمسين، ويسمى "عيد الأسابيع" (سبوعات) أو "عيد الباكورات" حيث يُقدم بكور القمح، يُحتفل به في اليوم الخمسين من أول يوم بعد عيد الفصح.
"كان الجميع معًا بنفسٍ واحدةٍ"، فقد حملوا غيرة متقدة نحو هدفٍ واحدٍ ورغبةٍ واحدةٍ، فكان الكل ملتهبين في الداخل نحو تحقيق وعد السيد المسيح بنوال قوة من الأعالي
" وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة ، وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين " ( أع 2 : 2 )
كان التلاميذ يترقبون تحقيق الوعد الإلهي بحلول الروح القدس عليهم ليهبهم قوة من الأعالي، لكن يبدو أنهم لم يكونوا يتوقعون حلوله خلال هذه المظاهر،
لذلك كان الأمر مفاجئًا لهم: "وصار بغتة". تم الحلول هكذا لكي لا يفارق هذا الحدث أذهان التلاميذ، ولا يغرب عن عيني الكنيسة عبر كل الأجيال، لأنه حدث يمس كيانها كله ووجودها أو عدمه.
لم تكن ريحًا طبيعية، لكن صوتًا من السماء ملأ كل البيت، سمعه كل من في البيت، وأدركوا أنه من السماء. لعله كان صوت رعدٍ يبشر بالحضرة الإلهية.
" وظهرت لهم السنة منقسمة كانها من نار و استقرت على كل واحد منهم "
( أع 2 : 3 )
حل الروح القدس على التلاميذ في شكل ألسنة من نار. فقد تحقق قول القديس يوحنا المعمدان عن حمل الله أنه يعمد بالروح القدس ونار. هذه هي النار التي جاء السيد المسيح لكي يرسلها إلى البشر .
ظهر الروح القدس على شكل ألسنة نارية منقسمة على كل واحدٍ منهم، إشارة إلى ما يقدمه لهم من تنوع للألسنة واللغات حتى يتمكنوا من الكرازة بين الأمم، ولكي يدرك اليهود أن الله ليس إله العبرانيين وحدهم، إنما هو إله كل البشر، يتحدث مع كل أمةٍ بلغتها التي تتفاهم بها.
"استقرت على كل واحد منهم"، أي من الإثني عشر، إذ ارتاح في كيانهم الرسولي ليقيم منهم هيكلاً مقدسًا يسكن فيه (1 كو 3: 16)، يعمل فيهم وبهم، إذ صاروا منتسبين لله، مكرسين له وحده.
" وامتلأ الجميع من الروح القدس،وابتدأوا يتكلّمون بألسنة أخرى،
كما أعطاهم الروح أن ينطقوا "( أع 2 : 4 )
"وامتلأ الجميع من الروح القدس"، في المعمودية نتمتع بالملء من الروح القدس الذي يؤهلنا أن نكون أعضاء في جسد المسيح، وننعم بالبنوة للآب بالنعمة الإلهية.
بهذا الملء يصير لنا حق الشركة مع المسيح، والتمتع بحياته المقامة. هذا الملء الذي تمتع به الإثنا عشر تلميذًا بالروح القدس الواحد، يهب الكنيسة الوحدة، ليست وحدة مٌصطنعة، ولا تتحقق بمجرد تجمع الأشخاص أو الكنائس معًا،
ولا خلال الحوار المجرد، لكنها عمل إلهي، سرّ الشركة في المسيح الواحد. إنها خليقة جديدة، حيث يتمتع الكل بأبٍ واحدٍ وأمٍ واحدةٍ، وينعمون بملكوت الله الواحد في قلوب الكل، يختبرون الإنجيل الواحد.
الوحدة هنا هي عمل الروح القدس الذي يثبتنا في المسيح الواحد، فنترنم: "لأننا أعضاء جسمه، من لحمه ومن عظامه" (أف 5: 30).
"ابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا". وهم جليليون غالبيتهم لا يعرفون اليونانية إلا القليل، بدأوا يتكلمون بلغات أخرى كما وهبهم الروح القدس، "يتكلمون بألسنة جديدة". (مر 16: 17)
ماذا يعني التكلم بألسنة أخرى، أو بألسنة جديدة لم يكونوا بعد يعرفونها؟
أولاً: واضح أنهم تحدثوا بألسنة لم يتعلموها، لكن السامعين القادمين من أماكن متفرقة كانوا يسمعون كل واحدٍ لغته التي وُلد فيها. فهي لغات بشرية حقيقية مفهومة، وليست كلمات انفعالية غير مفهومة.
ثانيًا: أدرك الحاضرون إنها عطية الله للتلاميذ لا للاستعراض، وليست بلا هدف، وإنما لتأكيد أن باب الإيمان لم يعد قاصرًا على شعبٍ معينٍ أو على لسانٍ معينٍ، بل على جميع الشعوب والأمم والألسنة، فالخلاص مقدم للعالم كله.
ثالثًا: لم يكن اللسان خلال تعليم معين، وإنما هبة من الروح القدس، حتى يدرك المتكلم أنه إنما يتحدث بما يهبه الله له، وليس حسب خبرته البشرية ومعرفته القديمة.
أُعطي مع اللسان مادة الحديث، فلا يُستخدم اللسان إلاَّ في إعلان كلمة الله المقدمة من الروح القدس نفسه. يشعر المتكلم أنه أداة في يد الله، يعمل به لحساب ملكوته.

 
قديم 09 - 06 - 2014, 02:00 PM   رقم المشاركة : ( 4529 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

العنصرة
العلية وبابل الروحية



وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
رسالة عيد العنصرة


إذ أراد مار يعقوب السروجي أن ينشر ميمرًا عن العنصرة (عيد البنطقستي) انسحبت أعماقه إلى علية صهيون في لحظات حلول الروح القدس. وهناك عاد بفكره إلى بلبلة الألسن في بابل عندما أراد البابليون بناء برج يحميهم من الغضب الإلهي، وينقذهم متى حدث طوفان جديد كما في أيام نوح.
غاص مار يعقوب في لجة حنان الله الفائق وحبه ورعايته للبشر حتى في لحظات التأديب.
أشرق حنان الله على مار يعقوب، فسجل لنا أنشودة تلهب القلب بنار الحب، وتحول حياة المؤمن إلى تسبيح لا ينقطع.

هب لي لسانًا ينطق بالحق

افتح لي يا رب خزائنك المملوءة حكمة ومعرفة، لأستطيع أن أزيد معرفتي بسمو محبتك...
يا من بلبل الألسنة في أرض بابل، هب لي لسانًا ينطق بالحق ويتحدى الباطل.
من قضيب التأديب صدر الحنان وأغناهم

كثيرًا ما يقارن بعض الآباء والمفسرين بين بلبلة الألسن التي حدثت بعد الطوفان في أيام نوح، وبين تمتع التلاميذ والرسل بعطية الألسن المتنوعة. اجتمع البابليون وخططوا لبناء برج، وكان غايتهم التحدي ضد الله نفسه. وأما التلاميذ ومن معهم في علية صهيون فكانوا في ضعفٍ يترقبون تحقيق الوعد الإلهي لكي ينالوا قوة من الأعالي. فيكرزون ببشارة الخلاص، ويردون البشرية من كل الأمم والشعوب والألسنة إلى الله في حبٍ وتواضعٍ وتسليمٍ لمشيئة الله المقدسة.
إلى أيام الطوفان، "كانت الأرض كلها لسانًا واحدًا ولغة واحدة" (تك 11: 1). لكن إذ ارتحلوا من الشرق إلى شنعار (البلد المفتوحة)، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفمالقديس أغسطينوس، وظنوا أنهم قادرون على الخلاص بأنفسهم. لا الخلاص من خطاياهم بل الخلاص من تأديبات الله.
هناك تدخل الله فبلبل ألسنتهم حتى يدركوا عجزهم عن مقاومة الله محب البشر.
يقدم لنا القديس مار يعقوب السروجي صورة رائعة عن التأديب الإلهي. إنه لا يحمل نقمة إلهية، لأن الله ليس بمنتقمٍ، ولن تؤذيه شرور البشر، حتى إن وجهت لمقاومة الإيمان به. إنه إله عادل، وفي عدله يفيض حبًا ولطفًا وحنانًا.
تأديبات الله لشعب بابل في ذلك الحين كانت مملوءة بالمراحم الإلهية:

القديس جيروم أن هذا التوزيع لإقامة الشعوب كان لصالحهم. فإن اجتماع الأبرار معًا يزيدهم صلاحًا، كما اجتماع الأشرار معًا يزيدهم شرًا. فتفريقهم كان لنفعهم.
القديس مار يعقوب السروجي عن بركات تأديب الله للبابليين في ذلك الحين. يرى القديس أنهم كانوا منشغلين بجمع الحجارة ونقلها إلى الموضع الذي اختاروه لإقامة البرج. وكان هذا العمل شاقًا جدًا، وسينتهي حتمًا بالفشل. لذا جاءت البلبلة إراحتهم من المجهود الشاقة وبلا منفعة.
تعدوا حدودهم وامتلأوا طمعًا، هؤلاء دخلوا في تحدٍ مع الله نفسه كما يقول 1. لو بقي العالم ينطق بلغة واحدة، لاكتظت مناطق معينة بالبشرية، وكان يصعب على الإنسان مهما بلغت الضغوط الخاصة بالموارد من التحرك. 2. إذ تبلبلت ألسنتهم نشأت القبائل والأمم والشعوب. وصار لكل شعبٍ ثقافته التي يعتز بها، فصار العالم غنيًا بالثقافات المتنوعة. 3. يرى 4. في ميمر "على بابل" تحدث
تمرد البابليون فتنوعت لغاتهم، وكان ذلك خير ورحمة.
كان قضاؤك وعقابك لا شرًا ، وإنما نعمة على العالم.
فقد أصبح لكل أمةٍ لغتها، يتفاهم أفرادها بواسطتها.
بتأديب هؤلاء الذين تمردوا يعرف المرء بأنك كلك مراحم، لمن يتزاحم ليستتر بك.
كيف اسمي قصاص بني بابل، هل يا ترى هو تأديب أم أعجوبة مملوءة ثروة؟
يا أيها السامعون، سبحوا الرب ومجدوه، عقابه رحمة، وغضبه عطف.
تمرد البابليون، ورفع قضيبه ليضربهم، ومن القضيب صدر الحنان وأغناهم.
وزعهم قبائل قبائل وألسنة ألسنة، وهوذا الموهبة تُعطى كتأديب.
بلبلهم من الوئام المملوء أضرارًا، وأصلحهم بالتأديب المملوء مراحم.
أذنبوا ضده، وعلّمهم الأسفار مجانًا، فلو لم يذنبوا ضده، ماذا كان سيصنع؟
وإذ تمردوا عليه أسكنهم شعوبًا شعوبًا، فلو لم يتمردوا، أية تطويبات كان يوفرها لهم؟
ازدادت اللغات، واختلفت لهجاتها، فأغني البشرية بالعلوم.
المعلم الحاذق جعلهم يتهجون في كل الألسنة، ووزع وأعطى لكل شعبٍ لغة واحدة.
انحدر تعليمه كالمطر على أسباطهم، فنبتت أصوات اللغات المتنوعة من أفواههم.
سكب غناه الوفير على المعوزين، فأغناهم بتعليم غير محدود.
تأديبه صار زينة للعالم كله حتى يتكلم بطلاقة بألسنة جديدة.
توزيع الألسنة أقام أممًا وشعوبًا

يؤكد القديس مار يعقوب حنو الله على البشرية حتى في لحظات التأديب. فإنه سمح ببلبلة الألسنة، لكنه لم يبلبل ألسنة الأسرة الواحدة، وإلا صار التعامل بين الأعضاء مستحيلاً، خاصة بين الأزواج وزوجاتهم، والآباء وأبنائهم. فالهدف ليس تحطيم المجتمع خاصة الأسرة، وإنما مراجعة الإنسان لنفسه بعد إقامة شعوب بثقافات متنوعة. تحول التأديب إلى هبة لبنيان كل إنسانٍ، كما لبنيان الجماعات.
فاضت المراحم من العلي على البابليين، فأغناهم بألسنة، كما لو كان بالذهب.
لو كان غاضبًا كما هدد ببلبلتهم، لماذا لم يفصل الرجال عن زوجاتهم، والأبناء عن آبائهم؟
من هنا تعرف بأنه كان مملوءًا مراحم عندما أعطى للرجل ولزوجته وبنيه لسانًا واحدًا.
منذ ذلك الحين وزعهم قبائل قبائل، وسلّم لهم البلدان لينتقلوا إليها.
بألسنتهم ميزهم شعوبًا شعوبًا كما لو كان بعلامةٍ، حتى يستولوا على الأرض التي كانت خربة.
كانوا مختلطين، فلماذا وزعهم حتى لا يسمع الرجل لسان رفيقه؟
صنع نوعًا من الخصام بينهم، ووزعهم لئلا يتضايقوا عندما يُرسلون إلى البلدان.
كانوا متمسكين هذا بهذا بتمردٍ، فبلبلهم ونسوا المحبة المملوءة خسارات.
أعطى الحكيم لقبيلة واحدة لغة واحدة، (وللقبيلة) الأخرى (لغة) أخرى، وجعلها غريبة لأنها كات مختلطة.
لو لم يبعد الواحد عن رفيقه بغضبٍ لما كانوا يتركون وينتقلون من البلد الذي أحبوه.
لو لم تُبلبل لغاتهم بالمراحم، لما تركوا الأرض التي أحبوها حتى (ساعة) الموت.
لكل واحدٍ معارفه وبلده عزيز عليه، وهناك كانوا يُخنقون بمحبة بابل.
وعندما أشفق الرب ليوفر لهم البلدان، مزق اللسان، وعمرت بابل التي كانت مزدحمة.
يا لها من موهبة أتت مجانًا إلى الناكرين، ويا له من غنى عظيم أُرسل بالقصاص!
على من يفهم أن يعرف بوضوح بأن توزيع ألسنتهم كان موهبة.
وزع الله اللغات بين البشر، وهذه اللغات نفسها هي التي وهبها للرسل تلاميذه.
بدون تعليم ولا ممارسة، بالروح نطق التلاميذ بكل اللغات.
أُرسل هذا الغنى إلى التلاميذ ليتكلموا بألسنة جديدة دون أن يتعلموها.
أتكلم إذا عن البابليين وعن التلاميذ وعن بلبلة وعن توزيع ألسنتهم.
وأُلحِقُ خبر برج بابل بخبر العلية، فيصير ميمرًا مملوءًا حقيقة لمن يصغي إليه.

بابل رمز كنيسة بابل المختارة

إن كانت بابل وهي تعني "الارتباك" رمزًا للنفس المتشامخة ضد الله، فإن مار يعقوببابل المختارة"، أو "بابل العهد الجديد". في بابل الأولى قام الله بتأديب سكانها خلال بلبلة الألسن، لكن هذا التأديب هو هبة لنفع هؤلاء المقاومين له. وفي بابل الجديدة أو المختارة وهب الله تلاميذه التكلم بألسنة دون حاجةٍ إلى تعليم أو تدريب. غاية هذه العطية ليس استعراض قوة الروح، وإنما إعلان حب الله لكل الشعوب والأمم. إنه يود أن يقيم من كل الشعوب خورس تسبيح فريد، يتناغم الكل معًا بروحٍ واحدٍ وفكرٍ واحدٍ، وإن اختلفت الألسنة والثقافات. يستغل عبارة القديس بطرس الرسول (1 بط 5: 13) ليدعوا الكنيسة "
في العلية التي سماها بطرس الرسول كنيسة بابل المختارة،
سمع الألسنة التي تتكلم فيها بطلاقة فسجّلها: بابل التي فيها توزعت كل الألسنة.
الكنيسة المختارة الموجودة في بابل تهديكم السلام، أعني هذه التي ترتل بكل الألسنة.
هذه التي تعلمت السفر الجديد بدون قراءة، وهي مملوءة سعاة كثيرين بدون معلمين.
هذه التي تعرف أن تتكلم بكل الألسنة وتشبه بابل بالأصوات والكلمات والألسنة.
هذا فوج التلمذة الذي يرتل التسبيح كل يوم بألسنة جديدة دون أن يتعلم.
بطرس رأى التلاميذ وبلاغة ألسنتهم، وكان قد سمى جمعهم: بابل (1 بط 5: 13).

بابل والعلية

يصور القديس مار يعقوب التلاميذ والرسل في العلية أشبه بسجناء لا حول لهم ولا قوة، في حالة رعب من المقاومين لحق الإنجيل. لكنهم قادة جيوش تنتظر استلام السلاح الإلهي ? الروح القدس ? الذي يقودهم في معركة روحية تملأ العالم بالسلام الإلهي.
لو أقدر سأخلط في الميمر إذا: بابليين اثنتين، وأكرز غنى ألسنتهما.
الآن أتكلم عن العلية التي في أرض اليهودية، فهي أيضًا في خبرها بابل كما قلنا.
كان ربنا قد صعد إلى موضعه العالي، وظل التلاميذ، وتجمعوا في علية وهم خائفون.
نبح الصالبون - الذئاب الخاطفة على قطيع الابن، ومن فزعهم احتمى الخراف - الرسل بعضهم ببعض.
ارتفع النسر الإلهي إلى العلو، وظل فراخه مجتمعون كلهم في عشٍ واحدٍ منتظرين إياه.
كانوا ينتظرون تلك الهبة التي وعد بإرسالها بعدما يصعد إلى مرسِله.
كانوا ينتظرون أن يأتي الروح من عند الآب، ويعلمهم خبر الابن بوضوح.
صليب الآلام بددهم قبل أيام، وصعود الابن جمعهم إلى العلو.
كانوا بدون الراعي فزعين من القتلة الذين كانوا يهددون، وكانوا مجتمعين إلى أن يتم الوعد.
آل قيافا الأفاعي الملعونة نبحوا بتهديدٍ، فتجمع الرسل - الحمام - إلى العلية.
كانوا محتشدين في العش المبارك وهم خائفون، ومنتظرون تجلي الحقائق.
أمسكوا بعضهم بعضًا لئلا يتبددوا في البلدان إلى أن يروا مَن يُرسل وإلى أين (يُرسل)؟
كانوا قد أُمروا بألا ينتقلوا من أورشليم، وينتظروا موعد الآب كما سمعوا.
رافقوا الابن وهو يرتفع إلى موضعه العالي، وظلوا مثل اليتامى الذين فقدوا أباهم.
رأوا بالحقيقة قيامة الابن وتعزوا بها، وإذ كانوا يفرحون صعد وتركهم.
فرح التلاميذ لأنهم رأوا ربنا يغلب الموت، وحزنوا لأنه ارتفع عنهم.
على جبل الزيتون رأوا السحابة التي تحمله، والهواء كله مبتهج ومسرع للاحتفاء به.
والملائكة الذين خرجوا للقائه في ثيابهم البيضاء ليستقبلوه مثل الختن باحتفالٍ عظيمٍ.
عاد الرسل الندماء إلى العلية، وجلسوا كسجناء ينتظرون لكي يتفقدهم كما وعد.
تجمع قادة الجيوش الذين قصدوا ليخرجوا إلى البلدان إلى أن يأتيهم سلاح الابن.
حلول الروح القدس (أع 2: 1-13)

كان صعد ابن الملك عند أبيه ليرسل سلاح الروح لعبيده من عند أبيه.
قبل صعوده وأثناء ارتفاعه جمعهم ونفخ فيهم ليقبلوا منه الروح.
وعندما كان يذهب أكد لهم بأنه يرسل الروح القدس ليعلمهم الحقائق.
ألبسهم قوة الروح قبل أن يصعد، وبعد صعوده أرسل لهم كل السلاح، الذي به يجابهون العالم.
من هنا أعطى برهانًا بأنه يملك لكي يعطي، فأعطى عندما صعد، وعلّم بأن الآب متفق معه.
اجتمع التلاميذ في تلك العلية منتظرين تلك الموهبة كما كان قد وعد بإرسالها.

الروح القدس معلم الرسل

جاء السيد المسيح إلى عالمنا لكي يحملنا فيه، فنتعلم به وفيه ومنه، وننعم بالشركة في سماته، ونحمل بره. وكما يقول العلامة أوريجينوس إن المسيح هو الفضيلة. الآن بعد صعوده يرى مار يعقوب السروجي أن التلاميذ اجتمعوا في علية الابن (المسيح) أو بابل الابن حيث يقدم لهم روحه القدوس معلمًا، يعلمهم كتابًا جديدًًا (عهدًا جديدًا) بدون القراءة في كتبٍ.
حل الروح القدس عليهم في شكل ألسنة نارية، لا ليحترقوا بها، بل يستنيرون بلهيبها. علمهم كل لغات العالم في ذلك الحين حتى يكرزوا للجميع.

فجأة رعد صوت الريح القوي هناك على جمع مصاف الرسل.
امتزجت الريح بالصوت، والنار بالمنظر، فصاغا سلاحًا للتلاميذ وألبسهما لهم.
خرجت ألسِنة النار الحية من عند الآب،
اندلعت فوق رؤوسهم، وفي الحال شعروا أنهم أصبحوا أقوياء، أقوياء جسدًا وروحًا وحكمة.
استنارت عقولهم، ووضحت لهم حقائق الأمور.
علموا أن الروح القدس حلّ فيهم، وأصبح لهم المعلم والمرشد.
الضعفاء البسطاء، أصبحوا أقوياء وحكماء.
الصيادون غدوا معلمين وعلماء.
كانت تُسمع بغتة ريح مختبرة، فصارت معلمة، وعلمتهم كل الألسنة.
بنار الآب التي أُرسلت بحرارة استنارت أنفسهم، فبدأوا ينطقون بكل الألسنة.
استمر جميعهم يتكلمون بألسنة متنوعة، كما كان الروح يعينهم على الكلام.
إنه لقول عجيب عندما كانت ألسنتهم تُوزع في علية ? بابل - الابن كما (وُزعت) في بابل.
صار لهم الروح القدس معلمًا، وعلّمهم سفرًا جديدًا بدون قراءة الكتابات.
كان يُسمع صوت الريح فجأة، وكان يُعطى منظر النار كألسنة.
اغتنى الرسل البسطاء بالحكمة، واستنار الصيادون بكل الألسنة.
كلام جديد كان ينطقه التلاميذ، وكانت تُسمع من العلية أصوات مختلطة.
نار الأعالي مضطرمة في بني النور، ولم يكونوا يحترقون، لكن يستنيرون من اللهيب.
النار التي انحدرت كالألسنة اضطرمت فيهم، فأعطت لهم كلامًا جديدًا بكل الألسنة.
اقتنوا ألسنة النار والروح في العلية، فتكلم جميعهم بكل الألسنة كما في بابل.

يا للعجب!

علية صهيون أصبحت بابل الثانية.
أصبح التلاميذ يتكلمون مختلف اللغات.
أصوات متعددة الألسنة كانت تُسمع من العلية.
يا للعلية المباركة الجامعة، منك خرجت أول دفعة من المبشرين الأبرار.
وفيك حلّ الروح القدوس كألسنة من نار، وبكِ شقَّت أنوار الحق لتهزم ظلمات الباطل.

العلية هي مدرسة وبابل روحية وكنيسة مختارة

نالوا موهبة التكلم بالألسن ليس للكرازة فحسب، وإنما للتسبيح. فصار العالم كله مدرسة لبني النور، وخورس شبه سماوي للتسبيح. معركة روحية سلاحها سماوي.
أيتها العلية إن خبرك أسمى من بابل، ففيك توزعت كل الألسنة بدون سِفر.
جعلك الروح كمدرسة لبني النور، وفيك تعلموا كلام الشعوب وألسنتهم.
من العلية خرج فوج الإخوة اللابس السلاح ليجمعوا كل العالم.
فيكِ رتل الروح القدس ألحانًا جديدة بكل الألسنة التي توزعت بسخاءٍ.
صرتِ للرسل كمنجب (كمنتج أو كوالد) سلاح، ومنكِ لبسوا قوة الروح لإخضاع الهمجيين.
منك استنارت كل المسكونة التي كانت مظلمة، لأن الرسل ملأوا الأرض كأشعة النور.
صرت أيتها العلية صاحبة الكنوز للشعوب، ومنك اغتنت البلدان المحتاجة.
فيك توزع غنى الآب للعالم بأسره، ومنك سدّ جميع المعوزين احتياجاتهم.
بكِ كمل وعد المعمودية، لأن جميع التلاميذ اعتمدوا فيك بالروح القدس والنار.
هل اسميك بابل؟ إن ما حدث فيكِ ليس بلبلة، لقد غلبتِ بابل بنغم كل الألسنة المحبوب.
هناك تبلبلت ألسنتهم بالقصاص، أما فيك فقد وزع الروح كل الألسنة بمحبة.
إذا أسميك بابل الروحية، والكنيسة المختارة التي ترتل التسبيح بكل الألسنة.
 
قديم 09 - 06 - 2014, 02:19 PM   رقم المشاركة : ( 4530 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,860

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

العنصرة - حلول الروح القدس على التلاميذ






وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة









هو عيد عظيم يحوى فى ذاته أسرار عظيمة من العهدين وقد كان من أعياد اليهود الثلاثة الكبيرة ( الفصح والحصاد والمظال ) حيث كان يسمى عيد الحصاد عيد الاسابيع ( خر 34 : 22 ) وسمى فى العهد الجديد : يوم الخمسين ( أع 2 : 1 , 20 : 16 , 1كو 16 : 8 ) وهو آخر سبعة أسابيع بعد اليوم الاول من أيام الفطير



( خر 23 : 16 .. راجع لا 23 : 35) ( خر 23 : 14 ? 17 ) .. وسمى عندهم عيد الجمع ( خر 24 : 22 راجع لا 23 : 34 ) صنع تذكارا لقبول موسى الشريعة التى وضعت أساسا لسياسة الشعب الدينية والمدينة عند مدخل أرض الميعاد وتخلص من العبودية ... وكانوا يكرسون هذا التذكار شاكرين الله لانتهاء الحصاد الذى يبتدئ فى جمع أبكار غلات لاحقل( خر 23 : 16 , لا 23 : 10 -11 ) وفيه كان يقربون فى الهيكل النقد ملات العديدة عن الخطية بخبز ترديد

( لا 23 : 17 , 20 ) كما أنهم كانوا يعيدونه بفرح عظيم اذ كان يذهب للاحتفال به فى أورشليم اليهود المشتتة فى جميع أقطار الأرض ( 1 ع 2 : 5 ) . <h1 class="rtecenter">كان هذا العيد فى العهد القديم رمزا لما صنعه السيد للجنس البشرى والكنيسة تحتفل به تذكارا لتلك الاعجوبة لاعظيمة التى قدست العالم وفتحت طريق الايمان وقدست الرسل بنوع خاص وهى حلول الروح القدس على جمهور التلاميذ يشبه السنة نار منقسمة كأنها من نار استقرت على كل واحد منهم بينما كانوا مجتمعين للصلاة بنفس واحدة فى العلية فى يوم لاخمسين ( أع 2 : 1 ? 4 ) .

أن أصل وضع هذا العيد فى الكنيسة يرجع الى الرسل أنفسهم وتدل شهادات الكتاب وأقوال الاباء والتاريخ على أن الرسل وضعوه واحتفلوا به ... كما سنرى :

اولا : ان الرسول بولس بعد أن مكث فى أفسس أياميا ودع المؤمنين وأسرع بالذهاب الى أورشليم قائلا لهم : على كل حال ينبغى أن اعمل العيد القادم فى أورشليم ( اع 18 : 31 ) ..

وكاتب الاعمال قال ( انهم لما جاءوا الى ميليتس عزم بولس أن يتجاوز الى أفسس فى البحر لئلا يعرض له أن يصرف وقتا فى آسيا لأنه كان يسرع حتى اذا أمكنه يكون فى أورشليم فى يوم الخمسين ( اع 20 : 16 ) ثم أنه لما كان فى اسيا وعد مؤمنى كورنثوس بالحضور عندهم بعد أن يعيد عيد العنصرة

( 1 كو 16 : 7 , 8 ) .

ثانيا : قد امر الرسل بالاحتفال به كما يتضح من أقوالهم وهى : ( ومن بعد عشرة أيام بعد الصعود : فليكن لكم عيد عظيم لانه فى هذا اليوم فى الساعة الثالثة أرسل الينا يسوع المسيح البار اقليط ( لفظة يونانية ) أصلها باراكليطون ومعناها المعزى ( يو 16 : 26 ) الروح المعزى امتلانا من موهبته وكلمنا بألسنه ولغات جديدة كما كان يحركنا وقد بشرنا اليهود والامم بأن المسيح هو الله ( دستى 31 ) ..

ولا تشتغلوا يوم الخميس لان فيه حل الروح القدس على المؤمنين بالمسيح

( رسط 66 و 199) .

ثالثا : أما أقوال الاباء والتاريخ فهى تثبت أنه تسليم رسولى .. فاورجانوس قال أنه تسليم من الرسل أنفسهم ( ضد مليتوس ك 8 وجه 19 ) ويوستيوس اشهيد

( راجع تاريخ آوسابيوس 4 ف 5 ) وآغريغوريوس فى مقالته على العنصرة .. وعليه أجمعت سائر الكنائس الرسولية فى العالم . والبروتستانت أيضا يشهدون بمناقلناه كما اتضح من أقوالهم التى ذكرناها عند التكلم عن عيد القيامة المجيد ونزيد عليه هنا ما قاله صاحب ريحانه النفوس وهو : ( بما أن تاسيس الكنيسة المسيحية من وقت أن فاض الروح القدس وآمن به 3 الاف نفس فى يوم واحد يستحق هذا الحادث العظيم أن يذكر عوض القصد الاصلى الذى رتب لاجله عيد الفصح اليهودى

( صحيفة 14 , 15 ) ..

الى أن قال : ود جمعنا هذين العيدين

( القيامة والعنصرة ) لانهما رتبا فى زمان واحد فى القرن الاول

( صحيفة 15 ) .

</h1>
 
موضوع مغلق


الانتقال السريع


الساعة الآن 01:58 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024