منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 25 - 06 - 2014, 12:57 PM   رقم المشاركة : ( 31 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,299,719

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

هل ندرك سرّ معموديّتنا؟؟؟
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

في معموديّتنا نعلن أنّنا مائتون عن العالم وأحياء بالمسيح. فالشهادة إحياء لوعينا الخامل بتعهُّدنا في جرن المعموديّة. لقد تركنا إنساننا العتيق غريقًا في جرن المياه وخرجنا بالجسد الجديد الفاخر الذي يتجمَّل بالروح ليشابه صورة الابن. من تعمّد فهو ميّت عن العالم، والمائت لا يخشى موتًا.
لقد كان المسيحيّون في بيرو Peru عرضة للهجمات في ظلّ الحرب الأهليّة بين الحكومة والعصابات المتمرّدة. وكما يقول أحدهم: “لكي تكون مسيحيًّا هنا يجب أن تدرك أنّك ميّت بالفعل في المسيح. ما أن تدرك هذا، حتّى يكون كلّ يومٍ يمرّ عليك مكسبًا. إن بقيت حيًّا هنا لمدة سنة، يكون الله أهداك سنة كاملة لتشهد، ليس فقط بالكلام، بل بالأعمال أيضًا”.
لقد قبلنا المسيح في مياه المعموديّة وخرجنا فيه إلى الحياة الجديدة، لذا يكتب القديس بولس بغيرة على التقوى، فيقول: «فَكَمَا قَبِلْتُمُ الْمَسِيحَ يَسُوعَ الرَّبَّ اسْلُكُوا فِيهِ» (كو1: 6). سلوكنا الجديد يشهد لكيفيّة قبولنا للمُخلِّص. إن قابلناه في المياه ونحن مائتون وأخذ بيدنا ليقيمنا ويجدّدنا بنصرة القيامة، كان سلوكنا لا يخشى موتًا ويترجّى اكتمال الحياة الأبديّة في قلوبنا.
لذا فإنّ ميلادنا الجديد هو ميلاد من رحم الرجاء السماوي. نحن مولودين ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات. في المسيحيّة، الرجاء حيّ وهو يحيي فينا قوة القيامة. إنْ متنا معه، سنقوم فيه، هذه هي دعوتنا العليا التي لا يستطيع عالم اللّحم والدم أن يستوعبها. ميراثنا في آفاق الأبد.. ميراث ملؤه البهجة.. لا يفنى ولا يتدنّس ولا يضمحل. ميراثنا المُخلِّص. هو يقف مترقبًا نتائج امتحان الإيمان ومحنته في تجارب العالم، ليُكلّلنا بالمجد.
لقد صرخت الشهيدة أجاثونيكا (من برجاموم بآسيا الصغرى. 165م)، أثناء استشهاد كاربوس، حينما عاينت مجد الربّ وأدركت نداء السماء، قائلة: “تلك الوليمة أُعدّت من أجلي. عليَّ أن اشترك بها. يجب أن أقبل وليمة المجد”. وانطلقت لتُسمَّر على خشبة وتُحرق بالنار وهي تتهلّل. بل لقد تركت طفلها موقنة أن الله سيعتني به، وذهبت لتشرب كأس الخلاص في ملكوت الله.
قد يرى الأعداء أنّهم يؤذوننا ولكنّهم لا يعلمون أنّهم يزكّون فينا غيرة الإيمان لكيما يخرج من بوتقة النار، مُطهَّر.. مشرق.. لامع.. يصلح لملكوت الطهر السماوي.
إن ألقوا بحجارة ليرجموننا ستصير نصبًا يشهد لقوّة الإيمان وثباته، يُثبِّت الأجيال القادمة في محبّة المسيح.
إن أعرضوا بوجوههم عنّا وتجاهلونا وهمّشونا في الحياة، سنرى وجه يسوع مشرقًا يؤكِّد لنا ميراث الغلبة ومجد الملكوت في معيّته.
إن سلبوا ما لنا وصادروا ممتلكاتنا، سيرتفع رصيدنا السمائي وستعلو مكانتنا بالقرب من العرش.
إن أشهروا السيوف وسلّطوها على رقابنا سنقدِّم رقابنا ذبيحة حبٍّ من أجل العالم لنربح على كلّ حال قومًا؛ في حياتنا وفي موتنا.
إن دمّروا كنائسنا سيُصيِّر الروح، قلوبنا، هياكل، تصدح فيها تسابيح الغلبة والخلاص.
حينما هدّد أحد الجنود مسيحيي بيرو أنّهم سيهدمون الكنائس ولن يبقوا فيها حجرًا على حجرٍ، ابتسموا، وقال أحدهم: “المسيح في قلبي لا يمكن لكم أن تنتزعوه”.
لا شيء يؤذي المسيحي.. لا شيء.. فحياته المسيح وألمه المجد وموته الملكوت..
مَنْ يقدر أن يؤذينا؟؟!! صرخة أطلقها القديس يوحنّا الذهبي الفمّ ولا زال صداها يزلزل عروش الظلمة التي تبعث برسائل الإرهاب لجمع الحمل.
كتب القديس غريغوريوس اللاّهوتي، في خطابه الأوّل ضدّ يوليانوس: “لأنّنا كلّما تضايقنا، صرنا أشدّ تمسُّكًا بحبّ الغلبة، وسنقف صفًّا مرصوصًا ضدّ الطغيان مأخوذين بحرارة الإيمان.. مثلنا مثل الشعلة، كلّما هبّت عليها الريح، كلّما ازدادت اشتعالاً.. [إنّ] الاضطهادات السالفة جعلت المسيحيّة، بسرعةٍ شديدةٍ، قوّة يُحسب حسابها، بدلاً من أن تضعفها، إذ قويت النفوس بالإيمان، وصارت أكثر صلابة من الحديد المُحمّى بالنار والمسقي بالماء”.
وكذلك بنفس الروح قال أحدهم: “نحن المسيحيّون مثل المسامير، كلّما قرعتنا بشدّة ازددنا عمقًا في الربّ. نحن المسيحيّون مثل الأزهار كلّما سحقتنا بشدّة اشتدّت وفاحت رائحتنا. نحن المسيحيّون مثل كرات المطّاط كلّما قسوت في قذفنا إلى أسفل كان ارتدادنا إلى أعلى أكثر علوًّا”.
إن الكنيسة لا تعاني خوف الموت بل تتجاسر على الموت لتقول له بصوت المسيح:
أين شوكتك يا موت؟؟ هيا اغرسها في الجسد ولكنّها لن تصل لعمق الروح.
أين شوكتك يا موت؟؟ التي تُعلِّق عليها راية الإرهاب السوداء المزيّنة بجماجم أسرى الدهور، فرايتك تمزّقت وارتفعت مكانها راية الخلاص على ركام الزمن.
أين شوكتك يا موت؟؟ تلك التي تقتل بها الرجّاء في قلوب البشر، فضوء القيامة أشرق ومعه رجاء حي لا يموت في قلوب شعب الله.
أين شوكتك يا موت؟؟ تلك التي أخذتها من جسد اللعنة الأولى، فبرّ المسيح أمات اللّعنة على الصليب، مُطْلِقًا أنهار نعمته على أحبّائه في قفار العالم.
أين شوكتك يا موت؟؟ التي تجرح بها إنسان العالم الملوّث بالخطيئة والشهوة، فيد المسيح الممدودة على الصليب تحتضن خطاة العالم وترسلهم أصحّاء بطُهر الغفران.
فيا لمجد الكنيسة التي يمتحن إيمانها فتوجد صامدة على صخرة هي المسيح..
يا لفرحها حينما يبوَّق في الأرض وتجتمع أرواح القدّيسين، وهي مشرقة بإشراقة المُخلِّص فيها..
يا لفخرها حينما تترائَى أمام الجمع السمائي مُكلّلة بالدماء، والجمع يسأل: «مَنْ هَذِهِ الطَّالِعَةُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ كَأَعْمِدَةٍ مِنْ دُخَانٍ مُعَطَّرَةً بِالْمُرِّ وَاللُّبَانِ وَبِكُلِّ أَذِرَّةِ التَّاجِرِ؟» (نش3: 6).
إنّ كنيسة الله الحيّة تُقدِّم أعضاءها طواعية على مذبح الخضوع لملك الملوك، ليشفعوا فيها، ويتضرّعون من أجلها، ويهبّون لحشد ملائكة الله لنجدتها. وعوض أعضاءها المبتورة يُنْبِت لها الروح أعضاءً جُدد.. فتبقَى خضراء.. غضّة.. حتّى موعد لقاء المُخلِّص..
إنّ الكنيسة بسبب محبّتها لله
ترسل نحو الآب في كلّ مكانٍ وزمانٍ
جماهير من الشهداء..
الكنيسة وحدها تحتمل بنقاوة عار المطرودين من أجل البرّ،
والمعذّبين بكلّ نوعٍ حتّى الموت،
من أجل محبّتهم لله واعترافهم بابنه.
وإن كانت في كلّ حينٍ تُعرَّض للبتر والتشويه،
إلاّ أنّها سرعان ما تنمّي أعضاءها من جديد
وتستعيد كمالها.
(القديس إيريناؤس)
لقد كانت بصيرة الرسل منفتحة على الملكوت حينما رجعوا مجلودين مثخنين بالجراح، إذ رأوا أنّ الألم من أجل الربّ هبة لا يستحقونها. انطلقوا فرحين. فرحٌ يُحلِّق فوق أنين الجسد وجراحه. فرحٌ لا يستطيع خوفٌ أن يُرسِّم له حدودًا أو يضع له سدودًا. أفراح المسيحي ترفعه فوق الضيق الحاضر إلى حضن الآب.
في كتابه Arrested in the Kingdom، يشرح أوزوالدو ماجدانجال (مسيحي فلبّيني) ما حدث له بعد أن قُبض عليه وتعرَّض لضربٍ مبرح. عاد إلى زنزانته وصلّى لمدّة خمس ساعات متّصلة وهو يُسبِّح على شركة الألم التي وهبها له المسيح، بعدها: “أضاء نور بغتةً. امتلأت الزنزانة بسحابة مجد الله. كان حضورًا محسوسًا. ركع على ركبتيه ولمس جبيني، وقال لي: ‘يا بني، لقد رأيت كلّ شيء، لذلك أنا هنا. اطمئن لأنّي لا أتركك أو أهملك إلى أبد الأبدين’.”
قد تنثال المحن على الكنيسة وقد تضرب الرياح قاربها وتهتاج الأمواح عليها ويغطيها ضبابٌ ليحجب عنها رجاء الميناء، ولكن، كما قال المُخلِّص: «أَنَا هُوَ، لاَ تَخَافُوا» (يو6: 20). المياه والأمواج والعواصف لن تعوقه عن عوننا. سيأتي ليطأ تلك المياه التي ترهبنا.. ويبكم عصف الرياح بنظرة إرادته الإلهيّة.. سيصير سكون. السكون قد يكون في قلوبنا وسط العواصف أو في العواصف التي تحيط بقلوبنا.. هو هو سكون الخلاص وقوّته.
قال أحدهم:
أحيانًا يُهدّئ الله العاصفة
وأحيانًا يدعها تثور ويُهدِّئ ابنه
قالها لنا المسيح بصوتٍ أبدي ليبثّ في قلوبنا حسّ الشجاعة المسيحيّة: «لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَبَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يَفْعَلُونَ أَكْثَرَ» (لو12: 4) نحن لسنا أجساد مُجرّدة. إنْ جُرح الجسد من أجل المسيح، التئمت أرواحنا في روح إلهنا حتى الالتصاق بالربّ. إنّ تجسّدت الكراهيّة أمامنا، تولّد الحبّ في قلوبنا. لكلّ فعل شيطاني، ردّ فعل إلهي فائق، إن أثبتنا أنّنا بالحقّ نحبّه. إنْ شهدنا له يعني أنّنا شاهدناه يتعشّى في قلوبنا. ومَنْ يشاهد المُخلِّص يُسبى حبًّا ولو إلى الجلجثة.
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 12:58 PM   رقم المشاركة : ( 32 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,299,719

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

أقنعة الألم
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

دعنا نفكر معًا، الجسد عُرضة للمرض والألم والوهن والحوادث، وكلّها آلام إنسان العالم. ولكنّ نعمة المجد تأتينا في وادي البكاء والدموع.. وادي الألم، لترفعنا من وهاده السحيقة المظلمة. إنسان الله ترفعه النعمة من ألم الاضطهاد إنْ رفع عينيه إلى السماء من حيث يأتي العون الإلهي، أمّا إنسان العالم يعاني ألم الحياة دونما عزاء.
المشقّات تأتي للجميع،
ولكن الاختيار دائمًا لنا.
الألم والمعاناة لا مفرّ منهما،
ولكن البؤس أمرٌ اختياري
يخشَى البعض من الضيقة، لئلا يطالهم جرح الأعداء، وينسون أنّ المرض يجرح الجسد كما السيف. طلقات الأعداء تُهشِّم الجسد في لحظات، وكذلك المرض. أيّهما أكثر تألمًّا؛ مريض السرطان الذي يعمل المرض في جسده كمشارط حادّة، أم ألم قذيفة تنفجر في جسد مسيحي؟!!
ألم الموت في حادثة على طريق لا يختلف عن ألم الموت في حدث يستهدف المسيحي.. كلاهما يتألَّم، دون النظر عن دوافع الحدث أو الحادث. ولكن ما أبهَى الألم المُطعَّم بجواهر الشهادة للربّ.
الألم الجسدي له وجهان: أحدهما بقناع المرض والآخر بقناع الضيقة والاضطهاد. كلاهما ألم، بيدْ أنّ الآلام برفقة يسوع أشهى من سلامة العالم الزائفة.
اخْتَرْتُ الْوُقُوفَ عَلَى الْعَتَبَةِ فِي بَيْتِ إِلَهِي
عَلَى السَّكَنِ فِي خِيَامِ الأَشْرَارِ
(مز84: 10)
إنّ الاختبار الفعلي والدقيق لمدى تأصُّلنا في المسيح ومدى سريان حياته في أعماقنا هي ردّة فعلنا تجاه الألم. الألم قد يصبح شبحًا تتراجع أمامه وعود الحياة بالسير مع المخلِّص ولو إلى جسثيماني، وقد يُصبح لآخرين دفعة شديدة لعناق الصليب ومن ثمّ عناق المسيح.
علينا ألاّ نحاول تحليل الألم ومحاولة فهم منطقه ومنطق مُطلقيه؛ لن نصل إلى شيء، فهو قانون الحياة؛ يأتي لغير المسيحي مختبئًا في المرض أو الموت.. ويأتي للمسيحي ظاهرًا في الاضطهاد. إنْ قبلنا الألم تنقّت قلوبنا وتحرّرت من الشهوة..
إنّنا لا نخشى الاضّطهاد.
في الواقع نحن نرحّب به لأنّه ينقّينا
(شهادة من كوبا إبّان الاضطهاد)
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 01:00 PM   رقم المشاركة : ( 33 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,299,719

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

على مَنْ نلقي رجاءنا؟
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

إجابة الكتاب لذلك التساؤل واضحة: «مَلْعُونٌ الرَّجُلُ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَى الإِنْسَانِ وَيَجْعَلُ الْبَشَرَ ذِرَاعَهُ وَعَنِ الرَّبِّ يَحِيدُ قَلْبُهُ» (إر17: 5). البشر لا يستطيعون أن يعينوا من استهدفه الشيطان. صراعنا مع السلاطين مع الرئاسات مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر.. صراعنا على حيازة الروح، وإن كان للجسد نصيبه في المعركة.
على مَنْ نستند؟ على ملوك العالم وقادته وحكوماته ومنظمّاته؟!! أم على المُخلِّص؟ المرتل في المزمور أنشدها ورتّلها: «أَسْنِدْنِي فَأَخْلُصَ» (مز119: 117)؛ خلاصنا مرهون بسند الربّ وليس آخر.. لن نعاين الملكوت إن استندنا على آخر غير محبوب النفس. بل إنّ الجمع السمائي لا يتعرّف إلاّ على مَنْ استند على الربّ حتّى النهاية؛ «مَنْ هَذِهِ الطَّالِعَةُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ مُسْتَنِدَةً عَلَى حَبِيبِهَا؟» (نش8: 5)
قالها الربّ لشعبه قديمًا، على لسان إشعياء، حينما أراد الشعب أن يفرّ ويتحصّن بالبشر عوضًا عن الربّ:
وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَنْزِلُونَ إِلَى مِصْرَ لِلْمَعُونَةِ (الاتّكال على قوى العالم)
وَيَسْتَنِدُونَ عَلَى الْخَيْلِ (الاتّكال على السلاح والعتاد)
وَيَتَوَكَّلُونَ عَلَى الْمَرْكَبَاتِ لأَنَّهَا كَثِيرَةٌ
وَعَلَى الْفُرْسَانِ لأَنَّهُمْ أَقْوِيَاءُ جِدّاً (الاتّكال على الجيوش)
وَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى قُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ وَلاَ يَطْلُبُونَ الرَّبَّ..
وَأَمَّا الْمِصْرِيُّونَ فَهُمْ أُنَاسٌ لاَ آلِهَةٌ
وَخَيْلُهُمْ جَسَدٌ لاَ رُوحٌ.
وَالرَّبُّ يَمُدُّ يَدَهُ
فَيَعْثُرُ الْمُعِينُ وَيَسْقُطُ الْمُعَانُ وَيَفْنَيَانِ كِلاَهُمَا مَعاً.
لأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ لِي الرَّبُّ:
كَمَا يَهِرُّ الأَسَدُ وَالشِّبْلُ فَوْقَ فَرِيسَتِهِ هَكَذَا يَنْزِلُ رَبُّ الْجُنُودِ لِلْمُحَارَبَةِ عَنْ جَبَلِ صِهْيَوْنَ وَعَنْ أَكَمَتِهَا.
كَطُيُورٍ مُرِفَّةٍ هَكَذَا يُحَامِي رَبُّ الْجُنُودِ عَنْ أُورُشَلِيمَ.
يُحَامِي فَيُنْقِذُ.
يَعْفُو فَيُنَجِّي..
وَيَسْقُطُ أَشُّورُ بِسَيْفِ غَيْرِ رَجُلٍ (بغير قوى العالم)
وَسَيْفُ غَيْرِ إِنْسَانٍ (بدون أسلحة العالم) يَأْكُلُهُ
فَيَهْرُبُ مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ..
وَصَخْرُهُ (قوّته المرعبة) يَزُولُ مِنَ الْخَوْفِ،
وَمِنَ الرَّايَةِ (راية خلاص الربّ) يَرْتَعِبُ رُؤَسَاؤُهُ،
يَقُولُ الرَّبُّ الَّذِي لَهُ نَارٌ فِي صِهْيَوْنَ وَلَهُ تَنُّورٌ فِي أُورُشَلِيمَ
(إش31: 1-9)
مَنْ يُحارَب من الشيطان؟؟ هل نُحارَب نحن الضعفاء العاجزين؟؟ كلاّ، يقول الربّ، إنّه: «يُبْغِضُنِي أَنَا، لأَنِّي أَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّ أَعْمَالَهُ شِرِّيرَةٌ» (يو7: 7). لا يحتمل الدنس سيرة الطهارة، ولا يحتمل الكذب صوت الحقّ، ولا يحتمل الظلم نصرة البرئ، ولا تحتمل البُغضة إشراقة الحبّ.. لا تستطيع الظلمة أن تقف صامته لترك النور يغزو العالم.. تحاربه لأنّه يشهد على أعمال الظلمة الشريرة.. والناس أحبّت الظلمة أكثر من النور لأنّ أعمالهم شريرة.. لذا مَنْ يحاربوننا هم تكتُّل ظلمة العالم وشرّه.
إنّ الظلمة تريد تحويل العالم أجمع إلى مقبرة للأحياء، يحيون فيها بالجسد بينما أرواحهم موتى ووعيهم أسير الشهوة، لا يرى ولا يعرف النور. الحرب دائمة بين جنود النور وعسكر الظلام.. نصرة النور قد تكون غير واضحة للجمع الأرضي لأنّ أفراحها في السماء، ولكن نصرة الظلم ظاهرة لأنّ مجالها الجسد والعالم والزمان الحاضر..
فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ وَلَكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ
(يو16: 33)
هل نُصدِّق نصرة المسيح وندخل لنعاينها في مخادعنا أم نُصدِّق نصرة الشرير حينما نبصرها في طرقات العالم؟؟؟
الْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ،
وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ
(1يو2: 17)
هل معنى هذا ألاّ نطالب بحقوق مشروعة أهدرها الظلم؟؟
كلاّ بالطبع، ولكن أن نفهم العدو الحقيقي والمعين الحقيقي يجعلنا مُتّزني الإيمان وسط الضيقة. أنْ نطالب لا يعني أنْ نتخلَّى على سلامنا المسيحي.. ولا نفقد حبّنا المسيحي. أنْ نطالب لا يعني أن نقابل الإساءة بالإساءة والجرح بالجرح. أن نطالب لا يعني أن نستلهم معارضة ثوريّة عنفيّة تقيم حقوقها على دماء الآخرين. أن نطالب لا يعني أن نقول كفى للصليب نريد الراحة!!! وقتها قد ننال راحة ولكننا سنفقد معها مجد الصليب.
الله هو الذي يُحرِّك البشر يجب أن تكون تلك هي عقيدتنا. نطلب من الله أن يعمل ولو بأيدي البشر.
ولكن قلوبنا يتحرّك فيها غضبٌ وقهرٌ وشعورٌ بالظلم، كيف نواجهه لنبقَى مسيحيين؟؟
إنّه عمل النعمة ووقتها..
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 01:03 PM   رقم المشاركة : ( 34 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,299,719

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

نحو الله
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

ولما قال هذا ارتفع وهم ينظرون وأخذته سحابة عن أعينهم.
وفيما كانوا يشخصون الى السماء وهو منطلق اذا رجلان قد وقفا بهم بلباس ابيض.
وقالا ايها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون الى السماء إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم الى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقا الى السماء.
(أع1: 9-11)
من أروع عبارات الإنجيل قاطبة، بالنسبة لي، هي قول القديس يوحنا في مستهل إنجيله: “الكلمة كان نحو الله” πρὸς τὸν θεόν. إنّ إعلان الإنجيل عن الله يمكن أن يكون تعبيرًا عن تلك الحقيقة. فالابن نحو الآب في علاقة أقنوميّة فريدة، ولكنه ليس نحو الآب كتطلُّع لمثال أعلى، ولكنّ الـ“نحو” هي تعبير عن العلاقة المتحرّكة بين أقانيم الثالوث. إن كون الابن نحو الآب يجعل من الآب نحو الابن والروح القدس نحو الآب والابن. العلاقة جسّدها روبيلوف في أيقونة الثالوث الروسيّة الشهيرة، في شكل الملائكة الثلاث، الذين يتطلّعون بأعينهم نحو بعضهم البعض.
إنّ الصعود يُفهم من تلك الحقيقة، أنّ الابن نحو الآب. فالصعود هو تعبير عن الحالة الأصليّة من العلاقة التي لم يدركها البشر؛ علاقة الحب المتبادل بين الثالوث. الابن يصعد إلى الآب، أو بالحري يُرفع إلى الآب lifted up لأنّ الابن كائن عند الآب منذ الأزل، وباقٍ معه إلى الأبد. فالوجه المنظور للعمل الخلاصي قد تمّ، وينبغي أن يتمّ الإعلان عن اكتمال العمل من خلال صعود المسيح وهو حامل طبيعتنا البشريّة المفتداة والمُقدَّسة في جسده الإلهي.
إنّ الصعود من هذا المنطلق هو حلقة من حلقات العمل الخلاصي؛ فما قد تسلّمه المسيح، طبيعة خاطئة، يرتفع به إلى الآب طبيعة مُبرَّرة متجدِّدة، في ذاته. كانت الذبائح في العهد القديم تُصعد من على مذبح المحرقة، أي أنّ دورة التطهير لا تنتهي عند الذبح ولكن عند الإصعاد، إذ يشتمها الله رائحة رضى، فيعفو. رائحة ذبيحتنا كانت عطر المسيح الذكي الذي يجد فيه الآب كمال عبق الحبّ، فهو الحبّ المُتجسِّد، ليرفعنا إلى ملء الحب في شركة الثالوث.
من آمن بالمسيح وقبل شركته، دخل في جسده الصاعد إلى الآب، ومن ثمّ صار معروفًا لدى الآب من خلال الابن، إذ يرى انعكاس صورة المسيح فيه، فيصير مقبولاً على الفور.
إنّ صعود المسيح هو تعبير عن “نحو الله” التي نقلها لنا القديس يوحنّا عن الروح. إنّه يصعد بنا ومن أجلنا، ويعطينا إمكانيّة الصعود إلى الآب، وبل ويهبنا تلك الحركة الديناميكيّة، في ذاته، والمعبّرة عن حركة الملكوت في قلوبنا. حينما تجسَّد المسيح، كان يستهدف تلك اللّحظة التي يرتفع فيها بالبشريّة إلى الآب. الصعود هو تعبير عن محبّة لا ترضى أن يبقى الإنسان أسير الأرض أبدًا، يدور في فلكها ويتدثّر بترابها عند الممات.
لذا فإنّ أي عمل إنساني إن لم يتمّ إصعاده إلى الآب لن يكون مقبولاً كقوّة ملكوتيّة مالكة على قلب الإنسان وفاعلة فيه. الصلاة إن كانت تعبيرًا عن ذواتنا وليست صعيدة حبّ واحتياج للآب صارت كذبيحة لم تُقدَّم على المذبح أي أنها صارت حيوان مذبوح لإطعام الجسد لا أكثر ولا أقل. والحبّ إن لم يكن صعيدة صار ملمحًا اجتماعيًّا يدور في فلك المقايضة والمبادلة والاحتياج المقابل، وفقد شرط اللاشرطيّة في الحبّ، ومن ثمّ تحوَّل إلى تبادل للمنافع الوجدانيّة.
آخر ما قاله المسيح قبيل صعوده أنّ تلاميذه سيشهدون له، حينما يقبلوا الروح القدس، في كلّ مكانٍ من المعمورة. أوليس إعلان المسيح يستهدف دفع العالم نحو الله أو بالأحرى صعوده نحو الله. من صعود المسيح نقبل رسالتنا أن نصمد كنور في العالم آملين وعاملين من أجل صعود العالم نحو الله في المسيح يسوع..
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 01:04 PM   رقم المشاركة : ( 35 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,299,719

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

النعمة الحاضرة على الدوام
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

«أَلْقُوا رَجَاءَكُمْ بِالتَّمَامِ عَلَى النِّعْمَةِ» (1بط1: 13)،
تلك هي الدعوة المتجدّدة التي يُقدِّمها الروح على لسان القديس بطرس في رسالته الأولى، لنا ولكلّ من هم في تضييق من الشرّ. النعمة تحمل الضعيف، وتقوّي الخائر، وتثبت المرتعش، وتميت الخوف، وتُحيي الرجاء، وتفتح البصيرة، وتشير للمجد، بل وتسكنه في قلوبنا، كعربون.
ليس شيء قط يوازي تألق النفس
التي حُسبت أهلاً لأن تتألم من أجل يسوع المسيح،
مهما كانت الشرور التي تأتي وتنصبُّ عليها
(القديس يوحنّا الذهبي الفم)
النعمة تهمس في آذاننا على الدوام: أنتم غرباء ونزلاء، فلا تستوطنوا الأرض ولا تجعلوها تستوطن قلوبكم، لا تلقوا بجذوركم فيها، فتُقتلع مع رياح الشرّ التي تضرب الأرض ليل نهار، لا تخافوا إن ذرَّت رماد قسوتها في أعينكم لأن موطنكم هو السماء.. موطنكم هو الأبد.
إنّ النعمة قادرة على معونتنا لا من خلال وقف سيل الاضطهاد ولكن برفع الروح إلى العُلى، لرؤية موطنها الأبدي. «أَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً» (في1: 23)؛ هذا لسان حال الروح التي تلهبها النعمة بشوق الملكوت وسط نيران الضيقة. الألم يفقد قدرته على غربلة قلوبنا إن كنّا نئن مشتاقين لكيما يُبْتَلَع الموت من الحياة، ليلبس الفاسد عدم فساد. اشتياق الانحلال من الجسد والسكنَى في الربّ هي مشورة النعمة لنا وكلماتها التي تحفرها في قلوبنا، وقتها نهتف مع القديس بولس بملء القوّة التي ترتعش لها قوى الظلام:
مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟
أَشِدَّةٌ أَمْ ضَيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ.
قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ.
وَلَكِنَّنَا فِي هَذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا.
فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ وَلاَ مَلاَئِكَةَ
وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً.
وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى
تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا
(رو8: 35-39)
قد يرفضنا الناس ويضايقوننا ويهينوننا ويضطهدوننا بل ويسعون لإبادتنا ولكن الروح يقول لنا: إن كنتم حجرًا مرفوضًا من الناس، لكنكم حجرٌ مختار وكريم في عين الله. الله هو مقياسنا لا العالم.
وَلِذَلِكَ يَنْتَظِرُ الرَّبُّ لِيَتَرَأَّفَ عَلَيْكُمْ
وَلِذَلِكَ يَقُومُ لِيَرْحَمَكُمْ لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهُ حَقٍّ
طُوبَى لِجَمِيعِ مُنْتَظِرِيهِ
.. لاَ تَبْكِي بُكَاءً
يَتَرَأَّفُ عَلَيْكَ عِنْدَ صَوْتِ صُرَاخِكَ
حِينَمَا يَسْمَعُ يَسْتَجِيبُ لَكَ
وَيُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ خُبْزاً فِي الضِّيقِ وَمَاءً فِي الشِّدَّةِ
لاَ يَخْتَبِئُ مُعَلِّمُوكَ بَعْدُ بَلْ تَرَى عَيْنَاكَ مُعَلِّمِيكَ
وَأُذُنَاكَ تَسْمَعَانِ كَلِمَةً خَلْفَكَ قَائِلَةً:
هَذِهِ هِيَ الطَّرِيقُ. اسْلُكُوا فِيهَا
(إش30: 18-21)
ولكن النعمة لا تأتي إلاّ بنداءٍ.. ونداؤنا للنعمة هو صلاة..
  رد مع اقتباس
قديم 26 - 06 - 2014, 12:51 PM   رقم المشاركة : ( 36 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,299,719

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

لماذا الآباء

إنّ الباحث في نصوص الآباء وخاصّة في لُغاتها الأصليّة أو حتّى في اللُّغات الغربيّة التي تُرجِمَت إليها، فضلاً عن الاطّلاع على الأبحاث والدراسات الخاصّة بالشأن الآبائي، يُدْرِك أوّل ما يُدْرِك أنّ ما وصل إلى أيدينا من نصوص أقل بكثير ممّا فُقِد، لذا أصبح لزامًا علينا أن نرتشف ممّا عندنا علّنا نصل لصورة أكثر وضوحًا لحياة أولئك الذين جاهروا بالحقِّ وأصبحوا أنشودته وسط عالمٍ طالته شظايا الفساد وشوّهت معالمه، فأصبح عالمًا لا يُعبِّر عن خالقه.
حينما نغوص في بحار الفكر الآبائي فإننا نجد أنفسنا أمام لآلئ لامعة غنيّة، ولكن هل من لؤلؤ لم يكن وليد دموعٍ وأنَّات؟ فاللؤلؤة هي نتاج تلك المادة العازلة التي يفرزها حيوان اللؤلؤ حول حبّة الرمل التي تنخسه فتؤلمه، فيغطّيها بتلك المادّة البيضاء، التي تلتف حول حبّة الرمل، وتصير لؤلؤة. فحبّات اللؤلؤ، كما يقول أحد الكُتَّاب، “ليست إلاّ دموعًا لحيوانٍ عاش هادئًا مُعلَّقًا في المحيط.. إنّه فنانٌ انطوى، انزوى، وبكَى فنًّا.. فحبّات اللؤلؤ دموعٌ لامعةٌ”.
إنّ العالم الآن، كما كان قديمًا، هو مخزنٌ للآلام التي لا تنضب، لا يَتِح لنا لحظات ننعم فيها بالراحة؛ فالآلام تقف مُترصِّدة مَنْ يسير نحو الله، لتصير إكليلهم المتوِّج هامتهم أمام عرش النعمة، تلك كانت قناعة الآباء.
هل الجندي يعرف الراحة والملذّات؟
الحياة الحاضرة هي حربٌ، هي قتالٌ، شدائدٌ مستمرّةٌ،
ضيقٌ بلا نهاية. اختباراتٌ،
هي ملعبٌ كبيرٌ صراعاته لا تنتهي.
زمن الراحة يأتي في وقت متأخّر،
والوقت الحالي هو زمن العمل والتعب.
(القديس يوحنّا الذهبي الفم)
إنْ شئت أن تعرف ما هو من شأن حياتنا الخاصّة،
وجدت أمورًا أُخرى مشابهة:
كوخًا صغيرًا خانقًا، يستبدُّ فيه البرد، والظلمة، والضيق، وجميع الحسنات التي من هذا النوع!!
وحياةً يُراقبها الجميع،
يراقبون الصوت والنظر والملبس
وحركة اليد وانتقال الرِّجل..
وبهذا الهدف يجتمعون لمحاربتنا،
سواء كانوا أفرادًا أم مجتمعاتٍ أم أديارًا.
(القديس غريغوريوس النيسي)
هوذا الأمواج تشتد والعاصفة تزداد عنفًا،
لكنّي لا أخاف الغرق، إذ أقف على صخرة.
إن هاج البحر لا يستطيع أن يطويها
لترتفع الأمواج فإنها لا تقدر أن تبتلع سفينة يسوع..
(القديس يوحنّا الذهبي الفم)
لم يلمع الآباء، كما يلمع عظماء العالم -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- لأنّهم داعبوا مشاعر الجموع بكلماتٍ رنّانة سطحيّة مُجوّفة المعنَى وفارغة المضمون، ولكنّهم لمعوا تحت ضياء النعمة التي عكست مجد الخلاص على وجوههم المُنهَكة بالألمِ والمكابدةِ. لقد فرّ الآباء من الجموع ومديحهم فرارهم من الهاويّة، أحبّوا الصحاري لأنّها شهدت صِدق الاختبار والعلاقة الخفيّة مع الثالوث. لم تصنعهم الجماهير، بل صنعتهم النعمة التي رافقتهم طالما كانوا مُجاهرين بالحقِّ قابلين في أجسادهم إماتة الربّ يسوع.
لم تكن حياة الآباء سهلة، فلقد عانوا من مختلف الجهات صعوبات جمّة، إذ قد استشهد منهم الكثير، ونُفي آخرون، واضُطهِد كثيرون. فهناك دائمًا هيروديا ترقص ومطلبها دائمًا صوت الحقّ؛ رأس يوحنّا.
فها هو القديس يوحنّا الذهبي الفم يُنفَى مرّتين بمرسومٍ إمبراطوريٍّ، ليتنيّح في منطقة نائية بقرب شواطئ البحر الأسود. كذلك القديس أثناسيوس نُفي خمس مرّات، جاب فيها نصف بلدان أوروبا، واختبأ في مغائر صحراء نتريا. كما لاقَى بوليكاربوس وإغناطيوس ويوستين، المسيح، مُخضَّبين بدماء الحبّ.. فمع المسيح كان الآباء مصلوبين.
عندما يهرب إلى مصر اهرب أنت معه؛
ورافقه فرحًا في المنفَى.
إنّه عمل عظيم أن تشترك مع المسيح المُضطهَد.
وإن أبطأ كثيرًا في مصر فادعوه من هناك
بتقديم عبادة خاشعة له هناك.
اتبع المسيح بلا لوم في كلّ مراحل حياته وكل صفاته. تطهّر واختتن؛
انزع البرقع الذي كان يغطيك منذ ولادتك.
بعد ذلك علِّم في الهيكل واطرد التجار من هيكل الله،
اسمح لهم أن يرجموك لو لزم الأمر،
فإنّي أعرف جيّدًا
أنك سوف تفلت من بين هؤلاء الذين يرجمونك مثل الله. لأن الكلمة لا يُرجَم.
إن جاءوا بك إلى هيرودس
لا تُعطِه إجابة عن أغلب أسئلته؛
فسوف يحترم صمتك
أكثر من احترامه لأحاديث الشعب الكثيرة.
إذا جلدوك اطلب منهم أن يتمّموا كلّ الجلدات.
ذُق المر واشرب الخل؛
واطلب أن يبصقوا على وجهك؛
اقبل منهم اللّطمات والشتائم،
وتوج رأسك بإكليل الشوك، أي بأشواك حياة التقوى. البس ثوب الأرجوان وامسك القصبة في يدك،
واقبل السجود بسخريةٍ
من أولئك الذين يسخرون من الحقِّ؛
أخيرًا فلتُصْلَب مع المسيح، واشترك في موته ودفنه بفرحٍ
لكي تقوم معه وتتمجّد معه وتملك معه.
(القديس غريغوريوس النزينزي)
لم يعبأ الآباء بسلطة الأباطرة، طالما أنّهم على جانب الحقّ الإلهي. لقد بزغ نورهم من بين حطام إنساني، ليعلنوا لنا بآثارهم طريق التتويج في المسيح. هل كانت الحروب والصراعات التي طالت آباءنا، والتي نقل لنا التاريخ قبسًا منها في مجلّداته، بسبب عملهم الدَّؤُوب وسعيهم الحثيث في نشر تعليم الإنجيل كما تسلَّموه وعايشوه؟ يبدو ذلك؛ فالآلام تتزايد على مَنْ يَفْتَضِح الظلمة، والأسهم تُصوَّب على مَنْ يُجاهِرون بالحقِّ؛ أي يجاهرون بالمسيح.
لأنّه مهما كان الإنسان على قدر من العظمة والجدارة، فبمجرّد أن يبدأ في قيادة سفينة الكنيسة،
يواجه حيرة تبدو غريبة في نظره،
وذلك بسبب الصعوبات التي تثور أمامه من كلّ جانبٍ كأمواج البحر.
(القديس يوحنّا الذهبي الفم)
بالرغم من أنّي تعوّقت بسبب هذه المِحَن
التي بلا شك سمعتم عنها
مع التجارب القاسية التي وُضِعَت عليّ
وقد فصلتنا هذه المسافات الطويلة
وقد تعقّبنا أعداء الحقّ في كلّ طريق ناصبين لنا الفخاخ
لكي يصطادوا أي خطاب منّا إليكم
بقصد أن يضيفوا باتهاماتهم آلامًا أُخرَى إلى جروحنا
ولكنّ الله قوّانا وعزّانا في كلّ ضيقتنا، فلم نخف البتّة.
(القديس أثناسيوس الرسولي)
إن البلايا الأُخرى يتحمّلها البشر بسهولة انسياقًا والعادة، ولكنَّ بلايانا هنا تزداد مع الوقت
باستنباط أُخرَى أشدّ إيلامًا.
(القديس غريغوريوس النيسي)
لقد كتب فيليب شاف Phillip Schaff في مؤلّفه “تاريخ الكنيسة”، في جزئه الثالث، عن القديس أثناسيوس، قائلاً: “كان أثناسيوس بمفرده في وقتٍ من الأوقات، وهو محرومٌ من مجمع أساقفة بقرارٍ أمبراطوري. كان وحده الحامل للحقِّ”.
فالآباء كانوا رُسُلاً بحقٍّ، يحملون سفارة المسيح على أكتافهم، لا يرهبون موتًا، ولا يخشون ثورات التجارب، إذ لم تستوقِف التجارب أبصارهم التي كانت تُحلِّق في آفاق الحبِّ الإلهي. مَنْ يتذوَّق الحبَّ الإلهي لا يُعاني غصّة الموت الثاني؛ فهو لا يرى الموت إلى الأبد، حسبما وَعَد المسيح.
الله لم يجعلنا رُسُلاً لكي نهرب من المخاطر،
بل لكي نعاني من الآلام حتّى الموت.
(القديس يوحنّا الذهبي الفم)
لذا كلما كان العالم يترصَّد الآباء بالضيقة كلّما جاهروا بحقِّ الإنجيل، وانطلقوا يكرزون بشجاعة مَنْ هم موتَى عن الحياة، ومصلوبين عن أمجاد العالم وأنيابه. لم يبحث الآباء عن راحةٍ وأمانٍ وسلطةٍ يرفلون فيها. أحبّوا سلاسل الأسر، وألفوا السجون الرطبة، ابتسموا وهم متّهمون في إيمانهم الصحيح؛ فالعار عندهم كان الصمت عن الحقِّ والتوقُّف عن الكرازة.
الموت والسجن والسلاسل
هذه كلّها أمور مخجلة وعار في ذاتها؛
ولكن عندما ترتبط بالكرازة بالمصلوب
تصبح مجيدة وموضع افتخار.
(القديس يوحنّا الذهبي الفم)
إني ألتفت لا أرى سوى بحر وسماء
وليلاً مرعبًا وأمواجًا هوجاء مزبدة
وظلمات مدلهمة تمتد على صفحة الأمواه
ومع هذا تحثني (يخاطب أنّوشنتيوس) على نشر الأشرعة
وصب الحبال واستلام الدفّة..
إني متوكِّل في مسيرتي على الروح القدس،
الذي يبقى لي المعزي أينما سلكت..
(جيروم)
كانت المحبَّة الإلهيّة مُحرِّكهم الأوَّل ودافعهم الأعظم، وخبرتهم الأصدق، ومعاينتهم الأكمل. لم تكن محبّتهم لله فكرًا يسبحون فيه ويدعون الآخرين ليشاركونهم أوهامه، بل كانت محبّة نابعة من الصليب، محروسة بالمخافة الإلهيّة، لذا كانوا أحرارًا من المجد العالمي البارق في عيون الجموع، مكتفين بالإيمان والتقوى ككنز رحلتهم الدهريّة نحو ملكوت الله.
عندما تتغلّب شهوة المجد في قلب الإنسان
على مخافة الله ومحبّته
فتلك رذيلة من ألدّ أعداء الإيمان والتقوى.
(القديس أغسطينوس)
لقد تركنا هذه العبادات (الوثنيّة)،
مُعرِّضين حياتنا للخطر، حبًّا بيسوع المسيح.
(يوستين الشهيد)
إنّ حديثنا عن الآباء ليس سردًا لوقائع التاريخ، ولكن تتبُّعه ومشاهدته وهو يتكوَّن على أيدي أولئك الذين قادوا قاطرته حيثما أرادوا، وما إرادتهم إلاّ فكر المسيح.
لم يكن آباؤنا ممّن كانت تقودهم الحوادث والخطوب إلى قدرٍ محتوم، يستسلمون لها في شكوى العاجز!! ولكنّهم كانوا مشعلاً يقود ظلمة التاريخ حينما تعلو سماءه غيمةٌ من الضيقة. واجَهوا.. جُرِحوا.. ولكنّهم أبدًا لم يجهضوا كلمات الحقِّ قبل أن تولِّد ثورة إلهيّة على عالم الفساد.
كانوا عُرضة للكثير من المؤامرات والدسائس، للإطاحة بهم بعيدًا عن قيادة الكنيسة، كما حدث مع القديس أثناسيوس الذي لاقَى الأمريْن ممّن عادوه. من تلك المؤامرات تلك التي رصدها لنا ثيودوريت المؤرِّخ عن مجمع صور (335م) إذ كتب: “في الصباح الباكر حضر أثناسيوس إلى المجمع، وفي هذا اليوم كانت أوّل قضيّة قُدِّمَت: قضية امرأة فاسدة بدأت بوقاحةٍ وتهوُّرٍ وصوتٍ عالٍ تقول إنّها كانت قد نذرت بتوليتها ولكن أثناسيوس جاء إلى منزلها وأفسد عفّتها.. فلما طلبت المحكمة من أثناسيوس أن يرد على الإتّهام، صمت أثناسيوس.” وكان تلميذه تيموثاوس هو مَنْ كشف الخديعة إذ ادّعى أنّه أثناسيوس فما كان منها إلاّ أن كالت له الاتّهامات، فانكشف أمرها.
كذلك القديس جيروم الذي كان مُرشّحًا لرئاسة روما خلف البابا داماسيوس (384م) إلاّ أن مناوئوه لفّقوا له تهمةً بدسّ ملابس امرأة في مسكنه، الأمر الذي حدا به إلى مغادرة روما، نافضًا غبار حذائه كوصيّة الربّ. كما كانت كتاباته ضدّ البيلاجيين السبب في حنقهم عليه، فهجموا على مسكنه وأحرقوه بالنّار.. ولسان حاله يردِّد مع الشاعر هوراس:
يُنقَضُ الكونُ وأبقَى ثابتًا تحت ركامه
في كلّ هذا، لم يخشَى الآباء من مخالب الذئاب بينما كانوا يقودون قطيع المسيح إلى الحظائر السمائيّة، بل كانت مخالب مقاوميهم علامات من نورٍ حُفِرَت على أبدانهم ونفوسهم، شهادةً لتغرُّبهم عن منطق المادة واللّذة وسلطة الزمان الحاضر. وبينما كانت الجموع نائمة كانوا هم يقظون يحرسون حراسات الليل على قطيع الربِّ. فالإكليل لا يحتضن رؤوسًا لم تُفلَّح ببذار اليقظة والسهر.
إنّهم (المقاومون للحقِّ الإلهي) يشنّون الحرب عن قرب،
ويطلقون السهام عن بُعد؛ يُجمِّعون الكتائب للحربِّ، وينصبون الكمائن في تكتُّم؛ يتغلّبون بتعاونهم،
ويقيمون لهم حصنًا حصينًا من مناصريهم.
إله المال قدير لديهم، وليس هنالك مَنْ يتغلُّب عليه:
إنّه في المقدِّمة يعمل بيمينه وشماله،
تارةً يفرض جزيةّ على مَنْ خضعوا له،
وتارةً يقضي على مَنْ كانوا في متناول يده!!
(القديس غريغوريوس النيسي)
إن الآباء ليسوا كُهَّان في معابد خيالنا نحرص على تجميلهم وطاعتهم لأنَّهم هويّتنا وجذورنا، ولكنّهم معاول لهدم أوثان العالم التي شكَّلتها يدُ الشيطان في فترات خلو معابد أذهاننا من أيقونة الله الثالوث. هم آلات الروح ولسانه الناطق في هياكلنا بكلمة الله التي تفتضح زيف البشر الذين تجمَّلوا في أروقة العالم بأدوات العالم، ليخفوا قبحهم المتنامي باغترابهم عن ذواتهم وتغرُّبهم عن أصلهم الإلهي النقي. كلّ هيكل جدرانه مزيّنة بنقوش العالم أو بنقوش الله؛ وما نقش العالم إلاّ غرقاه، بينما نقش الله هم بشرٌ وجدوا الميناء ورَسَتْ أزمانهم على ضفاف الملكوت.
لم تكن الرعاية منفصلة عن اللاّهوت في كتابات الآباء الأُوَّل، إذ هي الوجه العملي لفهم اللاّهوت ومعايشته. لذا كانت كتاباتهم تحمل حسًّا رعائيًّا بشكلٍ أو بآخر. فمثلاً نجد أنّ الرعاية عند القديس غريغوريوس اللاّهوتي هي: “الاهتمام بالإنسان الداخلي الخفي”.
إنّ آباءنا كانوا رعاة بما تحمله الكلمة من حبّ وخوف وإشفاق ومسؤوليّة تجاه الرعيّة. بحس الرعاية كتبوا، وبحس الرعاية جابهوا الهرطقات وتكرَّسوا لمواجهتها. لم تكن مؤلفاتهم “علميّة” بالمفهوم المعاصر للكلمة؛ فليس هناك ما يُسمَّى بمعلومة دينيّة مُجرّدة، وليس هناك ما يُسمَّى بلاهوت نظري، عند الآباء. كلُّ معرفة ترتبط بخيط سري بسؤال؛ كيف سأستفيد من تلك المعرفة في علاقتي بالله الثالوث؟ وكيف ستستفيد الكنيسة من تلك المعرفة في شرح وتوضيح الإيمان؟ هذا ما كان يبحثه الآباء.
لذا كان آباؤنا جُزُرًا تُصدِّر نغمات الحقِّ العذبة فتأسر السفن التائهة وتجتذبها إلى بحار معرفة الله. هم خطًّا استوائيًّا نقف على حدوده لنتحسَّس موقعنا من خارطة المعرفة الإلهيّة. إنهم تلك المياه الرائقة الساكنة التي تنظر إليها فتتعرَّف على ذاتك، ترى قبحًا أو جمالاً.. لا يخدعونك.. لا يزيِّفون حقيقتك، فهم قطراتٌ تآلفت بفعل الروح وتجمَّعت في نهر الحبِّ الإلهي ليعبُر عليهم مرتحلو الحياة، بحثًا عن مصداقيّة ما بعد الحواس، وإذ بمَنْ يعبرون ويتكشّفون سِرّ الروح، يندفعون نحو المياه، ليصيروا هم أنفسهم قطرةً في نهر الحبِّ الذي ينبع من الله وينتهي في الله.
لم يكن الآباء ممّن وُلِدوا على أسرَّة من نورٍ، لم يعاينوا عليها قُبح الخطيئة ولا هول التعدِّي ولا وخزات الحياة المُحتجَبة تحت سُحُب الظلمة؛ ومنهم مَنْ كانت له خبرات في الشرور يندَى لها الجبين. إلاّ أن نور الحبّ الإلهي حينما يُشرِق على قلبٍ لا يمكنه إلاّ أن يُؤخَذ بذاك الضياء الناعم الهادئ الذي يشير إلى حياةٍ أُخرى في بلدان النور.
أمّا أنا، فحين كنت خائر القوى
في ظلمات ليلة خارجيّة من الضياء،
وحين كنت متردِّدًا وحائرًا،
يتقاذفني التموُّج في بحر العالم المضطرب،
غير مُطّلع على حياتي وغريبًا عن الحقيقة والنور،
كنت أستصعب وأستثقل حقًّا،
نظرًا إلى عاداتي في تلك الأيام،
ما كانت الرحمة الإلهيّة تعد به لكي تُخلِّصني:
كان من الممكن أن يُولَد الإنسان مرّة أُخرَى؛
الولادة لحياةٍ جديدةٍ بغسل الماء الذي يهب الخلاص،
ليُجرّد الإنسان ويغيِّره عمّا كان قبلاً،
روحًا ونفسًا،
مع المحافظة على تكوينه الطبيعي..
ذلك ما كنت أقوله كثيرًا لنفسي.
فبالفعل، كنت أنا أيضًا محبوسًا ومرتبكًا
من فرط ضلالات حياتي السابقة
التي ما كنت أظنّ أنّي قادر على التخلُّص منها:
هكذا كنت أخضع للرذائل التي كانت جزءًا منّي،
ومن شدّة يأسي من تحسُّن وضعي،
كنت أشجِّع شروري كما لو كانت مالي الخاص
وعبيدي منذ الولادة.
ولكن، بعد أن غُسلت لطخات حياتي القديمة،
بعون الماء المُجدِّد،
وفاض نور الأعالي على نفسي المُحرَّرة والمُطهَّرة،
وبعد أن نُلت الروح القدس الآتي من السماء،
تحوّلت إلى إنسان جديد بفضل تلك الولادة الجديدة.
ما أعجب السرعة التي رأيت بها اليقين يُزيل شكوكي،
والحواجز تنفتح،
والظلمات تشرق،
ويَسْهُل ما كان يبدو عسيرًا،
وصارت هناك إمكانيّة لما كنت أظن أنّه مستحيلٌ.
(القديس كبريانوس)
كم من مرّةٍ وأنا في مسكن النسّاك الرهيب،
في تلك البريّة الشاسعة الملتهبة بحرارة الشمس،
كنت أرى نفسي منغمسًا في ملذّات روما..
وفيما تُمعِن الأصوام في وجهي شحوبًا،
وتُجمِّد الدّم في جسدي،
كانت الروح تلتهب بالرغبات
وفي صدري الأقرب إلى الموت منه إلى الحياة
كانت تُعربد نار الشهوة.
(جيروم)
تألّم بعضهم حينما واجهته النعمة بخطايا صباه بل وأخطاء طفولته أيضًا، وهل من أخطاء للأطفال؟! إنّه فساد الطبيعة الذي يظهر دون وعي أو إرادة ولكنّه يشهد على الخطيئة التي جازت من آدم إلى الجميع، ففي آدم أخطأ الجميع..
من تراه يُظهِر لي خطايا طفولتي،
لأنّه ليس أحدٌ طاهرًا أمام عينيك،
ولو كان طفلاً، ابن يومٍ واحدٍ..
فإن كان فساد الطبيعة يظهر فيَّ، يا سيدي،
وأنا في ذلك العمر،
ففي أي وقت يا ترى كنت لديك بارًّا طاهرًا!!
(القديس أغسطينوس)
يرى البعض، الآباء، وكأنّهم أنصاف آلهة!! لم يُخطئوا، وكأنّهم وُلِدوا من رحمٍ آخر لا يعرف مَخاض الخطيئة التي تحاصر مَنْ يُؤتَى بهم إلى الوجود!! وهم بهذا يحرموننا من أن نرى فيهم إنسانيّة كالتي لنا، فتصبح القداسة لنا بالتالي، طموحًا أكبر من قدراتنا التي تمسّها أنامل الخطيئة بين الحين والآخر. ولكن، هل كان الآباء كذلك؟ لا أظن، فهم بشرٌ جاهدوا وانتصروا.
ها هو القديس غريغوريوس اللاّهوتي يشرح عمّا كان يعتلجُ في نفسه من أفكارٍ زهاء المقابلة الباهتة الباردة التي لاقاه بها هلاَّذيوس، أفكار تتأرجح بين الثورة للذات وإماتة الذات، فيقول:
قد لمست في نفسي صراع موقفيْن؛
موقفٌ يثورُ للإهانة التي لحقتني من الغطرسة،
وموقفٌ يحاول تهدئة الاضطراب.
وعندما تغلَّب عندي، بعون الله،
الميلُ الأصلح توجهت أنا إليه..
وانتصرت الإماتة على الثورة والغضب. هنا نرى الصراع بين ما هو إنساني وما هو إلهي في داخله، وهو الصراع الذي نحيا على وقع نغماته كلّ يومٍ، ولكن يتفوَّق الآباء دائمًا في إنهاء الصراع بالخضوع لمشورة الروح. لذا فالآباء كانوا مجاهدين من طراز رفيع، لا يرضوا لأنفسهم بحياةٍ دون الأبديّة ولا بمرشدٍ سوى الروح الإلهي.
الناس الأكثر نموًّا في الفضيلة
لا يخلون من بعض الأخطاء
التي يتحرّرون منها هنا بالآلام
(القديس يوحنّا الذهبي الفم)
لقد كتب ترتليان كتابًا أسماه “في الصبر”، وقال في استهلاليّة الكتاب:
لقد كتبت هذا الكتاب لافتقادي إلى الصبر.
أنا لا أعلم عنه شيئًا. ولكنّي في حاجة إليه؛
فهو سِمة مسيحيّة أساسيّة.
لذا فبدلاً من أن أكتب كتابًا عن شيء أظنني أجيده، سأكتب عمّا لا أجيده على الإطلاق.
جاء آباؤنا من مختلف البقاع والثقافات وكأنّ الروح استقطبهم كما يستقطب النور فراشات المساء؛ منهم مَنْ جاء من عائلة وثنيّة لم تُولَد في الإيمان ككليمندس السكندري والذي أصبح فيما بعد “رائد الثقافة المسيحيّة” كما أطلق عليه كواستن Quasten، وآخرون جاؤوا من عائلات النبلاء ككبريانوس، وآخرون ولدوا في عائلات أرستوقراطيّة ونالوا قسطًا وافرًا من العِلْم مثل باسيليوس الكبير وغريغوريوس النزينزي، ومنهم مَنْ كان يرزح تحت ضغط الفقر مثل أوريجانوس الذي كان عليه أن يعيل عائلته (كان الأكبر بين سبعة أشقاء) بعد استشهاد والده، ومنهم مَنْ درس الحقوق وتمرَّس على القانون مثل ترتليان، ومنهم مَنْ برع في الفلسفة كبنتينوس السكندري..
آباؤنا كانوا يستوطنون الغربة منذ أن انطلقوا على آثار المُخلِّص، بعد أن حررَّتهم الكلمة الإلهيّة واغتسلوا في المعموديّة، صاروا متجوّلين على دروب الربِّ. تركوا الأهل والأقارب والأصدقاء والأوطان والطرقات التي شهدت طفولتهم وصباهم.. تركوا كلَّ شيءٍ دون أن يربطهم خيطٌ بالماضي؛ فالكلمة أخذتهم لمناطقٍ غير مأهولة، قضوا حيواتهم يلهثون وراء النعمة، يرتشفون منها فيسكرون حُبًّا، فيدفعهم ظمأ النهم الروحي لطلب المزيد، فيجوبون أميال الصراع والجهاد في قفار الحيرة والمثابرة والسهر، حتّى تملأ النعمة أوانيهم مُجدَّدًا. والنعمة لا تترك إناءً فارغًا دون أن تملأه.
  رد مع اقتباس
قديم 26 - 06 - 2014, 12:54 PM   رقم المشاركة : ( 37 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,299,719

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

معجزة الحياة

من المستحيل أن نشعر أننا أحياء
إذا لم نفكر أيضاً بأننا سنموت يوماً،
كما أننا لا نستطيع التفكير بموتنا،
دون أن نستشعر، وفي اللحظة نفسها،
بالمعجزة الغريبة،
معجزة كوننا على قيد الحياة
إنَّ الحياة والموت وجهان للوجود الذي نحياه، فلا حياة بدون موت ولا موت بدون حياة، ولعلَّ البعض يخشون من الحديث عن الموت، ويخافون من ارتياد القبور بأفكارهم، وذلك خوفاً من عواقب الحياة المُستهْلَكة في الأرض، أو خوفاً من المجهول، أو خوفاً من المستقبل، أو خوفاً من الموت في حدّ ذاته كَحَدثٍ فارقٍ في حياة الإنسان، ينقله نقلة نوعيّة من الحياة بين جدران المادّة إلى الحياة في ملء الروح.
ومهما كانت مخاوفنا من فكر الموت، يبقى الموت حقيقة تحاصرنا كلّ حين، نراها كلّ يوم، وكأنّ الموت كائنٌ في نسيج الحياة.. يجول يحصد أرواحاً ويعبر بها من أرض الفناء إلى أرض الخلود. فالحياة والموت هما خيطان، نسجتهما يدُّ الله يوم نسجت رداء الخليقة الذي غلَّف العدم وصيَّره وجوداً.
يرسم لنا أيوب الصديق صورة عن الموت الذي كان يلاحقه، قائلاً:
” احمرّ وجهي من البكاء وعلى هُدبي ظلّ الموت“ (أي 16: 16)
إنه الموت الذي يلاحق البشريّة، فلا تستطيع الفرار منه أو الهروب أو الاختباء، فأيدي الموت تصل إلى كل إنسان في كل مكان. تطال الأطفال والكِبار، الرجال والنساء، الأصحّاء والمرضى.. بلا قيود ولا ضوابط، سوى المشيئة الإلهيّة وصدور القرار السمائي..
ولكن، لماذا الحديث عن الموت؟؟ هل نتحدث عن الموت حتى نتوقف عن الحياة ونحيا في سكون الانتظار؟؟ أم نتحدّث عنه لترك الحياة والانطواء داخل أنفسنا في شعورٍ بتفاهة الحياة التي لا تستحق أن نحياها؟؟ أم أننا نتذكّره لتبكيت أنفسنا على تساهلنا مع أنفسنا وتناسينا أن الموت سيعبر بظلاله علينا يوماً، وسوف يحملنا على جناحيه إلى عالم آخر.. عالم جديد؟؟
في الحقيقة، حينما أردت التحدث عن الموت، كنت أكتب عن الحياة، وحينما أتذكر الموت أتذكر معجزة الحياة التي أحياها أتذكر تلك الهدية الثمينة التي أعطاني إياها الله.. يوماً كاملاً جديداً على قارب الحياة.. أربعة وعشرون ساعة كاملة، لأرسِّخ فيها حبّي لله، ولأصبغ العالم من حولي بلون الملكوت الذي نترقبه وننتظره بل ونشتاق إليه..
إن الحياة بالحقيقة هي المعجزة الكبرى التي يجريها الله معنا كل يوم. فهو يجدد لنا الزمن ويجدد لنا معه الفرصة لتجسيد أشواق قلوبنا إلى أفعالٍ تشير إلى الله وتمجّد الثالوث، الذي قد أَسَر قلوبنا بالحبّ يوم آمنّا وعرفنا وتذوّقنا بهجة اللّقاء معه.. في الصلاة.. في الإفخارستيا.. في الحبّ.. في الخدمة.. في العطاء.. في البذل.. في الآخر..
فهل تستوقفك تلك المعجزة التي يجريها معك الرب، كل يوم، فتحني ركبتي قلبك في شكرٍ وخضوعٍ لله ليقودك في هذا اليوم، أم أنك غافل، والحياة المتجدّدة هي أمرٌ طبيعي، ولسان حالك يقول: الغد سيأتي بالتأكيد؟!
أقول لك، لا تُغالِ في طمأنينتك، فليس هناك قانون لحركة الموت، وليس هناك استثناءات عنده..
آه، لو أدركت قيمة الحياة التي تتفجّر في داخلك متجدّدة كل صباح مع أشعة النور المتسلّلة من خلف رداء اللّيل، لكنت اشتهيت ألاّ تنام وألاّ تأكل من أجل استثمار تلك العطيّة، والاتّجار بتلك الوزنة، بالفضيلة، في أسواق الملكوت.
الحياة هي معجزة تتجدّد.. استقبلها في الصباح بالشكر والتسبيح، وضعها في أيدي الله في المساء مصحوبة بالتوبة، فقد لا تتجدّد شمسك مرة أخرى، وقد تغرب شمسك من الحياة الأرضيّة، لتشرق من جديد، هناك في الأبدية وفي قلب الثالوث.. ستشرق في النور، إن كنت آمنت واستثمرت الحياة بالحياة، والحاضر بالمستقبل، والطموح بالرجاء.. ولكنها ستغرب إلى الأبد إن دفنت وزنتك في رمال اللاّمبالاة والكسل والتأجيل إلى غدٍ قد لا يأتي!!
ولتتذكر كلمات الربّ يسوع.. الحمل المذبوح.. الذي ظهر ليوحنا، قائلاً:
”من يغلب، فلا يؤذيه الموت الثاني” (رؤ 2: 11).
هيا.. ضع يدك على المحراث، وتمنطق بالرجاء، وثبّت عينيك على الملكوت وعلى وجه الربّ المشرق بضياء الحبّ.. فالمعجزة ستتجدّد والحياة ستمتدّ من أجل تلك الحياة الجديدة التي لا يموت ساكنوها إلى الأبد.. إلى الأبد..
  رد مع اقتباس
قديم 26 - 06 - 2014, 12:55 PM   رقم المشاركة : ( 38 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,299,719

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

أن نصلي
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

قال المسيح: «هَذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ» (مر9: 29). الشيطان الرابض في قلوب الأعداء لن يفارقها إلاّ باتّحادنا في الصلاة وبشركتنا في الصوم. لقد أعطانا المسيح العلاج الأوحد فلِما لا نستخدمه؟!!
العدو يخاف من الصلاة لأنّها تُجرِّده من سلاحه الأوّل؛ أي تصدير الخوف إلى قلوب المسيحيين. مَنْ يُصلِّي لا يخشَى شيئًا. لذا فإنّ مخاوف المسيحي هي ردّة فعل إنسانيّة لا تلبث أن تذوب أمام لهب الصلاة.
هناك فارق بين الخوف العرضي الإنساني الوقتي، وبين الخوف المتوّج ملكًا على الحياة المتشبّثة بالأرض ومن عليها. لا يملكن الخوف بصولجانه على قلب مسيحي يُصلِّي.
لما كنت حرًّا كنت أعمل والصلاة أحيانًا في الخلفيّة.
أمّا في السجن [من أجل المسيح] اكتشفت أنّ الصلاة هي كلّ شيء. إنّها مثل استعمال الطيّار قائمة المراجعة قبل الإقلاع.
إذا أُغفِلَ البند الأوّل قد تتعرّض حياة الكثيرين للخطر.
البند الأوّل في قائمة مراجعتنا يجب أن يكون دائمًا الصلاة.
إنْ أغفلناها تعرّضت المهمّة كلّها للخطر
(أحد المعتقلين من أجل الإيمان في فيتنام)
«أَعَلَى أَحَدٍ بَيْنَكُمْ مَشَقَّاتٌ؟ فَلْيُصَلِّ» (يع5: 13). تلك الوصيّة الرسوليّة تضع لنا قاعدة ذهبيّة مختصرة أنّ الصلاة هي دواء المشقّة. ويكمل القديس بولس الصورة بكلمات الروح فيقول: «فَرِحِينَ فِي الرَّجَاءِ صَابِرِينَ فِي الضَّيْقِ مُواظِبِينَ عَلَى الصَّلاَةِ» (رو12: 12). إن عكسنا تسلسل الآية نجدها ترسم طريقًا واضحًا للخروج من فوّهة الضيق. فالمواظبة على الصلاة تستجلب لنا نعمة الصبر إن حلّ الضيق، ومن الصبر ينفجر نور الرجاء ليثبّت قلوبنا في الفرح.
لقد عزى البعض ثبات المسيحيين الروس في الهجمات التي طالت الكنيسة طوال فترة الحكم الشيوعي إلى انتظامهم ومواظبتهم على الصلاة قبل أن تحلّ الضيقة..
إنّنا لن نستطيع أن نصبر على الضيق من جرّاء أنفسنا، ستخور أنفسنا سريعًا أمام ثقل الضيق الحاضر المدفوع بيد الشرير. ستشرخ النفس بجرحٍ يصعب مداواته. جرح النفس سيقودنا إلى الانطواء أو العنف، وكلاهما انتكاسة في حياتنا المسيحيّة المجاهرة المسالمة. ولكن إن دخلنا مخدع الصلاة، جعلنا المواجهة بين المسيح والشيطان لا بيننا وبين الشيطان، وقتها نرى المسيح يعمل من وسط خيوط الشيطان العنكبوتيّة ليرسم خلاصًا لأحبائه. لن نخور لأنّ المسيح هو الحاضر في قلوبنا لامتصاص قسوة الحاضر ولدفعنا بقوة الرجاء. صرخة صلاتنا دائمًا للروح، كما طالب اليونانيين، فيلبس، قديمًا: نريد أن نرى يسوع يعمل لنجدتنا.. نريد أن نرى يسوع يعلن عن ملكه على الجميع.. نريد أن نرى يسوع.. قد يتأخرّ ويأتي في الهزيع الرابع من الليل، ولكنه سيهبنا الصبر، طوال الليل، ليكمّل ضفر إكليل المجد لنا. تأخُّر الربّ هو إعداد للمجد. سنتسلّم الصبر من يده. والصبر اقتناء للنفس وعودة بها إلى ثالوث الحبّ. ومن بين سكينة الصبر المُتجدِّد بمواظبة الصلاة سيشرق شمس البرّ والشفاء على جناحيه. سيشرق، فنرى فيه رجاؤنا. وقتها سنفرح وسنرسل تسابيح الفرح إلى أهل العالم فتصير تسابيحنا كرازة فائقة نابتة من الألم والدماء. قَبْل الهبة ضيقٌ. وسط الضيق نوهب الصبر إنْ صلّينا. هكذا كانت الكنيسة الأولى؛ «هَؤُلاَءِ كُلُّهُمْ كَانُوا يُواظِبُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّلاَةِ وَالطِّلْبَةِ مَعَ النِّسَاءِ وَمَرْيَمَ أُمِّ يَسُوعَ وَمَعَ إِخْوَتِهِ» (أع1: 14).
مَتَى أُظْهِرَ الْمَسِيحُ حَيَاتُنَا،
فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ فِي الْمَجْدِ
(كو3: 4)
أن نصلي هذا سلاحنا للنصرة..
الصلاة تعالج نفوسنا التي ترزح تحت وطأة الضيق.
الصلاة ترفعنا لنرى الأمور بعين الله الخيّرة.
الصلاة تُجدّد أشجار حياتنا التي قد أصابها العطب ولفحتها رياح الشمال ولوّحتها شمس التجارب.
الصلاة تزيل صدأ علاقتنا بالله وتفتح من جديد قنوات الاتّصال بيننا وبين السماء.
الصلاة تُضمِّد جرح القلب النازف بالخوف.
الصلاة تزيل هموم الغد الرابضة على عقولنا.
الصلاة تُحيي فينا الشعور بسيادة الله على الخليقة.
الصلاة تُذكِّرنا أنّه لاشيء يحدث دون علمه الإلهي،
ولا شيء يحدث يمكنه أن يؤذي أولاده إيذاءً أبديًّا.
ندخل الصلاة بصرخات الخوف ونخرج بترانيم الرجاء
ندخل الصلاة بدموع الليل ونخرج بأفراح النهار
ندخل الصلاة بمشهد العالم الدامي
ونخرج بمشد الربّ يسوع الحاني
ندخل الصلاة مُهدَّدين في حياتنا ونخرج منها ثابتين في أبديّتنا
ندخل الصلاة بأسماء أحبائنا ونخرج بعونٍ لأحبائنا
ندخل الصلاة بجرح الأعداء ونخرج ببركة للأعداء
ندخل الصلاة بغضبٍ من قسوة الأرض
ونخرج بسلامٍ من روعة السماء.
ندخل الصلاة بذواتنا ونخرج بالمُخلِّص..
بعمانوئيل..
بالله معنا..
وَيُقَالُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ:
هُوَذَا هَذَا إِلَهُنَا.
انْتَظَرْنَاهُ فَخَلَّصَنَا.
هَذَا هُوَ الرَّبُّ انْتَظَرْنَاهُ.
نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ بِخَلاَصِهِ
( إش25: 9)
  رد مع اقتباس
قديم 26 - 06 - 2014, 12:57 PM   رقم المشاركة : ( 39 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,299,719

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

الكرازة فعل حب
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

يكتب ميشيل كواست، قائلاً:
إن جسداً يجاهد بدون قلب خفّاق
لا يمكنه أن يولِّد الانتصار
لأنّ الصراع من غير محبة هو صراعٌ عقيم
ويضيف مارتن بوبر Martin Buber في كتابه Je et Tu (أنا وأنت)، قائلاً:
إن خير وسيلة لحب الله هي المشاركة الفعَّالة في تحقيق خلاص مخلوقات الله
إن الكرازة في جوهرها هي فعل حب عميق نحو الله ونحو العالم. والمحبّة المسيحيّة ليست عاطفة مجرّدة ولكنها قرار والتزام يتحقق عندما ندرك سر الصليب كفعل محبّة يجود بكل شيء حتى الحياة..
يُحكى عن أحد المرسلين الذين ذهبوا لينشروا نور الإنجيل في جزيرة فيجي، التي كان يقطنها آكلي لحوم البشر أنه أثناء الرحلة على متن السفينة، حاول ربّان السفينة أن يثنيه عن عزمه قائلاً:
إنك تخاطر بحياتك وحياة الذين معك عندما تذهب إلى أولئك المتوحشين، فأجابه قائلاً:
لقد متنا قبل أن نأتي إليهم!!
لذا، فإن كانت الكرازة تسير بأي قوة دفع غير المحبة المتساقطة، كقطرات، من فوق خشبة الصليب، صليب الموت المحيَّ، لن تأتي بثمار حية ولن تحقق غايتها والتي تكتمل بخلاص العالم!!
إن المسيح قد ائتمننا على العالم لكي ننيره.. لكي نملّحه حتى لا يفسد ويصيبه التعفن بالخطيئة، لذا يجب أن نعيد قراءة الإنجيل برؤية جديدة.. رؤية بأحشاء المسيح التي تشتاق إلى كل نفس لتدرك حبّه الفيّاض، لتعي وصيّة المسيح التي تطلق الكنيسة في العالم، ولا تتركها حتى تأتي مُحملة بثمارٍ لمجد الله الآب.
إن المسيح جاء ليقول لنا: “أحبب“
فإن لم نستطع أن نقتني حب المسيح لكل الخليقة، فلن نستطيع أن نعاين ملكوت الله، الذي هو ملكوت الحب الأزلي/ الأبدي. إن الشرط الوحيد لدخول الملكوت - بحسب كلمات الأب جان بول - هو: اعتناق الحب كمبدأ للحياة.
إنّ الحب هو طاقة خلاَّقة لا يستطيع الإنسان أن يحيا بدونها أو يتجاهل وجودها في صميم كيانه الداخلي. ويُعرِّف عالم النفس الشهير فرويد Freud، الصحّة؛ بأنها القدرة على العمل وعلى الحبّ وبحسب كلمات د. كارل ميننجر Dr. Karl Menninger:
الحب يشفي من يعطي الحب ويشفي من يتقبّل الحب
إن لم نتعرف على محبة الله لنا، لن نستطيع أن نحيا حياة سوية في ملء البهجة والرجاء دون النظر إلى العقبات التي تواجهنا في مسيرتنا على طريق الحياة. كما أن من تذوق محبة الله وأراد أن ينعزل بها ولا يشارك أخوته في مسرّة الخلاص، يصبح مريض (الأنا ego)، يتمحور حول ذاته ويتقوقع في عالمه متوهماً القداسة بعيداً عن جسد المسيح الذي هو الكنيسة، إنه يحتاج للمسة شفاء بترياق الحبّ المسيحي.
إن الفيلسوف بوير يقول: (الحب هو التلاقي)، لذا فإن كل كرازتنا تستهدف التلاقي مع كل الخليقة في المسيح، تستهدف تحقيق الوحدة البشرية المفقودة نتيجة الخطيئة والعصيان التي أسقطت آدم ومن بعده كل ذرّيته. إن الخطيئة جلبت الانقسام للهيكل البشري، ولعل هذا الإخفاق الذي آلت إليه البشرية هو نتيجة لغياب مصطلح المحبة من القاموس البشري.
لذا فقد جاء المسيح ليعيد الرباط الذي يربط البشر بعضهم ببعض، جاء ليعيد اكتشاف تلك القيمة المفقودة، ولكن في أسمى وأبهى صورة ألا وهي المحبة المتألّمة..
إن لنا دعوة عليا لنكون سامرياً آخر يضمد جروح أعدائه، لنكون بولس آخر يُنفَق من أجل الكرازة، أن ننقل فعل المسيح نحو الآخر.. لنبذل ونموت من أجل كل إنسان لكيما يخلص.
إن الضرورة الكرازية ليست فرضاً مسيحيًّا نؤديه من أجل إثبات أحقيّتنا بالعضوية في جسد المسيح، ولكنها نابعة من الحب الذي يسري فينا من أول يوم تذوّقنا فيه حب المسيح، لذا فإن القديس يوحنا ذهبي الفم يقول:
إن قلت أنك مسيحي ولا تقدر أن تفعل شيئاً للآخرين
يكون في قولك هذا تناقضاً
وبنفس المعنى يقول الشاعر الفرنسي شارل بيجي Charles Péguy:
لا تحاول أن تذهب إلى الله وحدك،
فإذا فعلت،
سيُطرح عليك السؤال المحرج، أين أخوتك وأخواتك؟
إننا في حاجة الآن إلى صحوة كرازيّة، نابعة من قلبٍ محبٍّ، يعي رسالته من خلال مسيحيّته، ومن خلال الكلمة الإلهية، ومن خلال الصلوات اللّيتورجيّة الكنسية، لنستطيع أن ننطلق بقوة وثبات، ننشد أمام العالم:
ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب
  رد مع اقتباس
قديم 26 - 06 - 2014, 12:58 PM   رقم المشاركة : ( 40 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,299,719

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

الصلاة الكرازية
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

يدون لنا سفر الأعمال، صلاة الكنيسة حينما خرج بطرس ويوحنا من السجن، وشرحا للجميع الحوار الذي دار بينهم وبين قادة اليهود. تقول تلك الصلاة:
”امنح عبيدك أن يتكلموا بكلامك بكل مجاهرة
بمد يدك للشفاء ولتُجر آيات وعجائب باسم فتاك القدوس يسوع” (أع 4: 29 - 30)
لقد كان طلب الكنيسة هو المجاهرة بكلمة الله، والمجاهرة παρρησιας كما جاءت في أصلها اليوناني، تعني الشجاعة والجرأة والثقة النابعة من الحرية.
فالكنيسة لم تُصَل من أجل سلامها الزمني، ولم تطلب من أجل إطفاء نيران الاضطهاد المزمعة أن تشتعل، ولكن طلبتها كانت من أجل انتشار كلمة الخلاص بلا عوائق، سواء كانت عوائق خوف أو تردد بشري، من جرّاء الضيق.
كما أن الكنيسة طلبت من الرب أن تكون الكلمة مؤيّدة بالآيات والعجائب التي تصنعها يد القدير، باسم الربّ يسوع المُخلّص، حتى تثمر مجداً للرب يسوع وإيماناً بشخصه الإلهي. فالكلمة إن لم تكن مؤيّدة بالروح القدس لن تستطيع أن تحفر لنفسها مكاناً في صخور القلوب القاسية. إلاّ أن مفهوم الكنيسة عن الآيات والعجائب هو مفهوم ممتد يتعدى تطبيب الجسد، فأعظم عجيبة -بحسب قول القديس باخوميوس- هي “توبة الإنسان”. فنحن لسنا في حاجة الآن لكسر قوانين الطبيعة لإعلان صدق كلمة الإنجيل، لأن عقل الإنسان في هذا العصر هو المتحكّم الأول في إيمانه. لذا فإن المعجزات في هذا العصر يعتبرها البعض نوعاً من الغيبية التي تُحقِّر قيمة العقل والعلم، وخاصة في المجتمعات المتقدمة. من هنا تكون الآية والمعجزة التي يصنعها الله والتي تترجاها الكنيسة في طلبتها هي أن تظل كنيسة حية صادقة أمينة حانية عفيفة قانعة محبة، كما تطلب من أجل معجزة خلاص العالم من قيود الظلمة نحو فجر الحرية في المسيح يسوع.
إنّ النموذج العملي والتطبيق السلوكي لكلمة الإنجيل، هو المعجزة التي يلتمسها العالم من الكنيسة، وهو الآية القادرة أن تجعله يعيد التفكير في علاقته بالله في المسيح يسوع.
إن الكنيسة يجب أن تحافظ على تلك الصلاة دائماً أثناء سعيها وبحثها عن الخروف البشري الضال وعن الدرهم الإنساني المفقود. يجب أن تكون طلبتها المزدوجة والدائمة هي:
- خروج كلمة الخلاص بقوة وجرأة وشجاعة من وعائها الإنساني الهش
- أن يعمل الله لتأييد تلك الكلمات بآيات وعجائب لمجد اسم المسيح، ليختفي الجميع وليظهر هو وحده؛” ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص” (يو 3: 30)
يروي لنا سفر الخروج عن حالة موسى النبي بعد ذلك اللقاء الفريد مع الله، فيقول:
” وكان لما نزل موسى من جبل سيناء ولوحا الشهادة في يد موسى عند نزوله من الجبل
أن موسى لم يَعْلَم أن جلد وجهه صار يلمع في كلامه معه.
فنظر هرون وجميع بني إسرائيل، موسى، وإذا جلد وجهه يلمع، فخافوا أن يقتربوا إليه” (خر 34: 29 -30)
إن ما حدث مع موسى -نبي الخروج- يدعونا للتوقف ؛ فحوار موسى مع الله صيَّر وجه موسى في حالة تجلٍّ.. كان وجهه يضيء بلمعان!! فالحديث مع الله يُقدِّس المادة التي تتألّف منها أجسادنا الترابيّة فتتوهّج بضياء لم تختبره المادة من قبل، وهج الانغماس في الحضور الإلهي، والدخول في أعماق النور غير المخلوق.
إن هناك علاقة لُّغوية بين الوجه والحضور، فكلاهما ترجمة لكلمة προσωπον اليونانية، وكأنّ الحضور يُعْلَن في الوجه، فوجه موسى كان يُعْلِن عن حضورٍ إلهيٍّ.
لذا فإنّ حضور الله يجب أن يكون له ملامح في وجوهنا، ليس بلمعان الجلد المرئي كما في العهد القديم مع موسى، ولكن بإشراقة الروح المبتهجة. من هنا ندرك سرّ المقولة القديمة أنّ المسيحيين كانوا يُعرفوا من وجوههم، وذلك حينما يلتقون بغير المسيحيين!!
هذا الحضور الإلهي يتكثّف بشدة في الصلاة الصادقة النابعة من قلبٍ يشعر بالاحتياج الدائم لله. فالصلاة هي اتّصال بالله الثالوث، بل هي شركة مع الله الثالوث، يحدث فيها حوار إنساني إلهي؛ إنساني من خلال الكلمة والمشاعر والاستجابة لنداءات النعمة وإلهي من خلال الفعل الروح في القلب والحياة.. وإن كانت الصلاة هي استحضار لله، الحاضر دائماً، والكرازة هي محاولة لدفع العالم لتذوّق ذلك الحضور. فتكون الصلاة والكرازة صنوان لا يمكن أن يفترقا. لذا فإن فالكرازة لا يمكن أن تنفصل عن الصلاة، كما أنَّ الصلاة لا تُحلّق في الأعالي إن لم تكن معنيّة بخلاص الآخرين.
إن الصلاة التي نختبر فيها أحشاء الله، التي تئن من أجل رجوع خليقته إلى حضنه الدافئ، هي القادرة أن تضعنا في حالة من التجلِّي، هي القادرة على أن تبعث ضياء الروح على قسمات وجوهنا، فيراها الآخرون وينبهروا من ضياء لم يألفوه قبلاً في أزقّة الحياة الأرضية!! ضياءٌ ممتلئٌ بالسلام الذي لا يستطيع العالم أن يهب مثله!! ضياء به قوة جذب نحو الكائن غير المرئي، الذي تتحقّق فيه الإنسانيّة بملئها، وتكتمل فيه الغاية التي يبحث عنها البشر، غاية الوجود..
إن الصلاة، هي ضرورة كرازية لكي ما يتولّد في قلوبنا حسُّ الحبّ نحو الخليقة أجمع، وحينما يتحرّك ذلك الحسّ في قلوبنا، سنذهب ونشهد بكل حياتنا المغمورة في الحضور الإلهي، لذاك الذي افتدانا من اللّعنة القابعة في وادى الموت، ليرينا سرّ الحياة الأفضل.. سرّ الحياة الجديدة في معيّته.
“وبقوّة عظيمة كان الرسل يؤدّون الشهادة بقيامة الربّ يسوع ونعمة عظيمة كانت على جميعهم“.
أع 4: 33
يروى لنا القديس متى عن حادثة شفاء الغلام المصروع بالشياطين، فيقول:
”ولما جاءوا إلى الجمع تقدّم إليه رجلٌ جاثيًا له وقائلاً:
يا سيّد ارحم ابني فإنه يصرع ويتألّم شديدًا ويقع كثيرًا في النار وكثيرًا في الماء.
وأحضرته إلى تلاميذك فلم يقدروا أن يشفوه.
فأجاب يسوع وقال: أيها الجيل غير المؤمن الملتوي إلى متى أكون معكم إلى متى احتملكم
قدّموه إليّ ههنا.
فانتهره يسوع، فخرج منه الشيطان، فشفي الغلام من تلك الساعة” (مت 17: 14 - 18)
إنّ حالة العالم بدون مُخلِّص هي حالة ذلك الغلام المصروع بالشياطين. إنّه عالمٌ بلا إرادة ذاتيّة على التحكُّم في المسيرة، بلا قدرة على تجنُّب المخاطر، بلا قوّة تخلّصه من الألم الكياني الذي يُمزّقه ويلقي به على ضفاف الحيرة واليأس والشك.
”إنكم كنتم في ذلك الوقت بدون مسيح، أجنبيين عن رعويّة إسرائيل،
وغرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لكم، وبلا إله في العالم“
(أف 2: 12)
العالم كله قد وُضع في الشرير، هكذا تحدّث القديس يوحنا في رسالته الأولى (1 يو 5:19)، وصار الشيطان يعبث بمقدّرات البشر، فهو رئيس سلطان الهواء، وقادة ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر. صار يجول في أركان العالم المخلوق يصنع شروراً ويخلق عداوات ويُعمي بصائر ويُفجّر ظلمات جديدة. جمَّل الشهوة ليبيعها للبشر، وزيّن الخطيئة ليُزوِّجها للبشر، فصارت البشريّة مستعبدة ومصروعة بالشهوة والخطيئة والإثم والتعدي.
ولم يكتف بهذا، ولكنه عمل جاهداً على تقبيح المسيحيّة، والتشكيك في الإنجيل، وبث شعور من استحالة تطبيق الوصيّة في الواقع العملي. كما سعى ليجعل من الربّ يسوع شخصيّة من شخصيّات التاريخ، والمسيحيّة حركة اجتماعيّة حضاريّة وليدة عصر معيّن، والإنجيل كتاب تراثي وتاريخي يحتل مكاناً في المكتبة وسط الكثير من الكتب الأخرى.
كل هذا الجهد الشيطاني الدؤوب ونحن غافلون عن العالم الذى يحتاج لمن يلقية في بحيرة النور، ليغتسل من الظلمة التي منعته من رؤية الحق. فالحق وحده هو الذي يوقِظ الوعي الإنساني من جديد، حتى يُقرِّر ذاتيّاً مصيره الأبدي.
من هنا كانت الصلاة من أجل العالم هي إحدى دعائم الحركة الكرازيّة الأساسيّة، إنها تُحرِّك اليد التي تُحرِّك العالم كما قيل، إنها بمثابة دخول في المعركة اللاّمرئيّة مع الشيطان، لأنها تقيّد الشيطان وتحد من قدراته في العمل على إهلاك البشريّة. إن هذه الصلاة التي تُحجِّم قدرات الشيطان ضروريّة للغاية حتى يمكن للكلمة بعد ذلك أن تأتي ثمارها في قلبٍ غير منجذب لبؤرة الشرّ الروحيّة، فالصلاة والكلمة هما وجهان لعملة واحدة هي الكرازة. وهو ما أكده التلاميذ حينما كانوا بصدد اختيار شمامسة للخدمة” وأما نحن فنواظب على الصلاة وخدمة الكلمة” (أع 6: 4).
إن المسيحي حينما يصلى من أجل العالم المصروع بالخطيئة، يتخذ موقف ذلك الرجل الذي تقدّم إلى الربّ يسوع وجثا عند قدميه. فشعورنا بالعالم يجب أن يكون كشعور الأب ببنيه. حتى نستطيع أن نُصلّي عن العالم بأنين قلبي صادق.. حتى نستطيع أن نثابر في سعي الصلاة عن العالم، ونحن نرى تحرُّكه البطيء المتثاقل والمتردّد نحو الأبديّة. فالشيء الوحيد القادر أن يثبت قلوبنا في الصلاة من أجل العالم غير المكترث بدعوة الإنجيل، هو التزامنا بالعالم بأحشاء أبويّة، حتى لا ننفض غبار أرجلنا على عتبته سريعاً، ونعلن أنه لا فائدة!!
إن الرجل الذي تقدّم ليطلب من أجل ابنه، كان جاثياً أمام الربّ يسوع، وصارخاً يا سيّد ارحم..
لقد طلب من التلاميذ أن يشفوا له ابنه، ولم يستطيعوا!! لقد فقدوا قدرتهم على إخراج الأرواح في تلك اللحظة، فكان الحلّ الوحيد هو انتظار يسوع والتضرُّع إليه من أجل شفاء الغلام.
إننا في صلواتنا من أجل العالم، إن كنَّا نصلي من أجله بالفعل!! كثيراً ما نردّد تلك الصلوات ترديد شفاه، نذكر خلاص العالم في صلواتنا كطلبة مستحيلة، فتخرج صلاة بلا إيمان، وبلا تضرُّع وبلا سجود وبلا صراخ: ”يا سيّد ارحم”. ولهذا لا نجد الاستجابة الكافية تتحقّق أمام أعيننا، فتفتر صلواتنا بالأكثر، ونسير في دوائر مفرّغة من اللاّإيمان واللاّشعور واللاّصلاة، من أجل العالم.
إن أول شروط الصلاة لكيما تستجاب، هو الإيمان بقدرة الله على الاستجابة إن توافقت مع مشيئته الخلاصيّة للعالم، بدون هذا الإيمان لا يمكن لصلواتنا أن تحلّق في الأعالي وتستنزل الاستجابة.
لقد كشف المسيح للتلاميذ بعد تلك المعجزة عن سر شفاء الغلام، حينما قال:
”وأما هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم” (مت 17: 21)
إن سرّ الانتصار على الشيطان في معركة الكرازة، هو الثبات في الصلاة الواثقة من عمل الرب، والصوم المُكَّرس من أجل الآخرين. وهذا يعني أننا يجب أن نجتهد من أجل تحرير العالم من سلطان الشيطان، يجب أن نبذل عرق الصلاة ونسكب آلام الجوع أمام الرب، فيتحقّق من المحبة التي تسكن قلوبنا من جهة الآخرين. ومن الجهة الأخرى، حينما يرى الشيطان آلامنا وجهادنا من أجل العالم، يتلّوى من الحسرة، فهو لا يطيق أن يرى حبّاً صادقاً مجّانيّاً. وحينها يُرخي قبضته، قسرًا، عن النفوس التي ألقى عليها شباكه، وفي تلك اللّحظة يتدخّل الروح القدس لتقديم حياة جديدة لأولئك الذين عاشوا زمانهم كله في خدمة حياة بالية وفانية.
لقد صلّى بولس وسيلا في السجن، فكانت ثمرة صلاتهم إيمان السجّان وأهل بيته، وقبولهم نعمة العماد. فحينما صلّى بولس وسيلا، اهتز السجن بزلزلة عظيمة وانفكّت قيودهم، فكان هذا الحدث كفيلاً بتحفيز الإيمان في قلب السجّان، ثم سأل السؤال الهّام:” ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص؟؟“، وجواب هذا التساؤل يكون من خلال الكلمة (وجه العملة الآخر)” وكلّماه وجميع من في بيته بكلمة الرب” (أع 16: 32).
إذاً فالكرازة تبدأ كفعل سرّي خفي في الصلاة التي تهز أركان العالم، فتهتز الثوابت التي وضعتها البشريّة لمسيرتها، وحينما تهتز تلك الثوابت، يتساءل الإنسان: ماذا أفعل؟؟ هنا يبدأ دور الكلمة الممسوحة بروح الله، لتُعلِّم الإنسان طريق الخلاص.
  رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
نحتفي بك،، أبونا الراهب سارافيم البرموسي
- قام لنقوم.. مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
العبث بالعقول ( أبونا الراهب سارافيم البرموسي )
اللاّوعي والإدانة (أبونا الراهب سارافيم البرموسي)
ميلاديات أبونا الراهب سارافيم البرموسي


الساعة الآن 02:53 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025