الموتُ للمسيحيّات.. الموتُ لأتباع المصلوب..
تلك كانت صيحات الذين تجمهروا حول دار الولاية، وعيونهم تقذف حممًا من الغضب وكأنّهم جوارحٌ تلتمس فريستها لتنهشها نهشًا. كانت المدينة تمور من الهياج وكأنّها تحوّلت إلى ساحةِ وغيٍ أُشهرت فيها سيوف الكلم لدفع سيف الوالي لإراقة الدماء.
لم يكن تجمهر مئات الوثنيّين شيئًا عفويًّا في الإسكندريّة، إذ كان كهنة سيرابيس ومسؤولي الجمنزيوم والعديد من قادة الموسيون ضالعين في الأمر. كانت المسيحيّة تُشكِّل تحديًّا مباشرًا لهم -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- فالكهنة كانوا ممّن يرون أنْ المسيحيّة تُقوِّض دعائم الإيمان الوثني باختزال الآلهة إلى إله، وبرفضِ قبول آلهة مصر وروما والإغريق. وكان مسؤولي الجمنزيوم يتمّنون اختفاء المسيحيّين الذين يُناهضون إقامة الألعاب القتاليّة الدمويّة في ساحات ومسارح المدينة، إذ قد أطلق المسيحيّون عليها: موضع الوباء ومجلس الطاعون.
الموتُ للمسيحيّات.. الموتُ لأتباع المصلوب..
كان الوالي يسمع تلك الهتافات المزمجرة، ويُدرك تمام الإدراك أنّ أصابع المعبد والموسيون والجمنزيوم خلفها. جَمَعَ الوالي مستشاريه وجلسوا يتباحثون:
قال الوالي: إنّ المدينة ثائرة على المسيحيّات، وعلينا أنْ نتّخذ قرارًا بهذا الشأن.
أجابه أحد شيوخ المجلس: لا تنس أنّ عليك كسب ود كهنة سيرابيس، فهم يملكون الكلمة العُليا عند الشعب والموسيون.
ضرب الوالي بيده على مسند عرشه وهو يقوم قائلاً: أعلم ذلك.. ولكن إلى متى سيحكُم الكهنة المدينة؟
قال أحد الضبّاط المنوط بهم حماية المعبد: إنّ سيرابيس لا يهدأ إلاّ بإراقة دماء المخالفين، وكذا أتباعه.. أنت تعلم هذا..
قال آخر: ولكن الفتيات لم يفعلن شيئًا هذه المرّة، وإنْ مددنا أيدينا لمعاقبتهن سيبدو وكأنّنا نُنفِّذ مُخطّط كاهن المعبد، ولا نعلم ردّة فعل المسيحيّين..
أجاب الوالي: لا تقلق منهم فهم لا يفعلون شيئًا.
فبادره بالسؤال: ولكن إلى متى؟؟
ردّ الوالي: ليس هذا ما يقلقني..
قام أحد مستشاريه مُتّجهًا نحوه قائلاً: ما الذي يدور برأسك؟
أجاب الوالي: إنّ وفدًا من عند الإمبراطور سيأتي في غضون أيام، ولا أريده أنْ يرى المدينة هائجة.
طمأنه ضابط المعبد قائلاً: إنّ لك العديد من الأصدقاء في روما، وهم قادرون على تجميل الوضع أمام الإمبراطور إنْ لزم الأمر.
رفع الوالي يدهُ اليمنى نافيًا بها كلام الضابط وهو يقول: لا، ليس تلك المرّة، فالإمبراطور ليس مُهيّأً لسماع قلاقل في الإسكندريّة.
سأله أحد الشيوخ الجالسين وقد مال بجسدِه نحوه: وما الذي تنوي فعله؟
قال الوالي: لا أدري..
قال آخر: يجب أنْ نُقدِّم كبشَ فداءٍ عن المدينة..
أتقصد المسيحيّات.. سأله الوالي وهو ينظر إلى عينيه..
- نعم..
نظر الوالي من شرفة القصر إلى الساحة المائجة بالاضطراب، وزمزم بشفتيه قائلاً:
سأحاول البحث عن مخرجٍ آخر..