الأحد السابع للصوم الكبير | أحد الشعانين
أحد الشعانين هو احد الأعياد السيدية الكبرى السبعة (أحد السعف)، وتصلي الكنيسة باللحن الشعانيني، ذلك اللحن والنغم والوزن الروحاني الخصب الذي يلهمنا ويقربنا من حدث دخول السيد المسيح ملكًا في هذا اليوم، وهذا اللحن والنغم الشعانيني الذي وضعه طقس الكنيسة الليتورجي لأحد الشعانين يجعلنا جسدًا واحدًا يتجاوب مع الحركة والانفعال الروحي، ويعدنا ويفتح أذهاننا لقبول كلمة الوعظ والتعليم، وعندئذ نحيا هذا الحدث الخلاصي سرائريًا ونشترك فعليًا في حياة المسيح مخلصنا الذي علمنا طرق الخلاص، فتصير حياة المسيح عريسنا السماوي لا مجرد تذكارات وأحداث وقعت في الماضي نجتمع لنتذكرها ونحتفل بها، بل هي حياتنا وخلاصنا ورجاؤنا كلنا، نعيشها ونتذوقها ونشعر بها ونتلامس معها، وهنا تكمن حيوية كنيستنا وخبرتها الداخلية التي تجعلنا مسيحيين ومسحاء نولد بالمعمودية وننمو بالأسرار، ولما كانت الكنيسة هي أمنا لذلك فهي تشير لنا دائمًا إلى أبوه المسيح لنا، وألحان الكنيسة العذبة التي ألفها الروح القدس بكل إبداع روحي وقدسي وأثرى الكنيسة بها منذ أجيالها الأولى، تجعلنا نعيش في أحد الشعانين، دخول المسيح لا إلى أورشليم ولكن إلى قلوبنا وحياتنا. لا كملك عليها (أي أورشليم) بل ملك على قلوبنا وحياتنا.
فتنتعش حياتنا بالنعمة ومشاعر التوبة والتقديس، وما هذه الإلحان والتسابيح إلا دموع القديسين وشركة النساك وتسبيح المتوحدين التي ادخرتها لنا أمنا البيعة الأرثوذكسية نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور.
ونحن في هذا اليوم نسير(الكنيسة كلها) في موكب دخول المسيح لأورشليم نطوف بتهليل قلب مقدمين ذبيحة التسبيح ثمار شفاه معترفة باسمه ونعلن ملكوت المسيح ربنا، فنبارك الرب ربنا وملكنا لأنه ليس الأموات يسبحونك يا رب..
ولما كان هذا اليوم عيد سيدي كنسي، جعلت له الكنيسة طقس خاص به، نتقدم فيه إلى المسيح (مسيح الكنيسة) مؤكدين بنوتنا له مبتهجين بأبوته وبالوزن الشعانيني الذي يبتهج به القلب مقدمًا كل مشاعره وأحاسيسه وحبه للملك الجديد، فنستعيد به وحدة سلامنا وندخل إلى المصالحة مع السماء بل نصير نحن سماء، إنها ترجمة تعبيرية لحالة التهليل والتسبيح التي تعبر عن حالة الكنيسة التي بدأت بالاستعداد فالتجربة فالابن الشاطر فالسامرية فالمخلع فالتناصير فالشعانين، إنها أيضًا التعبير عن مجيء المسيح وخلاص العالم..
إنها صرخة التلهف نحو الله والتمجيد للجلال والمجد الإلهي ونحن حاملين في أيدينا سعف النخل والورود والأيقونات أثناء زفة أيقونة دخول المسيح أورشليم، ويا لها من دورة توصل وتؤصل الحدث في قلوبنا نحن المؤمنين في كل كورة مصر وتأتي الصلوات والقراءات والألحان والقطع والمدائح كتعبير عن الفرح الروحاني الذي ليس من هذا العالم والذي يجعلنا ننفتح على أشعة شمس البر المشرقة، نحو عريسنا الإلهي الذي نقدم له ذاتنا بالكلية، ونصحبه على مدى سني حياته الأرضية بلوغًا إلى المجد السماوي، نتقدم للشمس التي لا مغيب لها شمس بهجتنا واستقرارنا وطوباويتنا نعبده ونسبحه كما بصوت صادر من الظلمة إلى النور ومن المريض إلى الطبيب الشافي يسوع الملك الذي دخل اليوم ملكًا إلى أورشليم وهو سيد الحياة وواهبها، صلاة من الفقر والعوز إلى ذاك الذي يملأ الكل، إنها تسابيح الفرح والرغبة الملحة في التحرر من قيود الزمان والمكان تطلعًا إلى المجال الإلهي والحياة النورانية حينئذ نرى جلال الموكب الإلهي ويسوع داخل أورشليم ملكًا، ملكًا على سلوكنا فنفعل ما يرضيه أمامه، ملكًا على قلوبنا فلا نعرف آخر سواه، ملكًا على حواسنا فلا نحب العالم ولا شهوات العالم، ملكًا على حياتنا فلا نحيا بآخر سواه، به نحيا ونوجد ونتحرك، مستأثرين كل فكر لطاعة المسيح يسوع.
اليوم الجالس على الشاروبيم ركب على جحش ووصل إلى أورشليم- من أفواه الأطفال والصغار الرضعان أعددت سبحًا بإرادتك يا رب- لا تخافي يا ابنة صهيون هوذا ملكك يأتيك راكبًا على جحش- اليوم كملت النبوات قومًا اخذوا سعف النخيل وأغصان الزيتون وآخرون فرشوا ثيابهم في الطريق أمامه قائلين (أوصنا يا ابن داود مبارك الآتي باسم الرب، هوشعنا لابن داود في الأعالي لملك إسرائيل) وكلها قطع وذكصولوجيات وضعتها الكنيسة تأخذنا في رحلة أورشليم وتشركنا في موكب المسيح فعليًا وحياتيًا واختباريًا ومن ثم نفرح ونشبع بالتذكار الليتورجي على المستوى الباطني.
ويقول القديس يعقوب السروجي:
حبك أنزلك من المركبة إلى الجحش. عوض جنود الكاروبيم غير المفحوصين، يبجلك جحش.
أنزلتك المراحم من بين العجل والوجوه وأجنحة اللهب لكي تجلس على ابن الأتان، أنت الذي يجاهر السمائيون ببهائك، وهنا الجحش الحقير المزدري به يحملك بين السمائيين.
كاروبيم النار يباركونك طائرين، وهنا الأطفال يمجدونك بتسابيحهم،ملائكة النور بريش النور يهيئون طريقه، والتلاميذ هنا يلقون قدامه ثيابهم. نزل الجبار من عند أبيه ليفتقد مكاننا، وبإرادته بلغ إلى منتهي الاتضاع، ركب الجحش ليفتقد بالاتضاع شعبه.
زكريا النبي حمل قيثارة الروح، وأسرع قدامه بترتيل نبوية بابتهاج، شد أوتاره وحرك صوته وقال: افرحي يا ابنة صهيون واهتفي واصرخي، لأن ملكك يأتي راكبًا جحشًا ابن أتان (زك9: 9).
ويا لعظمة هذا اليوم الذي أرسل فيه الرب التلميذين بسلطان إلهي ليحلا الأتان والجحش، وهكذا يرسلهما إلينا ليحلونا من اهتمامات العالم، لأن الرب يتطلع للنفس لا كمن يتعالى عليها بل كمن هو يطلبها لتكون موضوع تعطفاته ومحبته يسكن فيها، فتصير حياتنا مركبة سماوية تحمله، كما يليق بنا أن نخضع له ونقدم له أنفسنا، بعد أن أعلن حبه لنا، لا بمركبات وخيل ورجال ولا بعجلات وفرسان ولا بالأبواق والناي ولا بمركبة نارية، بل بحب واتضاع عجيبين..
وكل من يلقي ثيابه القديمة يتمتع بالسيد المسيح نفسه كثوب البر الذي يلتحف به، وكل من يتقدم ويتبع المسيح الملك يتمتع بالغلبة والنصرة على الموت والخطية وهزيمة رئيس هذا العالم، وهكذا يدخل ربنا يسوع إلى أورشليمنا الداخلية ليقيم ملكوته فينا، أنه يوم الانتصار، يدخل فيه المسيح ملكًا إلى أورشليم، وهو آت ليكمل الخلاص الذي من أجله جاء إلى العالم، الراعي والفادي والمخلص جاء ليقدم نفسه ذبيحة عن الشعب في مدينة أورشليم التي هي كنيسته فيصنع خلاصًا وفداء لشعبه.
مبارك الآتي باسم الرب، الرب الذي يرحم صنعة يديه، الرب المتحنن الكثير الرحمة الجزيل التحنن الذي يخلص جميع البشر، يرفع عنهم آثامهم ويرسل النور لأولئك الذين ضلوا طريقهم في الظلام، فهو مبارك لأنه جعلنا نحن الجلوس في الظلمة وظلال الموت نبصر نوره العجيب، وهو ما تعبر عنه الكنيسة في قسمة أحد الشعانين: (أيها الرب ربنا مثل عجب صار اسمك على الأرض كلها، لأن قد ارتفع عظيم بهائك فوق السموات، من أفواه الأطفال والرضع هيئت سبحًا)
مبارك هو الذي أعطانا ذاته ليخلص شعبه إلى التمام، ينقذ الفقير من أيدي ظالميه، ويسكب خمرًا وزيتًا على ذاك الذي وقع بين أيدي اللصوص، هو مُسبح في كل العالم، لأنه الجالس بين تسبيحات إسرائيل، جاء لكي يملك ملكًا عجيبًا جدًا قدام له المجوس ذهبًا ولبانًا ومرًا، ملك غريب وعجيب يملك لا بالسيوف والغزوات بل بالتواضع والمحبة، ملك باك على خلاصنا يسعى لتكون حياتنا أفضل، ملك قوي ارتجت له المدينة، ملك على الصليب (لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد آمين يا عمانوئيل إلهنا وملكنا).