22 - 01 - 2014, 03:04 PM | رقم المشاركة : ( 31 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 30 (29 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير شكر للخلاص من الموتولتدشين بيت داود نبدأ بسلسلة صغيرة من مزامير الشكر [مز 30-34]، أولها هذا المزمور، فيه اعتراف بالجميل وشكر من أجل شفاء مفاجئ وربما بطريقة معجزية تمتع به شخص مصاب بمرض خطير. فإن الآيتين [3، 9] تشيران بصراحة إلى الموت والقبر[575]، وإلى الشفاء الرائع الذي بعث شكرًا مملوءًا فرحًا، كما أثار المرتل ليبرز الدروس التي تعلمها من آلامه. بحسب عنوان المزمور فأنه قد أُنشد به عند تدشين بيت داود. يزعم البعض أن العلاقة بين هذا المزمور كشكر لأجل الشفاء من مرض خطير وتدشين قصر داود، علاقة غامضة، لكن في الحقيقة توجد علاقة وطيدة بينهما. فقد قاست طبيعتنا الصالحة من مرض شديد، إذ فقدت صورة الله والتمثّل بخالقها، وكان عمل المخلص أن يشفيها ويعيد لها جمالها الأصيل الأول، مجددًا خلقتها ليقيمها قصرًا له أو مقدسًا مكرسًا لله. أما الآراء الخاصة بوضع هذا المزمور ومناسبته فهي كالآتي. 1. يعتقد البعض أن وُضع للاحتفال بالشفاء من مرض عضال. كان توقع الموت المبكر يبدو مرعبًا للغاية، ربما لأن المرتل كان صغير السن ينتمي إلى جماعة خدام الهيكل الذين يخدمون إله الحياة عن قرب (مز 16)[576]. 2. يرى البابا أثناسيوس الرسوليأن هذا المزمور أنشده داود النبي لما عرف أن الرب قد غفر إثمه، وتجددت بالتوبة نفسه الكائنة في بيت الرب والتي هي ذاتها بيت الله. 3. يرى القديس غريغوريس أن هذا المزمور هو نبوة عن ما حدث مع حزقيا الملك إذ خلصه الله من سنحاريب (2 مل 19)، وأمدّ عمره 15 عامًا (2 مل 20)، وأنقذ الهيكل من نيران الأعداء. يراه أيضًا نبوة عن ربنا الذي جدد طبيعتنا البشرية بكونها بيته الخاص به وذلك بقوة قيامته[577]. يتطلع كثير من الآباء إلى المزمور بمنظار باطني (سرَّي)، متطلعين إلى البيت أنه ذاك الذي جدده السيد المسيح، مؤكدين أنه إنما يعالج موضوع تجديد الطبيعة الشرية بقوة قيامته، وأن المرض هنا يخص النفس، حلَّ بها خلال السقوط في الخطية، وأن الشفاء أيضًا هو شفاء النفس بعمل المسيح الخلاصي. 4. أُعدّ نبويًا لأجل تدشين الهيكل الأول، لكنه لا يوجد برهان على ذلك ولا حتى مجرد احتمال. يرى plumer أن أفضل الآراء هي أن المزمور قد نُظم لتدشين المذبح في يبدر أرونة اليبوسي على جبل المُريَّا موضع بناء الهيكل (2 صم 24: 18-25؛ 1 أي 18: 30)، وقد دعاه داود النبي "بيت الرب" (1 أي 22: 1) [578]. 5. أستخدم المزمور لتدشين قصر داود نفسه، الذي بُني بخشب حيرام (2 صم 5: 11؛ 1 أي 14: 1). هذا يتفق تمامًا مع عنوانه ومع تصرفات اليهود التقوية (تث 20: 5)؛ فقد حمل داود النبي ذات المشاعر التقوية الواردة في المزمور عند إقامته في بيته، كما جاء في (2 صم 7: 2) [579]. إذ ينبغي علينا أن نكرّس لله البيوت التي نعيش فيها ونقيم كمقياس صغيرة. يلزمنا أن نكرّس أنفسنا وعائلاتنا وكل شئونها بوقار تحت رعاية الله، وأن نطلب حضرته وبركته. 6. يقول الأسقف وايزر Weise: [إن هذا المزمور -حسب عنوانه- كان يُستحدم في تدشين (هانوكه) الهيكل الذي كان يحتفل به سنويًا، كتذكار للعودة إلى العبادة في الهيكل الذي سبق فدمره انتيخوس ابيفانيوس. منذ عام 165 ق.م. فصاعدًا صار الاحتفال يُقام في ذات الموعد كتذكار للخلاص المعجزي من سيطرة الآراميين (السوريين) (1 مك 4: 52 الخ، يو 10: 22)]، لكن كما يقول وايزر إن المزمور لم يكن قد وضع أساسًا لهذا الغرض. 7. يرى بعض الدارسين أن داود وضع هذا المزمور بعد خلاصه من موت مرتقب عندما أدّبه الله لأنه قام بإحصاء الشعب (2 صم 24). إننا لم نسمع عن داود أنه عانى من مرض خطير كما حدث مع حزقيا الملك، وأنه صرخ إلى الرب فاستجاب له في ذلك الأمر، وأعاد له صحته وقوته، لهذا فان ما ورد في المزمور رمزيٌّ ونبويْ. يكشف لنا كيف أن ابن داود الذي قام من بين الأموات، كما لو كان قد برأ من جراحاته وخلص من الموت، قد أسس بيته الجديد، أي الكنيسة. وقد قيل: "مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحبره شفينا" (إش 53: 5). * إننا نمجد الله عندما ندشن في نفوسنا بيتًا لله، لأن عنوان المزمور هو "مزمور أُنشودة، لتدشين بيت داود"[580]. العلامة أوريجانوس القديس أغسطينوس "مزمور أغنية تدشين البيت لداود". 1. الاسم المزدوج "مزمور أغنية" أو "مزمور وأغنية" يعني استخدام آلة وترية (مزمور) مع آلات أخرى (أغنية) عند إنشاده في الهيكل. يرى بعض الدارسين أن ذلك يعني استخدام الصوت مع الآلات الموسيقية ممتزجة معًا أثناء خدمة الهيكل. القول "مزمور أغنية" يعني الآلة الموسيقية تسبق الصوت، أما إذا قيل: "أغنية مزمور" يعني أن الصوت يسبق استخدام الآلات الموسيقية. 2. من جهة نسبة المزمور لداود النبي يقول Gaebelein: [أولئك الذين يتجاهلون العنوان وينكرون نسبة المزمور لداود، يعتقدون أن الكاتب ربما إرميا حينما رُفع من الجب. جاء هذا التفسير معتمدًا على العبارة: "لأنك نشلتني" وتعني حرفيًا: "أنت رفعتني أو سحبتني إلى فوق". لكن الأمر لا يحتاج إلى التفسير الحرفي لتعني انتشال من جب، بل هو تعبير مجازي يشير إلى الرفع من أعماق الحزن والضيق]. ونحن من جانبنا نحتاج إلى هذا المزمور لنكشف بروح الصلاة حضرة الله السامع لتضرعاتنا وشكوانا وسط اجتماعنا الليتورجى. الإطار العام: 1. التسبيح لأجل الشفاء 1. التسبيح لأجل الشفاء: [1-3]. يا ربي وإلهي، صرخت إليك فشفيتني وهبتني النصرة على الهاوية 2. دعوة للتذكر [4-5]. 3. تطلع إلى الخبرة الماضية [6-10]. 4. تجديد التسبيح [11-12]. تطلع إلى الخبرة الماضية أقم بيتك في داخلي يا واهب الحياة هدف المرتل واضح وهو أن يمجد الرب لأنه خلصه من الهاوية ومن القبر؛ ناسبًا الخلاص كله لله. إنها أنشودة القيامة التي تغنى بها مسيحنا القائم من الأموات. ونحن أيضًا -أعضاء جسده- نترنم بها إذ ننعم بحياته المقامة. يقول القديس أغسطينوس: [أغنية النصرة هذه التي يترنم بها المسيح اليوم تصير أغنيتنا نحن فيما بعد]. 1. "أعظمك يا رب لأنك احتضنتني، ولم تشمت بي أعدائي" [1]. كان داود شاكرًا، لأن قيامه لم يكن بمجهودات البشر، فأنه لم يكن يصعد على سلم من صنع البشرية، بل الله هو الذي رفعه. يرى أنثيموس أسقف أورشليم أنها نبوة عن حزقيا الذي نجا من أعدائه، وفي نفس الوقت هي صلاة شكر ترفعها الطبيعة البشرية التي خلصت من الشياطين ومن الموت وذلك بصليب السيد المسيح. أسبح عظمتك يا رب لأنك وهبتني الحياة المُقامة، لم يُعد يشمت بي أعدائي، لأنه حتى الموت لا يقدر أن يقتنصي. * ارتبك الشيطان وملائكته عند قيامة ربنا. رئيس الموت دخل إلى الموت عندما رأى الموت يُقهر! القديس أغسطينوس * قام ابن الله من القبر بالمجد العظيم، فاستضاءت المسكونة بقيامته. مار يعقوب السروجي يوجد في الخلف أعداء يفرحون عندما يتألم الأبرار، بل ويشتهون لهم الموت. كلنا لنا أعداء أشرار يتربصون بنا كصقور خاطفة؛ وليس شيء يسرهم مثلما يرون بعضنا يتعثر ويسقط، ليشمتوا بنا. إنهم يكرهون الصديقين ويشمتون بهم... "لأنكم لستم من العالم، بل أنا أخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم" (يو 15: 19). حينما أخطأ داود الملك وأحصى شعبه ليفتخر بقدرته وإمكانياته، طلب الله منه أن يختار أحد تأديبات ثلاثة، وإذ ضاق به الأمر جدًا قال: "فلنسقط في يد الرب، لأن مراحمه كثيرة، ولا أسقط في يد إنسان" (2 صم 24: 14). ما أرهب أن يسلمنا الله في يد إبليس أو في يد إنسان عدو! مبارك هو الرب الذي يحفظنا من الأعداء! 2. "يا ربي وإلهي، صرخت إليك فشفيتني" [2]. نحن نرى أن الكتاب يربط بين المرض والصحة بعلاقتنا بالله، وبالخطية والفضيلة. يلخص سفر التثنية ذلك بالقول: "أنا أميت وأحييّ، سحقت وأنا أُشفي" (تث 32: 39). يُستخدم الشفاء للتعبير عن إصلاح القلب الشرير (إش 6: 10)، ومعالجة الكسور (مز 60: 2)، وشفاء الناس من الانحراف الروحي (إر 3: 22)، وعزاء الحزانى (مز 147: 3)، وإصلاح الوعاء الفخاري المكسور (إر 19: 11). وربما يقصد بالشفاء الخلاصي من وباء يصعب توقفه، وذلك كما قال الله للملاك المهلك: "كفى. الآن ردّ يدك" (2 صم 24: 16). الله هو طبيب النفس والجسد، في يده شفاء كياننا كله، يقول: "إني أنا الرب شافيك" (خر 15: 26). هو صانعنا وطبيبنا، ويقدر أن يرد لنا صحتنا المعتلة. بلمسة هدب ثوبه برئت نازفة الدم، وبكلمة كانت تخرج الأمراض! حمل الرب جراحاتنا ليشفينا منها خلال جسده المجروح، وإذ قام من الموت أبتلع الموت إلى غلبة (1 كو 15: 54). * دعوتُك يا رب إلهي، ولم أعد بعد مثقلًا بالجسد الوهن الخاضع للمرض والموت. القديس أغسطينوس "يا رب أصعدت من الجحيم نفسي وخلصتني من الهابطين في الجب" [3]. الله كمخلص يحملنا من حفرة الخطية، وينتزعنا من هوة اليأس، يرفعنا من المزبلة، ويدخل بنا بنعمته إلى عرش نعمته، هو الذي أنقذ إرميا من جب الوحل الذي في دار السجن، وهو الذي خلص يوسف من البئر ليقيمه ممجدًا في أرض غريبة! نزل إلى الجحيم وهبط كما في جب لكي ينقذنا من سلطان الظلمة، ويدخل بنا إلى مملكة النور. يتحدث المرتل بلغة اليقين: "شفيتني"، "أصعدت من الجحيم نفسي"، "خلصتني من الهابطين في الجب". إذ لم يتطرق الشك قط في ذهن داود النبي من جهة عمل الله الخلاصي معه. ولعل لغة اليقين تقول على أساس الخبرة الواقعة حيث ننعم هنا بعربون الأبدية في حياتنا اليومية. الشفاء المرتقب الذي يتحقق بالشركة في الأمجاد الأبدية ننعم بعربونه الآن بخبرتنا للحياة الجديدة المقامة. نختبر المجد الداخلي، والحياة السماوية، والشركة مع السمائيين... فنقول مع الرسول بولس: "أقامنا معه وأجلسنا معه في السمويات" (أف 2: 6). 4. يسأل المرتل القديس أن يُشاركوه أسلوبه التقوى المفرح في التسبيح والشكر وتمجيد الله. فإن من يحب الله من كل قلبه ويشكره باخلاص يود أن يشترك الكل معه في ذات العمل [4]. 2. دعوة للتذكر: في الدعوة الإستهلالية [1-3]، نلتقي بالاسم الإلهي "يهوه = الرب" ثلاث مرات، ومع كل مرة نجد باعثًا شخصيًا للمرتل لكي يقدم شكرًا للرب؛ تأتي الآيات [4-5] كدعوة موجهة نحو الجماعة لكي يشترك الكل معًا في التعبير عن عرفانهم بالجميل. هكذا لا يفصل المرتل عبادته الخاصة عن العبادة الجماعية، وحياته التقوية عن الحياة الكنيسة المقدسة. "رتلوا للرب يا جميع قديسيه واعترفوا لذكر قدسه" [4]. اختبر داود النبي حياة التسبيح والفرح في الرب، وها هو يدعو قديسي الرب مشاركته هذه الحياة الملائكية بتذكرهم أعماله القدسية عبر التاريخ وفي حياتهم، إذ يعلن الرب قداسته الفائقه خلال معاملاته معهم. يدعو المرتل المؤمنين قديسين، لأن القداسة تخص الله وحده، يهبها لشعبه ليمارسوا الحياة المقدسة. لقد وهبنا ربنا يسوع المسيح روحه القدوس كروح التقديس واهب جميع الخيرات الذي يوحدنا معًا كجماعة تسبيح مقدسة! إن كانت الخطية تفسد سلام القلب، وتحجب النفس عن الفرح، وتحدر الإنسان عن الشركة مع السمائيين الدائمي التسبيح لله، فإن ثمر الروح القدس الذي يرفعنا إلى الحياة السماوية هو الفرح الداخلي، فيضرب على أوتار حياتنا ليعزف سيمفونية حب مفرحة. إنه يهبنا القداسة فنرتل بالقلب واللسان متذكرين معاملات الله معنا، وممجدين قداسته العاملة فينا. بمعنى آخر لا يفصل بين القداسة وحياة التسبيح. إذ يدعو المرتل الجماعة المقدسة أن تذكر قدس الله أو قداسته أو أعماله المقدسة، يركز على عمل الصليب والقيامة بكونهما عمل خلاصي فائق يُنتزع خلاله سخط غضب الله ليحل رضاه، ويُنتزع الحزن والبكاء ليحل الفرح والسرور. "لأن سخطًا في غضبه وحياة في رضائه. بالعشاء يحلّ البكاء، وبالغداة السرور" [5]. ربما يشير المرتل هنا إلى التأديب الذي حلّ به بسبب إحصائه للشعب، حيث حلَّ الوباء بالشعب وأُعلن غضب الله وسخطه، لكنه ردّ الملاك المهلك سيفه كأمر الرب قبل أن تكمل أيام التأديب. عندئذ بنى داود مذبحًا للرب، وأصعد محرقات وذبائح سلامة واستجاب الرب من أجل الأرض (2 صم 24: 25). في النص العبري: "لأن للخطية غضبه"؛ غضب الله إنما هو للخطة، حيث مقاصده التعليم لا الهلاك، دافعه في الغضب لا الانتقام الشخصي وإنما تقديم نعمته للتأديب لكي تعينهم على ترك طرقهم المعوجة والسير في طريق البر[581]. * "لأن سخطًا في غضبه"، لقد نزع عنكم عقوبة الخطية الأصلية التي كفرتم عنها بالموت؛ "لكن حياة في إرادته"، فقد وهبكم الحياة الأبدية التي نلتموها دون أدنى مجهود ذاتي من جانبكم، إذ صارت حسب مسرته الصالحة (في رضائه). القديس أغسطينوس إذ تحجب الخطية النور عن قلوبنا لتحل ظلمة الغروب يقتحم البكاء خيمتنا ليقطن فيها، حاسبًا نفسه صاحب موضع، يقطن خيمتنا على الدوام ولا يفارقها، لكن شكرًا لشمس البر الذي أشرق على حياتنا ليبدد ظلمتها، محولًا غروبنا إلى نهار منير، فيرحل البكاء ويحل الفرح الداخلي في قلوبنا أبديًا. هكذا قيل للعروس: "إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال أذهب إلى جبل المُرّ وتل اللبان" (نش 4: 6). لقد حطم عريسنا المشرق ظلمة العشاء بنعمته، ليحوِّل حياتنا إلى عرس مفرح وعيد غير منقطع وأفراح مجيدة! في الغروب حلَّ البكاء حيث أعلن الرب بصليبه مرارة الخطية التي حملها عنا، وفي الصباح قام من الأموات ليهبنا برّه المفرح وحياته المقامة. في الغروب هدد ربشاقي حزقيال أنه سيدمر أورشليم. "وكان في تلك الليلة أن ملاك الرب خرج وضرب من جيش أشور مئة ألف وخمسة وثمانين ألفًا؛ ولما بكروا صباحًا إذ هم جميعًا جثث ميتة" (2 مل 19: 35). في المساء كان الشعب يبكي، وفي الصباح فرحوا بخلاص الله. إنها نبوة عن عمل ربنا الخلاصي، ففي المساء مات، وفي الصباح قام من الأموات يهبنا فرحه. يقول أنثيموس أسقف أورشليم: [إن ربنا يسوع المسيح هو ابن البر الذي رفضه اليهود، فصاروا كمن هم في مساء محرومين من النور الإلهي والفرح، أما المسيحيون فيؤمنون بالمسيح، صاروا كمن في صباح مملوئين بالفرح. كلمة "مساء" في العبرية لا تعني "المساء المظلم"، "مساء مستمر"، وإنما يعني "الغروب an evening"[583]. * "بالعشاء ينصب البكاء خيمته" حلَّ هذا المساء evening عندما انطفأ نور الحكمة في الإنسان الخاطي وسقط تحت حكم الموت؛ منذ ذلك المساء المحتوم، التزَم شعب الله بسكب الدموع وسط التعب والتجارب، مترقبًا حلول نهار الرب. يليق بالإنسان أن ينتظر حتى الصباح ليشهد لفرح قيامته التي أنبعث نورها في باكورتها الأولى عندما قام ربنا عند شق الفجر. القديس أغسطينوس كان هناك يوم واحد قبل الناموس؛ ثم جاء يوم ثانٍ تحت الناموس، فيوم ثالث تحت النعمة. ذاك اليوم الذي عينه وأظهره رأسنا نفسه خلال الثلاثة أيام، يجب إعادة تطبيقه أيضًا بالنسبة لكم... والصباح هو زمن الرجاء والفرح؛ أما الوقت الحاضر فهو زمن الاحتمال والمحن. القديس أغسطينوس تمثل الآيات [6-12] تغييرًا مفاجئًا في طابع المزمور حيث يروي المرتل ما أصابه من مرض مهلك، مصليًا طالبًا العون الإلهي. يروي المرتل خبرته في شيء من التفصيل؛ فيتحدث عن الزمان الذي كان فيه آمنا في ثقة بالنفس، متخيلًا أنه لا يمكن أن يتزعزع [6]، وإذ أخفى الرب وجهه عنه، أي غضب عليه، صار المرتل محرومًا من نعمة الله ورحمته، لأنه اتكل على ذاته؛ عندئذ أدرك أنه اقتنى غضب الله. فبإغضاب الله نجلب على أنفسنا السخط والدينونة، "لأن أجرة الخطية هي موت" (رو 6: 23)، بينما بصنعنا مشيئته نجد حياة وصحة وسعادة (1 يو 2: 17؛ 3: 14؛ رو 14: 17). لقد صرخ المرتل إلى الرب وتضرع إليه [8]، ربما لأنه كان مُحاطًا بأعداء هددوه بالموت والهلاك. كان الله هو ملجأه الوحيد، فدعاه ليكون معينًا له؛ فجاءت الاستجابة. من خلال الحب الإلهي نال قوة وجمالًا داخليًا [7]، فتحول نوحه إلى فرح، ومسوحه إل ثياب مفرحة تستره [11]. ما هي خبرة معلمنا داود النبي؟ حينما كان النصر حليفه وكل الإمكانيات بين يديه اتكل على قدراته، قائلًا: "إني لا أحول إلى الدهر"، وإما في وقت الضيق فكان يصرخ إلى الرب ويتضرع [8]. فبالضيق نقترب جدًا من الله. * لنأخذ مثلًا أحد القديسين، ولننظر ماذا كان حاله حينما كان في نعيمه وأيضًا حين صار في ضيق؟ هل ننظر إلى داود نفسه؟ حينما كان في نعيم وفرح بسبب انتصارات عدة وغلبته وأكاليله وبذخ حياته وثقته، انظر ماذا قال؟ وماذا فعل؟ "إني لا احوّل إلى الدهر" [6]. لكنه حينما حلت به الضيقة، فلنسمع ماذا كان يقول: "وإن قال هكذا إني لم أسرَّ بك فهانذا فليفعل بي حسبما يحسن في عينيه" (2 صم 15: 26)[584]. القديس يوحنا الذهبي الفم الذين يظنون أنهم في طمأنينة أو في نعيم، متكلين على قوتهم وكرامتهم وثروتهم، يحسبون أنفسهم أنهم لن يتزعزعوا، لكنهم في الواقع يبنون حصونهم على رمال فتنهار. يرى القديس باسيليوس الكبير أن سقوط داود في الخطية جاء نتيجة كبريائه، إذ ظن أنه في طمأنينةٍ. داود الذي اعتاد أن ينسب طمأنينته الكبرى ونعيمه إلى قوة الله ومحبته سقط في ضعفه في المجد الباطل حين أحصى شعبه. رآه يوآب على وشك السقوط فحذره بأمانة من ذلك (2 صم 24: 3)، لكنه لم يصغ له. عمل الإحصاء في ذاته لم يكن شرًا، كما هو واضح من الكتاب المقدس ذاته (خر 30: 12)، لكن إجراءه بدافع الكبرياء والمجد الباطل كريه جدًا لدى الله. من يجد طمأنينة ونعيمه في الأمور الزمنية يمتلئ كبرياءً فيتزعزع ويهلك، أما من يجد في مسيحه فرحه ونعيمه فبالحق يثبت فيه ولا يتزعزع إلى الدهر. يقول العلامة أوريجانوس: [إن النفس التي في طمأنينة حقيقية لا يمكن أن تتزعزع؛ ربنا هو طمأنينتنا، فيه لن نتزعزع قط، بل نشاركه مجده إلى الأبد. هو يهبنا نجاحًا في كل أوجه حياتنا، وبدونه لا ننعم بقوة ولا حكمة ولا فرح ولا ثبات. إذ سقط داود في التجربة وأدرك أن أفكاره كانت خاطئة، صار ينسب كل نجاح حلَّ به قبلًا وكل مجد داخلي وخارجي بل وكل جمال روحي إنما هو ثمرة رضا الله، تم كمشيئته الإلهية وبقوته، إذ يقول: "يا رب بمشيئتك أعطيت جمالي قوة. صرفت وجهك عني فصرت قلقًا" [7]. إن كان داود قد اعتلى العرش ونال نصرات متتالية، فهذا هو عمل مشيئة الله، لكن الآن إذ يصرف الله وجهه عنه يتزعزع ويمتلئ قلقًا حتى يرجع إلى نفسه ويعود بالتوية إلى إلهه. وما نقوله عن داود تحقق بالنسبة للبشرية أيضًا، فقد وهبها الله قوة وصلاحًا وسلطانًا وجمالًا، وإذ ظن الإنسان أن لا يتزعزع، كسر الوصية، ففقد كل جمال داخلي وانهار بروح القلق والاضطراب. * مع أنني كنت جميلًا بالطبيعة، لكنني مُت بالخطية، بخداع الحية. لقد أضفت إلى الجمال الذي أعطيتني إياه حينما خلقتني أولًا قوة كي أتمم مشيئتك[585]. القديس باسيليوس الكبير هذا الجمال الروحي بكوننا على صورة الله ومثاله، وهذه القوة التي وهبتنا لطاعة وصيتك، قد ضاعا بكبرياء قلبنا... لقد صرفت وجهك عنا فدخلنا في حالة قلق! يتحدث الأب دوروثيؤس من غزة عن هذا الجمال الذي يهبه الله للنفس، قائلًا: [لننقِ ولننظف الشَّبَه (الله) الذي نلناه. لننزع عنه تراب الخطية ليظهر بكل جماله بالفضائل... فإن الله يريد منا ما أعطاه إيانا بلا دنس ولا غضب أو عيب (أف 5: 27)[586]].الآن إذ حجب الرب وجهه عن داود الذي أساء إلى الجمال والقوة الذين وهبهما له الله، لم يكن أمامه إلا أن يصرخ إلى واهب العطايا. مهما بلغت خطايانا فإن مراحم الله تنتظرنا لكي ترد إلينا بهاء الله فينا. إن كان الله يحجب وجهه فإلى حين لكي نصرخ إليه، فيتجلى في داخلنا ونراه عاملًا فينا. إنه حتى بحجب وجهه يريد أن تزداد صلواتنا حرارة وإيمانًا وثقة فيه! لا يقف الأمر عند الصلاة إنما وسط هذا الضيق يطلب المرتل أن يفتح الله قلبه للتسبيح والاعتراف له. فقد علم أنه مادام الإنسان في الخطية، أي هابطًا إلى الهلاك وملتحقًا بالتراب لا ينتفع هو شيئًا ولا يقدر أن يسبح الله. "أية منفعة في دمي إذا هبطت إلى الهلاك؟! هل يعترف لك التراب؟! أو يخبر بحقك؟!" [9]. كان يقول في صراحة الحب: ماذا تنتفع إن سُفك دمي أو هلكت؟! أما تفقد أحد أحبائك الذين يُسبّحون لك ويمجدونك؟، حينما افقد طبيعتي السماوية وأصير ترابًا، هل يمكن لحياتي أن تعترف بحبك أو تعلن عن حقك يا صانع الخيرات؟! إنه عتاب الحب فيه يستجدي بدالة مراحم الله ويطلب تحقيق مواعيده الإلهية. يرى القديس أثناسيوس الرسولي في هذا القول نبوة عن السيد المسيح الذي نزل إلى القبر لكن ليس بلا منفعة، لأنه ربح العالم كله. بنزوله ردّ لنا بهجة الخلاص[587]. لعلَّ المرتل أدرك هذا العمل الخلاصي، إذ أضاف: "سمع الرب فرحمني، الرب صار لي عونًا" [10]. بهذا المنظار يرى القديس أمبروسيوس الرب مخلصًا لمؤمنيه لا ديّانًا مرعبًا لهم، إذ يقول: [هل يمكن للمسيح أن يدينك وقد خلصك من الموت وقدم نفسه (ذبيحة) لأجلك عندما عرف أن حياتك هي ما تقتنيه بموته؟ أما يقول: "أية منفعة في دمي" إن كنت أدين ذاك الإنسان الذي أنا أخلصه؟ علاوة على هذا فإنك تفكر فيه كديّان ولم تفكر فيه كشفيع، هل يمكن أن يُصدر حكمًا عنيفًا وهو ذاك الذي يطلب دائمًا أن تُهب لنا نعمة المصالحة مع الآب؟[588]]. لقد سمع الرب صلاتي فرحمني بنزوله إلى الجحيم كي يكون لي عونًا، يحملني من هناك ويدخل بي إلى ملكوته، أو يقيم ملكوته في داخلي، فأسحبه قائلًا: "رددت نوحي إلى فرح لي. مزقت مسحي ومنطقتني سرورًا" [11]. لم يصمت المرتل، إذ أراد أن يعرف كل أحد ما حدث في حياته من تغير، من نوح إلى فرح أو رقص، ومن ارتداء المسوح إلى التمنطق بالبهجة والسرور، ومن الصمت إلى التسبيح[589]. لقد أبدل داود ثوب التوبة الذي يحوط بجسده مثل مسوح بثوب عرس يتمنطق به؛ صارت له ثياب عيد ليشترك في احتفال بهيج ورقص روحي (مز 118: 27؛ 149: 3). تغيير الملابس الخارجية تكشف عن تغيير داخلي في نفس المرتل استجيبت صلاته، فتحول من التوبة إلى الشكر والفرح[590]. * ما هي هذه المسوح؟ إنها الإماتة! فقد كانت المسوح تُنسج من شعر الماعز والجداء، كلاهما حُسبا من الخطاة (مت 25: 32). لقد لبس الرب كواحدٍ من جنسنا المسوح لكن ليس كعقاب له... ذاك الذي لم يفعل شيئًا ما يستحق الموت، ارتدى بإرادته جسدًا قابلًا للموت من أجلنا. القديس أغسطينوس * إنه يترقب مراثينا هنا، أي في هذا الزمن، كي يهبنا الأبدايات. إنه يترقب دموعنا لكي يفيض علينا بصلاحه[591]. القديس أمبروسيوس القديس أمبروسيوس القديس أمبروسيوس "لكيما يرتل لك مجدي ولا أندم يا ربي وإلهي إلى الأبد أعترف لك" [12]. ليس عجيبًا أن يقول: "يرتل لك مجدي"، فإنه إذ يهبنا الله مجدًا يتمجد هو فينا. تمجيد الله ليس تسبيحًا بالكلمات وإنما هو إعلان عن عمله فينان حيث يرفعنا من المزبلة إلى المجد، أو من جحيم الخطية إلى فردوس ملكوته المفرح. التسبيح هو من صميم عمل المؤمن أيّا كان مركزه في الكنيسة، فإنه حتى في وسط أحزاننا يليق بنا أن نخصص وقتًا للتسبيح يكشف عن حياة الفرح الداخلي وسط الآلام. هذا ما عناه المرتل بقوله "ولا أندم" أو "لا أسكت"، إذ يفيض التسبيح من المؤمن الحقيقي بلا توقف. يختتم المرتل مزموره بالالتزام بالاعتراف بالحمد لله بكونه ربه وإلهه الذي يهتم به شخصيًا. كأنه عوض الموت الذي لحق به والذي من أجله صرخ، صار في حياة جديدة على مستوى سماوي لا تعرف إلا التسبيح تحت كل الظروف. أقم بيتك في داخلي يا واهب الحياة * يا واهب القيامة أقم حياتي من الموت، قدّس قلبي مسكنًا لك. حوّل قبري الداخلي إلى مقدس لك! * نزلتَ إلى الجحيم لكي تحملني من هوة الخطية إلى فردوس برك. * أذكر أعمالك معي ومع كل شعبك، فينفتح قلبي بالتهليل ولساني ينطق بالتمجيد! * أنت سرّ جمالي وقوتي، دخلت إلى الحزن بالصليب لتحملنا بقيامتك إلى الفرح. * في مساء هذا العالم يحّل بنا حزن التوبة، فيشرق مسيحنا على حياتنا بفرح بره. * انزع عني مسوح المرارة، ولتعطني ذاتك ثوب بر مفرِّح، حول حياتي بمجدك إلى تسبيح بلا انقطاع. |
||||
22 - 01 - 2014, 03:05 PM | رقم المشاركة : ( 32 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 31 - تفسير سفر المزامير في يديك استودع روحيفي مقال للقديس أغسطينوس عن المزمور 31 كتب: [إن كان المزمور يُصلي صلوا أنتم؛ وإن كان يحزن احزنوا؛ وإن كان سعيدًا افرحوا؛ وإن كان يترجى فليكن لكم رجاء؛ إن كان يخاف خافوا! لأن كل ما هو مكتوب هنا إنما هو مرآة نرى فيها نفوسنا[593]]. مناسبته: المزمور هو صلاة مرثاة بسيطة مع شكر لإنسان يئن من مرض لسنوات طويلة [9]، يضطهده أعداء متشامخون [21]، يطلب الحماية في الله من مواجهة تهديد موت عنيف [5، 13] [594]. حدد البعض مناسبة هذا المزمور أنها تمرد أبشالوم؛ وظن آخرون أنها هروب داود إلى قعيلة المسجل في (1 صم 23: 1-12)؛ أو أثناء اضطهاد شاول المرير له بعد هروبه إلى قعيلة حيث كان في برية معون (1 صم 23: 13-26)؛ وقد عانى داود من التعب والأحزان [9]، ومن الضعف [10]؛ والتوبيخ [11]، والشعور بالعزلة [12]، والخوف المروّع والخطر [13]. لقد آمن أنه في كل ظروف التعب، الله هو ملجأه. في الواقع يمثل هذا المزمور الصراع الدائم الذي يُعاني منه المؤمنون أو الكنيسة ككل في ظل هذا العالم الحاضر، والخلاص والنصرة اللذين يتبعان هذا الصراع على وجه اليقين[595]. إن كان داود قد صرخ إلى الرب في ضيقته بسبب اتفاق أهل قعيلة مع شاول على تسليمه، قائلًا: "في يديك استودع روحي"؛ فإن هذه هي صرخة ابن داود الذي إذ حمل خطايا العالم كله على كتفيه، سلمته لعار الصليب (لو 23: 46)، الذي يتبعه مجد القيامة. إنها صرخة كل تقي في كل جيل حين يحدق به الضيق من كل جانب، فيحوّل الله صرخته المرة إلى ترنم وتسبيح! طبيعة آلام المرتل العامة - خاصة في الأعداد [1-8]، تجعل من هذا المزمور صوتًا لكثير من المتعبدين عبر القرون[596]. يزعم البعض أن إرميا هو كاتب المزمور بالرغم من العنوان القديم له يخبرنا أنه لداود. أما سبب ذلك فهو أن أجزاءً كثيرة من المزمور تتفق مع خبرات إرميا النبي (قارن آية 4 مع إر 17: 18؛ 10 مع مراثي 1: 20؛ 11 مع إر 20: 8، 18 مع إر 17: 18؛ 23 مع مراث 3: 64). هذا وتعبير أن الخوف حوله [13] قد تكرر ست مرات في كتابات إرميا النبي. على أي الأحوال فإن داود وإرميا كانا قديسين، وتألما آلامًا مبرحة؛ وكلاهما وثقا في الله على ذات المستوى، فكانت لهما ذات الخبرة، مما قادهما إلى استخدام تعبيرات مشابهة. العنوان: "حتى النهاية، مزمور لداود في حالة دهش". سبق أن تحدثنا عن تعبير: "حتى النهاية" كعلامة عن السيد المسيح بكونه نهاية وكمال الناموس والأنبياء. يرى القديس أغسطينوسأن كلمة "دهش" هنا تعني "نشوة تتحقق خلال استعلان إلهي"، إذ يقول: [هكذا كان دهش القديسين الذين أعلن لهم الله عن أمور خفية تتعدى أمور هذا العالم. هذه هي النشوة الفعلية أو الدهش الذي وصفه بولس في حديثه عن نفسه: "لأننا إن صرنا مختّلين (في دهش عقلي) فالله، وإن كنا عاقلين فلكم" (2 كو 5: 13-14)... فأن (الله) دائمًا يرى ما نراه نحن، فقط عندما تكون النفس في دهش؛ إنه وحده يكشف لنا أسراره]. الإطار العام: 1. الله ملجأي 1. الله ملجأي:[1-8]. أ. المسيح برنا وقداستنا ب. المسيح هو صديقنا المقرَّب ج. المسيح إلهي د. المسيح قوتي هـ. المسيح قائدي وراعيَّ (يقوتني) و. المسيح يخلصنا من الفخاخ السرية التي ينصبها الأعداء لنا ز. المسيح حافظ روحي ح. المسيح مصدر فرحي وبهجتي ط. المسيح مصدر التحرّر حتى من الموت 2. طلب الخلاص [9-18]. 3. الحياة غالبة الآلام [19-22]. 4. تسبحة ليتورجية تعليمية [23-24]. في يديك استودع روحي "عليك يا رب توكلت (وترجيت) فلا تحزني إلى الأبد. بعد ذلك (ببرِّك) نجني وانقذني" [1] في النص العبري: "فيك يا رب أترجى وأتكل"، وقد جاء الفعل "أترجى" في زمن الديمومة، أي أن الفعل مستمر حتى الآن. وعلى الرغم من أننا لا نركز أنظارنا على حادثة معينة في حياة داود تخص هذا القول، إلا أنه من الواضح أن المزمور يتعلق بخطر معين أحدق بداود، وربما يتعلق بعدة مخاطر حلت به[597]. في القسم الافتتاحي للمزمور، يضع المرتل ثقته في عدل الله أو بره، بمعنى أن الرب عادل في تحقيق مواعيده الخاصة بغفران الخطايا وحماية مؤمنيه، لن يتنكر لها. إنه عادل، لن يتخلى عمن وضع كل اتكاله عليه وثقته فيه. يتكل المرتل على برّ الله؛ البر بالتأكيد هو فوق الأمانة، لكن بدون الأمانة لا يوجد برّ. البّر هنا هو برّ الله لا برّ داود. إننا نجد ملجأنا في الله، لأنه (المكان) الخفي الذي إليه نهرب من الخطية بكونها عدو لنا، فننال برّه، هو صخرة صلدة، بيت للدفاع، قلعة حصينة ومأوى أكيد. بهذا لن تهزنا التجارب ولا نفقد سلامنا الداخلي. * الإنسان الذي يكرّس نفسه لله مرة وعلى الدوام، يعبر الحياة بعقل مستريح[598]. القديس مار إسحق السرياني نصرخ مع المرتل: "على الرب توكلت" ليس فقط وسط متاعب هذه الحياة، وإنما وسط معركتنا ضد الخطية، فهو وحده ملجأ لنا من الخطية، ليس فقط يغفر لنا خطايانا، أو يحمينا منها، وإنما يهبنا حياته عاملة فينا، فنحمل برَّه وقداسته بفضل عمل روحه القدوس فينا. "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة؛ الأشياء العتيقة قد مضت؛ هوذا الكل قد صار جديدًا" (2 كو 5: 17). * أول كل شيء -كما نعرف- هو الله، بدء كل عمل صالح وفي وسطه ونهايته[599]. القديس مرقس الناسك يقول القديس أغسطينوس: [إنه هو أُذن الآب الذي يميل إليّ أنا شخصيًا ليصغي إليّ بتجسده وصلبه. أية رحمة أعظم من أن يعطينا ابنه الوحيد الجنس، لا ليعيش بيننا فحسب، وإنما ليموت لأجلنا؟! "أمِل إليّ أذنك"[2]]. إمالة الأذن تعني الاستعداد لسماع حتى الهمسة. يسمع الآب تنهدات القلب الخفية ويستجيب بكلمته المتجسد المبذول على الصليب. لقد ظن الفلاسفة أن الله خلق الكون وحركه، تركه يتحرك طبيعيًا خلال قوانين الطبيعة، ليبقى في سمواته معزولًا عن خليقته. أما المرتل فيرى الله يميل بأذنه إلى قلب كل إنسان ينصت إليه ويستجيب بالحب العملي. إنه لن يتأخر لحظة عن الإنصات إلى أنَّات كل مسكين. 3. المسيح إلهي هو حمايتي وبيت ملجأي [2]، لذا يسأل المرتل إلهه أن يخلصه سريعًا، قائلًا: "أمل إليّ سمعك، واسرع إلى خلاصي كن لي إلهًا وعاضدًا وبيِت ملجأ لتخلصني" [2]. قبل أن يطلب المرتل الخلاص من الضيق يعلن اعتزازه بالله بكونه إلهه، وكأنه خاص به. انتساب الله إليه وهو إلى الله هو كل شيء بالنسبة له، وهو سرّ خلاصه. شعر المرتل كأن فخًا قد نصبه له الصياد مخفيًا وسط الأحراش، وها هو ينتظر مصيره، لكنه يجد الله إلهه هو ملجأ له، يفتح له مقدسه ليحميه من مضطهديه[600]. يرى مار إسحق السرياني أن المؤمن لا ينتظر وقت التجربة ليلجأ إلى الله، بل يطلب الله أولًا، فيكون ملجأه متى حلت ضيقة. * قبل أن تبدأ الحرب ابحث عن حليف؛ قبل السقوط في مرض ليكن لك طبيبك؛ قبل أن تحل عليك الأمور المحزنة صِلّ، ففي وقت أحزانك تجده وهو يسمع لك[601]. مار إسحق السرياني * أنت هو بيت ملجأي، إليك أركض. فإنني أين أهرب منك؟ هل الله غاضب عليك؟ أين تختفي منه...؟ لكي تهرب من الله، أسرع إلى ربك! في الحقيقة لا توجد بقعة تهرب إليها من الله. ففي عيني القدير، كل شيء مكشوف وعريان، لذا يقول المرتل: "كن بيت ملجأ لي". اجعلني معافًا فأطير حولك؛ فإنك ما لم تجعلني معافًا لا أقوى حتى على المشي، فكيف أقدر على الطيران؟! القديس أغسطينوس "لأنك أنت هو قوتي وملجأي. فمن أجل اسمك تهديني وتعولني" [3]. يعلن المرتل المتألم للمرة الثانية عن ثقته الكاملة في الله بالنسبة له شخصيًا، إذ يكرر المرتل ياء الملكية: "قوتي، ملجأي". * أنت قوتي في احتمال مضطهديّ، وملجأي الذي إليه أهرب منهم. القديس أغسطينوس مار إسحق السرياني 5. المسيح قائدي وراعيَّ (يقوتني): "فمن أجل اسمك تهديني وتعولني" [3] * قائدكم نفسه الذي ارتضى أن يُجرب لأجلكم، قد وضع نفسه أمامكم مثالًا بسلوكه الشخصي. * هو يعولني لأتقوى فأتناول طعام الملائكة، هنا على الأرض؛ ذاك الذي وعدنا بالطعام السماوي يقوتنا باللبن متشبهًا بالأم الرؤوم، لأنه هكذا تُرضع الأم طفلها وتنقل من جسمها الطعام الذي يُناسب الرضيع. القديس أغسطينوس إن جعت تجده طعامك السماوي؛ وإن تعريت يغطيك بدمه فيسترك أبديًا؛ وإن أحاط بك الأعداء قاد المعركة الروحية بنفسه، وإن تُهتَ قدم نفسه الطريق والحق، وإن مُت فهو قيامتك. لن يشعرك بحرمان قط؛ هو الطبيب والعريس والصديق والباب والحياة والفرح والغنى الخ... 6. المسيح يخلصنا من الفخاخ السرية التي ينصبها الأعداء لنا. "تخرجني من هذا الفخ الذي أخفوه لي، لأنك أنت ناصري" [4]. كان أعداء داود النبي أقوياء، وعنفاء، وماكرين؛ إذ عجزوا عن تحطيمه بالعنف استخدموا الخداع والمكر لاصطياده كما في فخ. لقد شبه نفسه مرات كثيرة كعصفور في فح، لكن الله يكسر الفخ ليُنجيه. ما دام الله يهبنا روحه القدوس عاملًا فينا فلنطِر كما إلى السماء عينها، فلا يقدر عدو الخير أن يصطادنا بفخاخه المخفية على الأرض. لنرتفع بروحه إلى الحياة العلوية فلا يحطمنا العالم بأشراكه! * رأسنا فوق، وهو حرّ. لنلتصق به بالحب، حتى نتحد معه بالأكثر فيما بعد بالخلود. لنعلن جميعًا: "تخرجني من هذا الفخ الذي أخفوه لي، لأنك أنت حمايتي". القديس أغسطينوس "في يديك استودع روحي. لقد فديتني يا رب إله الحق" [5]. هذه الكلمات الأخيرة التي نطق بها المخلص عند موته بالجسد (لو 23: 46)، تخص كل مؤمن. إنها معين قوي وسند له في ساعة موته. ثقة المرتل البسيطة وبرهانه هذا عليها، التي بها يستودع حياته كلها بين يديْ إلهه، تشبه ما ينطق به إنسان يتنفس الصعداء عندما يبلغ حماية حصون قلعة بعد معركة حامية ويشعر بأنه قد زال عنه الخطر[603]. لقد نطق بها القديس اسطفانوس (أع 7: 58)، وهو يُرجم، فقد شعر بالأمان عندما رأى السموات مفتوحة وابن الإنسان قائم عن يمين العظمة، كمن يُرحب به ويدخل به إلى الفردوس. لم يرتبك أمام الحجارة التي تنهال عليه، ولا خشى الراجمين، بل تحنن عليهم وطلب لأجل غفران خطاياهم، لعلهم يتمتعون بما يناله هو. كما استودع المرتل روحه وحياته بين يدي الله، هكذا يرى المؤمن وسط آلامه، أن إنسانه الخارجي يُفني بينما الداخلي - الذي يحتضنه الرب بنفسه - يتجدد يومًا فيومًا (2 كو 4: 16). أخيرًا، فأن المرتل لا يكتفي بالجانب السلبي أن يخرجه من الفخاخ الخفية المنصوبة له، لكنه في عوز إلى الدخول في الأحضان الإلهية، ليعيش مطمئنًا ومتهللًا! هناك في الأحضان الأبوية ندرك مفهوم الفداء لا كخلاص من الخطة (العدو) فحسب وإنما متعة بالله نفسه، الأمر الذي لن يتحقق بمجهود ذاي أو بشرى إنما هو عمل الله في المؤمنين المجاهدين قانونيًا، بالروح والحق. لذا يقول المرتل: "لقد فديتني يا رب إله الحق. أبغضت الذين يحفظون الباطن مجانًا. وأنا عليك يا رب توكلت" [6]. 8. المسيح مصدر فرحي وبهجتي: "أتهلل وأفرح برحمتك. لأنك نظرت إلى تواضعي، وخلَّصتَ من الشدائد نفسي" [7]. ثمر الخلاص من الأعداء (الخطايا) والدخول إلى الحضرة الإلهية هو الفرح الداخلي والسلام الحقيقي، حيث تلهج النفس بحب الله الذي رفعها من المذلة وأنقذها من الشدائد. لقد أدرك المرتل وسط آلامه معاملات الله السابقة معه، فتأكد من صدق مواعيده، وشعر أنه وإن سمح له الله بالشدائد لكنه دائم النظر إليه. إنه يبصره ويزن شدائده، ويضع لها حدودًا، إذ يعرف بحكمته السماوية وأبوته إمكانية احتمالنا، وما هو لنفعنا. يشبه الفخَّاري الذي لا تفارق عيناه الآنية التي في النار، ويعرف درجة الحرارة المناسبة لكل إناء، والمدة التي يبقى فيها داخل الفرن. أبّوة الله ورعايته الدائمة وتخطيطاته هي سرّ فرحنا! * الفرح في الله أقوى من الحياة الحاضرة؛ من يجده ليس فقط لا يدقق في فحص الآلام، بل ولا حتى يفكر في حياته، ولا يرتبك بشيء قط، ذلك إن تأهل بحق لهذا الفرح[604]. مار إسحق السرياني * بأمر واحد فقط يمكنك أن تهزمهم (أي الشياطين)، بالاتضاع. ما أن تقتنيه حتى تنحل كل قوتهم[605]. * كنز الاتضاع داخلك، هذا هو الرب (نفسه) [606]. مار إسحق السرياني "لم تحبسني في أيدي العدو أقمت في السعة رجليَّ" [8]. إن كان داود النبي قد فلت من يديْ شاول عندما تآمر أهل قعيلة عليه، فقد أدرك في هذا عربونًا لنعمة الحرية التي ينالها المؤمن من الله مخلصه، الذي به نفلت من يديْ إبليس ونهرب من جحيمه، لندخل إلى سعة الفردوس ورحبه. إنه يفك قيود المقطره لتجري أقدامنا في طريق الله الملوكي بخطوات سريعة، فلا يلحق بنا العدو مرة أخرى. إن كان طريق الخلاص ضيق، لكن ما أن نمد أرجلنا فيه حتى نجده متسعًا ورحبًا، على خلاف طريق الشر يبدأ بالاتساع لكنه متى دخله إنسان أغلق عليه ونُزع عنه سلامه الداخلي وحُطمت حياته! نير المسيح حلو وعذب، أما فرح العالم فمرُّ وقاتل! اختبر المرتل وسط آلامه "السعة"، سعة طريق الرب وسعة قلب المؤمن. فإنه إذ يلمس عمل الله وحبه وسط الضيقات يتسع قلبه للمتألمين والمجروحين والمحتاجين، بل وحتى لمضايقيه. الآلام التي تحطم غير المؤمن فتزيده أحيانًا كفرًا ومرارة، تهب المؤمن الحقيقي خبرة الحب للغير واتساع القلب، إن أمكن للعالم كله... فيصير المؤمن كمخلصه الذي بسط ذراعيه وسط آلام الصليب ليحتضن العالم كله بحبه الإلهي! هذه هي الحرية التي يهبها المخلص لمشاركيه في الآلام، حرية الحب للغير ولله دون حوف حتى من الموت! * "لم تحبسني في أيدي العدو" [8]... إننا نتوق أن نبلغ ملكوت الله لكن ليس بالموت؛ لكنه بالضرورة يخبرك: عليك أن ترحل في هذا الطريق. هل تتردد أيها الإنسان المائت في أن تسلك هذا الطريق الذي سلكه الله لأجلك؟ كلنا مدعوون للموت، فإن متنا ميتة صالحة نتحرر من يديه. لكن من يموت ميتة شريرة (أي يموت في شره)، في خطاياه، يُحبس في يديْ الموت، لينال في اليوم الأخير لعنة إلى الأبد. الله ربنا يحررنا من يديْ عدونا الذي يحبسنا خلال شهواتنا (رو 8: 1-13). لكن إذا ما كانت شهواتنا قوية ومنضبطة تصير لازمة وضرورية؛ وحينما تحررنا قوة الله حتى من الضروريات ماذا يمكن للعدو أن يحبس فينا؟ * "أقمت في السعة رجليَّ" [8]. الطريق دون شك ضيّق (مت 7: 14) بالنسبة للعامل، أما بالنسبة للمحب فهو متسع. الطريق نفسه الضيق يصير رحبًا! * "أقمت في السعة رجليَّ". إن قيامة ربي التي أنا متيقّن منها، ووعده لي (بالقيامة) يحرر حبي من قيود الخوف، لهذا يتقدم حبي أكثر فأكثر إلى السعة في أبعاد الحرية. القديس أغسطينوس يستهل المرتل هذا القسم بالتضرع المعهود أن ينعم عليه الرب بالرحمة. بينما يصف القسم السابق مراحم الله في الماضي، يتحدث هذا القسم عن امتدادها والحاجة إليها في الحاضر. يُعزي المؤمنون المتاعب التي تحل بأجسادهم ونفوسهم إلى خطاياهم، لهذا يضرعون إلى الله غافر الخطايا. "ارحمني يا رب فإني حزين. تكدّرت بالغضب عيناي ونفسي وبطني" [9]. تُلائم هذه الكلمات خبرة القديسين المتألمين في كلا العهدين، إذ يعترف الكل بضعفاتهم، وبالتالي حاجتهم إلى مراحم الله. الخط الواضح في حياة جميع القديسين هو الصراحة، خاصة مع الله، إذ هنا يعلن الرسول عن نفسه أنه حزين، يحتاج إلى عون إلهي. يصرخ المرتل طالبًا الرحمة، مستنجدًا بالله من خطاياه، خاصة الغضب، فإن العدو بكل طاقاته لا يقدر أن يُحطمه أما غضبه على الغير فيُحطم بصيرته الداخلية (عينيه) ونفسه حتى بطنه أي جسده. * لأنه طالما يبقى ذلك الغضب في قلوبنا، ويعمي بظلمته المضرة عين النفس، لن نقدر أن نقتني حكمًا عادلًا أو تمييزًا ولا نحظى بالبصيرة التي تنبع عن نظرة مخلصة، أو عن نضج المشورة، كما لا نستطيع أن نتمتع بشركة الحياة أو نستعيد البر، أو حتى تتوفر لنا القدرة على التمتع بالنور الحقيقي الروحي، لذا يقول: "تكدرت بالغضب عيناي". هكذا لا نقدر أن نشترك في الحكمة حتى ولو حُسبنا بالإجماع أننا حكماء، لأن "الغضب يستقر في حضن الجهلاء"[607]. القديس يوحنا كاسيان لقد دخل المرتل في متاعب كثيرة من الأعداء الخارجيين ومن ضعفاته حتى تمررت كل حياته، لكن حضرة الله والثقة فيه والتمسك بمواعيده، هذه جميعها تحوّل حياته من المرارة إلى العذوبة. لقد صوّر لنا المرتل الحزن الشديد الذي يلاحقه، هكذا: أ. لحق الضرر ببصيرته ونفسه وجسده [9]، أي بكيانه كله... فالحاجة ملحة إلى تدخل الخالق نفسه كمخلص له. ب. كادت حياته أن تفنى بوجع القلب وسنيه بالتنهدات [10]: عُرف داود من صباه بالشخص الشجاع الذي لا يهاب الموت؛ قاتَل أسدًا ودبًا، وحارب جليات الجبار... وفي هذا كله لم يفارقه مزماره، ولم تنزع عنه بهجة قلبه. لكنه في لحظات يشعر كأن حياته كلها آلام قلبية خفية، لم يقتنِ من سنيه إلا التنهدات العميقة. غالبًا ما ينسى الإنسان -وقت محنته- الأيام الهادئة المفرحة، حتى ليحسب عمره سلسلة لا تنقطع من الأوجاع... لكن داود النبي حوّل حتى هذه المشاعر المُرّة إلى مزامير فيها تمتزج المراثي بالتسابيح، والتضرعات بالشكر، والصراخ بالتهليل. ج. اهتزت قوته وأصاب الانحلال هيكله العظمي، وكأنه لم يعد بعد فيه رجاء حسب الفكر البشري، إذ يقول: "ضعفت بالمسكنة قوتي، واضطربت عظامي" كأنه يقول: صرت مسكينًا يستحق حالي الرثاء إذ زالت عني كل قوة للحركة، وصار حالي لا علاج له لأنه هزَّ كل كيان عظامي. د. صار المرتل عارًا وخزيًا في أعين جميع أعدائه؛ وفزع الأقرباء والأصدقاء من رؤيته... حسبه الكل كميت فهربوا منه، متطلعين إليه أن لا موضع له بينهم، وإنما يلزم دفنه خارج المحلة. صار في أعينهم كإناء خزفي مكسور يُلقى خارجًا بغير ترفق أو عناية... بهذا صار يُعاني من الشعور بالعزلة أو الوحدة. "صرتُ عارًا بين جميع أعدائي، ولجيراني جدًا، الذين كانوا يبصرونني هربوا عني خارجًا" [11]. هرب الكل منه، إذ تطلع إليه الأعداء في ضيقته وحسبوه إنسانًا رديئًا، حلَّ عليه غضب الله؛ فصار بؤسه مادة غناء لهم وعلّة سرورهم وسخريتهم! أما حدث هذا مع السيد المسيح نفسه الذي أسلموه للمحاكمة ظلمًا، وكانوا يستهزئون به ويسخرون منه، ويبصقون على وجهه؟! يقول عنه النبي: "مُحتقر ومخذول من الناس... مُحتقر فلم نعتد به" (إش 53: 3). أما ما هو أكثر قسوة، فهو أن الأصدقاء قد خشوا الالتصاق بداود حتى لا يُحسبون معه خونة لشاول الملك ولبلده، ولئلا يكون مصيرهم كمصير أخيمالك الكاهن وأهل بيته لقبوله داود ورجاله وتقديم المساعدة لهم دون علمهم بموقف شاول منه. الذين كانوا يُبجلون داود وهو في قصر الملك صاروا غرباء عنه. ألم يتحقق هذا كله بصورة أكثر ألمًا مع السيد المسيح، حيث أنكره بطرس الرسول ثلاث مرات، وخانه يهوذا، وتركه التلاميذ وهربوا... وبقى على الصليب يجتاز المعصرة وحده. لقد شارك الرسول بولس سيده قائلًا: "لنخرج خارج المحلة ونحمل عاره"... حين تركه الأصدقاء والأحباء لم يتحطم، بل حسب ذلك مجدًا أن يُشارك مسيحه وحدته وعاره! في وسط الشعور بالعزلة واليأس كان الله وحده هو صديقه، وانصبَّ رجاؤه في رحمة الله وحدها، إذ هو وحده قادر أن يخلصه من العزلة المؤلمة. تقتل الآلام نفس غير المؤمن، بشعوره بالعزلة، أما المؤمن فيجدها طريقًا للتمتع باستجابة الله له في حنوٍ، والتمتع بالحضرة الإلهية، في الوقت الذي فيه يتركه أصدقاؤه الأرضيون ويغلقون قلوبهم أمامه. بمعنى آخر بينما يُعاني من العزلة فيصير كميت، يعلن الله عن ذاته في داخل نفسه ليختبر الحياة المقامة: "نُسيت مثل الميت من قلبهم... لينر وجهك على عبدك" [12، 16]. ه. لم يقف الأمر عند سخرية الأعداء منه وخوف الأصدقاء من الالتقاء معه، بل اجتمعت قوى الشر لمقاومته ليحبكوا التآمر ضده، إذ لم يقبلوا بأقل من رقبته. "اجتمعوا عليّ جميعًا، تآمروا في أخذ نفسي" [13]. إنه من المحزن حقًا أن يجتمع الشر معًا بروح الوحدة لاتفاقهم على أمر واحد، هو مقاومة أولاد الله، كما سبق فاجتمعت القيادات اليهودية الدينية مع قوى الدولة لصلب رب المجد يسوع. يقفون صفًا واحدًا ليعملوا معًا، بجدية وحكمة بشرية، بينما كثيرًا ما يدبُّ الشقاق بين المؤمنين ويسلكون بروح التراخي والتهاون. وكما سبق فقال السيد المسيح إن أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور في جيلهم. في كل هذه المتاعب تعلّم المرتل الاستمرار في صراعه في الصلاة دون ملل، متمسكًا بثقته في إمكانية خالقه وحبه له. لقد سلبه الأعداء سمعته الطيبة، وحرموه الشعور بأمان الجماعة، لكنهم لم يقدروا أن ينزعوا عنه تعزيته ولا أن يحرموه التصاقه بالله. لهذا إذ يقول: "وأنا يا رب عليك توكلت" [14]، يكمل: "قلت أنك أنت هو إلهي وفي يديك حظي". أنت إلهي الشخصي الذي يعرف أسرار حُبي الداخلي، والذي في يديه كل حياتي وعمري! مرة أخرى لا يقف المرتل عند طلب الخلاص من الأعداء المطاردين إياه [15]، وإنما يقول: "لينر وجهك على عبدك، وخلصني برحمتك يا رب" [16]. أنا عبدك ولستُ عبدًا للناس، لا أطلب مديحهم ولا رفقتهم ولا مكافأتهم، إنما أطلب وجهك ينير في قلبي فأستنير. ويرى القديس أمبروسيوسأن هذا "العبد" هو كلمة الله الذي تجسد وصار لأجلنا عبدًا، فقد حمل آلامنا دون أن ينفصل عن أبيه، بكونه كلمته. * كلمة "عبد" تعني الإنسان الذي تقدس فيه، الإنسان الذي مُسح فيه. أنها تعني ذاك الذي صار تحت الناموس، ووُلد من العذراء... يقول: "طُرحت وانحنيت إلى الانقضاء" (مز 38). من هو هذا الذي انسحق (انحنى) إلى الانقضاء سوى المسيح، الذي جاء لكي يُحرر الجميع بطاعته؟![610] القديس أمبروسيوس * كن مرذولًا في عيني نفسك، فترى مجد الله في داخلك، فإنه حيث يوجد الاتضاع، هناك يسكن الله. إن كان لك اتضاع في قلبك، يُظهر الله مجده فيه[611]. مار إسحق السرياني الأب أوغريس بينما يدخل المرتل خلال الآلام إلى الاستنارة بمجد الله بروح الاتضاع والصلاة، إذا بالأشرار ينحدرون إلى أعماق الجحيم بالنفاق والخداع والكذب. يتكلم قلب التقي المتألم فيرتفع إلى مجد السماويات بينما يتكلم لسان الشرير الغاش فينحدر بالكبرياء إلى الهلاك. "يخزى المنافقون ويساقون إلى الجحيم ولتصر خرساء الشفاه الغاشة المتكلمة على الصديق بالإثم والكبرياء والمحتقرة" [17-18]. يصمت الأشرار في رعب وخوف حين تتبدد كل مؤامراتهم؛ فيرتفع الأتقياء المتألمون، بينما ينحدروا هم في الجحيم... اللسان الكاذب يعجز عن أن يتكلم! * إن صنت لسانك يا أخي يهبك ندامة في القلب، فترى نفسك، وهكذا تدخل إلى الفرح الروحي. أما إذا غلبك لسانك - فصدقني فيما أقوله لك - فإنك لن تقدر أن تهرب من الظلمة[613]. مار إسحق السرياني يا لعظم صلاح الله وعذوبته اللانهائية! فإن تذكّر المراحم في الماضي والتأكد من استمرارية عون الله، يبعث فينا روح التسبيح والشكر. الله حاضر دائمًا حتى في اللحظات التي يبدو فيها كأنه غائب تمامًا. الثقة في الله لا تقودنا إلى عدم الألم، وإنما تقودنا إلى التمتع بالحضرة الإلهية وسط الآلام، فنرتفع فوق الألم، وهكذا نتحول من التضرع إلى الرجاء، ومن الثقة إلى اليقين، ومن الإيمان إلى المعاينة، ومن الرثاء إلى الشكر والحمد لله. فإننا إذ ننعم بالاستجابة الإلهية ينفجر القلب شكرًا وتسبيحًا. هذه الثقة لا تنزع الألم عن حياتنا بل ترفعنا فوق الألم، فنصير كمن يسير مع السيد المسيح على المياه، لا ننشغل بها بل بعريسنا السماوي المرافق لنا. خلال سيرنا معه فوق تيارات الألم ندخل إلى عذوبة الحوار مع عريسنا، والتمتع بحلاوة صلاحه، إذ يقول المرتل: "ما أعظم كثرة صلاحك (حلاوتك) يا رب الذي ذخرته للذين يخافونك. وصنعته للمتكلين عليك تجاه بني البشر" [19]. * "ما أعظم صلاحك (عذوبتك) غير المتناهٍ يا رب" [19]. عند هذا الحد، تنطلق من النبي صرخة تعجب ودهشة من أجل غنى عذوبتك يا الله خلال استعلانات متنوعة؛ تلك العذوبة التي ذخرتها للذين يخافونك. إنك بعمق تحب حتى الذين توبخهم، وذلك خشية أن يعيشوا حياة الإهمال في غير مبالاة، لذلك تحجب عذوبة حبك عن الذين يكون خوفك لصالحهم. "وصنعته للمتكلين عليه تجاه بني البشر" [19]؛ لكنك جلبت هذه العذوبة في كمال للذين يتكلون عليك، فإنك لن تحرمهم مما تاقوا إليه طويلًا حتى المنتهى. "تجاه بني البشر"؛ إنك لا تمنعها عن بني البشر الذين لا يعيشون بعد حسب آدم بل حسب ابن الإنسان. القديس أغسطينوس ليت ذاك الذي يحمينا في رحلة هذه الحياة هو نفسه يكون مسكننا عندما تنتهي هذه الحياة. "من مقاومة الناس" [20]، فإنه ما من مقاومة يخفونها هناك - أي في ستر وجهك - ينزعجون. "تظللهم في مظلتك" [20]. ما الذي تشير إليه المظلة؟ إنها كنيسة هذا الدهر. إنها على شكل خيمة، لأنها راحلة عن هذه الأرض. فإن المظلة هي الخيمة التي يستخدمها الجنود حينما يقيمون لهم معسكرًا. الخيمة ليست بيتًا (مستقرًا)! حاربوا اذن في المعركة (الروحية) كغرباء، حتى أنكم بعد أن تستظلوا في مظلته يرحّب بكم بالمجد في بيتكم الحقيقي. ففي السماء يدوم بيتكم أبديًا، إن عشتم حياة صالحة في خيمتكم هنا على الأرض. القديس أغسطينوس فمن جهة الرجاء أو الاتكال على الله يقول مار إسحق السرياني: [الرجاء الإلهي يرفع القلب[614]]. ومن جهة خوف الله فيقول: * خوف الله بدء كل فضيلة، وقد قيل إنه ابن الإيمان. يُزرع في القلب عندما ينسحب ذهن الإنسان من ارتباكات العالم لكي يُحدّ من تجوّل الأفكار إلى التأمل في إصلاح الأمور المقبلة. * خوف الله هو بدء حياة الإنسان الحقيقية. لكن خوف الله لا يقبل أن يقيم في نفس مشتتة في أمور خارجية. مار إسحق السرياني[615] يختم المرتل هذا القسم بالتسبيح لله من أجل معاملاته معه، قائلًا: "مبارك الرب لأنه عجَّب مراحمه في مدينة حصينة. وأنا قلت في تحيّري: أترى طُرحت من قدام عينيك؟! لذلك سمعت يا رب صوت تضرعي إذ صرخت إليك" [21-22]. إذ تمتع بالبركات الإلهية السابق الحديث عنها يسبح الرب الذي جعل من مدينة حصينة تشهد لعجائب مراحم الله الفائقة، معترفًا أنه في وقت ضيقته شعر في لحظات ضعفه أنه قد طُرح من قدام عينيه. حسب أن الله قد تجاهله أو طرده من قدامه... لكنه سرعان ما اختبر صوت الرب السامع لصرخات القلب والصانع عجائب مع خائفيه. إن عبر بنا فكر شك أو ضعف إيمان لا نتوقف عن الصلاة بلجاجة حتى نحمل ذات خبرة المرتل، أن الله يبقى أمينًا في مواعيده بالرغم من عدم أمانتنا! 4. تسبحِة ليتورجية تعليمية: إذ اختبر المرتل عذوبة صلاح الله وسط آلامه، فتحوّلت مرثاته إلى تسبيح وشكر، يدعو الجماعة المقدسة أن تتمتع بذات الخبرة، يدعوها لمحبة الله، والثقة في عدله وبره وأن يمتلئوا بالشجاعة وليقوَ قلبهم خلال اتكالهم عليه. "حبوا الرب يا جميع قديسيه، لأن الرب ابتغى الحقائق ويجازي الذين يعملون الكبرياء بإفراط. تشجعوا وليقوَ قلبكم يا جميع المتكلين عليه" [23-24]. خلال هذه التسبحة الجماعية يتعلم المؤمنون الالتزام بحب الله في شجاعة، فإن كان المرتل قد تحدث عن بركات مخافة الرب، فإن المخافة الحقة لا تنفصل عن حب الله. ومن يخاف الله يلزمه أن يُقوي قلبه ولا يخاف الناس. في يديك استودع روحي * في وسط آلامي تعلن ذاتك لي يا إلهي. أراك أنت بري وقداستي، تبدأ معي طريق القداسة وتجتازه معي حتى أبلغ كماله! * أجدك صديقي العجيب، حين يهرب الكل عني، تميل بأذنك لتسمع تنهدات قلبي الخفيّة! * تفتح لي أبواب حبك، فأنت بيت ملجأي. أنت إلهي وعضدي ضد كل تجربة! * أنت قوتي... بك ومعك أعمل لحساب ملكوتك فيّ! أنت قائدي، تهديني إلى الطريق الملوكي. أنت راعيّ، تقوتني بجسدك ودمك المبذولين. تهب لي روحك أنهار مياه تروي وتفيض! * أنت مخلصي... ترفعي كما إلى سمواتك، فلا أسقط في فخاح العدو الخفية! * أنت حافظ نفسي، تجدد إنساني الداخلي مع فناء الخارجي، تهبني بروحك القدوس صورتك داخلي! * أنت هو فرحي وبهجة قلبي، ترفعني فوق الآلام، وتهبني عذوبة صلاحك. * أنت محرري حتى من الموت، أعبر خلال ظل خيمتك إلى البيت السماوي. تحول القبر الضيق إلى سعة فردوسك! * في وسط آلامي حسبت أنك طردتني من أمام عينيك، فإذا بي أراك الصديق الملازم لي. عيّرني الأعداء وتركني الأصدقاء، أما أنت فتلتصق بي في محنتي. * تآمر الكل ضدي، أما أنت فجعلتني مدينة حصينة. * أسبحك وأبارك اسمك؛ ليت كل نفس تشترك معي في حمدك! |
||||
22 - 01 - 2014, 03:08 PM | رقم المشاركة : ( 33 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 32 - تفسير سفر المزامير الفرح بالغفران مزمور الصراحة والاعتراف بالخطية: هو مزمور التوبة الثاني، يدعوه بعض الدارسين مع المزامير (51، 130، 143) مزامير بولسية (تحمل فكرًا يشابه فكر الرسول بولس)، إذ تتحدث بقوة عن عمل الله الخلاصي في حياة الخاطي التائب. إنه جوهرة الجمال الروحي وتدبير الله الخلاصي. بينما تحتشد الدموع والعبرات والأسى في المزمور السادس، أول مزامير التوبة، نشعر هنا بمدى الراحة التي يتمتع بها الخاطي الذي لا يكتم خطيته، بل يقول: "أعترف للرب بإثمي" [5]. فالخطية الرئيسية هنا ليست العصيان وإنما بالحري الرياء. فمفتاح المزمور هو كلمة "أكتم" أو "لا أكتم" [5]. فعندما رفض المرتل أن يكشف عن إثمه يقول: "أنا سكت فبُليت عظامي، من صراخي طول النهار" [3]. وإذ كشف له الله عن الخطية غُفرت، وطلب المرتل إلا يكون "في فمه غش" [2]، سائلًا أن تحيط به رحمة الله [12] أو حب الله الذي يقيم عهدًا مع شعبه ويود خلاصهم. صلى داود النبي المزمور الحادي والخمسين بعدما أشار إليه ناثان بأصبعه، قائلًا: "أنت هو الرجل" (2 صم 12: 7)، فكان المزمور اعترافا من داود بخطيته؛ ثم ترنم بهذا المزمور إذ اختبر بركات غفران خطيته الموجهة ضد الله نفسه وضد بتشبع وأوريا الحثي. وكأن هذا المزمور يأتي بعد المزمور 51 بحسب الترتيب التاريخي. أُستخدم بعد ذلك في العبادة الجماعية كما يظهر من الآية [11]: "كثيرة هي ضربات الخطاة، والذي يتكل على الرب الرحمة تحيط به". حسب طقس بعض الكنائس البيزنطية يتلو الكاهن هذا المزمور ثلاث مرات كنوع من التطهير الشخصي والاستعداد لخدمة سرّ المعمودية. أما اليهود الـ Ashkenazi الذين من أصل شرق أوربا، فيتلون المزمور كصلاة مسائية في ثاني أيام الأسبوع (الاثنين). يعتقد Grotius أن المزمور قد وُضع ليُرنم به في يوم الكفارة. قيل إن هذا المزمور هو المزمور المفضل جدًا لدى القديس أغسطينوس؛ اعتاد أن يُصليه بقلب حزين وعينين باكيتين. عندما اقترب القديس من الرحيل من هذا العالم طلب أن يُكتب هذا المزمور -مع بقية مزامير التوبة- بحروف كبيرة على لافتة ضخمة، وتوضع مقابل سريره، وكان يردد كلمات هذه المزامير بقلب منسحق مع أنفاسه الأخيرة. هيكل المزمور: يرى بعض الدارسين أن بُنية هذا المزمور هكذا: «بركة ينطق بها الكاهن على الشخص المتمتع بغفران خطاياه [1-2]. «سيرة شخصية تكشف عن مدى متاعب كتمان الإنسان لخطيته، والسلام الذي يحل به بالاعتراف بها [3-5]. «نصيحة وعظية يقدمها الكاهن من واقع خبرة الخاطي، أو ربما تكون قرارًا يردده جوقة المرتلين في الهيكل [6-7]. «أقوال تعليمية يرددها الكاهن باسم الله مع التشديد على الجانب التعليمي [8-10]. «أغنية تسبيح ختامية وشكر، تنشدها الجماعة كلها. العنوان: جاء العنوان في الأصل العبري "Mashil"؛ يعتقد البعض أنها اسم النغمة التي تُستخدم في التسبيح بالمزمور. ويعتقد البعض أنها اسم آلة العزف المستخدمة، وآخرون يرون أنها لفظ مشتق من فعل موجود في الآية [8] يعني: "يعلِّم، يكون حكيمًا، يضع في الأعتبار، يفهم". وقد جاء العنوان في النسخة السبعينية هكذا: "فهم لداود". تكررت هذه اللفظة في عناوين 13 مزمورًا (32، 42، 44، 45، 52، 53، 54، 55، 74، 78، 88، 89، 142)، ستة منها على الأقل نظمها داود. أقسامه: 1. الغفران الإلهي [1-6]. 2. الحماية الإلهية [7]. 3. الأرشاد الإلهي [8-10]. 4. الفرح الإلهي [11]. اغفر لي خطاياي 1. الغفران الإلهي: "طوباهم الذين تركت لهم آثامهم والذين سترت خطاياهم طوبى للرجل الذي لم يحسب له الرب خطيئة (معصية) ولا في فمه غش" [1-2]. أ. بخصوص كلمة "طوبى" التي تكررت في الأيتين [1، 2] راجع تعليقنا عليها في المزمور الأول، حيث رأينا أن التطويب نناله في السيد المسيح كلمة الله. هذا المزمور يُعرف في العبرية "مزمور أشير"، وأشير هو اسم أحد الأسباط ومعناه "السعيد" أو "المطوّب". المزمور الأول يكشف عن تطويب الإنسان الذي يرتبط بكلمة الله في أفكاره وفي قلبه وفي سلوكه العملي، أما هنا في مزمور أشير فنقرأ عن التطويب الممنوح لمن ينال بالتوبة غفران خطاياه، وتستر نعمة الله آثامه. إنه مزمور كل إنسان انحرف في ضعفه وضل الطريق، ثم سحبته نعمة الله، ليكون صادقًا مع نفسه ومع الله، يعترف بخطاياه. المزمور الأول يعلن عن تطويب الحياة التأملية السامية غير المنعزلة عن السلوك اليومي، أما مزمور أشير فيعلن عن تطويب النفس المنسحقة بالتوبة، التي تعرف كيف تعبر بروح الله إلى عرش الله تغتصب الغفران. المزمور الأول مزمور حافظ الناموس بالروح والحق، ومزمور أشير مزمور كاسر الناموس الذي تفاضلت عليه نعمة الله لينال برّ المسيح الكامل. ب. أُشير في هذين العددين إلى أربعة ألفاظ عن الشرور: أولًا: الأثم، في العبرية pesha، وتعني "تجاوز حد معين"، أو "فعل أمر ممنوع". تشير ضمنًا إلى التمرد ضد رئيس شرعي أو ضد ضمير الإنسان. ثانيًا: الخطية أو hataah، تعني الخطأ في إصابة هدف ما أو علامة معينة، أو الابتعاد عن سبل الله كسهم طائش يخطئ الهدف. ثالثًا: المعصية أو awon، تعني الانحراف عن مسار محدد أو عن وضع معين. تشير إلى اعوجاجٍ كما يحدث لشجرة معوجة بسبب ريح عاصف أو نتوء حدث في الأرض بسبب زلزال؛ من ثم فهي تعني حدوث شيء ضد النمو الطبيعي. هذا اللفظ يشمل كل هذه المعاني معًا. رابعًا: الغش؛ تدل الكلمة على الزيف والخداع والمكر... الخ. علاج هذه الشرور الأربعة يحتاج إلى ثلاثة أمور: أولًا: المغفرة: الكلمة العبرية الأصلية تعني "رفع"، مثلما يُرفع الحِمْل الثقيل عن كاهل إنسان ينوء تحته. إن كانت الخطية هي تعدي على الناموس وعصيان للوصية الإلهية، فقد جاء السيد المسيح لا ليحمل مصراعي باب المدينة على كتفيه كما فعل شمشون، وإنما ليدفع حياته على الصليب ثمنًا ليحمل ثقل خطايانا، محررًا إيانا منها. جاء ليدعونا نحن المتعبين والثقيلي الأحمال إلى التمتع براحته (مت 11: 28). جاءت الترجمة السبعينية هكذا: "طوباهم الذين تُركت لهم آثامهم" [1]. فإننا إذ عجزنا عن حمل خطايانا التي أُجرتها موت أبدي، تركناها لذاك القادر وحده أن يدفع الثمن عنا بإرادته ومحبته الإلهية. ثانيًا: الستر: "والذي سُترت خطاياهم" [1]. لا يعني الستر هنا تجاهل الخطية، وإنما تعني أننا إذا لبسنا برّ المسيح بالصليب، صار بره عوض خزي خطايانا. كما يتغطى تابوت العهد بكرسي الرحمة، حيث منه يتحدث الله مع شعبه، هكذا بالصليب يتغطى قلبنا كمسكن إلهي، لندخل مع الله في حوار الحب الدائم، واثقين أنه قد تغطى كل ضعف فينا لنحمل فينا حياة المسيح وقداسته ويحق لنا بروحه القدوس أن ننعم بالشركة مع الأب والدخول إلى عربون أمجاده. ثالثًا: البراءة أو التبرئة من الأتهام: "لم يحسب له الرب خطيئة، ولا في فمه غش" [2]. لم يقل أنه بلا خطية، فإنه لم يوجد إنسان هكذا بعد السقوط إلا كلمة الله المتجسد، الذي من أجلنا صار إنسانًا وهو العليّ. في الضعف نخطئ، لكن بالإيمان العامل بالمحبة لا تُحسب علينا الخطية، إذ يسدد هو الثمن. وكما يقول الرسول: "إذ نحن نحسب هذا، إنه إن كان واحد قد مات لأجل الجميع فالجميع إذًا ماتوا. وهو مات لأجل الجميع... ولكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح وأعطانا خدمة المصالحة، أي أن الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه، وغير حاسب لهم خطاياهم، وواضعًا فينا كلمة المصالحة"، (2 كو 5: 14-19). الخاطي الذي يتمتع بغفران خطاياه والستر عليها بدم المخلص ويُحسب كبريء لا يحمل في قلبه ولا في فكره ولا في فمه غشًا. يقبل الشركة مع المسيح "الحق"، فيكون صادقًا مع نفسه في توبته واعترافاته كما في إيمانه وثقته بالله وفي عبادته وتسابيحه وتشكراته، أمينًا في علاقته مع الله يصارحه بكل ما يجتاز حياته من ضعفات أو من خبرة القوة الروحية، من حب لله أو مخافة له، من رغبة في خدمته وحنين عميق نحو الانطلاق ليكون معه؛ مخلصًا مع الغير، لا يعرف الرياء، ولا الغش، يحب إخوته لكن ليس على حساب الحق؛ يترفق بهم لكن في حزم! في الكتاب المقدس تشير كلمة "غش" دائمًا إلى الخطية، لأنها مخادعة، وباطلة وكاذبة، فلا أمانة في الخطأ. إن كان المتعدي نزيهًا في نظر الناس، لكنه يخدع نفسه، ويسلب الله، ويكذب على القدير، ويحتال على خالقه، بمحاولته الوثب لاعتلاء طريق آخر غير المسيح فيكون لصًا وسارقًا[616]. اقتبس القديس بولس الآيتين [1، 2] في (رو 4: 6-8)، ليختم تأكيده أنه لا نفع لأعمال الناموس الحرفية في ذاتها كختان الجسد لنوال الغفران، إنما الحاجة إلى عمل الله الداخلي ليصلح ما قد صار منحرفًا عن مساره الطبيعي. إذ سمع داود النبي من ناثان النبي: "الرب أيضًا قد نقل عنك خطيتك؛ لا تموت!" (2 صم 12: 13). أدرك أن غفران الخطايا هبة مجانية يقدمها الله لمؤمنيه خلال محبته العملية الباذلة، "لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا" (1 بط 4: 8). ونحن أيضًا قد تمتعنا بهذه العطية خلال مياه المعمودية، حيث نُدفن مع مسيحنا ونقوم معه في جدة الحياة نحمل حياته المُقامة، كأعضاء مقدسة في جسد المسيح. لذا يرى كثير من آباء الكنيسة أن المرتل هنا يتحدث عن نعمة المعمودية. * يليق بي أن أرشد الذين هم على وشك التأهل لنوال الهبة الملوكية (المعمودية) في هذا الأمر، لتقدروا أن تعرفوا ما من خطية مهما تعاظمت يمكنها أن تصمد أمام صلاح السيد. حتى إن كان إنسان زانيًا أو مستبيحًا أو متخنثًا أو شاذًا في شهواته أو ملتصقًا بداعرات أو لصًا أو مخادعًا للغير أو سكيرًا أو عابد وثن، فإن قوة هذه الهبة وحب السيد هما عظيمان بالقدر الكافي الذي يجعل كل هذه الآثام تختفي، وتجعل الخاطي أكثر بهاءً من أشعة الشمس، فقط إن أظهر شهادة على حياة صالحة. * إنه الإيمان بالثالوث القدوس هو الذي يهب غفران الخطايا؛ إنه هذا الاعتراف الذي يهبنا نعمة البنوة[617]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب بروكلس من القسطنطينية الأب قيصريوس أسقف آرل * كل الراغبين فيها (أي في نوال المغفرة) يمكنهم نوال رحمة من الله، وقد سبق فأخبرنا الكتاب المقدس إنهم يطوّبون، قائلًا: "طوبى للرجل الذي لم يحسب له الرب خطية، أي تاب عن خطيته ليتقبل مغفرتها من الله"[620]. القديس يوستين الشهيد * طوبانا أيها الأحباء إن حفظنا وصايا الله في تناغم مع الحب. فخلال الحب تُغفر لنا خطايانا، إذ كُتب: "طوباهم الذين تُركت لهم آثامهم، والذين سُترت خطاياهم. طوبى للرجل الذي لم يحسب له الرب خطيئة، ولا في فمه غش". هذا التطويب يحلّ بالذين اختارهم الله خلال يسوع المسيح ربنا[621]. القديس أكليمندس الروماني * من ثم قد عيّن كمصدر ثانٍ للتعزية، ووسيلة أخيرة للعون هي معركة الاستشهاد والعماد... إذ يتحدث عن سعادة الإنسان الذي يشارك في هذه الأمور، إذ يقول داود: "طوباهم الذين تركت لهم آثامهم، والذين سُترت خطاياهم؛ طوبى للرجل الذي لم يحسب له الرب خطيئة". فإنه لا يُحسب شيء ضد الشهداء الذين بذلوا حياتهم بمعمودية الدم[622]. العلامة ترتليان * يقول داود: "طوباهم الذين تركت لهم آثامهم، والذين سترت خطاياهم؛ طوبى للرجل الذي لم يحسب له الرب خطيئة"، مشيرًا إلى أن غفران الخطايا الذي أعقب مجيئه، هذا الذي "مزق صك خطايانا"، وسمَّره بالصليب (كو 2: 14) كما بشجرة، صرنا مدينين لله، هكذا بشجرة (بالصليب) ننال غفران الخطايا ومحو الأثام[623]. القديس إيريناؤس "أنا سكت فبُليت عظامي من صراخي طول النهار... أظهرت خطيئتي، ولم أكتم إثمي. قلت أعترف للرب باثمي. أنت صفحت لي عن نفاقات قلبي" [3-6]. يروي لنا داود النبي عن خبرته، كيف حاول أن يخفي خطيته، وكيف صمت عدة شهور، ربما حوالي السنتين بعد سقوطه مع بتشبع زوجة أوريا الحثي. فقد وُلد الطفل الذي كان ثمرة الخطية قبل زيارة ناثان له (2 صم 11: 27؛ 12: 14). كان مدركًا لخطيته، لكنه لم ينهض طالبًا المغفرة؛ ولم يكن له سلام أو راحة، فقد بدأت عظامه تشيخ وتُبلى، واكتشف أنه يلزمه أن يتوب طالبًا الصفح عن خطاياه والاعتراف في حضرة ذاك الذي يرى كل شيء ولا يخفى عليه شيئًا ما. أ. صمت قاتل: "أنا سكت فبُليت عظامي" [3]. ربما ظن داود النبي أن الزمن كفيل بعلاج الخطأ، فقد أخطأ في حق الله وحق نفسه كما في حق بتشبع وزوجها وفي حق شعبه وجيشه، ولم يكن - في نظره - علاج للموقف سوى الصمت والكتمان. كان صامتًا من الخارج، ويبدو أن كل شيء يسير في وضعه الطبيعي، لكن عظامه في الداخل بدأت تشيخ وتُبلى، اهتز كيانه الداخلي وهيكله العظمي.... كثيرًا ما يخطر بفكر الإنسان أن يؤجل اعترافه حتى يتحسن حاله، لكن التأجيل في الواقع هو سكوت خارجي عن الخطأ، وتخدير للنفس لترك الخطية تملك في الأعماق مدة أطول في الظلمة حتى تتمكن بالأكثر على استلام مركز قيادة الحياة الداخلية؛ أما ثمر ذلك فهو اهتزاز هيكل الإنسان الداخلي. * "أنا سكت فبليت عظامي" [3]. إذ لم تقدم شفتاي اعترافا لخلاصي، خارت قواي، وتحولت إلى الشيخوخة الواهية. "من صراخي طول النهار" [3]، فقد نطقت بشكاوي ضد الله مملوءة تجديفًا، وذلك للدفاع وتبرير خطاياي. * يبدو الأمر متناقضًا، فمن جهة التزم بالصمت، ومن جهة أخرى لم يصمت. لقد صمت عما يجلب له الضرر. صمت عن الإقرار بخطيته والاعتراف بها، ولم يصمت متحدثًا جهارًا بتهور (تبرير خطاياه). القديس أغسطينوس إذكروا أيضًا أنه سيوبِّخ من لا يفعل ذلك (أي من لا يقر بخطاياه)، إذ يقول: "هأنذا أُحاكمك، لأنك قلت لم أخطئ" (أر 2: 25). افحصوا كلمات القديسين، إذ يقول أحدهم: "الصديق يتهم نفسه في بداية كلامه"، ويقول آخر: "اعترف متهمًا نفسي بخطاياي أمام الرب، وهو يغفر إثم قلبي"[624]. القديس كيرلس الكبير ليس من طريق آخر أمام الله سوى أن يبدأ الإنسان بالاعتراف بخطاياه، قائلًا مع إشعياء النبي: "ويل لي إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين" (إش 6: 5). قبل الاعتراف تهددت صحة داود بالسقم الشديد والانهيار، وشاخت عظامه، وبليت بالأنين، وصارت نفسه كأسد جائع يزأر في البرية: "من صراخي طول النهار" [3]. كثيرًا ما يحدثنا الآباء عن خبراتهم بخصوص الاعتراف: * الفكر الخاطئ يضعف بمجرد كشفه كالأفعوان الدنس الذي ينسحب من كهفه المظلم المخفي، ويهرب مفتضحًا. فالأفكار الشيطانية يكون لها سلطان علينا بمقدار ما تختبئ في قلوبنا[626]. الأب موسى القديس يوحنا كاسيان الأب دوروثيؤس ب. الخطية وأشواك البرية: إذ صمت ولم يعترف مقدمًا تبريرات لنفسه تحولت حياته إلى برية قاحلة لا تتمتع بمياه النعمة الإلهية، فأنبتت شوكًا وحسكًا كثمر طبيعي للخطية. "لأن يدك ثقلت عليّ بالنهار والليل. رجعت إلى الشقاء عندما انغرست الأشواك فيّ" [4]. في النص العبري جاء الجزء الأخير: "تحولت رطوبتي إلى يبوسة القيظ". إن كان بأصبع الله - يشير إلى الروح القدس - واضع الناموس، فإن يده تسندنا لنحيا حسب شريعته ووصيته. لكن إذ نكتم عصياننا ونخفي خطايانا تصير يده المعينة ثقيلة جدًا على ضمائرنا، لا نستريح نهارًا ولا ليلًا. اليّد الإلهية التي تتقدم لتحملنا إلى سمواته وترفعنا إلى حضنه تقف ضدنا، فكيف نقدر أن نحتملها؟ اليد الإلهية سندت إيليا فشدَّ حقويه وركض أمام آخاب حتى جاء إلى يزرعيل (1 مل 18: 46)، هي بعينها ثقلت على الأشدودين جدًا فصعد صراخهم إلى السماء (1 صم 5: 11-12). ثقلت يدّ الله على داود لتأديبه بروح الأبّوة، فقد مات سريعًا الطفل الذي وُلد من امرأة أوريا الحثي، وجاءت فضيحة ابنته ثامار مع أخيها أمنون عارًا لبيته الملوكي، وقُتل ابنه أمنون المحبوب لديه جدًا بواسطة أخيه أبشالوم، كما تمرد أبشالوم عليه وأخيرًا قُتل أبشالوم في الحرب. لقد ثقلت يدّ الله على داود لتتمرر الخطية في فمه، واحتضنته اليد الأخرى كي تسنده وسط مرارته. وكما جاء في النشيد: "شماله تحت رأسي ويمينه تُعانقني" (نش 2: 6). قد يحرمنا من بعض البركات الزمنية لكي يؤهلنا للتمتع بالمجد الأبدي؛ يدخل بنا إلى الضيقة لكي نجد فيه وحده عوننا. كان داود النبي قبل السقوط دائم النمو، متهللًا حتى في لحظات الضيق، لأن يدّ الرب كانت تسنده؛ أما وقد انخدع بالخطية، وكتمها داخله فقد رجع إلى الشقاء. تحوّلت رطوبته إلى يبوسه، أو جنته الداخلية التي يجري فيها نهر ماء حيّ إلى برية قاحلة، أو إلى مصباح بلا زيت كالعذارى الجاهلات (مت 25: 3). صار قلبه صحراء تنبت أشواكًا، إذ يقول: "انغرست الأشواك فيَّ" [4]. * ترون في كل موضع في الكتاب المقدس أن الخطايا تُدعى (أشواكًا). يقول داود: "لأن يدك ثقلت عليّ بالنهار والليل. رجعت إلى الشقاء عندما انغرست الأشواك فيَّ" [4]. لأن الشوكة لا تحل بنا فقط من خارج، وإنما تنغرس فينا، فإن لم نخرجها بالكامل منا. فالقليل الذي يبقى منها يؤلمنا كما لو كانت الشوكة كلها مغروسة فينا. ولماذا أقول: "القليل الذي يبقى منها"، فأنه حتى وإن خرجت الشوكة فأنها تترك ألمًا في الجرح لمدة طويلة، تحتاج إلى تكثيف العلاج والعناية بالجرح حتى نشفى تمامًا. فإنه لا يكفي مجرد نزع الخطية، إنما توجد حاجة إلى شفاء أثر الجرح[627]. القديس يوحنا الذهبي الفم ج. كشفه عن خطيته: لم يكن ممكنًا لبريّة قلبه أن تتقبل نعمة الله الغنية، لتفيض عليه ينابيع مياه حب الله وتحوّلها إلى جنة ما لم يكشف عن خطيته ويعترف بها. أظهرتُ خطيتي، ولم أكتم إثمي" [5]. كان لابد أن تمتد يدّ الجراح بالمشرط لتفتح القروح فيظهر ما في داخلها، ويخرج كل فساد فيها. إن كان الكبرياء يعوقنا عن الاعتراف بخطايانا فالاتضاع هو طريق الاعتراف الحق، خلاله ننال غفران الخطايا. وكما أن الاتضاع يحثنا على الاعتراف، فالاعتراف بدوره يصلب الإرادة الذاتية، ويعلّم النفس الاتضاع، وينزع عنها كبرياءها الخفي. وإذ تتعلم النفس الاتضاع الحقيقي تكون قد التقت بالمحبة، والمحبة تستر كثرة من الخطايا. وبقدر ما تهرب من الاعتراف تقترب من الكبرياء وتبتعد عن المحبة فتفقد سلامها. * "المحبة تسترة كثرة من الخطايا" (1 بط 4: 8). المحبة وحدها هي التي تمحو الخطايا، ولكن إن كان الكبرياء يزيل المحبة، فالاتضاع يقويها، وهي تمحو الخطايا. يسير الاتضاع جنبًا إلى جنب مع الاعتراف، وهو الذي يدفعنا إلى الاعتراف بأننا خطاة، ليس مجرد اعتراف باللسان هروبًا من الكبرياء أو خوفًا من غضب الناس عندما يروننا ندّعي البرّ... أُتريد أن يغفر لك الله؟ اعترف، فتستطيع القول: "استر وجهك عن خطاياي" (مز 50). قل له أيضًا: "لأني عارف بمعاصيَّ"؛ "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل أن يغفر لنا خطايانا، ويطهرنا من إثم. إن قلنا إننا لم نخطئ نجعله كاذبًا وكلمته ليست فينا" (1 يو 1: 9-10)[628]. القديس أغسطينوس العلامة أوريجانوس ايقظ ضميرك، مُتهمك الداخلي، فلا يوجد من يتهمك في يوم الرب للدينونة[630]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أمبروسيوس د. تمسكه بحياة الصلاة: لم يكن ممكنًا للخاطي أن يتمتع بالاعتراف بخطيته ما لم يمارس الصلاة، فقد أدرك المرتل أن جميع القديسين هم رجال صلاة، وأن الصلاة هي أنفاس خائفي الله ، لذا يقول: "من أجل هذا تبتهل (يُصلي) إليك كل الأبرار في أوانٍ مستقيم" [6]. وحسب النص العبري: "لهذا يُصلي لك كل تقيَّ في وقت يجدك فيه". فإن الله يود أن يُجد، واهبًا اتقياءه الخلاص من الضيقات كما في وسط طوفان مياه كثيرة. يقول المرتل: "بل في طوفان مياه كثيرة لا يقتربون إليك" [6]. مادمنا نطلب الله نجده، فلا تقدر ميازيب الغمر العظيم أن تقترب إلينا. الخلاص متوقف على وجود الله أو حضرته فينا، الأمر المتوقف على إخلاصنا في الصلاة، فننعم بلذة حلوله ونتمتع بعمله الخلاصي. 2. الحماية الإلهية: "أنت هو ملجأي من الضيق المحيط بي. يا بهجتي انقذني من المحيطين بي" [7]. الله الذي يغفر خطايانا خلال اعترافنا، ويبررنا، هو ستر لنا؛ هو موضع اختبائنا، فلْك النجاة؛ فيه لا تقدر مياه طوفان الدينونة أن تقترب إلينا [6]. ذاك الذي غفر خطايانا لا يتركنا لأنفسنا، بل يمنحنا حمايته. واجبنا أن ننطلق إليه بروحه القدوس لننعم بنعمته. * "أنت هو ملجأي من الضيق المحيط بي". أنت هو ملجأي من ضغط الخطية التي أدمت قلبي. "يا بهجتي انقذني من المحيطين بي". بهجتي بالكامل هي فيك، خلصني من الأحزان التي جلبتها خطاياي عليّ. * "يا بهجتي خلصني". إن كنت مبتهجًا بالفعل، فلماذا تطلب الخلاص...؟ هل تبتهج وتئن في وقت واحد؟ أجل، أنني ابتهج وأئن. ابتهج في الرجاء، وأئن من أجل الحال الذي أنا فيه حاليًا. القديس أغسطينوس 3. الإرشاد الإلهي: الله الغافر للخطايا والملجأ الأمين للنفس هو مرشدنا المستعد أن يقود أولاده في طريقه الملوكي، طريق البر الداخلي؛ متطلعًا إلينا، لا تفارقنا نظرات عينيه مادمنا نحن نتطلع إليه. "سأفهّمك وأعلِّمك الطريق التي تسلك فيها وأنصب عليك عينيّ" [8]. * المزمور نفسه يُدعى "مزمور للفهم"... سأعطيك فهمًا لكي تعرف ذاتك دائمًا، وتتهلل على الدوام في فرح الرجاء أمام الله حتى تبلغ موطنك، حيث لا يوجد رجاء بل تكون في الحقيقة الواقعة. "وانصب عليك عينيّ" [8]. لن أحول عيني عنك، لأنك أنت أيضًا من جانبك لا تحوّل عينيك عني. القديس أغسطينوس بلجام وحكمة تكبح فكوك الذين لا يدنون إليك" [9]. إذ يسلم الإنسان حياته لله يقوده الرب في طريقه، واهبًا إياه روح الحكمة والفهم، وإذ يثبت المؤمن عينيه على الرب يثبت الرب عينيه عليه. أما من يرفض مشورة الله فيصير بلا فهم، ويحسبه المرتل كحيوان، لأن الفهم لأو التعقل هو الذي يميزنا عن الحيوانات غير العاقلة. بالمسيح يسوع - حكمة الآب - نرقى لنكون كملائكة الله، وباعتزالنا الله نفقد حتى بشريتنا! يكفي الإنسان أن يتطلع إلى ابنه الفهم بنظرةٍ ما، فيتدارك الابن خطأه، أما الفرس وبالغل فلا تكفيهما نظرات عين سيدهما بل يحتاج إلى لجام وزمام لاقتيادهما. النفس المتضعة تكتفي بنظرات مخلصها فتبكي مع سمعان بطرس الذي لم يحتمل نظرات سيده اثناء محاكمته؛ أما المتكبر فيستخدم الله معها لجام الضيقات القاسية لعلها ترجع وتدنو منه بالتوبة، وتعرف طريق خلاصها. لذا يكمل المرتل، قائلًا: "كثير هي ضربات الخطاة، والذي يتكل على الرب الرحمة تحيط به" [10]. * بلجام وزمام يكبح فكوك الذين لا يدنون منك، لأنه تحت ضغط الظروف كما قلت يحنون بالضرورة رقابهم لله ولو بغير إرادتهم[632]. القديس كيرلس الكبير الأب قيصريوس أسقف آرل 4. الفرح الإلهي: "افرحوا أيها الصديقون بالرب وابتهجوا وافتخروا يا جميع مستقيمي القلوب" [11]. إن كان الغم هو نصيب الأشرار، فإن الفرح المضاعف هو نصيب الصديقين، مستقيمي القلب أما سرّ الفرح فهو "الرب". إنهم يفرحون بالرب كغافر للخطايا، كملجأ لهم، كقائد حياتهم، وكمصدر مجدهم. فرحهم هو بالرب لا بالغنى الزمني والأمور الأرضية. بدأ المزمور بتطويب من غفرت آثامهم وانتهى بالبهجة بالرب وليس بالغنى أو بالخلاص من الألم. بغفران خطايانا تصير قلوبنا مخلصة وأمينة لله ويعلن الرب ملكوته المفرح فيه. اغفر لي خطاياي * لينر روحك القدوس قلبي، فلا اكتم خطاياي بل اعترف بها! * هب لي دموعًا نقية، فأسكبها أمامك. امسك بيميني فأتمم وصيتك. اهدني في طريقك فامتلئ بحكمتك وفهمك! استر عليّ بدمك الثمين، ولا تحسب عليّ خطاياي. * بك أتمتع بالحكمة، وبدونك أهلك بالغباوة! بك امتلئ فرحًا، وبدونك يأسرني الغم! بك تستريح نفسي أبديًا، وبدونك لا أجد راحة * تكفيني نظرات عينيك فأعرف إرادتك وأرجع إليك! اجتذبني بحبك وفرّح قلبي بنعمتك! |
||||
22 - 01 - 2014, 03:13 PM | رقم المشاركة : ( 34 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 33 - تفسير سفر المزامير ترنيمة نصرة وفرحارتباطه بالمزمور السابق: من الواضح أن هذا المزمور كُتب كتكملة للفكر الوارد في المزمور السابق، حيث يكشف عن أسباب إضافية لتهليل الأبرار وفرحهم في الرب. في المزمور السابق يعلن المرتل التطويب لمن نال المغفرة عن خطاياه خلال المعمودية كما بالتوبة المستمرة والاعتراف، وقد خُتم المزمور بدعوة شعب الله المتكل عليه أن يفرحوا بالرب ويبتهجوا ويهتفوا؛ الآن يقدم لنا مزمور تسبحة يتحدث فيه عن حال المؤمن التائب وقد تفجرت في داخله ينابيع التسبيح والفرح الداخلي كعطية إلهية. يقول السيد المسيح: "الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو 4: 14). وكأننا لا نستطيع أن نختبر عذوبة التسبيح ما لم نسلك طريق التوبة ونعيشها. إن كان المزمور السابق هو مزمور التوبة فأنه ينتهي بالدعوة إلى الفرح والبهجة والهتاف، أي إلى حياة التسبيح؛ بينما هذا المزمور وهو مزمور تسبيح ينتهي بالطلبة: "فلتكن رحمتك يا رب علينا" [19]، أي طلب رحمة الله غافر الخطايا. وكأنه لا انفصال بين حياة التوبة وحياة التسبيح؛ هما حياة واحدة متكاملة، طريق الله الملوكي الواحد! مزمور تسبيح حكمي ليتورجي: إن كان أنقى أنواع الترنم هو التسبيح لله لأجل ذاته ومن أجل معاملاته مع شعبه، فإن هذا المزمور يُحسب مثلًا رائعًا للتسبيح. إنه سيمفونية تسبيح مجيدة مقدمة للرب الخالق والسيد والديّان والمخلّص[634]. رُبما قدم المزمور كتسبحة شكر من أجل التمتع بغلبة أو نصرة؛ أو تذكارًا لأعمال الله المجيدة في البرية بعد عبور البحر الأحمر، وذراعه الرفيعة مع شعبه. إنه أغنية حب يترنم بها كل قلب يختبر أعمال الله العجيبة معه، ورعايته الخاصة... يتطلع من السماء منشغلًا بمن هم في الأرض، يحتضنهم بالحب ليحملهم إلى سمواته! اعتاد عازفوا الموسيقى في الهيكل أن يسبحوا بهذا المزمور كما على لسان السمائيين والأرضيين؛ يُعلنون عن فرح السمائيين بخالقهم واهب القوة، وعن إيمان الأرضيين الذين يمجدون الخالق المهتم بهم. تتناغم أعمال الخلق بكلمة الله مع أعماله عبر التاريخ ليخلص بذراعه الرفيعة. يبدأ المزمور كما ينتهي بتقديم عنصرين من عناصر العبادة: تقديم ذبيحة شكر لله الملك العظيم والمجيد، والثقة فيه حيث يترجى الكل باتضاع في خلاصه. ويمكن اعتبار مزمور التسبيح هذا حِكمي تعليمي، وفي نفس الوقت ليتورجي. يرى البعض أنه تسبحة خاصة بالأعياد، وُضع من أجل العيد الخاص بعقد ميثاق مع الله، يُحتفل به في بدء السنة الجديدة. إنه يمجد خطة الله العظيم في عنايته بشعبه، الأمر الذي يهب رجاءً في المستقبل. أنه تسبحة جديدة [3] تستخدم في المناسبات الخاصة بتجديد العهد مع الله. كلمة الله في العهد القديم: كلمة الله -كما هو مُعلن هنا- كائن يُعتمد عليه، محب، وأمين، يحقق كل مطالب واحتياجات الكون المخلوق خلال كنيسته. يجدد الكلمة حياتنا، خاصة خلال كلمات كتابه المقدس التي تُتلى مرة فأخرى في الاجتماعات الليتورجية. البنية الليتورجية: يقترح البعض البنية الليتورجية التالية: « دعوة للتسبيح ترنمها الجماعة كلها [1]. « آيات [2-3] يتغنى بها خورس أول. « بواعث التسبيح: آيات [4-5] يرنمها خورس ثانٍ. آيات [6-9] يرنمها الخورس الأول. آيات [10-12] يرنمها الخورس الثاني، مُقتبسة عن التاريخ البشري بخصوص الأمم. الآيات [13-19] يرنمها الخورس الأول، مقتبسة عن التاريخ البشري بخصوص أشخاص. « الآيات [20-21] خاتمها يرنمها الخورسان [1، 2]. « الآية [22] خاتمة ترنمها الجماعة كلها معًا. الإطار العام: 1. دعوة للتسبيح [1-3]. 2. أمانة الله [4-5]. 3. عدالة الله مع الأمم [6-9]. أ. عدالة الله مؤسس السموات وواهبها القوة ب. الله ضابط أعماق المحيطات وحافظ مياهها كما في زق صغير ج. الله مستحق كل خشوع معاملات الله مع الأمم 4. صلاح الله [20-22]. أيها الحب الأبدي 1. دعوة للتسبيح: أُختتم المزمور السابق بالحث على التسبيح لله بفرح وبهجة وافتخار، الآن يُفتتح المزمور بذات الدعوة، مقدمًا المرتل أسبابًا إضافية كبواعث للتسبيح. "ابتهجوا أيها الصديقون بالرب، للمستقيمين ينبغي التسبيح. اعترفوا للرب بقيثار، وبكينارة ذات عشرة أوتار رتلوا له. سبحوا له تسبيحًا جديدًا؛ ورتلوا له حسنًا بتهليل" [1-3]. يلاحظ في هذه الدعوة الآتي: 1. يرى البعض أن الكلمة العبرية المقابلة للفعل "ابتهجوا" هي في الأصل تعني: "ارقصوا فرحًا"، وهو تعبير قوي جدًا عن التهليل الحيّ[635]، حيث يهتز كيان الإنسان الداخلي طربًا من أجل اللقاء مع الله، كما رقص داود النبي أمام تابوت العهد (2 صم 6: 14؛ 1 أي 15: 29)، وكما ارتكض (رقص) الجنين في أحشاء القديسة أليصابات عند زيارة القديسة مريم لها. هذا التسبيح أو رقص الكيان الداخلي هو هبة إلهية كثمر للروح القدس الواهب الفرح. 2. سرّ البهجة أو التسبيح هو الرب: "ابتهجوا... بالرب"؛ نفرح به لا بذواتنا، نفرح بحضرته لا ببركاته الزمنية. فالفرح بالأمور الزمنية زائل، والفرح بالخطية مُهلك، أما الفرح بالرب فأبدّي، هو عمل السمائيين ولغتهم. من يُريد مشاركتهم أمجادهم فليتعلم لغتهم ويبدأ هنا بالفرح الداخلي وتسبيح القلب واللسان. 3. "للمستقيمين ينبغي التسبيح": إن كان التسبيح هو هبة إلهية، عطية الروح القدس للمؤمنين ليمارسوا الحياة السماوية المفرحة، فإنه في نفس الوقت التزام، إذ يليق بالمؤمن الذي يمارس الحياة التقوية أن يتمتع بامتيازه، فيسبح الله كملاك متهلل. التسبيح الصادر عن قلب مقدس للرب هو ثوب العرس الذي يرتديه المؤمن أمام العرش الإلهي، أما الصادر عن قلب شرير فيشبه خزامة من ذهب في فنطيسة خنزيرة (أم 11: 22). 4. "استخدام آلات التسبيح الداخلية": يُطالبنا المرتل أن نستخدم قيثارة وكينارة ذات عشرة أوتار. ربما يثور السؤال هنا: هل تستخدم كنيسة العهد الجديد الآلات الموسيقية في العبادة الليتورجية؟ يقول وليم بلامر W. Plumer: [من المؤكد أن المسيحيين الأوائل لم يستخدموا أية آلات عزف موسيقية في عبادتهم العامة. وهذا واضح من تعاليم الشهيد يوستين وذهبي الفم وثيؤدورت. في حديث ذهبي الفم على المزمورين 143، 149، وثيؤدورت على مزمورنا الحالي الآية [2] يُقدمان شهادة حاسمة في هذا الأمر... يقول ذهبي الفم: [(كانت الآلات الموسيقية) مسموحة فقط لليهود، حيث كانت الذبيحة قائمة، وذلك بسبب ثقل نفوسهم وغلاظتها. تنازل الله إلى ضعفهم، لأنهم كفوا مؤخرًا عن عبادة الأوثان، أما الآن فنحن نستخدم أجسادنا عوض الأرغن، لنسبحه]. كان من المؤكد عدم استخدام الأرغن في الكنائس المسيحية في أي موضع، حتى استخدمت مؤخرًا في منتصف القرن الثالث عشر. عبّر عن ذلك توما الأكويني بقوله: [لا تستخدم كنيستنا آلات موسيقية كالعود والقيثارة، في التسبيح لله حتى لا تبدو متهودة]. يقر كل من البروتستانت والكاثوليك بهذه الشهادة كأمر قاطع عن حقيقة عدم استعمال الآلات حتى زمان شولمان العظيم عام 1250 م. واضح جدًا من الكتاب المقدس أن الآلات الموسيقية كانت تُستخدم قبل زمن موسى لتعبر عن مشاعر القلب الفرحة (أي 30: 31)[636]. كيف إذن نسبح الله روحيًا بقيثارة وكنارة ذات عشرة أوتار؟ أ. عرفت الكنيسة منذ بدء انطلاقها اسم "يسوع" بكونه مصدر الفرح والقوة، يرددونه بالروح والحق لينعموا بحضرته، وكان الاسم هو قيثارة الروح التي يُعزف عليها لحن البهجة والخلاص. * ما هذه القيارة ذات العشرة أوتار إلا كلمة "يسوع" التي أُعلنت خلال حرف عشرة (وهو حرف اليوتا الذي يمثل رقم 10 في اليونانية، أول حروف كلمة إيسوس)[637]. القديس أكليمندس الاسكندري يسبح الصديقون الرب بأجسادهم التي يقدمونها ذبيحة حيَّة مبقبولة لديه (رو 12: 1). يقول القديس أغسطينوس: [استخدموا أعضاءكم الجسدية لخدمة محبة الله والقريب، ومن ثم تنفذون الوصايا الثلاث (الخاصة بمحبة الله) والوصايا السبعة (الخاصة بمحبة القريب)]، [ليته لا يفكر أحد في الآلات الموسيقية التي للمسارح، فالأمر هنا يشير إلى أمور داخلية، كما قيل في موضع آخر: "فيّ يا الله أرّد لك التسبيح"]. تشير القيثارة إلى الجسد المقدس الذي يمجد الله، يشكره ويسبحه لا باللسان فحسب، بل وبكل كيان الإنسان: الجسد بحواسه الخمس والنفس بحواسها أو قدراتها الداخلية الخمس. وكأن رقم 10 يشير إلى الجسد والنفس والعقل والعواطف والأحاسيس الخ... الكل يسبح الله بتناغم وانسجام بقيادة الروح القدس خلال القدرات المنظورة وغير المنظورة. يرى القديس ديديموس الضرير أن نغمة القيثارة تصدر عن أسفل أطرافها فتشبه الجسد الذي وُجد من الأرض، أما الكينارة فيُنغّم بها من أعلى أطرافها لتشير إلى النفس المحلقة في السماويات بروح الشكر. ج. رأينا العشرة أوتار تشير إلى الوصايا العشرة، فمن لا يطيع الوصية يكون أشبه بقيثارة بلا أوتار لا يمكن أن تقدم تسبحة عذبة تفرح السماء! د. تشير القيثارة ذات العشرة أوتار إلى الكنيسة التي يتمتع أعضاؤها بمواهب متعددة، كأوتار متباينة، تصدر نغمات مختلفة لكنها منسجمة معًا، تقدم سيمفونية عذبة بالروح القدس واهب الوحدة والتناغم. 5. تسبحة جديدة: "سبحوا له تسبيحًا جديدًا" [3]. كثيرًا ما نقرأ عن التسبحة الجديدة في سفر المزامير (96: 1؛ 98: 1؛ 149: 1)؛ كما نسمع عن الترنيمة الجديدة في السماء (رؤ 5: 9؛ 14: 3). إن كانت الجبال ترنم للرب (إش 55: 12)، وأيضًا الأودية (مز 65: 13)، وأشجار الوعر (1 أي 16: 33) وكواكب الصبح مع بني الله (أي 38: 7)، إذ الكل، السمائيون والأرضيون؛ الخليقة العاقلة والجامدة، يسبحونه بكونه خالقهم المهتم بالكل؛ فإننا نحن الذين تمتعنا بعمله الخلاصي كمراحم جديدة نختبرها كل يوم في معاملاته معنا، نسبحه تسبيحًا جديدًا. يشير هنا إلى "تسبحة جديدة" دون إشارة إلى آلات موسيقية، لأنها تسبحة سماوية لا تحتاج إلى آلات موسيقية أرضية. يسألنا المرتل أن نسبحه تسبيحًا جديدًا ينبع عن الإنسان الداخلي، دائم التجديد بعمل الروح القدس. نسبحه من أجل مراحمه الجديدة كل صباح، إذ يشرق شمس البر فينا، واهبًا إيانا استنارة روحية؛ نسبحه بإنساننا الجديد إذ صُلب الإنسان القديم بأعماله الشريرة! الجِّدة هنا تُفهم حرفيًا على أنها دور جديد يُعطى للتسابيح القديمة، أو خبرة جديدة لرعاية الله الواهب الخلاص جديدًا في حياتنا خلال الصليب. * أنتم الآن تعرفون الأغنية الجديدة: الإنسان الجديد، العهد الجديد، الأغنية الجديدة! لا تنتمي الأغنية الجديدة إلى الإنسان العتيق؛ فأنه لا يقدر أن يتعلمها إلا الإنسان الجديد، ذاك الذي كان منتميًا قبلًا للقديم وقد وُلد ثانية للعهد الجديد الذي هو ملكوت السموات. * غنوا تسبحة نعمة الإيمان... غنوا بملء الحيوية له من أجل الفرح ذاته. القديس أغسطينوس 2. أمانة الله: "لأن كلمة الرب مستقيمة، وكل أعماله بالأمانة. يحب الرحمة والحكم. امتلأت الأرض من رحمة الرب" [4-5]. يقدم لنا أحد الدوافع التي تبعث فينا روح التسبيح ألا وهو تمتعنا بكلمة الله. فالكلمة الإلهي - كما يقدمه المزمور، ليس صوتًا أو حروفًا منزلة، إنما كائن حيّ له السّمات الإلهية، فهو مستقيم، عامل بالأمانة، محب للرحمة والعدل، خالق السماء والأرض [6]. أنه يستحق كل تسبيح من خليقته التي تلتقي به خلال أعماله العادلة المملؤة حنانًا وحبًا. * كلمة الرب صادقة، إنها قادرة أن تجعلكم على حال لا تقدرون أن تكونوا عليه من ذواتكم... يجب ألا يتصور إنسان ما أنه ينال إيمانًا بفضل أعماله الذاتية، فإنه بالإيمان ذاته يمكن لعمل ما أن يكون مرضيًا لدى الله. القديس أغسطينوس القديس باسيليوس الكبير استعلن حبه وعدله في الخليقة، وفي تدبيره الإلهي للكون كله، وبالأكثر يسطعان ببهاء لا ينطق به في عمله الخلاصي. ما أعجب كلمة الله المستقيم، لم يخلق شيئًا دنسًا أو منحرفًا! كل انحراف هو بسبب خطايانا، وكل فساد هو من صنع إرادتنا الذاتية! إن رجعنا إليه عادت الاستقامة إلى حياتنا، بل وإلى أرضنا؛ فإنه رحوم ينتظر إعلان حبه وحنانه دون إلزامنا أو قهرنا بالعودة إليه. عندما اجتاز مجد الرب أمام موسى تلامس النبي مع مراحم الله العجيبة وعدله، فقد قيل: "الرب إله رحيم، ورؤوف، بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء! حافظ الإحسان إلى ألوف! غافر الإثم والمعصية والخطية؛ ولكنه لن يبرئ إبراءً" (خر 34: 5). تحققت رحمة الله وأيضًا عدله على الصليب، حيث قدم كلمة الله حياته مبذولة لأجلنا، وقد دفع الثمن بالكامل. بالصليب "امتلأت الأرض من رحمة الله" [5]، إذ لم يعد الإيمان قاصرًا على شعب معّين، بل قبلت الشعوب الإنجيل، وتهللت برحمة الله الفائقة. صار ممكنًا لكل إنسان أن يدعو الرب فيخلص، ملتقيًا مع مخلصه أينما وُجد. رحمة الله وعدله لا يفترقان؛ هو كلّي الرحمة وفي رحمته عادل؛ وكلّي العدل، وفي عدله رحوم. غير أنه يمكننا القول بإننا نعيش في عهد النعمة حيث تتجلى مراحم الله لتنتشلنا من هوة الهلاك ليحمل هو بعدله ثمن خطايانا، أما في الدهر الآتي فيحكم كديّانٍ ليجازي بعدله كل واحد حسب أعماله. من يقتني الرحمة الآن يفلت من الحكم، ومن يتهاون بالرحمة يسقط تحت العدل الإلهي. * "يحب الرحمة والعدل". لأنه يحب، يجب عليكم أن تختبروا تلك الرحمة وذاك العدل. الآن هو زمان رحمة؛ أما فيما بعد فيكون العدل. القديس أغسطينوس أنتم ترون كيف بفطنة يهب الرحمة؛ لكنه ليس رحومًا دون عدل، ولا هو عادل دون الرحمة، لأن الرب رحوم وعادل (مز 115: 5)[639]. القديس باسيليوس الكبير 3. عدالة الله: 1. عدالة الله مؤسس السموات وواهبها القوة: إن كانت الأرض قد امتلأت من رحمة الرب [5]، فإنه يليق بالأرضيين ألا يستهينوا بطول أناته ورحمته، إنما يجب أن يتَّقوه بخشية [8] بكونه خالق السماء وكل جنودها [7]، يأمر فيكون [9]. "بكلمة الرب تشدّدت السموات، وبروح فيّه كل قواتها" [6]. الله الذي يُطيل أناته على الإنسان الترابي هو خالق السموات العلوية بكل قواتها؛ بمعنى أنه ليس في عوز إلى خدمة الإنسان، إنما في تنازله يحب الإنسان ويهتم بخلاصه وأبديته. وربما أراد المرتل أن يؤكد للإنسان أنه لن يفلت من العدالة الإلهية، فأن السموات بكل علوها وكل إمكانياتها وقدراتها هي من صنعه... إلى أين يهرب؟ وأية قوة تسنده إن قاوم الخالق؟ يرى القديسون أثناسيوس الرسولي وباسيليوس وغريغوريوس أسقف نيصص وأمبروسيوس وأغسطينوس في هذه العبارة إشارة إلى الثالوث القدوس: الرب وكلمته وروحه. * عليكم إذن أن تدركوا ثلاثة: الرب الذي يُعطي أمرًا، والكلمة الذي يخلق، والروح الذي يُثبت[640]. القديس باسيليوس الكبير البابا أثناسيوس الرسولي * و"قال الله" مشروحة في "الكلمة"، إذ قيل: "كل شيء بحكمة صنعت" (مز 104: 24)؛ "بكلمة الرب تشددت السموات"، "رب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به" (1 كو 8: 6)[641]. البابا أثناسيوس الرسولي البابا أثناسيوس الرسولي البابا أثناسيوس الرسولي إذن، الذي هو فوق الجميع لا يخدم (يُستبعد)، ومن لا يخدم فهو حرّ، ومن هو حرّ فله ميزة السيادة (الربوبية)[644]. القديس أمبروسيوس القديس إيريناؤس القديس إيريناؤس * خلق الإنسان مرة أخرى بالمعمودية، لأنه إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة[647]. القديس باسيليوس الكبير الرحم يحتاج إلى زمن كثير يتشكل فيه الجسد، أما الماء والروح فمنهما تتشكل حياة الروح، في لحظة، في طرفة عين[648]. القديس يوحنا الذهبي الفم 2. الله ضابط أعماق المحيطات وحافظ مياهها كما في زق صغير: "الجامع مياه البحار كأنها في زق، ووضع الأعماق في كنوز" [7]. إن كانت مراحم الله التي ملأت الأرض تحثنا على تسبيحه، فأن رحمته كما قلنا لا تُعزل عن عدله، فهو الإله المخوف العادل؛ إن حاول إنسان أن يهرب إلى السماء بارتفاعها وقدرتها يجد الله مؤسسها وواهبها القوة، وإن غاص إلى أعماق المحيطات لعله يختفي من وجه الديان يجد كل أعماق البحار والمحيطات في عيني الله أشبه بقليل ماء في زق صغير تحت بصره. إن كانت المياه سهلة السكب والتسرب لكنها في قبضة يدّ الله القوية. الله هو جامع المياه والعارف أحجامها. تُشير مياه البحار هنا إلى الاضطهاد القائم ضد الكنيسة، الذي تثور أمواجه وتياراته ضدها. أما رب الكنيسة الجامع المياه فلا يمنع الضيق لكنه يضبط سطوته ويحوّل مرارته إلى عذوبة تستحق أن تجمع في زق كشيء ثمين وتُحسب كنوزًا ثمينة. * بينما كان البحر قبلًا في هياج بلا ضابط، إذا بمرارته تتوقف... لأن ذاك الذي غلب في الرسل، والذي وضع للبحر حدًا... جعل فيضانه (تياراته) تلتقي مع بعضها البعض لتحطم الواحدة الأخرى. القديس أغسطينوس "أإياي لا تخشون يقول الرب أو لا ترتعدون من وجهي، أنا الذي وضعت الرمل تخومًا للبحر فريضة أبدية لا يتعداها، فتتلاطم ولا تستطيع، وتعج أمواجه ولا تتجاوزها؟!" (إر 5: 22). "من حجز البحر بمصاريع حين اندفق فخرج من الرحم؟!" (أي 38: 8). "صنعت (للمياه) حدًا فلا تتعداه، ولا ترجع فتغطي الأرض" (مز 103: 9). اليوم يرى العلماء أنه لو أختل توازن المسافة بين الأرض والقمر لحدث مدّ وجزر في المحيطات تغرق كل الكرة الأرضية... لقد وضع الله للمياه حدودًا! إن كانت أعماق المحيطات مرعبة للغاية، حتى حسب القدماء أن مركز الشيطان في المياه، ومملكته تقوم في الأعماق، فدعوه بالتنين العظيم، لكن المرتل يرى في المياه مخازن خيرات أقامها الله لمحبوبه الإنسان. وفي العهد الجديد نرى مياه نهر الأردن ينبوع الميلاد الجديد حيث فتح لنا الرب فيها أبواب المعمودية ككنز ثمين! الآن نفهم قول المرتل: "وضع الأعماق في كنوز" [7]. 3. الله مستحق كل خشوع: الله خالق السماء العلوية وواهبها القوة، وضابط أعماق المياه ومحوّل مرارتها إلى عذوبة، هو بالحق كائن مخوف جدًا، سيد مهوب للغاية، مجده لا نهائي. يجب أن تقدم له العبادة بوقار؛ إحساناته نباركها بغير فتور؛ سخطه غير المدرك مرهب. يقول المرتل: "فلتتق الرب كل الأرض، ولتتزعزع منه كل سكان المسكونة. لأنه هو قال فكانوا. هو أمر فخُلقوا" [8-9]. * فليرتعد كل سكان الأرض بسبب حالهم السابق، إذ كانوا يخدمون الأوثان. القديس أثناسيوس الرسولي أخيرًا يترنم المرتل لأن الله يخلق بكلمته. * هذه (الأرض) أيضًا خُلقت بكلمته، كما يخبرنا الكتاب المقدس في سفر التكوين، أنه صنع كل شيء، لاصقًا كلمتنا بكلمته[649]. القديس إيريناؤس معاملات الله مع الأمم: إذ يتحول المزمور إلى التأمل في التاريخ يبرز جلال قوة الله ليس بأقل مما يبرزه عمل الخلق في الطبيعة. الله القدير في خلقه للسماء والأرض هو القدير في رعايته وعنايته بالإنسان عبر التاريخ. ترى عينا الإيمان يدّ الله خلف صراعات الأمم وارتباطاتها، هذه اليد التي تشكل تاريخ العالم حسب غايته الأبدية[650]. التاريخ هو امتداد لعمل الخلق، يُظهر بأكثر كمال عدالة الله بتذكر وعود حبه الثابت. في هذا المزمور، بعد تقديم قدرة الخلق التي تخبرنا عن عظمة وجوده، يشير إلى معاملاته مع خلائقه كموضوع تسبيح وحمد، بكونه كلّي الحكمة، الناظر إلى كل شيء، وحاكم الأمم جميعًا. "الرب يُشتت آراء الأمم، ويرذل أفكار الشعوب، ويرذل مؤامرة الرؤساء. وأما رأي الرب فهو يكون إلى الأبد؛ وأفكار قلبه من جيل إلى جيل" [10-11]. الله لم يخلق العالم بكل قوانينه الطبيعية الجبارة ليتركه ويعتزله، إنما خلقه ليحركه بقوانينه، واهبًا الإنسان كمال الحرية، ويبقى الخالق راعيًا ومدبرًا لخليقته... قد يترك الأشرار يفكرون ويخططون وربما يبدأون مؤامراتهم عمليًا، لعلهم يرجعون عن شرهم ويتوبون. فإن أصرّوا يتدخل في اللحظة الحاسمة إما ليحوّل شرهم إلى بركات لأولاده أو يوقف المؤآمرات ويبددها، وكما جاء في إشعياء النبي: "هكذا يقول السيد الرب: لا تقوم، لا تكون" (7: 7). "هيجوا أيها الشعوب وانكسروا، واصغي يا جميع أقاصي الأرض. احتزموا وانكسروا. تشاوروا مشورة فتبطل. تكلموا كلمة لا تقوم، لأن الله معنا" (8: 9-10). لقد سبق فأبطل مشورة أخيتوفل ضد داود النبي (2 صم 17: 23)، وتدبير هامان ضد مردخاي وشعبه (إس 6، 7)، وخطة دقلديانوس ضد الكنيسة في العالم كله! في كل جيل يُقاوَم الله في أولاده، لكن لن تدوم المقاومة، إذ ينتهي الضيق ويتمجد أولاد الله إلى الأبد. تنتهي حكمة الأشرار إلى لا شيء أما خطة الله للخلاص فتتحقق وتثبت، إذ قيل لنفوس الذين قُتلوا من أجل كلمة الله "أن يستريحوا زمانًا يسيرًا أيضًا حتى يكمل العبيد رفقاؤهم واخوتهم أيضًا العتيدون أن يُقتلوا مثلهم" (رؤ 6: 11). يحقق الله خطته بكل الطرق، حتى وإن كان بعضهم يستشهدون! عيناه على أولاده حتى في لحظات آلامهم واستشهادهم. أولاد الله لا يرتبكون بسبب مؤامرات الأشرار وخططهم، فإن التاريخ هو في يديْ الله أبيهم كلّي الحكمة وكلّي القدرة وكلّي الحب. هو قادر أن يُحطم مشورتهم بإبطالها أو تحويلها إلى الخير حتى وإن سمح لهم بقتل أولاده... إنما ما يشغلهم هو "الطوبى" التي صارت لهم لا عن برّهم الذاتي وإنما عن اختيار الله لهم ليكونوا شعبه وأولاده وهو يكون لهم إلهًا وأبًا. "طوبى للأمم التي الرب إلهها، والشعب الذي اختاره ميراثًا له" [13]. لنفرح ولنبتهج باختيار الله لنا، ليكون نصيبنا، ونحن نكون نصيبه، نُحسب شعبه، يشهد المرتل بفرح أن الله يعلن ذاته لنا بكونه إلهنا. نقتنيه كمصدر بركتنا، حمايتنا، إرشادنا، سلامنا، فرحنا، نجاحنا، إستقرارنا، فلا نعتاز إلى شيء. * "طوبى للأمة التي الرب إلهها" [12]. سمعتم أن أمته تمتلكه... الآن تسمعون أنه يمتلكهم: "الشعب الذي اختاره ميراثًا له". طوبى للأمة فيما تمتلكه، وطوبى للميراث فيمن يمتلكه. القديس أغسطينوس ليكن الرب هو إلهي، أمتلكه فلا أطلب شهوة جسد، ولا محبة غنى العالم، ولا مجدًا باطلًا، ولا نظرة عطف بشري؛ وليقبلني ميراثًا له، يُسر بعمله فيّ، وبره الساكن فيّ، وفرح ملكوته في أعماقي. ليتني أصير عبدًا له فلا أستعبد لسادة كثيرين. عبوديتي له هي كمال الحرية الداخلية! إذ نتبادل الحب والملكية عيناه لا تفارقانني، إذ يقول المرتل: "نظر الرب من السماء فرأى جميع بني البشر؛ من مسكنه المهيأ نظر إلى جميع سكان الأرض" [13-14]. حينما نتحدث عن تطلع الله للبشر يلزم أن نميز بين نوعين من النظرات، نظرة الله كخالق وفاحص كل الأمور، ونظرته الواهبة النعم للنفوس التي تقبلت البنوة له. الله عارف الكل، فاحص القلوب والكلى جميعها، لكن له معرفة الالتصاق والاتحاد بمن قبلوه أبًا ومخلصًا. الله حاضر في كل مكان لكن له الحضرة الواهبة النعم في قلوب مؤمنيه العاملين بالمحبة. الله ينظر إلى كنيسته، يعرفها كعروس له، حاضر فيها بكونها مملكته على الأرض؛ وهو أيضًا ينظر ويفحص دقائقه الخفية، ويعرف أسراره، وحاضر في كل موضع؛ لكن شتان بين معاملاته مع طالبيه ومعاملاته مع جاحديه. يتطلع الله إلى شعبه كأب نحو أولاده المحبوبين وليس كمتفرج سلبي. إنه يرانا في ابنه الحبيب، فيجدنا نحمل بر المسيح، ونُحسب موضع سروره. إنه يتطلع "من السماء"، "من مسكنه المهيأ"؛ أي من قلوب مؤمنيه والكارزين به بكونهم موضع سكناه. ليس فقط ينظر إلينا كأب، وإنما يسكن فينا متطلعًا من خلالنا إلى الغير. * "من مسكنه المهيأ نظر إلى جميع سكان الأرض" [13]. يتطلع إلينا من خلال الكارزين بالحق. ينظر إلينا من خلال الملائكة الذين أرسلهم، بكونهم جميعًا بيته. إنهم جميعًا مسكنه الدائم، بكونهم السموات التي تُظهر مجد الله. القديس أغسطينوس "الذي هو وحده خلق قلوبهم؛ الذي يفهم جميع أعمالهم. لا يخلص ملك من أجل عظم قوة. لا ينجو جبار بكثرة جبروته. خلاص الفرس كاذب وبكثرة قوته لا يخلص" [15-17] صانع القلب يعرف كل أسراره، وكما يقول الحكيم: "قلب الملك في يدّ الرب كجداول مياه حيثما شاء يميله؛ كل طرق الإنسان مستقيمة في عينيه، والرب وازن القلوب" (أم 21: 1-2). ويقول المرتل: "يا رب قد جربتني وعرفتني؛ أنت عارف جلوسي وقيامي؛ أنت فهمت أفكاري من البعد... لم يختفِ عنك عظمي الذي صنعته بالخفاء" (مز 139). * "الذي هو وحده خلق قلوبهم" [15]. بيد نعمته، بيد رحمته صنع قلوبنا وشكّلها وصنعها قلبًا فقلبًا، معطيًا لكل واحد قلبًا منفردًا، دون أن يفقدنا الوحدة معًا... "الذي يفهم جميع أعمالهم"... يرى الإنسان عمل آخر بتصرفاته الجسدية (الظاهرة) أما الله فيرى عمق القلب. فأنه إذ يرى ما بالداخل قيل "الذي يفهم جميع أعمالهم". القديس أغسطينوس لقد وهبنا بعطية الروح القدس نعمة الملوكية، لنصير ملوكًا روحيين، متحدين بملك الملوك، متكلين عليه. الخلاص حتى من الموت يمكن أن يتحقق بالله وحده. حياتنا في يديه، وهو قادر أن يحفظها حتى في وسط الضيق الذي لا يقهره إنسان. إنه يمنحنا ذاته قوة لنا، فنتكل عليه، لا لنكون سلبيين، وإنما في إيجابية نجاهد به بكونه قوتنا. لقد قيل: "الفرس مُعد للحرب؛ أما النصرة فمن الرب" (أم 21: 31). * ليكن الله هو رجاءكم، قدرتكم على الاحتمال، قوتكم. ليكن كفارتكم، تسبيحكم، غايتكم وموضع راحتكم، وعونكم في جهادكم... الجبار هو الإنسان المتغطرس الذي يرفع نفسه (متشامخًا) على الله، كما لو كان شيئًا في ذاته وما يخصه. مثل هذا الإنسان لا ينجو بقوته الذاتية. الآن، لديه فرس رشيق وقوي، سليم وسريع الخُطى، إذا ما حدث هجوم أما يستطيع أن ينجي راكبه من الخطر الملحق به؟ ليسمع: "خلاص الفرس كاذب"... يلزم ألا يعدك الفرس بالنجاة... يمكننا أن نأخذ الفرس رمزًا لأية ممتلكات في هذا العالم، أو لأي نوع من الكرامة نتكل عليها في كبرياء، حاسبين خطًأ أنكم كلما ارتفعتم يزداد آمانكم وعلوكم. ألا تدركون بأي عنف سوف تُلْقَون، كلما ارتقيتم إلى أعلى يكون سقوطكم بأكثر ثقلٍ... فكيف إذن يتحقق الأمان؟ إنه لا يتحقق بالقوة ولا بالسلطة ولا بالكرامة ولا بالمجد ولا بالفرس. القديس أغسطينوس يرى العلامة أوريجانوس أن الخيل تشير هنا إلى الشيطان وملائكته، إذ يقول: [الخيل والفرس يمثلون صورة الذين كانوا في السماء وانحدروا منها بسبب كبريائهم وتشامخهم... هؤلاء الذين تبعوا القائل: "أصعد فوق مرتفعات الرب (السحاب)، أصير مثل العَليّ" (إش 14: 14). لهذا السبب على ما أظن يقول النبي: "باطل هو الفرس لأجل الخلاص، وبشدة قوته لا ينجي" [17]. هكذا أيضًا قيل عن الذين يثقون في الشيطان: "هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، وأما نحن فأسم الرب إلهنا نذكر" (مز 20: 8)]. لنترك مركبات العالم ولنمتطِ مخافة الرب، تلك المركبة الإلهية القادرة أن ترفعنا فوق كل الأزمات والضيقات، تجتاز بنا فوق الموت، ولا يحاصرنا غلاء أو وباء، وكما يقول المرتل: "هوذا عينا الرب على خائفيه والمتكلين على رحمته. لينجي من الموت أنفسهم ويعولهم في الغلاء" [18-19] 4. صلاح الله: "أنفسنا تنتظر الرب في كل حين، لأنه هو معيننا وناصرنا. وبه يفرح قلبنا، لأننا على إسمه القدوس اتكلنا. فلتكن رحمتك يا رب علينا، كمثل اتكالنا عليك" [20-22]. يتمتع خائفوا الرب بنظرات الله الحانية، الواهبة النعم، التي تكشف عن اهتمام شخصي وتقديره للنفس البشرية... الأمر الذي يفرح قلب المؤمنين. مع تمتعه بالخلاص، وإدراكه لقوة اسم الله القدوس، لا يكّف المرتل عن الصراخ طالبًا رحمة الله، حتى وسط تسبيحه، مدركًا أن ما يناله هنا هو عربون لأمجاد لا يُعبَّر عنها في الحياة الأبدية. وكأنه مع كل نصرة، وكل نجاح، وكل شبع يزداد الحين نحو الشبع الكامل في الملكوت الأبدي فيمتزج الفرح بصرخات القلب الخفية وأنينه نحو التمتع باللقاء الأبدي مع الله وجهًا لوجه. أيها الحب الأبدي * يا منبع الحب علمني كيف أحبك! لتُجدد أعماقي على الدوام فأنشد لك بقيثارة الروح! وأضرب في أعماقي بالطاعة على أوتار وصاياك العشرة! * بكلمتك شددت السموات، وبروحك كل قواتها. لتعمل أيها الكلمة الإلهي في قلبي، سمواتك الجديدة. ولتضرم كل ما وهبتني فتحمل قوتك وإمكانياتك بروحك القدوس! * هب لي خوفك، مركبة إلهية تسندني وقت الضيق! فإنه ليس لي خيل ولا مركبات، لكن مخافتك هي قوتي! ليحملني خوفك فوق تيارات الضيق، ويجتاز بي القبر فأحيا أبديًا! * لتتطلع بعينيك إليّ، فإنني في حاجة إلى حبك! لتنظر إليّ فأترك كل شيء وأجري وراءك! |
||||
22 - 01 - 2014, 03:19 PM | رقم المشاركة : ( 35 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 34 (33 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير شكر من أجل النجاةما حملته رسالة بطرس الرسول الأولى (الأصحاحان 2، 3) وغيرها من الرسائل الأخرى من اقتباسات زاخرة في هذا المزمور، وما ظهر من أصدائه عليها، لهو دليل قوي على ما تدين به كل الأجيال لهذا المزمور. كتب داود النبي هذا المزمور عندما غيّر عقله أمام أبيمالك، متظاهرًا بالجنون، فطرده الملك. لقد ذهب داود النبي مرتين إلى أرض الفلسطينيين؛ المرة الأولى كان بصحبة عدد قليل من الرجال (1 صم 21: 4-15)، وقد ملأه الخوف إذ جاء إلى جت مدينة جليات الجبار الذي قتله داود، وقد جاء يحمل سيف بطلهم، فثاروا ليقتلوه. لقد وجد أرامل وأيتامًا ترملن وتيتموا بسبب داود، ولم يكن ممكنًا أن يستضيفوه كطريد شاول، إنما حسبوه جاسوسًا خبيثًا ومتهورًا. قُدّم للملك فلم يجد وسيلة للخلاص إلا بالتظاهر بالجنون، فقد تمتع المجانين بامتيازات، منها عدم معاقبتهم على تصرفاتهم، كما حسب البعض أن بهم روحًا يخافونه ويرهبونه[651]. طرده الملك فهرب إلى مغارة عدلام، وقد نظم هذا المزمور بهذه المناسبة: في المرة الثانية جاء إلى جت (1صم 27-29) ومعه ستمائة جندي وعائلته، فلم يتشكك الفلسطينيون في أمره، خاصة وأن مطاردة شاول له صارت علانية ومتكررة عرفتها الأمم المحيطة[652]. رحب به ملك جت وأعطاه صقلغ ليسكن فيها،ربما ليكون سندًا له، أو ليقيم منه ومن رجاله قوة مضادة لشاول. مكث هناك سنة وأربعة أشهر. في عدلام "اجتمع إليه كل رجل متضايق، وكل من كان عليه دين، وكل مرّ النفس، فكان عليهم رئيسًا، وكان معه نحو أربعمائة رجل" (1 صم 22: 2). لقد أخفق إخفاقًا ذريعًا ولم يسلك بالإيمان. لا يمكننا أن نبرر صنيعه هذا أمام الملك، متظاهرًا بالجنون لخداعه. فالحق والإخلاص والصراحة هي أمور حتميّة يلتزم بها المؤمن في كل الظروف لا مناص منها، فلا يليق برجل الله أن يلجأ إلى طريق خداع يحمل ضعف إيمان، وإن كان أولئك الذين يبررون ما تتطلبه فنون الحرب واستراتيجيته يوافقون على هذا المسلك الخادع الذي لجأ إليه داود! إن كان داود النبي قد ضعف فالرب لم يخذله، وإنما برحمته خلصه. لهذا امتلأت نفس داود بالتسبيح، مقدمًا الشكر لله على الدوام من أجل معونة نعمته ورأفته المتحننة. لا توجد صعوبة بخصوص اسم الملك، فقد ورد في السجلات التاريخية أنه "أخيش"، وجاء هنا "أبيمالك"؛ فقد كان "أبيمالك" لقبًا يخص ملوك الفلسطينيين آنذاك، وهو يعني: "أبي يملك"، وذلك كما كان لقب "فرعون" خاص بملك مصر قديمًا، و"قيصر" لأباطرة الرومان، و"أجاج" لملوك عماليق. من جهة مادة المزمور، لا يبدو فيه تناقض؛ فإن كان داود قد سلك بما لا يتفق مع الإيمان، بل في خوف وعدم إيمان، لكنه مع ذلك لم يتكل على تصرفاته وإنما كان في أعماق قلبه واثقًا بالرب. وحينما صار في أمان مختبئًا في مغارة عدلام اعترف بفشله المخزي أمام الرب، وحسب خلاصه ليس ثمرة تصرفاته إنما هو عطية إلهية من قِبَلْ صلاح الله. هذا ما ملأ نفسه بروح التسبيح لتفيض بهجة تشيد بصلاح الرب ومراحمه. من جهة لغة المزمور فهو من المزامير الهجائية، يقترب في بنيانه من المزمور 25، كلاهما يبدأن بالحروف الأبجدية العبرية بالترتيب، ولكن حرف vow محذوف. أخيرًا فإننا حينما نشعر أننا قد فقدنا كل شيء، وأننا قد أخفقنا تمامًا نجد في المزمور 34 العون، إذ يشجعنا على المثابرة. في هذا المزمور كما في أمثلة القديسين العظماء المذكورين في (عب 11) نختبر عذوبة صلاح الله؛ ومن ثم نقدر أن نشترك في ترديد تسبحتنا السماوية هنا على الأرض. نحتمي في الله هنا كعربون للسلام الأبدي[653]. الإطار العام: 1. تسبيح الله [1-3]. 2. أسباب التسبيح [4-10]. أ. الله المنقذ من الضيقات ب. الله واهب الاستنارة ج. الله يحوطنا بملائكته د. اختبار عذوبة الله ه. الله ملجأ سائليه 3. هلُم أيها الأبناء واسمعوني [11-14]. أ. الجانب السلبي ب. الجانب الإيجابي ج. السعي وراء السلام 4. الأمان الإلهي [15-23]. أ. "فإن عيني الرب على الصديقين" ب. "فإن أذنيه مصغيتان إلى طلبهم" ج. "أما وجه الرب فعلى الذين يعملون الشر د. إستجابته لصرخات الصديقين شكر لأجل النجاة 1. تسبيح الله: "أبارك الرب في كل وقت، وفي كل حين تسبحته في فمي" [1]. تعتبر الآيات [1-3] تعليقًا رائعًا على النصيحة المقدمة لنا في العهد الجديد: "افرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضًا افرحوا" (في 4: 4). فالروحانية الحقة تستعلن خلال الفرح الداخلي الدائم والذي يُعبر عنه بالتسبيح الدائم حتى في أحلك لحظات الظلمة. يليق بنا أن نشكر الله ونسبحه في كل وقت، وفي جميع أحوالنا، في أيام الفرج كما في أيام الضيق، في الصحة والمرض، في الألم والفقر والاضطهاد، حتى في وسط آلام الموت، ففي كل وقت يُظهر الله نعمته في حياة المؤمن. في كل يوم يتلمس الإنسان التقي معالم مراحم الله وبصماتها فيسبح الله تسبيحًا جديدًا. يتمجد الله في حياة المؤمن، ويعتز المؤمن بعمل الله الدائم في حياته، قائلًا مع المرتل: "بالرب تمتدح نفسي" [2]. فإننا إن كنا نرغب في الفرح بالرب ليكن هو فرحنا ومجدنا، الأمر الذي يهب قلوبنا المتألمة سلامًا حقيقيًا. في غربته، ووسط الحرمان الخارجي، والضغوط الشديدة، يقول داود النبي: "أبارك الرب في كل وقت، وفي كل حين تسبحته في فمي" [1]. فقد عرف المرتل أنه ليس من عمل على الأرض ولا في السماء أشرف ولا أعظم من التسبيح؛ إنه عمل ملائكي! حينما نسقط في ضيق يلزمنا أن نتذكر معاملات الله معنا في الماضي، ومراحمه غير المنقطعة، فتتحول قلوبنا إلى الفرح والتسبيح، إذ تترجى بثقة ويقين مراحم الله الجديدة. في ضعفنا البشري يصعب أحيانًا أن نسبح الله وسط آلامنا ونباركه، لكن مسيحنا الذي نزل لأجل الألم قدم تسابيح حمد لأبيه حتى عند شربه الكأس في البستان، وقيل عنه إنه من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الآلام مستهينًا بالخزي (عب 12: 2). وهو وحده قادر بالحق أن يحقق كلمات المرتل هذه. أما نحن فلا نستطيع ما لم نتحد به، فيهبنا شركة حياته المتهللة، لنصير به أشبه بملائكة، نهتف بسان الشكر: "أبارك الرب في كل وقت..." * يقول المسيح هذا، ليت المسيحي أيضًا يردد ذلك، فأن المسيحي متحد بالمسيح. لقد صار المسيح إنسانًا لهذه الغاية: أن يصير المسيحي ملاكًا، يصرخ: "أبارك الرب..." يلزمكم أن تباركوه حين يمنحكم عطايا، وتباركوه حين يأخذها منكم، فإن هو الذي يعطي وهو الذي يأخذ، لكنه لن يأخذ "ذاته" ممن يباركونه. لا يبارك الرب كل حين إلا الودعاء [2]؛ هذه الوداعة التي علمنا إياها ربنا في جسده ودمه، فإنه حينما بذل جسده ودمه لأجلنا وضع أمامنا وداعته مثالًا. القديس أغسطينوس ليتنا نحن أيضًا تابعي هؤلاء القديسين لا نكف عن الشكر في كل وقت[654]. البابا أثناسيوس الرسولي * من هو ذاك الذي يبارك الرب في كل وقت؟ الإنسان الذي لا تفسده ثروته الطائلة، ولا ترهبه الشدائد. هذا هو السلام الأول والحقيقي أن نكون في سلام مع الله، عندئذ يتحقق أيضًا السلام في داخلنا[656]. الأب قيصريوس أسقف آرل لكل شيء وقت كما يُعلّم سليمان، وكما أعتقد أنا أيضًا... (أما الشكر ففي كل وقت)[657]. القديس غريغوريوس النزينزي يرى العلامة أوريجانوس أن من يشكر الله أو يسبحه وقت الفرج يكون كمن يرد له دينًا عليه، أما من يمارسه وقت الضيق فيكون كمن صار دائنًا له. يتحقق التسبيح لله وتمجيده خلال الاتضاع، فبشعورنا بضعفنا الذاتي نتلمس عظمة عمله في حياتنا. "بالرب تمتدح (تفتخر) نفسي، ليسمع الودعاء ويفرحون. عظموا الرب معي، وارفعوا بنا اسمه جميعًا" [2-3]. الافتخار أمر طبيعي في حياة الإنسان، إن أساء استخدامه صار فريسي الفكر، أما إن افتخر بضعفاته كما فعل الرسول بولس فينال نعمة الله وقوته، عندئذ يمتدح الله في شخصه وسماته ومواعيده وعهده وأعماله العجيبة... بالاتضاع والوداعة يدرك الإنسان أن ما ناله من صلاح ليس عن استحقاق، إنما هو هبة إلهية مجانية؛ فيشكر الله على مراحمه التي لا يدركها غير المؤمنين، ويفرح ويمتلئ رجاءً لينال كمال المجد الأبدي. * لا تُهنئ نفسك عندما تمتدح ذاتك، وإنما تمّجد في الرب، فتستطيع أن ترنم بثقة، قائلًا: "بالرب تمتدح نفسي"[658]. الأب قيصريوس أسقف آرل * احذروا لئلا تهلكوا أنفسكم وأنتم تمارسون مثل هذه الأعمال. يجب ألا تطلبوا الظهور بأكثر ورعًا أو اتضاعًا مما ينبغي أن يكون، لئلا تكونوا ساعين نحو المجد بامتناعكم عنه. لأن كثيرين ممن يخفون عن أنظار كل البشر فقرهم (الاختياري) ومحبتهم وصومهم يرغبون في إثارة الإعجاب بهم من خلال إزدرائهم بتلك الأمور عينها، والغريب أنهم يسعون نحو المديح بينما يتظاهرون أنهم بعيدون كل البعد عنه[659]. القديس جيروم الله لا يحتاج إلى من يعظمه أو يرفع اسمه، إنما نحن بروح الاتضاع نتحد معًا لنشارك السمائيين تمجيداتهم وتسابيحهم، فنتمتع بعذوبة خاصة. 2. أسباب التسبيح: يبدأ المرتل في سرد أسباب تسبيحه لله. 1. الله المنقذ من الضيقات: "طلبت إلى الرب فاستجاب لي. ومن جميع مساكني (مخاوفي) نجاني" [4]. اختبر المرتل نجاة عظيمة من كل ضيقاته، فقد كانت مخاوفه عظيمة. لقد قتل جليات الجبار، بطل ملك جّت الذي يقف أمامه الآن كغريب عاجز بلا حيلة، هاربًا وسجينًا. تذكر الفلسطينيون ما فعله بهم، وبدون شك اشتكوه لدى ملكهم. كان كل شيء يبدو مظلمًا أمام عقله وفكره. لكن الرب خلصه من أيدي الملك، وسمح له أن ينطلق إلى حصن وهناك يلتقي بكل عائلته وأصدقائه. على أي الأحوال، الله يخلص بالقليل وبالكثير من فكيّ الأسد ومن سيف الملك. لقد سمح الله لداود أن يتعرض لمتاعب كي يطلب إلى الله مصليًا، وأحيانًا كان يؤجل الاستجابة حتى تتعاظم حاجته إليه فيصرخ قلب داود، ويعطيه الله دليلًا على استجابته ويخلصه. لقد اختبر داود النبي أن الله الساكن في السماء هو إله المظلومين والمتألمين، يميل بأذنه ليسمع تنهدات قلبهم الخفية، إذ يقول: "لأنه اطلع من علو قدسه؛ الرب نظر من السماء على الأرض؛ ليسمع تنهد المغلولين" (مز 102: 17). داود النبي المطرود من أهله ومن شعبه ومن كرسيه (الذي لم يستلمه بعد)، يقف كأسير بل كسجين... لكنه يجد الله الساكن في السماء أقرب إليه من الكل. 2. الله واهب الاستنارة: "تقدموا إليه واستنيروا؛ ووجوهكم لا تخزى" [4]. لعل ما هو أعظم من النجاة من الضيق هو التمتع بإشراقات الله على نفسه وسط آلامها. إن تطلعنا إلى العالم بضيقاته أو أفراحه نكتئب ونتحير، أما إن تطلعنا إلى الله نستنير ولا تخزى وجوهنا. وكما يقول الرسول بولس: "نحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها، من مجد إلى مجد" (2 كو 3: 18). وسط الآلام نتطلع إلى المصلوب لنشاركه صليبه وننعم بمجد قيامته في داخلنا. * إذا ما استنرتم، وإذا ما صار ضميركم خالصًا، تبقى الضيقات أيضًا، إذ يبقى ضعف ما دائمًا، حتى يُبتلع الموت إلى غلبة، ويلبس هذا الفاسد عدم فساد. لابد لنا من التأديب في هذا العالم، ولابد من احتمال بعض المشقات والتجارب. وسيطهّر الله كل شيء، ويخلصكم من كل شيء، ومن كل ضيقة. اطلبوه هو وحده! * لنقترب إليه ونستنير... لأنه هو النور الحقيقي الذي يُنير كل إنسان آتيًا إلى العالم. بكونه النور لا يمكن أن يخزى، ولا يسمح لمن يستنير (به) أن يُخزى. القديس أغسطينوس "يعسكِر ملاك الرب حول كل خائفيه وينجيهم" [7]. يوجد رأيان في معنى "ملاك الرب". يعتقد كثيرون أنه يعني رسولًا سماويًا مرسلًا لحماية الأبرار، ويقاتل أعداءهم؛ بينما يرى آخرون أن تعبير "ملاك الرب" يشير إلى الرب نفسه الذي نزل إلى الأرض فاديًا ومخلصًا (تك 48: 16؛ خر 23: 20، 23؛ 32: 34؛ قض 13: 15-22؛ ملا 3: 1). تُرسَل الملائكة لخدمة معينة لحساب خائفي الرب الذين يرثون الخلاص (عب 1: 6-7). إنه من اللائق بنا جدًا أن نفكر في خدمة الملائكة بفكر سليم مفرح، وقد أشار الكتاب المقدس كثيرًا إلى ذلك (2 مل 6: 15-17؛ مز 16: 11؛ لو 16: 22). فإن كان أعداؤنا كثيرين جدًا وأقوياء لكن هؤلاء الرسل السمائيين هم أكثر في العدد وأعظم في القدرة. توجد جماعة بلا حصر متفوقون في القوة يسندوننا[660]. * "غرست كرمًا وسيّجت حوله". من المؤكد أن الرب يدعو النفوس البشرية كرمه، تلك النفوس التي أحاطها بسلطان تعاليمه وحراسة ملائكته[661]. القديس باسيليوس * إذ كنت أعد نفسي للزواج بابن الملك، بكر كل خليقة، رافقتني الملائكة وخدمتني وقدمت لي الناموس كهدية عرس[662]. * هؤلاء هم الملائكة حراس الأطفال الذين يرون وجه الآب في السماء[663]. * حينما رأت الملائكة ملك الطغمات السمائية يسير في أماكن الأرض، دخلوا الطريق الذي افتتحه، وتبعوا ربهم، وأطاعوا إرادته، ذاك الذي وزعهم على المؤمنين لحراستهم. الملائكة في خدمة خلاصك... إنهم يقولون فيما بينهم: "إن كان قد أخذ (المسيح) جسدًا قابلًا للموت، فكيف نقف نحن مكتوفي الأيدي؟ تعالوا أيها الملائكة لننزل جميعًا من السماء". هذا هو السبب الذي لأجله كانت جموع الطغمات السمائية تمجد الله وتسبحه عند ميلاد المسيح. لقد امتلأ كل موضع بالملائكة[664]. * إن كان ملاك الرب يعسكر حول خائفيه وينجيهم (مز 33: 8)، فيبدو أنه متى اجتمع عدد من الناس لمجد المسيح يكون لكل منهم ملاكه يعسكر حوله، إذ هم خائفوا الرب. كل ملاك يرافق إنسانًا يحرسه ويرشده، وبهذا متى اجتمع القديسون معًا تقوم كنيستان: كنيسة من البشر وأخرى من الملائكة[665]. العلامة أوريجانوس جيد للنفس أن يجدها الملائكة الذين يطوفون حول المدينة (السماوية)[666]. القديس غريغوريوس أسقف نيصص "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب!" [8]. استخدمت هذه العبارة في (عب 6: 5، 1 بط 2: 3) لتصف الجرأة في الإيمان، ولتحث على الدخول إلى الخبرة العملية، فالتذوق لا يقف عند اختبار عَرَضي عشوائي، إنما تقديم البرهان بالاحتبار العملي الحيّ. يدعو المرتل المؤمنين أن يذوقوا وأن ينظروا. والنظر معناه جني ثمار هذا التذوق والتمتع به؛ فلا يمكن لفاقد بصر أن يدعوا أصدقاءه للتمتع بمشاهدة قوس قزح، ولا الأصم أن يحث آخرين على الاستماع إلى الموسيقى. * إن كنتم لا تفهمون تصيرون أنتم هو الملك أخيش؛ حيث يغير داود ملامحه وينصرف عنكم ويترككم ويذهب في طريقه. القديس أغسطينوس القديس غريغوريوس أسقف نيصص شهية قوية نحوه، وعذوبة لا تجزع منها النفس عندما تشبع منها[668]. الأب قيصريوس أسقف آرل يصير الناس كاملين عندما يدركون أنهم غير كاملين[669]. القديس جيروم القديس غريغوريوس أسقف نيصص 5. الله ملجأ سائليه: الأشبال بمالها من قوة طبيعية قد تجوع، أما رجال الله المحبين له، الذين يخافونه كأب لئلا يجرحوا مشاعر أبوته الحانية بخطاياهم، لا يعتازون إلى شيء. "اخشوا الرب يا جميع قديسيه، فإن الذين يخشونه لا يعوزون شيئًا. الأغنياء (الأشبال) افتقروا وجاعوا. إن الذين يبتغون الرب فما يعدمون كل خير" [9-10]. * يقول المزمور: "اخشوا الرب يا جميع قديسيه"... إن كان القديسون الذين يحبون الله يخافونه، فكيف يقول الكتاب إن المحبة تطرد الخوف خارجًا (1 يو 4: 18)؟ يكشف لنا القديس يوحنا عن نوعين من الخوف: أحدهما خوف بدائي، والثاني خوف كامل. الأول يوجد في المبتدئين، ويدعوه البعض "خوف العبيد"، أما الآخر فهو خوف الكاملين في القداسة، يناله الذين بلغوا إلى مستوى الحب الحقيقي. واحد يطلب الله خوفًا من العقاب وهذه كما قلنا هي نقطة البداية... والآخر يشتاق إلى الله لأجل محبته له شخصيًا، فهو يحبه ويعرف ما يرضيه. مثل هذا الإنسان يتذوق عذوبة الوجود مع الله، فيخشى لئلا يسقط عنه، يخاف لئلا يُحرم من حضرة الله. لا يمكن لإنسان أن يبلغ الخوف الكامل ما لم يكن فيه الخوف البدائي، إذ يقول الكتاب: "رأس (بدء) الحكمة مخافة الله" (مز 111: 10)[671]. الأب دوريثيؤس الغني الصالح هو ما يمتلكه مقتني الفضائل[672]... الأب بفنوتيوس 3. هلُم أيها الأبناء واسمعوني: امتاز داود الملك بحبه لشعبه وحنوه عليهم، يتحدث معهم بكونه خاصته وبنيه. كان رجل دولة ورجل حرب وواضع مزامير وموسيقار، لكنه لم يهتم قط أن يعلّم شعبه كيف يستخدمون السيف أو الرمح، ولا كيف يعزفون على القيثارة، ولا يشرح لهم قواعد سياسة الدولة، وإنما أراد أن يعلمهم "مخافة الرب"، بكونها أفضل من كل الفنون والعلوم، بل وأعظم من الذبائح الدموية. "هلم أيها الأبناء واسمعوني، لأعلمكن مخافة الرب" [11]. هكذا إذ يتهلل قلب داود النبي، وينفتح لسانه بالتهليل من أجل خلاص الرب العجيب، يشتاق أن يتعلم كل الشعب مخافة الرب ليختبر عذوبة الخلاص. هنا يرى المرتل أن التمتع بمخافة الرب تحتاج إلى تعلم وتدرب؛ وقد استخدم القديس يوحنا الذهبي الفم هذه العبارة ليوضح أن التقوى فن، تحتاج إلى معلم[673]. * اقتناء مخافة الرب تحتاج إلى تعليم... ألا ترون أن الفضيلة تحتاج أن تُعلم (إش 1: 16-17)؟![674] القديس يوحنا الذهبي الفم * أليس المخلص هو الذي يريد من الغنوسي (المؤمن صاحب المعرفة) أن يكون كاملًا، وذلك كما يقول الآب السماوي نفسه: "هلم أيها الأبناء واسمعوني، لأعلمكم مخافة الرب"؟! فالله لا يريده محتاجًا إلى معونة الملائكة (في التعليم) بل أن يتقبل (التعليم) منه هو، فيتأهل للتمتع بالحماية الإلهية بالطاعة[675]. القديس أكليمندس الإسكندري يسأل المرتل: "من هو الإنسان الذي يهوى الحياة؟ ويظن أنه يرى أيامًا صالحة؟" [12] يقول القديس أغسطينوس: [أما يجيب كل واحد منكم، قائلًا: "أنا". هل يوجد بينكم إنسان واحد لا يهوى الحياة؟ أعني لا يرغب فيها! أو لا يتنهد كل واحد ليقتني أيامًا صالحة...؟! ماذا ترغبون؟ الحياة وأيامًا صالحة! انتبهوا واعملوا. "أكفف لسانك عن الشر..."]. أتريد أيامًا صالحة أم ليالٍ شريرة، ليشرق شمس البر في داخلك، فتصير حياتك أيامًا، أو نهارًا بلا ليل، تحمل برّ المسيح وإشراقاته، فلا تجد ظلمة الخطية لها موضعًا فيك. من يتحد بالمسيح يسوع ربنا لا يعرف الموت، ولا تدخل الظلمة إلى قلبه أو إلى إنسانه الداخلي، لذا يختبر الحياة ويعيش نهارًا مضيئًا، حتى يأتي يوم الرب المنير! لا يقف المؤمن في سلبية لكن له دوره، يعمل بالسيد المسيح الساكن فيه، فما هو دوره؟ 1. الجانب السلبي: "اكفف لسانك عن الشر، وشفتاك لا تنطقا بالغش. حٍد عن الشر" [13-14]. إذ تتقبل فيك كلمة الله يحفظ لسانك عن الشر وشفتاك عن النطق بالغش، إذ لا شركة بين الخير الأعظم والشر، وبين الحق والغش. مسيحنا هو حافظ فمنا وهو باب شفاهنا الحصين، به تتقدس كلماتنا، فلا تخرج كلمة شريرة غاشة. * لم يعطنا الله اللسان لننطق بالشر، ونثور ونخاصم بعضنا بعضًا وإنما لنرتل بتسابيح الله، وعلى وجه الخصوص "ننطق بالأمور التي تعطي نعمة للسامعين" (أف 4: 29)، الأمور التي تعطي تهذيبًا ونفعًا. من ينطق بالشر يخزي نفسه أولًا وبعد ذلك من يتحدث معه[676]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أمبروسيوس الأب دوروثيؤس القديس أكليمندس الإسكندري "واصنع الخير" [14]. من يقتني السيد المسيح كمعلم له وكواهب الحياة والأيام الصالحة، لا توقف عند الكف عن الشر، إنما يلزمه أن يمارس الخير فإن "من يعرف أن يعمل حسنًا ولا يعمل فذلك خطية له" (يع 4: 17). * لا يكفي أن تدير ظهرك للشر فحسب، وإنما يلزم أن تصنع الخير أيضًا. لا يكفي ألا تعرّي إنسانًا فحسب، وإنما يجب أن تكسو العريان. إن كنت لا تعرّي إنسانًا فأنت قد حُدت عن الشر، لكنك تصير صانع خير باستضافتك الغريب في بيتك. القديس أغسطينوس "اطلبوا السلام واتبعها" [14]. لم يقف المرتل عند الجانب الإيجابي إنما طالب بالجهاد في طلب السلام، أي في طلب السيد المسيح والجد في إثره. * "اطلب السلامة واتبعها"... لقد سبقنا السلام نحن جميعًا، لأن ربنا هو سلامنا، وقد قام ثانية وصعد إلى السماء... حينما تقومون أنتم أيضًا يتغير المائت، وتنعمون بالسلام حيث لا يضايقكم أحد. هناك تجدون السلام الكامل بحق، حيث لا يوجد جوع بعد. في هذا العالم يهبكم الخبز سلامًا. انزعوا الخبز تثور الحرب في أعضائكم الداخلية. * حقًا يستحيل تجنب المنازعات التي تنشب أحيانًا بين الإخوة وبين القديسين، حتى بين بولس وبرنابا (أع 15: 39)، لكنه ليس بالنزاع الذي يشوّه الانسجام، ولا الذي يقتل الحب، لأنكم أحيانًا تضادون حتى أنفسكم ومع ذلك لا تبغضون أنفسكم. القديس أغسطينوس القديس كبريانوس 4. الأمان الإلهي: إن كان الله كأب سماوي يدعو أولاده للاستماع إليه وتعلم مخافته عمليًا، فيرفضون الشر ويصنعون الخير، مجتهدين في سعيهم نحو السلام، أي في التمتع بالسيد المسيح نفسه سلامنا، فإن الله من جانبه يعطي اهتمامًا شخصيًا بخائفيه الصديقين، خاصة في وقت الضيق. يتطلع بعينيه نحوهم كأنه لا ينشغل بغيرهم، ويميل بأذنيه إلى صرخات قلبهم كأنه قد ترك تسابيح السمائيين وتمجيداتهم ليصغى لمحبيه الذين في ضيقةٍ، يقاوم الأشرار مقاوميهم، أما هم فيحفظ عظامهم ويفدي نفوسهم. 1. "فإن عيني الرب على الصديقين" [15]. يشبه القديس يوحنا الذهبي الفم الله بمربية أو أم تدرب طفلها على المشي، تمسك بيديه لتتركهما إلى حين؛ يسقط ويبكي في عتاب، لكن عينيها تتطلعان إليه وأذنيها تستجيبان لصراخه. إنها تترك يديه إلى حين من أجل نموه، كي يتعلم المشي والاعتماد على نفسه. هكذا نحن في حاجة إلى يديّ الله المترفقتين، وفي حاجة أن يبدو كمن يتركنا إلى حين لنصرخ إليه... يكفينا أن يتطلع إلينا ويميل بأذنيه إلى صرخات قلوبنا. * قد تتباعد أجسادنا عن بعضها بالمسافات، لكن عيني الله تتطلع إلينا دون شك، مادامت حياتي تستحق أن تتطلع عينا الله إليها، إذ قرأت في المزامير أن عيني الرب على الصديقين[681]. القديس باسيليوس الكبير * صلاة المتواضع تبلغ كما من الفم إلى أذن الله[682]. مار إسحق السرياني القديس أكليمندس الإسكندري ليَمحُ مِنْ على الأرض ذكرهم" [16]. الله الصالح يتطلع بعينيه نحو الصديقين ويميل بأذنيه إلى طلبتهم، معلنًا اهتمامه الشخصي بهم وشوقه نحو إستجابة طلباتهم... نظرته إليهم وإنصاته لهم يبعثان فيهم الرجاء والحياة. أما صانعوا الشر فيقاومهم وجه الرب. يرون عينيه لهيب نار آكلة، تبيد ذكراهم حتى من على وجه الأرض. بمعنى آخر إن كان الصديقون يتألمون لكنهم يتمتعون بنظرات الله الحانية واهتمامه هنا على الأرض كما في السماء، أما الأشرار فيفقدون ذكراهم هنا ويُحرمون من الأمجاد السماوية. لقد مُحيت أسماء الأشرار مثل قايين وشاول الملك ودقلديانوس. حقًا قد نروي قصص شرهم، لكن برائحتها النتنة؛ ليس من يوقر ذكرهم أو يخشى بطشهم، ولا من يفكر قط أن يُحسب من ذريتهم. بينما يُذكر الملايين هابيل وأخنوح وإبراهيم وإسحق وداود وحنّة والقديسة مريم والرسول بولس الخ... راجين أن ينظروهم قريبًا في المجد وأن ينضموا إلى شركتهم[684]. 4. إستجابته لصرخات الصديقين: لعل أعظم ما يتمتع به الصديقون وسط الضيق إدراكهم إستجابة الله لصراخهم، وإحساسهم أنهم موضع إهتمامه، يخلصهم من جميع شدائدهم الروحية والنفسية والجسدية. يعرف احتياجاتهم وأشواقهم ويسد كل أعوازهم، يهبهم نعمة الخلاص، مكللًا حياتهم بالنصرة المستمرة. حقًا يسمح لهم بالضيقات لكنه لن يسد أذنيه عن صوت صلواتهم الجادة المتضعة والمملؤة ثقة فيه. يفرح بصوتهم الواثق فيه، ويفرحون هم باهتمامه بهم. يقترب إليهم جدًا، ويعلن سكناه داخلهم، فتخلص نفوسهم، إذ يقول المرتل: "الصديقون صرخوا والرب إستجاب لهم، ومن جميع شدائدهم نجّاهم، قريب هو الرب من المنسحقي القلب، والمتواضعين بالروح يخلصهم" [17-18]. * "قريب هو الرب..." يتجه الله نحونا، حتى أنه يستجيب لنا قبلما ندعوه. أذناه مفتوحتان لنا، يأخذ صلواتنا مأخذ الجد. * الله عالٍ، ويليق بالمسيحي أن يكون متواضعًا إن أراد أن يكون الله المتعالي قريبًا منه. عليه من جانبه أن يتضع وينسحق. اتضعوا فينزل إليكم. القديس أغسطينوس القديس أمبروسيوس تشعر قلوبنا بالانكسار لأسباب متعددة منها: إدراكي أن خطيتي قد كسرت وصية الرب واهبة الحياة وقاومت عمل الروح الناري في داخلي، أيضًا خطايا اخوتي وجهالاتهم تحزن نفسي، إذ "من يضعف وأنا لا أضعف، من يعثر وأنا لا ألتهب" (2 كو 11: 29)؛ كذلك تأديبات الله لي أو لأخوتي تكسر أعماقي! أمام هذا الانكسار القائم على معرفة روحية وإيمان بالله شافي منسحقي القلوب يتدخل الله ليغفر خطاياي، ويعمل لأجل بنيان الجماعة، ويدخل بي إلى مجد قيامته. اختبر الحياة الجديدة المقامة في أعماقي كما في حاة إخوتي! هذا هو الخلاص! يقدم لنا المرتل وعود إلهية بالتدخل لخلاص أولاد الله، إذ يقول: "كثيرة هي أحزان الصديقين ومن جميعها ينجيهم الرب" [19]. * هل يقول المرتل: ليكن المسيحيون أبرارًا وينصتون إلى كلماتي فلا يعانون من ضيقات؟ كلا! ليس هذا هو وعده، بل في الواقع يعاني الناس الأشرار من ضيقات أقل، بينما يكابد الأبرار من شدائد أكثر. لكن الأولين يبلغون ضيقة أبدية بعد معاناتهم من ضيقات أقل أو مع عدم معاناتهم منها، ولا نجاة لهم؛ أما الأبرار فينعمون بالسلام الأبدي بعد كثرة الشدائد، ولا يقاسون بعد من أي شر. القديس أغسطينوس يقدم لنا القديس أغناطيوس النوراني مثلًا حيًا لشوق المؤمنين الحقيقيين للدخول في الضيقات والآلام من أجل الرب، إذ كتب إلى أهل روما يمنعهم بقوة من محاولتهم الجادة في إنقاذه من الاستشهاد، وقد جاء في رسالته: [لتأتِ عليّ كل هذه: النار والصليب، مجابهة الحيوانات المفترسة، التمزيق والكسر... لتنصب عليّ كل عذابات الشيطان، على أنني أبلغ يسوع المسيح[686]]. [القريب من السيفْ هو قريب من الله، والذي مع الوحوش هو مع الله، على أن يتم ذلك كله باسم يسوع المسيح، وإنني أحتمل كل شيء لأشترك في آلامه[687]]. تنطبق هذه العبارة على السيد المسيح حرفيًا كما أوضح العهد الجديد (يو 19: 31-37)؛ وتنطبق بمفهومهما الرمزي على داود النبي وجميع المؤمنين خائفي الرب حيث لا تنكسر عظمة واحدة من هيكل إيمانهم الحيّ. عناية الله بهم فائقة وحنّوه نحوهم عجيب، حتى شعور رؤوسهم محصية أمامه، وواحدة منها لا تسقط بدون إذنه. حقًا قد يسمح لشهدائه أن تتهشم عظامهم المادية، لكن بسماح منه وإلى حين حيث يقومون في مجد أبدي، أما عظام نفوسهم أي هياكل إيمانهم فلا يقدر أحد أن يُحطمها. * لا يليق أيها الإخوة الأحباء أن نأخذ هذه الكلمات [20] بمعناها الحرفي، لأن عظام الصديق إنما تشير إلى أساسات إيمانه، أي الصبر واحتمال الشدائد. القديس أغسطينوس "موت الخطاة شرير، ومبغضو الصديق سيندمون" [21]. يقدم لنا السيد المسيح قصة "لعازر والغني" (لو 16: 19-31) ليقارن بين موت الأبرار وموت الأشرار، فيقول: "مات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم؛ ومات الغني أيضًا ودُفن، فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب، ورأى إبراهيم من بعيد ولعازر في حضنه، فنادى وقال: "يا أبي إبراهيم ارحمني، وأرسل لعازر ليبل طرف إصبعه بماء ويبرد لساني لأني معذب في هذا اللهيب". * يُنظر إلى موت الإنسان منتهى الخير أو الشر حسب حالة نفسه، لا حسب ما يُوجه إلى جسده من إهانات أو كرامات في أعين الناس. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم البابا أثناسيوس الرسولي "الرب ينقذ نفس عبيده، ولا يندم جميع المتكلين عليه!" إنه منقذنا من كل مرارة الخطية المهلكة للنفس! شكر لأجل النجاة * تبقى نفسي تسبحك، تسمح لي بالضيق لكي أتعرف على حقيقة ضعفي؛ أتعرف عليك بالأكثر، أراك تنظر إليّ، وتميل بأذنيك إلى صلاتي. وكأنه ليس في الوجود غيري. تهتم بي، وتنصت لتنهدات قلبي الثمينة عندك! ترسل ملائكتك لتحفظني وتنجيني، أما أنت فتقترب إلى نفسي وتدخلها كعريس لها! * في وسط الضيق اختبر عذوبة وجودك فأصرخ: ذوقوا وانظروا ما أحلى الرب! * تتحدث معي كأب ومعلم، تهبني مخافتك الواهبة الحياة فأرى أيامًا صالحة! تضع حافظًا لفمي وتقيم بابًا حصينًا لشفتيّ. بك أبغض الشر وأحب الخير، أطلبك يا سلامة نفسي وأقتفي آثارك أيها الحبيب! * فترافقني حتى النهاية، فيكون موتي معك ومع أبرارك، ولا أموت موت الأشرار! * كن متكلي، ورد إيماني، فأنت وحدك هو رجائي. |
||||
23 - 01 - 2014, 03:43 PM | رقم المشاركة : ( 36 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 35 - تفسير سفر المزامير صرخة طلبًا للعونسواء كُتب هذا المزمور كملازم للمزمور 34 أم لا، فحسن أنه وُضع بعده مباشرة. ويكمن السبب ليس فقط في تشابه الصيغ ووجود مقابلات بينهما (خصوصًا الحديث عن ملاك الرب الذي لا يوجد في أي موضع آخر في سفر المزامير سوى هنا في المزمور 34: 7؛ والمزمور 35: 5-6)؛ وإنما يكمن السبب أيضًا في الحديث هنا عن نوع الظلمة التي تبددت في المزمور السابق. الخلاص الذي أُحتفل به في المزمور السابق نراه الآن لا يتحقق سريعًا ولا بدون ألم؛ إنما يتعرض المؤمن لآلام قد يطول أمدها إن شاء الله ذلك؛ غير أن داود النبي لم يشك قط أن يوم النجاة آتٍ حتمًا. مع كل إستغاثة تصدر عن قلبه طلبًا للعون تتطلع أنظاره إلى لحظة النجاة الأكيدة، لذلك يختتم كل قسم من أقسام هذا المزمور الثلاثة بالرجاء؛ ويُعتبر هذا المزمور مرثاة شخصية. يتضرع داود النبي في هذا المزمور إلى الديان العادل ضد أعدائه الذين أبغضوه وأصروا على اضطهاده؛ ويُفترض أنهم شاول ورفقاؤه (1 صم 24: 9-15)، لأن الكلمات التي يبدأ بها هذا المزمور مذكورة في ذلك الأصحاح. وجاء في النسخة السريانية أنه كُتب بمناسبة هجوم الأدوميين، وذُكر في العربية أن هذا المزمور نبّوة عن التجسد الإلهي، وتخص المتاعب التي لقيها إرميا النبي من الشعب. المزمور كله توسل قوي إلى الله العادل كطلب تحقيق قضائه ضد أعدائه مضطهدي شعبه خائفي الرب. هذه الصرخات لا تعني أن داود النبي قد حمل كراهية شخصية ضد مقاوميه، وإنما كما سبق فقلنا إنها تمثل نبّوة عما يتم بالنسبة للمصرّين على مقاومة الله دون توبة؛ كما تمثل صرخة ضد إنسان الخطية، "ضد المسيح"، المقاوم لكنيسة الله بوحشية وعنف في أيام الضيقة العظيمة. تمثل أيضًا صرخات دماء الشهداء وصرخات الأبرار الذين رحلوا من العالم (رؤ 6: 10). اقتبس ربنا يسوع المسيح جزءًا من الآية [19] وطبقها على نفسه (يو 15: 25)، فقد كان داود النبي في حالات كثيرة رمزًا للسيد المسيح. ويُحسب هذا المزمور طلبة الشفيع الأعظم الذي أبغضوه بلا سبب. يقول القديس أغسطينوس: [المتحدث هنا هو المسيح نفسه بلا شك، فقد تعَّرض للضيق مرة بكونه الرأس، وفي أوقات أخرى في جسده (الكنيسة)، ومع ذلك فهو يهب كل أعضائه الحياة الأبدية خلال الآلام؛ هذا الوعد جعله موضع اشتياق كل بشر]. الإطار العام: 1. توسل لله البار [1-10]. 2. وصف الآلام [11-16]. أ. اتهامه ظلمًا ب. يردون حبه بالكراهية ج. قابلوا صداقته بالاضطهاد 3. تدخل الله [17-28]. أ. التمتع بخلاص شخصي ب. تمتع بخلاص جماعي ج. توقف شماتة الأشرار د. استيقظ يا رب صرخة إلى القائم من الأموات 1. توسل لله البار: "دِنْ يا رب الذين يظلمونني، وقاتل الذين يقاتلونني. خذ سلاحًا وترسًا، وانهض إلى معونتي. استل سيفك وسيَّج مقابل الذين يضطهدونني. قل لنفسي: إني أنا هو خلاصك!" [1-3]. التعبيرات العسكرية الواردة هنا تحمل مفاهيم رمزية؛ فالحرب الروحية دائرة الآن، ونحن في حاجة شديدة إلى عون قوي من الله. وكما سعى العدو طالبًا نفس داود، هكذا يسعى عدونا وراءنا ليهلك كياننا كله، يُحطم أجسادنا ونفوسنا ويفسد أفكارنا وقلوبنا، ويشوّه طاقاتنا ومواهبنا. يرفع المرتل دعواه أمام الله العادل كي يدافع عنه وينتقم له. فالمزمور في كليته هو توسل صادر عن قلب له دالة لدى الله وضمير خالص، متمرر بسبب ما يُعانيه من قهر واضطهاد. حقًا، يصعب على الإنسان أن يحتمل الظلم والجحود، لكن بالحياة المقدسة في المسيح يسوع والصلاة بانسحاق يقف الله بجوارنا في صفنا ويعمل لحسابنا. عندما يسيء أحد إلى مواطن يشكو المواطن أخاه إلى حاكم البلد، كما فعل الرسول بولس حيث رفع شكواه إلى قيصر (أع 25: 11)، فإن لم ينصفه يلجأ إلى ملك الملوك ورب الأرباب، قاضي المسكونة كلها. هكذا إذ وقف شاول الملك وقضاته والقيادات ضد داود النبي، فإلى من يلجأ إلا لله، صارخًا: "دِنْ يا رب الذين يظلمونني". ونحن إذ نجد مقاومة وضيق ندرك أنها ليست صادرة عن اخوتنا إنما عن عدو الخير إبليس الذي يجد بهجته في الخصومات والانشقاقات وبث روح الظلم، لذا نرفع قلوبنا إلى الله الذي وحده يقدر أن ينصفنا من العدو الشرير. شكوانا ليست ضد بشر، لأن محاربتنا ليست مع لحم ودم بل مع أرواح الشر في السمويات، مع قوات روحية وسلاطين الشر (أف 6: 12)، فالعالم كله قد وُضع في الشرير (1 يو 5: 19)... أنها حرب ضد الشيطان وجنوده وأعماله الشريرة. نطلب من الرب ليس فقط كقاضٍ وإنما كقائد حرب، كمن يحمل السلاح ليتقدم المعركة بنفسه، فنقول له: "قاتل الذين يقاتلونني". * "إن كان الرب معنا فمن علينا" (رو 8: 31). إنه لمنظر رائع أن نشاهد الرب لابسًا درعه ليقاتل لحسابنا. لكن، ما هو درعه؟ وما هي أسلحته...؟ لقد دعى الكتاب المقدس نفس البار سيف الله كما يدعوها أيضًا عرش الله. نفس الصديق هي كرسي الحكمة. فالرب يجعل نفوسنا تتناسب مع مقاصده؛ إنها في يده، دعوة ليستخدمها كما يشاء! القديس أغسطينوس يُحدثنا الرسول بولس عن الأسلحة الروحية غير المنظورة القادرة بالمسيح يسوع أن تحطم العدو غير المنظور: ترس الإيمان، خوذة الخلاص، سيف الروح الذي هو كلمة الله (أف 6: 16-17). هكذا يرى الرسول في الإيمان والتمسك بالصليب (الخلاص) والالتصاق بكلمة الله ووعوده هي سلاح المؤمن. * يا رب أنت تعرف يقظة أعدائي، وضعف طبيعتي أنت تعلمه يا خالقي. لأني هأنذا أضع روحي في يديك. فأسترني بأجنحة صلاحك لئلا أنام نوم الوفاة. أضيء عيني بعظمة أقوالك... لأنك صالح وحدك ومحب البشر. صلاة الستار (قطعة 1) * يُؤذن للشيطان أن يُحارب القديسين حتى تُمتحن محبتهم لله ويظهروا أنهم محبون لله وثابتون حقًا في محبته[690]. مار إسحق السرياني * لا نخشى شيئًا، فإننا لكي نقهر الشيطان يلزمنا أن نعرف مهارتنا لن تفيد شيئًا، وأن كل شيء هو من نعمة الله[692]. القديس يوحنا الذهبي الفم شتان بين أن أقرأ كتابًا عن الخلاص أو أسمع عظة أو أدخل في حوار بخصوص الخلاص، وبين تجلي المخلص نفسه في داخلي ليعلن لي شخصيًا: "إني أنا هو خلاصك"، يقدم نفسه لي خلاصًا بحلوله فيّ! ينتقل المرتل من التوسل إلى الله للنجاة [1-3] إلى إعلان ما يحل بالمضايقين والمضطهدين من لعنات [4-6]، إذ يقول: "فليخزَ ويخجل الذين يلتمسون نفسي. وليرتد إلى الوراء، ويخز الذين يتآمرون عليّ بسوء" [4-5]. لقد التمسوا نفس السيد المسيح لا ليتمتعوا بها وإنما ليهلكوها، أما السيد فلم يمنع نفسه عنهم، بل قال لهم "من تطلبون؟" (يو 18: 8)، وللحال تحققت النبّوة إذ رجعوا إلى الوراء (يو 18: 6)، أما هو فسّلم نفسه إليهم. لقد طلب منه القديس بطرس أن يهرب من صالبيه، قائلًا: "حاشاك يا رب"، أما هو فقال له: "اذهب عني يا شيطان" (مت 16: 23). * إذ اسلموا يسوع ليد بيلاطس جلبوا على أنفسهم الهلاك؛ فعلًا حطمهم العدو المستعمر الروماني بالنار والسيف، وأحرق كل أرضهم، حتى الهيكل المقدس الموقر الذي كان في وسطهم[693]. البابا كيرلس الإسكندري القديس غريغوريوس أسقف نيصص "وليكونوا مثل الهباء أمام وجه الريح، وملاك الرب يضيق عليهم" [5]. يُقصد بالهباء العصافة؛ ربما يتصور المرتل السيد المسيح كفلاح يذري المحصول لكي يفصل القمح عن العصافة والأتربة الخفية وذلك بفعل الريح. هكذا يفصل السيد المسيح بروحه القدوس الخطايا والشهوات ويطردها خارج القلب. لا تقدر الخطايا أن تصمد أمام روح الله القدوس الذي يحيا في قلوبنا، هيكل الله. إنه يهبنا برّ المسيح عاملًا فينا إن تجاوبنا مع عمله. في النص العبري جاءت كلمة "الهباء"، وسواء كانت هباءً أو عصافة أو ترابًا، فإن المرتل يفضح العدو الذي وإن كان شرسًا وعنيفًا، وإن كانت الخطية خاطئة جدًا، لكن أمام الروح القدس الساكن فينا يصير العدو إبليس كالعصافة في مهب الرياح أو كذرّات تراب بلا قوة ولا قيمة! ليتنا لا نخاف إبليس ولا الخطية فإن الروح القدس يهبنا قوة محولًا حياتنا من التراب إلى السماء! ويرسل الرب ملائكته ليدحر الشرير وكل أعماله من أمامنا. حدثنا المرتل في المزمور السابق عن ملاك الرب الحاّل حول خائفي الرب يخلصهم، وهنا يظهر ذات الملاك ليضيّق على من ضايقوا الأتقياء... إنه يفرح قلوب الصالحين ويهلك الأعداء الأشرار المصرين على عدم التوبة. عندما صلى حزقيا الملك أرسل الله ملاك وضرب من أجله جيش أشور فانهزم، إذ قُتل في ليلة واحدة 185.000 مثل عصافة أمام وجه الريح. "لتكن طريقهم ظلمة وعثرة، وملاك الرب يضطهدهم" [6]. هم يضطهدون أولاد الله الذين يتشبهون بملائكته، فيرسل الله ملاكه يضطهدهم. في كبريائهم رفضوا السيد المسيح الوديع والمتواضع القلب، رفضوا شمس البر فصار طريقهم ظلمة وعثرة. من لا يقبل المسيح طريقًا له يصير إبليس طريقه، عوض النار يختار الظلمة. بكى إرميا النبي شعبه الذي اختار بكبريائه الظلمة طريقه، إذ يقول: "اعطوا الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا، وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة، فتنظرون نورًا، فيجعله ظل موتٍ، ويجعله ظلامًا دامسًا؛ وإن لم تسمعوا ذلك فإن نفسي تبكي في أماكن مستترة من أجل الكبرياء، وتبكي عينيَّ بكاءً، وتذرف الدموع، لأنه قد سُبي قطيع الرب" (إر 13: 16-17). كان يليق بهم وقد انحرفوا إلى طريق الظلمة، وصار ملاك الرب يضطهدهم، أن يرجعوا إلى الرب يطلبونه نورًا لهم. لكنهم عوض التوبة نشبوا فخاخًا في الظلام يصطادون بها نفوس الأبرار، فإذا بهم يسقطون هم فيها. هذه هي خبرة داود النبي الطويلة مع شاول الملك الذي سيطرت مملكة البغضة ضد داود في قلبه فكرس بقية أيام حياته وكل قدراته وإمكانياته بل وإمكانيات مشيريه لهدم داود وقتله... فإذا به يلقي بنفسه في الهاوية ويزداد داود مجدًا وبهاءً أمام الله والناس، إذ يقول المرتل: "لأنهم مجانًا أخفوا لي فساد فخهم، وعيّروا نفسي باطلًا. فليأتهم الفخ الذي لا يعلمونه؛ والمصيدة التي أخفوها تعرقِّلهم. وفي الفخ يسقطون. أما نفسي فتفرح بالرب وتبتهج بخلاصه" [7-9] يتسم الأشرار بالعمى الداخلي والغباوة؛ ينصبون الشباك للأبرار في طريق مظلم بلا سبب، وسرعان ما ينسونها، ليعبروا هم عليها فيسقطون فيها بسبب عمى بصيرتهم. يزرع الأشرار أشواكًا في الظلمة لتحطيم الأبرار فإذا بها تنفذ في أجساد زارعيها؛ ينصبون الشباك فتمسك بهم؛ يسعون وراء هلاك الغير فيدمرون أنفسهم. هلاكهم يحل على رؤوسهم من خلال أعمالهم، وكما يقول الحكيم: "من يحفر حفرة يسقط فيها، ومن يدحرج حجرًا يرجع إليه" (أم 26: 27). الصليب الذي أعده هامان لمردخاي صُلب هو عليه، والصليب الذي أعده الشيطان ليُحطم مملكة المسيح حطم مملكة إبليس ذاتها! ينشغل الأشرار بالفخاح والمكائد فيقتنون عمل أيديهم فخاخًا ومرارة، أما الأبرار فينشغلون بالله السامع صلواتهم والمهتم بخلاصهم فيقتنوه سرّ فرحهم الحقيقي، يفرحون بالرب ويبتهجون بخلاصه. هنا نلاحظ أن نفس البار لا تنشغل بالنجاة من الضيق في ذاته، إنما بالرب الذي يتجلى وسط الضيقات ويعطي خلاصًا. * الوصية عامة بالنسبة لهم: "افرحوا أيها الأبرار في الرب" (مز 9: 14؛ 35: 9؛ 33: 1) وذلك لكي يجتمعوا معًا ليترنموا بهذا المزمور العام الخاص بالأعياد: "هلم نفرح بالرب" (مز 95: 1)، لا بأنفسنا[695]. البابا أثناسيوس الرسولي المنقذ المسكين من أيدي من هو أقوى منه! والفقير والبائس من أيدي الذين يختطفونهما" [10]. إذ تفرح نفس المرتل برؤيتها المخلص تصرخ أعماقها الداخلية، أو هيكل كيان إنسانه الداخلي (عظامي): "يا رب من مثلك؟!". تقتبس ما سبق أن قاله موسى: "يا رب، من مثلك معتزًا في القداسة، مخوفًا بالتسابيح، صانعًا عجائب!" (خر 15: 11). لعل المرتل رأى السيد المسيح مخلصه من الأعداء الحقيقيين مرفوعًا على الصليب لأجله، فصرخ: "يا رب من مثلك؟!" لقد أنقذتني أنا المسكين من أيدي العدو القوي الذي خطط لاختطافي وافتراسي! من مثلك في الحب يا من مُت لأجلي؟ من مثلك في القدرة إذ تهبني قوة قيامتك؟! من مثلك في القداسة يا من تقدسني بروحك القدوس؟! توقف المرتل عند قوله "من مثلك؟!" إذ استغرق في حب الله وعنايته وحنوه وقدرته إلخ... مدركًا أن المخلص يُريد أن يهبه ذاته ليحمل قدراته، فيعيش غالبًا للعدو القوي، ومتمتعًا بشركة المجاد. هذا هو عمل الكنيسة الحقيقية أن تُسبِّح مخلصها قائلة: "يا رب من مثلك؟!"، لقد دخل بيت القوي (إبليس) ونهب أمتعته (نفوس المؤمنين) بعد أن ربطه بالصليب (مت 12: 29)، وجرَّده وشهّر به جهارًا ظافرًا به (كو 2: 15)! تسبح رأسها الذي هو قوتها ومجدها وبرها وقداستها وميراثها الأبدي. صار فقيرًا ليلتقي بها في مسكنتها واهبًا إياها غناه، ونزل إلى أرضها لكي يحل أسرها وينطلق بها إلى حضن أبيه السماوي! باسم الكنيسة كلها يترنم المرتل وسط ضيقته، واثقًا في خلاص الرب، قائلًا: "يا رب من مثلك؟!" وكما يقول مار إسحق السرياني في عظته "عن عمل النعمة": [إنه إذا استحق إنسان أن يتقبَّل قوة الله في نفسه، تُبتلع أفكاره في دهشة مروعة، فتصمت حواسه، ويعجز لسانه عن الكلام، لكن حتى عظامه في صمتها تمجد الله!]. 2. وصف الآلام: في إيجاز يصّور لنا المرتل آلامه هكذا: 1. اتهامه ظلمًا: "قام عليّ شهود الظلمة، وعما لم أعلم سألوني" [11]. ربما أُتهم داود بالخيانة الوطنية والتمرد والاشتراك مع الوثنيين في عبادتهم، بهذا كان شاول يثير رجال الدولة بل والشعب ضد رجل الله ظلمًا (1 صم 24: 17). وعندما جاء مسيحنا اتهموه أنه بعلزبول رئيس الشياطين، وأنه صانع شر، ومسبب فتنة ومحرّض على عدم دفع الجزية لقيصر... وهو لا يعلم شيئًا عن هذا كله، أي لم يمارس شيئًا من هذا! من يلتصق بالسيد المسيح لا يرتبك متى أُتهم ظلمًا، فإنه في هذا يشارك سيده القائل: "لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا، فماذا يكون باليابس؟!" (لو 23: 31). 2. يردون حبه بالكراهية: "جازوني بدل الخيرات شرورًا وعقمًا لنفسي" [12]. لقد اعترف شاول نفسه بذلك، إذ رفع صوته وبكى، ثم قال لداود: "أنت أبرّ مني، لأنك جازيتني خيرًا وأنا أُجازيك شرًا" (1 صم 24: 17). قدم السيد المسيح حبًا للبشرية فحملت له بغضة، جاء ليشفي جراحاتهم فثقبوا يديه ورجليه وطعنوا جنبه. وهبهم ذاته حياة فقدموه للموت. أراد أن يكرمهم فطلبوا ص-لبه! كشف المرتل عن حبه العجيب حتى لمقاوميه بفكر روحي إنجيلي عجيب، إذ قال: "أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحًا أذللت بالصوم نفسي وصلاتي إلى حضني ترجع!" [13]. هذا ما قد مارسه المرتل فعلًا، عندما قاومه أعدؤه كان يُصلي لأجلهم كي ينجو وعندما سمع بخبر قتل شاول وأيضًا أبشالوم بكى بكاءً مرًا. عرف داود النبي وهو تحت الناموس أن يعبر إلى الفكر الإنجيلي، يرد شر الأشرار بالحب الداخلي الصادق. يرى عدوه مريضًا فيلبس لأجله المسوح متذللًا بالصوم أمام الله، ومصليًا لأجله. لبس المسوح لم يكن مستخدمًا في أمور تافهة، إنما عند فقدان ابن أو موت رجل عظيم أو وقوع كارثة مُرّة، هكذا أظهر داود النبي حبه لأعدائه بلبسه المسوح علامة حزنه على مرضهم الخطير. ماذا تعني: "صلاتي إلى حضني ترجع"[696]؟ أ. يعتقد البعض أن هذه العبارة تعني الصلاة المستمرة، كما لو كان توسله صادرًا عن القلب ليرجع إليه ويرتفع ثانية وهكذا بلا توقف. ب. يرى البعض أنها تعني أن صلاته ترتد إليه، فلا ينتفع بها من استخفوا بها واحتقروها إنما تتمتع بها أحضان المرتل وأعماقه. ج. يُشير المرتل هنا إلى عادة بعض الشرقيين، لأنهم حينما يصلون بجدية في حزن، فإنهم يخفون وجوههم في صدورهم. ربما بهذه العادة يُظهرون أن صلاتهم ترجع إليهم من حيث تنبعث. د. عنى داود أن ترتد صلاته إلى قلبه، فهو متيقن من صدق رغبته القلبية لهم بالخير. إن كان قد طلب لهم سوءًا فليرتد عليه، وإن كان يشتهي لهم خيرًا فليرجع أيضًا إليه! 3. قابلوا صداقته بالاضطهاد: لقد اعتبر المرتل عدوه المريض كصديق بل وكأخ، من أجله تذلل أمام الله وصام وصلى، ولم يكن ذلك في مخدعه فحسب، وإنما أعلن ذلك بروح الاتضاع في سلوكه مع العدو، إذ يقول: "مثل صاحب وأخ لي هكذا كنت أرضيه، ومثل الكئيب والعابس كذلك تواضعت" [14]. ليس لأعدائي عذر في مقاومتهم لي فقد بذلت كل الجهد لأرضيهم، وفي مرضهم وآلامهم باتضاع شاركتهم الكآبة والعبوسة بكوني عضوًا معهم، هكذا أحسب نفسي صديقهم وأخاهم بل وعضوًا معه أشاركهم كل أحاسيسهم، خاصة وسط آلامهم، أما هم فأصرّوا على اضطهادي: "إجتمعوا عليّ وفرحوا إجتمعت عليّ السياط ولم أعلم. انشقوا ولم يندموا. جربوني واستهزأوا بي هزءًا، صارين على أسنانهم" [15-16]. شتان ما بين سلوك داود النبي وسلوك أعدائه: أ. داود يشاركهم آلامهم في أعماقه وعبادته وسلوكه معهم، أما هم فيجتمعون ضده ويفرحون بتخطيطاتهم ضده. ب. من أجلهم يتذلل وينسحق أمام الله وأمامهم لكي يستريحوا، أما هم فهيأوا السياط دون علمه لتنهال عليه. ج. حسبهم أصدقاءً وأخوة وأعضاءً معه، أما هم فكوحوش ضارية اجتمعوا حول حظيرة الخراف، يُصرّون على أسنانهم ليفترسوا حَملًا واحدًا! ما أعلنه المرتل داود قد تحقق كنبوّة في شخص السيد المسيح الذي جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله، انشقوا عليه ولم يندموا، جربوه وسخروا به وأصرّوا بأسنانهم كي يفترسوه! يقولالقديس أغسطينوس: [ما أصاب الرأس يحل بالجسد أيضًا، وما حدث مع ربنا على الصليب يحدث لأعضاء جسده خلال الاضطهاد المعاصر (ربما الذي أثاره الدوناتست Donatists)... أينما التقوا بمسيحي أعتادوا أن يشتموه ويضايقوه ويستهزئون به، ويدعونه أحمق ومعتوهًا وجبانًا وبلا خبرة حياة. ليفعلوا ما يشاؤون، فقد مجّد المسيح آلات تعذيبه، وختم صليبه الآن على جباه البشر...]. 3. تدخل الله: بعدما وصف المرتل ما يُعانيه من آلام واضطهاد مع اتساع قلبه بالحب لمضايقيه أعلن تدخل الله في حياته وأيضًا في معاقبة الأشرار المصرّين على شرهم. 1. التمتع بخلاص شخصي: "يا رب متى تنظر؟! رُد نفسي من شر فعلهم، ومن بين الأسود بنّوتي الوحيدة" [17]. وسط الضيق يشعر الإنسان بالعزلة، ليس من أب أو أم أو صديق يقدر أن يشارك الأعماق، فالحاجة إذن إلى تدخل الله نفسه الذي ينقذ النفس من بين الأشرار بكونها شبل وحيد. قول المرتل "ردّ نفسي" يشير إلى طلبة السيد المسيح القائل: "الآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم" (يو 17: 5)، فإن ما يناله السيد المسيح من مجد بقيامته وصعوده إنما هو رّد لما سبق أن أخلى نفسه عنه لأجلنا، حتى يحمل عارنا وخزينا، مقدمًا مجده لنا. دعى نفسه "وحيدة"، التي دخلت إلى الجحيم وعادت إلى الجسد كشبل، لكي تقيم من نفوسنا أشبالًا قوية. 2. تمتع بخلاص جماعي: "أعترف لك يا رب في الجماعة الكثيرة، وفي شعب جزيل أُسبحك" [18]. إذ يرّد الله نفس داود، يوفي المرتل نذره بالاعتراف والتسبيح وسط الجماعة، فما يناله من بركات الخلاص كعطايا شخصية تمس حياة الجماعة كلها، وما تنعم به الجماعة يتذوقه كعطايا شخصية. ليس من فصلٍ بين خبرة المؤمن الشخصية وحياته الكنسية الجماعية. ما هي هذه الجماعة الكثيرة الجزيلة (الوقورة) المسبّحة لله إلا كنيسة العهد الجديد التي ضمت الشعوب والأمم لتشهد بعمل الله الخلاصي وتسبحه بلا انقطاع! إنها كنيسة قوية بمسيحها، مكرمة فيه، تشارك ملائكته تسابيحهم له! 3. توقف شماتة الأشرار: كأن الأشرار قد كرسوا كل وقتهم وطاقاتهم للسخرية والاستهزاء بالمؤمنين مجانًا، أي بلا نفع لصالحهم، وبلا علة أو سبب، يهوون الشر والبغضة لأجل الشر والغش. "لا يشمت بي الذين يعادونني ظلمًا الذين يبغضونني مجانًا، ويتغامزون بالأعين. لأنه إياي كانوا يكلمون بالسلام، وفكروا مكرًا بالغضب. فتحوا عليّ أفواههم، وقالوا: نعمًا، نعمًا، قد رأيت أعيننا" [19-20] لقد كرّس الأشرار قلوبهم للبغضة، وعيونهم للغمز بسخرية، والشفاة للنطق بكلمات غاشة معسولة بالسلام الظاهر، والفكر بالمكر والغضب... كل أعضائهم وطاقاتهم تعمل للشر، أما الله خالق الجسد والنفس فيُحطم كل تصرفاتهم ضد أولاده، الظاهرة والخفية. إذ صار داود طريًا شمت الأعداء وسخروا به علانية، وصاروا يقولون: "نعمًا، نعمًا، قد رأيت أعيننا" أو "هه، هه، قد رأيت أعيننا". تعبير عن الشعور بالنصرة بفرح مع مذلة الآخرين! لقد استهزأ الصالبون بالمسيح، قائلين: "تنبأ لنا أيها المسيح من ضربك؟" (مت 26: 68)، "يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك؛ إن كنت ابن الله إنزل عن الصليب فنؤمن بك" (مت 27: 40)، "خلّصَ آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها؛ إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به" (مت 27: 42). 4. استيقظ يا رب: تتوقف شماتة الأعداء بإعلان قيامة المسيح غالب الموت، كمن يستيقظ من بين الراقدين. قد رأيت يا رب فلا تصمت. يا رب لا تتباعد عني. أستيقظ يا رب وأنظر في حكمي. إلهي وربي أنتقم لي. أقضِ لي مثل عدلك يا ربي وإلهي. لا يفرحوا بي ولا يقولوا في قلوبهم: نعمًا نعمًا لأنفسنا. ولا يقولوا بأننا قد ابتلعناه... ليخز ويخجل جميعًا الذين يفرحون بمضراتي ليلبس الخزي والعار المعظمون عليّ كلامهم. يبتهج ويُسر الذين يريدون بري. وليقل في كل حين: ليتعظم الرب الذين يريدون سلامة عبدك. لساني يلهج بعدلك واليوم كله يحمدك" [22-28]. تكشف هذه العبارات عن ثمار عمل الصليب والقيامة في حياة المؤمن: أ. ظن الأشرار أن المصلوب قد صمت تمامًا بموته ودفنه، أما المرتل فقد عرفه أنه كلمة الله الذي لا يصمت بل دائم العمل في حياة شعبه: "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يو 5: 17). إذ نصرخ: "يا رب لا تصمت"، نطلب إليه أن يعلن قيامته في حياتنا، يقول كلمة فنقوم ولا نبقى في قبر الشهوات والخطايا. ب. ظن الصالبون أنه بدفن المسيح قد إبتعد عن البشر وفارق شعبه وتلاميذه، ولم يدركوا أنه وهو في القبر انطلقت نفسه تحمل نفوس الراقدين على الرجاء ليدخل بها كغنائم حيَّة إلى فردوسه. قيامته أكدت أنه لا يتباعد عنا، بل يضمنا إلى ملكوته الأبدي. ج. لنقل مع المرتل: "استيقظ يا رب"، أي أيقظ إيماننا بك، فلا نُحسب نائمين ومتراخين وموتى، بل نحيا معك أيها الغالب للموت! د. فرحوا بدفنه كغالبين، فكانوا يصرخون: "نعمًا نعمًا لأنفسنا"، مهنئين أنفسهم بالخلاص منه، لكن فرحهم لم يدم إذ قام ليهنئ المشتركين معه في آلامه وصلبه وقبره أيضًا. قالوا "قد ابتلعناه"، إذ ابتلعه الموت، ولم يدركوا أنه دخل إليه بسلطانه ليخلص مؤمنيه الذين سبق فابتلعهم الموت. وكما يقول القديس ما إفرآم السرياني: [إن الموت ابتلع كذئب السيد المسيح الحمل، لكن معدته لم تحتمله داخلها فتفجرت وخرج معه المؤمنون به. بقيامته لا يقدر القبر ولا العالم كله ولا الجحيم أن يبتعلنا! بالقيامة ابتلعت الكنيسة العالم وحولته عن الوثنية والإلحاد إلى الإيمان الحيّ! ه. بقيامته دخل الأشرار إلى الخزي والعار بينما انطلقت الكنيسة إلى الحياة المفرحة، حياة التسبيح غير المنقطع تعظم الرب وتمجده. و. نقول مع المرتل: "اليوم كله يحمدك"، فقد أشرق الرب بقيامته علينا لتصير حياتنا يومًا (نهارًا) بلا ليل. لقد بدد ظلمة قبرنا الداخلي، إذ جعله هيكلًا مقدسًا له. يختتم المزمور بالهتاف والتسبيح لله الذي يقيمنا من موت الخطية. * فلنشكره ونتبع القديسين: "اليوم كله نحمدك" كقول المرتل[697]. صرخة إلى القائم من الأموات * أنظر إلى مذلتي يا من دخلت معركة الصليب! لتكن أنت هو سلاحي، ونصرتي، وإكليلي، لتكن أنت هو خلاصي، فإنني أود أن أقتنيك! * علمني كيف أُبذل معك من أجل مضايقيّ ومضطّهدي؛ ليتآمروا عليّ، أما أنا فأموت معك من أجلهم! لينصبوا لي شباكًا في طريقهم المظلم! ولترفعني بروحك القدوس وتعبر بي إلى سمواتك آمنًا! لترتد صلاتي من أجلهم إلى حضني، فأتمتع بما أشتهيه لهم! * إن صمت لساني، فعظامي لن تصمت عن تمجيدك! أنت الكلمة الإلهي الذي لم يستطع القبر أن يجعلك صامتًا! قم، وأقمني معك، فأحيا بنور قيامتك. لتصر حياتي نهارًا يا شمس البر، لا تعرف ظلمة قبر الشهوات. لأسبحك كل النهار ما دام نورك مشرق في داخلي! |
||||
23 - 01 - 2014, 03:47 PM | رقم المشاركة : ( 37 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 36 - تفسير سفر المزامير شر الإنسان وصلاح اللهنقرأ في المزمور السابق عن داود كخادم الرب، أما في هذا المزمور فيتحدث المرتل عن الإنسان الشرير وتغرّبه عن الله. يحوي هذا المزمور متناقضات قوية، فيبرز الإنسان في منتهى فساده والله في كماله المتعدد الجوانب. حسب النص السرياني يشير هذا المزمور إلى اضطهادات شاول لداود النبي. العنوان: في الأصل العبري: "لإمام المغنين، لعبد الرب داود"، وبحسب النسخة السبعينية: "في التمام، لفتى الرب داود". يعتقد البعض أن الكلمات "لعبد الرب" أو "لفتى الرب" تعني أن الكاتب يتحدث بسلطان إلهي. ويرى البعض أن ما ورد هنا إنما هو حديث إلهي موجه ضد الأحاديث الشريرة التي يتفوه بها الأشرار[698]. الإطار العام: 1. سمات الشرير [1-4]. أ. فساد قلبه ب. لا يحمل خوف الله ج. مُخادع لنفسه د. إرادته الشريرة ه. محب للظلمة أكثر من النور و. يكره الصلاح 2. ميثاق الله [5-11]. أ. مراحم الله وعدله سمائيون ب. ثبات عدل الله وقوة أحكامه ج. شمول مراحمه د. فيض حنوه ه. ينبوع الحياة و. النور 3. سقوط الشرير تحت اللعنة [12]. ما أعظم حنوك 1. سمات الشرير: أبرز المرتل سرّ شر الشرير وسماته في النقاط التالية: 1. فساد قلبه: لا يستطيع الشرير أن يعتذر بعلل خارجية، فإن شره نابع عن فساد قلبه أو طبيعته الداخلية؛ إنه يحمل في حضنه إيحاءً بالشر. طبيعته الساقطة هي مصدر الشر وأساسه. وكما أوضح السيد المسيح ذاته بقوله: "لأن من القلب تخرج أفكار شريرة قتل زنى فسق سرقة شهادة زور تجديف" (مت 15: 19). ويقول المرتل في إفتتاحية هذا المزمور: "يقول مخالف الناموس أنه يخطئ في ذاته" [1]. ويقول النبي إرميا: "القلب أخدع من كل شيء، وهو نجيس من يعرفه؟!" (17: 9). لقد فسد القلب فلم يعد يطلب الصلاح ولا يُسر بالخير إنما يشتاق إلي الشر ويُريده. ويعلق القديس أغسطينوس علي هذه الآية قائلًا: [لا يتحدث (هنا) عن شخص واحد وإنما عن جنس الأشرار الذين يحاربون ضد ذواتهم (أنفسهم) بغير فهم لكي لا يعيشوا حسنًا، لا لأنهم لا يستطيعون (عمل الصلاح)، وإنما لأنهم لا يريدون ذلك. فإنه هناك فارق بين شخص يسعى أن يفهم أمرًا ما، وبسبب ضعف الجسد لا يستطيع، وذلك كقول الكتاب في موضع معين: "لأن الجسد الفاسد يضغط علي النفس، والخيمة الأرضية تثقل علي الذهن الذي يفكر في أمور كثير" (حك 9: 15)؛ وبين أن يعمل القلب الشر (عمدًا)، ليضر نفسه]. هنا يدعو المرتل الشرير "مخالف الناموس"، لأنه بسبب فساد قلبه يقف موقف المقاوم والعاصي لكلمة الله، لا عن عدم فهم وإنما بالحري عن إرادته الشريرة المناقضة للحق. 2. لا يحمل خوف الله: "ليس مخافة الله أمام عينيه" [1]. كثيرًا ما تحدث المرتل عن "مخافة الرب" بكونها رأس الحكمة ومصدر البركة، وقد ميّز بين مخافة المبتدئين ومخافة الكاملين، أو بين مخافة العبد ومخافة الابن. عندما تنزع "مخافة الله" من أمام القلب، أو من أمام البصيرة الداخلية أو عيني النفس، يتهيأ الإنسان لاقتراف أي شر. * "ليس مخافة الله أمام عينيه" [1]، أمام عينيْ الشرير توجد مخافة الناس؛ فهو لا يتجاسر أن يعترف بإثمه أمامهم لئلا يوبخونه أو يلومونه. إنه يتحاشى نظراتهم... إنه يرجع إلي نفسه، إلي داخله، حيث لا يراه أحد، وفي ذلك الموضع يخطط الزيف والخداع والشرور حيث لا تراها عين بشرية ما. كان يمكن ألا يمارس هذه المؤامرات حتى في داخل نفسه لو أدرك أن الله يراه، لكنه إذ فقد نظرته إلي مخافة الله، لذلك يهتم أن يفلت من ملاحظة الناس له... القديس أغسطينوس "لأنه صنع الغش قدامه، ليظفر بإثمه فيبغض" [2]، أو "لأنه ملق نفسه لنفسه". كثيرًا ما يقدم سفر المزامير الإنسان الشرير كمخادع يُنتسب للشيطان المدعو "الكذّاب"، و"أبو الكذابين"، أما البار فيحمل حق المسيح، ويُنتسب للحق ذاته. الإنسان الشرير في غشه لا يخدع الآخرين فحسب، وإنما يخدع نفسه أيضًا، يتملق نفسه بنفسه من جهة إثمه وبغضه، مموهًا الحقائق، إذ لا يكون إثمه ممقوتًا في عينيه، حيث يغلفه بثوب الفضيلة. يلتمس الشرير لنفسه الأعذار في كل شيء، وبسبب حبه الشديد لذاته يتملق نفسه فيدعو رذائله بأسماء لطيفة، فيخلط بين الباطل والحق، وبين الرذيلة والفضيلة. كأن يدعو بُغضه للآخرين دفاعًا عن الحق، وبُخله في العطاء أمانة في ما هو تسلمه، ومحاباته للبعض حكمة الخ... ما أسهل أن يخدع الإنسان نفسه فيبرر ارتكابه الخطية بأنه كان يجهل أنها خطية أو أن كثيرين حتى ممن هم في داخل الكنيسة يفعلون ذلك، أو أن الظروف التي أوجده الله فيها حتمت عليه ذلك! 4. إرادته الشريرة: "لم يرد أن يفهم ليعمل الخير" [3]. إنه يتوقف عن أن يتعقل أو يفهم، لأنه يريد إلا يعمل خيرًا. هنا يعلن المرتل مسئولية الشرير الكاملة عن عدم ممارسته الخير. إن كان التعقل (أو الحكمة) يدفعنا إلي عمل الخير، فالشرير بإرادته لا يُريد تعقلًا ولا حكمة... هذا ولا يوجد انفصال بين الحكمة والخير أو الصلاح. فبرفضنا الحكمة نرفض الصلاح؛ وبرفضنا الصلاح يتسلل الشر داخلنا. * ألا نخطئ شيء وأن نعمل الخير شيء آخر". إذ يقول: "كف عن الشر وأفعل الخير". نهجر الأول ونتبع الأخير حيث فيه يكمن الكمال[699]. القديس جيروم "فكّر إثمًا في مضجعه" [4]. إذ أخطأ داود النبي صار يعّوم كل ليلة سريره بدموعه، أما الشرير فيحيك الشرور في الليل علي فراشه، لا ينام حتى يفعل السوء. يتأمل الصديق في الله طول النهار، فيحمل معه أفكارًا مقدسة تضيء حياته حتى في أحلام يقظته وأحلامه، أما الشرير فيحمل معه في فراشه قلبًا مظلمًا، يخطط في الشر، ويفكر فيه حتى في نومه. أفكارنا ونحن علي مضجعنا كثيرًا ما تعبّر عما تحمله قلوبنا طوال النهار، وتعكس اشتياقاتنا الخفية. يرى البعض أن المضجع هنا يشير إلي القلب حيث فيه يظهر ارتباك الضمير الشرير، وفيه نستريح إن كان لنا الضمير الصالح. يقول القديس أغسطينوس: [لنجتهد أن نطهر فراش قلوبنا ونغسلها، فنستريح هناك!]. عن هذا المضجع يقول السيد المسيح: "ادخل إلي مخدعك وأغلق بابك وصلِّ إلي أبيك الذي في الخفاء" (مت 6: 6). لنغلق باب مضجعنا الذي يطل علي العالم الخارجي، ولنفتح ذاك الذي يقرع عليه رب المجد (رؤ 3: 20) حتى يدخل إلي أعماقنا ويتعشى معنا. عندما يُحكم إغلاق الباب الأول ينفتح الثاني لنرى ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن وما لم يخطر علي قلب بشر (1 كو 2: 9). 6. يكره الصلاح: "وقام في كل طريق غير صالح، وعن الشر لم يعرض" [4]. في الظلمة يفكر في الشر علي سريره، وفي النهار يقوم في كل طريق غير صالح؛ لهذا لا يعرض عن الشر لأنه لا يكرهه بل يحبه. في الليل تأسر الخطية أفكاره، وفي النهار يتمم مشورتها بسلوكه. 2. ميثاق الله: بعدما تحدث عن أسباب الشر الخفية وسمات الشرير يفتح المرتل أبواب الرجاء لكل نفس تتمتع بميثاق الله ومراحمه. يحتوي هذا القسم علي ترنيمة للرب الذي يقيم عهده مع كنيسته [5-9]؛ وتوسل مقدم لحب الله مقيم العهد لحماية الأبرار [10-11]. يتحدث داود الآن عن الله الذي يرفضه الشرير ولا يعرفه، بينما يجده البار ملجأ له ويحتمي تحت ظل جناحيه. يجده الله كلي الحب، رحمته وصلاحه لا ينقطعان قط. 1. مراحم الله وعدله سمائيون: "يا رب في السماء رحمتك وبرك إلي السحاب (الغمام)" [5]. أ. يقوم ميثاق الله مع كنيسته علي أساس مراحمه الجزيلة غير المنفصلة عن عدله أو بره. مراحمه سماوية وبره يبلغ إلي السماء... ربما يقصد بالسماء هنا أن سماته مطلقة غير محدودة، مراحمه عالية جدًا ومرتفعة، فائقة وعظيمة للغاية. مهما تكن متاعبنا شديدة وعميقة وبالغة، تبقى مراحم الله أعلي وأعظم. إنها تهب رجاءً لكل إنسان أينما وجد ومهما بلغت خطاياه أو اشتدت به الضيقات الداخلية والخارجية. ب. تشير السماء إلي المؤمنين الحقيقيين الذين ينعمون بالرحمة الإلهية والبر السماوي، فتتحول أرضهم إلي سماء، حيث يُعلن ملكوت الله داخلهم. يقول القديس أغسطينوس أن القديسين ينعمون بالرحمة السماوية لا الأرضية، الأبدية لا الزمنية: [لنتطلع إذًا إلي الرحمة، لكن إلي تلك الرحمة التي في السماء]. * توجد رحمة أرضية وأخرى سماوية؛ واحدة بشرية والأخرى إلهية. فما هي الرحمة البشرية؟ تلك التي تهتم بشقاء المساكين؟ وما هي الإلهية؟ بلا شك تلك التي تهب غفران الخطايا. ما تقدمه الرحمة البشرية من هبات في الطريق تسترده بالرحمة الإلهية في المدينة السماوية[700]. الأب قيصريوس أسقف آرل * لأن تفسير الأسرار النبوية ما كان يُعلن عنها قبل مجيء الرب[701]. القديس أكليمندس الإسكندري د. يفسر القديس أغسطينوس "السحاب" هنا بالكارزين بالإنجيل الذين يصنع الله بهم عجائب. وكأن قوله: "بِرَّك إلي السحاب" يعني أن الله الذي برحمته يهب بره لقديسيه، خاصة الكارزين بالإنجيل، يرتفعون إلي السحاب كي يمطروا بمياه النعمة الإلهية علي القِفار فتتحول إلي فردوس الله المفرح. إن كانت الخطية ثقيلة كالرصاص فبِّر المسيح يجعلنا كالسحاب نرتفع بلا عائق في الجو، لا في تشامخ الروح، وإنما بعمل روحه الوديع، فيتسع قلبنا بالحب عوض الإدانة، ونقدم إنجيل المسيح المفرح الذي يُجدّد القلوب ويقدسها بروح الله كهيكل مقدس له! 2. ثبات عدل الله وقوة أحكامه: "عدلك مثل جبال الله، أحكامك مثل العمق العظيم" [6]. إن كانت خطايانا قد نزلت بنا كما إلي لجة عظيمة، إلي أعماق الهاوية، فإن أحكام الله أو تدابيره لا ترفعنا فقط من العمق، وإنما تهبنا بره فنصير جبال الله العالية التي يشرق عليها شمس البر ويمطر عليها بنعمته فيكسبها خصوبة وجمالًا. * كما تكسي الشمس عند بزوغها الجبال أولًا بالنور الذي ينحدر بعد ذلك إلي الطبقات الدنيا، هكذا جاء ربنا يسوع المسيح أضاء بنوره أولًا الرسل كمرتفعات عالية؛ أنار أولًا الجبال ثم هبط بنوره إلي وادي العالم المحتجب... فإن بقيتم علي الجبال لن يتزعزع رجاءكم... حيث يأتيكم العون حقًا. لأنه قد كُرز بالكتاب المقدس لكم من خلال الجبال، أي بواسطة الكارزين العظماء الذين شهدوا بالحق. لكن لا تضعوا رجاءكم فيهم، فالعون يأتي من الجبال، لكنه لا يصدر عنهم؛ فمن أين يصدر إذن؟ "من الرب الذي صنع السموات والأرض" (مز 121: 1-2). "عدلك مثل جبال الله"، بمعنى آخر، الجبال ملآنة بعدلك. "أحكامك مثل العمق العظيم". يستخدم المرتل كلمة "عمق" ليدلك علي عمق الخطية التي ينحدر إليه الإنسان باستخفافه بالله... كما أن جبال الله تعبر عن عدله، السمو الذي ترفع إليه نعمته، هكذا بأحكامه ينحدر (الأشرار) إلي الهوة العميقة جدًا حتى أسافلها. القديس أغسطينوس "الناس والبهائم تخلصهم يا رب" [6]. تستعلن مراحم الله غير المتناهية من خلال عنايته التي تحتضن الناس والحيوانات. إنه إله رؤوف متحنن علي كل خليقته، يشرق شمسه علي الأبرار والأشرار ويمطر علي الصالحين والطالحين؛ يهتم حتى بالخليقة غير العاقلة، فكم بالأكثر ينعم علي الأبرار المتكلين عليه؟! ربما يقصد بالناس "المؤمنين" الذين سلكوا بالحكمة فأرتموا في أحضانه، وبالبهائم "الأشرار" الذين تركوا لشهواتهم الجسدية العنان فصاروا اشبه بالحيوانات غير العاقلة. خلاص الناس ربما يعني خلاص النفس الأبدي، وخلاص البهائم يشير إلي إهتمامه بالجسد أيضًا، إذ هو خالق الإنسان بكل كيانه. لقد جاء السيد المسيح، خبز السماء، مولودًا في مزود كي يقبله حتى الذين انحرفوا إلي الحياة البهيمية، طعامًا روحيًا لهم. * إن كنتم بشرًا كلوا "الخبز" إن كنت (قد صرت) حيوانًا فتعال إلي المزود (وتمتع بالمسيح هناك) (لو 2: 7)[702]. القديس جيروم المسيح هو ينبوع الحياة. لقد نلنا الأمان (الجسدي) أسوة بالبهائم حتى جاءنا ينبوع الحياة... ومات لأجلنا...! هذا هو الخلاص غير الباطل، لماذا؟ لأنه لا يزول![703]. القديس أغسطينوس "مثل ما أكثرت رحمتك يا الله. وبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون" [7]. إذ يدرك بنو البشر كثرة مراحم الله يلجأون إلي ستر جناحيه، أي إلي العهدين القديم والجديد، حيث يجدون فيهما كنوز وعوده العجيبة، ومفاهيم ميثاق حبه العجيب مع الإنسان. فيهما يتمتعون بالنبوات ويدركون سرّ الخلاص الذي قدمه المسيا ببذل حياته عنهم ولأجلهم! سبق فأعلن المرتل عن حنو الله ورعايته للإنسان والحيوان، أما بالنسبة للميثاق فهو خاص ببني البشر وحدهم الذين "في ظل جناحيه يحتمون". تصوير الاحتماء بظل جناحي الله مستمد من: أ. جناحي الشاروب اللذين يغطيان تابوت العهد، حيث أعتاد الله أن يتحدث مع شعبه. ب. جناحي الدجاجة التي تحمي فراخها. ج. تدريب صغار النسور علي الطيران بعد كسر العش. أستخدم بوعز ذات التصوير في حديثه مع راعوث (راعوث 2: 12)، كما استخدمه ربنا عن أورشليم (مت 23: 37) حيث كشف باتضاعه وحبه الشديد عن حنّوه لبنيه وشوقه إلي خلاصهم. * من هم بنو البشر؟ هؤلاء الذين يثقون في ظل جناحي الله. يُدعون "بشرًا" الذين يتهللون كالبهائم بالأمور المادية، أما "بنو البشر" فيفرحون بالرجاء؛ الأولون يشتركون مع البهائم في طلب الخير الحاضر، أما الآخرون فيشتركون مع الملائكة في تطلعهم نحو الخيرات العديدة. القديس أغسطينوس "ومن دسم بيتك يسكرون، ومن وادي نعيمك تسقيهم؛ لأن ينبوع الحياة عندك" [8-9]. في بيت الرب - الكنيسة - ينتعش المؤمنون الحقيقيون بخمر الحب الإلهي؛ يمتلئون فرحًا وبهجة، ويرتوون، فلا يعطشون بعد إلي ينابيع الشهوات الأرضية والملذات الزمنية ومباهج الحياة. يجدون في المخلص سرّ فرحهم الحقيقي وبهجتهم وارتوائهم! ويشير الحديث هنا إلي التشبيه بضيوف يستقبلهم الله في بيته ليعيشوا كل حياتهم في عيد لا ينقطع، حيث تزخر الموائد اليومية بالدهن الدسم (أي 36: 16؛ مز 63: 5؛ إش 55: 2؛ إر 31: 14). سيُحضر الله شعبه إلي حضنه لينعموا بنهر الوعود، ويدعهم يرتوون من نعمته فلا يعطشوا أبدًا. خارج الله لا توجد قطرة حياة، أما فيه فلا ينقطع نبع الملذات الإلهية. * السيل هو اسم يخص فيض المياه المتدفق. هذا الفيض هو مراحم الله التي تنبع لكي تُنعش وتروي من يضعون ثقتهم في ظل جناحيه. يا لها من لذة؟! إنه سيل يفيض فيروي العطاش. ما علي الظمآن إلا أن يترجى حتى يشبع ويمتلك الحق... من هو ينبوع الحياة إلا المسيح، الذي جاء إليكم في الجسد لكي يرطب حلقكم الملتهب، هذا الذي أعطانا عربونًا لإرواء الظمآى، يشبع المتكلين عليه إلي الملء[704]. * يوجد رجاء في هذا النعيم؛ فإننا نشعر بالجوع والعطش فنحتاج أن نقتات (نأكل ونشرب). علي أي الأحوال يحل الجوع في الطريق فقط، أما البيت فيفيض بالخيرات. متى نشبع؟ "أشبع عندما يظهر مجدك" (مز 17: 15). أما الآن فمجد إلهنا، مجد مسيحنا، مخفي، ومعه يختبئ مجدنا نحن أيضًا. ولكن "متى أظهر المسيح حياتنا فحينئذ تظهرون أنتم أيضًا معه في المجد" (كو 3: 4). حينئذ تكون الـ"هلليلويا" حقيقية، أما الآن فهي مجرد رجاء[705]. القديس أغسطينوس الأب قيصريوس أسقف آرل القديس غريغوريوس أسقف نيصص القديس كيرلس الكبير "بنورك نعاين النور" [9]. يشير هنا إلي الروح القدس واهب الأستنارة. يقول المرتل: "لأن ينبوع الحياة عندك، وبنورك نعاين النور" يتحدث عن الثالوث القدوس. الابن هو ينبوع الحياة الذي عند الآب وواحد معه. الروح القدس هو نور الآب (بنورك) الذي به نعاين الآب والابن (النور)! لا يستطيع أحد أن ينير نفسه، فالنور كله يصدر عن السماء، من "روح الحق الذي من عند الآب ينبثق" (يو 15: 26). به نرى الابن الكلمة كما نرى الآب، بل وبه نرى حقيقة أنفسنا، إذ ينير بصيرتنا فنكتشف ضعفنا ونشعر بحاجتنا إلي الخلاص، به يضيء لنا "إنارة إنجيل مجد المسيح... لأن الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح" (2 كو 4: 4-6). * كما هو مكتوب: "بنورك نعاين النور". أي باستنارة الروح القدس "النور الحقيقي الذي يضيء لكل إنسان آت إلي العالم". فيظهر مجد الابن الوحيد، ويهب معرفة الله للعابدين الحقيقيين[709]. القديس باسيليوس الكبير الأب مارتيروس لكن من يقدر أن يشك في أن الآب هو نور، عندما نقرأ عن ابنه إنه بهاء النور الأبدي؟ لأنه لمن يكون الابن بهاءًا إلا للآب؟! الذي هو دائمًا مع الآب، ودائمًا ينير، لا ببهاء مخالف بل بذات التألق[711]؟! القديس أمبروسيوس القديس أغسطينوس "فأبسط رحمتك علي الذين يعرفونك، وعدلك علي المستقيمي القلوب. لا تأتني رجل الكبرياء، ويَّد الخطاة لا تحركني" [10-11]. يطلب المرتل بسط الرحمة علي الذين يعرفون الله، لأن ما يتمتعون به من "معرفة" لا فضل لهم فيه، إنما هو هبة إلهية من قِبل مراحمه ونعمته السخية المجانية. بسط الرحمة إنما يشير إلي ديمومة التمتع بالمعرفة والنمو فيها؛ فإذا نزعت مراحم الله يرجع الإنسان إلي جهالته ويفقد نعمة المعرفة. يطلب المرتل عدل لله للمستقيمي القلوب الذين يخضعون لإرادته الإلهية حتى لا يعوج قلبهم بسبب تجربة ما أو في الفرج. يُكلل المستقيمون بالأكثر وسط الضيقات، إذ لا يكفّوا عن تسبيحه، قائلين مع المرتل المتألم المسبِّح، "أبارك الرب في كل حين؛ تسبحته دائمًا في فمي". * "عدلك علي المستقيمي القلوب"... كما قلت لكم مرارًا إن المستقيمي القلوب هم الذين يخضعون لإرادة الله في هذه الحياة. أحيانًا إرادة الله هي أن تكون بصحة، وأحيانًا أن تكون مريضًا. إن كنت تجد إرادة الله عذبة حين تكون بصحة، ومُرّة حين تكون مريضًا فأنت لست مستقيم القلب. لماذا؟ لأنك لا تريد أن تطابق إرادتك إرادة الله، إنما تود أن تُخضع إرادة الله لإرادتك. إرادة الله مستقيمة وإرادتك ملتوية؛ يلزم لإرادتك أن تستقيم في خط واحد مع إرادة الله، لا أن تلتوي إرادتك لتناسبك، حينئذ يكون لك القلب المستقيم. القديس أغسطينوس * [الخوف من رِجل الكبريا]. عندما تتجدد قوى إنسان ما فيصير مثمرًا جدًا بارتشافه من هذا الينبوع، يلزمه أن يحذر لئلا يتكبر. فإن آدم الأول لم يتحصن من هذا الخطر، وإنما علي النقيض جاءته رِجل الكبرياء ويد الأشرار، أي يد الشيطان المتكبرة قد زحزحته... بالكبرياء سقطنا فبلغنا إلي حالة الهلاك المميتة. وحيث جُرحنا من الكبرياء، فالاتضاع هو الذي يشفينا. جاء الله في اتضاع، ليشفي الإنسان من جراحات الكبرياء الدامية. *خشى المرتل من جذر الخطية ورأسها معًا، عندما صلي قائلًا: "لا تأتيني رجل الكبرياء". القديس أغسطينوس 3. سقوط الشرير تحت اللعنة: يختتم المزمور بتأكيد سقوط الأشرار المصرّين علي شرهم تحت اللعنة، فيسقطوا في ذات البقعة التي أرادوا أن يُسقطوا فيها أولاد الله. "لأن هناك سقط عاملوا الآثم، دُفعوا فلم يستطيعوا قيامًا [12]. الأشرار يسقطون ولا يقومون، لكن أبواب التوبة تبقى مفتوحة، وكما يقول القديس أغسطينوس: [إن كنت ساقطًا قم، وإن كنت قائمًا فقف (ثابتًا)، وإن كنت واقفًا فأجلس، وإن كنت جالسًا فقاوم (الشر)[713]]. ما أعظم حنوك * مراحمك سماوية، تحول قلبي الحجري إلي سماء مملؤة حبًا! بِّرك إلي السحاب، يحملني من الوحل، ويرفعني إلي الأعالي! * الناس والبهائم تخلصهم يا رب، تتحنن علي نفسي العاقلة، وتقدس جسدي الحيواني فيصير أشبه بالروحاني! * في ظل جناحيك أحتمي، أختفي فيك فلا يقترب العدو إليّ! تشبعني من دسم بيتك، فلا أعتاز إلي خبز المرارة! * ترويني من روحك القدوس، ينبوع الحياة. وتفيض عليّ بمياهك يا نهر النعيم الأبدي! * بنورك أعاين النور، أراك فأستنير وأفرح بك. أنت هو شمس البر، تشرق عليّ فلا يقترب إليّ بعد ليل! تحول حياتي إلي نهار دائم! فأنعم بعربون الأبدية! * لا تأتني رجْل الكبرياء؛ جذر كل خطية؛ إذ تحل أيها المتضع فيّ! ويدّ الخطاة لا تحركني، إذ أنا في قبضة يدك. * بحنوك العظيم أقمني حين أسقط، واجتذبني دومًا فنجري جميعًا نحوك! |
||||
23 - 01 - 2014, 03:58 PM | رقم المشاركة : ( 38 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 37 - تفسير سفر المزامير الودعاءيرثون أرض السلام يظهر من الآية [25] أن داود النبي وضع هذا المزمور في شيخوخته، بعد سنوات طويلة من الخبرة، والتأمل في قضيته مع شاول الملك ونابال وأبشالوم وأخيتوفل وغيرهم. يرى بعض الدارسين أنه نظمه قبل نياحته بثلاث سنوات. أراد داود النبي أن يُجيب على السؤال المحيّر في أيامه بل وفي كل العصور، وهو: لماذا ينجح الأشرار ويتألم الأبرار؟ هذا السؤال يُحيّر الكثيرين، لكن الإجابة تصير سهلة إن تخطى القلب العالم المنظور ليرى ببصيرته الداخلية أمجاد الأبدية المعدة للمتألمين ظلمًا، فلا يفكر البار في حسد الأشرار، ولا يتحطم بسبب ما يواجهه من آلام ومتاعب. يُعطي هذا المزمور للقلب سلامًا، وينزع عن النفس كل تذمر، حيث يدرك المؤمن معاملات الله معه. هذا هو المزمور الثالث من المزامير الأبجدية (الهجائية)، وهو كامل تقريبًا في ترتيبه. مزمور نبوي عظيم يكشف عن غنى البركات الممنوحة لكنيسة العهد الجديد. إن لم يكن المزمور بكامله يتحدث عن شخص السيد المسيح، فموضوعه الرئيسي هو المسيح. يُشبّه البعض كلماته بأحجار كريمة أو حبات لؤلؤ مصفوفة معًا في خيط لتصنع عقدًا ثمينًا. هذا المزمور ليس بصلاة موجهة إلى الله، ولا بليتورجية، إنما هو مزمور حكمة تعليمي تهذيبي؛ يتحدث إلى الإنسان، يدور حول فكرة واحدة يود تأكيدها بطرق مختلفة؛ وهو يقدم ثماني وصايا مدعمة بالاختبارات العملية، يشبه في ذلك المزمورين 73 و94، وأيضًا سفري أيوب والأمثال. الإطار العام: 1. بركة الإيمان [1-11]. 2. مقارنة بين الأبرار والأشرار [12-20]. أ. يضطهد الأشرار الأبرار ب. هلاك الأشرار بذات أسلحتهم ج. يفتقد الشرار بركات الله د. انكسار أذرع الأشرار ه. طرق الأبرار معروفة لدى الرب و. هلاك أعداء الله كالدخان 3. نهاية الأبرار والأشرار [21-40]. أ. عجز الأشرار عن الإيفاء بديونهم وقدره الأبرار على العطاء ب. يخسر الشرير ميراثه وحياته بينما يرث الصديق أرض الأحياء ج. يجد الأبرار الله قائد حياتهم د. اختبار الأبرار نعمة الله ه. يختبر البار الحياة الأبدية الصالحة و. يتمتع الأبرار بعدل الله أبديًا ز. يرث الأبرار الأرض ويسكنون فيها أبديًا ح. ينعم الأبرار بالحكمة السماوية ط. خطوات الصديق لا تتقلقل ولا تنحرف عن الطريق الملوكي ي. لا سلطان للشرير على الصديق ك. يرتفع الأبرار بالله وينحدر الأشرار أو يُستأصلون ل. بعكس الأبرار يفتقر الأشرار إلى المجد الداخلي إذ يسعون نحو المجد الباطل أنت هو بهجتي ونصرتي 1. بركة الإيمان: لعل داود الذي واجه ضيقات بلا حصر قد هاجمه هذا الفكر: لماذا ينجح الأشرار ويتألم الأبرار؟ مرات كثيرة ولو إلى لحظات، لذلك وضع لنفسه هذا المزمور الذي يقوم على الإيمان بالله الدَّيان العادل، وقد وضع ثمان وصايا يلتزم بها، منها ست وصايا وردت في هذا القسم وهي: 1. عدم حسد الأشرار على نجاحهم الزمني [1]. 2. تركيز النظر على الله وسكنى بيته [2]. 3. الفرح بالرب لا بالزمنيات كالأشرار [4]. 4. إلقاء الهم على الله [5، 6]. 5. الخضوع للرب [7]. 6. الكف عن الغضب [8]. هذه الوصايا الست تقوم على الإيمان بالله الذي وحده يرفع بصيرتنا الداخلية من ضيقات العالم ومباهجه، ومن تصرفات الناس وظلمهم للتمتع بالله نفسه الذي فيه نجد لذتنا؛ هو يعولنا ويكللنا ويدافع عنا! الوصية الأولى: عدم حسد الأشرار على نجاحهم الزمني: "لا تغر من فاعلي الشر، ولا تغر من عاملي الإثم. فإنهم مثل العشب سريعًا يجفّون، ومثل بقول الخضرة عاجلًا يسقطون" [1-2]. يبدأ المزمور بنصح الأبرار ألا يغيروا من الأشرار، مؤكدًا أن يوم مجازاتهم آت لا محال، حينما يُحاسبهم الله يجفّون مثل العشب ويسقطون كبقول الخضرة. يطلب المرتل من الأبرار ألا يهتزوا عند رؤية الأشرار حتى لا يتمثّلوا بهم. رؤيتنا للنجاح الذي يحققه الأشرار بطرقهم الملتوية ينبغي ألا تثيرنا إلى الطمع ولا إلى حسدهم، فأن هذا يجرنا إلى حالة تذمر حتى على الله نفسه. وعلى العكس كلما يزهو الأشرار سريعًا، نحزن عليهم ونبكيهم لأن يوم هلاكهم يقترب والأهوال تنتظرهم. منجل عدالة الله يُفاجئهم، لأن حياتهم قد جفّت وصار بقاؤهم مفسدًا للأرض. يقول معلمنا يعقوب: "لأن الشمس أشرقت بالحر، فيَّبست العشب فسقط زهره وفنى جمال منظره؛ هكذا يذبل الغني أيضًا في طرقه" (يع 1: 11). * "لا تغر من فاعلي الشر، فإنهم مثل العشب سرعان ما يذبلون". أخبرني إذن ما هو مصير من يقوم بالسلب والنهب بعد رحيله؟ أين هي آماله البراقة؟! أين هو اسمه المهوب؟ أما يعبر هذا كله ويتلاشى من الوجود؟! ألم يكن كل ما له حلمًا وخيالًا؟! هذا ما يجب أن تتوقعه في حالة أمثال هذا الإنسان، سواء أثناء حياته أو في حياة من يأتي بعده. لكن ليس هكذا هو حال القديسين، فلا يمكنك أن تنطق بذات الكلمات عن حالهم، ولا تقل أن ما يخصهم هو حلم وأسطورة[714]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أغسطينوس الشرير كالزهرة التي تتفتح لتسقط وتزول دون عودة! الوصية الثانية: تركيز النظر على الله وسكنى بيته: "اتكل على الرب واصنع الخير، واسكن على الأرض وارتع من ثروتها" [2-3]. ربما يسأل إنسان: كيف لا أغر من الأشرار الذين ينجحون بينما يتألم الأبرار؟ من أين يأتيني الصبر لأنتظر وأعاين نهاية الأشرار؟ تأتي الإجابة هنا: الإيمان بالله والتمتع بالحياة الكنسية الغنية بثروتها الروحية! في الوصية الأولى يحذرنا من الغيرة والحسد بسبب نجاح الأشرار، أما هنا فيُقدم لنا الجانب الإيجابي: الارتماء في أحضان الله والتمتع ببركات الحياة الإنجيلية الكنسية. لقد تكررت كلمة "الأرض" في هذا المزمور: "أسكن على الأرض وأرتع من ثمارها" [3]، "الذين يصطبرون للرب هم يرثون الأرض" [9]، "أما الودعاء فيرثون الأرض" [11]. ما هي الأرض التي يسكنها المتكلون على الله، ويرثها الصابرون والودعاء. ربما قصد المرتل "أرض كنعان" أو "أرض الموعد" كرمز للحياة السماوية المطوَّبة، حيث يعيش المؤمن تحت ظل جناحي الرب، وسط شعبه. هذا كان أقصى ما يشتهيه المؤمن الأصيل في العهد القديم. يرى القديس جيروم الأرض هنا هي أرض الأحياء، أي كنيسة العهد الجديد، حيث يُلد المؤمنون فيها من جديد ليبلغوا الحياة الأبدية. يقول القديس بولس: "سيرتنا في السموات" (في 3: 20). أما ثروتها فهي الله نفسه، حيث يفتح الآب أحضانه ليُنعم علينا بالوحدة معه؛ ويهبنا الابن دمه الثمين كفارة عن خطايانا ومصدر برنا، كما يمنحنا الروح القدس سكناه في قلوبنا. لكي ننال ثروات الكنيسة، أرض الله الخاصة، عربون سمواته، أيقونة الأبدية، يلزمنا أن نتكل على الله ونثق في مواعيده وعمله الخلاصي، وأن نعلن إيماننا بالعمل وممارسة الحياة الكنسية الروحية بكل غناها. * قد تصنع الخير لكنك لا تسكن على الأرض، لأن أرض الرب هي كنيسته؛ والآب نفسه هو الكرام (يو 15: 1) الذي يرويها ويعتني بها. كثيرون في الحقيقة يبدون كأنهم يصنعون أعمالًا صالحة لكنهم لا يسكنون الأرض، ولا ينتمون إلى الكرام... ما هي ثروات الأرض؟ ربها وإلهها، الذي قيل عنه: "أنت نصيبي يا رب". اسمعوا كيف أنه عَنِيَ بتلك الأرض. أنظر ما قاله بعد ذلك: "افرح بالرب" [4]. القديس أغسطينوس "افرح بالرب فيعطيك مطلوبات قلبك. اكشف للرب طريقك، واتكل عليه وهو يصنع" [4]. مع كل وصية ترتفع النفس في طريق الإيمان، ففي الأولى تبدأ بالجانب السلبي بعدم حسد الأشرار بسبب ازدهارهم الزمني، والثانية تتكئ النفس على صدر عريسها السماوي وممارسة الحياة الكنسية الروحية بكونها عروس السماوي، وأما الثالثة فتتلذذ النفس بعريسها الرب، تعطيه قلبها وتطلبه شبعًا لقلبها فلا يبخل عليها بمطلوبات واشتياقات قلبها. يهبها ذاته واهب الخيرات والصالحات فلا تعتاز إلى شيء. في حبها الحق تكشف له طريقها وتصارحه بكل أسرارها وتتكل عليه فيعمل بنعمته وبروحه القدوس فيها. وكأن الوصية الثالثة هي الانشغال بالرب كعريس يلزم ألا تخفي عنه شيئًا ولا نطلب من غيره احتياجاتنا. لقد وجد موسى النبي في الرب فرحه فطلب أن يُعاين مجد الرب (خر 33: 18) وقد تمتع بذلك قدر ما يحتمل. وكان سليمان في ظمأ يريد أن يرتوي بحكمة الله ومعرفته فجعله الله أحكم البشر. يعقد القديس يوحنا الذهبي الفم مقارنة بين الفرح أو التلذذ بالأمور الزمنية والفرح بالروحيات، قائلًا: [هل لي أن أخبر عن الآلام والملذات التي تكون للساعين نحو الترف؟ لا يمكنني أن أحصيها جميعًا. لكني أوضح الأمر كله في نقطة أساسية واحدة. فالناس لا يأكلون بلذة حينما يجلسون على المائدة الفخمة التي أتحدث عنها، فإن التقشف هو والد اللذة والصحة، أما النهم فهو مصدر وأصل لا المرض فحسب بل والأحزان[716]]. * أخبرنا الرب أن لديه فقط هذا الطعام بوفرة كما جاء في الإنجيل: "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله" (يو 4: 34). إننا نبتهج بهذا الطعام الذي يقول عنه النبي: "افرح بالرب"... لنأكل خبز الحكمة، ولنمتلئ بكلمة الله! لأن حياة الإنسان المخلوق على صورة الله لا تقوم بالخبز وحده، بل بكل كلمة تخرج من فم الله (مت 4: 4). وعن الكأس أيضًا تحدث أيوب الصديق قائلًا في وضوح وبصراحة كاملة: "كما تنتظر الأرض المطر، هكذا انتظروا كلامي" (أي 29: 23)[717]. القديس أمبروسيوس "اكشف للرب طريقك واتكل عليه وهو يصنع. ويخرج مثل النور عدلك (برك)، ومثل الظهيرة أحكامك (حقك) [5-6]. إذ نجد في الرب بهجتنا ولذتنا، يليق بنا أن نصارحه بكل مخاوفنا وهمومنا وكل أمورنا الكبيرة والصغيرة وهو يصنع أو يجري كل حياتنا حسب مشورته الصالحة. جاءت كلمة "اكشف" في العبرية بما معناه "دحرج"، وكأنه يليق بالمؤمن أن يتخلص من كل أحماله واهتماماته بدحرجتها على الله (هو 5: 9)، وهي تُستخدم ببساطة بمعنى "إلقِ" (أم 16: 3) أو "ثق" (عب 9)، وجاءت في الترجمة السبعينية "اكشف"... إذ نؤمن بالله في حياتنا العملية اليومية لا نخف الغيوم المحيطة بنا، بل نثق في شمس البر المختفي وراءها، هذا الذي يشرق على مؤمنيه الأتقياء ليعلن براءتهم وحقهم، إذ يقول المرتل: "ويُخرج مثل النور عدلك، ومثل الظهيرة أحكامك" [6]. بينما ينجح الأشرار يتألم الأبرار ويُتهمون ظلمًا أنهم أشرار. قد تتشوه سمعتهم إلى حين بافتراءات، فيكونون كالشمس المختفية وراء الغيوم والضباب، لكن ما أن تنقشع هذه حتى تظهر استقامة حياتهم، وتسطع كنور الشمس وقت الظهيرة، فتنتهي حياتهم بالفرح وكما يقول إشعياء النبي: "حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك، وتنبت صحتك سريعًا، ويسير برك أمامك، ومجد الرب يجمع ساقتك" (إش 58: 8)[718]. لقد أشرق الله على البشرية وقت الظهيرة حين أعلن كمال بهاء حبه على الصليب ليبدد ظلمة الخطية في قلوبنا. * في وقت الظهيرة ظهر الله لإبراهيم عند بلوطات ممرا (تك 18: 1)، فأشرق عليه نور الحضرة الإلهية الأبدي. وفي الظهيرة يدخل يوسف الحقيقي إلى بيته ليأكل (تك 43: 25). هذا اليوم يضيء بالأكثر عندما نحتفل بالأسرار المقدسة [حيث يشرق السيد المسيح المصلوب على المذبح وسط شعبه[719]]. * [أين تربض عند الظهيرة؟" (نش 1: 7)]. وحينما نتحدث عن الكلمة وضيائه الذي يشرق عليها، فتلتفت إليه قائلة: "أين ترعى قطيعك؟ أين تستريح عند الظهيرة؟"... كان الوقت "ظهيرة" عندما احتل يوسف مكانه وسط إخوته في المأدبة، وكشف لهم عن أسرار الأزمنة المقبلة (تك 43: 15)... كما أعلن بولس ذاته أن النور أبرق حوله كالظهيرة عندما اهتدى من مضطهد الكنيسة إلى النعمة (أع 9: 3)[720]. القديس أمبروسيوس "اخضع للرب وتضرع إليه، ولا تغر من الذي طريقه ناجحة في حياته. بإنسان يُصنع الإثم" [7]. إذ يستنير الإنسان بنور الصليب كما في الظهيرة يُدرك كمال حبه ورعايته فيخضع له تمامًا ولا يرتبك لا بنجاح الشرير ولا بمكائده. من ينشغل بصليب رب المجد لا يتذمر حتى إن بدت خطط الأشرار ناجحة، فإن الله المخلص صانع خيرات يحول حتى شرور الأشرار لخلاصنا، كما حوَّل مقاومة اليهود لخلاص العالم، وخيانة يهوذا لتحقيق الصليب. الوصية السادسة: الكف عن الغضب: "كف عن الرجز (الغضب)، ودع الغضب عنك، لا تغر لئلا تخبث. لأن الخبثاء يُستأصلون. والذين يصطبرون للرّب هم يرثون الأرض. وأيضًا بعد قليل لا يوجد الخاطئ، وتلتمس مكانه فلا تجده. أما الودعاء فيرثون الأرض ويتلذذون بكثرة السلامة" [8-11]. إن كان الأشرار ماكرين وخبثاء، يليق بالأبرار ألا يغضبوا لئلا يسقطوا فيما يسقط فيه الأشرار بفقدانهم الصبر والوداعة. إن كان الشرير بخبثه يُستأصل فالبار بصبره يرث الأرض (أرض الموعد أو كنيسة العهد الجديد بثرواتها الروحية) وبوداعته يتأكد الميراث وينعم بسلام الله الفائق العقل. يُحذرنا المرتل من الرجز (الغضب الخفيف) لئلا يتثبت الغضب في الحياة الداخلية ويتحول إلى حقد وخبث، فيصير مصيرنا هو مصير الأشرار المخادعين. عوض التذمر الذي يدفع إلى الغضب ثم يقود إلى الخبث، نركز أنظارنا على الميراث الأبدي الذي نترجاه بالصبر ونقتنيه بالوداعة، فيحل السلام الأبدي على حياتنا. يقدم المرتل أفضل تعريف للودعاء؛ أنهم أولئك الذين اختاروا طريق الإيمان بصبر عوض الاتكال على الملذات؛ هذا الطريق تتضح معالمه تمامًا في العبارات التالية. بينما العالم يموج بالاهتمام بما لا طائل منه ولا نفع له، يمضي الودعاء في سلام عجيب عابرين من الأرض إلى السماء. لا تمتلئ قلوبهم بالتذمر ولا الغضب وبالتالي لا موضع للخبث فيهم، لهم سلام الله كعربون لكمال التطويب الأبدي. الله في عنايته بنا سمح بمضايقات الأشرار حتى نختبر الصبر والوداعة والسلام أثناء رحيلنا من وادي الدموع، إلى أن نلتقي بمسيحنا وجهًا لوجه فتشبع حياتنا بأمجادٍ أبدية! تنتهي حياة الأشرار بالهلاك، أما الموت بالنسبة لنا ففيه أمجاد. * ما هي ملذاتكم...؟ سيملأ السلام كل اشتياق لكم، لأن الذهب هنا لا يمكن أن يصير فضة لكم، والخمر لا يمكن أن يتحول إلى خبز لكم، ونوركم لا يمكن أن يصير شرابًا لكم. أما الله فسيكون كل شيء بالنسبة لكم. سيكون طعامكم فلن تجوعوا بعد، وشرابكم فلن تعطشوا بعد، ونوركم فلن تصيروا عميانًا بعد، وراحتكم وعونكم فلن تجزعوا بعد. سيكون هو بنفسه بكماله وتمامه يمتلككم بكليتكم وتمامكم. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم 2. مقارنة بين الأبرار والأشرار: 1. يضطهد الأشرار الأبرار: "يرتصد الخاطئ الصديق، ويصرّ عليه بأسنانه" [12]. توجد خطة قديمة طال أمدها قد وضعها الشرير ضد الأبرار، وكما يقول السيد المسيح: "إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم" (يو 15: 18). وكأن طرفي المعركة، في الواقع ليسا هما الخطاة والأبرار بل عدو الخير إبليس والسيد المسيح. بدأت المعركة منذ خلقة الإنسان وتبقى المعركة مستمرة في حياة كل مؤمن حتى تُعلن نصرة المسيح الكاملة فيه، أما أرض المعركة فهي عقل المؤمن. يترصد الشرير - إبليس - للمؤمن الحقيقي لكي يوقع به في حبال الخطية؛ مستخدمًا جميع الوسائل الممكنة، وإذ لا يفلح يصرّ عليه بأسنانه، كأسد يجول ملتمسًا أن يبتلعه. منذ هابيل الذي قتله قايين في العهد القديم، ومنذ اسطفانوس الذي رجمه قادة الكنيسة اليهودية وإلى مجيء السيد المسيح الأخير يُضطهد المؤمنون الحقيقيون لكنهم لا يُتركون. 2. هلاك الأشرار بذات أسلحتهم: "والرب يضحك به، لأنه قد سبق فرأى أن يومه قد دنا. استل الخطاة سيفهم؛ وأوتروا قوسهم؛ ليصرعوا المسكين والفقير، ويذبحوا المستقيمي القلب. سيفهم يدخل في قلبهم وقسيهم تنكسر" [13-15]. إذ يسخر الشرير بقديسي الرب، يضحك الرب به لأنه قد أعد يوم عقابه (أي 18: 20؛ مز 137: 7، إش 9: 4، إر 12: 3، هو 1: 11). أنه يستخف بكل خططه وتدابيره الشريرة! يستخدم الأشرار كل أسلحتهم لقتل المسكين والفقير، لكن الله يمنع استمرار هذا الضيق لزمن طويل أو تركهم بلا عقاب. يستلون سيفهم لقتل أجساد الأبرار أما نفوسهم فلا يقدرون أن يقتربوا إليها، إنما يرتد السيف على نفس الظالم فيقتلها. لهذا يقول السيد المسيح: "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها" (مز 10: 28). سيفهم يدخل في قلبهم، "لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون" (مت 26: 52). * فماذا إذن؟ هل يؤذيك شر فاعل الإثم ويبقى هو بلا ضرر؟ أما يحدث أن حقده الذي ينفجر من حمو غضبه وكراهيته ليهدف إلى العصف بك أن يدمره هو أولًا، ويهلك أعماق نفسه قبلما يهاجمك علانية؟! سيفَهمْ يدخل في قلبهم؛ من السهل أن يمس سلاحه أي سيفه جسدك كما بلغ سيف المضطهدين أجساد الشهداء فاخترقها، لكن بقيت قلوبهم سليمة بلا ضرر؛ لكن من الواضح أن الذي أنتزع السيف ليضرب به جسد البار لا يسلم هو من الضرر. لقد وضع في قلبه أن يقتل جسد إنسان؛ دعه يجتاز موت النفس! القديس أغسطينوس وبالرغم من أنهم يعجزون عن أن يضروا الغير، إذ بها ترتد على أنفسهم هم أولًا وضدهم، وذلك كما يُصلي المرتل، قائلًا: "سيفهم يدخل في قلبهم" [15]. وهناك أيضًا عن مثل هذا "الشرير... بحبال خطيته يُمسك" (أم 5: 22)[722]. البابا أثناسيوس الرسولي الأب دوروثيؤس 3. يفتقد الشرار بركات الله: كثيرًا ما يضطهد الأشرار الأبرار لأجل اغتصاب ممتلكاتهم لكن يبقى البار غنيًا بإيمانه وببركة الرب التي تملأ أعماقه، ويبقى الشرير معتازًا مهما نال من خيرات زمنية (أم 15: 16-17)، وكما يقول المرتل: "خير قليل للصديق أفضل من غنى كثير للخطاة" [16]. 4. انكسار أذرع الأشرار: "لأن سواعد الخطاة تنكسر؛ والرب يعضد الصديقين" [17]. كسر الساعدين يعني العجز التام عن العمل، كما قيل عن فرعون: "هأنذا على فرعون ملك مصر فأكسر ذراعيه القوية والمكسورة، وأُسقط السيف من يده... وأشدد ذراعيّ ملك بابل وأجعل سيفي في يده، وأكسر ذراعي فرعون فيئن قدامه أنين الجريح..." (حز 20: 22-24). إذ يمسك الشرير أسلحته يحطم الله ذراعيه فتنهار قوته ويخسر سلاحه، ويبقى الله نفسه سندًا لأبراره، يحملونه فيهم كذراعين للعمل المستمر لحساب مملكته. 5. طرق الأبرار معروفة لدى الرب: "يعرف الرب طريق الذين لا عيب فيهم، ويكون ميراثهم إلى الأبد" [18]. كما سبق فقلنا أن كلمة "يعرف" تعني العلاقة الوطيدة بين الله ومؤمنيه. يعرف طريقهم، لأنه هو "الطريق"، يحملهم فيه فيصيروا بلا عيب، فيهم برّ المسيح. ويقدم نفسه مكافأة أبدية وميراثًا لهم. قال السيد المسيح عن أسقف (ملاك) كنيسة سميرنا المتألم. "أنا أعرف أعمالك وضيقتك وفقرك، مع أنك غني... لا تخف البتة مما أنت عتيد أن تتألم به. هوذا إبليس مزمع أن يلقي بعضًا منكم في السجن... كن أمينًا إلى الموت فأعطيك إكليل الحياة" (رؤ 2: 9-10). أنه يعرف أعمال محبته، ويعرف أن أيام ضيق تنتظره، لكنه لا يتركه بل يُعدّ له إكليل الحياة. هذا ما عناه أيضًا المرتل، إذ قال: "لا يخزون في زمان السوء، وفي أيام الجوع يشبعون" [19]. زمان السوء قادم وأيام الجوع ستحل، لكن لا يفقد المؤمنون رجاءهم، ولا يحل بهم الخزي، ولا يكونون في جوع داخلي، بل بالرب يشبعون. يقول الرسول بولس: "بل نفتخر في الضيقات، عالمين أن الضيق ينشئ صبرًا، والصبر تزكية، والتزكية رجاءً، والرجاء لا يخزى" (رو 5: 3-4). هذا الرجاء هو عطية الروح القدس المنسكب في قلوبنا (رو 5: 5)، يسندنا في وادي الدموع حتى نجتازه ونعبر إلى أورشليم العليا. 6. هلاك أعداء الله كالدخان: "لأن الخطاة يهلكون؛ وأعداء الرب إذ يُمجدون ويرتفعون يفنون فناءً. مثل الدخان إذا فنى" [20]. جاء النص العبراني، "كهباء المراعي فنوا، كالدخان فنوا". ربما يقصد بهذا أن العدو يدخل إلى المرعى - كنيسة المسيح - كأسد ليفترس، أو كلص في جراءة يذبح الخراف السمان ويشويها ليأكل، فماذا يحدث؟ تخرج من الذبيحة دخانًا سميكًا يَرتفع في تشامخ إلى فوق، وتتسع بقعته جدًا ليفنى ويضمحل. يشتمّ الله الذبيحة رائحة سرور من المظلومين بينما يصير الظالمون كالدخان المتشامخ الذي يفنى. * آنذاك، في اليوم الأخير، سيهلك أعداء الله، هم والموت والشيطان والأرواح الشريرة، لذا يليق بنا ألا نغتم لازدهار أعداء الله؛ لأنه في لحظة يسقط مجدهم، أجل، كدخان يفنون. إذا ما رأيت عدوًا ثريًا مدججًا بأسلحته يتبعه كثير من المنافقين لا يصيبك الإحباط بل ارثِ له، ونح عليه، واصرخ إلى الله لكي ينتشله مع أصحابه. وكلما ازدادت عداوته لله فليزدد نوحكم عليه، فأننا نبكي على الخطاة الهالكين من البشر، خاصة إن كانوا يمتلكون ثروات وينعمون بأيام طيبة، فإنهم مرضى يأكلون ويشربون للتخمة![724]. القديس يوحنا الذهبي الفم 3. نهاية الأبرار والأشرار: 1. عجز الأشرار عن الإيفاء بديونهم وقدره الأبرار على العطاء. إن كان الأشرار يبذلون كل الجهد ليسلبوا الأبرار ممتلكاتهم ويحرمونهم حقوقهم بل يطلبون أنفسهم، إذا بهم حتى في هذا العالم يفقدون بركة الرب في حياتهم يقترضون ولا يقدرون على الإيفاء، بينما تملأ بركة الرب حياة الأبرار ليعطوا بسخاء وفرج. الاقتراض هنا لا يقف عند الأمور المادية وإنما بالأكثر الاحتياجات النفسية، فالشرير قد يكون غنيًا بماله لكنه بائس، يشعر بفقر داخلي ومذلة وحرمان، ينقصه الحب والفرح والسلام... يتوسل لكل أحد ليهبه كلمة حب صادقة أو يبعث فيه سلامًا.... أما البار فحتى في لحظات استشهاده يسكب على كل من حوله فرحًا وبهجة قلب، فتتحول أيام استشهادهم إلى أعياد مفرحة! "يستقرض الخاطئ ولا يفي. أما الصديق فيتراءف ويعطي" [21]. اقترض الشرير من الله نعمة الوجود، ونال منه بركات العاطفة والعقل والدوافع والجسد... وعوض أن يستخدمها لحساب ملكوت الله كآلات برّ لله يجعلها آلات إثم للخطية (رو 6: 13). أنه يقترض ولا يفي بل يقاوم دائنه، أما الصديق فيحمل طبيعة مخلصه، إذ يتراءف ويعطي حتى ذاته لأجل خلاص اخوته. الشرير تحل به اللعنة فيهلك، والصديق يرث أرض الموعد، كنيسة العهد الجديد بثرواتها الروحية. إحدى البركات التي وُعد بها المؤمنون الطائعون للوصية في العهد القديم قدرتهم أن يُقرضوا الغير وعدم احتياجهم أن يقترضوا من أحد (تث 15: 2؛ إش 24: 20). إحدى اللعنات التي تقع على مقاومي الله أن يضطروا على الاقتراض مع عجزهم عن إقراض الآخرين (تث 28: 44). رذائل الأشرار وعدم تقواهم وتهورهم تدخل بهم إلى حالة عوز[725]. * إنه يأخذ (يقترض) ولا يوفي؛ فما الذي يرده؟ الشكر! أنه لا يفي الله الذي نال منه (العطايا) شكرًا، بل على النقيض إذ يرد له الخير شرًا وتجديفًا وتذمرًا وجحودًا... أما الآخر (الصديق) فيُظهر رحمة ويُقرض، طرقه سخية؛ لكن ماذا لو كان فقيرًا؟ حتى وإن كان فقيرًا فهو غني... ليس لديه ثروة من خارج لكنه يملك الرأفة في داخله. القديس أغسطينوس "والذين يباركونه يرثون الأرض. والذين يلعنونه يُبادون" [22]. يبدو كأن الأبرار لا يملكون شيئًا مع أنهم يملكون كل شيء ويُغنون الكثيرين، وكما يقول الرسول بولس: "كفقراء ونحن نُغني كثيرين؛ كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (2 كو 6: 10)، إذ يملكون نعمة الله وبركته. يمتلئ الأشرار جشعًا وظلمًا، ونهايتهم أنهم ينالون اللعنة ويبادون، بينما يُعرف الأبرار بالسخاء والرأفة فيمتلئون ويرثون الأرض. * إنهم يملكون البار (الله)، البار الحقيقي وحده الذي يبرر، هذا الذي كان فقيرًا على الأرض ومع ذلك جاء بهبات سخية عظيمة ليغني كل الذين وجدهم فقراء معوزين. أنه ذاك الذي يهب الروح القدس لقلوب المساكين، ويطهر النفوس باعترافها بالخطايا، ويملأها بكنوز البر. إنه ذاك الذي استطاع أن يُصيّر صياد السمك غنيًا بتركه شباكه جانبًا غير مهتمٍ بما يملكه ليضع قلبه على ما لا يملكه (الخدمة). القديس أغسطينوس الشهيد كبريانوس "من قبل الرب تعتدل خطوات الإنسان، ويهون طريقه، وإذا سقط لا يضطرب، لأن الرب يسند يده" [23-24]. لله خطة في حياة كل إنسان شخصيًا، سواء كان كاهنًا أو راهبًا أو من الشعب؛ شيخًا أو شابًا أو طفلًا، رجلًا أو امرأة. كل نفس لها تقديرها ورسالتها الخاصة في عيني الله. وهو كآب لا يأتمن أحدًا غيره على تحقيق هذه الرسالة، حقًا يستخدم ملائكته خدامًا للعتيدين أن يرثوا الأرض، وأنبياءه ورسله وخدامه بل والطبيعة ذاتها، لكنه يبقى هو المخلّص الحقيقي لهم، يقدم لهم ذاته طريقًا. * لا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا رئيس آباء ولا نبي ائتمنته على خلاصنا، بل أنت بغير استحالة تجسدت وتأنست وشابهتنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها، وصرت لنا وسيطًا مع الآب. وصالحت الأرضيين مع السمائيين، وجعلت الاثنين واحدًا[727]. (قداس) القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس * لكي يهوى الإنسان طريق الله، يوجه الرب نفسه خطواته، لأنه إن لم يوجه الرب خطوات الشر يضلون حتمًا في طريق الخطية، إذ هذه هي طبيعتهم؛ وإذ يضلون طويلًا في طريق معوجة يصير الرجوع بالنسبة لهم (بدونه) مستحيلًا. القديس أغسطينوس في الطريق قد يسمح لهم بالسقوط لكي يكتشفوا ضعفهم، ويدركوا حاجتهم إلى قيادة روحه القدوس ومساندة نعمة الله لهم. يسقطون لكنهم لا يتحطمون، فإن عينيه تنظران إليهم، ويديه تمتدان لتنشلنا إن صرخنا إليه. يقول الرسول يعقوب "لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعًا" (يع 3: 2). هذه العثرات لا تجعلنا ننهار بل أن نرفع أعيننا دومًا لله القادر أن يقيمنا! يرى البعض أن السقوط هنا لا يعني السقوط في الخطية بل السقوط في المتاعب، فإن الله في كل الأحوال لا يترك مؤمنيه أبدًا ينهارون. 4. اختبار الأبرار نعمة الله: "كنت شابًا وقد شخت، ولم أرَ صديقًا قط مِن الرب مرفوضًا، ولا ذريته تلتمس خبزًا. النهار كله يرحم ويقرض، وزرعه يكون مباركًا" [25-26]. إذ يتحدث المرتل عن بركات الله التي تحل بالبار المملوء حبًا ورأفة وضياع الشرير الظالم، ربما يُسأل: هل حديثك هذا عملي وواقعي؟ لذا يجيب بأنه منذ صباه حتى شيخوخته لم يجد صديقًا أو بارًا واحدًا قد تخلى الله عنه أو رفضه، إنما يقف دائمًا بجانبه، بل وبجانب ذريته أيضًا. ربما يسمح الله أحيانًا إن يجوع بعض الأتقياء أو أولادهم، أو يعيشوا في عوز، لكنهم لن يتركهم إلى النهاية. يسمح بآلامهم لكنه لا يتخلى عنهم في تجاربهم، بل يبقى معهم، يحمل معهم أتعابهم وينجيهم، بل ويمنحهم نفسه شعبًا وغنى لهم. * لن يسمح الرب قط أن تهلك نفس بارة جوعًا، إذ يقول المرتل: "كنت شابًا وقد شخت، ولم أرَ صديقًا قد تخلى عنه ولا ذريته تلتمس خبزًا". إيليا كان يقتات بخدمة الغربان، وبأرملة صرفة صيدا التي توقعت موتها مع ابنها في ذات الليلة التي قضتها، فقد قدمت طعامًا للنبي إيليا ولم تعد طعامًا لنفسها. * محبة المال أصل كل الشرور. يتحدث الرسول عن الطمع بكونه عبادة أوثان (كو 3: 5). "اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم" (مت 6: 33). لن يسمح الرب أن يموت بار جوعًا؟![728] القديس جيروم * ليكن (الله) هو صيّ أولادك؛ ليكن هو كفيلهم، ليكن هو حاميهم بجلاله الإلهي ضد كل الأضرار الزمنية... هذا هو الميراث الموضوع في أمان والمحفوظ تحت وصاية الله[729]. الشهيد كبريانوس يا من تهتم بالحري بأمورهم الزمنية وليس بممتلكاتهم السماوية، يا من تضعهم في وصاية الشيطان لا المسيح، تمارس خطيتين، وترتكب جريمة مزدوجة، وذلك بأنك لا تمد بنيك بعون الله أبيهم، وبتعليمهم أن يحبوا قنيتهم أكثر من المسيح[730]. الشهيد كبريانوس * جسد المسيح أي الكنيسة، مثل أي كائن بشري، كانت في بداية حياتها صغيرة كما ترون، والآن هي في نهاية العالم قد بلغت سن الكبر المثمر. فإن الكلمات: "حينئذ يكثرون في شيخوخة دسمة" (مو 92: 14) قيلت عن الكنيسة التي تزدهر بين الأمم كلها. حديثها كحديث إنسان واحد بخصوص صباه وتقدمه في السن الحالي، فإنها قد فحصت كل شيء، فإنها بالكتاب المقدس عرفت كل الزمان، وها هي تعلن في رفعة وتحذير: "والآن قد شخت، ولم أرَ صدّيقًا تُخلي عنه ولا ذريته تلتمس خبزًا". الخبز هو كلمة الله التي لا تُحْرَم منها قط شفتا البار (مت 4: 3-4). القديس أغسطينوس "حد عن الشر واصنع الخير واسكن إلى دهر الدهور" [27]. هذه هي الوصية السابعة حيث يلتزم البار ألا يحد عن الشر فحسب، وإنما يمارس العمل الإيجابي أي يصنع الخير، بمعنى يلتزم البار ألا يتشبه بالأشرار في ممارستهم للظلم وإنما يليق به أيضًا أن يسلك بروح الرب الصالح. هذه الوصية تحمل في ذاتها مكافأة، إذ يلحقها المرتل بالقول "واسكن في دهر الدهور"، وكأن الامتناع عن الشر وصنع الخير هو دخول إلى عربون الحياة الأبدية حيث لا يوجد إثم بل صلاح دائم. الشر يعطي لذة مؤقتة سرعان ما تزول، بل وتتحول إلى مرارة، أما الخير فيدخل بنا إلى تذوق المباهج الإلهية الأبدية. سبق لنا الحديث عن الجانبين: السلبي والإيجابي في حياة المؤمن التقي (مز 34: 13). * لا تظن أنك تصنع خيرًا إن كنت لا تسلب إنسانًا ثيابه. حقً إنك بهذا حِدت عن الشر، لكن يليق بك ألا تقف عند هذا الحد بلا ثمر؛ فالأعظم من عدم سلب ثياب إنسان هو أن تكسو عريانًا. القديس أغسطينوس الأب دوروثيؤوس "لأن الرب يحب الحكم ولا يهمل أصفياءه، يحفظهم إلى أبد الأبد" [28]. يحب الرب الحكم أو "الحق"، بكونه هو الحق، ويُسر بأن ينصف مظلوميه، يبقى أمينًا مع من أحبهم وأحبوه. قد يسمح لهم بالمتاعب إلى حين، إنما ليعلن رعايته لهم أبديًا. إنه يحفظهم إلى أبد الأبد، وكأنهم كنز السماء! * "لأن الرب يحب العدل ولا يهمل قديسيه". الوسيلة التي يتمم بها هذا هي أن حياة القديسين مخبأة فيه، فبينما الآن يتعبون ويكدّون على الأرض، يشبهون الأشجار التي تراها في الشتاء بلا ثمار ولا أوراق، لكن حينذاك يشرق أمامهم كشمس جديدة، فتظهر الحيوية التي تكمن في الجذور في ثمارهم... قد تحتقرون قديسًا حين يكون تحت التأديب، أنكم ترتجفون حين ترونه ملتحفًا بالكرامة. القديس أغسطينوس يجيب القديس أغسطينوس، قائلًا: [اصغِ إلى ما جاء بعد ذلك: "يحفظهم إلى أبد الأبد" [28]. إن كنتم ترغبون في أن يعيش (القديسون) بضع سنوات إضافية، فبهذا الافتراض لا يأخذ الله قديسيه. لكن الله لم يتخل علانية عن الثلاثة فتية، كما لم يتخل عن المكابيين سرًا. الأولون وُهبوا الحياة الزائلة (بالجسد) ليُخزوا غير المؤمنين، أما الآخرين فقد كللهم سرًا ليُدين ضلال المضطهدين]. 7. يرث الأبرار الأرض ويسكنون فيها أبديًا [29]. وقد سبق لنا الحديث عن هذه الأرض التي يرثها الصابرون منتظروا الرب والودعاء. 8. ينعم الأبرار بالحكمة السماوية: "فم الصديق يتلو الحكمة، ولسانه ينطق بالحكم. ناموس الله في قلبه، ولا تتعرقل خطواته" [30]. لم يسبق أن صادفتنا كلمة "الحكمة" في سفر المزامير من قبل، وهي تشير إلى معرفة الإرادة الإلهية والأمور المقدسة الصادرة عن كلمة الله، بسكنى روحه القدوس وخلال خبرة الشركة مع المخلص. عطية الله لأتقيائه أن يتمتعوا بالسيد المسيح عاملًا في فمهم وعلى لسانهم وفي قلوبهم وسلوكهم، إذ هو الحكمة التي يتلوها الصديق، وهو العدل (الحكم) الذي ينطق به لسانه، وهو ناموس الله المتجلي في قلبه وقائد خطواته. يليق بالمؤمن أن يجاهد بالنعمة الإلهية لكي ينعم بالشركة مع المسيح، وكما يقول القديس أغسطينوس: [الله معكم شريطة ألا يفارقكم كلمته]. وفي نفس الوقت يدرك أن تمتعه بالكلمة هو عطية مجانية يهبها الله لأحبائه المتجاوبين مع حبه. يركز سفر المزامير كثيرًا على الفم بكونه، أما أداة لإبليس الكذّاب وأبي الكذابين يقدم خلاله الخداع والغش والتجاديف، أو أداة الله يعلن خلاله حكمته وأسراره الفائقة. المؤمن التقي أشبه بقيثارة تعزف أسرار الله أوتارها القلب والفم والعمل! الكل يتناغم معًا في انسجام، ما ينطق به اللسان يتفق مع ما في القلب، ويتجاوب معه السلوك. 9. خطوات الصديق لا تتقلقل ولا تنحرف عن الطريق الملوكي: "ناموس الله في قلبه، ولا تتعرقل خطواته" [31]. سرّ التزامه بالطريق الملوكي حبه للوصية الإلهية من كل القلب، وطاعته لها في حياته العملية. الوصية بالنسبة له ليست ثقلًا وإنما سندًا له، تحفظه في الطريق الملوكي فلا تتعرقل خطواته. بها يتشبه بالله خالقه، وبها يدخل إلى الحضن الإلهي، بفضل روح الله القدوس الذي أوصى لنا بالكلمة والذي يسندنا لنعمل بها. 10. لا سلطان للشرير على الصديق: "يتفرس الخاطئ في الصديق، ويلتمس أن يقتله؛ والرب لا يبقيه في يديه. ولا يدحضه في الحكم إذا ما هو دانه" [32-33]. يبدو كأن الصديق دائمًا في قبضة الشرير، لكن الله لا يتركه هكذا. إنه يخلصه كما خلص داود من يد شاول، ومردخاي من يد هامان، وبطرس من قبضة هيرودس. وإن لم يكن ثمة مهرب من أيدي الأعداء لسببِ أو آخر في قصد الله، فإنه يفتح أبواب السماء ويأخذ قديسه إلى الفردوس كما فعل مع اسطفانوس وكل الشهداء. لقد ترك الآب ربنا يسوع كما في أيدي أعدائه، لكن لم يُبقه هكذا، إذ قال السيد المسيح لبيلاطس: "ليس لك سلطان عليَّ إن لم تكن قد أعطيت من فوق"، كما قال: "هذه ساعتكم وسلطان الظلمة" (يو 22: 53)؛ وكأن الظلمة قد نالت سلطانًا إلى ساعةٍ على السيد المسيح حتى يتم الخلاص بصلبه. ربما يشير المرتل هنا إلى الدينونة الأخيرة، حيث يتم القضاء ويصدر الحكم العادل كما حدث مع المرأتين المتنازعتين على طفل كل منهما تَدّعي أنها أمه. ففي وقت ما ظهر سليمان الحكيم كمن لا ينحاز لأي منهما، لكن في النهاية أمَّن حقوق الأم الحقيقية المحبة لطفلها وحَفَظها. هكذا قد يصمت الله إلى حين لسبب ما، لكنه في الوقت المعين يصدر الحكم[732]. * يُسلَّم الجسد في قبضة المضطهدين، لكن الله لا يترك تقيّه هناك، من الجسد الأسير يحضر (الله) النفس ظافرة... ما تحتاج إليه هو ألا تسقط فريسة خلال الشهوة في قبضة شريرة، لئلا برغباتك في الحياة الزمنية تسقط بين مخالب (الشهوة) ومن ثم تخسر الحياة الأبدية. القديس أغسطينوس 11. يرتفع الأبرار بالله وينحدر الأشرار أو يُستأصلون: الوصية الثامنة في هذا المزمور هي: "تمسك بالرب واحفظ طريقه، ويرفعك لترث الأرض وتعاين الخطاة إذ هم استأُصلوا" [34]. إذ نتمسك بالرب السماوي "يرفعنا" كما من المزبلة لنشاركه المجد الأبدي، بينما يُحرم الأشرار من هذه العطية إذ هم يُستأصلون بحرمانهم من الله مصدر حياتهم وانحدارهم مع إبليس أبيهم. 12. بعكس الأبرار يفتقر الأشرار إلى المجد الداخلي إذ يسعون نحو المجد الباطل: "رأيت المنافق يرتفع ويتعالى مثل أرز لبنان، وجزت فإذ ليس هو. التمسته فلم أجد مكانه" [35-36]. صار نبوخذنصَّر الملك العظيم كالحيوان مرذولًا ومطرودًا حتى تأدّب. ويرى المرتل في الأشرار أنهم يعبرون فلا يوجدون، وكأنهم أشبه بممثلين قاموا بدورهم على خشبة المسرح ثم نزلوا عنها فاختفى اسمهم وغناهم ومجدهم وسلطانهم. يتحدث أليفاز التيماني عن الغبي الشرير، فيقول "إني رأيت الغبي يتأصل وبغتة لَعَنتَ مربضه" (أي 5: 3). قيل أيضًا: "صوت رُعوب في أذنيه في ساعة سلام يأتيه المخرب..." (أي 51: 21). * التكبر والغرور والغطرسة والافتخار بعجرفة هذه كلها لا تنبع عن تعاليم المسيح الذي علمنا الاتضاع بل عن روح ضد المسيح الذي يوبخه الرب بالنبي القائل: "وأنت قلت في قلبك: أصعد إلى السموات، أرفع كرسيَّ فوق كواكب الله" (إش 14: 13-14) [733]. الشهيد كبريانوس القديس أمبروسيوس الأب أفراهات أنت هو بهجتي ونصرتي * ينتفخ الشرير بجناحه الزمني، ويتكئ على سلطانه وإمكانياته، أما أنا فأجد فيك يا إلهي بهجتي ونصرتي. * افتح عن عيني فأرى أرض الأحياء، وأتمتع بثرواتها الروحية. كنيستك هي أرض الأحياء، بيتك الروحي، وأنت هو غناها... أقتنيك في قلبي! * هب لي ألا أحسد الشرير لئلا أسقط في الخبث. أعطني حكمتك السماوية، فألتحف بوداعتك. علمني أن أثق فيك وأنتظر مكافأتك السماوية. |
||||
23 - 01 - 2014, 04:04 PM | رقم المشاركة : ( 39 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 38 - تفسير سفر المزامير مزمور التوبة الثالثهذا المزمور هو مرثاة شخصية، وأحد مزامير التوبة السبعة. كان داود النبي في ضيقة شديدة، وقد بلغت آلامه ذروتها. وقد أظهر المزمور أن أمورًا أربعة ثقَّلت من آلامه: أ. مرض خطير حاق به سيطر على كل اهتمام آخر في المزمور [5-8]. فقد خار جسد المرتل تمامًا وتمررت نفسه فيه. يظهر المرتل متألمًا ومنكسرًا، لا يعرف طعم الراحة، كأن حمى قد أصابته فخار قلبه وذبلت عيناه. ب. حرمانه من أصدقائه المقربين إليه جدًا [11-14؛ 19، 20]، فقد تخلوا عنه، متطلعين إليه كإنسان طريد. اعتقدوا أن الصحة والكرامة والغنى هذه كلها ثمار الأعمال الصالحة، كما أن المرض وفقدان السمعة والفقر ثمار الأعمال الشريرة (تث 32: 23الخ؛ أي 6: 4؛ 16: 12 الخ). ج. تعرض أيضًا إلى اضطهادات مارسها ضده أعداء خبثاء قاتلين [12، 19]؛ خضع لاتهاماتهم الباطلة في صمت [13 الخ]، واثقًا في رحمة الله له[736]. د. تألم بالأكثر بسبب شعوره بالخطية، حيث يعترف بها في صراحة أمام الله [4، 8]. أحس كأن إثمه قد ابتلعه [4، 5]، مع إحساسه بأن ما صنعه من خير قوبل بالشر [20 الخ]. على أي الأحوال رجع إلى الله وصرخ دون يأس، مترجيًا رأفات الله. لم يجد أمامه من يلجأ إليه لينال عونًا سوى الرب وحده القادر أن يُحطم أسباب غباوة الماضي والبؤس الحاضر وفاعليتهما[737]. استخدم اليهود الأسكينازيين Ashkenazi الذين يرجع أصلهم إلى أوربا الشرقية هذا المزمور في صلوات المساء في اليوم الثالث من الأسبوع. فإنه إذ يحل المساء يحل الشعور بالوحدة وتكتنفنا الشكوك، وإذ نُحاط بالظلام بصوت عوائه وكوابيسه نحتاج إلى هذا المزمور. يَصلُح هذا المزمور أن يكون صلاة تدخل بنا إلى خلوة خاصة مع الله، نشكو فيها أمراضنا الجسدية والروحية القاتلة، فننعم بالتمتع بقدس الأقداس. يقوم هيكل هذا المزمور على أساس أبجدي (22 آية)... يفسر البعض الآلام الواردة في المزمور على أنها تخص السيد المسيح. لذا يترنم بها الخورس الكنسي في الجمعة الكبيرة في الكنيسة الكاثوليكية. وقد جاء النص في بعض المخطوطات اليونانية "رفضوني أنا الحبيب كجثة مؤلمة" (راجع إش 14: 19) كتلميح عن المسيح المصلوب، أما النص القبطي ففي أكثر وضوح يقول "سمروا جسدي"[738]. العنوان: هذه الصرخة المملوءة ألمًا تشترك مع المزمور 70 في العنوان "للتذكير"؛ ربما يشير إلى "ذبيحة التذكار" (لا 2: 2، 9، 16؛ 5: 12، إش 66: 3). ربما كان التسبيح بهذا المزمور يصحبه تقديم ذبيحة. وقد اتسع العنوان في الترجوم الآرامي إلى "تقدمة تذكارية يومية". لما كان "التذكار" بالنسبة لله هو عمل، فالكلمة هنا تعني تقديم حالة ما أمام الله تصرخ طالبة معونته. بمعنى آخر إذ يشعر الإنسان بحاجته المستمرة لله معينه، خاصة وقت الشدة، يرفع قلبه بالصلاة ويقدم ذبائح حب ليعلن صرخاته الداخلية الممتزجة بالشكر والتسبيح من أجل خبرته السابقة في معاملات الله معه وإعلان قبوله إرادة الله الصالحة وانتظار خلاصه العامل بلا توقف في حياتنا. من أو ما هو الذي للتذكر؟ 1. وضع داود النبي هذا المزمور كتذكار لنفسه كما للغير، حتى لا ينسى سريعًا تأديب الرب له. لقد وضع تذكارات للتجارب التي مرّ بها. هكذا أيضًا فعل حزقيا الملك (إش 38)، كما لم ينس إرميا آلامه وبؤسه (مراثي 3: 20). 2. تذكر الله بالتسبيح بهذا المزمور. نحن أنفسنا تذكارات الله، علينا أن نذكَّره باحتياجاتنا وأحزاننا وما نحتاج إليه من عون. 3. جاء العنوان بحسب الترجمة السبعينية: "تذكر من أجل السبت"، فماذا يعني؟ تذكر المرتل الراحة الحقيقية، السبت الروحي. فبينما كان يُعاني من الأعداء المنظورين وغير المنظورين يعترف هنا بأنه لا يوجد سوى طريق واحد لبلوغ هذا السبت، وهو التوبة والاعتراف والثقة بالله. الإطار العام: 1. التوبة والاعتراف [1-4]. 2. مرض خطير [5-8]. 3. الرجوع إلى الله [9-15]. 4. الثقة في مواجهة الأعداء [16-22]. أدّبني بسهام حبك! 1. التوبة والاعتراف: "يا رب لا تبكتني بغضبك، ولا برجزك تؤدبني" [1]. نفس الكلمات الواردة في افتتاحية مزمور التوبة الأول (مز 6: 1)، ومع التشابه الشديد لكن الكلمات في النص العبري ليست متماثلة تمامًا. وكما سبق فقلنا في المزمور 6 إن المرتل لا يسأل الله ألا يبكته وإنما ألا يبكته بغضبه. فهو محتاج إلى توبيخ الله بعنايته الإلهية لا بسخطه. بسبب الخطية نخشى سخط الله وغضبه، لكن بتطلّعنا إلى أبوته الحانية نرى في تأديباته حبًا ورعاية: "يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تكره توبيخه؛ لأن الذي يحبه الرب يؤدبه وكأب بابن يُسر به" (أم 3: 11). اعترفوا بهذه الأمور أمام الله. اعترفوا أمام الديان عن خطاياكم في الصلاة؛ إن لم يكن باللسان فبالذاكرة، فتتأهلوا للرحمة[739]. القديس يوحنا الذهبي الفم وثقلت عليّ يدك" [2]. يشعر داود النبي أن آثامه قد طمت فوق رأسه، وأن سهام المعركة قد طعنت ضميره، انغرست فيه سريعًا، فأدرك أن يدّ الله القدوس تضغط عليه بالتأديب. ما هي سهام الله إلا تأديباته النابعة عن حبه لنا، تجرح لا لتهلك، بل لتفرز الحق عن الباطل، ولتلهب النفس نحو الحياة الجديدة المقدسة في الرب فتصير مجروحة حبًا (نش 2: 5؛ 5: 8). تُجرح قلوبنا بسهام الله لنختبر حياة التوبة من أعماق القلب ويتّقد حبنا لله مخلصنا. سهام الرب هي وعوده التي أعلنها في كتابه، أو هي كلمته التي تهب النفس يقظة ومعرفة صادقة للنفس ولله وقدرة على التوبة، بهذا تُجرح النفس فتتمتع بالسبت الحقيقي، أي الراحة في الرب. سهام الله أيضًا هي كلمة الله المتجسد الذي قد طُعن لأجلنا ففُتِح جنبه لندخل إلى أحشائه وندرك أسرار حبه. هو نفسه سهام الآب الذي لا يخطئ الهدف، بل ينغرس في القلب ليهبه جراحات الراحة القائمة على حب فائق لا يتوقف! إنه يد الآب الذي بتجسده وصلبه تمّكن مني؛ اقترب إليّ ودخل أعماقي، وصار رأسي، وصرت أنا فيه أتمتع بالشركة معه! وكأن المرتل يقول: فلتأدبني لكن أرسل سهامك، أي لينزل كلمة الله إلى عالمي، وليدخل إلى أعماقي، وليستلم قلبي وفكري وجسدي، وليتمكن مني تمامًا! ما الذي جعل السهام تنتشب به؟ العقوبة... ربما أيضًا آلام الذهن والجسد معًا التي يلزمنا أن نحتملها في هذه الحياة؛ هذه هي ما لقبها بالسهام. ذكر أيوب البار أيضًا هذه السهام حينما عانى من آلام عنيفة، معلنًا أن سهام الرب قد نشبت به (أي 6: 4). حقًا إننا عادة نعتبر السهام كلمات الله، ولكن يمكنه أن يشعر بثقل هذه الآلام حين تنشب به؟ كلمات الله وإن كانت السهام فهي تولد الحب لا الألم! أو هل لأنه لا يوجد حب بلا ألم (دُعيت سهامًا)؟ حينما نحب شيئًا ما لا نملكه نشعر بالحزن... هكذا تنطق عروس المسيح في شخص الكنيسة بهذه الكلمات في نشيد الأناشيد: "لأني مجروحة حبًا" (نش 2: 5؛ 5: 8)... لقد أحبت شيئًا لم تملكه بعد، لذا حزنت لأنها لم تقتنه بعد (بالكمال). إنها حزينة، فقد جُرحت؛ لكن هذا الجرح يدخل بها إلى كمال الصحة الحقيقية سريعًا. القديس أغسطينوس يعتبر أبناء الله أن يده تتمكن منهم أو تنزل عليهم بسبب خطاياهم، لأسباب عدة: أ. ليكشف لهم عن مدى مرارة الخطية. ب. ليحميهم بعنايته الإلهية حتى أثناء معاناتهم تأديباته. ج. ليمنحهم التوبة والرجوع إليه فيطلبون رب الجنود (إش 9: 3). يدّ الله كما قلنا هي سهامه، تشير من جانب إلى تأديباته الهادفة لخلاص أولاده، كما تشير إلى السيد المسيح الذي تمم الخلاص كما بيد الآب العاملة، لأنه والآب واحد. لقد أحب الآب العالم فبذل ابنه الوحيد الجنس، معلنًا بالصليب الحب الإلهي! إن كان الله يشتهي خلاص أولاده مستخدمًا كل وسيلة، فإن أولاده من جانبهم يدركون حبه، طالبين ألا يغضب عليهم بل ينزع عنهم خطاياهم التي نزعت عنهم سلامة حياتهم الداخلية، وحطمت عظامهم، أي قوتهم الداخلية. هذا ما عبّر عنه المرتل بقوله: "ليس شفاء يوجد لجسدي من وجه سخطك. ولا سلامة لعظامي من وجه خطاياي" [3]. بسبب خطاياه يحل غضب الله عليه ما لم تسنده المراحم الإلهية، فيفقد كل صحة جسده، يكون كمن أُصيب بمرض مهلك، وترتجف عظامه الداخلية، أي يهتز كل كيانه. لقد ضعف جدًا داود الجبار في قتاله وهو المعروف بشجاعته؛ هذا الذي لم يرعبه الأسد ولا الدب ولا جليات بكل أسلحته وهو صبي أعزل بلا سلاح... يقف وهو ملك في رعب شديد ترجفه خطيته؛ لقد فقد المرتل الحلو كل بهجة ونسى كل مجد ليواجه موتًا أبديًا محققًا! "لأن آثامي قد تعالت فوق رأسي، مثل حمل ثقيل قد ثقلت عليّ" [4]. يعبر المرتل عن كثرة خطاياه وثقلها التي ارتفعت فوق رأسه كحمل ثقيل أغرقته. لقد شعر بخطورتها ومرارتها إذ صارت تسحقه كحمل ثقيل يتجاوز قدرته. لقد أحنت رأسه إلى التراب عوض ارتفاعها إلى السماء، ونزلت به لتسحقه عوض تمتعه بالمجد، فصار محتاجًا إلى خلاص الله العجيب. ما من متغطرس إلا ذاك الإنسان الشرير الذي يرفع رأسه متشامخًا في الهواء، إنه متعجرف ومتكبر ذاك الذي يرفع رأسه ضد الله... ولأن الآثام رفعت رأسه عاليًا؛ كيف يعامله الله؟ "مثل حمل ثقيل قد ثقلت عليّ"... تعلو أحزانه على رأسه وتهبط آثامه على إكليله. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم 2. مرض خطير: نزلت عليه يد تأديب الرب وأصابه المرض بسبب خطيته، فلم يكن في جسده صحة، وصار ينوح طول النهار، وامتلأ تعبًا وتمزقًا، صار سقيم النفس والجسد، في مذلة، يشعر بضيق شديد[741]. "قد نتنت وقاحت جراحاتي من قبل جهالتي" [5]. هل تعلمون مقدار نتانة الخطية؟ اسمعوا النبي يقول: "قد نتنت وقاحت جراحاتي"[742]. ليست الخطية حملًا ثقيلًا فحسب بل ورائحتها نتنة... الغباوة هي علة كل شرورنا[743]. ليس شيء أكثر دنسًا، ليس أكثر نجاسة من الخطية[744]. ليس شيء أكثر نتانة من رائحة الخطية التي جعلت المرتل يقول: "قد نتنت وقاحت جراحاتي"[745]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب بفنوتيوس أعمالك الصالحة هي عطرك، لكنك إن أخطأت تفيح خطاياك رائحة حماقة[748]. العلامة أوريجانوس يسقط المتغطرس والغضوب ضحية أهوائهما وعواطفهما، وذلك بسبب افتقارهما للحكمة، إذ يقول النبي: "ليس شفاء يوجد لجسدي... قد نتنت وقاحت جراحاتي من قبل جهالتي" [3، 5]. موضحًا أن بداية كل الخطايا هي الجهالة. لهذا فالإنسان الفاضل الذي فيه مخافة الله هو أكثر فهمًا من غيره. وكما يقول الحكيم: "رأس الحكمة مخافة الرب" (أم 1: 7)[749]. القديس يوحنا الذهبي الفم واليوم كله أمشي عابسًا" [6]. من هو هذا الذي دخل إلى حالة شقاء وأحنت نفسه فيه ودخل إلى حالة العبوسة كل اليوم إلا السيد المسيح الذي لم يعرف خطية، وقد صار خطيةً لأجلنا. حمل نتانة خطايانا وقبل جراحاتنا في جسده، وها هو يدخل إلى الآلام وينحني حتى النهاية، إلى عار الصليب، كي يدخل بنا إلى راحته (سبته) الأبدي. أحنى العشار رأسه بسبب خطاياه فرفعه ذاك الذي انحنى بالصليب لأجله، رفع رأسه، بل ورفع كل كيانه ليشاركه بره ومجده! نحزن كل يوم في حياتنا على الأرض بسبب خطايانا، فنسمع ذاك الذي حمل أحزاننا يطوبنا، قائلًا: "طوبى للحزانى لأنهم يتعزون" (مت 5: 4). ربما أراد المرتل أن يعلن بأن تشامخ الإنسان يدفعه إلى الخطية التي تذله في أعماقه، فتنحني نفسه إلى التراب؛ هذا ويسمح الله بالتأديب ليكتشف هذه المذلة التي سببتها الخطية، فيرجع إلى مخلصه ويرفع رأسه في الرب. لماذا انحنى؟ لأنه كان قد ارتفع؛ فإنك إن اتضعت ترتفع، وإن تشامخت تنحني. يسهل على الله أن يجد ثقلًا يسحقك به؛ هذا الثقل هو خطاياك التي تعلو فوق رأسك فتنحني إلى الأرض... لكن ماذا تعني: "إلى الانقضاء"؟ أي إلى الموت! القديس أغسطينوس وليس يوجد لجسدي شفاءّ" [7]. أصابت الخطية نفسه، وحطمت حتى جسده، فإنها تحرم الإنسان بكليته من التمتع بالمجد الأبدي! قد ينعم الأشرار بالصحة لكن إلى حين، وأما المؤمن التقي فيتمتع بالجسد الروحاني الذي بلا هوان المجيد أبديًا. الآن إذ اكتشف المرتل ثمار الخطية بدأ قلبه يئن بسبب ما حلّ به وما أوشك أن يسقط فيه أبديًا، وتحولت أنّاته إلى صرخات توبة صادرة عن القلب، إذ يقول: "تعبت واتضعت جدًا، وكنت أئن من تنهد قلبي" [8]. غالبًا ما تسمعون عبيد الله يقطعون صلاتهم بالأنّات والتنهدات، ويتعجب الناس قائلين، لماذا؟ ليس ثمة شيء ظاهر إلاّ أنين خدام الله الذي يبلغ مسامع من بجوارهم في الصلاة. توجد أيضًا تنهدات داخلية لا تسمعها الآذان البشرية ولا تلتقطها... ينوح إنسان ما لفقدانه ابنه أو زوجته... وآخر لأن كرمه أفسده البَردَ... إنهم يصرخون بنواح بأنات جسدية، أما عبد الرب فيصرخ لأنه يتذكر السبت حيث ملكوت الله الذي لا يرثه جسد ولا دم (1 كو 15: 5)، فيقول: "كنت أئن من تنهد قلبي". القديس أغسطينوس الأب قيصريوس أسقف آرل 3. الرجوع إلى الله: "أمامك هي كل شهوتي، وتنهدي عنك لم يخفَ" [9]. هنا الاستغاثة إلى الله كلي المعرفة، الذي يسمع التنهدات الخفية. الله هو الطبيب القادر وحده أن يسمع ويرى الخفيات، يرى المرض الدفين، وقادر أن يشفي النفس والجسد. إن كان الإنسان قد انكسر قلبه بسبب الخطية يتقدم الرب نفسه إليه كطبيب ومخلّص! ضع تأوهاتك أمام الله، والآب الذي يرى في الخفاء هو يجازيك (مت 6: 6). تأوهاتك هذه هي صلاتك، إن كانت تنهداتك مستمرة فصلاتك دائمة أيضًا، إذ لم يقل الرسول من فراغ: "صلوا بلا انقطاع" (1 تس 5: 17). هل نستطيع أن نحني ركبنا بلا انقطاع"؟ ونسجد بأجسادنا؟ أو نرفع أيدينا حتى يقول: "صلوا بلا انقطاع"؟ كلا...! توجد طريقة أخرى للصلاة الداخلية التي بلا توقف هي التنهدات... إن كنتم تشتاقون إلى السبت (الراحة) لا تكفوا عن الصلاة... "تنهدي عنك لم يَخفَ" إن كان التنهد داخليًا على الدوام، هكذا أيضًا الأنين، فأنه لا يبلغ دائمًا إلى آذان الناس لكنه لا يغيب عن أذني الله. القديس أغسطينوس الأب قيصريوس أسقف آرل ونور عيني لم يبقَ معي" [10]. إذ لا يعرف المرتل الرياء ولا النفاق، يشكو نفسه في إخلاص شديد، مُعلِنًا أنه لا يعاني مبدئيًا من أذّية صادرة عن الغير بل بالحري يُعاني من نفسه؛ خطيته هي التي تحطم قلبه فتفقده بصيرته الداخلية. لقد عانى من جسده، كما خفق قلبه الذي امتلأ بالاضطرابات والمتاعب، وفارقته قوته، وشاخت عيناه، أي فقد حياته وقوته واستنارته. صار محتاجًا أن يشرق عليه إلهه ليهبه الاستنارة من جديد. هذا الآب رأى، ذاك الساكن في الأعالي والناظر إلى المتواضعات (مز 113: 5-6)، "والكائنات يعرفها من بعد" (مز 138: 6). "رآه أبوه" (لو 15: 20)؛ نظره بطريقة بها يستطيع الابن أن يرى أباه. فقد أشرقت ملامح الأب على وجه الابن المقترب إليه بطريقة بددت كل الظلمة التي جلبها إثمه عليه. ظلام الليل ليس مثل الظلمة التي يجلبها عار الخطية. اسمع ما يقوله المرتل: "أدركتني آثامي ولم أستطع أن أبصر" (مز 40: 13). وفي موضع آخر يقول: "صارت آثامي حملًا ثقيلًا عليّ" يقول بعدها: "نور عيني لم يبق معي" [10]. هكذا يبتلع الليل نور النهار الذي مضى؛ وتُحطِّم الخطية قوة إدراكنا... من الواضح أنه ما لم يرسل الآب السماوي أشعته على وجه الابن الراجع، ما لم ينزع ضباب عاره بالنور النابع عن بهائه، لا يستطيع هذا الابن أن يرى وجه الله البهي[752]. الأب بطرس الخريولوجيوس وأقربائي وقفوا بعيدًا عني" [11]. تحول أصدقاؤه وجيرانه إلى أعداء، يقتربون إليه ليقفوا مقابله، بلا مشاعر صداقة أو وّد من نحوه إذ حسبوا أن الله ضدّه. طلبوا نفسه، ونصبوا له الفخاخ لهلاكه. أما أقرباؤه فوقفوا من بعيد لا يساندونه ضد مقاوميه الذين استخدموا كل طاقات عنفهم لتحطيمه. موقف مؤلم للغاية، لكنه مناسب لتدخل العناية الإلهية لمساندته[753]. من هم أجيران الذين دانوا منه؟ ومن هم (الأقرباء) الذين وقفوا بعيدًا عنه؟ كان اليهود هم جيرانه... اقتربوا إليه حتى حينما صلبوه. وكان الرسل أقرب المقربين إليه ومع ذلك وقفوا بعيدًا عنه خوفًا من التألم معه. يمكن أيضًا تفسير ذلك بطريقة أخرى: أصدقائي يعني الذين تظاهروا أنهم أصدقائي. قدّموا مظهر الصداقة عندما قالوا: "نعلم أنك صادق وتعلم طريق الله بالحق" (مت 22: 16)؛ حينما جرّبوه بخصوص دفع الجزية لقيصر فأقنعهم من خلال الكلمات التي نطقوا هم بها. لقد حرصوا أن يظهروا كأصدقاء له. القديس أغسطينوس يشكو داود النبي من خبث الأعداء الذين ربما انتهزوا اعتلال صحته وتعب نفسه فكانوا لا يطلبون أقل من نفسه؛ أي القضاء على حياته تمامًا، مستخدمين الأكاذيب والوشايات: "وأجهدني الذين يطلبون نفسي. والملتمسون لي السوء تكلموا بالأباطيل. وغشًا طول النهار درسوا" [12]. أمام هذه الأكاذيب وقف المرتل صامتًا؛ في حكمة الروح صمت لكي يحتفظ بهدوئه في مواجهة هذه العواصف. "أما أنا فكأصم لا يسمع، ومثل أخرس لا يفتح فاه" [13]. يا لها من مفارقة عجيبة بين ألسنة لا تكف عن الافتراءات والكذب [12]، وصمت وسكون [13]. إنها صورة رمزية لما حدث عند محاكمة السيد المسيح، الذي قيل عنه: "الذي لم يفعل خطية، ولا وُجد في فمه مكر؛ الذي إذ شُتم لم يكن يشتم عوضًا، وإذ تألم لم يكن يُهدّد بل كان يسلّم لمن يقضي بعدل" (1 بط 2: 22-23، إش 53: 7). لم يكن داود صامتًا على الدوام، وإنما إلى حين. لم يحجم عن الكلام تمامًا، لكنه أعتاد ألا يجاوب الأعداء الذين كانوا يثيرونه والأشرار الذين يغضبونه[754]. القديس أمبروسيوس بعد أشهر جاءت (الشياطين) مرتلة متفوهة بآيات كتابية: "لكنني كنت كأصم لا يسمع" (مز 37: 14). مرة أخرى هزت الدير كله، أما أنا فكنت أُصلي محافظًا على عقلي من التزعزع. بعد ذلك أتت مصفقة ومصفرة وراقصة[755]. البابا أثناسيوس الرسولي القديس يوحنا كاسيان 4. الثقة في مواجهة الأعداء: لقد أعطت خطيته الفرصة للأعداء أن يتهللوا، كما يتهلل العالم دومًا إذا ما فشل الأبرار وسقطوا في الخطايا، لكن بالتوبة واجه المرتل أعداءه لا بقدراته الذاتية، وإنما بإمكانيات الله. "لأني قلت لئلا تفرح بي أعدائي، وعند زلل قدميّ عظموا عليّ الكلام. أما أنا للسياط فمستعد، ووجعي مقابلي في كل حين" [16-17]. لقد صمت المرتل أمام أعدائه متشبهًا بسيده الذي قيل عنه: "كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه" (إش 53: 7)، لكنه لم يصمت أمام الله، إذ يترنم هكذا: "لأني قلت: لئلا تفرح بي أعدائي". بصمته وقف ينتظر عمل الله بروح الحكمة، هو صمت لكي ينطق الله، والآن يتحدث مع إلهه حتى لا يشمت به الأعداء ويتهللون لسقوطه، ويتعظمون عليه بالكلمات الجارحة والسخرية عند زلل قدميه، إنهم يترقبون انهياره كي يشهرّوا به ويعيروه (نح 6: 13)، لذا يلجأ إلى ذاك القادر أن يرفعه من السقوط. قدم المرتل صلواته وتوسلاته لا ليُرفع عنه الضيق إنما لتُغفر له خطاياه، فمن جهة الضيق يعلن أنه مستعد أن يحتمل السياط كمن هو تحت الحكم؛ ضعفاته أمام عينيه على الدوام: "ووجعي مقابلي في كل حين". يعلق القديس أغسطينوس على قوله: "أما أنا للسياط فمستعد" هكذا: [نطق بهذه الكلمات بمهابة عظيمة كما لو أراد القول: "لهذا وُلدت كي أُعاني من الجلدات]. إنه لا ينتظر تعييرات الأشرار إذ يعترف بخطاياه، قائلًا: "لأني أخبر بإثمي، وأهتم من أجل خطيئتي" [18]. هنا يظهر سبب ألمه، ليس سقوطه تحت العقاب، وإنما من جراء الجرح لا العلاج. فإن العقاب هو ترياق الخطية. يلزمكم أن تعترفوا بإثمكم (تعدي الناموس) فتغتمّون على خطاياكم. ماذا أعني باهتمامكم بالخطية؟ أن تهتموا بجرحكم. القديس أغسطينوس الأب بينوفيوس كثيرًا ما تحدثنا عن شجب آثامنا، أي كثيرًا ما نعترف بآثامنا. تأملوا إذن ما يعلمنا إياه الكتاب المقدس: ألا تبقى الخطية مخبِأة فينا. فما أن يتهم الإنسان نفسه ويعترف حتى يتقيأ خطأه ويضع في الحسبان علة مرضه كله. فقط احترسوا وتيقظوا بخصوص من تعترفون له بخطاياكم. اختبروا أولًا الطبيب الذي تكاشفونه علة مرضكم[758]. العلامة أوريجانوس "أعدائي أحياء وهم أشد مني" [19]. قوله أحياء ربما يعني أن عدو الخير وجنوده الروحيين قد بدأوا الحرب منذ الإنسان الأول ولازالوا يعلمون، حملوا خبرات لسنوات طويلة في حربهم ضد الإنسان، مع اتسامهم بالقوة والعنف... فأين أذهب منهم إلا إلى الله الحيّ معطي الحياة والقوة؟! لا علاج لمرضى الروحي ومضايقات الأعداء لي إلا الصلاة والالتجاء إلى الرب المخلص. "الذين جازوني عوض الخيرات شرورًا، محلوا بي (قاوموني) لأني كنت أُحاضر نحو العدل" [19]. عدو الخير شرير بطبعه يقابل حتى الخير بالشر، لأنه يبغض الحق، ولا يطيق الخير، لا عمل له إلا مقاومة من يتبع العدل والصلاح. يصرخ المرتل في موضع آخر، قائلًا: "وبدلًا من أن يحبوني سعوا بي، وأنا كنت أصلي، وقرروا عليّ شرورًا بدل الخيرات، وبغضًا بدل حبي" (مز 109: 4-5). هذا هو نصيب مُحب العدل، أن يكون موضع كراهية واضطهاد عدو الخير. وكما قيل عن قايين: "كما كان قايين من الشرير وذبح أخاه؛ ولماذا ذبحه؟ لأن أعماله كانت شريرة، وأعمال أخيه بارة" (1 يو 3: 12). ما يفعلونه بالأبرار إنما هو امتداد لما صنعوه بواهب الخيرات نفسه، محب البشر، إذ يقول المرتل على لسانه: "رفضوني أنا الحبيب مثل ميت مرذول، ومساميرًا جعلوا في جسدي" [20]. قدم حبًا فقدموا له رفضًا كميت مرذول، وعوض خيراته سمروا جسده على خشبة الصليب. الآن يتحدث المخلص المرفوض باسم كل مؤمنيه أعضاء جسده المشاركين له في آلامه، قائلًا: "لا تهملني يا ربي وإلهي، ولا تتباعد عني. التفت إلى معونتي يا رب خلاصي". من يلتصق بالمصلوب لا يعرف اليأس، إذ يرى الرب معين خلاصه، لا يهمله بل يلتفت إليه ليُقيمه. واضح أن المرتل لم يكن يائسًا وإلا ما كان قد استخدم العبارة الأخيرة في هذا المزمور، التي هي مجمل كل صلاته؛ بينما يطلب الأعداء نفسه، ويعيش في ضيقة عظيمة إذا بالله يستقبله ويقيمه من جديد. قد تبدو الظروف الظاهرة كلها ضدنا، لكن الله قادر أن يغيَّر ما هو ظاهر[759]. أدّبني بسهام حبك! إلهي لقد جَرَحَتْنِي سهام الخطية، قاحت جراحاتي الداخلية، فسد جسدي وانهارت نفسي، انحنت نفسي حتى التراب أظلمت بصيرتي فلم أقدر بعد على معاينة جلالك! أدِّبني يا رب بسهام حبك، ليخترق ابنك الحبيب قلبي كالسهام الناري! جراحات حبك تشفي جراحات خطاياي! سهامك تحطم سهام آثامي! لتستمع يا رب إلى تنهدات قلبي! لتُنِر يا رب عينيّ! لتدخل إلى حياتي، فقد تركني الأحباء وقاومني الأعداء! أنت حبي، أنت مقدّسي، أنت نور عينيَّ، أنت القريب إليّ وصديقي الحميم، أنت مخلص نفسي وجسدي أيضًا! |
||||
23 - 01 - 2014, 04:11 PM | رقم المشاركة : ( 40 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 39 - تفسير سفر المزامير الأحداث والزمنمرثاة شخصية ينشدها إنسان متألم في مستهل حياته، يشعر بثقل الخطية إنه يقف في صمت يتأمل بطلان الحياة الزمنية، مشتاقًا أن يثب قافزًا فوق الزمنيات ليتهيأ للخروج من أرض غربته ليحيا مع الله مخلصه ومقدسه. يعتقد ثيؤدورت وآخرون أن كُتب بمناسبة تمرد أبشالوم، حيث أدرك داود الملك زوال المجد الزمني وتعرض الإنسان لنكبات لم تكن في مخيلته. ألزم داود نفسه ألا يتذمر ولا يشتكي أمام أعدائه، بل يفضي بكل هواجسه عن زوال الحياة البشرية وبطلانها أمام الله وحده، إنه غريب على الأرض، أشبه بضيف ينتظر الاستقرار في الأمجاد الأبدية. السؤال المتقد في هذا المزمور هو: لماذا يؤدب الله مخلوقًا ضعيفًا وزائلًا كالإنسان؟ تستخدم الكنيسة الإنجليزية الآيات [4-13] في خدمة دفن الموتى[760]. العنوان: "لإمام المغنين ليدوثون، مزمور لداود"؛ وجاء في النسخة السبعينية: "لداود في الانتهاء وعلى يديثون وتسبحة". سبق التعليق في مزامير سابقة عن مثل هذا العنوان عدا كلمة "يدوثون Iduthun أو Jedithun". يرى البعض أنه ليس من دليل كافٍ إنه إيثان المعروف بحكمته (1 مل 4: 31). أقام داود النبي يدثون وآساف وهيمان قادة لخدمة التسبيح (1 أي 16: 41-42؛ 25: 1-6؛ 2 أي 5: 12؛ 35: 15). وقد خلفه أبناؤه في هذه الخدمة حتى وقت متأخر في أيام نحميا، وهذه بركة خاصة أن يتلمذ القائد أبناءًا له - سواء لهم قرابة جسدية أم لا - يمارسون ذات العمل لحساب ملكوت الله. سلم النبي داود هذه المرثاة الشخصية ليدوثون ليقوم بتلحينها، كما لحَّن مرثاة أخرى لآساف (مز 77). يرى القديس أغسطينوس أن اسم "يدثون" يناسب المزمور؛ ففي رأيه يعني "التخطي overleaping"، ويرى بعض الدارسين أنه يعني "يلقي (بحجر...)[761]". * من هو هذا الشخص الذي يتخطاهم؟ أو من هم هؤلاء الذين يتخطاهم...؟ إذ يوجد أشخاص ملتصقين بالأرض، ينحنون نحو التراب، ويضعون قلوبهم في الأمور الدنيا، ويكمن رجاؤهم في أشياء زائلة، هؤلاء هم الذين يتجاوزهم (أو يتخطاهم المرتل واثبًا فوقهم)... * ليت يدوثون هذا يأتي إلينا؛ ليته يثب فوق الذين يجدون بهجتهم في الأمور الدنيا، وليتهلل بكلمة الرب ويبتهج بناموس العلي. القديس أغسطينوس 1. ضعف الإنسان وزواله كأن المزمور ينقسم إلى قسمين رئيسيين هما: اكتشاف الإنسان بطلان الحياة الزمنية خارج الله، وأنه لا ملجأ للإنسان الضعيف في غربته إلا الله نفسه.[1-6]. أولًا: الصمت الحكيم [1-3]. ثانيًا: زوال الحياة البشرية [4-6]. 2. الصلاة ومحاسبة النفس [7-13]. أولًا: صلاة من أجل النجاة [7-11]. ثانيًا: توسل لأجل استجابة الصلاة [12-13]. دربني كيف أتخطى الأحداث 1. ضعف الإنسان وزواله: أولًا: الصمت الحكيم: "قلت: إني احفظ طريقي لئلا أخطئ بلساني. وضعت على فمي حافظًا، إذ وقف الخاطئ تجاهي" [1]. يرى القديس أمبروسيوس أن المرتل قال في نفسه أي تحدث مع نفسه حينما صمت مع الأشرار؛ وكأن الصمت الداخلي في حضرة الأشرار يلزم أن يصحبه حديث سرّي مع النفس في حضرة الله، أو حوار مع الله نفسه. *يعلمنا داود النبي أنه ينبغي علينا أن نتجول كثيرًا في قلوبنا في بيت فسيح، وأن نتجاذب الحديث معها كما مع صديق موثوق فيه. لقد تحدث (المرتل) مع نفسه كما توضح الكلمات: "قلت: إني احفظ طريقي" [1]. أما سليمان ابنه فقال: "اشرب مياهًا من جنبك، ومياهًا جارية من بئرك" (أم 5: 15)، أي اتبع مشورتك الشخصية (النابعة عن تفكير داخلي)، لأن: "المشورة في قلب الرجل مياه عميقة وذو الفطنة يسقيها" (أم 20: 5)[762]. القديس أمبروسيوس لقد وضع داود النبي ألا يتهم أعداءه أما الأشرار، ولا حتى أن يبرئ نفسه، أو ينطق بارآئه التقوية. إنه يصمت أمامهم ليتكلم مع الله القادر أن يكشف له عن زوال الحياة الزمنية، وعن تدخله لتحقيق عدله الإلهي في الوقت المناسب. كثيرًا ما يتحدث المرتل عن اللسان وخطورته. فإنه إذ انزلق اللسان ينزلق معه الجسد كله وتنحرف قدماه عن الطريق الملوكي. لهذا يقول المرتل: "قلت إني أحفظ طريقي لئلا أخطئ بلساني". يقول القديس بطرس: "لأن من أراد أن يحب الحياة ويرى أيامًا صالحة فليكفف لسانه عن الشر وشفتيه أن تتكلما بالمكر" (1 بط 3: 10). * ليس بدون سبب اللسان موضوع في مكان رطب، وإنما لأنه عرضة للانزلاق. القديس أغسطينوس الأب قيصريوس أسقف آرل وسكتُّ عن الخير، فتجدد وجعي، وحمى قلبي في باطني. وفي هذيذي تتقد النار" [2-3]. * استمر داود كأبكم متضع؛ استمر صامتًا؛ فلم ينزعج حين دعوه رجل دماء (2 صم 16: 6 الخ)، إذ كان عالمًا برقته. لم تزعجه الاهانات إذ كان عارفًا بالتمام أعماله الصالحة. * مادم الإنسان يتمتع بضمير صالح يلزمه ألا ينزعج بالكلمات الزائفة، ولا أن يتأثر باساءات الغير بل بالحري بشهادة قلبه له[764]. القديس أمبروسيوس توقف المرتل عن الحديث مع العدو المقاوم له، لكنه صار يهَّذ في داخله فاتقد قلبه في صراع بين صمته كي لا يخطئ ولا يزداد الشرير شرًا، وبين حنين داخلي للشهادة لعمل الله الخلاصي وحبه لخلاص كل بشر. * لأن هذا الشخص الذي "يتخطى overleaping" يُعاني من صعوبة في مرحلة ما قد بلغها ويريد أن يتخطاها، لهذا يقول: صمت، التزمت بالصمت لأني خشيت أن أرتكب إثمًا، امتنعت عن أن أنطق بخير، وأدنت تصميمي على أن أصمت صمتًا وأسكت عن الخير... بقدر ما وجدت في الصمت راحة من حزنٍ ما، كان قد تحرك في داخلي من نحو أُولئك الذين قاموا بتفاهة كلماتي ونسبوا إليها خطأ، فتوقف هذا الحزن تمامًا، إلا أنني إذ سكتُّ عن الخير تحرك فيَّ وجعي من جديد، فبدأت أحزن بالأكثر لأنني أحجمت عن النطق بما كان يجدر بي قوله؛ حزنت أكثر من الحزن الذي كان لي قبلًا. القديس أغسطينوس ليس كل صمت يدخل بنا إلى اللقاء مع القائم من الأموات والتمتع بحديثه الناري، إنما الصمت الحكيم الحامل في الداخل حبًا حتى للمقاومين، وشوقًا صادقًا لخلاصهم، ولو كان ثمنه حياتنا الزمنية كلها. من يشارك السيد المسيح صمته العامل بالحب، صمت الصليب، يختبر قوة قيامته. ثانيًا: زوال الحياة البشرية: إذ صمت لسان المرتل عن أن ينطق بكلمة مع الشرير المقاوم له تكلم قلبه مع إلهه، ودخل في حوار حتى مع نفسه، فاكتشف وسط آلامه حقيقة الحياة البشرية، من جهة ضعفها وقصرها... هذه الحقيقة يعرفها كل بشر، لكن شتان بين المعرفة العقلانية البحتة وبين قبوله كإعلان إلهي فعّال في أعماقه الداخلية، لذا يصرخ المرتل، قائلًا: "عرفني يا رب نهايتي، وعدد أيامي كم هي، لكيما أعلم ماذا يعوزني" [4]. إن قدرًا كبيرًا من الحكمة يقوم على تذكر أن حياتنا على الأرض أشبه بالخيال، وأن أعظم الأعمال إن لم تهيئنا للعالم الأفضل الأبدي هي أدنى بكثير من اشتياقات الإنسان التقي. لذا كثيرًا ما يكرر الكتاب المقدس قصر الحياة الزمنية، فيقول الرسول بولس: "الوقت مقصر" (1 كو 7: 29) كحقيقة هامة تمس إيماننا الحيّ وكياننا الأبدي. هنا لا يطلب المرتل داود أن يعلن له الله عن زمان انتقاله بل أن يمنحه تذكرًا دائمًا ومعرفة وتقديرًا حسنًا لقصر أيام غربته ليصير إنسانًا أفضل وأكثر حكمة[765]. يرى القديس أمبروسيوس أن المرتل هنا يتعجل نهاية حياته الزمنية طالبًا نهاية الوعد الإلهي ليرى وضعه الأبدي، حين يقوم كل واحد في رتبته؛ المسيح باكورة، ثم الذين للمسيح في مجيئه (1 كو 15: 3) [766]. * "عرفني يا رب نهايتي"؛ فإننا لا نبقى هنا حيث التجارب والضيقات، إذ يلزمنا أن نحتمل أناسًا ينصتون إلينا ويقاوموننا لأتفه الأسباب. "عرفني نهايتي"، تلك التي لم أدركها بعد (الموت)، لا حقبة الحياة (الزمنية) التي هي بالفعل قدامي. * النهاية التي يتحدث عنها هي تلك التي ثبّت الرسول عينيه عليها في حقبة حياته، معترفًا بضعفه، مدركًا في نفسه التغيّر في الأمور التي رآها قبلًا (ربما يعني أنه مع كل نمو جديد في الروحيات يدرك النهاية بمنظار أعمق وأكثر جلاءً). يقول: "ليس لأني قد نلت أو صرت كاملًا، لكن أيها الأخوة أنا لست أحسب نفسي إني قد أدركت" (راجع في 3: 12-13). القديس أغسطينوس * ربما كانت المعرفة التي يُصلي لأجلها المرتل، قائلًا: "عرفني عدد أيامي كم هي؟" ضرورية جدًا، مع هذا فإنني أود أن تُستعلن لي أيضًا بدايتي[767]. القديس جيروم يرى القديس أغسطينوس أن المؤمن يُريد أن يعرف أيام حياته التي يعيشها في الرب، هذه التي تدخل به إلى اليوم الأبدي، حيث "نثبت فيه وهو فينا"، أما الأيام التي بلا شركة معه فقد ضاعت من عمرنا ولا تُحصى كحياة. الأيام التي نتحد فيها مع الله القائل عن نفسه إنه "أهيه الذي أهيه" (خر 3: 14) أي الكائن الذي هو كائن، هي أيام لها كيانها ومحسوبة في عينيه، ننمو فيها وننضج؛ أما الأيام التي نسقط فيها في الخطية فتحسب باطلة حيث نتحد مع فساد الخطية وبطلانها، تمر علينا وكأنها غير كائنة، بل وتفقدنا الأيام الحقيقة. * إنه يسأل بخصوص عدد أيامه كم هي؛ ولا يسأل عن أيام غيره موجودة... إذ هي موجودة وغير موجودة في نفس الوقت. لا نقدر أن نقول عنها إنها موجودة وهي غير مستمرة؛ ولا أن نقول إنها غير موجود إذ جاءت وعبرت. القديس أغسطينوس * لأنني بينما أنا أُجاهد هنا، فإن هذا هو ما يعوزني (الجهاد المستمر لأجل بلوغ النهاية). وطالما أنا في عوزٍ لا أدعو نفسي كاملًا. وما دامت لم أنله بعد فإنني أقول: "ليس إني قد نلت أو صرت كاملًا، ولكني... أسعى نحو الغرض لأجل جعالة الله العليا" (في 3: 12-14). هب لي أن أنالها كمكافأة لبلوغي نهاية السباق. هناك ثمة موضع للراحة، وفي موضع الراحة هذا ستوجد مدينة، حيث لا تغَرّب ولا نزاع ولا تجارب. عرفني إذًا "عدد أيامي ما هي لكيما أعلم ماذا يعوزني" فإنني مازالت أنا هنا، لئلا أفتخر بما أنا عليه فعلًا، حتى أوجد دائمًا فيه (في المسيح) ولا يكون لي بري الذاتي... القديس أغسطينوس يرى العلامة أوريجانوس أن أوضاعًا كثيرة عجيبة نشهدها في يوم الرب العظيم؛ بعض الشيوخ يظهرون كأطفال صغار، عدد أيام حياتهم الحقيقية قليلة إذ فقدوا الكثير بحرمانهم العملي من الشركة الحية مع المسيح، بينما نرى أطفالًا يظهرون كمتقدمي الأيام لتمتعهم بالشركة مع الرب. القديس يوحنا المعمدان كان متقدمًا في الأيام وهو بعد جنين في أحشاء أمه أليصابات إذ أشرق الرب عليه فنشهد له مرتكضًا بابتهاج في بطن القديسة أليصابات، بينما شيوخ اليهود فقدوا أيامهم إذ وهم حافظوا النبوات وعارفون بها حكموا على البار وأسلموه للموت! إذ صرخ المرتل داود إلى الله لكي يخبره ماذا يعوزه، صار يشكو له مرضه، ألا وهو أن أيامه صارت بالية، ودبَّت به الشيخوخة والبلاء. "هوذا قد جعلت أيامي بالية وقوامي كلا شيء أمامك" [5]. * لأن تلك الأيام هي أيام "قِدَم"، أما أنا فأتوق إلى أيام جديدة لا تشيخ أبدًا، لكي أقول: "الأشياء العتيقة قد مضت؛ هوذا الكل قد صار جديدًا" (2 كو 5: 17)، صار جديدًا بالفعل في الرجاء ثم في الواقع. اعلموا أن آدم قد "شاخ" فينا، وأن المسيح قد "تجدّد" في داخلنا. إنساننا الخارجي يفني والداخل يتجدد يومًا فيومًا (2 كو 4: 16). لذلك إذ نُثبّت أفكارنا على الخطية، وعلى الموت، وعلى الزمن الذي يباى سريعًا، وعلى الحزن والتعب والعمل، وعلى مراحل العمر المتعاقبة التي تعبر وتمضي تدريجيًا من الطفولة حتى الشيخوخة، أقول إذ نُثبّت أنظارنا على تملّك الأشياء نرى هنا "الإنسان العتيق"، اليوم الذي يشيخ، الأغنية التي عبر موعدها، العهد القديم. لكن إذ نلتفت نحو الإنسان الداخلي، إلى تلك الأمور التي تتجدد عوض التي تتغير، ونجد "الإنسان الجديد" و "اليوم الجديد" و "الأغنية الجديدة" و"العهد الجديد" وهذه "الجِدَّة" (في الحياة). لنحب مثل هذه (الجِدَّة) فلا نخاف الشيخوخة... مثل هذا الإنسان الذي يسعى نحو الأشياء الجديدة متخطيًا الأمور التي مضت يقول: "عرّفني يا رب نهايتي، وعدد أيامي كم هي، ليكما أعلم ماذا يعوزني" [4]. تأملوا كيف وهو ما يزال يسحب معه آدم يُسرع الخطى نحو المسيح. القديس أغسطينوس هكذا يكتشف المرتل أن أيامه بالية، وقوامه (جوهره) كلا شيء أمام الله [5]؛ كخيال يتمشى في العالم إلى حين، ليخرج منه ولا يعلم لمن يترك ما قد جمعه أو خزنه. "بل أن كل الأشياء باطلة، ولكل إنسان حيّ؛ لأنه بالشبه (كخيال) يسلك الإنسان. بل باطلًا يضطرب، يُخزن ولا يدري لمن يجمعه" [5-6]. * حقًا ماذا كان يقول قبلًا؟ أنظر فقد تخطيت أو وثبت على كل الأشياء المائتة الزائلة، واحتقرت الأمور الدنيا، ووطأت بقدمي كل الأرضيات، وحلّقت فوق حيث مباهج ناموس الرب. لقد طفت في تدبير الرب واشتقت إلى تلك "النهاية" التي هي ذاتها بلا نهاية. اشتقت إلى تلك الأيام التي لها كيان حقيقي ووجود صادق، إذ توجد أيام أخرى لا وجود حقيقي لها. هأنذا قد صرت واحدًا يثب فعلًا بقوة، مشتاقًا إلى الباقيات... لكن حقًا مادمت أنا في هذا العالم، إذ أحمل جسدًا مائتًا، وطالما أن حياة الإنسان على الأرض هي تعب ومشقة، مادُمت أتأوه وأئن من منغصات هذا الوجود، مادمت أنا هكذا فإنني كلما كنت قائمًا أخشى لئلا أسقط، وطالما خيري وشري في عدم يقين، فإنه إنما "كل إنسان حيّ كله باطل (خيال)". القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم * الثروات باطلة إذا ما اُنفقت على الرفاهية، لكنها تكف عن أن تكون باطلة إذا ما وُزعت على المعوزين[769]. القديس يوحنا الذهبي الفم أولًا: صلاة من أجل النجاة: تعتبر الصلاة الواردة هنا من أروع وأعمق الصلوات. فإنه إذ يكتشف الإنسان بطلان الحياة الزمنية مشتاقًا أن يتخطاها ليبلغ اليوم الذي بلا ليل، والواقع الذي لا خيال فيه، يضع كل رجائه في الرب القادر وحده أن يخلصه من العدو الداخلي أي الخطية أو فساد طبيعته ومن الأعداء الخارجيين كحربه مع إبليس والشر الخارجي بروح التقوى، معلنًا استعداده التام للخضوع لله الخالق والمخلص والطبيب، كي يُعالجه بكل الأدوية مهما بلغت مرارتها. "والآن من هو انتظاري؟ أليس الرب؟ وقوامي من قبله هو" [7]. الآن يضع يديثون - أي الذي يتخطى الزمن - رجاءه كله في الرب، فلا يحطمه الزمن وبطلان الحياة الأرضية، منتظرًا مجيء الرب الذي وضع فيه كل ثقته وكل حبه، يخدمه لا طمعًا في خيرات زمنية بل في واهب العطايا نفسه. * "والآن"، يقول يديثون هذا "من هو انتظاري؟ أليس الرب؟". هو انتظاري، ذاك الذي يهبتني كل شيء فأستخف به. يهبني ذاته، هذا الذي هو فوق الكل، الذي "به كل الأشياء قد خُلقت"، به أنا أيضًا قد خُلقت بين هذه الأشياء، والرب نفسه في انتظاري! هل رأيتم يديثون هذا أيها الإخوة؟ هل رأيتهم كيف ينتظر الرب؟ إذن لا يدعو أحد نفسه كاملًا هنا، وإلا يكون قد خدع نفسه وغشها وضللها ومادام لا يمكن أن يكون كاملًا ههنا، فماذا ينتفع الإنسان إن خسر اتضاعه؟ القديس أغسطينوس "طهرني من جميع آثامي، جعلتني عارًا للجاهل" [8]. يعترف المرتل أن خطيته جعلته موضع سخرية الجاهل وتوبيخه، لقد بكى متضرعًا لا أن يرد له كرامته أمام الجهلاء والأشرار إنما أن يُطهره من جميع آثامه حتى يعبر هذه الحياة الزمنية إلى القدوس في حياة طاهرة مقدسة في الرب. حقًا، لقد شعر المرتل في ضعفه البشري بمرارة التأديبات الإلهية فطلب أن ينزع عنه هذه السياط، لقد ثقلت يدّ الله عليه حتى شعر كأنه قد فنى. لقد صمت ولم يتكلم مع الجاهل المقاوم له، ليتحدث مع خالقه: "صممتُّ ولم أفتح فمي لأنك أنت صنعتني. انزع عني سياطك، لأني قد فنيت من قوة يدك". * لأحتمي من الجاهل صرت أبكمًا لم أفتح فمي، لأنه لمن أُخبر عما يجري في داخلي؟ فإنني أنصتُّ إلى قول الله الرب لي في داخلي، "فإنه يتحدث بالسلام مع شعبه" (مز 85: 8). القديس أغسطينوس تضرع القديس بولس ثلاث مرات لكي يرفع الله عنه شوكة المرض، فكانت الإجابة: "تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل" (2 كو 12: 9). وإذ اختبر الرسول نعمة الله وبركة الضيقات قال: "فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحلّ عليّ قوة المسيح، لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي" (2 كو 12: 9-10). "أدبت الإنسان بالتوبيخات من أجل الإثم، وأذبلت مثل العنكبوت نفسه. بل باطلًا اضطرب كل إنسان" [11]. ليُجددني ذاك الذي خلقني. ليُعد خلقتي من جديد... هذه هي أول هبة لنعمة الله، أن يجعلنا نعترف بتقصيرنا، حتى أننا مهماصنعنا من خير، ومهما توفرت لنا من قدرة، إنما يتحقق ذلك فينا: "من افتخر فليفتخر بالرب" (1 كو 1: 31)، و"حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي" (2 كو 12: 10). القديس أغسطينوس *حقًا "باطلًا اضطرب كل حيّ". لأن القلق من أجل هذه الأمور هو بحق أمور مزعج ومتعب للغاية. لكن ليس الأمر هكذا في المواضع السماوية. هنا إنسان يتعب وآخر يتمتع، أما هناك فينال كل واحد حصاد تعبه، ينال مكافأةً مضاعفة[770]. القديس يوحنا الذهبي الفم يختتم المرتل المزمور بتوسل إلى الله كي يستجيب صلاته السابقة، مقدمًا هذا التوسل مشفوعًا بدموعه التي لا تجف، وباعترافه بتغربه واشتياقه إلى اجتياز العالم كأرض غربة متمتعًا بغفران خطاياه. "استمع صلاتي وتضرعي، وانصت إلى دموعي ولا تسكت عني" [12]. بدأ الصلاة، وإذ تشتدت الضيقة امتلأ قلبه تنهدات فصرخات، وأخيرًا صارت دموعه تتحدث بلغة يعجز اللسان أن ينطق بها. "لأني أنا غريب على الأرض ومجتاز مثل جميع آبائي اغفر لي لكيما أستريح قبل أن أذهب فلا أُوجد أيضًا" [13]. * كان القديسون غرباء ونزلاء في هذا العالم... عاش إبراهيم في كل أموره ينتمي للمدينة الباقية. لقد أظهر كرمًا ومحبة أخوية ورحمة وطول أناة، وزهدًا في الثروة وفي المجد الزمني وفي كل شيء. * لنكن غرباء كي لا يخجل الله من أن يُدعى إلهنا، لأنه من الخزي لإلهنا أن يُدعى إله الأشرار! إنه يخجل من الأشرار، ويتمجد إذا ما دُعي إله الأبرار والرحماء والنامين في الفضيلة[771]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أمبروسيوس * حررني من خطاياي قبل أن أرحل حتى لا أذهب بآثامي. إنه يشير إلى مجال البركة، إلى المدينة السعيدة، إلى البيت السعيد، حيث القديسون شركاء الحياة الأبدية، شركاء الحق الذي لا يتغير.القديس أغسطينوس دربني كيف أتخطى الأحداث* علمني يا رب كيف أصمت أمام الجهال، فأتحدث معك في أعماقي! * أنت بحبك سيّجت حولي بالأشواك، وأقمت حائطًا في طريقي (هو 2: 6)، أغلقت الأبواب أمامي بالأشرار الذين يتهموني ظلمًا. لأرجع إليك وأعترف لك بآثامي! لأنسى الجهال الأشرار وأذكُر أنك بهم تؤدبني. * دربني كيف أتخطى الأحداث والزمن، أتخطى مضايقات الأشرار واتهاماتهم الباطلة، فلا أحاورهم ولا أبرئ نفسي أمامهم! أتخطى طبيعة الفساد فأحيا الحياة الجديدة المقامة، أغلب كل شهوة وأثب حتى على احتياجات الجسد. أتخطى الزمن والزمنيات فأُعاين السماء وربها! روحك القدوس هو وحده يحملني كما بجناحي حمامة، يرفعني فأطير ولا أتمرغ في حماة الخطية! نعمتك هي سندي! |
||||
|