الحب أسمى من اللغات البشرية
ما أصعب أن تعطي تعريفًا للحب، فهو في حقيقته أعمق من أن تعبر عنه لغة بشرية، ولا أن تترجمه مشاعر وعواطف، لكنه حقيقة مُعاشة تمس كل تصرفات الإنسان الظاهرة والخفية. يمكننا أن نقول بأن الحب هو انفتاح القلب واتساعه فلا يضيق بأحد ما ولا بشيء ما بل يحمل في داخله الله نفسه وكل خليقته، يتقبل بفرح كل بشر، مشتاقًا أن يقدم نفسه his self للغير دون ترقب لمكافأة. هو أمر قدسىّ، ثمرة اتحاد الإنسان مع الله "الحب" (1يو8:4) الذي يقدس النفس بكل طاقاتها والفكر بكل قدراته والجسد بأحاسيسه وغرائزه وعواطفه والإرادة الإنسانية، فيصير الإنسان بكليته لهيب حب لا ينطفئ.
أصر Leo Buscaglia أستاذ التعليم بجامعة كاليفورنيا على تدريس مادة "الحب" مفتتحًا فصلًا دعاه "فصل الحب Love Class" رغم سخرية البعض بذلك. وبعد ثلاث سنوات قرر أنه لم يستطع أن يجد تعريفًا، حاسبًا أن كل تعريف إنما يضع حدودًا للشيْ، أما الحب فبلا حدود. لقد أُعجب بكلمات أحد طلبته: (وجدت الحب مثل مرآة، حينما أحب آخر، يصير هو مرآتي وأنا مرآته، كل يعكس على الآخر الحب فنرى لا نهائية (2)). بمعنى آخر الحب أشبه بنور يضيء بين مرآتين متوازيتين كل تعكس النور على الأخرى لترى في كل مرآة عددًا غير محدود من مصدر النور (كالشمعة أو المصباح مثلًا).
يقول آخر: (الحب هو عمل عطاء النفس للغير).
إذن ما هو الحب؟ إن كنا نعجز عن تقديم تعريف له لكننا نقدم هنا بعض الجوانب التي تكشفه:
1- الحب... انفتاح للقلب بتدبير وحكمة
الحب هو انفتاح القلب واتساعه للغير، وحينما نقول "الغير" لا نعني شخصًا بعينه بل إن أمكن كل أحد، لأن القلب المفتوح يحمل طبيعة الحب من داخله ليفيض على الجميع، لكن بحكمة واتزان ولياقة. هذا ما يؤكده القديس أغسطينوس الذي عاش عشرات السنوات الأولى من حياته بقلب انحرف بالحب ليكون في صبوته قائدًا للصبيان في مغامرات السطو على حدائق جيرانه وفي شبابه سكب قلبه في شهوته ليعيش مع سيدة في النجاسة. لقد اختبر بعد ذلك عذوبة اتساع القلب بحكمة فقال بأن للحب تدبير أو نظام؛ حبنا لله من كل القلب والفكر والنفس والقدرة، وحب الوالدين من نوع آخر، الأبناء من نوع ثالث، والزوج أو الزوجة غير حب الأصدقاء والزملاء.
2- حب العَوز والحاجة
الحب هو تحرر من الذات ego. فالمحب هو من يستطيع ألا يتوقع حول الأنا لينحصر فيما لنفعه المادي أو الأدبي أو العاطفي، يطلب ما لِذاته تحت ستار الحب.
كثيرون يكشفون عن عواطفهم التي تبدو غاية في الرقة، ويبدو أنهم أسخياء في العطاء، لكنهم في الواقع يعملون لحساب الأنا ego،.أذكر على سبيل المثال الشاب الذي في غربته يشعر بالعزلة القاتلة فيلتقي بفتاة ويعلن حبه لها، مقدمًا لها العاطفة بفيض وينفق من ماله الكثير، لا لشيء إلا لأنه في عوز إلى من يحطم عزلته ويشبع فراغ نفسه الداخلي، مثل هذا أناني في عواطفه ومحبته، لهذا إن أقدم على الزواج منها سرعان ما تنكشف أعماقه وتشعر زوجته بأنانيته القاتلة، ويتحول الحب إلى خصام ونزاع، غالبًا ما ينتهي بتحطيم الأسرة.
هذا ما يتكرر كثيرًا بالنسبة للمراهقين، إذ يشعر المراهق أحيانًا أن أسرته تمثل سجنًا يريد الإفراج والهروب منه، فيلتقي بمن يحمل ذات المشاعر، ويظن الاثنان أنهما تلاقيا في دائرة الحب... لكنهما في الواقع تلاقيا في دائرة العوز والاحتياج، كُل يطلب أنه يجد في الآخر ما يعوضه عن مشاكله الأسرية، فيضيقان إلى مشاكلهما مشكلة جديدة حين يرتبطا بعواطف على أساس غير سليم.
3- الحب... رحلة داخلية لتقديم النفس
الحب هو رحلة الحياة كلها غايتها الدخول إلى النفس self ليتحقق الإنسان من حقيقة كيان النفس الداخلي core self، ويتعرف على رسالته، فلا يطلب شبعًا من الغير ولا يستعطف أحدًا ليملأ فراغه الداخلي بكلمة مديح أو عاطفة أو تقديم خدمة إلخ... وإنما يطلب أن يشبع في الداخل ليفيض هو على غيره. يقدم نفسه "self" his بحكمة ومعرفة، متشبهًا بمخلصه واهب ذاته لمحبوبيه.
4- الحب... سيمفونية الحياة
الحب هو تناغم الحياة الإنسانية معًا، فيتفق سلوك المرء الظاهري مع نبضات قلبه المقدس ورقة مشاعره المخلصة والتهاب عواطفه العميقة وجدية فكره والتزام إرادته بالعمل... بمعنى آخر، الحب يجعل من الإنسان قيثارة تحمل أوتارًا متباينة لتصدر سيمفونية حياة واحدة مسئولة وجادّة، متكاملة ونامية في كل الاتجاهات.
5- الحب... إستنارة إلهية
الحب هو عمل روح الله نفسه فينا، الذي وحده يستطيع أن يقودنا إلى أعماقنا، وينير بصائرنا الداخلية لنكتشف أنفسنا، ويجد كياننا، ويفتح قلوبنا للعطاء. فإن كان الله قد خلق الإنسان على مثاله لكي يحمل سمة الحب لكنه محتاج أن يتحد بالله الحب المطلق يفيض عليه هذه السمة في أعماقه وينميها ويحفظها من الانحراف، في هذا يقول الآباء:
+ الله محبة وينبوع كل حب، لذلك يقول يوحنا العظيم إن "المحبة من الله"، "الله محبة" (1يو7:4،8). لذلك جعل الخالق المحبة من سماتنا، قائلًا: "بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضًا لبعض" (يو35:13). فإن لم توجد المحبة فينا نكون قد غيرنا الخاتم الذي به نتشكل بشكل الله.
القديس غريغوريوس النزينزي (4)
+ من يود أن يتكلم عن الحب التزم أن يتكلم عن الله ذاته. فالمحبة المقدسة هي مشابهة الإنسان لله على قدر ما يستطيع البشر.
القديس يوحنا الدرجي (5)
بهذا يمكننا من جانب أن نميز بين الحب المتسع والعاطفة التي تقف عند مستوى المشاعر الإنسانية الوجدانية لمشاركة الغير في الآلام والأفراح، ومن جانب آخر بينه وبين الشهوة التي تحصر الإنسان في الأنا ليعيش للذته الخاصة، يعشقها تحت ستار الحب، فيقبر نفسه "self" في ملذات الشهوة والتدليل البعيد عن الحق والمعرفة والإلتزام الجاد.