29 - 01 - 2013, 09:03 AM | رقم المشاركة : ( 31 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب مريم العذراء للمطران كيرلس سليم بسترس
د) قداسة مريم العذراء في التصميم الإلهي وتاريخ الخلاص نودّ، في ختام كلامنا على قداسة مريم العذراء، أن نتجاوز النقاش المحدود بين الكاثوليك والأرثوذكس حول عقيدة "الحبل بلا دنس"، لننظر إلى الموضوع في مجمل التصميم الإلهي وتاريخ الخلاص. في هذه النظرة نخرج من حدود لاهوت محورُ تفكيره "الخطيئة الأصليّة"، بحيث لا يرى في الفداء إلاّ عمل خلاص من تلك الخطيئة، ويعتبر هذا الفداء قد تمّ في لحظة من الزمن يوم الجمعة العظيمة، فيروح يتساءل: كيف يمكن للعذراء أن يتحقّق فيها الفداء قبل صليب المسيح؟ التصميم الإلهي للإنسان يقول القدّيس بولس: "في المسيح اختارنا الله عن محبّة من قبل إنشاء العالم، لنكون قدّيسين، وبغير عيب أمامه. وسبق فحدّد، على حسب مرضاته، أن نكون له أبناء بيسوع المسيح" (أف 1: 4- 5). تصميم الله هذا الذي يدعو بولس "سرّ مشيئته" (أف 1: 9)، أي الذي يعبّر عن إرادة الله الأزليّة، قد تحقّق في الزمن في المسيح الإنسان، في عمق كيانه، موجّه نحو الله. ولن يحقّق ذاته إلاّ بالقداسة أي بالاتّحاد بالله. وهذا ما تعنيه صورة التبّني، كما جاء في قول بولس: "أن نكون له أبناء"، مضيفًا: "بيسوع المسيح" الذي هو ابن الله منذ الأزل، "المولود قبل كل خلق، الذي فيه خُلق جميع ما في السماوات وما على الأرض... الذي به وإليه خُلق كل شيء" (كو 1: 15- 16). إنّ صورة الإنسان الكامل المخلّص نجدها في شخص ابن الله الأزلي. وهدف التجسّد هو ظهور مجد ابن الله، حسب قول السيّد المسيح في صلاته الأخيرة قبل موته: "فالآن، أيّها الآب، مجّدني أنت عندك بالمجد الذي كان لي لديك من قبل كون العالم" (يو 17: 5)، وذلك في سبيل اشتراك الناس في هذا المجد. هدف التجسّد هو تأليه الإنسان. وهذا معنى الخلاص الذي يذكره قانون الإيمان هدفًا للتجسّد: "الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسّد...". هدف الخلق والخلاص "أن يكون الله كلاًّ في الكل" (1 كور 15: 28). اختيار مريم العذراء مريم العذراء هي جزء من هذا التصميم الإلهي. إنّها الباب الذي به دخل المسيح العالم. وقد رأت الكنيسة في تحيّة الملاك لها "ممتلئة نعمة" إشارة إلى أنّ تصميم الله قد تحقّق أوّلاً فيها. وتأكيد التراث الشرقي أنّها "المرأة المنزّهة كحوّاء قبل الخطيئة"، وإعلان الكنيسة الكاثوليكيّة "عصمتها من الخطيئة الأصليّة"، اعتراف بأنّ الله غير مقيّد بخطيئة الإنسان. فالتجسّد ليس محاولة يائسة قرّرها الله بعد خطيئة الإنسان، إنّما هو تصميم الله الأزلي وتعبير عن فيض جوده. وقداسة مريم العذراء تندرج في إطار جود الله وتنسجم مع تصميمه الذي أرادنا به "أن نكون قدّيسين وبغير عيب أمامه" (أف 1: 4). إنّ الفداء لم يتحقّق لمريم قبل الصليب، بل باختيار الله لها لتكون أمًّا لابنه. فالاختيار والتقديس هما عند الله عمل واحد ويتحقّقان معًا. إنّ الله اختار مريم، كما يقول قانون المدايح، "صدفة صبغت من دمائها أرجوانًا إلهيًّا لملك الأكوان" (الأوذية الرابعة، 3)، وأعدّها طاهرة ليسكن في أحشائها" (نشيد المدايح، البيت 19). لقد اتّخذ السيّد المسيح من أمّه الطاهرة إنسانيّة طاهرة مقدّسة، الإنسانية الحقيقيّة الموافقة لإرادة الله منذ الأزل. أمّا بشأن الخطيئة الأصليّة، فإذا كان اللاهوت المعاصر لا يرى فيها خطيئة رجل واحد اسمه آدم وامرأة اسمها حوّاء، بل خطيئة كلّ إنسان منذ الإنسان الأوّل، فالقول إنّ مريم حُبل بها معصومة عن الخطيئة الأصليّة لا يعني سوى أنّ مريم العذراء قد ملأها الله بنعمته وقدّسها بحيث يمكن القول إنّها تمثّل صورة الإنسان كما يريده الله منذ الأزل. وهذا ما أعلنته الكنيسة منذ القرون الأولى في الشرق كما في الغرب. وملء النعمة الذي نالته مريم العذراء لا ينفي تجاوب حرّيتها مع دعوة الله. فالنعمة لا تزيل الحرية. وهذا ما يقوله نقولاوس كاباسيلاس، وهو للاهوتي بيزنطي من القرن الرابع عشر، في عظة له حول البشارة: "لم يكن التجسّد عمل الآب وكلمته وروحه فقط، ولكنّه أيضاً فعل إرادة العذراء وإيمانها. لولا موافقة الكلّية الطهارة ولولا مؤازرة إيمانها، لكان هذا التدبير مستحيلاً بقدر استحالته لو لم يتدخّل الله نفسه في أقانيمه الثلاثة. فابن الله لم يتّخذها أمًّا له ولم يتّخذ منها الجسد الذي قدّمته له إلاّ بعد أن أعدّها لذلك وحصل على قبولها. وكما تجسّد هو بملء إرادته هكذا أراد أن تلده أمّه بحرّية وبملء إرادتها". ما يقوله كاباسيلاس عن موقف مريم العذراء في حدث البشارة يصحّ أيضاً بالنسبة إلى كلّ أحداث حياتها: إنّها مختارة، ولكنّها أيضاً مؤمنة. والإيمان لا وجود له دون وعي الإرادة والتزام الحرّية: وهذا ما يجعلها قريبة منّا في مسيرة إيماننا. وفي هذا الإطار يمكننا أن نفهم تفسير بعض الآباء، من أمثال باسيليوس الكبير ويوحنّا الذهبيّ الفم وغريغوريوس النزينزي وكيرلّس الإسكندري، "للسيف الذي جاز في نفس العذراء"، حسب نبوءة سمعان الشيخ (لو 1: 35)، بأنّه الشكّ الذي تملّكها، عند قدمي الصليب، بألوهيّة ابنها. إنّ مريم قد جاهدت بإرادتها ونمت في الإيمان. ونعمة الله التي ملأتها وجدت فيها نفسًا مستعدّة وقلبًا منفتحًا، بحيث لم تقترف خطيئة وبقيت المنزّهة عن كل عيب والفائقة القداسة. |
|||
29 - 01 - 2013, 09:04 AM | رقم المشاركة : ( 32 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب مريم العذراء للمطران كيرلس سليم بسترس
5- مريم العذراء الممجّدة في السماء أ) عقيدة انتقال مريم العذراء في الكنيسة الكاثوليكيّة في الأوّل من أيّار عام 1946 سأل البابا بيوس الثاني عشر أساقفة الكنيسة الكاثوليكيّة في العالم كلّه: هل يؤمن المسيحيّون في الأبرشيات التي يرعونها بانتقال مريم العذراء إلى السماء بجسدها ونفسها؟ فكان شبه إجماع حول وجود مثل هذا الإيمان لدى الأساقفة واللاهوتيّين وسائر المؤمنين من الشعب المسيحي. وفي الأوّل من تشرين الأوّل عام 1950، أعلن البابا هذا الانتقال عقيدة إيمانيّة. فيرسم أوّلاً لوحة لتاريخ هذا الاعتقاد منذ القرن السادس، ثمّ يبيّن كيف وعت الكنيسة إيمانها بهذا الموضوع، وكيف استخلصت هذا الإيمان من معطيات الكتاب المقدّس، ويقول: "إنّ هذه البراهين كلّها والاعتبارات التي نقرأها لدى الآباء القدّيسين واللاهوتيّين تستند إلى الكتاب المقدّس كأساس أخير لها. فالكتاب المقدّس يرينا والدة الإله متّحدة اتحادًا وثيقًا بابنها الإلهي ومشاركة إيّاه على الدوام مصيره. فيبدو من ثمّ من المحال أنّ التي حبلت بالسيّد المسيح وولدته وغذّته بلبنها وحملته على ذراعيها وضمّته إلى صدرها قد انفصلت عنه بعد حياتها على هذه الأرض، إن لم نقل بنفسها، فبجسدها. فبما أنّ فادينا هو ابن مريم، لما يكن باستطاعته، هو الخاضع خضوعًا تامًّا للشريعة الإلهيّة، ألاّ يؤدّي الإكرام ليس فقط إلي الآب الأزلي بل أيضاً إلى أمّه المجبوّبة. وبما أنّه كان يقدر أن يصنع لها هذا الإكرام فيحفظها من فساد الموت، فيجب الإيمان بأنّه صّنعه لها. "ويجب بنوع خاص أن نتذكّر أنّ آباء الكنيسة، منذ القرن الثاني، رأوا في مريم العذراء حوّاء الجديدة، خاضعة دون شكّ لآدم الجديد، لكن متّحدة به اتّحادًا وثيقًا، في العراك ضد العدوّ الجهنّمي، هذا العراك الذي سبق سفر التكوين (تك 3: 15) فبشّر بأنّه سوف ينتهي بالنصر الكامل على الخطيئة والموت اللّذين يذكرهما دومًا رسول الأمم متّحدين (رو 5: 6؛ 1 كو 15: 21- 26، 54- 57). لذلك، فكما أنّ قيامة المسيح المجيدة كانت جزءًا أساسيًّا من هذا الانتصار وآخر مغانمه، كذلك كان يجب أن ينتهي العراك الذي قامت به مريم العذراء بالاتّحاد مع ابنها بتمجيد جسدها العذري، حسب قول الرسول نفسه: "ومتى لبس هذا الجسد الفاسد عدم الفساد، ولبس هذا الجسد المائت عدم الموت، فحينئذ يتمّ القول الذي كتب: لقد ابتُلع الموت في الغلبة" (1 كو 15: 54). "إن والدة الإله السامية المقام، المتّحدة اتّحادًا سريًّا بيسوع المسيح "في قرار الاختيار الواحد عينه الذي مسبق الله فاتّخذه"، المنزّهة عن العيب في حبلها، العذراء الكلّية الطهارة في أمومتها الإلهيّة، الرفيقة السخيّة للفادي الإلهي الذي أحرز انتصارًا شاملاً على الخطيئة ونتائجها، قد حصلت أخيرًا على هذا التتويج الفائق لامتيازاتها، فحُفظت من فساد القبر، وعلى غرار ابنها، بعد أن غلبت الموت، رُفعت بالجسد والنفس إلى المجد في أعلى السماوات، لتتألّق فيها كملكة على يمين ابنها، ملك الدهور الأزلي (2 تي 1: 17). "إنّ الكنيسة الجامعة التي فيها يحيا روح الحقّ الذي يقودها لتصل إلى معرفة الحقائق الموحاة، قد أعلنت إيمانها بطرق متنوّعة على مدى الأجيال. وأساقفة العالم يطلبون باتّفاق شبه تامّ أن تُعلَن كعقيدة إيمان إلهي وكاثوليكي حقيقةُ انتقال الطوباويّة مريم العذراء إلى السماء بجسدها، تلك الحقيقة التي تستند إلى الكتاب المقدس، المغروسة في قلوب المؤمنين، والمعلَنة منذ القرون الأولى في عبادة الكنيسة، والمفسَّرة والمعروضة بشكل رائع في أعمال اللاهوتيّين وعلمهم وحكمتهم. لهذه الأسباب نعتقد أنّه قد أتى الزمن الذي حدّدته مقاصد العناية الإلهيّة لأن نعلن رسميًّا هذا الامتياز الفائق الذي تتمتّع به الطوباويّة مريم العذراء. "فبعد أن وجّهنا إلى الله صلوات ملحّة، والتمسنا نور روح الحقّ، لمجد الله ألقدير الذي أغدق بسخاء عطفه الخاص على مريم العذراء، وإكرامًا لابنه، ملك الدهور الحيّ قاهر الخطيئة والموت، وزيادة في مجد والدته السامية المقام، وفي سبيل الفرح والابتهاج في الكنيسة جمعاء، بسلطان ربّنا يسوع المسيح، والرسولين بطرس وبولس، وبسلطاننا الخاصّ نصرّح ونعلن ونحدّد كعقيدة أوحاها الله أنّ مريم والدة الإله المنزّهة عن العيب والدائمة البتوليّة، بعد أن أنهت مسيرة حياتها على الأرض، رُفعت بالنفس والجسد الى المجد السماوي". بهذه التعابير أعلن البابا عقيدة انتقال مريم العذراء إلى السماء بنفسها وجسدها، مؤكّدًا أنّه لا يضيف شيئًا، في إعلانه هذه العقيدة، إلى إيمان الكنيسة، بل يعبّر بشكل واضح عن هذا الإيمان الذي يعود إلى القرون الأولى للمسيحيّة. كيف يظهر هذا الإيمان في كتابات الآباء وفي عبادة الكنيسة؟ ب) انتقال مريم العذراء في كتابات الآباء لقد أورد القدّيس يوحنّا الدمشقي، في عظته الثانية عن رقاد السيّدة، تقليدًا مستمَدًّا من كتاب "التاريخ الأوثيمي" المنحول، مفاده أنّ الرسل الأطهار جُذبوا بلحظة، ساعة رقاد السيّدة، وأتوا من كل الجهات التي كانوا يبشّرون فيها لأجل خلاص العالم، وارتقوا السحب بإشارة إلهيّة، ووفدوا على مقام البتول. ولمّا بلغوا إليها ظهر المسيح ابنها، فأودعت نفسها الطاهرة بين يديه. أمّا جسدها الذي حلّ فيه ابن الله، فشيّعه الرسل ومن معهم بكل إجلال ودفنوه في الجسمانية. ولمّا انقضى اليوم الثالث فتح الرسل الحاضرون نعش البتول نزولاً عند رغبة الرسول توما الذي لم يكن معهم، فلم يجدوا الجسد الكريم. فأخذتهم الدهشة والعجب... فاستنتجوا من الحادث أنّ الكلمة الأزلي الذي تنازل وأخذ جسدًا من أحشائها النقيّة، وحفظ بتوليّتها سالمة بعد ولادته منها، أراد أيضاً أن يكرّم جسدها البتولي والبريء من الدنس ويقيه من الفساد والانحلال وينقله إلى دار الخلود قبل القيامة العامّة. ويضيف الإنجيل المنحول أنّ تيموثاوس أوّل أسقف على أفسس، وديونيسيوس الأريوباجي وإياروثاوس أسقف أثينا حضروا مع الرسل أمام نعش والدة الإله. وقد استمرّ هذا التقليد في الفن الإيقونوغرافي البيزنطي الذي يمثّل رقاد السيّدة على الشكل المذكور أعلاه: العذراء مسجّاة على فراش الموت يحيط بها الرسل، والسيّد المسيح يتقبّل نفسها الطاهرة ترمز إليها طفلة صغيرة يحملها على ذراعيه. إنّ هذا التقليد لا يرتكز على حدث تاريخي، بل يعبّر بشكل روائي عن إيمان الكنيسة الأولى بأنّ ابن الله الذي اتّخذ جسدًا من أحشاء مريم العذراء، وصار لها ابنًا حقًّا، وخصّها بشرف البتوليّة الدائمة، أكمل نعمته عليها، فصان جسده ها من فساد القبر ونقله إلى المجد السماوي. وهذا الايمان لا يستند إلى نصوص كتابيّة مباشرة بل إلى تحليل لاهوتي، يعتبر انتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها إلى المجد السماوي نتيجة ضرورية لأمومتها الإلهيّة. فابن الله صار ابن مريم، وجسد كليهما واحد. وحيث يكون جسد الابن هناك جسد أمّه أيضاً. وكما أقام الله جسد ابنه ولم يتركه "يرى الفساد" (راجع خطبة بطرس الأولى في أع 2: 22- 32)، كذلك أقام الابن جسد أمّه، ذلك الهيكل الطاهر الذي قدّسه الروح القدس وسكن فيه ابن الله تسعة أشهر وقد اتّخذ منه دمه ولحمه، ولم يتركه يرى الفساد والانحلال كسائر أجساد البشر. وهذا التحليل اللاهوتي نجده لدى كثير من الآباء. يقول القدّيس أندراوس الكريتي (+ 767): "من اللائق أن يدبّر ابن الله مصير والدته بحسب مصيره الخاصّ". ويقول جرمانوس بطريرك القسطنطينية (+ 733): "كيف يحوّلكِ الموت الى رماد وتراب، أنتِ التي، بتجسّد ابنك، أنقذت الإنسان من فساد الموت؟" والقدّيس يوحنّا الدمشقي (+749)، في عظته الأولى والثانية على الانتقال، يوضح لماذا ماتت مريم العذراء، ولماذا انتقلت بعد موتها الى السماء بجسدها ونفسها. يقول: "لماذا الانتقال؟ لقد كان من الواجب أن يكابد أسر المهاوي الأرضيّة هذا المقرّ اللائق بالله، الينبوع الذي لم تحفره يد البشر، حيث تتفجّر المياه التي تطهّر من الخطايا، الأرض غير المحروقة التي تنتج الخبز السماوي، الكرمة التي أعطت بدون أن تروى خمر الخلود، زيتونة رحمة الآب الدائمة الاخضرار ذات الثمار العذبة. ولكن، كما أنّ الجسد المقدّس النقيّ الذي اتّخذه الكلمة الإلهيّة منها، قام من القبر في اليوم الثالث، هكذا كان يجب أن تؤخذ هي من القبر وأن تجتمع الأمّ بابنها. وكما نزل نحوها، هكذا يجب أن تُرفَع هي عينها، وهي موضوع محبّته، حتى "القبّة الأسمى والأكمل" الى "السماء عينها" (عب 9: 11- 24). "لقد كان يجب أن تصون جسدها من الفساد حتى بعد وفاتها تلك التي لم تثلم بكارتها في الولادة. "كان يجب أن تعيش في القباب الإلهيّة تلك التي حملت خالقها في حشاها طفلاً صغيرًا. كما يجب أن تأتي العروس التي اختارها الآب، فتقطن في السماء المقرّ الزوجي... "اليوم العذراء البريئة من الَدنس، التي لم تخامرها عاطفة أرضيّة، بل تغذّت بالأفكار السماويّة، لم تعد الى التراب، وبما أنّها بالحقيقة سماء حيّة، أقامت في الأخبية السماويّة، فهل يخطىء إذن من يدعوها "سماء"؟ إلاّ إذا قلنا، ولعلّه بعدل وصواب، إنّها تفوق السماوات عينها بامتيازات لا مثيل لها، لأنّ من بنى السماوات واحتواها، والذي صنع الكون وما وراء الكون، المنظور وغير المنظور (كو 1: 16)، الذي لا مقرّ له، لأنّه هو عينه مقرّ كلّ الكائنات -لأنّ المقرّ في تحديده يحوي ما فيه- قد جعل نفسه فيها طفلاً صغيرًا، وجعل منها مقرّ ألوهيّته الفسيح الذي يملأ كلّ شيء، وحيدًا ولا حدّ له، قد تجمّع فيها كلُّه بدون أن يتصاغر، وهو مستقرّ بكامله خارجًا، لأنّه هو مقرّ ذاته غير المحدود. "اليوم كنز الحياة، لجّة النعمة، تدخل في ظلال موت يحمل الحياة، تتقدّم منه بدون خوف، تلك التي ولدت مبيده، هذا إذا جاز أن نسمّي موتًا رحيلها المفعم قداسة وحياة. "كيف تقع في سلطان الموت من كانت للجميع ينبوعًا للحياة الحقيقية؟ غير أنّها تخضع للشريعة التي وضعها ابنها عينه، وكابنة لآدم القديم تفي الدين الوالديّ، لأنّ ولدها عينه، الذي هو الحياة في ذاته، لم يرفض ذلك. ولكن بصفتها والدة الإله الحيّ، فمن العدل أن تُنقَل اليه، لأنّه إذ قال الله: لئلاّ يمدّ الإنسان (المخلوق الأوّل) يده فيقطف من شجرة الحياة ويأكل فيحيا الى الأبد... (تك 3: 22)، كيف لا تعيش مدى الأبد تلك التي قبلت الحياة عينها بدون بداية ولا نهاية؟". والكنيسة الأرثوذكسيّة، انسجامًا مع تعاليم الآباء، تؤمن أيضًا بانتقال مريم العذراء الى السماء بجسدها ونفسها، ولكن دون أن تفرض هذا الأمر على ضمير المؤمنين كعقيدة إيمانية، "لأنّها تفتقر الى إثبات، ولم يرد في الإعلان الإلهي أو الكتاب المقدّس أيّ إشارة تؤكّدها"، حسب قول أحد المؤلّفين الأرثوذكسيّين، الذي يضيف موضحًا أسباب انتشار هذا الاعتقاد في عبادة الكنيسة: "وفي هذه العبادة رجاء للكنيسة بالاستعادة الآتية (Apokatastase)، أي عودة الخليقة كلّها، في اليوم الأخير، الى وضعها الفردوسي، بالتألّه، لأنّ العذراء، "بانتقالها الى الحياة"، هي "أوّل كائن بشري يتألّه، كما يقول بول إفدوكيموف، وهي الأولى والسبّاقة، لأنّها ولدت الطريق ووضعت نفسها في الاتّجاه الصحيح، كأنّها "عمود من نار يقود المؤمنين الى أورشليم الجديدة" (فلاديمير لوسكي). لذلك "يلخِّص اسم والدة الإله كلّ تاريخ التدبير الإلهي في العالم"، كما يقول القدّيس يوحنّا الدمشقي (في الإيمان الأرثوذكسي 3: 12)... وفي المجال نفسه يقول اللاّهوتي الأرثوذكسي اليوناني المعاصر بنايوتيس نيللاس: "شركة سريّة تربط جسد مريم بجسد المسيح. وكما أنّ جسد المسيح هو في الحقيقة جسد أمّه، هكذا جسد مريم هو أيضًا جسد ابنها المتألّه. مريم هي أوّل كائن بشري يتّحد بطريقة صحيحة وحقيقية بالمسيح. لقد لبست حقًّا المسيح. لهذا السبب لم يبق جسدها في فساد الموت، بل رفعه المسيح الى السماء كعربون لصعود جميع القدّيسين بأجسادهم الى السماء". |
|||
29 - 01 - 2013, 09:05 AM | رقم المشاركة : ( 33 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب مريم العذراء للمطران كيرلس سليم بسترس
ج) انتقال مريم العذراء في الصلوات الليترجيّة هذا الإيمان بانتقاله مريم العذراء قد عبّرت عنه الكنيسة في صلواتها الليترجيّة. نقتطف بعضًا من هذه الصلوات من رتبة عيد رقاد السيّدة في الطقس البيبزنطي: "أيّتها البتول، لقد أوليتِ الطبيعة جوائز الغلبة إذ ولدت الإله، ولكنّك خضعتِ لنواميس الطبيعة مماثلة ابنكِ وخالقكِ، ومن ثمّ متِّ لتنهضي معه الى الأبد". "إنّ الملك إله الكلّ قد منحكِ ما يفوق الطبيعة، لأنّه كما صانكِ في الولادة عذراء، كذلك صان جسدكِ في الرمس بغير فساد، ومجّدكِ معه بانتقالكِ الإلهيّ، وأولاكِ شرفًا شأن الابن مع أمّه". "أمّا في ميلادكِ، يا والدة الإله، فحبل بغير زرع. وأمّا في رقادك فموت بغير فساد. إنّ في ذلك أعجوبة بعد أعجوبة. إذ كيف العادمة الزواج تغذّي ابنًا وتلبث طاهرة، أم كيف أمّ الإله تُشَمُّ منها رائحة ثوب الممات؟ فلذلك نرنّم لك مع الملاك قائلين: السلام لك يا ممتلئة نعمة" "أيتّها النقيّة، إنّ المظالّ السماويّة الإلهيّة قد تقبّلتك كما يليق، بما أنّك سماء حيّة ومنزّهة عن كل وصمة". د) أبعاد انتقال مريم العذراء الى السماء ومعانيه ما آمنت به الكنيسة منذ القرون الأولى وعبرّت عنه بطرق متنوّعة في الصلوات الليترجيّة ومواعظ الآباء، وتحديد العقيدة في الكنيسة الكاثوليكيّة في موضوع انتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى المجد السماوي، هو إعلان للعظائم التي صنعها الله في مريم العذراء، بحسب قولها: "ها منذ الآن تغبّطني جميع الأجيال، لأنّ القدير صنع بي عظائم، واسمه قدّوس، ورحمته الى جيل وجيل للّذين يتّقونه" (لو 1: 48- 50). إنّ عظائم الله قد رافقت مريم العذراء طوال حياتها، وبما أنّ الله هو إله الحياة التي لا نهاية لها، تؤمن الكنيسة أنّ ما صنعه الله من عظائم لا يتوقّف عند حدود هذه الحياة بل يمتدّ الى ما بعد الموت. ويستطيع كلّ مؤمن أن يقرأ في مسيرة حياة مريم العذراء مسيرة إيمانه، وفي مصير مريم العذراء بعد الموت مصير كيانه ومصير شخصه في نهاية الزمن. الروح القدس أحيا جسد العذراء يقول بولس الرسول: "إذا كان روح الذي أقام يسوع من بين الأموات ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح يسوع من بين الأموات يحيي أيضًا أجسادكم المائتة بروحه الساكن فيكم" (رو 8: 11). انتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى السماء هو نتيجة لعمل الروح القدس فيها. فالروح القدس الذي حلّ عليها وأحيا جسدها لتصير أمًّا لابن الله هو نفسه يكمّل عمله فيها ويحيي جسدها المائت وينقله الى المجد السماوي. الروح القدس هو قدرة الله المحيية، وهذه القدرة لا يوقفها شيء: إنّها حركة دائمة، وديناميّتها تفوق ما يستطيع عقلنا البشري تصوّره. بهذه القدرة كان يسوع يشفي المرضى ويخرج الشياطين ويقيم الموتى (راجع لو 4: 18- 19؛ مر 12: 18- 28). وبهذه القدرة قام هو نفسه من الموت. وبهذه القدرة سيقيم الأموات في الدينونة العامة. ولأنّ مريم العذراء كانت في جسدها ونفسها مستسلمة استسلامًا تامًّا لعمل الروح القدس، آمن المسيحيّون منذ القرون الأولى أنّها حصلت حالاً بعد موتها على قيامة الجسد التي هي مصير كلّ المؤمنين في نهاية الزمن. بهاء القيامة الخلاص في الديانة المسيحيّة ليس إنقاذ الإنسان من الخطايا بقدر ما هو إعادته الى بها الصورة الإلهيّة التي خُلق عليها.. الديانة المسيحيّة هي ديانة البهاء والمجد، وتلك السمة هي التي تبرّر وجودها وتثّبت صحتّها. فإذا كان لله وجود، وإذا كان الله قد ظهر لنا في شخص ابنه وكلمته وصورة مجده يسوع المسيح، فلا بدّ من أن يكون الله إله المجد والبهاء. وهذا ما تعبّر عنه الكنيسة في اعتقادها بانتقال مريم العذراء. تقول الكنيسة البيزنطية في إحدى صلوات عيد رقاد السيّدة: "ما أعجب أسرارك أيّتها السيّدة النقيّة، لأنّك ظهرت عرشًا للعليّ، واليوم قد انتقلت من الأرض الى السماء. فمجدك وافر البهاء، ويعكس أشعّة المواهب الإلهيّة" (صلاة المساء الكبرى). إنّ أشعّة المواهب الإلهيّة التي حصلت عليها مريم العذراء تنعكس في حياتها. فهي السيّدة النقيّة لأنّها "ممتلئة نعمة"، وقد "ظهرت عرشًا للعليّ"، لأنّ ابن الله سكن فيها، وتكلّلت تلك المواهب "بانتقالها من الأرض الى السماء"، وظهر فيها مجد الله الوافر البهاء. لا يمكننا التنكّر للواقع والتغاضي عن الخطيئة في العالم. ولكنّ قيامة المسيح هي أيضًا جزء من هذا الواقع. من قبر المسيح انبعث نور الله، ومع المسيح القائم من بين الأموات دخل مجد الله العالم، ويعمل كالخمير على تجديده من الداخل. تاريخ العالم ليس تاريخ معركة مجهولة المصير بين الحقّ والباطل، بل تاريخ ولادة جديدة. يقول بولس الرسول: "إنّ الخليقة قد أُخضعت للباطل.. إنّما على رجاء أنّ الخليقة ستُعتَق، هي أيضًا، من عبوديّة الفساد الى حريّة مجد أبناء الله. فنحن نعلم أنّ الخليقة كلّها معًا تئنّ حتى الآن وتتمخَّض، وليس هي فقط، بل نحن أيضًا الذين لهم باكورة الروح، نحن أيضًا نئنّ في أنفسنا منتظرين التبنّي افتداء أجسادنا" (رو 8: 20- 23). نحن من الآن أبناء الله، ولنا باكورة الروح، ولكنَّ ما نحن عليه سيتجلّى على أتمّ وجه في المجد الخالد، فيكون عندئذ للجسد المفتدى، القائم، قسط من السعادة كبير، حسب قول بولس الرسول:" الإنسان الأوّل من الأرض، من التراب، والإنسان الثاني من السماء. فعلى مثال الترابي يكون الترابيّون، وعلى مثال السماوي يكون السماويّون، وكما لبسنا صورة الترابي نلبس أيضًا صورة السماوي" (1 كور 15: 47- 49). في وسط عالمنا لبس المسيح السماوي جسدنا الترابي، وبهذا الجسد ارتبط بعالمنا. وقيامته الجسديّة لم تفقده ارتباطه بنا، بل بدخوله مجد الآب، صار ارتباطه بنا أكثر اتّساعًا. ارتفع عن الأرض ليجتذب اليه الجميع (يو 12: 32)، ارتفع الى السماوات ليملأ مجده جميع الأرض، بحسب قول المزمور: "ارتفع اللهمّ على السماوات، وليكن مجدك على جميع الأرض" (مز 57: 12؛ راجع أيضًا أف 4: 8- 10). المسيح لم يتمجّد وحده. "فبعد إذ أميت بالجسد، استردّ الحياة بالروح، وبهذا الروح عينه مضى وبشّر الأرواح المضبوطة في السجن" (1 بط 3: 19)، أي إنّه نزل الى "الجحيم" مقرّ الأموات حيث كانت نفوس الصدّيقين تنتظر، كفي سجن، مجيئه الخلاصي وصعودها معه الى السماء، وبشّرها بأنّ عمل الفداء قد تحقّق، وتمّ الانتصار على الموت. وفي الموضوع عينه يتكلّم إنجيل متّى عن عامه كسيرين من الأموات مع المسيح: "القبور تفتّحت، وكثيرون من القدّيسين الراقدة أجسادهم فيها قاموا، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدّسة، وتراءوا لكثيرين" (متّى 27: 52- 53). إنّ ابن الله الذي "له مجد الآب من قبل كون العالم" (يو 17: 5) قد تجسّد في أحشاء مريم العذراء. وبسبب تلك الشركة الروحيّة في المجد والبهاء بين السيّد المسيح وأمّه، آمنت الكنيسة أنّ مريم العذراء، بعد موتها، شاركت ابنها مجد قيامته كما شاركته، في تجسده، مجد ظهوره. |
|||
29 - 01 - 2013, 09:06 AM | رقم المشاركة : ( 34 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب مريم العذراء للمطران كيرلس سليم بسترس
قيامة الأجساد جسد الإنسان، في نظر الكتاب المقدّس، ليس سجنًا يجب التخلّص منه للوصول الى العالم الحقيقي، عالم الأرواح. نظرة الكتاب المقدّس الى الإنسان لا تقوم على التناقض بين الجسد والروح، بل على التناقض بين الفرد المنعزل المتقون على ذاته والشخص المنفتح في علائقه على الكون وعلى الآخرين وعلى الله. والجسد هو ما يتيح للإنسان الحيّ أن يرتبط بعلائق بنّاءة بالكون والآخرين والله. فالجسد هو إذن الإنسان ذاته من حيث ارتباطه بالعالم الخارجي. لذلك أيضًا رأى معظم آباء الكنيسة، ولا سيّمَا في الشرق، أنّ التجسّد كان لا بدّ منه، ولو لم يخطأ الإنسان، وذلك ليكتمل ارتباط الله بالإنسان وارتباط الإنسان بالله، ونعمة الله التي تعمل في الإنسان تعمل فيه حيث يبني ذاته ويحقّق كيانه العلائقي، فتجعله في روحه وفي جسده أكثر انفتاحًا على الله وعلى الآخرين. للنعمة قوّة تغيير وانفتاح، وعملها هو عمل الحياة الإلهيّة نفسها. كلّ اتصال بالله لا بدّ له من أن يغيّر الإنسان، وإلاّ كان الله مجرّد وهم ابتكره خيال الإنسان ليكوّن لنفسه ما يتعلّق به في هذه الحياة المتقلّبة. إلهنا شخص حيّ يحوّل كلّ من يتّصل به، يدخل أعماق الإنسان ليملأه بحياته الإلهيّة. وقيامة الأجساد هي امتلاء الإنسان من تلك الحياة الإلهية في كل أبعاد كيانه وفي كل ارتباطاته بالله وبالكون وبالآخرين. إيمان الكنيسة بانتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى السماء هو اعتراف بأنّ اتّحادها الصميم بالله بجسدها ونفسها، هذا الاتحاد الذي تحقّق لها بتجسّد ابن الله في أحشائها، كما تحقّق لها أيضًا بأمانتها لمحبّة الله واستسلامها لعلم الله فيها طوال حياتها، هذا الاتّحاد يستمرّ بعد موتها باشتراكها في مجد القيامة. فكما تمجّد ابنها وصار مرتبطًا بدخوله مجد الله بالعالم كلّه، هكذا أيضًا تمجّدت مريم العذراء وصارت مرتبطة بالعالم كلّه. وما سيحدث لجميع المؤمنين في القيامة العامة، أي ارتباطهم الكامل الممجّد بالعالم وبالله، قد حدث لمريم العذراء كما حدث لابنها يسوع المسيح لدى قيامته من بين الأموات. ثمّ إنّنا في انتقال مريم العذراء الى المجد السماوي نقرأ عمل الروح القدس في الإنسان. وكل مؤمن يعرف أنّ مسيرة حياته هي مسيرة عمل الروح القدس فيه. ومريم هي في الكنيسة رمز عمل الله في كل مؤمن. |
|||
29 - 01 - 2013, 09:07 AM | رقم المشاركة : ( 35 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب مريم العذراء للمطران كيرلس سليم بسترس
الفصل الثالث مريم العذراء فى سرّ الكنيسة وصلاتها تمهيد 1- مريم العذراء رمز الكنيسة أ- مريم العذراء في تدبير الخلاص ب- مريم العذراء قدوة الكنيسة 2- مريم العذراء أمّ وشفيعة في الكنيسة أ- شفاعة مريم العذراء ب- تكريم مريم العذراء في الكنيسة 3- أعياد مريم العذراء أ- عيد حبل القدّيسة حنّة بمريم العذراء ب- عيد ميلاد مريم العذراء ج- عيد البشارة د- عيد ميلاد السيّد المسيح 4- مريم العذراء في صلوات الفرض الكنسى والأناشيد الطقسيّة 5- النصوص الكتابية التي تقرأ في أعياد مريم العذراء أ- نصوص العهد القديم ب- المزامير ج- نصوص العهد الجديد |
|||
29 - 01 - 2013, 09:08 AM | رقم المشاركة : ( 36 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب مريم العذراء للمطران كيرلس سليم بسترس
تمهيد الصلاة هي قبل أيّ أمر آخر اتّصال بالله لذكر أعماله وتسبيح عظائمه، ليصير الإنسان بهذا الاتّصال أقرب الى الله ويحقّق على أكمل وجه في ذاته وفي العالم صورة الله الذي يتقرّب اليه: "أذكر أعمال الربّ، أذكر عجائبك القديمة، وأهذّ بجميع أفعالك، وأتأمّل في أعمالك" (مز 77: 12- 13). وذكر مريم العذراء في صلاة الكنيسة يندرج في ذكر أعمال الله الخلاصيّة فعلى غرار الكتاب المقدّس، تذكر الكنيسة مريم في إطار الخلاص الذي جاءنا به ابنها الإلهي، وفي إطار الجماعة المسيحيّة المدعوّة الى تبنّي هذا الخلاص ونشره. لذلك مريم هي أوّلاً رمز الكنيسة التي تسهم في الخلاص بتقبّله والاضطلاع بتطلّباته. وهي أيضًا في الكنيسة أمّ وشفيعة وفي أعيادها تحتفل الكنيسة بالخلاص الذي حصلنا علمه كان فيه لمريم دور وشأن. وكل ذلك ليس لمجرّد العيش بضع لحظات في تذكارات الماضي، بل لتجسيد الإيمان الذي هو تقبّل لعمل الله وإسهام في بناء كنيسة اليوم. 1- مريم العذراء رمز الكنيسة في المجمع الفاتيكاني الثاني، لم يشأ الآباء تكريس وثيقة خاصّة بمريم العذراء، فأوردوا ذكرها في الفصل الثامن والأخير من الدستور العقائدي في الكنيسة، بعنوان: "في الطوباوية مريم والدة الإله في سرّ المسيح والكنيسة" (رقم 52- 69). وبذلك يظهر بجلاءٍ أكثرَ دورُ مريم ضمن تاريخ الشعب المؤمن وتنوّع وظائفه. فالكنيسة في مجملها جسد المسيح، والمؤمنون متّحدون كلّهم معًا في عمل الروح القدس فيهم، إذ لا أحد يمكنه أن يصير عضواً في الكنيسة ما لم تنسكب عليه قدرة الروح القدس. على هذا الصعيد مريم العذراء هي عضو في الكنيسة ملأها الروح القدس وتجاوبت مع عمله، فكانت لجميع المسيحيين قدوة ومثالاً في الإيمان والمحبّة، كما يوضح المجمع في مختلف النقاط التي يتوسّع فيها عن دور مريم العذراء في تدبير الخلاص وفي علاقتها بالكنيسة. أ) مريم العذراء في تدبير الخلاص لقد وعد الله أبوينا الأوّلين بالنصر على الشيطان. وقد تحقّق هذا الوعد في مريم العذراء التي حبلت وولدت ابنًا اسمه عمّانوئيل. الخلاص هو عمل الله الذي أرسل ابنه الى العالم. ولكنّ لمريم دورًا هامًّا في التجاوب مع عمل الله. يقول المجمع: "فهي التي تحتلّ المحلّ الأوّل بين أولئك الوضعاء وفقراء الربّ الذين يرتجون منه الخلاص بثقة وينالونه... ويبدأ التدبير الجديد عندما اتّخذ ابن الله منها الطبيعة البشريّة ليحرّر الإنسان من الخطيئة بسرّ جسده" (رقم 55). ثمّ يوضح المجمع دور مريم العذراء في البشارة (رقم 56)، وفي طفولة يسوع (رقم 57)، وفي حياته العلنية وموته على الصليب (رقم 58)، ومن ثمّ بعد صعوده الى السماء (رقم 59). ب) مريم العذراء قدوة الكنيسة في هذه الأحداث كلّها تبدو مريم العذراء قدوة الكنيسة. يقول المجمع: "والعذراء الطوباوية، بحكم موهبة الأمومة ومهمّتها اللتين تربطانها بابنها الفادي، وبحكم النعم والمهامّ الفريدة التي لها، تتّحد أيضًا بالكنيسة اتّحادًا وثيقًا: فأمّ الله، بحسب تعليم القدّيس أمبروسيوس، هي للكنيسة قدوة في الإيمان والمحبّة والاتّحاد الكامل بالمسيح. ففي سرّ الكنيسة، التي تُنعَت بحقّ هيّ أيضًا بالأمّ والعذراء، تحتلّ العذراء الطوباويّة مريم المحلّ الأوّل، قدوةً مُثلى وفريدة للعذراء وللأمّ: بإيمانها وطاعتها ولدت على الأرض ابن الآب ولم تفقد بتوليّتها، وغمرها الروح القدس بظلّه، فكانت حوّاء جديدة تولي، لا الحيّة القديمة بل مرسل الله، ثقة لا يشوبها أيّ شكّ: لقد ولدت ابنها الذي جعله الله بكرًا بين الإخوة الكثيرين (رو 8: 29)، أي بين المؤمنين الذين تسهم بحبّها الأمومي في مولدهم وتربيتهم" (رقم 63). "والكنيسة بتأمّلها في قداسة العذراء العجيبة، واقتدائها بمحبّتها، متمّمة بأمانة مشيئة الآب، تصير هي أيضًا أمًّا بقبولها بالإيمان كلمة الله: فبالكرازة والمعمودية تلد، لحياة جديدة خالدة، أولادًا يُحبَل بهم من الروح القدس، ويولدون من الله. وهي أيضًا عذراء إذ قطعت لعريسها عهدًا تحفظه كاملاً غير مشوب بشائبة. واقتداءً بأمّ ربّها، تحفظ بقوّة الروح القدس، في نقاوة عذريّة، الإيمان كاملاً، والرجاء راسخًا، والمحبّة خالصة" (رقم 64). "وإذا كانت الكنيسة قد بلغت، في شخص العذراء الطوباويّة، الكمال في غير كَلَف ولا غضْن (أف 5: 27)، فإنّ مؤمني المسيح أيضًا يجدّون بنشاط في طريق النموّ في القداسة بالتغلّب على الخطيئة. لذلك يشخصون بأبصارهم الى مريم مثالاً للفضيلة يشعّ نوره على أسرة المختارين جميعًا. والكنيسة إذ تختلي بتقوى في التأمّل في مريم، على ضوء الكلمة الذي صار إنسانًا، تلج باحترام وإمعان في أغوار سرّ التجسّد العظيم، وتتمثّل أكثر فأكثر بعريسها. فمريم، بدخولها تاريخ الخلاص دخولاً صميمًا، تجمع وتعكس في ذاتها، من بعض الوجوه، ملتمسات الإيمان العظمى، وتُرجِع المؤمنين الى ابنها وذبيحته، والى حبّ الآب، عندما تكون موضوع الوعظ والتكريم. والكنيسة في مسعاها الى تمجيد المسيح، تتشبّه أكثر فأكثر بمثالها العظيم بنمائها بلا انقطاع في الإيمان والرجاء والمحبّة، وابتغائها في كلّ شيء إرادة الله والعمل بها. لذلك تنظر الكنيسة، في ممارسة عملها الرسولي، الى التي ولدت المسيح، الذي حُبل به من الروح القدس وولد من العذراء، لكي يولد ويكبر أيضًا، بواسطة الكنيسة، في قلوب المؤمنين. ولقد كانت العذراء بحياتها مثالاً لهذا الحبّ الأمومي الذي يجب أن يحيا به جميع الذين باشتراكهم في رسالة الكنيسة الرسوليّة، يعملون في سبيل ميلاد الناس ثانية" (رقم 65). |
|||
29 - 01 - 2013, 09:10 AM | رقم المشاركة : ( 37 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب مريم العذراء للمطران كيرلس سليم بسترس
2- مريم العذراء أمّ وشفيعة في الكنيسة أ) شفاعة مريم العذراء إنّ ذكر مريم في صلاة الكنيسة يهدف إذن الى التأمّل في ما صنعه الله تجاهها وفي تجاوبها مع عمل الله، للاقتداء بها والاشتراك معها في قصد الله الخلاصي. وفي هذا الإطار أيضًا يجب فهم دورها كأمّ لنا وشفيعة. ويؤكّد المجمع أنّ شفاعتها لا تُنقص شيئًا من وساطة المسيح. يقول: إنّه واحد وسيطنا، كما يقول الرسول: "إذ ليس سوى إله واحد، وليس أيضًا إلاّ وسيط واحد بين الله والناس، المسيح يسوع، الإنسان هو أيضًا، الذي بذل نفسه فدية عن الجميع" (1 تي 2: 5- 6). وأمّا الدور الوالدي الذي تقوم به مريم تجاه الناس فلا يُضير شيئًا ولا يُنقص البتة من وساطة المسيح الواحدة هذه، بل يظهر، على خلاف ذلك، فعاليّتها. "فإنّ كلّ تأثير خلاصي من العذراء الطوباوية في الناس يصدر عن تدبير مجّاني محضٍ من الله: إنّه لا يصدر عن ضرورة موضوعّية، بل ينبع من فيض استحقاقات المسيح، ويستند الى وساطته التي بها يتعلّق في كل شيء، ومنها يستمدّ كل فعاليّته. ومن ثمّ فاتّحاد المؤمنين رأسًا بالمسيح لا يجد منه أيّ حائل، بل يجد منه، على خلاف ذلك، عونًا وسندًا" (رقم 60). ثمّ يضيف المجمع: "ومنذ الرضى الذي أظهرته بإيمانها في يوم البشارة، والذي احتفظت به على ثباته بحذاء الصليب، تستمرّ أمومتها هذه، بلا انقطاع، في تدبير الخلاص، الى أن يكتمل نهائيًّا جميع المختارين. فإنّها بعد انتقالها الى السماء لم تنقطع مهمّتها في عمل الخلاص: إنّها بشفاعتها المتّصلة لا تني تستمدّ لنا النّعم التي تضمن خلاصنا الأبدي، وحبّها الأمومي يجعلها عينًا ساهرة على إخوة ابنها الذين لم ينته شوطهم بعده، أو تساورهم الأخطار والمحن الى أن يبلغوا الوطن السعيد. من أجل ذلك تدعى العذراء الطوباويّة في الكنيسة بألقاب مختلفة. فهي: المحامية والنصيرة والظهيرة والوسيطة، على أنّ هذا كلّه يُفهَم بوجه لا ينجم عنه أيّ انحراف أو زيادة بالنسبة الى كرامة الوسيط الواحد وفعاليّته، يسوع المسيح. "فإنه ما من خليقة البتة يمكن جعلها على مستوى الكلمة المتجسّد والفادي. ولكن، كما أنّ كهنوت المسيح يشترك فيه، على وجوه مختلفة، الخدّام المكرّسون والشعب المؤمن، وكما أنّ جودة الله الواحدة تفيض بوجوه مختلفة على المخلوقات، كذلك وساطة الفادي الواحدة لا تنفي، بل تبعث في المخلوقات، على خلاف ذلك، تعاونًا مختلفًا مرتبطًا بالمصدر الواحد. وهذا الدور النسبي الذي تقوم به مريم تعترف بها الكنيسة بدود ما تردّد، ولا تني تَخْبُره وتوصي به قلب المؤمنين لكي يساعدهم هذا السند والعون الأمومي على التمسّك بالوسيط والمخلّص تمسّكًا أوثق" (رقم 62). ترتكز إذن شفاعة مريم العذراء على كونها أمّ المسيح الفادي، وعلى كونها اشتركت مع ابنها في عمله الخلاصي، وبذلك صارت أمًّا للمؤمنين الذين هم أعضاء جسد المسيح. ويشير المجمع إلى قول القدّيس أوغوسطينوس: مريم هي "أمّ أعضاء المسيح... لاشتراكها بمحبّتها في ميلاد المؤمنين في الكنيسة الذين هم أعضاء هذا الرأس" (رقم 53). جوابًا على الذين يتردّدون في الاعتراف باشتراك مريم العذراء في الفداء، يجدر التنبّه الى التعبير الذي يستخدمه القدّيس أوغسطينوس والذي يورده المجمع: إنّ مريم "اشتركت بمحبّتها في ميلاد المؤمنين في الكنيسة". وهذا يعني أنّ اشتراكها ليس على مستوى العمل الخلاصي الذي قام به المسيح بموته وقيامته. فالمسيح هو إله وإنسان، ولذلك هو مخلّصنا الأوحد. والعذراء لا يمكن أن تدعى "شريكة ابنها الإلهي في الفداء" بالمعنى الكامل، بل يمكن القول فقط إنّها أسهمت مع ابنها بمحبّتها وطاعة إيمانها، كما يقول بولس الرسول عن الرسل: "فإنّنا، نحن، عاملون مع الله" (1 كو 3: 9)، و"معاونو الله" (2 كو 6: 1). وترتكز أيضًا شفاعة مريم علي كونها اشتركت مع ابنها في المجد السماوي، بانتقالها بالجسد والنفس الى السماء. إنّ شفاعة القدّيسين يذكرها الكتاب المقدّس. في العهد القديم في سفر المكّابيين الثاني، إذ قصّ يهوذا المكّابي على رفاقه "نوعًا من رؤيا تجلّت له في حلم جدير بأن يصدّق، فشرح لهم صدورهم أجمعين. وهذه هي الرؤيا. قال: رأيت أونيّا، عظيم الكهنة السابق، رجل الخير والصلاح، المتواضع المنظر الحليم الأخلاق، صاحب الأقوال الطريفة، المواظب منذ صباه على جميع أعمال الفضيلة، باسطًا يديه يصلّي من أجل جماعة اليهود بأسرها. ثمّ تراءى كذلك رجل كريم المشيب، أغرّ البهاء، عليه جلال عجيب سام. فتكلّم أونيّا وقال: هذا محبّ الإخوة، المكثر من الصلوات لأجل الشعب والمدينة المقدّسة، إرميا نبيّ الله" (2 مك 15: 12- 14). أونيّا الكاهن يواصل بعد موته دور الشفيع الذي أدّاه مدّة حياته، وكذلك إرميا الذي تألّم كثيرًا في سبيل شعبه هو أيضًا شفيع له في السماء. هذا الدور المنسوب الى أونيّا وإرميا هو الشهادة الأولى لصلاة الأبرار الأموات لأجل الأحياء. والسفر عينه يذكر أيضًا صلاة الأحياء لأجل الأموات (2 مك 12: 39- 46). وتتّخذ شفاعة القدّيسين في العهد الجديد بعدًا جديدًا بقيامة السيّد المسيح التي بها انتصر على الموت. فالذين يقدّمون حياتهم شهادة للمسيح، إمّا بالاستشهاد وإمّا بحياة البرّ والقداسة، "يحيون ويملكون مع المسيح... ويكونون كهنة لله وللمسيح ويملكون معه"، كما جاء في سفر الرؤيا (20: 4- 6)، ومعه يتشفّعون لأجل الأحياء. فإذا كان القدّيسون في السماء يتشّفعون مع المسيح لأجل الأحياء، فكم بالحريّ مريم العذراء، التي انتقلت الى السماء بجسدها ونفسها، تتشفّع أيضًا مع ابنها لأجل خلاص العالم. فبمَا أنّها حيّة في المجد السماوي، لم تترك العالم كما ترتّل لها الكنيسة البيزنطيّة في طروباريّة عيد رقادها وقنداقه: "في ولادتك حفظت البتولية، وفي رقادك ما تركت العالم، يا والدة الإله. فإنّك انتقلت الى الحياة بما أنّك أمّ الحياة، وبشفاعتك تنقذين من الموت نفوسنا". "إنّ والدة الإله التي لا تكفّ عن الشفاعة، والرجاء الوطيد في النجدات، لم يضبطها قبر ولا موت، بل بما أنّها أمّ الحياة، نقلها الى الحياة من سكن في حشاها الدائم البتولية" ويقول القديس تيودورس الأستوذي: "إنّ والدة الإله قد أغمضت جفني جسدها، ولكنّها ترفع الآن ألحاظ نفسها كنيّرين مشعّين عظيمين لا يستطيعان أن ينطفئا. لأنّها تسهر علينا وتتشفّع لدى الله في حماية العالم". والكنيسة البيزنطيّة، مع إيمانها بأنّ المسيح هو المخلّص الأوحد، توجّه الى العذراء الدعاء التالي: "يا والدة الإله الفائقة القداسة خلصينا". فمريم تخلّص بشفاعتها وصلواتها لأنّها والدة الإله الفائقة القداسة، ولأنّها أمّنا جميعًا، ولأنّها انتقلت الى الحياة حيث تقف كملكة الى يمين ابنها، حسب ما جاء في المزمور 44 الذي ترى فيه الليترجيّا وصفًا لمريم العذراء: "قامت الملكة عن يمينك". فشفاعتها تستمدّها من وجودها الى جانب ابنها الإلهي لذلك يتمسّك التقليد في الأيقونة أن لا تُرسم العذراء وحدها، بل دومًا حاملة ابنها الذي هو المخلّص والفادي الأوحد، ولا شفاعة لأيّ من الناس بمعزل عنه. ب) تكريم مريم العذراء في الكنيسة إنّ المجمع الفاتيكاني الثاني، في الوثيقة عينها، يحثّ المؤمنين على تكريم مريم العذراء تكريمًا خاصًّا، موضحًا طبيعة هذا التكريم وأساسه، والاختلاف الجوهري أن هذا التكريم وعبادة الله، فيقول: "إنّ مريم قد رُفعت بنعمة الله، وإنّما دون ابنها، فوق جميع الملائكة وجميع البشر بكونها والدة الإله الكلّية القداسة الحاضرة في أسرار المسيح. لذلك تكرّمها الكنيسة بحقّ بشعائر خاصّة. والواقع أنّ العذراء الطوباويّة، منذ أبعد الأزمنة، قد أكرمت بلقب "والدة الإله". والمؤمنون يلجأون الى حمايتها مبتهلين إليها في كلّ مخاطرهم وحاجاتهم. وقد ازداد تكريم شعب الله لمريم ازديادًا عجيبًا، خصوصًا منذ مجمع أفسس، بأنواع الإجلال والمحبّة والتوسّل اليها والاقتداء بها، محقّقًا بذلك كلماتها النبويّة: "جميع الأجيال تطوّبني، لأنّ القدير صنع فيّ عظائم" (لو 1: 48). وهذا الإكرام، على النحو الذي وُجد عليه دائمًا في الكنيسة، يتّصف بطابع فريد على الإطلاق. غير أنّه يختلف اختلافًا جوهريًّا عن العبادة التي يُعبَد بها الكلمة المتجسّد مع الآب والروح القدس، وهو خليق جدًّا بأن يُعزَّز: إذ إنّ مختلف صيغ التقوى نحو والدة الإله التي تظلّ في حدود التعليم الأرثوذكسي السليم، وتوافق عليها الكنيسة مراعية ظروف الزمان والمكان وأمزجة الشعوب المؤمنة وعبقريّاتهم، تجعل أنّ الابن الذي لأجله وُجد كلّ شيء (كو 1: 15- 16)، والذي ارتضى الآب الأزلي أن يحلّ فيه الملء كلّه (كو 1: 19) يُعرَف ويُحَبّ ويُمجَّد ويطاع في وصاياه من خلال الإكرام لأمّه (رقم 66). "فهذا المعتقد الكاثوليكي يعلّمه المجمع المقدّس بوجه صريح، ويُهيب، في الوقت نفسه، بأبناء الكنيسة لأن يسهموا بسخاء في الإكرام، ولا سيّمَا الليترجي، للعذراء الطوباويّة، وأن يبالوا مبالاة بالغة بالممارسات والشعائر التقويّة المتعلّقة بها والتي أوصت بها السلطة المعلّمة في غضون الزمن، ويوصي بالحفاظ بتديّن على جميع ما أُقِرَّ، في ما سلف من الزمن، بشأن تكريم صور المسيح، والعذراء الطوباويّة، والقدّيسين، ويحرّض بإلحاح علماء اللاهوت والمبشرّين بكلمة الله أن يمتنعوا بحرص، إذا ما تكلّموا على كرامة أمّ الله الفريدة، من كل غلوّ يخالف الحقيقة، وكل تزمّت لا مبرّر له. وإنّ لهم، من إكبابهم على الكتاب المقدّس ومؤلفّات الآباء والمعلّمين، ودراسة الليترجيّات بقيادة السلطة الكنسية المعلّمة، ما يجعلهم يستجلون، بوجه سويّ، مهمّة العذراء الطوباويّة وامتيازاتها الموجّهة على الدوام شطر المسيح معين الحقيقة الكاملة والقداسة والتقوى. وليحترسوا بحرص شديد من كلّ كلمة وكلّ فعل من شأنهما تضليل إخوتنا المنفصلين أو أيّ شخص آخر، بالنسبة الى تعليم الكنيسة الصحيح. وليذكر المؤمنون أنّ الورع الحقيقي لا يقوم البتّة على حركة من العاطفة عقيمة عابرة، ولا على السذاجة الباطلة، بل ينبثق من الإيمان الحقّ الذي يحملنا على الاعتراف بكرامة أمّ الله السامية، ويحفزُنا الى محبّة هذه الأمّ محبّة بنويّة والاقتدار بفضائلها" (رقم 67). |
|||
29 - 01 - 2013, 09:11 AM | رقم المشاركة : ( 38 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب مريم العذراء للمطران كيرلس سليم بسترس
3- أعياد مريم العذراء تكرّم الكنيسة مريم العذراء بنوع خاصّ في الاحتفال بأعيادها. وما تلك الأعياد إلاّ مناسبات تتّخذها الكنيسة للتعبير عن فرحها بالخلاص الذي حصلت عليه بتجسّد ابن الله في أحشاء مريم العذراء. وتتنوّع الأعياد المريميّة: فمنها تذكارات لأحداث تاريخيّة ورد ذكرها في الإنجيل المقدّس، ومنها تأمّلات حول أحداث مستقاة من التقليد الشفويّ أو من الأناجيل المنحولة. ومعظم هذه الأعياد يرافق مراحل حياة العذراء: في الحبل بها (9 كانون الأوّل) مولدها (8 أيلول) دخولها الى الهيكل (21 تشرين الثاني) بشارة الملاك جبرائيل لها (25 آذار) زيارتها لأليصابات (يوم الجمعة من أسبوع الفصح في الكنيسة الملكيّة الكاثوليكيّة) ميلادها المسيح (25 كانون الأوّل) تهنئتها بهذا الميلاد والاحتفال بأمومتها الإلهيّة (26 كانون الأول) تقدمتها ابنها الى الهيكل (2 شباط) رقادها (15 آب) وتضيف الكنيسة الى هذه الأعياد المرتبطة بمراحل حياتها أعيادًا أخرى أُدخلت بمناسبة تدشين كنيسة أو تكريس إيقونة للعذراء أو وجود ذخيرة من ثيابهما، وفيها تطلب شفاعتها وحمايتها. من هذه الأعياد: عيد وضع ثوبها (2 تمّوز) عيد وضع زنّارها (31 آب) عيد الأكاثستون أو المدايح (في السبت الخامس من الصوم) عيد سيّدة الينبوع الحامل الحياة (يوم الجمعة من أسبوع الفصح في الكنيسة الأرثوذكسيّة) عيد سيّدة الحماية (1 تشرين الأوّل في الكنيسة الملكيّة الكاثوليكيّة) عيد إكرام إيقونتها في مياسينا (1 أيلول). في صلوات هذه الأعياد، تحرص الكنيسة على أن تقرن دومًا ذكر مريم العذراء بذكر ابنها الإلهي. ولذا نرى تقليد الكنيسة الشرقي لا يعتبر العذراء مريم أبدًا موضوعًا مستقلاً وقائمًا بحدّ ذاته أو موضوعًا. مدًا، بل يراها دائمًا من خلال دورها في التاريخ وفي تدبير الله العامّ للخلاص. ومن زاوية ديناميّة هذا الدور، ينظر الى الله من خلالها أو ينظر اليها كشفّافة لله، مع كل ما يحتويه الشفوف والصفاء من عمل حيّ وحركة: قبول كامل من جهة وعطاء مطلق من جهة أخرى. صحيح أنّ تقليد آباء الكنيسة هو برمّته مدائح للعذراء، ولكنّه، في الوقت نفسه، لم يحسبها في يوم من الأيّام موضوع بحث نظري خاصّ يُدرَس في ذاته، أو مسألة عقائديّة مستقلّة. فالآباء تكلّموا عن مريم في سياق "المناسبات"، فقط إذا جاز القول، وليست امتيازات والدة الإله في نظرهم منّات ممنوحة لها على وجه التخصيص الشخصيّ أو بصورة كيفيّة، ولكنّها ترتبط جميعًا برسالتها داخل المخطّط الإلهي العامّ. وقد قال القدّيس يوحنّا الدمشقي مخاطبًا العذراء: "ستخدمين خلاص كلّ الناس لكي يتمّ بواسطتك قصد الله القديم". لذلك تتّسم معظم صلوات أعياد مريم العذراء بأنّها لا تتوجّه مباشرة الى العذراء بقدر ما تدعو الى الفرح والى تسبيح الله للعمل الذي حقّقه الله فيها، هذا العمل الذي يقودنا دومًا الى ابنها المسيح مخلّص العالم. وتتّسم أيضًا هذه الصلوات بأنّ موضوعها ومضمونها الأساسي هما الإشادة بالعظائم الثلاثة التي صنعها الله في مريم العذراء، والتي توسّعنا فيها في الفصل الثاني: مريم هي "والدة الإله" لأنّها ولدت المسيح ابن الله، مريم هي دائمة البتوليّة، مريم هي كلّية القداسة. سنعطي بعض الأمثلة عن صلوات مستقاة من خدمة الأعياد المريميّة في الطقس البيزنطي، وفيها تظهر بوضوح هاتان السمتان. أ) عيد حبل القدّيسة حنّة بمريم العذراء (9 كانون الأوّل) "اليوم قيود العقم تنحلّ، لأنّ الله يستجيب يواكيم وحنّة، فيعدهما وعدًا جليًّا أن يلدا على غير أمل فتاة الله، التي ولد منها غير المحدود نفسه لمّا صار إنسانًا، آمرًا الملاك أن يهتف اليها: السلام لك يا ممتلئة نعمة. الربّ معك" (الطروبارية). "اليوم تعيّد المسكونة لحبل حنّة الذي تمّ بقدرة الله، فإنّها ولدت التي ولدت الكلمة ولادة تفوق الوصف" (القنداق). نلاحظ أنّ الكنيسة، من خلال الاحتفال بالحبل بمريم العذراء، تدعونا الى النظر الى "غير المحدود" الذي سيولد منها، هي "الممتلئة نعمة"، الى "الكلمة" الذي ستلده بشكل بتولي "ولادة تفوق الوصف". ب) عيد ميلاد مريم العذراء (8 أيلول) "ميلادك يا والدة الإله بشّر بالفرح المسكونة كلّها، لأنّه منك أشرق شمس العدل المسيح إلهنا. فحلّ اللعنة، ووهب البركة، وأبطل الموت، ومنحنا الحياة الأبديّة" (الطروبارية). "اليوم حنّة العاقر تلد فتاة الله، التي سبق انتخابها من بين جميع الأجيال مسكنًا للخالق المسيح الإله ملك الكلّ، إتمامًا لتدبيره الإلهي الذي به أُعيدت جبلتنا نحن الأرضيّين وانتقلنا من الفساد الى الحياة الأبديّة" (صلاة المساء). من ميلاد العذراء تنقلنا الكنيسة بشكل طبيعي للتأمّل في عمل المسيح الخلاصي: فقد حلّ اللعنة وأبطل فساد الموت ومنحنا الحياة الأبدية. ج) عيد البشارة (25 آذار) "اليوم بدء خلاصنا، وظهور السرّ الذي منذ الأزل. فإنّ ابن الله يصير ابن البتول، وجبرائيل بالنعمة يبشّر. فلنهتف معه نحو والدة الإله: السلام لك يا ممتلئة نعمة، الرب معك" (الطروبارية). ابن الله يصير ابن البتول الممتلئة نعمة. هذا هو بدء خلاص البشريّة كلّها. وفي قطع مزامير الغروب، نستمع الى حوار بين جبرائيل والعذراء، يتضح فيه دور العذراء في القصد الإلهي الذي منذ الأزل: "إنّ جبرائيل قد وافى اليك أيّتها الفتاة، فكشف لك القصد الذي قبل الدهور، وسلّم لك بلهجة مطربة قائلة: افرحي يا أرضًا غير مزروعة، افرحي يا علّيقى غير محترقة، افرحي يا عمقًا لا تدركه الأبصار، افرحي يا جسرًا ناقلاً الى السماوات، افرحي يا جرّة المنّ الإلهيّة، افرحي يا ناقضة العنة، افرحي يا معيدة دعوة آدم، الرب معك". "إنّ الفتاة العذراء كلّمت زعيم الأجناد قائلة: إنّك قد استعلنت لي كإنسان. فما بالك إذن تنطق بكلمات تفوق الإنسان قائلاً لي إنّ الربّ يكون معي ويسكن في مستودعي؟ فأبِنْ لي كيف أصير محلاً رهيبًا ومقام تقديس للراكب على الشيروبيم، ولا تخدعني بالباطل، لأنّي لا أعرف لذّة ولا زواجًا. فكيف إذن أَلد ابنًا؟" "أجابها الذي لا جسد له قائلاً: حيثما يشاء الإله يغلب نظام الطبيعة، ويجري ما يفوق الإنسان. فكوني على يقين من صدق مقالتي، يا فائقة القداسة والنزاهة. فأردفت قائلة: ليكن لي بحسب قولك أن ألد الذي لا جسد له، آخذًا منّي جسدًا، لكي يرفع باتّحاده الإنسان الى الرتبة الأولى، بما أنّه العزيز وحده" (صلاة المساء). د- عيد ميلاد السيّد المسيح (25 كانون الأوّل) "الآب قد ارتضى والابن صار جسدًا، والبتول ولدت إلهًا متأنّسًا، والكوكب يبشّر، والمجوس يسجدون، والرعاة يسهرون، والخليقة تبتهج". "يا والدة الإله العذراء، لقد ولدت المخلّص، ونقضت لعنة حوّاء القديمة، لأنّك قد صرت أمًّا بمسرّة الآب، حاملة في أحضانك كلمة الله المتجسّد. فالسرّ لا يحتمل فحصاً، بل جميعنا نمجّده بالإيمان فقط، صارخين معك وقائلين: أيّها الربّ الذي لا يدرك المجد لك". "هلمّوا أيّها الشعوب لنمدح والدة المخلّص، الّتي لبثت عذراء بعد الولادة: افرحي أيّتها المدينة الناطقة للإله الملك، التي لمّا سكن فيها المخلّص صنع لنا خلاصاً. فمع جبرائيل نمدحك، ومع الرعاة نمجّدك هاتفين: يا والدة الإله تضرّعي إلى المتجسّد منك لكي يخلّصنا" (قطع الباكرية في سحر العيد). تنطوي هذه الصلوات على تعليم لاهوتي بشأن مريم التي ولدت إلهًا متأنّسًا وبقيت بتولاً، وترنّم لها لأنّها ولدت المخلّص، وتطلب منها أن تتضرّع إليه لكي يخلّصنا. فدور مريم في القصد الإلهي هو أن تعطينا ابن الله المخلّص. |
|||
29 - 01 - 2013, 09:13 AM | رقم المشاركة : ( 39 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب مريم العذراء للمطران كيرلس سليم بسترس
4- مريم العذراء في صلوات الفرض الكنسى والأناشيد الطقسيّة هذه العلاقة بين مريم العذراء وابنها التي تبرز دور مريم في تاريخ الخلاص نجدها أيضاً في سائر صلوات الفرض الكنسي وفي الأناشيد التي تترنّم بها الكنيسة في مختلف المناسبات. سنعطي مثالاً على ذلك القطع التالية المأخوذة من كتاب الأوكتوئيخوس (أي كتاب الألحان الثمانية) وهو مِن وضع القدّيس يوحنّا الدمشقي. وهذا الكتاب مليء بالصلوات الموجّهة إلى مريم العذراء والتي يظهر فيها السيّد المسيح حاضرًا على الدوام وهو الذي يعطيها معناها وبعدها الأخير: "بقدرة الروح الإلهي، وبمشيئة الآب، صرتِ أمًّا بتولاً لابن الله الذي وُلد قبل الدهور من الآب بغير أمّ، ولأجلنا وُلد منك بالجسد بغير أب، وقد أرضعته طفلاً. فلا تبرحي متشفّعة إليه في خلاص نفوسنا" (غروب الأحد، اللحن الثالث، الأبوستيخن). "يا والدة الإله، إنّ داود النبّي... قد تنبّأ عنك منشدًا للصانع بك العظائم: قامت الملكة عن يمينك. فإنّ الإله قد أظهركِ أمًّا تعطي الحياة، إذ ارتضى أن يتأنّس منك، من غير أب، ليجدّد إبداع صورته التي أفسدتها الأهواء، ويجد الخروف الذي ضلّ في الجبال، ويحمله على منكبيه، ويقدّمه للآب، ويضمّه بمشيئته الى القوّات السماويّة، ويخلّص العالم. وهو المسيح المالك الرحمة العظيمة الوافرة" (مزامير غروب الأحد، اللحن الرابع). "من لا يغبّطك أيّتها العذراء الكاملة القداسة؟ من لا يشيد بولادتك البتوليّة؟ فإنّ الابن الوحيد الذي أشرق من الآب بلا زمن، هو نفسه أرى منك، يا نقيّة، متجسّدًا بحال تعجز البيان. والإله بالطبيعة قد صار لأجلنا إنسانًا بالطبيعة غير منقسم إلى أقنومين، بل معروفًا بطبيعتين لا امتزاج بينهما. فإليه ابتهلي أيّتها الكاملة الغبطة والوقار أن تُرحَم نفوسُنا" (مزامير غروب الاحد، اللحن السادس). "إنّ السرّ الخفيّ منذ الأزل، والذي لا تدركه الملائكة، قد ظهر للذين على الأرض بك يا والدة الإله، لمّا تجسّد الإله باتّحاد لا اختلاط فيه، وتقبّل الصليب طوعًا من أجلنا، وبه أقام أوّل من جبل، وخلّص من الموت نفوسنا" (ثيوطوكيون القيامة، اللحن الرابع). في هذه الصلوات موجز لاهوتي لإيمان الكنيسة بشخص يسوع المسيح ابن الله المتجسّد وإشادة بدور مريم العذراء في هذا التجسّد، ودخول في حياة الله النبي أتتنا بواسطة مريم العذراء. والطريقة عينها في التعبير عن دور مريم العذراء نجدها في سائر الصلوات والأناشيد، ولا سيّما في نشيد الأكاثِسْتوس (أو مدائح العذراء)، ونشيد الباراكليسي. ففي هذين النشيدين، نتوجّه إلى مريم العذراء بمدائح وابتهالات تبرز من خلالها علاقاتها بابنها الإلهي مخلّص العالم. فنحيّيها قائليين: "السلام لك يا من بها يشرق الفرح. السلام لك يا من بها تضمحلّ اللعنة. السلام لك يا منهضة آدم الساقط. السلام لك يا منقذة حوّاء من الدموع. السلام لك لأنّك عرش الملك. السلام لك لأنّك تحملين حامل الكائنات. السلام لك يا كوكبًا مظهرًا الشمس. السلام لك يا بطن التجسّد الإلهي. السلام لك يا من بها تتجدّد الخليقة. السلام لك يا من بها يصير الخالق طفلاً. (نشيد الأكاثستوس، البيت الأوّل) السلام لك يا سلّمًا سماويّة بها انحدر الإله. السلام لك يا جسرًا ناقلاً الأرضيين إلى السماء" (البيت الثالث). السلام لك يا أرض الميعاد. السلام لك يا من تدرّ اللبن والعسل" (البيت الحادي عشر). السلام لك يا من بها زالت المعصية. السلام لك يا من بها فتح الفردوس. السلام لك يا مفتاح ملكوت المسيح. السلام لك يا رجاء الخيرات الأبديّة (البيت الخامس عشر). لا بدّ من قراءة هذا النشيد بكامله والتأمّل في كل ما يحويه من صور كتابية ومعان لاهوتية. فكل ما ورد في العهد القديم عن علاقة الله بالإنسان تؤمن الكنيسة أنّه قد تحقّق على أكمل وجه في تجسّد ابن الله في أحشاء مريم العذراء لذلك تدعو مريم بالألقاب التالية: * سلّم يعقوب (تك 28: 12- 13)، لأنّها وصلت السماء بالأرض بولادتها يسوع مخلّص العالم، الذي هو إله وإنسان. وبالمعنى عينه تدعوها "جسرًا ناقلاً بالحقيقة من الموت إلى الحياة" (الأكاثستوس، الأوذية الرابعة، 2). * العلّيقة الملتهبة (خر 3: 1- 16)، والأتّون المتّقد (د 31: 26- 90) لأنّ الألوهة سكنت فيها ولم تحرقها، والملقط الذي حمل الجمرة الإلهيّة المطهّرة من الخطايا (أش 6: 1- 7). تدعوها أيضاً الصلوات الليترجيّة بألقاب متنوّعة تظهر علاقتها بابنها الإلهي: * الفردوس الذي يحوي في وسطه الربّ عود الحياة (تك 2: 9) * المسكن المقدّس (خر 25: 8) * تابوت العهد الذي كان يحوي وصايا الله لأنّها هوت كلمة الله (خر 26) * المائدة (خر 25: 28- 30) * مائدة الحكمة (أم 9: 1- 11) * الجرّة الذهبيّة الحاوية المنّ، الغذاء النازل من السماء (خر 16: 32- 34) * المنارة (خر 25: 31) * عمود النار الذي يهدي السائرين نحو أرض الميعاد (خر 13: 21) لأنّها ولدت المسيح نور العالم * جزّة جدعون المندّاة (قض 3: 36- 40) لأنّ كلمة الله نزل عليها كالندى وحلّ فيها * جبل الله المقدّس (أش 2: 2؛ 30: 9؛ مي 4: 8؛ حب 3: 1- 4) * أورشليم الجديدة. ففي العهد القديم، كان الناس يصعدون إلى جبل أورشليم للاستماع إلى شريعة الله، أمّا في العهد الجديد فمريم هي الجبل المقدّس الذي يحوي كلمة الله. * الجبل الذي، حسب نبوءة دانيال، "انفصل عنه حجر، لا بقوّة اليدين"، فسحق الممالك الأرضيّة، وأنشأ مملكة لا تنقض إلى الأبد" (راجع دا 2: 31- 45). * الكرمة التي زرعها الله لتعطي عنقودًا إلهيًّا ثمرة الحياة (مز 80 (79): 9- 16) * الأرض المباركة التي تعطي غلّة وافرة (مز 67 (66): 7). 5- النصوص الكتابيّة التي تُقرأ في أعياد مريم العذراء هذه العلاقة بين مريم العذراء والسيّد المسيح، ابن الله المتجسّد ومخلّص العالم، تتغنّى بها الكنيسة في كل صلواتها الليترجيّة. وفي أعياد مريم العذراء تختار نصوصاً من الكتاب المقدّس تتحدّث عن علاقة الله الخلاصيّة بالإنسان. وفي هذه النصوص لا ترى الكنيسة نبوءات بحصر المعنى عن مريم العذراء، بل تؤكّد من خلال اختيارها هذه النصوص أنّ علاقة الله بالإنسان التي ظهرت في العهد القديم في رواية الفردوس، وفي كلّ ما يرتبط بهيكل أورشليم من تابوت العهد والمائدة والجرّة الذهبية والحكمة والمدينة المقدّسة والجبل المقدّس، قد وصلت إلى كمالها في تجسّد كلمة الله في أحشاء مريم العذراء. فمريم هي إذن مسكن الله الذي حلّ فيه ابن الله ليتّحد من خلاله بالبشر ويمنحهم الخلاص والحياة الأبديّة. والكنيسة، لدى قراءتها هذه النصوص، تقرأ فيها في الوقت عينه سيرة تكوينها على مدى التاريخ عبر تلمّسات البشر ومحاولاتهم الوصول إلى الاتّحاد بالله، وسرّ كيانها الراهن: إذ هي الآن نقطة التلاقي بين وحي الله وتوق الإنسان ورغبته في الاتّحاد بالله. أ) نصوص العهد القديم * من نصوص العهد القديم تقرأ الكنيسة البيزنطيّة في عيد البشارة (25 آذار)، وعيد ميلاد العذراء (8 أيلول)، وعيد رقادها (15 آب) المقاطع التالية في صلاة الغروب: القراءة الأولى: حلم يعقوب: السلّم المنتصبة على الأرض ورأسها إلى السماء، وملائكة الله تصعد وتنزل عليها (تك 28: 10- 17). فكما أنّ الله اختار يعقوب في العهد القديم ليوصل من خلاله الخلاص إلى شعبه ويربط هكذا الأرض بالسماء إذ لا خلاص إلاّ من الله، هكذا في تمام الأزمنة اختار مريم لينزل من خلالها ابن الله على الأرض ويحقّق الخلاص. وكون السلّم تنتصب من الأرض يشير إلى دور مريم العذراء ودور البشريّة وإسهامها في الخلاص بإيمانها وانفتاحها على عمل الله. القراءة الثانية: رؤيا حزقيال: الباب المغلق في الهيكل (حز 43: 27- 44: 4) يتكلّم النصّ على "باب يكون مغلقًا، لا يفتح ولا يدخل منه إنسان، لأنّ الربّ، إله إسرائيل، قد دخل منه... "ونظرت، فإذا بمجد الربّ قد ملأ بيت الرب". في هذه الصورة إشارة إلى قداسة الله وقداسة مسكنه وقداسة عمله. وقد رأت الكنيسة فيها رمزًا لأمومة مريم البتوليّة. فابن الله دخل أحشاءها ولم يكن لها علاقة مع أيّ إنسان، لا قبل ولادتها يسوع ولا بعد الولادة. فيها حضر الله، ومجد الربّ ملأها ليتجلّى من خلالها للعالم. والليترجيّا البيزنطيّة تذكر هذا الرمز في صلوات عدّة: "السلام لك يا باب الله، الذي اجتازه الخالق متجسّدًا وحفظه مختومًا. السلام لك أيّتها السحابة الخفيفة الحاملة المسيح المطر الإلهي. السلام لك أيّتها السلّم والعرش السماويّان. السلام لك أيّتها الجبل المقدّس المخصب غير المقتطع منه" (أوكتوئيخوس الآحاد، اللحن الثالث، آخر قطعة من قطع التيبيكا والتطويبات التي تتلى في القداس الإلهي). |
|||
29 - 01 - 2013, 09:15 AM | رقم المشاركة : ( 40 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب مريم العذراء للمطران كيرلس سليم بسترس
القراءة الثالثة: وليمة الحكمة (أم 9: 1- 11) يشبّه العهد القديم حضور الله بين الناس بوليمة. فالإنسان الذي يتّحد بحكمة الله كأنّه يأكل خبز الله ويتناول خمر الله: "الحكمة بنت بيتها ونحتت أعمدتها السبعة. ذبحت ومزجت خمرها وصفّفت مائدتها. أرسلت جواريها تنادي على متون مشارف المدينة: من هو ساذج فليمل إلى هنا. وتقول لكلّ فاقدي اللبّ: هلمّوا كلوا من خبزي واشربوا من الخمر التي مزجت. اتركوا السّذاجة واحيوا. إنهجوا طريق الفطنة" (9: 1- 6). بتجسّد ابن الله وكلمته، ظهرت حكمة الله بين البشر. فالمسيح هو نفسه حكمة الله، وقد ظهر لنا في مريم العذراء. ووليمة الحكمة هي أيضاً صورة لمائدة الملكوت السماويّ التي أعدّها الله في حياة المجد. وقراءة هذا النصّ في أعياد مريم العذراء إشارة إلى أنّ الملكوت قد بدأ على هذه الأرض بتجسّد ابن الله في أحشاء مريم العذراء. - في عيد دخول السيّدة إلى الهيكل (21 تشرين الثاني)، يقرأ عوضاً عن القراءتين الأولى والثالثة نصّان يشيران إلى أنّ مريم العذراء هي مسكن الله الحقيقي، وتابوت العهد الجديد: القراءة الأولى: نصب المسكن وتقديسه على يد موسى (خر 40: 1- 5، 9- 10؛ 16: 34- 35). القراءة الثانية: نقل تابوت العهد إلى هيكل أورشليم (1 مل 8: 1- 11). وتنتهي القراءتان بتأكيد حضور الله: "ومجد الربّ قد ملأ المسكن" (خر 40: 35)، "ومجد الرب قد ملأ بيت الرب". - في عيد البشارة (25 آذار) تضاف قراءتان: القراءة الأولى: العلّيقى الملتهبة التي لا تحترق (خر 3: 1- 8). وتوضح إحدى الصلوات سبب اختيار هذا النص: "إنّ ظلّ الشريعة قد جاز بورود النعمة. فكما كانت العلّيقى متوقّدة ولم تحترق، كذلك أنت يا عذراء، ولدت ولبثت عذراء. وعوض عمود النار أشرق شمس العدل، وعوض موسى المسيح مخلّص نفوسنا" (الأكتوئيخوس، غروب الأحد على اللحن الثاني، آخر قطعة من قطع مزامير الغروب). القراءة الثانية: الحكمة الأزليّة التي بها خلق الله العالم (أم 8: 22- 31). إنّ ابن الله وكلمته هو تلك الحكمة التي كانت لدى الله منذ الأزل وبها تمّ خلق العالم. وقد ظهرت لنا تلك الحكمة في تجسّد ابن الله في أحشاء مريم العذراء. وهكذا اعتلن في العالم السرّ الذي منذ الأزلي، وتحقّق قصد الله في خلاص الإنسان. - في عيد دخول السيّد إلى الهيكل (2 شباط) الذي هو في آن واحد عيد مريمي، تقرأ ثلاث قراءات خاصة: القراءة الأولى: مختارات من شريعة موسى حول تكريس الأبكار لله وتطهير الأمّ (خر 13: 1- 3، 10- 12، 14- 16؛ أح 12: 1- 4، 6- 8؛ عد 8: 16- 17). القراءة الثانية: رؤيا أشعيا في الهيكل حول قداسة الله وتنقيته على يد ملاك بجمرة أخذها بملقط من المذبح ومسّ بها فمه (أش 6: 1- 12). القراءة الثالثة: مختارات من نبوءة على مصر وارتدادها إلى الله، "لأنّهم يصرخون إلى الربّ من مضايقيهم، فيرسل لهم مخلّصاً وربًّا فينقذهم" (أش 19: 1- 21). والمسيح المولود من مريم العذراء هو، حسب نبوءة سمعان، "نور يضيء للأمم" (لو 1: 32). ب) المزامير في هذه الذهنيّة نفسها يجب النظر إلى المزامير التي اختارتها الكنيسة لتتلوها في أعياد مريم العذراء، وأهمّها المزموران: 45 (44) و132 (131). فالمزمور 45 هو نشيد دنيوي لعرس ملك في إسرائيل، يعظّم الملك والملكة القائمة عن يمينه. وقد استخدمته الكنيسة لتعظيم السيّد المسيح، ملك الشعب الجديد، ومريم العذراء أمّه الملكة التي منها ولد الملك (راجع هذا المزمور). والمزمور 132 يشيد بتابوت العهد في احتفال انتقاله إلى مدينة داود الملكية. ومريم العذراء هي تابوت العهد الجديد، لأنّ كلمة الله حلّ فيها (راجع هذا المزمور). إضافة إلى هذين المزمورين، تختار الكنيسة من مزامير أخرى آيات تتلوها في صلوات السحر والغروب والقدّاس الإلهي (في الأنديفونات قبل دورة الإنجيل. وآيات هللويا قبل الرسالة)، نقتطفه منها المقاطع التالية: - المزمور 46 (45): 5: "لقد قدّس العليّ مسكنه". 6: "الله في وسطها فلن تتزعزع". - المزمور 48 (47): 2: "عظيم الربّ ومسبّح جدًّا في مدينة إلهنا في جبله المقدّس". 4: "الله في أبراجها يُعرَف، عندما ينصرها". 9: "كما سمعنا كذلك رأينا، في مدينة ربّ القوّات، في مدينة إلهنا". - المزمور 65 (64) 5: "قدّوس هيكلك وعجيب في العدل". - المزمور 72 (71): 1: "أللهمّ أعطِ حكمَك للملك وعدلك لابن الملك". 3: "بشّروا من يوم إلى يوم بخلاص الهنا". 6: "ينزل كالمطر على الجزّة، كالقطر على الأرض". - المزمور 87 (86) 1: "أساسُها على الجبال المقدسة". 2: "الرب يؤثر أبواب صهيون على جميع مساكن يعقوب". 3: "لقد قيلت الأمجاد فيك يا مدينة الله". من المزامير اختارت إذن الكنيسة الآيات التي تشيد بمسكن الله وبين البشر، بمدينة الله التي قدّسها العليّ نفسه، ومن خلالها تشيد لعمل الله في مريم العذراء التي هي مسكن الله الجديد بين البشر ومدينة الله المقدّسة التي قيلت فيها الأمجاد، وفجها تحقّق ما قالته في نشيدها في زيارتها لأليصابات: "ها منذ الآن تغبّطني جميع الأجيال، لأنّ القدير صنع بي عظائم" (لو 1: 48- 49). هكذا يتّضح لنا أنّ الكنيسة في عودتها إلى نصوص العهد القديم لا تقصد أن تستخرج منها نبوءات حول مريم العذراء، بل ترى فيها وسيلة للتغنّي بعمل الله الخلاصي الذي رافق مسيرة البشريّة منذ نشأتها وبلغ كماله في تجسّد ابنه كلمته في أحشاء مريم العذراء. ج) نصوص العهد الجديد في أعياد مريم العذراء تُقرأ أيضاً نصوص خاصّة مستقاة من العهد الجديد: من الإنجيل المقدّس ومن الرسائل. - في صلاة السحر: يقرأ في جميع أعياد العذراء نصّ زيارة مريم العذراء إلى أليصابات مع نشيد مريم العذراء "تعظّم نفسي الربّ" (لو 1: 39- 56)، ما عدا عيد دخول السيّد إلى الهيكل حيث يقرأ نصّ تقدمة السيّد المسيح إلى الهيكل (لو 2: 25- 32). - في القدّاس الإلهي: يُقرأ من الرسائل إمّا نص تواضع ابن الله وتمجيده (في 2: 5- 11)، وإمّا وصف مسكن الله وخيمة الموعد وتابوت العهد كما جاء في الرسالة إلى العبرانيّين (عب 9: 1- 17). وفي عيد تهنئة مريم العذراء في اليوم الثاني لعيد ميلاد السيّد المسيح، يُقرأ نصّ التجسّد في تصميم الله الخلاصي (عب 2: 11- 18). وفي عيد دخول السيّد إلى الهيكل، يقرأ نصّ تفوّق كهنوت المسيح على كهنوت هرون (عب 7: 7- 17). - من الإنجيل المقدّس يقرأ في عيد البشارة رواية لوقا لحدث البشارة (لو 1: 24- 38) - في عيد تهنئة العذراء يقرأ نصّ يروي ما جرى بعد ميلاد المسيح أي الهرب إلى مصر (متى 2: 13- 23) - في عيد دخول السيّد إلى الهيكل تقرأ رواية الحدث بحسب إنجيل لوقا (لو 2: 22- 40) - في سائر الأعياد المريميّة (عيد ميلاد العذراء، عيد دخولها إلى الهيكل، عيد رقادها)، يقرأ نص استقبال مريم ومرتا للسيّد المسيح في بيتهما (لو 10: 38- 42)، ويضاف إلى هذا النصّ مقطع "طوبى للبطن الذهب حملك" (لو 11: 27- 28). إنّ اختيار هذه النصوص الإنجيليّة يستند إمّا إلى كونها تروي حدث العيد، إذا كان للعيد ذكر في الإنجيل المقدّس، وإمّا إلى قداسة مريم العذراء التي يمكن قراءتها من خلال هذه النصوص. فمن خلال إنجيل لوقا (10: 38- 42؛ 11: 27- 28)، يتّضح أنّه، كما أنّ مريم أخت لعازر "قد اختارت النصيب الصالح الذي لن يُنزَع منها" (لو 10: 42) وهو "أن تجلس على قدمي يسوع وتسمع كلامه" (لو 10: 39)، كذلك مريم العذراء تميّزت بقبولها كلام الربّ، وقد استحقّت الطوبى ليس فقط لأنّها حملت المسيح في أحشائها ("طوبى للبطن الذي حملك...")، بل لأنّها "سمعت كلمة الله وعملت بها" (لو 11: 27- 28). ولوقا نفسه يضع على لسان أليصابات الطوبى عينها، توجهها لمريم العذراء: "طوبى للتي آمنت بأنّه سيتمّ ما قيل لها من قبل الربّ" (لو 1: 45). ولذلك اختارت أيضاً الكنيسة المقطع من الرسالة إلى الفيليبيّين الذي يتكلّم على اتّباع المسيح في طاعته التامّة لإرادة الآب، "فإنّه قد وضع نفسه وصار طائعًا حتى الموت، موت الصليب، لذلك رفعه الله..." (في 2: 5- 11). وهكذا أيضاً في قراءات العهد الجديد تبدو مريم العذراء رمز الكنيسة المدعوّة إلى أن تحمل في ذاتها المسيح كلمة الله فتحيا به وتلتزم استعداداته، فيتاح لها أن تعطيه للعالم، ليتقدّس به ويتألّه. |
|||
|