منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 24 - 01 - 2013, 01:14 PM   رقم المشاركة : ( 31 )
the lion of christianity Male
سراج مضئ | الفرح المسيحى


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 1024
تـاريخ التسجيـل : Jan 2013
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : U.S.A
المشاركـــــــات : 753

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

the lion of christianity غير متواجد حالياً

افتراضي رد: قراءة مباشرة لكتاب الثالوث الأقدس المطران كيرلس سليم بسترس



الفصل الثالث

البروتستنتيّة والمجمع التريدنتيني


إن موضوع النعمة هو الموضوع الرئيس الذي قسم الكنيسة الغربية إلى كاثوليكية وبروتستنتيّة. فمحور النقاشات كان الدور الذي يجب أن يعطى لنعمة الله من جهة ولأعمال الإنسان من جهة أخرى في "تبرير الخاطئ أمام الله" وحصول الإنسان على الخلاص.

ولقد اعتبر المصلحون البروتستنتيّون أن طاعتهم للبابا وبقاءهم في الكنيسة الكاثوليكية هما رهن بقبول البابا نظرتهم في هذا الموضوع. إلاّ أن الكنيسة الكاثوليكيّة، في المجمع التريدنتيني، رفضت النظرة البروتستنتيّة وحرمت أتباعها.

ما هي بالإيجاز تعاليم البروتستنتيّة وتعاليم المجمع التريدنتينيّ في موضوع النعمة؟

أولاً- النعمة في لاهوت الإصلاح البروتستنتي

1- الخطيئة الأصليّة أفسدت بطريقة جذريّة طبيعة الإنسان. ومن ثمّ لا وجود للحريّة التي تتيح للإنسان تتميم أعمال برّ وصلاح. فالإنسان خاطئ في كيانه وفي جميع أعماله. نعمة الله هي التي تبرّره وتعمل فيه كل عمل صالح يقود إلى الحياة الأبديّة. والشرط الكافي والضروري للحصول على هذا التبرير هو الإيمان. والإيمان ليس اعتناقاً فكرياً لحقائق عقائديّة، بل هو عمل إرادة به يثق الإنسان برحمة الله الذي ينحني على الإنسان ويغفر له خطاياه.

2- التبرير الذي يحصل عليه المؤمن لا ينفذ إلى صميم طبيعته الإنسانيّة. بل يبقى عرضيًّا وخارجيًّا. يبقى الإنسان المبرَّر خاطئاً. إلا أن خطيئته لا تحسب عليه. انه، حسب تعبير لوتر، "خاطئ وبارّ في آن معاً".

3- الأعمال لا تقود إذاً إلى التبرير. فالإيمان وحده يبرّر الإنسان. إلا أن الإنسان يجب ألاّ يكتفي بالإيمان، بل أن يقرن الإيمان بالعمل.

يقول ملنختون إن الأعمال هي ثمار الإيمان. وإن لم تكن هي التي تبرّر الإنسان إلا أن الله قد أوصى بها، ولا بدّ للمسيحيّ من أن يظهر إيمانه بحياة جديدة في تتميم جميع وصايا الله وجميع تعاليم المسيح.

إلاّ أن الخلاص الأبديّ لا يحصل عليه المؤمن بما يقوم به من أعمال صالحة. فالإنسان، مهما قام بجهد ومهما صنع من أول صالحة ومهما بلغ من كمال وقداسة، فإنه يبقى خاطئاً، ولن يستحقّ بأعماله وبحياته الحياة الأبديّة. فالخلاص هو نعمة مجانيّة استحقها لنا "المسيح وحده" بموته الفدائيّ وقيامته. "النعمة وحدها، "المسيح وحده"، "الإيمان وحده"، هي العبارات الثلاث التي توجز فكرة المصلحين في النعمة والتبرير والخلاص الأبديّ.


  رد مع اقتباس
قديم 24 - 01 - 2013, 01:14 PM   رقم المشاركة : ( 32 )
the lion of christianity Male
سراج مضئ | الفرح المسيحى


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 1024
تـاريخ التسجيـل : Jan 2013
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : U.S.A
المشاركـــــــات : 753

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

the lion of christianity غير متواجد حالياً

افتراضي رد: قراءة مباشرة لكتاب الثالوث الأقدس المطران كيرلس سليم بسترس



ثانياً: المجمع التريدنتينيّ (الدورة السادسة، 13 كانون الثاني 1547)

أعلن المجمع التريدنتينيّ العقيدة الكاثوليكية حول النعمة في "القرار في التبرير". وفيه يتكلم عن التبرير الذي يحصل عليه الإنسان البالغ. أمّا الأطفال الذين يتبرّرون بالمعمودية دون أيّ مساهمة من قبلهم، فلا يأتي المجمع على ذكرهم في هذا القرار.

في 16 فصلا و33 بنداً يعرض المجمع للخلاص والتبرير اللذين يمنحهما الله للإنسان باستحقاقات يسوع المسيح، ويؤكد ضد التعاليم البروتستنتية مساهمة الانسان في الخلاص والتبرير باستحقاقات إعماله الصالحة. سنكتفي هنا بإيجاز الفصول الستة عشر:

1- إن الخطيئة الأصلية قد جعلت الناس "عبيداً للخطيئة"، بحيث لا يستطيعون الحصول على التبرير بقواهم الطبيعية أو بتتميم الناموس.

2 و3- المسيح، بموته، برّرنا. ومن يولد من جديد يشترك في آلام المسيح ويصبح ابن الله ويصل على النعمة التي تصيّره باراً.

4- تبرير الإنسان يتمّ بالمعموديّة، كما كتب: "لا أحد يستطيع أن يدخل ملكوت الله ما لم يولد من الماء والروح" (يو 3: 5).

5- إن الله قد أحبّنا أولاً. فهو إذاً يعطي النعمة للإنسان دون أيّ استحقاق من قبل الإنسان. إلا أن الإنسان لا يفقد حريّته، بل يستخدمها عندما يقبل نعمة الله السابقة. والنعمة السابقة هي التي تسبق ارتداد الإنسان وتبريره.

6- التمهيد للحصول على التبرير: يهيّأ الإنسان للحصول على التبرير بطرق مختلفة: نعمة الله السابقة؛ الإيمان بالوحي وبأن الله هو الذي يبرّر الخاطئ؛ التوبة؛ التصميم على نيل المعموديّة وعلى بدء حياة جديدة وعلى تتميم وصايا الله.

7- التبرير ليس مجرد غفران للخطايا بل تجديد الإنسان الداخليّ بتقبل النعمة. فالإنسان الخاطئ يصبح بارًّا في صميم كيانه ووارثاً للحياة الأبديّة.

8- الإيمان يبرّر الإنسان بمعنى ان الإيمان هو بدء الخلاص والتبرير.

9- لا أحد يستطيع أن يعرف معرفة أكيدة لا تحتمل الشكّ والخطأ انه نال النعمة. فمن جهة يجب آلا نشك في رحمة الله، ومن جهة أخرى يجب أن نعي دوماً ضعفنا وإهمالنا وتقصيرنا.

10- البرّ الذي يحصل عليه الإنسان ينمو بالأعمال الصالحة.

11- تتميم الوصايا ممكن وضروريّ للإنسان المبرّر. فالإيمان وحده لا يكفي

12- لا أحد يستطيع أن يقول إنه من عداد المخلّصين الذين سبق الله فحدّد أن يحصلوا على الخلاص. لأن كل إنسان معرض للخطيئة ويمكن أن يقع في الخطيئة

13- نعمة الثبات في الإيمان وفي النعمة: لا أحد يستطيع أن يقول إن الله سيمنحه إياها حتى وإن كان هو غير أمين لله بتتميم الأعمال الصالحة.

14- من نال النعمة التبرير ثم عاد فسقط في الخطيئة يفقد الخالع. لكنه يستطيع بسر التوبة استعادة النعمة التي فقدها.

15- بالخطيئة المميتة لا يفقد الإنسان إلاّ النعمة، أمّا الإيمان فلا يُفقَد سوى بالجحود.

16- ثمار التبرير: إستحقاقات الأعمال الصالحة، حسب قول بولس الرسول: "كونوا مستزيدين على الدوام في عمل الرب، عالمين أن تعبكم ليس بباطل في الرب" (1 كو 15: 58)، "ان الله ليس بظالم حتى لينسى عملكم الصالح والمحبة التي ابديتموها لأجل اسمه" (عب 6: 10)، "لا تفقدوا ثقتكم فإنّ لها جزاء عظيما.." (عب 10: 35). لذلك فالحياة الأبديّة هي في آن معاً نعمة وعد بها المسيح أبناء الله ومكافأة يمنحها الله جزاء الأعمال الصالحة. ذلك هو "إكليل البر الذي سيجزي به الله الديّان العادل.. مع الذين أحبّوا ظهوره" (2 تي 4: 7).

ان يسوع هو الذي يمنح دوماً قوّته للمبرّرين، "كالرأس للأعضاء" (اف 4: 15)، و"كالكرمة للأغصان" (يو 15: 5). وهذه القوة تسبق وتصحب وتتبع دوماً أعمالهم الصالحة، وبدونها لا يمكن أن تكون هذه الأعمال مرضيّة أمام الله ومستحقّة الجزاء.

إن محبة الله للبشر عظيمة إلى حدّ أنها تجعل من مواهبه استحقاقات لهم.


  رد مع اقتباس
قديم 24 - 01 - 2013, 01:15 PM   رقم المشاركة : ( 33 )
the lion of christianity Male
سراج مضئ | الفرح المسيحى


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 1024
تـاريخ التسجيـل : Jan 2013
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : U.S.A
المشاركـــــــات : 753

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

the lion of christianity غير متواجد حالياً

افتراضي رد: قراءة مباشرة لكتاب الثالوث الأقدس المطران كيرلس سليم بسترس



ثالثًا- ماذا بقي اليوم من هذا النقاش بين الكاثوليك والبروتستنت؟

يُعتبر اليوم النقاش الذي جرى بين الكاثوليك والبروتستنت في القرن السادس عشر أمراً عفّاه الزمن. ويمكننا اليوم أن نرى بوضوح كيف كان كل فريق يؤكّد بشدة ناحية معيّنة من العقيدة الواحدة. وبلغت حدّة النقاش بالبعض إلى مواقف متصلّبة منافية لتعليم كنيستهم. نذكر على سبيل المثال قول أحد اتباع لوثر الغيورين، نيكولا فون امسدورف: "إن الأعمال الصالحة مضرّة للخلاص وللحياة الأبديّة". ان نقطة انطلاق لوثر هي مجانيّة الخلاف، إلا أن قولا كهذا يناقض آراءه التي نجد فيها اعتدالا. فمع تشديده على مجانيّة الخلاص وأوّلية الإيمان بالنسبة إلى الأعمال، يعتبر، في تقديمه للرسالة إلى الرومانيين في طبعته الألمانيّة للكتاب المقدّس، أن "الإيمان الحيّ والقويّ لا يسعه إلا أن ينتج عنه باستمرار عمل الخير".

من جهة أخرى يجب قراءة تأكيدات المجمع التريدنتينيّ للأعمال الصالحة على ضوء ما يقوله في نهاية الفصل السادس عشر في أوّلية نعمة الله: "إن محبة الله للبشر عظيمة إلى حد أنها تجعل من مواهبه استحقاقات لهم".

نخلص إلى القول إن الأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمن لا بدّ منها للخلاص. ذلك أنها الدليل في آن واحد على صحّة إيمانه وعلى نعمة الله التي تعمل فيه.


  رد مع اقتباس
قديم 24 - 01 - 2013, 01:15 PM   رقم المشاركة : ( 34 )
the lion of christianity Male
سراج مضئ | الفرح المسيحى


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 1024
تـاريخ التسجيـل : Jan 2013
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : U.S.A
المشاركـــــــات : 753

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

the lion of christianity غير متواجد حالياً

افتراضي رد: قراءة مباشرة لكتاب الثالوث الأقدس المطران كيرلس سليم بسترس



رابعاً- النعمة المقدِّسة والنعمة الحاليّة

هناك تمييز تقليدي في اللاهوت الغربي بين النعمة المقدِّسة والنعمة الحالية. ما معنى هاتين اللفظتين؟ إن التبني والولادة الجديدة بالمعموديّة واشتراك المؤمن المبرَّر بالطبيعة الإلهية وسكنى لروح المقدس في نفسه، كلّ هذه الأمور التي تكلّمنا عنها في الفصول السابقة هي طرق مختلفة للتعبير عن الحقيقة نفسها: وتلك الحقيقة هي أن الإنسان الخاطئ يصبح مبرِّراً، ينتقل من حالة الخطيئة إلى حالة البر تلك الحالةَ الجديدة تدعى أيضاً "حالة النعمة". أمّا النعمة التي يحصل عليها الإنسان بانتقاله إلى تلك الحالة الجديدة فتدعى "النعمة المقدِّسة"، لأنها هي التي تقدّس الإنسان وتبرّره.

تلك النعمة هي "موهبة مخلوقة"، وبهذا تتميّز عن "الموهبة غير المخلوقة"، التي هي الروح القدس نفسه الذي يهبه الآب بالابن. تلك النعمة ليست موهبة عابرة، بل حقيقة ثابتة، "طبيعة" جديدة: كما أن الطبيعة الإنسانيّة هي مبدأ أعمال الإنسان الاعتياديّة لطبيعيّة، كذلك النعمة المقدِّسة هي مبدأ أعمال الإنسان الفائقة الطبيعة.

النعمة المقدّسة هي نتيجة لحضور الروح القدس في النفس. وقد ركّز آباء الكنيسة على هذا الحضور، انطلاقا من العهد الجديد ولا سيما من يوحنا وبولس.

النتيجة الأولى للنعمة المقدّسة هي "الاشتراك في الطبيعة الإلهية". هذا الاشتراك لا يقوم فقط على التشبّه بالله بتتميم الفضائل (اشتراك ادبيي)، ولا هو اندماج حلوليّ مع الله، بحيث يزول كلّ فرق بين الإنسان والله. إن المفهوم الكاثوليكيّ لهذا الاشتراك هو حلّ وسط بين هذين المفهومين المتطرّفين. إن الله يرفع الطبيعة الإنسانيّة إلى درجة سامية يدعوها الآباء وهذا التألّه يصبح في الإنسان مبدأ أعمال صالحة، دون أن يزيل الفرق بين الإنسان والله.

النتيجة الثانية للنعمة المقدَسة هي "التبنّي": فبالنعمة يصبح الإنسان ابن الله بالتبنّي.

النعمة الحالية هي المساعدة العابرة التي يرسلها الله للإنسان الغير المبرّر لينير عقله ويلهم إرادته ويوصله إلى البرّ، وللإنسان المبرّر ليثبّته في طريق البرّ وفي حالة النعمة.

إن عبارة "النعمة الحالية" لا نجد لها أيّ أثر في كتابات الآباء ولا في القرون الوسطى قبل القرن السادس عشر. وقد استعملت للإجابة على سؤال عمليّ: كيف نعبّر عن النعمة التي ينالها الإنسان قبل تبريره؟ بما انه لا يحصل على النعمة المقدِّسة إلا بالمعموديّة والتبرير، فلا بدّ من وجود نعم أخرى يمنحها الله للإنسان ليقوده إلى الارتداد وبالتالي إلى قبول النعمة المقدِّسة. وتلك النعم دعاها اللاهوتيون "النعم الحاليّة".

وتلك النعم الحاليّة هي إمّا إلهامات مباشرة من قبل الله وإمّا مساعدات يرسلها الله بواسطة البشر، كسماع المواعظ وقراءة الكتب المقدّسة، والأمثلة الصالحة، وإرشادات الأصدقاء.

كيف ينظر اللاهوت المعاصر إلى هذا التمييز بين النعمة المقدّسة والنعمة الحاليّة وإلى مفهوم النعمة بنوع عام؟

  رد مع اقتباس
قديم 24 - 01 - 2013, 01:16 PM   رقم المشاركة : ( 35 )
the lion of christianity Male
سراج مضئ | الفرح المسيحى


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 1024
تـاريخ التسجيـل : Jan 2013
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : U.S.A
المشاركـــــــات : 753

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

the lion of christianity غير متواجد حالياً

افتراضي رد: قراءة مباشرة لكتاب الثالوث الأقدس المطران كيرلس سليم بسترس



الفصل الرابع

النعمة في اللاهوت المعاصر

اللاهوت علم يحاول التعبير بكلام بشري عن حقيقة الله وعلاقته بالإنسان. إن الله قد أوحى لنا بذاته بابنه يسوع المسيح. ففي المسيح عرفنا الآب وعرفنا إراته الإلهية في خلاص البشر، وأدركنا العلاقة التي يريد أن يقيمها معنا. إلاّ أنّنا في تعبيرنا عن تلك العلاقة نستخدم كلامًا بشريّاً يخضع لتطوّر البيئة الحضارية التي نعيش فيها وتتعدّد وجوهه. بيد أن هذه التعددية لا تعني أن جميع الطرق التي يعبّر بها الإنسان هي مماثلة من حيث القيمة، فقد نميل إذ إحداها ونرفض غيرها. ولكن يجب إلاّ نحكم على الأجيال السابقة لكونها لجأت إلى طريقة دون أخرى، بل نرى ما فيها من نواح إيجابية تساعدنا على التعبير اليوم عن حقيقة الله التي لا يمكن أيّ عقل بشري أن يدرك غور أبعادها.

فكيف إذن يعبّر اللاهوت اليوم عن مفهوم النعمة؟

1- النعمة حضور الله نفسه

يرى اللاهوت المعاصر أنّ موضوع النعمة لا يمكن أن يعالَج بشكل عرضي إلى جانب سائر المواضيع اللاهوتية، كالله والخلق والتجسّد والكنيسة والأسرار، فالنعمة هي الإطار العام الذي يجب أن تُبحث فيه كل المواضيع اللاهوتية، لأنها في نظره ليست مجرّد مساعدة يمنحنا إيّاها الله من بعيد، بل هي عطاء الله ذات لنا. النعمة هي الله نفسه من حيث يعطي ذاته للإنسان، على مختلف الأصعدة: في الخلق والتجسّد والكنيسة والأسرار. إنّها حضور الله نفسه في الكون وفي الإنسان وفي التاريخ.

ء) النعمة عطاء الله ذاتَه للإنسان

يرى اللاهوتي الألماني كارل راهنر في الإنسان انفتاحاً كيانياً على المطلق، عليه يقوم تسامي الإنسان بالنسبة إلى ذاته وإلى الكون. وداخل هذين الانفتاح والتسامي يرى راهنر في النعمة عطاء الله ذاتَه للإنسان. فالنعمة ليست عطية ثانوية أو مساعدة عابرة تأتينا من الله بشكل سرّي غامض، ولا تلك "الهبة المخلوقة" التي تحدَّث عنها اللاهوت الغربي التقليدي، بل هي عطاء الله ذاتَه لنا، وفيه يدخل كلُّ ما نقوله عن النعمة في الكتاب المقدّس وفي تعاليم الآباء والكنيسة. "فالله قد أحبّنا أوّلاً" (1 يو 4: 10) وخلقنا، ثمّ خلّصنا وجعلنا له أبناء بيسوع المسيح، وأرسل إلينا روحه القدّوس مكث فينا، وأشركنا في طبيعته الإلهية، بحيث نملك منذ الآن، كعربون وبداية، كلّ ما سنحصل عليه من مجد ورؤية لله في الحياة الأبدية.

فالخلق والخلاص والتبنّي وميراث الحياة الأبدية هي إذًا عطاء الله ذاتَه لنا. لذلك لا تقتصر النعمة على المغفرة التي تأتينا من الله بعد أن نخطأ، بل تسبق كل خطيئة، ولا تقتصر على المسيحيين، بل تشمل جميع الناس، لأنّ عطاء ذاته للبشر يسبق حرّيتهم وإدراكهم لذواتهم وكلّ اختياراتهم، ولأنّ محبّته مجانية.

ب- النعمة المقدَّمة والنعمة المقبولة

إنّ عطاء الله ذاتَه هو لكلَّ الناس، أقلّه على صعيد العطاء. ومن هذه الزاوية يميّز راهنر بين النعمة المقدَّمة والنعمة المقبولة. فعطاء الله هو ذاته للجميع، أمّا قبوله فمرتبط بحريّة الإنسان، وهو نفسه نعمة، بمعنى أنّه لا يمكن أن يكون إلاّ جوابًا على عطاء الله ذاته للإنسان. فعطاء الله ذاته للإنسان هو الشرط الأساسي لكل إيمان من قبل الإنسان وكل قبول وكل انفتاح على الله.

"فالنعمة المقدَّمة"، التي تشمل كل ما يعمله الله للبشر من خلق وخلاص وعناية وإلهامات للخير، ويظهر فيها حضوره في العالم، تصير "النعمة المقبولة" عندما يتجاوب معها الإنسان ويقبلها بحريّته. فهذه النعمة المقبولة هي في آنٍ واحد نعمة من الله وعمل حرّ من الإنسان وهنا يكمن اسرّ علاقة الله بالإنسان وسر الحريّة البشرية. لماذا يرفض بعض الناس "النعمة المقدّمة" للجميع في حين يقبلها غيرهم؟ إنّ الحرّية أمر إيجابي، لكنّ استعمالها لرفض الخير أمر سلبي. وبمجرّد حصول الإنسان على تلك الحرّية يحصل على إمكان رفض الخير وتجاهل الله وعطائه. ولكن لا ينبغي أن نتوقّف عند هذا السرّ، بل يجب التشديد على دعوة الله للجميع ليتحرّروا من أنانيتهم التي هي أصل كل رفض وكل شر. وتلك الدعوة هي (النعمة المقدَّمة" التي يحيا فيها الإنسان منذ ولادته حتى موته، في بعديه الفردي والجماعي، وهي الينبوع الحي الذي لا ينضب، داعيًا دومًا العطاش إلى الارتواء منه، وهي، النور الأزلي الذي لا يغرب، داعيًا جميع العائشين في الظلمة إلى الاستنارة به.

إنّ التجاوب مع النعمة مطلوب من الإنسان في مختلف مراحل حياته. ومن ينفتح لله ويقبل عطاءه ومحبّته يمكنه أن يقول مع بولس الرسول: "إنّ نعمة الله لم تكن فيّ عبثًا" (1 كو 15: 10).

ج- تحديد النعمة

من هذه النظرة يمكننا القول إنّ النعمة هي حضور الله حضوراً حيّاً ومحبّاً في كل إنسان وفي الكنيسة وفي تاريخ العالم. ماذا نعني بهذا التحديد للنعمة؟

حضور: هذه الكلمة لا تُستعمل للأشياء إنّما للأشخاص، وتعني علاقة شخصية بينهم. فعلاقتنا مع الله هي إذًا علاقة مع شخص لا مع قوّة مبهمة أو شيء جامد.

الله: أي آب بالابن في الروح القدس فالله الآب قد أوحى لنا بذاته بابنه يسوع لكي يجعلنا أبناء له. والنعمة هي التي تحقق هذا التبني وتجعلنا على صورة يسوع. وعندما نتكلم عن تجاوبنا مع النعمة نعني تحقيق صورة يسوع في حياتنا فنسلك على مثال الابن في المحبّة والطاعة للآب وفي نكران الذات والتضحية في سبيل الآخرين. وهكذا بواسطة الابن نتّحد بالآب فنتمّم إرادته ونحيا معه ونصبح أبناءه. والروح هو الذي يعمل فينا ليحقّق فينا تلك البنوّة الإلهية.

حضورًا حيًّا: النعمة ليست مساعدة تأتينا من قوّة سحريّة خارجة عنّا وتعمل فينا بشكل آلي، إنّها علاقة مع شخص حي.

ومحبًّا: النعمة هي حضور الله المحب الرحوم الحنون الأمين.

في كل إنسان: علاقة الله هي علاقة شخصية مع كل واحد منّا، بحيث يصبح ابنًا لله. في العهد القديم كان الشعب كلّه يُعتبر ابنًا لله. أمّا في العهد الجديد فبواسطة شخص يسوع المسيح ابن الله أصبح كل إنسان بمفرده يُعتبر ابنا لله ومدعوًّا إلى إقامة علاقات شخصيّة مع الله.

وفي الكنيسة: إنّ الكنيسة هي جسد المسيح وسرّ خلاص العالم. فالله حاضر فيها بشكل خاص ولا سيّمَا في الأسرار والصلوات التي تتابع على مدى الزمن حضور يسوع في الزمن.

وفي تاريخ العالم: إنّ الله حاضر ليس فقط في المؤمنين به بل أيضًا في تاريخ العالم بأسره، إذ يعمل فيه بشكل فعّال ليصل به إلى الخلاص الشامل. وهذا هو المفهوم المعاصر الواسع "للعناية الإلهية" التي لا تُعنى فقط بشؤوننا الفردية، بل كذلك بشؤون التاريخ كلّه ليمتلئ من حضور الله.

2- النعمة لقاء بين حرّية الله وحرّية الإنسان

هناك مسألة اصطدم بها اللاهوت منذ القرون الأولى، هي كيفية التوفيق بين نعمة الله التي تسبق كل مبادرة بشرية وترافق كل عمل إنساني وحرّية الإنسان.

فبيلاجيوس وأتباعه يشدّدون على حرّية الإنسان وينتقصون من تأثير الله، بينما يركّز أغوسطينوس وتوما الأكويني ولوثر وجنسينيوس على ضعف الإنسان وفساده للمحافظة على عظمة الله وأوّلية عمله.

ويذهب الملحدون المعاصرون، في انتقادهم للمؤمنين، إلى القول إنّ مجرّد الإيمان بوجود الله هو انتقاص لعظمة الإنسان. فإذا كان الإنسان، كما يقول ماركس، بحاجة إلى إله يمنحه الحياة، فلا قيمة له البتة. فإمّا الله وإمّا الإنسان. والملحدون يختارون الإنسان. أمّا المؤمنون فيرفضون هذا الإحراج ولا يرضون أن يختاروا بين الله والإنسان.

ء) الاختيار الحرّ والحرّية المشروطة

منذ القرن السابع عشر تركّزت الحرّية البشرية واقتصرت على الاختيار فكان معظم اللاهوتيين يحدّدونها بقولهم "إنّها الإمكان الذي يتمتعّ به الإنسان في اختيار عمل أو رفضه، في الاختيار أو عدم الاختيار". وكانت تلك الحرّية تُعتبر مطلقة بحيث يستطيع الإنسان أن يختار ما يشاء، وقد نتجت من العقلانية التي ترفض، كما يقول ديكارت، كل معرفة غير واضحة. أمّا الناحية الوحيدة الواضحة في الحرّية فهي ناحية الاختيار، أن يختار الإنسان هذا العمل أو ذاك. وعليه تبدو الخطيئة اختياراً حرّاً للشرّ.

إلاّ أنّ الفلسفة المعاصرة قد أظهرت أنّ الحرّية الإنسانية ليست حرّية مطلقة بل حرّية محدّدة في الزمان والمكان، تؤثّر فيها عوامل مختلفة وراثية وثقافية وعرقية، ماضية وحاضرة. لذلك لا ينطلق العمل الحر من الصفر وكأنّ الإنسان يمكنه أن يضرب صفحًا عن الماضي وعما حوله ليقوم بعمل حرّ مطلق، بل إنّ كلّ عمل حرّ هو مشروط بأوضاع خاصة يجب أن ندرك كل أبعادها فنبني على الواقع وليس على الوهم الخدّاع.

هكذا في علاقة الإنسان مع الله، لا يبدأ الإنسان من لا شيء، بل إنّ عطاء الله ذاتَه للإنسان يسبق كل ما يستطيع هذا القيام به، وحتى إدراك الله والوصول إليه.

ب) النعمة والحرّية

- لا اختيار بين الله والإنسان: إنّ نعمة الله لا تنافس حرّية الإنسان

يؤكّد بعض اللاهوتيين المعاصرين أنّ نداء الملحدين إلى الاختيار بين الله والإنسان هو نداء خاطئ، لأنّه لا يمكن أن يقوم تنافس بين الاثنين. يؤكّد جان باتيستْ مِيتسْ، اللاهوتي الألماني، في كتابه "لاهوت العالم"، استقلالية العالم والإنسان، فيقول إنّ من طبيعة الله ألاّ يهدم الوجود البشري أو كيان الإنسان، بل أن "يجعله يكون"، و"يصيّره حراً". أمّا سْخونِنبِرغْ، فإنه في كتاب له عن الله والإنسان كتبه باللغة الهولندية سنة 1971، يرفض أيضاً الاختيار بين الله والإنسان ويقول: "في الخلق كما في العهد نرفض الاختيار بين الله والإنسان، ففي كليهما الله وحده هو السبب في تحقيق الإنسان ذاته بحرّية".

أجل، إنّ الله قد خلق الإنسان حرًّا ليصل بملء حرّيته إلى تحقيق كمال ذاته. ولمّا ملكت الخطيئة في العالم، واستُعبد لها الإنسان، أرسل لنا الله يسوع المسيح مخلّصًا ليحرّرنا من عبوديتنا ويعيدنا إلى الحرّية: "إن حرّركم الابن صرتم في الحقيقة أحرارًا".

فلا يقوم الخلاص إذًا على منح الإنسان طبيعة جديدة ليقوم بأعمال "فائقة الطبيعة"، وكأنّما الله يصحّح الطبيعة الإنسانية التي خلقها وينظّم الوجود الإنساني تنظيمًا جديدًا ليجعل منه وجودًا آخر. فالأمر الوحيد الذي يجب تغييره هو استعباد الإنسان للخطيئة. فنحن بحاجة إلى تغيير أنفسنا لنحيا في الحرّية الحقيقية التي خلقنا لأجلها، وليس الله هو بحاجة إلى تغيير خليقته.

ونعود فنقول إنّ الحرّية لا تقوم على إمكان الاختيار بين أمرين، بل على إمكان تحقيق الإنسان ذاته والوصل إلى كمال كيانه. وما هو الإنسان؟ إنّه كائن مرتبط بالكون وبالآخرين وبالله. فالإنسان الحرّ هو الذي يحقق في ذاته كلّ تلك العلائق مع الكون ومع الآخرين ومع الله. فالحرّية هي إذًا هدف يسعى إليه الإنسان.

صفتان في الله تبدوان متناقضتين، تساميه وحضوره في خلائقه. فالله هو أوّلاً المتسامي المتعالي، إنّه الله "تعالى"، وقد يخيّل إلينا أنّ هذا التسامي هو الذي يجعل الله بعيدًا عن الإنسان، إلاّ أنّه لا يناقض حضوره في خلائقه، بل على خلاف ذلك يكن في حضوره ومن ثمّة لا تعود النعمة مساعدة تأتينا من الخارج، من بعيد، من أعالي السماء، بل تتجلّى قوّة تنبع من أعماق ذواتنا، لأن الله هو في عمق ذواتنا.

والتأله، لا يناقض التأنسن، أي أن يصبح الإنسان إلهًا (وتلك هي غاية النعمة) وبالتالي إنساناً كاملاً. والنعمة التي هي حضور الله في الإنسان حضوراً حيًا لتجعل منه ابن الله لا تهدف إلى تغيير طبيعته الإنسانية بل إلى جعلها ما يجب أن تكون عليه وما خُلقت لأجله، أي طبيعة إنسانية نقيّة محرّرة من كل ما يشوّهها. فهذا هو الخلاص الذي جاءنا به المسيح: أن يجعل الإنسان صافيًا منقّى من كل ما هو غريب عن إنسانيّته، كالذهب الخالص الذي ينقّى من كل الشوائب والأقذار. وهذا هو أيضاً قوام الحرّية. فلا تناقض إذًا بين النعمة والحرّية. فالنعمة هي التي تجعل الإنسان يصل إلى ملء حرّيته.

النعمة تحرير الحرّية

بنظرة مماثلة يحدّد الفيلسوف واللاهوتي الفرنسي هنري دوميري حرّية الإنسان، ويرى في النعمة تحرير الحرّية.


  رد مع اقتباس
قديم 24 - 01 - 2013, 01:18 PM   رقم المشاركة : ( 36 )
the lion of christianity Male
سراج مضئ | الفرح المسيحى


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 1024
تـاريخ التسجيـل : Jan 2013
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : U.S.A
المشاركـــــــات : 753

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

the lion of christianity غير متواجد حالياً

افتراضي رد: قراءة مباشرة لكتاب الثالوث الأقدس المطران كيرلس سليم بسترس



ما هي الحرّية؟

يقول دوميري إن الإنسان كائن روحي يظهر كيانُه في ما يضفيه على أعماله من معانٍ وقيم. فأعماله كلّها والمعاني والقيم التي تتّسم بها لا تُفرض عليه آخر بل إنّما هي من إبداعه. لا شكّ أنّ هذا الكائن الروحي لم يخلق نفسه بنفسه، بل إن الله هو الذي خلقه. وهنا لا بدّ من تأكيد الفرق الجوهري بين الله الخالق والإنسان المخلوق، ومن ثمّ التأكيد أيضًا أنّ الله هو فوق كل كيان وكل ماهية وكل معنى وكل قيمة. لذلك، وإن كان قد خلق الإنسان، فقد خلقه كائنًا روحيًّا، أي إنّه قد ترك له أن يقوم بأعماله قيامًا شخصيًا ويضفي عليها المعاني والقيم التي بها يصير ما هو عليه ويتّحد بالله الذي منه استقى الكيان والوجود.

فالإنسان كائن روحي بقدر ما يضطلع بذاته وبالعالم اضطلاعًا خاصًا به، وإن بالانسجام مع السبل التي بها يضطلع الآخرون بذواتهم وبالعالم، فينتج أنّ الإنسان هو الذي يعطى ذاته شريعة عمله ويحدّد الشروط الضرورية له، لكونه في آن واحد عقلاً يحقّق ذاتَه في ما يعقله، وجسدًا به يرتبط بالعالم الخارجي ليسوده. "فكلٌّ منّا بحسب قول دوميري، إنسانية متشعّبة. إنه، في آن واحد، كائن روحي ووعي لذاته في الزمن ومن خلال ما يدركه. في قمّته المطلق وعلى أقدامه العالم. أو بالأحرى الله حاضر فيه وإن كان عليه متساميًا، والكون متضمّن فيه وإن كان خارجًا عنه. أمّا الأنا فهو وظيفة الحضور إلى الذات على مدى المسير. إنّه في كل المستويات فيَ طرق يعاد تصحيحها باستمرار ولكن يضطلع هو نفسه بها. من دون هذا الأنا يصير كلٌّ منّا حتمًا عدة أشخاص. أمّا به فيبقى كل إنسان وحدة متعدّدة، بنية متشعّبة وموحَّدة في آنٍ واحد"

هذا الفعل- الشريعة هو نفسه الحرّية التي يمكن التعريف بها أنّها "إرادة تضطلع بأهلها ضمن معطيات محدّدة". فلا وجو لحرية مطلقة: إنّما وجودها وعملها هما حتمًا ضمن معطيات تجد ذاتها فيها على مستويات مختلفة إمّا خارجًا عنها (كظروف الحياة واللقاءات والتأثيرات)، وإمّا داخلها (كالبنى النفسيهّ وردود الفعل عام أحداث الماضي). وهذه المعطيات لا وجود لها بالنسبة إلينا إلاّ ضمن بنية الوعي الإنساني؟ وكما أن الوعي الإنساني لا يكون وعيًا إلاّ لمعطيات معينة. لذلك يخطئ فهمَ الحرية الإنسانيّة من يظنّ أنّ الحرّية تبدأ عندما يتخلّص الإنسان من المعطيات السابقة. ففي أي عمل حرّ كلُّ شيء معطى وكلُّ شيء عمل الإرادة. الحرّية هي دومًا حرية ضمن معطيات وأوضاع معيّنة، ويعود إلى الحرّية تحويلها إلى ممكنات تخلق في إطارها ما تراه مناسبًا من معانٍ وقيم روحية لتحقيق ذاتها. فالحرّية تكمن إذاً في التحرّر في سبيل تحقيق الذات.

إنّ الإنسان يحيا ويلتزم قضايا متنوّعة في حياته، إلاّ أنّه في التزامه يجب عليه تجنّب السقوط في شباك تلك القضايا لئلاّ تأسره في أطرها، لا بل عليه أن يعدّها سبيلاً إلى مزاولة حريته. إنّ الإنسان حرّ، أي إنّه يتحرّر في ما يقوم به من أعمال في تاريخ حياته وخبرة وجوده. لذلك يمكننا القول إنّ الإنسان هو الذي يعطي ذاته باستمرار هويته الخاصة التي هي الحرية.

هذا التعريف بالحرّية نجده أيضًا عند الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، إلاّ أنّ هذا يرفض أن يكون للحرّية أساس خارجًا عنها، وينكر بالتالي وجود إله مطلق، أمّا دوميري فيرى أنّ الله هو مبدأ حرّية الإنسان، وهو فوق كل نظام وكل شريعة وكل قاعدة مسلكية، فالأنظمة والشرائع والقواعد المسلكية لا يمكن الإنسان أن يجدها قبله وقد جهّزها هوله، إنّما على الإنسان أن يحدّدها ويضعها بنفسه. وهكذا يجيب دوميري على خوف سارتر من أن يقيّد الاعتراف بوجود الله حرّية الإنسان أو يزيلها.

النعمة ضمن الحرّية

من هذا الملحظ لا تعود النعمة مساعدة فائقة الطبيعة تضاف إلى الحرّية من الخارج، بل إنّما تُكتَشف ضمن حرية الإنسان. فكيف نفسّر أنّ الحرّية لا يمكنها الاكتفاء بأيّ نظام تضعه وأنّها تجزع من فقدان ذاتها في ماتضعه، إن لم نعترف بأنّها تحمل في ذاتها اقتضاء المطلق؟ إنّ الحرّية تحيا في حالة ملتبسة لا يمكنها الخروج منها بقواها الذاتية، ولا يمكن الإنسِان أن يتجاوز وضعه إلاّ بالاعتراف بالمطلق واللامتناهي كمصدر للحرّية ومثال لها، والنعمة، كوحي من الله، هي ظهور هذين المصدر والمثال في التارّيخ، وهي في الإنسان مشاركته حرّيةَ الله المطلقة برفضه كل نظام سابق.

وهكذا يصل دوميري إلى التعريف بالنعمة أنها "تحرير الحرّية". ويعطي مثالاً على ذلك من موضوع المحبّة فالمحبّة لا تقوم على محبّة الآخر حبًا بالله، فهذه أنانية، بل على محبّة الآخر على مثال الله، أي كما يحبّه الله، وهذا أكثر تطلّبًا. فالحرّية، يقول أوغسطينوس، هي حبّ الخير حبًّا ثابتًا وممتلكًا ذاته بحيث "يكون الإنسان حرّاً حقّاً عندما يصير موضوع غبطته الحرية ذاتها". فالحرّية تكون كافلة عندما يتصرّف الإنسان حبًّا بالغبطة المحرّرة التي تعتقه من الخطيئة، وتأتي بالتالي النعمة عبورًا داخليًا إلى الحرّية الكاملة.

إنّ المحبّة، وتد حرّرتها النعمة، لا يمكنها الوقوع في المثالية، وإن اعتبرنا أنّها هي التي تحدّد موضوعها، إذ إنّها تتوجّه إلى العالم كما هو وإلى الناس كما هم. بيد أنّها إن توجّهت إلى العالم كما هو، فإنّها ترفض حدوده، وإلى الناس كما هم، فإنّها ترفض تصوّراتهم الضيّقة: "فالإنسان، يقول دوميري، يتجاوز ما لا يمكنه أن يستغني عنه".

في تلك النظرة للنعمة نجد الجواب على الانتقادات التي يوجّهها الفلاسفة، من أمثال نيتشه وسارتر، إلى تدخّل الله في عمل الإنسان لإزالة حرّيته وإبداعيته ليس خارجًا عن الإنسان بل إنّ نعمته تعمل داخل إطار حرّيته ذاتها ومن خلالها وهي ليست عمل خلاص يأتي الإنسان من شخص آخر. إن المطلق ليسَ شَخصًا آخر، واعتبار الله كائنًا آخر يضع الله على مستوى الإنسان، في حين أنّه يسمُو فوق كل كيان وكل نظام. لذلك لا تناقض ممكن بين النظام البشري الطبيعي والنظام الإلهي، فالمطلق لا يقضي على النظام الطبيعي بل هو أساسه. واعتبار المطلق أساس النظام الطبيعي يمنع هذا النظام من الانغلاق على نفسه واعتبار ذاته مطلقًا، كما يمنع الإنسان "الذي يرغب رغبة لامتناهية في اللامتناهي" من فقدان تلك الرغبة في النظام الطبيعي غير المتناهي.

- النعمة والاختيار الأساسي

كل إنسان يختبر نقصًا في أعماله ومسافة دائمة بين ما يتوق إليه وما يحققه في واقع حياته، ويسأل نفسه هل حُكم عليه أن يعيش دومًا في هذا التناقض، أم أنّه يستطيع أن يكون له "اتّجاه أساسي" تسير حياته بموجبه، رغم حدودها ونقائصها، اتجاهٌ نحو الخير المطلق والسعادة الدائمة؟ ألا يمكنه اختيار ما يرى فيه الخير الأسمى اختيارًا جذريًا، بحيث تتحدّد بالنسبة إلى هذا الاختيار كل مسيرة حياته وإرادته العميقة وشخصيته الحقيقية وهويته الذاتية؟

إن اختيارات الإنسان في معظمها ليست اختيارات اعتباطية، فهناك اتجاه عام للحياة وهدف أساسي ونظرة شاملة يمكن إدراكها من خلال اختيارات الإنسان الفردية المتعددة. واستنادًا إلى الخبرة الإنسانية يمكن القول إنّ الإنسان يستطيع، متى توصّل إلى درجة كافية من النضج البشري، أن يوحّد ذاته في اختيار أساسي يوجّه كل اختياراته الفردية. وهذا الاختيار يدعى اختياراً، أنّ الإنسان لا يقوم به إلا ضمن معطيات محدّدة، فالحرّية، كما رأينا، لا وجود لها إلاّ ضمن معطيات معيّنة. وإنّه اختيار أساسي، لأنّه في الأساس من كل أعمال الإنسان الفردية ونشاطاته المتنوّعة، يعطيها قيمتها البشرية ومعناها الإنساني، وهو اتجاه جذري من ذات الإنسان بكاملها نحو كل ما هو إزاء الإنسان، العالم والآخرين، ومن خلال العالم والآخرين، نحو الحقيقة الإلهية، يوحّد كل الأعمال المحدودة التي يقوم بها الإنسان وكل العلائق التي تربطه بالآخرين في اتجاه واحد ونحو هدف واحد.

إنّ الاختيار الأساسي أعمق وأشمل بكثير من "حرّية الاختيار" التي كانت تعتبر ميزة الإنسان الخاصة، فالحرّية ليست أمرًا نمتلكه لاختيار ما نشاء، إنما هي دعوة إلى التحرّر للوصول إلى "اختيار أساسي" ننمو من خلاله في الحرّية نموًّا يلازمنا العمر كله. وبمَا أن هذا الاختيار هو اختيار جذري، فلا يمكن أن يكون اختيارًا إلاّ بين أمرين، إمّا الانكماش على الذات بأنانية وإمّا الانفتاح على المطلق، أو، بتعبير آخر، إمّا اعتبار الإنسان ذاته مطلقًا وإمّا الإيمان بالله مطلقًا. فالنعمة هي عطاء الله ذاته للإنسان وفي الوقت نفسه اختيار الإنسان لله اختيارًا أساسيًا يوجّه من خلاله كلّ أبعاد حياته الشخصية وانخراطه في جميع شؤون العالم. أمّا رفض النعمة فهو اختيار الإنسان ذاتَه محورًا لكل شيء، وتلك هي الخطيئة الأساسية التي تظهر وتتشعّب خطايا متنوعة في حياة الإنسان. وارتداد القلب إلى الله هو الاختيار الأساسي الذي يدعونا إليه المسيح: "فمن القلب تخرج الأفكار الشريرة، والقتل، والزنى، والفسق، والسرقة، وشهادة الزور، والتجديف" (متى 15: 19). وكل هذه قد تكون أمرًا عابرًا في حياة الإنسان، في حين يبقى قلبه اختيارًا للنعمة. أمّا إذا أصبحت حالة اعتيادية يعيش فيها، فاختياره الأساسي يضحي اختيارًا للأنانية ورفضًا للنعمة، وإذّاك يمكن القول عنه إنّه يعيش في "الخطيئة المميتة"، لأنّه أمات فيه اختيار الله والنعمة.

إنّ تغيير الاختيار الأساسي ممكن. فالسقوط من حياة النعمة إلى حياة الخطيئة أمر ممكن، كما أنّ الارتداد إلى اختيار أساسي إيجابي أيضًا ممكن. إلاّ أنّ هذا التغيير لا يحدث في معظم الأحيان بطريقة فجائية، بك يهيّأ له طوال سنوات، وكأنّ الإنسان يسمح لاختيار أساسي آخر أن ينمو شيئًا فشيئًا في ذاته إلى جانب اختياره الأساسي الأوّل، إلى أن يزيله ويحلّ محلّه.

3- النعمة "تجليّ" الله

ء) ماذا تعنى لفظة "تجلّي"؟

يقول بولس في رسالته إلى الرومانيين: "إنّ غضب الله يعتلن من السماء على كل كفر وظلم للناس الذين يعوقون الحق بالظلم. لأن ما قد يعرف عن الله واضح لهم، إذ إنّ الله هو نفسه قد أوضحه لهم. فإنّ صفاته غير المنظورة ولا سيّما قدرته الأزلية وألوهته تُبصر منذ خلق العالم مُدرَكة بمخلوقاته" (رو 1: 18- 20) واستنادًا إلى هذا القول أكّد التقليد المسيحي أنّ الإنسان يستطيع الوصول إلى معرفة الله من خلال المخلوقات التي تتجلّى فيها "صفات الله غير المنظورة".

وقد بيّن الفلاسفة من جهتهم أنّ الكائن الأسمى يتجلّى من خلال الكائنات، والمطلق من خلال النسبي. فلفظة "تجلّي" تعني حضورَ غير المنظور حضورًا منظورًا، إلاّ أنّ غير المنظور بحضوره في العالم يبقى غائباً عنه، فهو حاضر وغائب في الوقت نفسه، حاضر من خلال تجلّيه.

و يمكننا إدراك مفهوم "تجلّي الكائن" من العلاقة بين الكلمة والفكرة. فالفكرة تتجلّى في الكلمة، إلاّ أنّ هذا التجلّي يتّم بسمتين متلازمتين. فالسمة الأولى هي أنّ الفكرة ليست أمرًا مكتملاً داخل فكر الإنسان يبرز إلى خارجه بواسطة الكلمة، وإلاّ صارت الكلمة غريبة عن الفكرة وبعيدة عنها، إنّما الفكرة حاضرة في الكلمة حضورًا مباشرًا دون وسيط، لأنّ الوسيط يكون بين أمرين متميّزين أحدهما عن الآخر. امّا السمة الثانية فهي أنّ الكلمة لا يمكنها أن تستنفد الفكرة وتستنفد حضورها، فالفكرة تبقى أكثر اتّساعًا من الكلمة، ويبقى فيها عنصر غائبًا عن الكلمة.

هكذا يتجلّى الكائن والمطلق والله، متّسمًا بهاتين السمتين: فتجلّيه ليس غريبًا عن كيانه، إنّما هو كيانه بالذات الحاضر في تجلّيه، وتلك هي السمة الأولى؛ ثمّ إنّ تجليه لا يستنفذ كيانه كلّه، إذ إنّ الكيان الذي يظهر لنا إنّما هو كيان المطلق والله ذاته، ولكن من إنّه يتجلّى، اي إنّه يبقى حتمًا فرق وبعد ومسافة بيت الكائن في ذاته وتجلّي هذا الكائن، وتلك هي السمة الثانية.

وللتعبير عن الطريقة التي يظهر فيها الكائن والمطلق والله، وعن السمتين اللتين يتّسم بهما ظهوره، استخدم بعض الفلاسفة المعاصرين لفظة "السلبيّة" أو "النفي"، لا لينفوا، في التجلّي، هوية الكائن الذي تجلّى لنا، بل ليعبّروا عن الطريقة التي يمكن الكائن المطلق أن يظهر بها في الكائنات وعنّ السمتين اللتين يتّسم بهما حتمًا ظهوره. وهكذا لا يمكن اللامتناهي أن يظهر إلا متناهيًا، والواحد متعدّدًا، والأزلي زمنيًا، ولا يمكن المطلق أن يتجلّى إلاّ في "تلاشي ذاته".

ب) تجلّي الله

إنّ مفهوم "السلبية" أو "النفي" في الفلسفة المعاصرة يذكّرنا بأسلوب النفي الذي نهجه آباء الكنيسة الشرقية في حديثهم عن إمكان تكلّمنا عن الله. فقد أعلنوا أنّ ما نقوله عن الله لا يمكنه أن يني بكامل سره، لأنّ الصفات التي نصف بها الله، كالصلاح والمحبّة والخلود وغيرهما، إنّما مما مستقاة من عالمنا البشري، لذلك لا تصلح لوصف الله إلاّ إذا أكّدنا، ونحن نستعملها، أنها لا تزال بعيدة عن إدراكه تعالى، فالله أسمى من كل ما يمكننا أن نقوله عنه، أصل من كل فكر وقول.

إنّ ما أكَّده الآباء الشرقيون في ما يمكننا أن نقوله عن الله يؤكّده الفكر المعاصر في تجلّي الله لنا. فالله، وإن ظهر في الكون وفي تاريخ الخلاص، إلاّ أنّه لا يزال في ذاته أوسع بكثير ممّا ظهر لنا، فإنّه قريب منّا وبعيد عنا في آن واحد، وهو نفسه الذي يظهر، ويكل قط من خلال تجلّيه، بمَا في هذه اللفظة من إيجاب ونفي، من حضور وغياب.

هكذا ظهر لنا الله في الكتاب المقدّس، في العهد القديم ثمّ في الجديد في شخص يسوع المسيح، وهكذا يظهر لنا في الكنيسة، وهكذا يظهر لنا في الإيمان.

تجلّي الله في المسيح



إنّ الله قد تجلّى لنا في الكتاب المقدّس بواسطة الوحي الذي نقل إلينا كلام الله. إلاّ أنّ الكلام الذي نقرأه في الكتاب المقدّس لا يمكننا أن نعتبره الوسيط الذي ينقل إلينا كلام الله الموجود منذ الأزل مكتملاً عند الله، إنّما هو في ذاته كلام الله، فيه يتجلّى بمَا في لفظة التجلّي من إيجاب ونفي، من قرب وبعد، من مطابقة وفرق. وفي النفي والبعد والفرق ينفتح المجال لتفسير هذا الكلام، وينشأ "علم التفسير".

ونجد التفسير داخل الكتاب المقدّس نفسه، ولا سيّمَا بين العهد الجديد والعهد القديم. فالعهد الجديد رأى في شخص يسوع المسيح بّحلّي الله نفسه، وكل ما قاله العهد القديم عن الله رآه العهد الجديد في شخصا يسوع: فهو الحكمة، وهو النور، وهو خبز الحياة، وهو الماء الحي، وهو الراعي، وهو الملك، وهو الطريق والحق والحياة، فيه "تمّت الكتب المقدسة" (لو 4: 21)، وفيه صار "ملكوت الله في ما بيننا" (لو 17: 21).

وإن ظهور الله في المسيح كان ظهررًا في التلاشي على قول بولس الرسول: "هو القائم في صورة الله.. لاشى ذاته آخذا صورة عبد، وصار طائعًا حتى الموت، باب موت الصليب" (في 2: 6- 8). إنّ السرّ الفصحي هو الكلمة الأخيرة في تجلّي الله، لذلك لا يمكننا بعد المسيح انتظار نبيّ آخر يتجلّى الله من خلاله، فكل ظهور لله هو ظهور للمسيح. وهكذا تبدو لنا الكنيسة تجلّي المسيح.

تجلي المسيح في الكنيسة



تجد الكنيسة في الكتاب المقدّس نشأتها وحقيقتها، وتتكوّن ارتكازًا على أبعاد ثلاثة هي ذكرى المسيح وتفسير الكتاب وانتظار المجيء الثاني، وفيها يتجلّى المسيح في الكنيسة في حضوره وغيابه. فالمسيح الذي نجدّد ذكراه في الكنيسة التي هي استمرار لحضوره، هو في وقت واحد حاضر بيننا وغائب عنّا على مدى التاريخ. والتفسير الذي به تطبّق الكنيسة كلام الله على العالم في تحوّله الدائم يتضمّن حضور الله وغيابه. أمّا البعد الثالث فهو ترقّب المجيء الثاني وانتظار حضور المسيح الدائم، وهو يتضمّن الغياب على مدى الزمن.

هكذا فالكنيسة هي تجلّي المسيح، صورته الواقعية، من غير أن تستنفده. إنّه يتجلّى من خلالها شرط أن تكون دومًا منفتحة على سر الذي لا يمكنها أن تحيط به أو أن تمتلكه.

تجلّي الله في المسيح

إنّ الله قد تجلّى لنا في الكتاب المقدّس بواسطة الوحي الذي نقل إلينا كلام الله. إلاّ أنّ الكلام الذي نقرأه في الكتاب المقدّس لا يمكننا أن نعتبره الوسيط الذي ينقل إلينا كلام الله الموجود منذ الأزل مكتملاً عند الله، إنّما هو في ذاته كلام الله، فيه يتجلّى بمَا في لفظة التجلّي من إيجاب ونفي، من قرب وبعد، من مطابقة وفرق. وفي النفي والبعد والفرق ينفتح المجال لتفسير هذا الكلام، وينشأ "علم التفسير".

ونجد التفسير داخل الكتاب المقدّس نفسه، ولا سيّمَا بين العهد الجديد والعهد القديم. فالعهد الجديد رأى في شخص يسوع المسيح بّحلّي الله نفسه، وكل ما قاله العهد القديم عن الله رآه العهد الجديد في شخصا يسوع: فهو الحكمة، وهو النور، وهو خبز الحياة، وهو الماء الحي، وهو الراعي، وهو الملك، وهو الطريق والحق والحياة، فيه "تمّت الكتب المقدسة" (لو 4: 21)، وفيه صار "ملكوت الله في ما بيننا" (لو 17: 21).

وإن ظهور الله في المسيح كان ظهررًا في التلاشي على قول بولس الرسول: "هو القائم في صورة الله.. لاشى ذاته آخذا صورة عبد، وصار طائعًا حتى الموت، باب موت الصليب" (في 2: 6- 8). إنّ السرّ الفصحي هو الكلمة الأخيرة في تجلّي الله، لذلك لا يمكننا بعد المسيح انتظار نبيّ آخر يتجلّى الله من خلاله، فكل ظهور لله هو ظهور للمسيح. وهكذا تبدو لنا الكنيسة تجلّي المسيح.

تجلي المسيح في الكنيسة

تجد الكنيسة في الكتاب المقدّس نشأتها وحقيقتها، وتتكوّن ارتكازًا على أبعاد ثلاثة هي ذكرى المسيح وتفسير الكتاب وانتظار المجيء الثاني، وفيها يتجلّى المسيح في الكنيسة في حضوره وغيابه. فالمسيح الذي نجدّد ذكراه في الكنيسة التي هي استمرار لحضوره، هو في وقت واحد حاضر بيننا وغائب عنّا على مدى التاريخ. والتفسير الذي به تطبّق الكنيسة كلام الله على العالم في تحوّله الدائم يتضمّن حضور الله وغيابه. أمّا البعد الثالث فهو ترقّب المجيء الثاني وانتظار حضور المسيح الدائم، وهو يتضمّن الغياب على مدى الزمن.

هكذا فالكنيسة هي تجلّي المسيح، صورته الواقعية، من غير أن تستنفده. إنّه يتجلّى من خلالها شرط أن تكون دومًا منفتحة على سر الذي لا يمكنها أن تحيط به أو أن تمتلكه.

تجلّي المسيح في الإيمان

الإيمان في نظر اللاهوت التقليدي اعتناف لحقيقة الله وحقيقة المسيح. وفي العقائد الإيمانية لا يتوقّف إيماننا عند التعبير العقائدي بل يتخطّاه إلى الله والمسيح اللذين هما موضوع الإيمان.

إلاّ أن الحقيقة تُعتبر اليوم، ولا سيّمَا ابتداء صت من الفيلسوف هَيْدِغِر، إمكان الإطّلاع على الكائن من خلال تجلّيه: فهي ليست المطابقة التامة بين ما في فكرنا وما هو خارج عنّا، بين الذات والموضوع، بل اكتشاف الكائن في ظهوره. إنّ الكائنات كلّها تتجلّى أمامنا وتبرز بكيانها. والمعرفة تقوم على أن ندع الأشياء تظهر في كيانها. والإنسان الذي يعرف هو الإنسان هو الإنسان الذي يشهد ظهور الكائنات. والكلام ليس ما يتيِح للإنسان أن يعبّر تعبيراً كاملاً عن العالم والكائنات، بل هو الطريقة التي يكون فيها الإنسان بالنسبة إلى العالم.

فإذا نظرنا إلى الإيمان نظرتنا إلى الكائن الذي يظهر ويشهد الإنسان ظهوره، بدا لنا الإيمان موضع تجلّي المسيح وتجلّي الله بالمسيح. ففي إيمان المسيح يتجلّى الله، وفي إيمان الكنيسة يتجلّى المسيح، وفي رجائها يتجلّى ملكوت الله، وفي محبّتها تتجلى محبّة الله. وفي كلٍّ من إيمان الكنيسة ورجائها ومحبتها نلاحظ معاً وجود القرب والبعد، الحضور والغياب. فالمسيح يتجلّى في الكنيسة المؤمنة، إلاّ أن الكنيسة لا تستنفد حضوره، والملكوت يتجلّى في الرجاء المسيحي، إلاّ أنّ هذا الرجاء لا يستنفد حضور الملكوت، ومحبّة الله تتجلّى في محبّتنا للقريب، إلاّ أنّ هذه المحبّة لا تستنفد حضور محبّة الله.


  رد مع اقتباس
قديم 24 - 01 - 2013, 01:19 PM   رقم المشاركة : ( 37 )
the lion of christianity Male
سراج مضئ | الفرح المسيحى


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 1024
تـاريخ التسجيـل : Jan 2013
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : U.S.A
المشاركـــــــات : 753

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

the lion of christianity غير متواجد حالياً

افتراضي رد: قراءة مباشرة لكتاب الثالوث الأقدس المطران كيرلس سليم بسترس



4- النعمة في حياة المسيحي اليوميّة

إنّ القول بأنّ النعمة هي عطاء الله ذاتَه لنا ليشركنا في طبيعته الإلهية هو تأكيد حضور الله بذاته في تاريخنا ليخلّصنا ويقدّسنا ويبرّرنا. إنّ الله الخلّص حاضر بنعمته حضورًا مباشرًا في كل أبعاد حياتنا، الشخصية والجماعية، الروحية والجسدية. والإنسان المبرّر الذي يحيا في الإيمان والرجاء والمحبّة هو نفسه تجلّي الله. هذه هي الناحية الأولى في التجلي، ناحية الإيجابية والحضور والقرب والمماثلة. إلا أنّ هناك ناحية ثانية في التجلّي هي ناحية السلبية والغياب والبعد والفرق، نجدها في التشابيه والتعابير الكتابية التي ترى في النعمة علاقة عهد واختيار وحوار ومحبّة بين الله والإنسان. وفي هاتين الناحيتين مجتمعتين يندرج عمل حرّية الإنسان، بحيث يمكننا القول معاً بالنعمة والحرية، والتوفيق بين عمل الله وعمل الإنسان. فالله هو مبدأ حرية الإنسان، ومبدأ كل ما تستطيع تلك الحرّية القيام به، وتلك هي ناحية الحضور والقرب والمماثلة في تجلّي نعمة الله، أمّا ناحية الغياب والبعد والفرق فتكن في جواب الإنسان على مبادرة الله وفي ما تقوم به روحه الخلاّقة على مدى الزمن والتاريخ، بحيث يتجلّى الله من دون أنَ يقضي علىَ حرّية الإنسان وإبداعيته.

إنّ هذه النظرة للنعمة واقعية تبقى على الصراع الذي يلازم الإنسان في عمل حرّيته حتى نهاية الزمن والتاريخ، وتمنع الإنسان من أن يعيش في وهم خيال زائف يرغب في إزالة كل مسافة بينه وبين ذاته، وبينه وبين الآخرين، وبينه وبين الله. إنّ النعمة لا تزال تلك المسافات بل تحرّر حرّية الإنسان ليتمكن من بناء ذاته في علاقة محبة مع الآخرين ومع الله.

ء) تجلّي الله في صلاة المسيحي

عندما يدخل المسيحي في الصلاة يتجلّى له الله في الوقت نفسه قريبًا وبعيدًا، حاضرًا وغائباً، ويدرك معاً أنه يشترك في الطبيعة الإلهية وأنّه لا يزال إنساناً خاطئاً. تلك هي خبرة القديسين والصوفيين المسيحيين الذين بقدر ما يتّحدون بالله يدركون بعدهم عنه، وبقدر ما يدخلون في عالمه يدركون كثافة الظلام والسحاب التي تكتنفهم.

في الصلاة يتجلّى لنا عمل الله للبشر، فنذكر "أعمال الله منذ القديم"، الخلق، والوحي بواسطة الأنبياء، والخلاص بالمسيح، وإرسال الروح القدس على التلاميذ، فنسبّح الله ونباركه ونشكره ونطلب إليه أن يرسل إلينا نحن أيضًا روحه القدّوس ليمكث فينا ويحوّلنا إليه كما يحوَّل الخبز والخمر إلى جسد الرب ودمه.

في الصلاة نفتح كياننا لنمتلئ نحن اليوم من نعمة الله التي أنعم بها على البشر منذ البدء وفي المسيح وفي الروح القدس.

ولكنّنا ندرك في الوقت ذاته أنّ كياننا الذي اشترك في الطبيعة الإلهيّة والحياة الإلهية لم ينصهر بعد في كيان الله، وأنّ الخطيئة لا تزال فينا تبعدنا عن قداسته. وهذه هي المفارقة التي لا بد لنا أن نعيش فيها ما دمنا على هذه الأرض، والتي نختبرها كل مرّة ندخل في الصلاة، من غير أن تحملنا على اليأس، لأنّها الشرط الأساسي الذي يتيح لحرّيتنا الإسهام في عمل الله. إنّ "السلبية" الملازمة لحضور الله هي الفراغ الذي يطلب منا الله أن نملأه بحضورنا البشري.

ب) تجلّي الله في عمل المسيحي

وفي العمل كما في الصلاة تتجلّى لنا نعمة الله في بعديها الإيجابي والسلبي. فالعالم حيث نحن نعيش نجد فيه جنبًا إلى جنب الملء والفراغ، الخير والشر، إذ إنّ عمل الله الحاضر في العالم لا يزيل كل ما فيه من نقص وضعف. لذلك نرى أنفسنا في عالم مفعم بالحبّ وبالبؤس والشقاء والحقد والكراهية. إنّ بين الله وتجليه في العالم مسافة مستمرّة، هي المجال الذي يندرج فيه عمل الإنسان.

إن الله لا يقوم في عمله مقام الإنسان. لذلك لا تتجلّى نعمته إلاّ من خلال عمل الإنسان، في صوت الأنبياء الذين يكرزون بالمحبة، في عمل كل إنسان يجسّد محبة الله عملاً في الزمن، وفي صراخ البائسين الذين يستغيثون برحمة من يستطيع إنقاذهم من بؤسهم، وفي الرحماء الذين يرون فيهم صورة الله وصورة المسيح: "كنت جائعًا فأطعمتموني، وعطشان فسقيتموني، وغريبًا فآويتموني، وعريانًا فكسوتموني ومريضًا فعدتموني، ومحبوسًا فأتيتم إليّ" (متى 25: 35، 36)؛ وتتجلّى في الذين يؤمنون بحضور الله في العالم وفي المسيح، ويشهدون على هذا الحضور بعملهم وحياتهم. إنّ الله حاضر في الكون إنِّما حضورًا يتضمّن علي الدوام غيابًا على الإنسان أن يملأه بحضوره. إنّ نعمة الله تتضمّن دومًا انحجابًا على الإنسان أن يملأه بعمله.

وهكذا يكون المسيحي في صلاته وعمله تجلّي الله.

  رد مع اقتباس
قديم 24 - 01 - 2013, 01:20 PM   رقم المشاركة : ( 38 )
the lion of christianity Male
سراج مضئ | الفرح المسيحى


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 1024
تـاريخ التسجيـل : Jan 2013
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : U.S.A
المشاركـــــــات : 753

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

the lion of christianity غير متواجد حالياً

افتراضي رد: قراءة مباشرة لكتاب الثالوث الأقدس المطران كيرلس سليم بسترس



الباب الثالث الكنيسة

الفصل الأول

نشأة الكنيسة


هناك نظرتان إلى نشأة الكنيسة، نظرة المؤرّخ وعالم الاجتماع، ونظرة اللاهوتي.

فالمؤرّخ وعالم الاجتماع، وقد يكونان ملحدين، ينظران إلى الكنيسة كإلى أيّ مؤسسة بشرية أخرى، ويحاولان أن يبحثا في نشأتها وفي الدوافع التاريخية والاجتماعية التي بعثتها، وقد يُعطيان الشخص الذي أسّسها أهميّة كبرى بقدر ما يبدو لهما أنّ مؤسّسة جديدة من هذا النوع لا يمكن أن تُفسَّر نشأتها بمجرّد تضافر الظروف الاجتماعية الملائمة، فلا بدّ أن يكون في أساس نشأتها شخصيّة قويّة. ويوضح علم الاجتماع كيف يتمّ الانتقال، في مثل تلك المؤسّسات، من بضعة تلاميذ مجتمعين حول معلّم إلى أخوية تضم عدداً أوفر من الناس، ثمّ إلى مؤسسة كبيرة ذات أنظمة وقوانين محدّدة.

أمّا اللاهوتي فيبحث في نشأة الكنيسة وهو مؤمن أنّ يسوع هو المسيح الذي أرسله الله إلى العالم "ليجمع أبناء الله المشتّتين" و"يصالحهم مع الله". لذلك لا يكتفي بالبحث عن بعض العبارات التي يعلن فيها يسوع، في الإنجيل، رغبته الصريحة في إنشاء الكنيسة، بل يبحث في سر شخص يسوع المسيح بكامله، وفي كل أعماله وأحداث موته وقيامته، وفي إيمان الرسل والكنيسة الأولى بمعاني هذه الأحداث ليستشفّ من خلالها إرادة الله والمسيح في إنشاء كنيسة تكون تكملة لحياة المسيح، وتجسيداً لإرادة الله الاتحاد بالبشر وتوحيدهم بعضهم مع بعض.

وبما أن إرادة الله وتصميمه قد انكشفا لنا، ليس في العهد الجديد وحسب، بل أيضاً في العهد القديم، فإنّنا نبدأ بحثنا عن نشأة الكنيسة بما اختبره الشعب وبما أوحى به الله إلى أنبيائه في العهد القديم.

أوّلاً- شعب الله في العهد القديم

1- مراحل تكوين شعب الله

إنّ الكتاب المقدّس هو حكاية علاقة الله بالإنسان من خلال تاريخ شعب اختبر محبة الله ووجوده في ما بينه منذ خلق العالم.

يُجمع علماء الكتاب المقدّس على أنّ الأحداث التاريخيّة الأولى التي يرويها هي التي تدور حول دعوة إبراهيم أي ابتداءً من الفصل الثاني عشر من سفر التكوين. أمّا الفصول الأحد عشر الأولى من هذا السفر فلا تنتمي إلى التاريخ بل إلى التفكير اللاهوتي المعبّر عنه بالقصّة والرواية: "إنها تفكير الحكماء. فيحاول الكاتب أن يجيب على الأسئلة الكبرى التي يطرحها الإنسان على نفسه عن الحياة والموت والحب ومبادئ العالم. وهو يقوم بذلك انطلاقاً من إيمانه بالله، مستخدماً أساطير قديمة".

والأحداث نفسها التي يرويها العهد القديم عن إبراهيم وإسحق ويعقوب ليست تاريخية بالمعنى المعاصر للكلمة. إنّ أساسها تاريخي، ولكنّ تفاصيلها مزيج من الأحداث التاريخية والتقاليد الأسطورية. وما يهمّنا نحن هو النظرة اللاهوتية إلى علاقة الإنسان بالله وتكوين شعب الله في العهد القديم.

كيف نشأت إذن وتطوّرت فكرة "شعب الله"، وهي الرمز السابق والتمهيد للكنيسة في العهد الجديد؟

ء) إبراهيم

لقد اعتبر إسرائيل دعوته واختياره كشعب اعتماداً على وعد الله لإبراهيم بقوله:

"إنطلقْ من أرضكَ وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أُريك. وأنا أجعلك أمّة كبيرة، وأُباركك وأُعظم اسمك، وتكون بركة. وأُبارك مباركيك، وشاتمك ألعنه، ويتبارك بك جميع عشائر الأرض" (تك 12: 1- 3).

"ها أنا أجعل عهدي معك، وتكون أبا جمهور أُمم. وسأُنميك جداً جداً، وأجعلك أمماً، وملوك منك يخرجون. وأُقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك مدى أجيالهم عهد الدهر، لأكون لك إلهاً ولنسلك من بعدك. وأُعطيك أرض غربتك لك ولنسلك من بعدك.. وأكون لهم إلهاً" (تك 17: 1- 8).

فأبناء إبراهيم هم إذاً أبناء الوعد، صنع الله منهم شعباً وأعطاهم أرضاً. وقد تجدّد الوعد كذلك مع إسحِق (تك 26: 3، 4)، ويعقوب (تك 28: 14).

ب) موسى

وإلى النسل والأرض أُضيف مع موسى عنصرٌ جديد هو الناموس أو الشريعة التي تمَّ على أساسها العهد بين الله والشعب:

"صعد موسى إلى الله، فناداه الرب من الجبل قائلاً: كذا تقول لآل يعقوب وتخبر بني إسرائيل. قد رأيتم ما صنعت بالمصريين، وكيف حملتُكم على أجنحة النسور، وأتيتُ بكم إليّ. والآن إن امتثلتم أوامري وحفظتم عهدي، فإنّكم تكونون لي خاصّة من جميع الشعوب، لأنّ جميع الأرض لي. وأنتم تكونون لي مملكة أحبار وشعباً مقدّساً" (خر 19: 3- 6).

وهذه الأوامر هي وصايا الله العشر، وقد قبلها الشعب وعاهد الله على حفظها، فخُتم العهد بينَهما بالدم:

"فجاء موسى وقصَّ على الشعب جميع كلام الرب وجميع الأحكام، فأجابه جميع الشعب بصوت واحد وقالوا: جميع ما تكلّم به الرب نعمل به. فكتب موسى جميع كلام الرب، وبكر في الغداة وبنى مذبحاً في أسفل الجبل، ونصب اثني عثر نصباً لاثني عشر سبط إسرائيل. وبعث فتيان بني إسرائيل، فأصعدوا محرقات وذبحوا ذبائح سلامة من العجول للرب. فأخذ موسى نصف الدم وجعله في طسوت ورشّ النصف الآخر على المذبح. وأخذ كتاب العهد، فتلا على مسامع الشعب، فقالوا: كل ما تكلّم الرب به نفعله ونأتمر به. فأخذ موسى الدم ورشَه على الشعب وقال: هوذا دم العهد الذي عاهدكم به الرب على جميع هذه الأقوال" (خر 34: 3- 8).

ويقوم العهد بين الله وشعبه على أن يكون الشعب أميناً في السير على وصايا الله وأحكامه، وأن يكون الله إله هذا الشعب بنوع خاص فيحميه من أعدائه، فلا تزول أمانته أبداً:

"من خلال تلك الأمانة المتبادلة تنفتح أمامنا نظرة غنية بالقيم الدينية. فالشعب الإسرائيلي، بأمانته لله، يصبح كائناً دينياً ومقدّساً، ويرتفع إلى دائرة حياة الله. فالعهد ينشئ بين الشعب والله نوعاً من صلة قرابة سرية: الله بسكن في إسرائيل ("إن جريتم على رسومي وحفظتم وصاياي وعملتم بها.. أجعل مسكني في ما بينكم ولا أخذلكم، وأسير في ما بينكم، وأكون لكم إلها، وأنتم تكونون لي شعباً" أخ 26: 3، 11). إنّه إلهه، وإسرائيل هو شعب الله، ومملكته، ونصيبه، وميراثه، وخاصته، وكرمه: هذا الشعب الذي يحيا في نظام إلهي يصمت أمّة ثيوقراطية وهو لله "مملكة أحبار وشعب مقدّس" (خر 19: 6)".

وتلك الميزة التي امتاز بها شعب الله نجد تعبيرها التقليدي في سفر تثنية الاشتراع:

"إنّك شعب مقدّس للرب إلهك، وإيّاك اصطفي الرب إلهك أن تكون له أمّة خاصة من جميع الأمم التي على وجه الأرض. لا لأنَّكم أكثر من جميع الشعوب لزمكم الرب واصطفاكم، فإنّمَا أنتم أقلّ من جميع الشعوب، لكن لمحبة الرب لكم ومحافظته على اليمين التي أقسم بها لآبائكم أخرجكم الرب بيد قديرة، وفداكم من دار العبوديّة من يدي فرعون ملك مصر. فاعلم أنّ الربّ إلهك هو الله الإله الأمين، يحفظ العهد والرحمة لمحبِّيه وحافظي وصاياه إلى ألف جيل.. فاحفظ الوصايا والرسوم والأحكام التي آمرك اليوم أن تعمل بها. فإذا سمعت هذه الأحكام وحفظتها وعملت بها فجزاؤك أن يحفظ الرب إلهك عهده لك ورحمته التي أقسم عليها لآبائك، فيحبّك ويباركك ويكثّرك وببارك ثمرة أحشائك وثمرة أرضك" (تث 7: 6- 13).

إنّ العهد مع الله هو أساس وحدة الشعب واختياره. فالشعب يعلم أنه مختار الله ومقدّس له بقدر ما يبقى أميناً للعهد الذي دعاه إليه. أمّا إذا فقد الأمانة لله فلا يعود بعد شعباً بل يفقد هويّته ويتلاشى بين الأمم التي يسلك على مثالها.

ج) داود وسليمَان: الملكية والهيكل

على العناصر الثلاثة المذكورة، الشعب الأرض والشريعة، دخل في ما بعد مع داود عنصر الملكية وبع سليمَان عنصر الهيكل. فالقبائل المختلفة اتّحدت مع داود تحت رعاية ملك واحد، وأصبحت مع سليمَان تصلّي وتقرّب الذبائح في هيكل واحد، هيكل أورشليم. لكنّ الملكية خيّبت آمال الشعب، لأنّها لم تضمن الوحدة الوطنية إذ أنقسمت المملكة بعد سليمَان إلى مملكتين (مملكة الشمال ومملكة الجنوب)، ولا الاستقلال الذي فُقِد أوّلاً في مملكة الشمال سنة 722 ثمّ في مملكة الجنوب سنة 587 بالاجتياح الأشوري.

د) السبي إلى بابل ورسالة الأنبياء

في السبي إلى بابل دُمّرت معظم العناصر التي كان الشعب يستند إليها ليبني وحدته: فالشعب سُبي، والأرض فُقدت، والمملكة أُبيدت، والهيكل دُمِّر، ولم يبقَ للشعب المشتّت إلاّ شريعة الله. وكان لهذه المحن الأثر الكبير في تصوّر العهد القديم "شعب الله"، فتنقّى هو من التصوّرات الماديّة والضيّقة وكذلك الرجاء المبني على الوعود القديمة.

فشعب الله لم يعد مؤلَّفاً من جميع أبناء إبراهيم بالجسد، بل من "البقية الباقية من بني إسرائيل" التي حافظت على الأمانة لشريعة الله ووصاياه، وسوف تكون أساساً لشعب الله الجديد.

وبما أنّ الأمانة لله ولوصاياه أصبحت أساس الانتماء إلى شعب الله، وليس الانتساب العرقي إلى إبراهيم وإلى الشعب الإسرائيلي، أخذ الأنبياء يتساءلون لماذا لا تدخل شعوب أخرى في العهد مع الله وتنتمي إلى شعب الله. وهكذا تحوّلت فكرة إخضاع جميع الأمم الوثنية للشعب الإسرائيلي إلى إخضاع تلك الأمم لله وإدخالها في عهده. ورأى الأنبياء في شتات إسرائيل من جهة قصاصاً لهم من الله لعدم أمانتهم ومن جهة أخرى دعوة لهم للتبشير باسم الله بين الأمم. فهذا طوبيا يقول:

"اعترفوا للرب يا بني إسرائيل، وسبّحوه أمام جميع الأمم. فإنّه فرَّقكم بين الأمم الذين يجهلونه لكي تخبروا بمعجزاته وتعرّفوهم أن لا إله قادراً على كل شيء سواه. هو أَدَّبنا لأجل آثامنا، وهو يخلِّصنا لأجل رحمته.. أمّا أنا ففي أرض جلائي أعترف له، لأنّه أظهر جلاله في أمّة خاطئة" (طو 13: 3- 7).

ونسمع أشعيا يتنبّأ:

"إنّ ربّ الجنود سيصنع لكل الشعوب في جبل أورشليم مأدبة مسمّنات.. ويزيل في هذا الجبل الغطاء المغطّي جميع الشعوب، والحجاب المحجّب جميع الأمم" (أش 25: 6، 7).

وزكريا النبي يعلن:

"رنِّمي وافرحي يا بنت صهيون، فها أناذا آتي وأسكن في وسطك، يقول الرب. فيتَّصل أمم كثيرة بالرب في ذلك اليوم، ويكونون لي شعباً" (زك 3: 10- 11)؛ "هكذا قال رب الجنود: سيأتي شعوب أيضاً وسكّان مدن كثيرة، ويسير سكّان الواحدة إلى الأخرى قائلين: لنَسِر سيراً لاستعطاف وجه الرب، والتماس رب الجنود. ويأتي شعوب كثيرون وأُمم أقوياء، لالتماس رب الجنود في أورشليم، واستعطاف وجه الرب" (زك 8: 21، 22).

وبعد أن تبدّدت من الشعب الإسرائيلي أوهام العظمة الدنيوية والسيطرة الزمنية على سائر الشعوب، راح الأنبياء ينبئون بتجديد روحي يتمّ فيه عهد جديد يجعل الله فيه شريعته في ضمائر الشعب ويكتبها على قلوبهم، ويجعل روحه في أحشائهم ويجعلهم يسلكون في رسومه:

"ها إنّها تأتي أيّام، يقول الرب، أقطع فيها مع آل إسرائيل وآل يهوذا عهداً جديداً، لا كالعهد الذي قطعته مع آبائهم، يوم أخذت بأيديهم لأخرجهم من أرض مصر، لأنّهم نقضوا عهدي، فأهملتهم أنا، يقول الرب. ولكنَ هذا العهد الذي أقطعه مع آل إسرائيل بعد تلك الأيّام، يقول الرب، هو أنّي أجعل شريعتي في ضمائرهم، وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهاً، وهم يكونون لي شعباً. ولا يعلّم بعد كل واحد قريبه وكل واحد أخاه، قائلاً: إعرف الرب، لأنّ جميعهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم، يقول الرب، لأنّي سأغفر آثامهم، ولن أذكر خطاياهم من بعد" (إر 31: 31- 34).

"قل لآل إسرائيل: هكذا قال السيّد الرب، ليس لأجلكم أنا فاعل، يا آل إسرائيل، لكن لأجل اسمي القدّوس، الذي دنّستموه في الأمم، فتعلم الأمم أنّي أنا الرب، يقول السيّد الرب، حين أتقدّس فيكم على عيونهم. وآخذكم من بين الأمم، وأجمعكم من جميع الأراضي، وآتي بكم إلى أرضكم، وأنضح عليكم ماءً طاهراً، فتطهرون من جميع نجاستكم، وأطهّركم من جميع أصنامكم. وأعطيكم قلباً جديداً، وأجعل في أحشائكم روحاً جديداً، وأنزع من لحمكم قلب الحجر، وأعطيكم قلباً من لحم. وأجعل روحي في أحشائكم، وأجعلكم تسلكون في رسومي وتحفظون أحكامي وتعملون بها. وتسكنون في الأرض التي أعطيتها لآبائكم، وتكونون لي شعباً، وأكون لكم إلهاً" (حز 36: 22- 28).

ه) الألفاظ المستعملة في العهد القديم للدلالة على شعب الله

إنّ لفظة "كنيسة" معرّبة من اللفظة الآرامية "كنوشتا" التي تعني المجمع أو الجماعة. أمّا العبريّة فتستعمل لفظة "كاهال" للدلالة على جماعة الشعب الملتئمة لسماع كلمة الله في سيناء (تث 4: 10)، أو في بريّة موآب: "وتلا موسى على مسامع كل جماعة إسرائيل كلام هذا النشيد إلى آخره" (تث 31: 30)، أو مع يشوع بن نون: "لم تكن كلمة من كل ما أمر به موسى لم ينادِ بها يشوع بحضرة كل جماعة إسرائيل، مع النساء والأطفال والغريب السائر معهم" (يش 9: 35). وتلك اللفظة عينها يضعها سفر أخبار الأيّام على لسان داود: "فالآن على عيون كل إسرائيل، جماعة الرب، وعلى مسمع إلهنا، احفظوا وابتغوا جميع وصايا الرب إلهكم لترثوا الأرض الصالحة وتورثوها لبنيكم من بعدكم إلى الأبد" (1 أخ 28: 8). وكذلك يروي سفر نحميا أنّ عزرا الكاهن أحضر التوراة أمام الجماعة من الرجال والنساء وقرأ في سفر التوراة (نح 8: 2).

ولقد ترجمت السبعينية اليونانية لفظة "كاهال" العبريّة تارة بلفظة "إِكْلِيسِيّا"، وهي تعني "جماعة المواطنين"، وطوراً بلفظة "سِيْناغُوْغيْ" التي تعني أيضاً "المجمع" أو "الجماعة". وبما أنّ هذه اللفظة الأخيرة كانت مستعملة في القرن الأوّل للدلالة على مجمع اليهود، اختار المسيحيون الأوّلون لأنفسهم اللفظة الأولى تميّزاً عن اليهود. لكنّ المعنى في كلتا اللفظتين هو "الجماعة المقدّسة التي دعاها الله دعوة خاصة". وهذا ما تعنيه أيضاً عبارة أخرى هي "كْلِيِتيْ آغِيا" التي تفسيرها "محفل مقدّس" وهي ترجمة العبارة العبرية "ميكراقوديش" (خر 12: 6؛ أح 23: 3؛ عد 29: 1). فهذه الألفاظ والعبارات كلّها تستعمل للدلالة على جماعة الشعب الملتئمة للصلاة وسماع كلمة الرب وتذكّر عهده.

2- ملكوت الله في العهد القديم

إنّ رسالة "شعب الله" هي تحقيق "ملكوت الله" أو "ملك الله" بين البشر. فمن أين أتت فكرة "ملك الله"؟ وماذا تعني في العهد القديم؟

ء) أصل الفكرة

يعود تصوّر الله ملكاً يملك على شعبه إلى تقليد قديم في حياة شعب الله، نشأ ممّا اختبره الشعب على مدى تاريخه، ولا سيّمَا في حروبه، من أنّ الله هو الإله المحارب الذي يحارب إلى جانبه. فنسمع مثلاً موسى وبني اسرائيل، بعد اجتيازهم البحر الأحمر ورؤيتهم المصريين يغرقون فيه، يسبّحون الله قائلين:

"الرب صاحب الحروب، الرب اسمه، مراكب فرعون وجنوده طرحهما في البحر، يمينك يارب عزيزة القوّة، يمينك يا رب تحطّم العدوّ، وبعظمة اقتدارك تهدم مقاوميك.. الرب يملك إلى الدهر وإلى الأبد" (خر 15: 3- 18).

فنرى هكذا النشيد يبدأ بعبارة "الرب صاحب الحروب"، وينتهي بعبارة "الرب يملك".

ولا شكّ أنّ اليهود قد تأثّروا، في نظرتهم إلى الله كإلى ملك، بالكنعانيين الذين كانوا يتصوّرون الإله الأعظم "إيل" كملك محاط بحاشية سماوية. وقد توطّدت تلك الفكرة بعد احتلال اليهود لأرض كنعان، ونجد أصداءها في مختلف أسفار العهد القديم.

ولقد لاقت فكرة إقامة "ملك على إسرائيل"، بعد زمن القضاة، مقاومةً شديدة عند الأنبياء وغيرهم من الشعب الذين لم يريدوا إلاّ الله ملكاً عليهم، نجد صداها في سفر القضاة: "قال لهم جدعون: لا أنا أتسلّط عليكم، ولا ابني يتسلّط عليكم، بل الرب هو الذي يتسلّط عليكم" (قض 8: 23). ويروي كذلك سفر الملوك الأوّل أنّه، عندما طلب الشعب من صموئيل "أن يقيم عليهم ملكاً يقضي بينهم كجميع الأمم، ساء هذا الكلام في عيني صموئيل، إذ قالوا: أقم علينا ملكاً يقضي بيننا. فصلّى صموئيل إلى الرب. فقال الرب لصموئيل: إسمع كلام الشعب في جميع ما يقولون لك، فإنّهم لم يسأموك أنت بل سئموني أنا في توليَّ عليهم.. فالآن اسمع لقولهم، ولكن اشهد عليهم وأخبرهم بسنن الملك الذي يملك عليهم" (1 ملو 8: 5- 9).

ب) "مُلك الله" في مختلف أسفار العهد القديم

تقول المزامير عن الله:

"ملك المجد وربّ الجنود" (مز 23: 7- 10)؛ "أقر عرشه في السماء، وملكوته يسود على الجميع" (مز 102: 19)؛ "الرب عليٌّ وملك رهيب على جميع الأرض" (مز 46: 2)، "الرب قد ملك والبهاء لبس، لبس الرب القدرة وتنطّق بها" (مز 92: 1)، "إنّ الربّ إله عظيم وملك عظيم على جميع الآلهة" (مز 94: 3).

وكذلك الأنبياء:

"لقد رأت عيناي الملك ربّ الجنود" (أش 6: 5)؛ "مَن لا يخشاك يا ملك الأمم، إنّه بك يليق ذلك، لأنّه بين جميع حكماء الأمم وفي الممالك بأسرها لا نظير لك.. أمّا الرب فهو الإله الحق، الإله الحي والملك الأزلي" (إر 10: 7- 10).

فالله إذاً يملك كل السماء والأرض، على الآلهة والبشر وجميع الشعوب، إلاّ أنّه يملك بنوع خاص على شعبه الذي اختاره ليكون له "مملكة أحبار وأمّة مقدّسة" (خر 19: 6). والله يملك في وسط شعبه، في أورشليم التي تدعوها المزامير "مدينة الملك العظيم"، "مدينة رب الجنود، مدينة إلهنا" (مز 47: 3، 9)، وفيها يقول إرميا: "أليس الرب في صهيون، أليس ملكها فيها؟" (أر 8: 19). والله يبارك شعبه: "ليباركك من صهيون الرب صانع السماوات والأرض" (مز 103: 3)، ويقوده ويحميه ويجمعه كما يجمع الراعي قطيعه (راجع حز 34).

لقد اتخذ العهد القديم صورة "ملك الله" ليعثر من خلالها عن فكرة "العهد" بين الله وشعبه. فالله الذي عاهد شعبه أن يكون معه هو "ملكه" الذي يحارب معه.

وبعد سقوط المملكة في إسرائيل، اتّجه الأنبياء نحو مدلول روحي لملك الله على شعبه. فأنبياء ما بعد السبي يؤكّدون أنّ الله هو الذي سيملك بنفسه على شعبه: "ملكهم يجوز أمامهم" (مي 2: 13)، وهو الذي "سيرعى قطيعه كالراعي" (أش 40: 11)، لأنّه هكذا قال السيّد الرب:

"ها أنا ذا أنشد غنمي وأفتقدها أنا. كما بفتقد الراعي قطيعه، يوم يكون في وسط غنمه المنتشرة، كذلك أفتقد أنا غنمي وأنقذها من جميع المواضع التي شُتّتت فيها يوم الغمام والضباب وأخرجها من بين الشعوب، وأجمعها من الأراضي، وآتي بها إلى أرضها وأرعاها على جبال إسرائيل وفي الأودية وفي جميع مساكن الأرض" (حز 34: 11- 13).

والبشرى الصالحة التي تعلن في أورشليم هي: "قد ملك إلهكِ":

"ما أجمل على الجبال أقدام المبشّرين، المسمعين بالسلام، المبشّرين بالخير، المسمعين بالخلاص، القائلين لصهيون: قد ملك إلهكِ" (أش 52: 7). "ترنّمي يا ابنة صهيون، إهتفوا يَا إسرائيل. إفرحي وتهلّلي بكل قلبك يا ابنة أورشليم. فقد ألغى الرب قضاءكِ وأقصى عدوّكِ. في وسطك الرب ملك إسرائيل، فلا تريْنَ شراً من بعد" (صف 3: 14، 15).

وأخيراً، في أيّام اضطهاد اليهود على يد أنطيوخس أبيفانوس، تنبّأ دانيال عن ملك الله الذي سيُبنى على أنقاض المالك البشرية: "وفي أيّام هؤلاء الملوك، يقيم إله السماء مملكة لا تنقض إلى الأبد، وملكه لا يترك لشعب آخر، فتسحق وتفني جميع تلك الممالك، وهي تثبت إلى الأبد" (دا 2: 44):

وتنبّأ كذلك عن مجيء "ابن البشر" الذي "أُوتي سلطاناً ومجداً وملكاً. فجميع الشعوب والأمم والألسنةِ يعبدونه، وسلطانه سلطان أبدي لا يزول، وملكه لا ينقرض" (دا 7: 14). وملك ابن البشر سيعقب ملك الحيوانات الأربعة، "وهي أربعة ملوك يقومون على الأرض" (7: 17)، رمز كل الممالك الأرضية. ويتابع دانيال بقوله: "لكن قدّيسي العليّ يأخذون الملك ويحوزونه إلى الأبد وإلى أبد الآباد.. ويعطى الملك والسلطان وعظمةالملك تحت السماء بأسرها لشعب قدّيسي العليّ. وسيكون ملكه ملكاً أبدياً، ويعبده جميع السلاطين ويطيعونه" (دا 7: 17، 27).

ج) ماذا كان ينتظر العهد القديم من إحلال ملك الله النهائي؟

يشمل ملك الله، في مختلف أسفار العهد القديم، ثلاثة ميادين: الكون، والتاريخ، والدين. فالعهد القديم، في انتظاره إحلال ملك الله النهائي، كان ينتظر أن يسود الله سيادة تامة على الكون وعلى الشعوب وعلى جميع الناس، ويدمّر كل قوى الشر التي تعمل على مقاومة سيادته. عندئذٍ على الصعيد الكوني يسود النظامُ الكونَ والطبيعة، وعلى المعيد التاريخي والسياسي يسود السلام والعدالة جميع الشعوب، وعلى الصعيد الديني والأخلاقي والاجتماعي يمتلئ جميع الناس من معرفة الله ومخافته ويتمّمون شريعته ووصاياه.

إن حالة كهذه لا يستطيع إنسان أن يحقّقها، فإنّها بيد الله وحده، فهو يهبها هبة مجانية من فيض محبته، وسيهبها عند تمام الأزمنة في "يوم الرب".

إنّ الأسفار الرؤيويّة ترى علاقة صميمة بين "ملك الرب" أو "ملكوت الرب" و"يوم الرب". "إنّ يوم الرب قريب على جميع الأمم"، يقول النبي عوبديا، ثمّ يضيف: "ويكون الملك للرب" (عو 15 و21). وكذلك يقرن النبي زكريا يوم الرب وملكه: "ها إن يوماً للرب يأتي" (زك 14: 1)، "ويكون الرب ملكاً على الأرض كلّها، وفي ذلك اليوم يكون رب واحد، واسمه واحد" (14: 9). وكذلك يقول أشعيا: "في ذلك اليوم يفتقد الرب جند العلاء في العلاء وملوك الأرض على الأرض"، ثم يضيف: "فيخجل القمر وتخزى الشمس، إذ يملك رب الجنود في جبل صهيون وفي أورشليم ويتمجّد أمام شيوخه" (أش 24: 21 و23).

إنّ تحقيق ملك الرب يتطلّب تدخّلاً مباشراً من قِبَل الله، وتغييراً جذرياً في كل شيء: إنّ ملكوت الله لن يتحقّق إلاّ بإنشاء أرض جديدة وسماء جديدة.

وفي نهاية العهد القديم كان الجميع ينتظرون حلول ملكوت الله. إلاّ أنّه استناداً إلى النبوءات الماسيوية التي كانت تتنبّأ عن مجيء مسيح من نسل داود يملك على عرشه إلى الأبد، وإلى نبوءة دانيال عن ابن البشر، كان البعض ينتظرون تحقيق ملكوت الله على يد مسيح زمني يملك على إسرائيل ويعيد أمجاد مملكة داود. أمّا الأنبياء والحكماء والأتقياء فكانوا يرون في ملكوت الله حقيقة روحية: "إن البار، بخضوعه للشريعة، يحمل نير ملكوت السماوات"، يقول بعض الرابيين. وهذا الرجاء المنتظر سيجد جوابه في العهد الجديد، في إنجيل الملكوت.

ثانياً- الكنيسة في العهد الجديد

إنّ يسوع المسيح هو كمال الناموس والأنبياء، فيه تحقّقت كل تطلّعات العهد القديم، وفي تبشيره وموته وقيامته أتى الملكوت الذي كان العهد القديم ينتظره. ونشأة الكنيسة في العهد الجديد مرتبطة معاً برسالة المسيح وتبشيره بالملكوت في حياته العلانية، وبسرّ موته على الصليب وقيامته من بين الأموات.

1- نشأة الكنيسة وارتباطها بمجي المسيح وتبشيره بالملكوت

ء) التبشير بالملكوت

مجيء الملكوت في شخص يسوع

بدأ يسوع رسالته بالكرازة بإنجيل الله، أي بالبشرى الصالحة، ومحورها إعلان قرب مجيء ملكوت الله:

"بعدما أُلقي يوحنا في السجن، أتى يسوع إلى الجليل وهو يكرز بإنجيل الله، ويقول: لقد تمَّ الزمان، واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل".

فإنّ الزمان الذي حدّده الله لمجيء ملكوته قد تمّ، وها إنّ الملكوت يقترب من البشر في شخص يسوع المسيح وعجائبه وتعاليمه. فيسوع هو "الابن الحبيب الذي به سرّ الآب" (متى 3: 17)، وأرسله الآب إلى كرمه بعد الأنبياء ليأخذ ثماره (راجع متى 21: 33- 39). وعلى يسوع "حلّ روح الرب ومسحه ليبشّر المساكين وينادي للمأسورين بالتخلية، وللعميان بالبصر، ويطلق المرهقين أحراراً، ويعلن سنة نعمة للرب". (لو 4: 18، 19)، فجعل "العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصمّ يسمعون، والموتى ينهضون، والمساكين يبشّرون. وطوبى لمن لا يشكّ فيه" (متى 11: 5، 6).

فالأشفية التي صنعها يسوع، وكذلك سيطرته على الشياطين، هي آيات تشير إلى مجيء الملكوت في شخصه. وهذا ما يعنيه بقوله للفريسيين: "إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين، فذلك أنّ ملكوت الله قد انتهى إليكم". ثم يضيف: "وهل يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي، وينهب أمتعته، إلاّ أن يربط القويّ أوّلاً؟ عندئذٍ فقط ينهب بيته" (متى 12: 28، 29). فالقوي هنا هو الشيطان، رمز الشرّ في العالم. وقد جاء المسيح لينشئ ملكوت الله. ولكن لا بدّ له أوّلاً من أن يدّمر ملك الشيطان ليبني ملكوت الله.

وشفاء الأمراض يرافقه دوماً غفران الخطايا (راجع مثلا شفاء مخلّع كفرناحوم). وجود يسوع على مائدة واحدة مع العشّارين والخطأة إلاّ علامة فيض المحبة والمغفرة التي أنبأ عنها الأنبياء لتمام الأزمنة وحلول ملكوت الله.

ذلك يعني ملكوت الله تدّخل قدّرة الله ومحبته في تمام الأزمنة لتدمير قوى الشرّ، وخلاص البشر من خطاياهم وإدخالهم في زمن النعمة الجديد.

الملكوت عطية مجّانيّة من الله

والملكوت هو عطيّة مجّانيّة من الله، لا أحد يحصل عليه بأعماله الخاصة، بل يهبه الله للجميع دون تمييز، للصدّيقين والخطأة، للأغنياء والفقراء، لليهود وغير اليهود: "لا تخف أيّها القطيع الصغير، لأنّه قد حسن لدى أبيكم أن يعطيكم الملكوت" (لو 12: 32). والشرط الوحيد لدخول الملكوت هو الانفتاح له والإيمان بمجيئه في شخص يسوع، وقبوله كطفل.

التخلّي عن كل شيء في سبيل الملكوت

إنّ الملكوت قد جاء في شخص يسوع. لذلك يجب التخلّي عن كل شيء للحصول عليه، فإنه يشبه "كنزاً مدفوناً في حقل. فالإنسان الذي وجده أخفاه، ومن فرحه، مضى وباع كل ما له واشترى ذلك الحقل. ويشبه ملكوت السماوات أيضاً إنساناً تاجراً يطلب لآلئ حسنة. فلمّا وجد لؤلؤة نفيسة، مضى وباع كل ما كان له واشتراها" (متى 13: 44- 46).

والحصول على الملكوت يجلب للإنسان سعادة قصوى. لذلك يشبّه يسوع الملكوت "بملك صنع عرساً لابنه" (متى 22: 2). فالملك، في هذا المثَل، هو الله، وابنه هو يسوع المسيح، والاشتراك في العرس يرمز إلى الدخول في الملكوت.

يقول اوريجانوس إنّ "يسوع هو نفسه الملكوت"، من يؤمن به يدخل في الملكوت. أمّا يوحنا فإنّه يستعمل بدلاً من لفظة الملكوت لفظة "الحياة"، أي الحياة الإلهية، حياة الله نفسه وقد أتت إلينا في شخص يسوع المسيح ابن الله.

شرعة أبناء الملكوت، التوبة والإيمان

بمجيء يسوع إذاً اقترب من البشر ملكوت الله، أي أصبح في متناول أيديهم، واقتربت منهم حياة الله ومحبته ونعمته ومغفرته. فمن يؤمن بيسوع يصبح ابن الملكوت، وعليه من ثمّ أن يحيا حياة "أبناء الملكوت". وقد أوجز متى في عظة يسوع على الجبل شرعة أبناء الملكوت (متى 5- 7)، "حيث ينبّه يسوع مستمعيه قائلاً: "إن لم يزد بهم على ما للكتبة والفرّيسيّين، فلن تدخلوا ملكوت السماوات" (متى 5: 20)، وأيضاً: "أطلبوا ملكرت الله وبره" (متى 6: 33).

وهذا الموقف الذي يطلبه يسوع من مستمعيه إزاء اقتراب مجيء الملكوت يفسّر قوله: "لقد تمَّ الزمان واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل". فالتوبة والإيمان عنصران أساسيان يتميّزهما تلاميذ يسوع. والتوبة في يسوع هي توبة عن وتوبة إلى فهي توبة عن الخطايا المقترفة أولاً، كتوبة العشّار الذي وقف يقرع صدره قائلاً: "اللهمّ اغفر لي أنا الخاطئ" (لو 18: 19)، وتوبة زكّا الذي قال ليسوع: "يا سيّدي، ها أنا ذا أُعطي المساكين نصف أموالي، وإن كنت قد ظلمت أحداً بشيء، فإني أردّ أربعة أضعاف" (لو 19: 8). ولكنها خصوصاً توبة إلى الله، أي رجوع إليه كإلى أب، والارتماء في أحضانه بثقة ومحبة، كما فعل الابن الشاطر (لو 15: 11- 32). وبالتوبة يقول الإنسان لله على مثال يسوع: "يا أبتاه".

وبهذا المعنى الأخير، تأتي التوبة قريبة من الإيمان وملازمة له. فالإيمان ليس اعتناقاً لعقيدة، بل اعتناق لشخص يسوع ومن خلاله لشخص الآب، إنّه علاقة شركة ومحبة بين الإنسان والله.

ب) الجماعة الكنسيّة والرسل الاثنا عشر

إنّ الذين يؤمنون بيسوع المسيح ويقبلون الملكوت يكوّنون جماعة يدعوها العهد الجديد "الكنيسة". وهذه اللفظة لا ترد إلاّ مرَّتين في الإنجيل (متى 16: 18؛ 18: 17)، بينما ترد 20 مرّة في سفر أعمال الرسل، و60 مرّة في رسائل القدّيس بولس. لكنّ الإنجيل يرينا يسوع يعدّ، في أثناء حياته، جماعة يمكننا أن ندعوها الجماعة الماسيوية، أي التي أرادها الله لزمن مجيء الماسيّا أي المسيح. وهذه الجماعة تؤمن أنّ يسوع هو المسيح المنتظر، وتنفتح على ملكوت الله، فتتحقّق فيها نبوءة دانيال النبي عن قدّيسي العليّ الذين يأخذون الملكوت الذي أُقيم ابن البشر سيّداً عليه (راجع دا 7: 14- 27).

إنّنا نرى يسوع يجمع حوله تلاميذ يعلّمهم ويثقّفهم ويكشف لهم "أسرار ملكوت السماوات" (متى 13: 11)، ويدعوهم "القطيع الصغير" (لو 12: 32)، فقد رآهم، وهو "الراعي الصالح" (يو10) الذي "جاء ليجمع في الوحدة أبناء الله المتفرقين" (يو 11: 52) "كخراف ضالّة" (متى 15: 24)، و"كغنم لا راعي لها" (متى 9: 36).

ومن بين هؤلاء التلاميذ عيّن يسوع اثنى عشر رسولاً، "ليكونوا معه ويرسلهم للكرازة" (مر 3: 14- 19). وقد علّمهم طرق الرسالة (مر 6: 6- 11)، وأوّلية الخدمة في علاقاتهم بعضهم مع بعض: "إن أراد أحد أن يكون الأوّل، فعليه أن يكون آخر الكل وخادماً للكل" (مر 9: 35). وأنبأهم عن الاضطهادات التي سوف تلحق بهم (متى 10: 16- 31). وعلّمهم أيضاً أن يجتمعوا معاً للصلاة: "إذا اتّفق اثنان منكم على الأرض، في أيّ شيء يطلبانه، فإنّه يكون لهما من قبل أبي الذي في السماوات. لأنّه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فأنا أكون هناك في وسطهم " (متى 18: 19، 20). وأوصاهم أن يغفر بعضهم لبعض (متى 18: 21-35)، وألاّ يبعدوا أحداً عن الجماعة وعن الشركة معها إلاّ بعد محاولة إقناعه على شهادة اثنين أو ثلاثة ثمّ على شهادة الكنيسة (متى 18: 15- 18).

ونرى هؤلاء الرسل الاثني عشر، في أثناء حياة يسوع وعلى أمر منه، "يكرزون بالتوبة، ويخرجون الشياطين، ويدهنون بالزيت مرضى كثيرين ويشفونهم" (مر 6: 12)، ويعمّدون الناس (يو 4: 2).

إنّ يسوع باختياره اثني عشر رسولاً، لم يرد إنشاء مؤسّسة دينية إلى جانب المؤسّسات القائمة في إسرائيل، بل أراد جمع كل الشعب الإسرائيلي، بقبائله الاثنتي عشرة، في شعب الله الجديد. وهذا ما يعنيه رقم "الاثني عشر" الذي اختاره لرسله وقد حرصوا على المحافظة عليه، بحيث إنّ أوّل عمل قاموا به بعد قيامة يسوع كان اختيار متيّا ليكون الرسول الثاني عشر عوضاً عن يهوذا الذي خان معلّمه ثمّ قتلَ نفسه (أع 1: 15- 26).

والرسل الاثنا عشر هم النواة الأولى، ليس فقط لجمع الشعب الإسرائيلي، بل أيضاً لجمع كل الأمم في شعب الله الجديد. لا شكّ أنّ يسوع بدأ بشير "الخراف الضالّة من بني إسرائيل" (متى 15: 24)، وقد بكى على أورشليم لأنّه "أراد أن يجمع بنيها كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فلم يريدوا" (متى 23: 37)، ولكنّه أعلن، في لقاءات عدّة، تصميم الله على دخول جميع الأمم في شعب الله الجديد. فبعد أن شفي غلام قائد المئة الروماني وأُعجب بإيمان هذا الأخير، قال: "الحق أقول لكم إنّي لم أجد عند أحد من إسرائيل مثل هذا الإيمان"، ثم أردف: "وأنا أقول لكم إنّ كثيرين يأتون من المشرق والمغرب، ويتّكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السماوات. أمّا أبناء الملكوت فيُلقَون في الظلمة الخارجية" (متى 8: 5- 12).

إنّ ما لا يرقى إليه الشكّ إذاً هو إرادة يسوع الصريحة في إنشاء الكنيسة، وقد عمل، في أثناء حياته، على تكوين نواتها الأولى بتبشيره بالملكوت، ودعوته الجموع إلى التوبة والإيمان، وسكبه نعمة الله على المرضى لشفائهم وعلى الخطأة لمغفرة خطاياهم، وجمعه حوله تلاميذ، وإقامته رسلاً لمتابعة كرازته.

وهناك نصّ يظهر بوضوح كلّي إرادة يسوع هذه، حيث يعترف بطرس الرسول بأنّ يسع هو "المسيح ابن الله الحيّ"، ويجيب يسوع على هذا الاعتراف. ففي الفصل السادس عشر من إنجيل متى كلام على عدم معرفة الفرّيسيّين والصدّوقيّين تمييز علامات الأزمنة، وعدم إيمانهم بالتالي بيسوع (متى 16: 1- 12). ثمّ يتابع النص:

"ولمّا انتهى يسوع إلى ضواحي قيصريّة فيلبّس، سأل تلاميذه، قائلاً: مَن ترى ابن البشر في نظر الناس؟ قالوا: بعضهم يقولون إنّه يوحنا المعمدان، وغيرهم إنّه إيليا، وغيرهم إنّه إرميا أو واحد من الأنبياء. فقال لهم: وفي نظركم، أنتم، مَن أنا؟ أجاب سمعان بطرس وقال: أنت المسيح ابن الله الحي. أجاب يسوع وقال له: طوبى لله يا سمعان ابن يونا، فإنه ليس اللحم والدم أعلنا لك هذا، بل أبي الذي في السماوات. وأنا أقول لك: أنت الصخرة، وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. وسأُعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السماوات" (16: 13- 19).

ففي هذا النص يمكننا أن نرى العناصر التالية:

أوّلاً، يعلن يسوع لبطرس أنّ الآب هو الذي أوحى إليه باعترافه بيسوع.

ثانياً، يغيّر اسم سمعان فيسمّيه بطرس أو (كيفا)، أي الصخرة. وإعطاء اسم جديد يشير إلى رسالة جديدة. فبطرس سيكون الصخرة التي سيبني عليها المسيح كنيسته، وأبواب الجحيم، أي قوى الشر والخطيئة، لن تقوى عليها ولن تدمّرها.

ثالثاً، يعلن رغبته في بناء الكنيسة، ويدعوها "كنيستي". فالكنيسة هي إذاً كنيسة المسيح أي (جماعة الذين يعترفون، على غرار بطرس، بأنّ يسوع هو المسيح ابن الله الحيّ". وهذا الإيمان بالمسيح هو الصخرة التي ستتحطّم عليها قوى الجحيم. وسيحاول الشيطان أن يغربل كالحَنطة بطرس وسائر الرسل وجميع المؤمنين بالمسيح ليبعدهم عن الإيمان. إلاّ أنّ يسوع صلّى لأجلهم، وبنوع خاص لأجل بطرس لكي لا يزول إيمانه، فيستطيع بدوره أن يثبّت إيمان إخوته: "سمعان، سمعان، هوذا الشيطان قد طلب في إلحاح أن يغربلكم كالحنطة. وأنا صلّيت لأجلك لكي لا يزول إيمانك. وأنت متى عدت فثبّت إخوتك" (لو 22: 31، 32).

رابعاً، يعطي بطرس "مفاتيح ملكوت السماوات"، وسلطان "الحلّ والربط". وفي موضعَ آخر نسمع يسوع ينتقد الفرّيسيّين والكتبة "لأنهم يغلقون في وجه الناس ملكوت السماوات، فلا يدخلون، ولا يدعون الداخلين يدخلون" (متى 23: 13). ويمنح هنا بطرس مفاتيح الملكوت لإدخال الناس إليه. وإنّ مفاتيح الملكوت هي في الواقع مفاتيح الكنيسة التي تضمّ جميع بني الملكوت وتسير على هذه الأرض نحو الملكوت النهائي في السماء. أمّا سلطان "الحلّ والربط" فلا يقتصر، كما يفسّر البعض، عل حلّ الخطايا وربطها، بل هو سلطان الرعاية الكامل على الكنيسة. فسيّد البيت هو الذي بيده مفاتيح البيت، وهو الذي يحلّ ويربط، أي يدير جميع شؤون البيت.

لا شكّ أنّ يسوع هو راعي الكنيسة ورئيسها وسيّدها، تمّت فيه نبؤات العهد القديم عن الله الذي سوف يأتي في الأزمنة الأخيرة ويرعى شعبه بنفسه (راجع حز 34: 11، 12)، وهو الذي " بيده مفتاح داود (أي مفتاح مدينة داود، أورشليم الجديدة، أي الكنيسة)، يفتح فلا يُغلق أحد، ويُغلق فلا يفتح أحد" (رؤيا 3: 7)، وهو الذي سيبقى مع كنيسته "كل الأيّام إلى انقضاء الدهر" (متى 28: 20). ولكنّه أراد أن يكون لكنيسته راع يمثّله ووكيلٌ تستمرّ فيه رعايته. لذلك نراه أيضاً بعد قيامته يوكل إلى بطرس تلك المهمة: "إرعَ خرافي.. إرعَ نعاجي" (يو 21: 15- 17). وقد أعطى كذلك سلطان الحلّ والربط في موضع آخر للكنيسة كلّها ممثّلة بالرسل الاثني عشر (راجع متى 18: 15- 18).

2- نشأة الكنيسة بموت يسوع على الصليب

لقد نشأت الكنيسة جماعةً منفصلة عن الشعب اليهودي بسبب رفض اليهود الإيمان بيسوع. فقد جاء يسوع ليجمع أوّلاً أبناء الشعب اليهودي، "تلك الخراف الضالّة من بني إسرائيل" (متى 15: 24)، ولكنّهم رفضوا رسالته، فقادهم رفضهم إلى تسليمه إلى السلطة الرومانية للحكم عليه بالموت. فلماذا رفض اليهود رسالة يسوع، وكيف نشأت الكنيسة من صليب يسوع؟

ء) رفض اليهود الإيمان بيسوع

لقد كانت عجائب يسوع وتعاليمه آيات تظهر مجيء ملكوت الله في شخصه، ولكن اليهود لم يكتفوا بعجائب كان الأنبياء في العهد القديم يصنعون مثلها، فطلبوا منه أن يريهم آية خارقة من السماء، فأجابهم:

"جيل شرير فاسق بطلب آية، ولن يعطى آية إلاّ آية يونان النبي. فكما أنّ يونان أقام في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، كذلك ابن البشر يقيم في جوف الأرض ثلاثة أيّام وثلاث ليالٍ.. رجال نينوى سيقومون، في الدينونة، مهم هذا الجيل، ويحكون عليه، لأنّهم تابوا بوعظ يونان، وههنا أعظم من يونان" (متى 12: 39- 41؛ راجع أيضا يوحنا 2: 18- 21).

إنّ يسوع هو الآية الظاهرة في أعماله وتعاليمه وعجائبه، وعلى اليهود أن يؤمنوا به، كما آمنوا بيونان. أمّا الآية الكبرى التي يشير إليها يسوع فهي آية موته وقيامته. فهو لا يرفض مبدأ إعطائهم آية، ولكنّه لا يعطيهم الآية التي يطلبون، لأنّ نظرته إلى الملكوت مختلفة تمام الاختلاف عن نظرتهم، وكذلك نظرته إلى المسيح الذي سينشى الملكوت، فاليهود كانوا في معظمهم ينتظرون مسيحاً زمنياً وملكوتاً دنيوياً، فكان لذلك موت المسيح أمراً لا بدّ منه.

ب) ضرورة الصليب

يقول بولس الرسول: "إنّ اللحم والدم لا يستطيعان أن يرثا ملكوت الله" (1 كو 15: 50). فإنّ تحقيق ملكوت الله وتكوين شعب الله الجديد لا يمكن أن يتمّا إلاّ بتجاوز منطق البشر وتخطّي حدود التاريخ. لذلك يدعو يسوع تلاميذه ويقول لهم:

"مَن أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه، وليحمل صليبه ويتبعني. فإن مَن أراد أن يخلّص نفسه يهلكها، أمّا مَن يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فإنّه يخلّصها. إذ ماذا ينفع الإنسان أن يربح العالم كلّه ويخسر نفسه؟ وماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه؟ فإنّ مَن يستحي بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الأثيم، فابن البشر أيضاً يستحي به متى جاء في مجد أبيه مع الملائكة القدّيسين.. الحق أقول لكم: إنّ في القائمين ههنا مَن لا يذوقون الموت حتى يعاينوا ملكوت الله آتياً في قدرة" (مر 8: 34- 37).

إنّ ملكوت الله الذي بدأ بمجيء المسيح وظهوره ظهوراً وضيعاً، سيعتلن بقدرة في موت المسيح وقيامته. وقد يكون هنا تلميح أيضاً إلى دمار أورشليم الذي سيفصل نهائياً الكنيسة عن الملّة اليهوديّة التي رفضت الإيمان بالمسيح.

إنّ التوبة التي يطلبها يسوع تصل إلى هذا الحد، إلى التخلّي عن منطق البشر وتبّني منطق المسيح. وهذا الارتداد الجذري إلى منطق الملكوت لا يستطيع إنسان أن يقوم به إن لم يكن متأصّلا في المسيح الذي هو مبدأ الملكوت وغايته، الألف والياء. لذلك. فإنّ المسيح هو "الوسيط الوحيد" لبلوغ أقصى الإيمان والتوبة والدخول في ملء الملكوت. وهو الذي فتح لنا الطريق وسار أمامنا: "لنسعَ بثبات في الميدان المفتوح أمامنا، شاخصين بأبصارنا إلى مُبدِئ الإيمان ومكمّله، إلى يسوع الذي، بدل السرور الموضوع أمامه، تحمّل الصليب- هازئاً بعاره- وجلس عن يمين عرش الله" (عب 12: 1- 3). ويسوع نفسه رأى ضعف تلاميذه، وقالت لبطرس: "حيث أذهب أنا لا تقدر الآن أن تتبعني، بيد أنّك ستتبعني في ما بعد. قال له: لِمَ يا ربّ لا أقدر الآن أن أتبعك؟ إنّي أبذل حياتي عنك. أجاب يسوع: أنت تبذل حياتك عني؟ الحق الحق أقوك لك: إنه لا يصيح الديك حتى تنكرني ثلاث مرات" (يو 13: 36- 38).

إنّ الطريق إلى الملكوت صعبة، لذلك لا بدّ من قوّة إلهيّة تفتحها، ويسوع هو "الطريق والحق والحياة، ولا يأتي أحد إلى الآب إلاّ به" (يو 14: 16).

ج) العهد الجديد بدم يسوع

لقد قدّم يسوع حياته لأجل رسله ولأجل الكثيرين، فكان موته أساساً لنشأة الكنيسة الممثّلة برسله، ودعوة إلى دخول الكثيرين، أي سائر الشعوب، فيها. وهذا المعنى قد أعطاه هو نفسه لموته عندما قال لرسله في أثناء العشاء السرّي: "هذا هو دمي، دم العهد الجديد، الذي يهراق عنكم وعن الكثيرين لمغفرة الخطايا" (متى 26: 28، لو 22: 30).

والعهد الجديد بدم المسيح هو الذي ينشئ الكنيسة، شعب الله الجديد، كما أنّ العهد القديم بدم الحيوانات، مع موسى، أنشأ شعب الله القديم. وفي هذا تقول الرسالة إلى العبرانيين:

"إن كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة يرشّ على المنجّسين فيقدّسهم لتطهير الجسد، فَلَكَم بالأحرى دم المسيح، الذي بروح أزلي قرّب لله نفسه بلا عيب، يطهّر ضميرنا من الأعمال الميتة لنعبد الله الحي. ولذلك هو وسيط عهد جديد" (عب 9: 13- 15؛ راجع أيضاً: 10: 11- 18).

د) الإفخارستيا: الحضور الدائم لهذا العهد

كان الفصح في العهد القديم ذكرَ فداء الشعب اليهودي بخروجه من مصر على يد موسى، بواسطة الحمل الفصحي. وقد أراد المسيح أن يكون سرُّ الإفخارستيا ذكرَ فداء البشرية كلّها بدمه الذي سفكه على الصليب. فبعد أن أخذ الكأس وقال: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي"، أضاف: "إصنعوا هذا، كلّما شربتم، لذكري". وبولس الذي يروي للكورنثيين "ما تسلّمه من الرب" يردف قائلاً: "فإنّكم كلّما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس، تخبرون بموت الرب، إلى أن بجيء" (1 كو 11: 25، 26). إنّ العهد الجديد بين الله وجميع الشعوب يبدأ في جماعة صغيرة ثم يمتدّ إلى جميع البشر. وسرّ الإفخارستيّا هو سرّ امتداد هذا العهد.

كيف ذلك؟

قبل أن يغادر يسوع الجماعة التي أنشأها ترك لها في الإفخارستيا سرّ حضوره الشخصي. فيجب ألاّ تخاف من أنّ الموت الذي ينتظره سيبعده عنها، فإنّه حاضر معها، ويمكنها من ثمّ أن تثق بأنّها ستثبت حتى مجيئه الثاني المجيد. فإنّ ذبيحة يسوع، أي تقدمة ذاته تقدمة كاملة في جسده ودمه على الصليب، تصير حاضرة في هذا السر. فالجسد والدم هما كل الإنسان، لأنّ الجسد هو ما يربط الإنسان بالعالم الخارجي والدم هو علامة الحياة فيه. فالمسيح، في جسده ودمه، أي في كل كيانه، يصير حاضراً حضورا ًسرياً (أي في سرّ أو علامة الخبز والِخمر) في وسط جماعته. وعلى تلاميذه أن يعيدوا على مدى الزمن هذا الحضور ليشتركوا هم أيضاً في تقدمة يسوع ويجسّدوها في حياتهم. وبواسطة هذه التقدمة وهذا الاشتراك، أي تقدمة يسوع ذاتَه واشتراك البشر فيها، يستمرّ عهد الله مع البشر وعهد البشر مع الله حتى نهاية الزمن.


  رد مع اقتباس
قديم 24 - 01 - 2013, 01:24 PM   رقم المشاركة : ( 39 )
the lion of christianity Male
سراج مضئ | الفرح المسيحى


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 1024
تـاريخ التسجيـل : Jan 2013
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : U.S.A
المشاركـــــــات : 753

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

the lion of christianity غير متواجد حالياً

افتراضي رد: قراءة مباشرة لكتاب الثالوث الأقدس المطران كيرلس سليم بسترس


الفصل الثانى

التعريف بالكنيسة



في الكتاب المقدّس تسميات كثيرة للكنيسة، أشار إليها المجمع الفاتيكاني الثاني في دستوره
العقائدي "نور الأمم" (رقم 6): فالكنيسة هي "حظيرة الخراف" (يو 10: 1- 10) التي يرعاها المسيح، و"حقل الله" (1 كو 3: 9)، والزيتونة والكرمة، و"بناء الله" (1 كو 3: 9) و"هيكل الله" حيث يسكن الله في الروح (اف 2: 19- 22؛ رؤ 21: 3)، و"أورشليم السماوية" و"أمّنا" (غلا 4: 26؛ رؤ 12: 17) والعروس النقية للحمل القدّوس (رؤ 19: 7؛ أف 5: 26). وإنّ كلّ هذه التسميات إذا ما أردنا أن نحصرها تُجمع في ثلاث هي: الكنيسة شعب الله، والكنيسة شركة وجماعة، والكنيسة جسد المسيح.

أوّلاً- الكنيسة شعب الله

1- شعب واحد في المسيح

إنّ بولس رسول الأمم (والأمم هي الشعوب التي ليست من نسل إبراهيم) قد أوضح في رسالته إلى الأفسسيين، وهم من أصل غير يهودي، أنّ جميع الشعوب من نسل إبراهيم ومن غير نمو أصبحت شعبًا واحدًا في المسيح:

"تذكّوا أنكم كنتم قبلاً- أنتم الأمم بحسب الجسد، المدعوين "قَلَفاً" ممّن يُدعَون "ختانًا".. بفعل اليد في الجسد- تذكّروا أنّكم كنتم قبلاً وقتئذٍ بدون مسيح، أجنبيين عن رعوية إسرائيل، غرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لكم في هذا العالم ولا إله. أمّا الآن، في المسيح يسوع، فأنتم الذين كانوا قبلاً بعيدين قد صرتم قريبين بدم المسيح. لأنّه هو سلامنا، هو الذي جعل من الشعبين واحدًا، إذ نقض الحائط الحاجز بينهما، أي العداوة، وأزال، في جسده، الناموس مع وصاياه وأحكامه، ليكوّن في نفسه من الاثنين إنسانًا واحدًا جديدًا، بإحلال السلام بينهما، ويصالحها مع الله، كليهما في جسد واحد، بالصليب الذي به قتل العداوة. فلقد جاء وبشّر بالسلام لكم، أنتم البعيدين، وبالسلام للذين كانوا قريبين. لأنّ به، لنا كلينا، التوصّلَ إلى الآب، بروح واحد. ومن ثمّ، فلستم بعد غرباء ولا نزلاء، بل أنم مواطنو القدّيسين، وأهل بيت الله. أنتم بناء أساسُه الرسل والأنبياء، ورأس الزاوية المسيح يسوع نفسه، الذي فيه يُنسَق البناء كلّه، ويرتفع هيكلاً مقدّسًا، في الرب. وفيه أنتم أيضاً تندمجون في البناء لتصيروا مسكنًا لله، في الروح" (أف 2: 11- 22).

ويضيف بولس أنّه في القيود لأنّه رسول الأمم: "أنا بولس أسير المسيح يسوع من أجلكم، أيّها الأمم". ثم يكشف لهم "السر الذي لم يُعلَن لبني البشر في الأجيال السابقة، كما أعلنه الآن الروح لرسله القدّيسين وأنبيائه: أي إنّ الأمم هم من أهل الميراث الواحد، وأعضاء في الجسد الواحد، وشركاء في الموعد الواحد، في المسيح يسوع بالإنجيل، الذي صرت له خادمًا، على حسب موهبة النعمة، التي منَّ بها الله عليّ، بفعل قدرته" (أف 3: 1- 7).

وعندما يتكلّم بولس عن مواعد الله، يؤكّد أنّها قد تحقّقت كلّها على أكمل وجه في المسيح:

فالميراث الذي وعد به الله إبراهيم لم يعد أرضاً مادّية، أرض كنعان، بل أصبح ملكوت الله: "إنّ الله يدعوكم إلى ملكوته ومجده" (1 تسا 2: 12). والوارث لم يعد نسل إبراهيم بالجسد بل المسيح نفسه وكل الذين يؤمنون به: "إنّ المواعد قد تيلت لإبراهيم ولنسله. إنّه لا يقول: لأعقابه، بالجمع، بل لنسلكَ، بالإفراد، ونسله هو المسيح" (غلا 3: 16). والذين يؤمنون بالمسيح يصبحون ورثة معه. وهذا ما يؤكده بولس في المقارنة التي يقيمها بين الإيمان والناموس:

"أيّها الغلاطيون الأغبياء، من سحركم، أنتم الذين رُسم أمام عيونهم يسوع المسيح مصلوبًا؟ لا أريد أن أعرف منكم سوى أمر واحد: أبأعمال الناموس نلتم الروح أم بسماعكم الإيمان؟.. فهكذا إبراهيم: "آمن بالله، فحُسب له ذلك برًا". فافهموا إذن أنّ المؤمنين هم وحدهم أبناء إبراهيم. ولذلك، فإنّ الكتاب إذ سبق فرأى أنّ الله يبرّر الأمم بالإيمان، سبق فبشّر إبراهيم قائلاً: "بك تتبارك جميع الأمم". فالمؤمنون إذن وحدهم يبارَكون مع إبراهيم المؤمن" (غلا 3: 1- 9).

أمّا الناموس الذي أعطي لليهود فلم يكن سوى

"مؤدّب يرشدنا إلى المسيح، لكي نبرّر بالإيمان. فبعد إذ جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدّب. لأنّكم جميعًا أبناء الله، بالإيمان بالمسيح يسوع. لأنّكم، أنتم جميع الذين اعتمدوا للمسيح، قد لبستم المسيح. فليس بعد يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر "ليس ذكر وأنثى" لأنّكم جميعًا واحد في المسيح يسوع. فإذا كنتم للمسيح، فأنتم إذن نسل إبراهيم وورثة بحسب الموعد" لم غلا 3: 24- 29).

فالكنيسة التي تضمّ جميع المؤمنين بالمسيح هي إذن الآن شعب الله الجديد الذي يرث مواعد الله. هي شعب الله المختار الذي اختاره الله ليحمل الله وخلاصه بالمسيح يسوع إلى جميع الأمم، وهي مكوّنة من جميع الذين آمنوا بالمسيح، من اليهود أم من اليونانيين أم من جميع الشعوب، وعبّروا عن إيمانهم بتقبّل المعمودية.

وهذا ما يوضحه المجمع الفاتيكاني الثاني في الدستور العقائديّ "في الكنيسة":

"إنّ من بتّقي الله ويعمل البر، في كل زمان، وكل أمّة، لمقبول عند الله (أع 10: 35). وإنّما شاء الله أن يقدّس الناس ويخلّصهم، لا متفرقين بدون ما ترابط في ما بينهم، بل أراد أن يجعلهم شعباً يعرفه في الحقيقة ويخدمه في القداسة. فاختار لنفسه شعب إسرائيل شعباً، وقطه معه عهداً، ونشّأه شيئًا فشيئًا، مظهرًا له نفسه ومقاصده في غضون تاريخه، ومقدّسًا إيّاه لنفسه. بيد أنّ هذا كلّه كان على سبيل التهيئة والرمز للعهد الجديد الكامل الذي سيُبرَم في المسيح، وللوحي الكامل الذي سينزل به كلمة الله المتجسّد نفسه: "ها إنّها تأتي أيّام، يقول الرب، أقطع فيها مع آل إسرائيل وآل يهوذا عهدًا جديدًا.. فأجعل شريعتي في أحشائهم، وأكتبها في قلوبهم، وأكون إلههم ويكونون شعبي.. وكلّهم سيعرفونني من أكبرهم إلى أصغرهم، يقول الرب" (إر 35: 31- 34). فهذا العهد الجديد هو العهد الذي أبرمه المسيح، العهد الجديد بدمه، داعيًا اليهود والأمّيين ليجعل منهم شعبًا يجتمع في الوحدة، لا بحسب الجسد بل بحسب الروح، ويصير شعب الله الجديد. ومن ثمّ فإنّ الذين يؤمنون بالمسيح- وقد ولدوا ثانية لا من زرع قابل الفساد بل من زرع لا يفسد، وهو كلمة الله الحي (1 بط 1: 23)، ولا من الجسد بل من الماء والروح القدس (يو 3: 5، 6)، أُقيموا أخيراً "ذرية" مختارة، كهنوتًا ملوكيًا، أمّة مقدّسة، شعبًا مقتنى.. لم يكونوا من قبل شعبًا فصاروا اليوم شعب الله (1 بط 2: 9، 10).

فهذا الشعب المسيحي رأسه المسيح "الذي اسم من اجل خطايانا وقام لأجل برّنا" (رؤ 4: 25)، الذي، بعد إذ نال اسمًا لا اسم فوقه، يملك الآن مجيدًا في السماوات. وهذا الشعب حاله حال الكرامة وحرّية أبناء الله، في قلوبهم يسكن الروح القدس سكناه في هيكله. وشريعته الوصية الجديدة: أن يحبّ كما أحبّنا المسيح نفسه (يو 13: 34). وغايته أخيرًا ملكوت الله الذي بدأه الله نفسه على الأرض، وعليه أن يمتدّ من بعد إلى أن يتمّه الله نفسه، في آخر الزمان، عندما يظهر المسيح حياتنا (كو 3: 4)، "وتُعتَق الخليقة من عبودية الفساد إلى حرية مجد أبناء الله" (رو 8: 21). وهذا الشعب المسيحي، وإن كان بعد لا يضمّ في الواقع جميع الناس، ويبدو في الغالب بمظهر القطيع الصغير، فهو مع ذلك للجنس البشري برمّته خمير وحدة ورجاء وخلاص بالغ الفعالية. لقد أقامه المسيح شركة حياة ومحبة وحقيقة، وهو في يده أداة فداء لجميع الناس، وأرسله في العالم كلّه نورًا للعالم وملحًا للأرض (متى 5: 13- 16)

"وكما أنّ إسرائيل بحسب الجسد قد دعي، فيما كان سالكًا في القفر، بكنيسة الله (2 عز 13: 1؛ عد 20: 4؛ تث 23: 1 وما بعده)، كذلك إسرائيل الجديد، السالك في الدهر الحاضر في طلب المدية الآتية الباقية (عب 13: 14)، قد دعي هو أيضاً بكنيسة المسيح (متى 16: 18)، لانّه هو الذي اقتناها بدمه (أع 20: 28)، وملأها من روحه، وجهّزها بالوسائل المؤاتية لأجل اتحادها الظاهر المجتمعي. فإن الله قد دعا جماعة الذين في الإيمان ينظرون إلى يسوع، صانع الخلاص ومبدإ الوحدة والسلام، وأنشأ مدنهم الكنيسة لكي تكون للجميع ولكل واحد منهم السر المنظور لهذه الوحدة الخلاصية. ولمّا كان عليها أن تمتد إلى جميع المناطق دخلت تاريخ البشر على كونها تتخطى حدود الشعوب في الزمان والمكان. وإذ تسلك الكنيسة طريقها في وسط المحن والشدائد يعضدها الله بقوة نعمته التي وعدها الرب بها لئلا تخلّ بالأمانة الكاملة بسبب وهن الجسد، بل تظلّ لربها العروس الخليقة به، وتستمر على التجدد الذاتي بفعل الروح القدس، إلى أن تبلغ في طريق الصليب النور الذي لا يعقبه غروب".

من هذا النص يمكننا استنتاج الأمور التالية:

أوّلاً، هناك تحمل بين شعب الله في العهد القديم وشعب الله في العهد الجديد. فالكنيسة هي إذاً وارثة لماضٍ قديم، تاريخها يعود إلى إرادة الله منذ فجر التاريخ بتكوين شعب له مقدّس.

ثانيًا، إنّ الكنيسة لم تنشأ عن إرادة بشر ولا عن أعمالهم الخاصة، إنّما "لكي يثبت قصد الله بحسب اختياره، لا من قبل الأعمال بل من قبل الذي يدعو" (رو 9: 11). لقد نشأت عن الخلاص المجّاني الذي حصل عليه البشر بالمسيح الذي، بدمه، أنشأ عهدًا جديدًا مع الله. إنّها وليدة دعوة مجانية من الله: "إنّ الذي سبق فحدّدهم، إيّاهم دعا أيضاً. والذين دعاهم، إيّاهم برّر أيضاً. والذين بررهم، إيّاهم مجّد أيضاً" (رو 8: 30)

ثالثًا، إنّ جميع أعضاء هذا الشعب هم مقدّسون، إذ أصبحوا بالفداء أبناء الله وهياكل الروح القدس. فالمسيح قد "أحبّنا وغسلنا بدمه من خطايانا، وجعلنا ملكوتًا وكهنة لإلهه وأبيه" (رؤ 1: 6). فهناك إذًا مساواة جذرية بين أعضاء شعب الله، إذ يشتركون كلّهم في كهنوت المسيح، وإن تنوّعت الخدم بين الكهنوت والعلمانيين (راجع "كهنوت المؤمنين المشترك" في دستور المجمع الفاتيكاني الثاني "في الكنيسة"، رقم 10).

رابعًا، إنّ دعوة الله للدخول في شعبه هي دعوة جامعة تشمل جميع الناس وضح الشعوب. لذلك فإنّ شعب الله هو في نمو دائم. وإن بدا في الغالب بمظهر القطيع الصغير، غير أنّه خمير وحدة ورجاء وخلاص للجنس البشري برمّته.

أخيرًا، إنّ هذا الشعب يسير في تاريخ البشر سيرًا واثقًا نحو غايته الأخيرة، وهي ملكوت الله الذي بدأ على الأرض وعليه أن يمتدّ حتى ظهور المسيح الأخير. إنّ دعوة الله هي دعوة ديناميكية تجعل من البعد الاسكتولوجي بعدًا أساسيًا في الكنيسة يحملها على التجدد الدائم إلى أن تبلغ "النور الذي لا يعقبه غروب".

2- تكوين شعب الله وامتداده في التاريخ

ء) الكنسية والأمم

إنّ انتقال "شعب الله" من الأمّة اليهودية إلى الكنيسة المكوّنة من مختلف أمم العالم هو الدليل على أنّه لا يسع أيّ أمّة أن تصير شعب الله إن لم يكن مع أمم أخرى ودون هيمنة من أمة على غيرها. وهذا يفرض على كل أمّة أن تكفر بذاتها وبالغريزة التي تدفعها إلى التسلّط على سائر الأمم لامتصاصها. هذا الصليب لا بد لكل أم العالم من حمله ليتكوّن شعب الله. فكما أنّ الكنيسة نشأت من صليب المسيح، كذلك لا يمكنها أن تنمو إلاّ بحمل هذا الصليب مع المسيح. لقد رفض المسيح أن يكون ملكًا زمنيًا، لأنّ "ملكوته ليس من هذا العالم" (يو 18: 36)، أي ليس من روح هذا العالم ولا بحسب منطق هذا العالم وممالكه. والكنيسة إلى تحسّد ملكوت الله في هذا العالم لا يمكنها أن تثبت إلاّ إذا ثبت فيها روح الصليب الذي يطلب لا قتل الآخرين بل الموت عنهم، لا الهيمنة عليهم بل الحياة معهم كأعضاء في شعب واحد.

إن الخطر كبير في أن تحاول الكنيسة- وقد حدث ذلك في الأمّة اليهودية ويحدث في الأمم المعاصرة- التهرّب من هذا الصليب، فإنّها عندئذ تنغلق على سياسة أمّة معينة، وتنجرف في الصراعات الحتمية بين الأمم. فالمطلوب من الكنيسة أن تكون ضمير الأمم كلّهما لتذكّرها بنهج المسيح المصلوب ونهج شعب الله، وتدعوها إلى تحقيق فداء المسيح في وحدة البشرية كلّها.

ب) كيف ينمو شعب الله؟ الرسالة في الكنيسة

إنّ الرسالة هي من صميم الكنيسة، لا تستطيع أن تهملها دون أن تتلاشى، لأنّ الكنيسة هي دعوة جميع الشعوب لتكوّن شعب الله الواحد. فالكنيسة إذًا تكون مرسلة أولا تكون. وتتحقق هذه الرسالة على صعيدين، بالكرازة المباشرة، وبالكرازة غير المباشرة.

أمّا الكرازة المباشرة فهي دعوة غير المؤمنين إلى الإيمان بمجيء الملكوت في شخص المسيح، أي إلى الإيمان بالمسيح. فالعلاقة مع المسيح هي التي تجعل من الكنيسة شعب الله. لذلك يصير الإنسان عضوًا في شعب الله بالإيمان بالمسيح وتقبل الأسرار، ولا سَيّمَا سرّي المعمودية والأفخاريستيا، التي فيها يشترك المؤمن في حياة المسيح وسر موته وقيامته. فإنّ الإيمان والأسرار هما العنصران الجوهريان اللذان يكوّنان شعب الله، فيهما يتحقّق على مدى الزمن العهد الجديد الذي خُتم بدم المسيح بين الله والبشر، والذي هو عهد جماعي مع الشعب كلّه وعهد شخصي مع كل عضو من أعضاء هذا الشعب. وإنّ الروح القدس الذي أفاضه الله على الشعب قد أفاضه في قلب كل مؤمن، وهو الذي يدعوه إلى الإيمان والارتداد الشخصي. وهذا الإيمان وتقبّل الأسرار يتكون شعب الله وينمو على مدى الزمن والتاريخ. فالكنيسة، شعبُ الله، هي إذًا جماعة تلتئم لتعبّر عن إيمانها بالمسيح وتحيا أسراره.

وأمّا الكرازة غير المباشرة فهي الشهادة للقيم التي بشّر بها المسيح في تعليمه وحياته وموته، والعمل على تجسيد هذه القيم في المجتمعات البشرية، دون الدعوة المباشرة إلى الإيمان بالمسيح والمعمودية. فالرسالة ملحّة، لأنّ ملكوت الله قد جاء في المسيح، ولا بدّ من التبشير بالمسيح. ولكنّ التبشير يجب أن يتكيّف مع الأوضاع التاريخية التي يحيا فيها الناس، وهو تبشير بالقيم التي بشّر بها المسيح، والتي هي ممكنة في جميع الأوضاع وتلخّص بالمحبة المتبادلة بين جميع الناس، وتنتج من الإيمان بأنّ جميع الناس هم أبناء الإله الواحد، "الآب الذي في السماوات، الذي يطلع شمسه على الأضرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والأثمة" (متى 5: 45).

ج) من يمثّل الكنيسة؟ أين نجد الكنيسة؟

بقولنا إنّ الكنيسة هي شعب الله، نؤكّد أنّ من يمثّل الكنيسة هو أوّلاً الشعب كلّه، جماعة وأفرادًا، من حيث إيمانه بالمسيح وعلاقته به. وعلى هذا الصعيد لا فرق بين الأساقفة والكهنة والعلمانيين، فكلّهم على حد سواء أبناء الله وأعضاء في شعبه. لا شكّ أنّ هناك وظائف وخدمات متنوّعة في الكنيسة، وأنّ هناك نخبة من الأساقفة والكهنة والرهبان والعلمانيين تبشّر وتعلّم وتجاهد لنقل الإيمان ونشره. لكنّ هذه النخبة لا تمثّل وحدها الكنيسة شعب الله. ثمّ إنّ الهدف من الكرازة هو، بحسب قول بولس الرسول، "جعل كل إنسان كاملاً في المسيح" (كو 1: 28)، ومساعدته على إنشاء علاقة خاصة معه وتجسيد شخص المسيح وتعاليمه في كل ميادين العالم ومرافق الحياة.

فأين نجد الكنيسة إذًا؟ نجدها أوّلاً حيث يعمل روح المسيح. ومن يمثّل الكنيسة؟ يمثلها أولاً الذين يجسّدون في حياتهم حياة المسيح، كهنة كانوا أم علمانيين. فإنّ كل مسيحي يمثّل الكنيسة بقدر ما يحيا حياة المسيح.

إنّ كرامة أبناء الله تسبق وتفوق الكرامة الناجمة عن الكهنوت والأسقفية. وهذا ما أشار إليه المجمع الفاتيكاني الثاني في دستوره العقائدي "في الكنيسة"، عندما تكلّم في الفصل الثاني عن "شعب الله" قبل أن يعرض في الفصل الثالث "نظام السلطة في الكنيسة ولا سيّمَا الأسقفيّة". إنّ هذا الترتيب قد أراده آباء المجمع للتأكيد أنّ أوّلية "الكيان المسيحي" بالنسبة إلى نظام السلطة في الكنيسة، لا سيّمَا أنّ السلطة هي "في خدمة جميع المنتمين إلى شعب الله لينعموا بالكرامة المسيحية الحقة" (رقم 18 من الدستور العقائدي "في الكنيسة").

هكذا صنع يسوع نفسه، إذ جمع أوّلاً حوله تلاميذ، ثم اختار من بينهم اثني عشر رسولاً، وبعد ذلك اختار بطرس من بين الاثني عشر ليثبّت إخوته ويرعى شعبه.

إنّنا بتأكيدنا أنّ الكنيسة تتمثّل أوّلاً بالشعب المؤمن، لا نهدف إلى التقليل من أهمّية السلطة في الكنيسة، بل إلى إعادة التوازن في الأهمّية والأدوار بين "الكيان المسيحي" من جهة "والخدمات المتنوعة" من جهة أخرى "لتنظيم القدَيسين في سبيل بنيان جسد المسيح"، حسب قول بولس الرسول (أف 4: 12).

ونضيف الآن أنّ الكنيسة تتمثّل أيضاً في السلطة الكنسية، ولا سيّمَا في الأساقفة الذين يكمّلون كرازة الرسل أساس الكنيسة: "أنتم بناء أساسه الرسل والأنبياء، ورأس الزاوية المسيح يسوع نفسه" (أف 2: 20). وسنتوسّع في ذلك في حديثنا عن "رسولية" الكنيسة.



  رد مع اقتباس
قديم 24 - 01 - 2013, 01:25 PM   رقم المشاركة : ( 40 )
the lion of christianity Male
سراج مضئ | الفرح المسيحى


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 1024
تـاريخ التسجيـل : Jan 2013
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : U.S.A
المشاركـــــــات : 753

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

the lion of christianity غير متواجد حالياً

افتراضي رد: قراءة مباشرة لكتاب الثالوث الأقدس المطران كيرلس سليم بسترس


ثانياً- الكنيسة أسرة روحية يشترك أعضاؤها معًا في حياة الله

1- الأسرة الروحية: الكنيسة أمّ والمسيحيّون إخوة

الكنيسة هي شعب الله. إنّ هذا التعريف الأوّل يتّضح بالتعريف الثاني الذي يؤكّد أنّ أعضاء هذا الشعب يشتركون في حياة الله. ورباط الشركة في الحياة الإلهية يجعلهم إخِوة في أسرة واحدة. فالكنيسة أسرة روحية تعيش من حياة الله التي ظهرت في شخصِ يسوع المسيح كلمة الله. وكما أنّ الإنسان يولد في عائلة تعطيه الغذاء والحنان، ويشترك ني خيراتها الجسدية والروحية مع أب وأم وإخوة، هكذا يولد المسيحي في عائلة روحية تسكب في قلبه محبة الله للبشر، تلك المحبة التي ظهرت للعالم في المسيح ولا تزال تستمرّ بواسطة الإنجيل والأسرار وتغدق عليه نعمة الله وحياته الإلهية. ففي الكنيسة يشترك المؤمن في حياة الله الآب والابن والروح القدس مع إخوة له مؤمنين.

لقد دُعيت الكنيسة أُمًّا، لأنّه فيها يولد المؤمن من جديد للحياة الإلهية. إنّ الكنيسة لم تتكوّن، كما تتكوّن سائر الجماعات البشرية، بقرار اتّخذه بعض الناس بالاجتماع معًا لتحقيق هدف معيّن. فللدخول في سر الكنيسة يجب التأكيد أنّ هناك معطيات تسبق إرادة البشر في الاجتماع معًا، هناك حقيقة جديدة تكوّنت بالعهد الجديد الذي تمّ في المسيح بين الله والبشر. فقبل إرادة البشر حقّق الله المصالحة الشاملة بينه وبين الناس بحسب قول بولس الرسول: "إنّ الله هو الذي صالح، في المسيح، العالم مع نفسه، ولم يحسب عليهم زلاّتهم، وأودعنا كلمة المصالحة". لذلك "إن كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة" (2 كو 5: 17- 19).

والدخول في الكنيسة هو، بحسب قول يسوع لنيقودموس، ولادة جديدة: "ليس أحد يقدر أن يدخل ملكوت السماوات، ما لم يولد من الماء والروح" (يو 3: 5). وهذا ما يعنيه بولس الرسول بقوله للغلاطيين: "يا أولادي الصغار، الذين أتمخّض بهم من جديد إلى أن يتصوّر المسبح فيهم" (غلا 4: 19).

إنّ الكنيسة هي عروس المسيح التي تلد أولادًا للحياة الإلهية. إنّها، كما جاء في سفر الرؤيا، "أورشليم الجديدة، التي نزلت من السماء من عند الله مهيّأة كعروس مزيّنة لعريسها" (رؤ 21: 9). إنّها عروس المسيح، "الذي أحبّها وبذل نفسه لأجلها ليقدّسها بغسل الماء والكلمة، إذ كان يريد أن يزفّها إلى نفسه كنيسة مجيدة، لا كلف فيها ولا غضن ولا شيء مثل ذلك، بل مقدّسة، عيب فيها" (أف 5: 25- 27).

وفي هذه الأسرة الروحية يقدّس المسيح جميع المسيحيين ويغذّيهم بالكلمة، أي بالإنجيل، وبالماء، أي بالمعمودية وسائر الأسرار، ولا سيّمَا سر الإفخاريستيا المنّ السماوي.

في المسيح، يصير جميع المؤمنين إخوة يعيشون الشركة في الإيمان الواحد والشركة في الأسرار الواحدة، على غرار الشركة التي تتحقّق بين إخوة في أسرة واحدة في قرابة الدم وشراكة المسكن والمأكل والمشرب والحياة. إنّ اشتراك المسيحيين هو اشتراك في منابع الحياة التي منها تنبثق حياتهم المسيحية وبها تتغذى لتنمو وتدوم.

2- الكنيسة مؤسَّسة فيها خِدَم متنوّعة

إنّ رباط الشركة والأخوّة بين المسيحيين لا يمكن أن يتحقّق إلاّ إذا دخل الإنسان بالإيمان في هذا الرباط. والإيمان يقتضي الرسالة، والرسالة تتطلّب الخدم المتنوعة: "يؤمنون به إن لم يسمعوا به، وكيف يسمعون به بلا مبشّر، وكيف يبشّرون إن لم يرسَلوا.. فالإيمان إذن البشارة، والبشارة بأمر من المسيح" (رو 10: 14- 17). لا يمكن الاكتفاء في الكنيسة "بشركة الأخوّة"، ذاك الرباط السري الذي يربط المسيحيين بعضهم ببعض، وإهمال الخدم. يقول بولس الرسول:

"لا جرم أنّ المواهب على أنواع، إلاّ أن الروح واحد، وإن الخدم على أنواع، إلاّ أن الرب واحد، وإنّ الأعمال على أنواع، إلاّ أنّ الله واحد، وهو يعمل كل شيء في الجميع. وكل واحد إنّما يعطى إظهار الروح للمنفعة العامة. فالواحد يعطى، من قبل الروح، كلام حكمة، والآخر كلام علم، بحسب الروح عينه، والآخر الإيمان، بذلك الروح عينه، والآخر موهبة الشفاء بالروح الواحد عينه، وآخر إجراء العجائب، وآخر النبوّة، وآخر تمييز الأرواح، وآخر أنواع الألسنة، وآخر ترجمة الألسنة. وهذه كلّها يفعلها الروح الواحد بعينه، موزّعاً، كيف شاء، كل واحد خصوصاً" (1 كو 12: 4- 11).

تتّخذ الكنيسة في الزمن الحاضر شكل "مؤسّسة" فيها خدم متنوّعة وهذه الخدم لا بدّ منها لإظهار غزارة مواهب الروح وإنماء الحياة في أعضاء الكنيسة. أمّا تنظيم هذه الخدم فلا يمكن أن يُترَك لحرية كل مسيحي، بل يعود إلى الأساقفة خلفاء الرسل، الذين أو إليهم المسيح مهمة رعاية الكنيسة، حسب قول بولس الرسول لأساقفة كنيسة أفسس:

"إحذروا لأنفسكم ولجميع القطيع الذي أقامكم فيه الروح القدس أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه الخاص". تم يضيف: "وإنّي لعالم بأنّه بعد فراقي سيدخل بينكم ذئاب خاطفة، لا تشفق على القطيع، ومنكم أنفسكم سيقوم رجال يحاولون بأقوالهم الفاسدة أن يجتذبوا التلاميذ وراءهم. فاسهروا إذن، وتذكّروا أنّي، مدة ثلاث سنوات، لم أكفّ ليلاً ونهاراً عن نصح كل واحد منكم بالدموع" (أع 20: 28- 31).

ويوصي بولس أساقفة تلك الكنيسة بالسهر على إيمان القطيع الذي أوكل إليهم، وتلك إحدى النواحي التي تهدف الخدم المتنوّعة في الكنيسة إلى تحقيقها. وفي مواضع مختلفة من الرسائل يؤكّد بولس ضرورة اهتمام الأساقفة والكهنة بالتمسك بالكلام الصحيح (2 تي 1: 13- 14؛ 1 تي 1: 9) وبوديعة الإيمان (1 تي 6: 20 "يا تيموثاوس، احفظ الوديعة").

إذن الإيمان والأسرار والمسؤولية الرعائية هي النواحي الثلاث الأساسية التي تدور حولها جميع المؤسّسات الكنسية وجميع الخدم الكهنوتية، وهي تكمّل إحداها الأخرى: فالأسرار تعبّر عن الإيمان وتنميه، والمسؤولية الرعائية هي في خدمة الإيمان والأسرار، وكلّها تهدف إلى سكب حياة الله في قلوب المسيحيين ومن خلالهم في مختلف مرافق العالم. إنّ المؤسّسات الكنسية لا يمكنها أن تكون مؤسّسات جامدة، فلقد أرادها المسيح ينبوع حياة، وعلى الكنيسة أن تقوم "بإصلاح دائم في مؤسّساتها البشرية الأرضية"، على قول المجمع الفاتيكاني الثاني (الحركة المسكونية، رقم 6).

3- الأخوّة المسيحية حقيقة روحية تتخطّى الأخوّة البشرية

إنّ رباط الأخوّة الذي يربط المسيحيين بعضهم ببعض هو رباط روحي إلهي. فبيسوع المسيح نحن إخوة بعضنا لبعض. إنّ قريبي هو أخي بسبب ما صنعه المسيح لأجله، وأنا أخ لقريبي بسبب ما صنعه المسيح لأجلي. إنّ هذا الرباط هو حقيقة مختلفة عن كل ما يمكن تحقيقه على الصعيد البشري والنفساني. فالمساجين والمرضى والمشرّدون في الشتات، والمرسلون إلى البلاد النائية غالباً ما يشعرون بالعزلة على الصعيد الإنساني والنفساني. وقد يشعر بتلك العزلة المسيحيون العائشون في العالم، والرهبان العائشون في "حياة مشتركة" في الأديرة. فإنّ تحقيق الأخوّة تحقيقاً محسوساً، بحيث يشعر المسيحي بدفء الأخوّة المسيحية، أمر ثانوي بالنسبة إلى الإدراك الروحي العميق للرباط الذي يربط المسيحي بأخيه المسيحي. فهناك في أغلب الأحيان مفارقة لا بدّ للمسيحيّ من حملها والاضطلاع بها بين الأخوّة الروحية والشعور النفساني الحسي بحرارة تلك الأخوّة.

ثمّ إنّ الأخوّة المسيحية لا ثقتصر على العلاقات بين الأشخاص القريبين بعضهم من بعض، بل تتعداهم إلى جميع البعيدين عنّا والذين لا نعرفهم.

وأخيراً تعمل المحبة المسيحية ليس فقط في الأشخاص بل أيضاً في جميع الشرائع والبنى الاقتصادية والسياسية التي تؤثّر في عمل الناس وحياتهم. فكل تلك الشرائع والبنى العالمية مدعوّة إلى أن تمتلئ بروح الأخوّة التي يحياها المسيحيون بعضهم مع بعض.

وهكذا تمتدّ الكنيسة، حياة الله بين البشر، ليس فقط بين المسيحيين، بل بين جميع الناس وفي جميع المؤسسات العالمية امتداد الخمير في العجين، إلى أن يصل جميع الناس إلى إدراك حياة الله الواحد في ذواتهم وفي العالم أجمع، ويسبّحوا بفم واحد وقلب واحد اسم الله الواحد، الآب والابن والروح القدس.

ثالثاً- الكنيسة جسد المسيح

1- غاية التجسد تأليه الإنسان

"لماذا صار الإله إنساناً"؟ "لكي يصير الإنسان إلهاً". هذ هو جواب آباء الكنيسة الشرقية منذ القدّيس إيريناوس. فغاية التجسّد ليست التكفير عن الخطيئة الأصلية بل تأليه الإنسان بولادته ولادة جديدة في المسيح وعلى صورة المسيح. إنّ القدّيس إيريناوس يرى أنّ الخطيئة ليست حادثاً غيّر قصد الله فقرّر إرسال ابنه لخلاص العالم، بل إن تجسّد ابن الله هو في قصد الله منذ خلق العالم. إنّ العالم خلق طفلاً، والخطيئة هي مرحلة عابرة ملازمة لحالة الإنسان قبل بلوغه. في المسيح بلغ الإنسان كمال الإنسانية، في المسيح ظهر "الإنسان البالغ". وزمن الكنيسة هو الزمن الذي يدعى فيه كل إنسان ليحقّق في ذاته "حالة الإنسان البالغ وملء اكتمال المسيح" (أف 4: 13).

وهذا الإنسان البالغ هو "الإنسان الجديد" الذي يتكلّم عنه بولس الرسول في رسالته إلى الأفسسيين حيث يجمع بين "الإنسان البالغ" و"الإنسان الجديد":

"ومن ثمّ، فلا نكون بعد أطفالاً تتقاذفنا الأمواج، وتعبث بنا كل ريح تعليم على هوى مكر الناس وخبثهم في طرق التضليل، بل نعتصم بالحق في المحبة فننمو في كل وجه، مرتقين نحو من هو الرأس، أي المسيح، الذي منه ينال الجسد كلّه التنسيق والوحدة، وبتعاون جميع المفاصل، على حسب العمل المناسب لكل عضو، ينشئ لنفسه نمواً، ويبنى في المحبة" (أف 4: 14- 16).

وبعد هذا التوسّع في نمو الإنسان إلى المسيح، يتابع الرسول فيتحدّث عن الإنسان الجديد:

"ينبغي لكم أن تخلعوا عنكم، ما هو من أمر حياتكم السالفة، الإنسان العتيق، الفاسد بشهوات الغرور، وأن تتجدّدوا في صميم أذهانكم، ودق تلبسوا الإنسان الجديد، الذي خُلق على مثال الله في البرّ وقداسة الحق" (4: 2- 24).

وحتى يستطيع الإنسان أن يحيا حياة الله كان لا بدّ أن يصبح الإله إنساناً ليرفعه إليه، كان لا بدّ أن يأتي آدم الثاني إنساناً روحياً، إنساناً "نازلاً من السماء". إن هذا التعبير المكاني هو صورة بشرية لحقيقة هوى إلهية هي أن المسيح هو ابن الله، هو "إنسان كامل وإله كامل"، بحسب تعبير مجمع خلقدونية. وهذا ما يعينه بولس بقوله:

"جُعل الإنسان الأوّل، آدم، نفساً حية، وآدم الآخر روحاً محيياً. ولكن لم يكن الروحاني أوّلاً، بل الحيواني ثم بعدئذٍ الروحاني. الإنسان الأوّل من الأرض، من التراب، والإنسان الثاني من السماء. فعلى مثال التراب يكون الترابيون، وعلى مثال السماوي يكون السماويون. وكما لبسنا صورة الترابي فلنلبس أيضاً صورة السماوي" (1 كو 15: 45- 49).

وهذا ما يعنيه أيضاً يسوع بقوله "إنّه لم يصعد أحد إلى السماء إلاّ الذي نزل من السماء، ابن البشر الكائن في السماء" (يو 3: 13).

إن تأليه الإنسان لا يزيل طبيعته الإنسانيّة. فكما أنّ الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية اتّحدنا في شخص المسيح "دون اختلاط ولا انفصال"، بحسب قول المجمع الخلقيدوني عن المسيح الإله والإنسان، كذلك في الإنسان المؤله بالمسيح تبقى الطبيعة الإنسانية كاملة، ولكنّ النعمة تضفي عليها بعداً جديداً هو بعد الإتحاد بحياة المسيح وكيان المسيح، حتى يتصوّر المسيح في الإنسان. يقول متوديوس الأوليمبي: "كأنّ الكنيسة حبلى وفي المخاض، إلى أن يتصوّر المسيح في كلّ منا، بحيث يشترك كل من القدّيسين في المسيح، ويصير مسيحاً".

2- الكنيسة جسد المسيح

أ) الكنيسة أعضاء مختلفة متّحدة برأس واحد هو المسيح

إنّ إتحاد المسيحيين جميعهم بالمسيح يجعلهم، على كونهم أعضاء مختلفة، جسداً واحداً: "فكما أنّ الجسد واحد، وله أعضاء كثيرة، وأنّ جميع أعضاء الجسد، مع كونها كثيرة، هي جسد واحد، كذلك المسيح أيضاً. فإنّا جميعاً قد اعتمدنا بروح واحد لجسد واحد، يهوداً كنّا أم يونانية، عبيداً أم أحراراً، وسقينا جميعاً من روح واحد" (1 كو 12: 12، 13).

بالمعمودية يصبح المسيحيون واحداً في المسيح. وكذلك بالإفخارستيا: "كأس البركة التي نباركها أليست هي شركة في دم المسيح؟ والخبز الذي نكسره أليس هو شركة في جسد المسيح؟ فبمَا أن الخبز واحد، فنحن الكثيرين جسد واحد، لأنّا جميعاً نشترك في الخبز الواحد" (1 كو 10: 16، 17)

إنّ الكنيسة جسد واحد يحيا فيه جميع الأعضاء من حياة الله التي ظهرت للبشر في يسوع المسيح، ولا تزال تُمنح لهم في الأسرار المقدّسة. والمسيح هو رأس هذا الجسد: "إنه رأس الجسد، أي الكنيسة. إنّه المبدأ، البكر من بين الأموات، لكي يكون هو الأوّل في كل شيء، ففيه ارتضى الله أن يُحلَّ الملء كلّه" (كو 1: 18). ففي المسيح يحلّ ملء اللاهوت، "وهو الرأس الذي ينال الجسد كله التنسيق والوحدة" (أف 4: 16). والمسيح هو "مبدأ ائتلاف" كل أعضاء الجسد.

ثمّ إنّ قصد الله هو "أن يجمع تحت رأس واحد في المسيح، كل شيء، ما في السماوات وما على الأرض" (أف 1: 10). "لقد أخضع الله كل شيء تحت قدميه، وأقامه، فوق كل شيء، رأسًا للكنيسة، التي هي جسده وكال من يكتمل في جميع الكائنات" (أف 1: 22- 23). فالكنيسة هي "كمال المسيح"، والمسيح يكتمل بالمسيحيين كمَا أنّ الرأس يكتمل بالأعضاء. وبقدر ما تتسع الكنيسة بأعضاء مجدّدين بالمسيح بقدر ذلك يكتمل المسيح. يقول يوحنا الذهبي الفم: "يكتمل الرأس عندما يصير الجسد كاملاً، عندما نصير كلّنا متحدين ومرتبطين بعضنا ببعض".

ب) الكنيسة "جسد المسيح السرّي"

يدعو بولس الرسول الكنيسة "جسد المسيح". أمّا عبارة "جسد المسيح السرّي"، فقد وردت أوّلاً في كتابات إيسيخيوس الأورشليمي (+ 438) الذي يقول: "نحن أيضاً نصير جسد المسيح بتناولنا جسده السرّي". ويعني بعبارة "الجسد السرّي" القربان المقدّس. فالسرّي هنا نسبة إلى سر الإفخارستيا كمَا في عبارة "العشاء السرّي".

وفي القر التاسع أخذ اللاهوتيون في الغرب يميّزون بين ثلاثة تعابير لحضور المسيح، جسد المسيح المولود من مريم العذراء، وجسد المسيح الحاضر في سرّ الإفخارستيا الذي دعوه على غرار القرون الأولى "الجسد السرّي"، وجسد المسيح، الكنيسة، التي دعوها "الجسد الحقيقي".

وفي القرن الرابع عشر أصدر البابا بونيفاسيوس الثامن براءة في "الكنيسة الواحدة المقدّسة" ودعا فيها الكنيسة "جسد المسيح السرّي"، بينما دعا جسد المسيح الحاضر في سر الإفخارستيا "الجسد الحقيقي". ومن هذا الاستعمال قد بدأ في الغرب كردة فعل على أفكار اللاهوتي "بيرنجيه" الذي كان تعليمه عن حضور المسيح الحقيقي في سر الإفخارستيا ملتبساً ومثيراً للشك. فلتأكيد أنّ المسيح حاضر حضورا حقيقياً في سر الإفخارستيا دعا اللاهوتيون هذا الحضور "الجسد الحقيقي"، بينما أطلقوا على الكنيسة عبارة "جسد المسيح السرّي".

وفي القرن العشرين كانت تسمية الكنيسة "جسد المسيح السَرّي" منتشرة في الكنيسة الكاثوليكية، عندما نشر البابا بيوس الثاني عشر رسالته العامة في "الكنيسة جسد المسيح السرّي"، وفيها يؤكد ثلاثة أمور رئيسة:

أوّلاً، إنّ الكنيسة هي جسد المسيح السرّي. إنّ الكنيسة جسد له رأس هو المسيح، والروح القدس هو الروح الذي يحي هذا الجسد.

ثانياً، إنّ الكنيسة هي، كالمسيح، سر تجسّد. فهي في الوقت نفسه منظورة وغير منظورة. وتشدّد الرسالة على الناحية المنظورة: فالكنيسة هي "جسم واحد وغير منقسم"، "محسوس" و"واقعي".

ثالثاً، إنّ هذا الجسم المنظور هو الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. فرأي البابا بيوس الثاني عشر أنّ أعضاء الكنيسة، جسد المسيح السرّي، هم فقط الذين ولدوا من جديد بالمعمودية ولم ينفصلوا أو لم تفصلهم السلطة الشرعية عن مجمل الجسد. فجسد المسيح هو إذاً الكنيسة الكاثوليكية الرومانية وليس سواها.

لكنّ المجمع الفاتيكاني الثاني انفتح على المسيحيين غير الكاثوليكيين. فبعد حديثه عن الكنيسة جسد المسيح السرّي (رقم 7)، ينتقل إلى وجه الكنيسة المنظور، فيقول: "هذه الكنيسة التي أنشئت ونظمت كمجتمع في هذا العالم إثمَا نستمرّ في الكنيسة الكاثوليكية التي يسوسها خليفة بطرس والأساقفة الذين على الشركة معه، وإن تكن عناصر عديدة للتقديس والحقيقة لا تزال قائمة خارج هيكلها العضوي المنظور، وتدفع، من حيث هي مواهب خاصة بكنيسة المسيح، إلى الوحدة الكاثوليكية" (دستور عقائدي في الكنيسة، رقم 8).

قبولاً صحيحاً هم على الشركة، وإن غير كاملة، مع الكنيسة الكاثوليكية.. لمّا كانوا قد برّروا بالإيمان الذي نالوه في المعمودية، وصاروا به أعضاء لجسد المسيح، فإنهم بحق يحملون الاسم المسيحي، وبحقّ يرى فيهم أبناء الكنيسة الكاثوليكية إخوة في الرّب" (رقم 3).

ج) مَن هم أعضاء جسد المسيح؟

إنّ المعمودية هي التي تجعل الإنسان عضواً في الكنيسة جسد المسيح. فالجسد واحد، والكنيسة واحدة، رغم انقسام المسيحيين إلى كنائس مختلفة، وكلّنا أعضاء في جسد المسيح الواحد، وكلّنا إخوة في أسرة واحدة، ولكنّنا إخوة قد اختلفوا على بعض الحقائق المسيحية وبعض التعابير اللاهوتية، فانفصلوا بعضا عن بعض، ولكن انقساماً لا يجعل البعض منهم أعضاء في جسد المسيح والآخرين خارج هذا الجسد. فكل الذين اعتمدوا هم أعضاء على حد سواء في جسد المسيح، ولكنّهم أعضاء منفصلون بعضهم عن بعض، يتوقون إلى الوحدة الكاملة.

إنّ عبارة "جسد المسيح" هي عبارة كتابية يجب الاحتفاظ بها لأنّها تحمل معنى عميقاً، ولكنّها تشبيه، ولا يمكن أيّ تشبيه، مهمَا كان غنيّاً، أن يفي بسر الكنيسة الكامل. وقد يؤدي التمسّك بهذا التشبيه تمسّكاً مطلقاً وحرفياً إلى الوقوع في مغالطات لاهوتية. فمن يقول مثلاً إنّ الانفصال عن كرسي رومة هو انفصال عن جسد المسيح يعتبر الاتحاد مع كرسي رومة أهمّ من الاتحاد مع المسيح بالمعمودية. ولاجتناب الوقوع في مثل هذا الخطر يجب الاستعانة بالتشبيه الآخر وهو "الكنيسة شعب الله". فجميع المسيحيين هم أعضاء في شعب الله الواحد، ويبقون أبناء الله الواحد وأخوة للمسيح الواحد، ويحييهم الروح الواحد، وإن وضعوا، بانفصالهم بعضا عن بعض، عراقيل بشرية تمنع عمل الله الكامل فيهم.

  رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
ظهور الثالوث المطران نيقولا صوّاف
دراسة مقدمة العالِم باين سميث لترجمته لكتاب شرح القديس كيرلس لإنجيل لوقا
الله الخالق : للمطران كيرلس سليم بسترس
كتاب مريم العذراء للمطران كيرلس سليم بسترس
قراءة مباشرة لكتاب لقب إبن الإنسان هل يدل على أن المسيح إنسان فقط؟ للقمص عبد المسيح بسيط


الساعة الآن 11:55 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025