03 - 07 - 2023, 01:14 PM | رقم المشاركة : ( 21 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر حبقوق
ميكال تنقذ داود الآن بدأ شاول ينهار، إذ كلم ابنه يوناثان وجميع عبيده أن يقتلوه [1]، وإذ تشفع فيه يوناثان وأقنعه أن يعدل عن قتله أقسم بالرب ألا يُقتل. لكن نصرة داود على الأعداء أثارت شاول من جديد ليضربه بالرمح، وإذ فشل أرسل يتعقبه في بيته فأنقذته ميكال ابنة شاول، وأخيرًا التجأ داود إلى صموئيل في الرامة ليذهبا معًا إلى نايوت وهناك يأتي شاول ورجاله فيتنبأون. يمكننا القول إن الله استخدم كل وسيلة ليوقف جنون أنانية شاول فلم يرتدع، إذ حدثه على لسان ابنه الوارث لملكه يوناثان، وعلى لسان ابنته زوجة داود وأخيرًا خلال الأنبياء. 1. يوناثان يشفع في داود: كان داود ناجحًا في كل عمل تمتد إليه يداه، لأن الرب كان معه، لذا أحبه جميع الشعب ورجال البلاط ويوناثان بن شاول وأخته ميكال زوجة داود، أما شاول فكان يمتلئ حسدًا وبغضة وقد صمم على قتله بطريقة أو أخرى. كان كبرياء قلب شاول يشحنه بالبغضة بينما كان داود ينمو في الاتضاع، حتى صار اسم "شاول" عبر الأجيال يمثل التشامخ والعجرفة واسم "داود" يمثل الاتضاع. * دُعى بولس أولًا شاول، لقد كان متكبرًا ثم اتضع. كان اسمه "شاول"، وهو اسم مشتق من "شاؤل" الملك المتعجرف الذي اضطهد داود في أيام حكمه (1 صم 18: 29). صار بعد ذلك "بولس" (1 كو 1: 1)، صار آخر الكل في الكنيسة بعد كان متعجرفًا يضطهد الأبرياء. * ماذا يعني اسم "بولس"؟ يعني "الصغير". عندما كان اسمه "شاول" كان متكبرًا متعجرفًا، وإذ صار "بولس" صار متضعًا صغيرًا (1 كو 15: 9؛ أف 3: 8). القديس أغسطينيوس حقًا لقد وُهب شاول "النبوة" كعطية إلهية، لكي يمارس حياة التسبيح والعبادة بكونه مسيح الرب، لكنه لم يحمل الاتضاع والحب في قلبه ولذا فقد كل صلاح، وقاوم داود بل وعصى الله نفسه وكسر وصيته. لا نعجب إذ كان شاول الذي نال "النبوة" في وقت ما (1 صم 10: 11) فقد كل صلاح بسبب كبرياء قلبه الذي أفقده كل حب. لذا نجد الآباء يركزون على التمتع بالحب كثمرة عمل الروح القدس فينا لنحيا بالرب ولا نفقد خلاصنا... أما بقية المواهب فلا تقدر أن تسندنا بدون الحب، حتى المعمودية أيضًا لا تنفع بدون الحب. * نوال المعمودية ممكن حتى بالنسبة للإنسان الشرير، ونوال النبوة ممكن للشرير. كان للملك شاول نبوة، ومع ذلك كان يضطهد القديس داود... يمكن حتى للشرير أن يتناول جسد الرب ودمه، وقد قيل: "الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه" (1 كو 11: 29). يمكن أن يكون للشرير اسم المسيح، إذ يمكن أن يُدعى مسيحيًا، مثل هذا يقال عنه: "نجسوا اسم إلههم" (راجع حز 36: 20)... أما أن يكون لك الحب وتكون شريرًا فهذا مستحيل! الحب هو العطية الخاصة... القديس أغسطينوس ظن شاول كملك صاحب سلطان أنه قادر على الخلاص من داود، لكن الله أوجد لداود منقذًا، إذ فتح قلب يوناثان بن داود بالحب الشديد لداود، هذا أفشى سر المملكة وتجاهل بنوته الجسدية لشاول فأخبر داود بأن أباه يريد قتله وأنه يلزم الحذر ليلًا لئلا يدبر شاول مؤامرة لقتله، وأن ينتظر حتى يعرف ما في قلب أبيه، وهل يمكن أن يصالحهما معًا. إننا نعجب حين نرى رباط الصداقة الحقيقية يقوم بين بطلين متناظرين على تاج المملكة. فيوناثان وُلد ليملك، أما داود فدُعي ليملك. كان كلاهما بطلين عظيمين ورئيسين في الجيش، ومع ذلك فكانت نظرة كل منهما للآخر نظرة إعجاب وتقدير، مع حب صادق حتى الموت. دافع يوناثان عن داود حتى وبخه والده وأراد قتله. وهو الذي ساعده على الهروب (1 صم 20). ما أجمل القول: "فقام يوناثان بن شاول وذهب إلى داود إلى الغاب، وشدّد يده بالله. وقال: "لا تخف، لأن يد شاول أبي لا تجدك وأنت تملك على إسرائيل، وأنا أكون لك ثانيًا، وشاول أبي أيضًا يعلم ذلك. فقطعا كلاهما عهدًا أمام الرب" (1 صم 23: 16-18). في البداية كلم شاول ابنه وجميع عبيده أن يقتلوا داود [1]، وإذ حذر يوناثان داود دعا أباه ليتمشى معه في البرية بقصد الدخول معه في حديث سري ليصالحه مع داود، مذكرًا إياه بالحاجة إلى رجل صالح وناجح وشجاع لبنيان المملكة، فسمع له شاول وحلف له، ولكن هذا إلى حين. كان يمكن ليوناثان من البداية أن يطلب من داود أن يهرب من وجه أبيه، لكن يوناثان حسب هروبه خسارة عظيمة على المملكة وأيضًا بالنسبة له فقد أحبه كنفسه. رجع داود إلى منصبه بعدما سمع شاول لصوت ابنه الصادق والأمين. عادت الحرب بين إسرائيل وأعدائهم؛ حاربهم داود وضربهم ضربة عظيمة فهربوا من أمامه [8]، وكانت مكافأته أن قلب شاول امتلأ حسدًا إذ دخله روح رديء هو روح الحسد. 2. شاول يبعث رسلًا لقتل داود: أراد شاول أن يقتل داود بالرمح فهرب من أمامه ونجا. أرسل شاول رسلًا إلى بيت داود ليراقبوه ويقتلوه في الصباح (1 صم 9: 11). هنا أنشد داود النبي المزمور التاسع والخمسين (58 في الترجمة السبعينية)، إذ يقول: "أنقِذني من أعدائي يا إلهي، من مقاوميّ احمني؛ نجني من فاعلي الإثم ومن رجال الدماء خلصني. لأنهم يكمنون لنفسي. الأقوياء يجتمعون عليّ... استيقظ إلى لقائي وانظر. يعودون عند المساء يهرّون مثل الكلب ويدورون في المدينة...". يرى القديس أغسطينوس في شرحه للمزمورأن عمل شاول يرمز إلى ما فعله رؤساء اليهود؛ فكما أرسل شاول رسلًا في الصباح إلى بيت داود ليراقبوه ويقتلوه، هكذا دفع الرؤساء رشوة للجند المراقبين لقبر السيد ليشيعوا في الصباح أن تلاميذه جاءوا ليلًا وسرقوه، وقد أرادوا بذلك أن يقتلوا السيد أي يحطموا الإيمان به، لكنهم فشلوا. في المزمور 59 (58) يشبِّه داود النبي رسلَ شاول المرسلين لمراقبته وقتله بكلب واحد صار يدور في المدينة لا ليُقتل بل ليُحمي. هكذا يفعل الله مع خائفيه إذ يحول الشر إلى خير. لقد طلب شاول قتل داود لكن الأخير نجا خلال تدبير ميكال ابنة شاول؛ إذ استخدمها الله وسيلة لتأكيد رعايته له وحفظه إياه. هكذا أيضًا عندما رشا اليهود الجندَ ليقتلوا خبر قيامة المسيح، تحول هذا لتأكيد القيامة، لأنه لم يعقل أحد أن التلاميذ الهاربين من الخوف يقدرون أن يسرقوا جسد السيد ليلًا وسط الحراسة المشددة وختم القبر. ما نادى به الجند صار تأكيدًا بأن الجسد ليس في القبر مما أكد قيامته. 3. ميكال تنقذ داود: لعل ميكال سمعت من بيت أبيها عن أمر الرُسل، وإذ كانت تحب رجلها دبرت أمر هروبه، إذ أنزلته من الكوة. ربما كان بيتها في حائط السور، لذا نزل داود إلى خارج المدينة ليبدأ حلقة جديدة من حياته حملت خبرات ثمينة. دخل إلى الآلام، يعيش وسط المظلومين والمطرودين ليس له موضع يستقر فيه، وكأن الله قد هيأه بهذه الآلام لممارسة الحياة الملوكية لا كسلطة وعجرفة إنما كخدمة ورعاية خاصة للمطرودين والمظلومين. لقد دخل إلى تجربة الطرد لكي يعين المطرودين والمجرمين. كان داود في هذا رمزًا للسيد المسيح الذي أنزلته محبته من السماء كما من بيته، وجال في البرية هذا العالم ليس أين يضع رأسه؛ عاش طريدًا، مجربًا يقدر أن يعين المجرَّبين. استخدمت ميكال الخداع والكذب لإنقاذ داود، فمن جهة أخذت الترافيم ووضعته في الفراش ووضعت لبدة المعزى تحت رأسه وغطته بثوب [13]. جاءت كلمة "ترافيم" كمفرد، هنا تعني تمثالًا كبيرًا في حجم إنسان، غالبًا كانت ميكال قد خبأته في بيتها لا لتتعبد له وإنما كفأل لكي تحبل وتنجب ولدًا. ولم يكن داود يعلم عنه شيئًا. ومن جهة أخرى كذبت ميكال فقالت عن داود إنه مريض، وعندما عاتبها والدها منتهرًا إياها: "لماذا خدعتِني فأطلقتِ عدوي حتى نجا؟!" كذبت إذ قالت: "هو قال لي: أطلقيني، لماذا أقتلك؟" [17]. 4. الأنبياء يبطلون خطة شاول: إذ هرب داود ذهب إلى الرامة حيث أقام مع صموئيل النبي في نايوت [تعني مسكنًا]، هو غالبًا مبنى لسكن الملتحقين بمدرسة الأنبياء، وربما اسم الحيّ الذي فيه السكن. على أي الأحوال ترك صموئيل مسكنه الخاص وأقام مع داود ربما ليحميه من شاول لا بسيف أو رمح وإنما بعمل الله وسلطانه الروحي، بكونه رئيس مدرسة الأنبياء ومؤسسها، وبكونه ماسح الملكين شاول وداود. لعل داود جاء إلى هذا الموضع لأنه سبق أن التحق به إلى حين، فجاء إلى معلمه واضعًا في حسبانه أن شاول يهاب الموضع ورئيسه. لكن شاول الذي امتلأ قلبه حقدًا لم يراجع نفسه ولا ذهب بنفسه ليطلب مشورة صموئيل النبي إنما بعث بإرسالية لأخذ داود كي يقتله. عندما بلغت الإرسالية الموضع نسيت هدفها لأنها ثأثرت بالجو الروحي التعبدي وحل روح الرب عليهم وصاروا يتنبأون أي اشتركوا مع الأنبياء في التسبيح والعبادة. ظن شاول أن هذه الجماعة قد انخدعت أو خافت سلطان صموئيل فأرسل جماعة ثانية وتكرر ذات الأمر معها، وللمرة الثالثة جاءت إرسالية من قبله وصارت تتنبأ... وفي هذا كله لم يرجع شاول إلى نفسه ولا اتعظ. قرر شاول أن يذهب بنفسه، فجاء إلى الرامة إلى البئر العظيمة التي عند سيخو؛ وإذ أراد الله أن يتمجد حل عليه هو أيضًا روح الله، فذهب إلى نايوت في الرامة وصار يتنبأ. ومن شدة تأثره بالمسبحين بموسيقى رائعة خلع رداءه وجبته وعُدته وبقى بلباسه الأبيض منطرحًا النهار والليل يسبح ويرنم. دهش كل من رآه فقالوا: "شاول أيضًا من الأنبياء؟!" [24]. لقد أراد الله أن يؤكد أنه إله المستحيلات، قادر أن يحوّل قلب شاول المملوء حقدًا إلى قلب ملتهب بالشوق نحو العبادة خاصة التسبيح، خالعًا كل ثياب المجد والكرامة، لكنه لا يلزمه بذلك بل تركه لإرادته الحرة، لذلك سرعان ما ارتد شاول إلى شره. ظن بعض الدارسين أن صموئيل وداود سخرا من شاول حينما نظراه منطرحًا عريانًا النهار كله وكل الليل، إنما الواقع كان عكس ذلك فقد مجّد هذان النبيان الله على عمله في شاول ولو إلى حين، وقد ترك هذا النظر أثرًا طيبًا في قلب داود لذا مدحه مع ابنه يوناثان قائلًا: "شاول ويوناثان المحبوبان الحلوان.." (2 صم 1: 23). هذا ما تبقى في قلب داود من جهة شاول؛ فقد نسى حسده وحقده ومقاومته له ومؤامراته لقتله، ليراه الإنسان المحبوب الحلو الذي يسبح الله بين الأنبياء. |
||||
03 - 07 - 2023, 02:46 PM | رقم المشاركة : ( 22 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر حبقوق
يوناثان ينقذ داود تصرفات شاول تكشف عن اهتزاز نفسيته جدًا، فقد أدرك أن كرسيه بدأ يتزعزع وابنه الوارث الشرعي يسند داود -مغتصب الملك- وابنته ميكال تخلصه، والأنبياء يقفون بجواره... والآن يلتقي داود بيوناثان الذي يمثل كبير حجاب قصر شاول يعاتبه على تصرفات أبيه. بأمانة كاملة كشف يوناثان عما في قلب أبيه وطلب من داود الهروب بعد أن تعانقا باكين متعاهدين أمام الرب. 1. داود يعاتب يوناثان: أدرك داود أن شاول يصر على قتله فقد بعث ثلاث إرساليات، وأخيرًا جاء بنفسه إلى الرامة لا لهدف آخر غير الخلاص منه، لكن الرب أنقذه. هرب داود من نايوت في الرامة وجاء إلى صديقه الحميم يوناثان للتشاور معه في أمر أبيه. وقد جاءت أحداث هذا الأصحاح تكشف لنا عن شخصية يوناثان الفريدة في الإخلاص والحب. لقد أدرك أن داود يستلم عرش أبيه لا محالة [14-17]، فأظهر قبوله إرادة الله بفرح دون أي امتعاض من جهة داود بل صار يحبه كنفسه [17]. كان يسنده للخلاص من يد أبيه، باذلًا كل الجهاد لحساب صديقه الذي يرث أبيه. تكشف الأحداث بالأكثر عن شخصية شاول المتهورة إذ دفعه الحقد على داود أن يحاول قتل يوناثان لأنه يسنده. جاء داود إلى يوناثان ليجد فيه الصدر الرحب فيعاتبه على تصرفات أبيه ويطلب مشورته ومساندته. حقًا لقد أراد الجالس على العرش أن يقتل داود لكن الله فتح قلب أقرب مَن لشاول - يوناثان - ليحب داود ويخطط له من خلال البلاط الملكي... هكذا كلما حاول الشر أن يغلق الأبواب ويحكمها يُفتح لنا بابًا من حيث لا ندري. في صراحة قال داود: "ماذا عملتُ؟ وما هو إثمي؟ وما هي خطيتي أمام أبيكِ حتى يطلب نفسي؟!" [1]. هكذا استطاع داود أن يتكلم بصراحة مبررًا نفسه، طالبًا من يوناثان أن يقتله بنفسه إن كان قد وجد فيه ظلمًا أو خيانة، إذ يفضل أن يموت بيد صديقه يوناثان عن عدل عن أن يموت بيد شاول أو أحد عبيده عن ظلم [8-10]. اتسم داود بالأمانة مع الكل ومع هذا تعرض لمتاعب كثيرة ومطاردات عبّر عنها في المزمور السابع: "خلصني من كل الذين يطردونني ونجني؛ لئلا يفترس كأسد نفسي هاشمًا إياها ولا منقذ". يا رب إلهي إن كنت قد فعلت هذا، إذ وُجد ظلم في يدي، إن كافأت مسالمي شرًا وسلبت مضايقي بلا سبب، فليطارد عدو نفسي وليدركها وليدس إلى الأرض حياتي وليحط إلى التراب مجدي. سلاه" (مز 7: 1-5). يتكلم داود النبي بصيغة الجمع "خلصني من كل..." ثم يكمل بصيغة المفرد "لئلا يفترس كأسد..."، ذلك لأنه وإن كثر المضايقون والمطاردون له، لكن واحدًا هو الذي يحركهم هو إبليس كما يقول القديس باسيليوس. يرى بعض الآباء في كلمات داود النبي مع يوناثان وأيضًا ما ورد في المزمور السابع حيث يبرر داود نفسه قائلًا: "ماذا عملت؟ وما هو إثمي؟"، "إن وُجد ظلم في يدي" يرمز للسيد المسيح الذي وحده بلا خطية وقد ثار العدو - إبليس - كأسد ليفترسه على الصليب، لكن تحطم العدو وقام المسيح ليقيم مؤمنيه معه. * "يا رب إلهي إن كنت قد أخطأت في هذا (فعلت هذا)" (مز 7: 3). "لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء" (يو 14: 30). "إن وُجد ظلم في يدّي": "الذي لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه مكر" (1 بط 2: 22). "إن كافأت مسالمي شرًا": قالوا "اصلب اصلب رجل كهذا" (راجع يو 19: 6). "فليطارد عدو نفسي وليدركها": "آخر عدو يبطل هو الموت" (1 كو 15: 26). "ليدس إلى الأرض حياتي": لا يمكن للحياة أن تُدرس إلى الأرض؟ "وليحطّ إلى التراب مجدي"... يتوسل المرتل من أجل أعدائه لكي يتمجد الله في أرضهم، عندما يكفون عن العداوة فيتمجد الله فيهم. القديس جيروم على أي الأحوال إذ تسلك النفس في طريق الكمال خلال تمتعها بالحياة الجديدة في المسيح الكامل وحده تتعرض للحروب من كل جانب، يثيرها عدو الخير ضدها، لكنها تنال الغلبة والنصرة. وكما يقول القديس أغسطينوس: [تنهزم كل حرب وكل عداوة بالنسبة لمن صار كاملًا، فلا يكون له عدو سوى إبليس الحاسد... يقول الرسول: "إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو" (1 بط 5: 8). لذلك بعدما تحدث المرتل بصيغة الجمع "خلصني من كل الذين يضطهدوني" يتكلم بصيغة المفرد: "لئلا يفترس كأسد نفسي". لم يقل "لئلا يفترسوا"، إذ عرف أي عدو وخصم عنيف ضد النفس الكاملة]. تحدث داود بصراحة معلنًا شدة تخوفه من شاول، إذ يقول: "ولكني حي هو الرب وحية هي نفسك إنه كخطوة بيني وبين الموت"، أي أن الموت قد صار قريبًا جدًا منه يحل في أية ساعة. وكانت إجابة يوناثان: "مهما تقل نفسك أفعله لك" [4]، بمعنى أنه سيقدم له كل ما يريده داود، ما يشير به عليه يفعله. هكذا يفعل الحب، لأن "المحبة لا تطلب ما لنفسها بل ما هو الآخرين". قدم داود مشورة ليوناثان للكشف عما في قلب أبيه، قدمها بروح الوداعة والاتضاع في غير استغلال لحب يوناثان له، إذ يقول له "إرسِلني" [5]، فإنه في غياب شاول يأتمر داود بأمر يوناثان ويخضع له. وقبل مفارقته سجد له ثلاث مرات [41] علامة الاحترام اللائق به كابن ملك وعلامة الشكر والامتنان. أما المشورة فباختصار أنه يتغيب لمدة ثلاثة أيام عن حضور الوليمة مع الملك في أول الشهر بحجة أن أخاه اليآب سأله أن يحضر إلى بيت لحم يشترك في الذبيحة السنوية التي لعشيرته، وأن يوناثان أعطاه إذنًا بالذهاب، ليرى ماذا تكون إجابة شاول؛ فإن استحسن الأمر يكون ذلك إشارة إلى ارتياح قلب الملك من نحوه، أما إذا اغتاظ فيكون قد أعد له الشر. 2. يوناثان يتمم خطة داود: كانت العادة أن يقسم الإنسان في صيغة صلاة أحيانًا؛ هكذا فعل يوناثان إذ قال: "يا رب إله إسرائيل متى اختبرتُ أبي مثل الآن غدًا أو بعد غد فإن كان خير لداود ولم أُرسِل حينئذ فأُخْبِرَه فهكذا يفعل الرب ليوناثان وهكذا يزيد..." [12-15]. هكذا أقسم في صيغة صلاة ليعطي للقسم قدسيته، مؤكدًا أنه إن كان أبوه ينطق بخير سيبعث إليه رسولًا يطمئنه ليعود إلى عمله في البلاط، أما إذ نطق بشر فإنه يقوم بنفسه بإخباره ولا يأتمن رسولًا على ذلك حتى لا تتعرض حياة داود لخطر، طالبًا له أن يكون الرب في رفقته أثناء هروبه حتى يتسلم الحكم، وعندئذ يطلب من داود أن يصنع به وبنسله معروفًا، لأنه كانت عادة الملوك حين يتسلمون الحكم يقتلون الملك السابق وكل نسله حتى يطمئن أنه لا توجد فرصة لثورة ضده تحت قيادة شخص من نسل ملوكي (1 مل 15: 29؛ 16: 11)، بالفعل حفظ داود العهد ونفذ الوصية (2 صم 21: 7). 3. يوناثان يكتشف قلب أبيه: اكتشف يوناثان ما في قلب أبيه في اليوم الثاني من الوليمة؛ ففي اليوم الأول ظن الملك أن داود لم يحضر لأمر عارض، لأنه غير طاهر. أما في اليوم الثاني إذ سأل عنه قال له يوناثان بأنه ذهب إلى بيت لحم كطلب أخيه ليشترك مع بيت أبيه في الذبيحة السنوية، عندئذ حمي غضب شاول على يوناثان وقال له: "يا ابن المتعوِّجة المتمردة، أما علمتُ أنك قد اخترت ابن يسى لخزيك وخزي عورة أمك. لأنه مادام ابن يسَّى حيًا على الأرض لا تثبت أنت ولا مملكتك. والآن أُرْسِل وأتِ به إليّ لأنه ابن الموت هو" [30-31]. ولما حاول يوناثان الدفاع عنه صوب شاول الرمح نحوه ليطعنه، عندئذ علم يوناثان أن أباه قد عزم على قتل داود. لقد سب شاول ابنه بأبشع شتيمة قائلًا: "يا ابن المتعوجة المتمردة، وهو لا يعني إهانة امرأته بل إهانة يوناثان نفسه". * ماذا عَنَى بهذا؟ أنت ابن الزانيات اللواتي هن مجنونات على الرجال، يجرين وراء العابرين. إنك بائس خلع القلب مخنث، ليس فيك شيء من الرجولة، تعيش في خزي من نفسك ومن أمك التي عرّتك. ماذا إذن؟ هل حزن عند سماعه هذه الأمور، وأخفى وجهه، وترك محبوبه؟ لا، بل على العكس، حَسِبَ محبته زينة. لقد كان الواحد - يوناثان - ملكًا ابن ملك، والآخر كان طريدًا شريدًا أقصد به داود؛ ومع ذلك لم يخجل الأول من صداقته. القديس يوحنا الذهبي الفم لقد عكر الغضب عيني شاول فلم يجد ما يجاوب به ابنه إلا تصويب الرمح لقتله مع السب والشتيمة بأقذر الألفاظ. * إن وجدتم في منازلكم عقارب وأفاعي، ألا تجتهدون في طردها حتى تعيشوا في أمان منها في منازلكم؟! ومع ذلك فها أنتم غضبى، وهوذا الغضب يتأصل في قلوبكم، وينمي فيها حقدًا وخشبًا كثيرًا وعقارب وأفاعي، ومع هذا فلا تنقون قلوبكم التي هي مسكن الله!! القديس أغسطينوس القديس أوغريس القديس باخوميوس انطلق يوناثان إلى الحقل ومعه سلاحه وأيضًا غلام صغير حتى لا يشك أحد في أمره بل يحسبونه ذاهبًا للتمرن على رمي السهام كعادته. طلب من الغلام أن يلتقط السهام التي يرميها [36]. بينما كان الغلام راكضًا رمى السهم حتى جاوزه، وناداه: "أليس السهم دونك فصاعدًا... اعجل. أسرع. لا تقف". كان ذلك إشارة إلى داود المختبئ في الحقل بأن الخطر يلاحقه وأن يسرع بالهروب. أعطي يوناثان السلاح للغلام ليدخل به إلى المدينة، وقام داود من جنوب حجر الافتراق وسقط على وجهه إلى الأرض وسجد ثلاث مرات علامة تقديره وشكره ليوناثان الذي يهتم بحياته. كان الوداع حارًا، إذ بكى كل منهما صاحبه ليفترقا بلا تلاقٍ على هذه الأرض. زاد داود في بكائه، فقال له يوناثان: "اذهب بسلام لأننا كلينا قد حلفنا باسم الرب قائلين: الرب يكون بيني وبينك، وبين نسلي ونسلك إلى الأبد"، ثم افترقا حسب الجسد أما قلباهما فازدادا التحامًا وحبًا. ما أعذب الحب وما أثمنه فإنه ليس ما يحطمه ولا حتى الموت! هو رصيدنا الأبدي، إذ يقول الرسول بولس: "المحبة لا تسقط أبدًا؛ وأما النبوات فستبطل والألسنة فستنتهي والعلم فسيبطل" (1 كو 13: 8). |
||||
07 - 07 - 2023, 04:29 PM | رقم المشاركة : ( 23 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر حبقوق
داود الطريد صورة مؤلمة لداود إذ صار طريدًا، ترك كل شيء فجأة وخرج وحده ولم يكن معه سيف ولا خبز، ولا وضع خطة أمامه، ولم يستشر الرب في شيء فصار يتخبط، دخل نوب مدينة الكهنة وبسببه قُتل الكهنة وهلكت المدينة، انطلق إلى جت فحسبوه جاسوسًا طائشًا واضطر إلى التظاهر بالجنون لينقذ حياته. إنها لحظات ضعف عاشها رجل الإيمان الجبار داود. 1. داود في نوب: عجبًا إن الذي ارتعب أمامه الوثنيون، وغنت له النساء "ضرب شاول ألوفه وداود ربواته" (1 صم 18: 7)، والذي حاز حب وإعجاب الملك وابنه وابنته والقواد وجميع الشعب... يهرب أمام الملك المرفوض. لقد جاءت ساعة التجربة المُرّة التي لا بُد لكل مؤمن أن يجتازها، حين يشعر أنه وحيد ليس من يسنده ولا من يشاركه مشاعره. جاء داود النبي إلى نوب، شمال أورشليم (إش 10: 32) بالقرب منها، حُسبت كمدينة للكهنة مع أنها لم تدرج مع مدن الكهنة في (يش 21)، إنما حسبت كذلك لأن الخيمة انتقلت إليها بعد خراب شيلوه. هناك التقى بأخيمالك الكاهن، ربما هو أخيَّا بن أخيطوب (1 صم 14: 3) أو أخوة وخلفه في الكهنوت. كان رجلًا صالحًا وهو ابن حفيد عالي الكاهن الذي صدر الحكم الإلهي بخراب بيته (1 صم 3: 13-14). عندما ذكر السيد المسيح هذه الحادثه في (مر 2: 26) قال إنها حدثت في إيام أبيأثار رئيس الكهنة، وهو ابن أخيمالك (1 صم 22: 2)، مارس الرئاسة الكهنوتية مع أبيه. إذ رأى أخيمالك داود وحده، لأن أتباعه وقفوا خارجًا في البداية ثم تقدموا؛ وربما حسب أخيمالك داود وحده لأنه كان يتوقع موكبًا من الأشراف يرافقونه بحكم مركزه في البلاط الملكي، وحسب من معه أنهم لا يُحسبون. هذا المنظر أربك أخيمالك ربما لأنه سمع أن شاول يريد قتل داود، وأن داود جاء هاربًا من وجه الملك فيحل على أخيمالك غضب الملك إن استضافه. لقد خارت قوى داود فاستخدم الخداع والمواربة ونوعًا من الكذب ليبرر موقفه أمام أخيمالك إذ قال له: "إن الملك أمرني بشيءٍ، وقال لي: "لا يعلم أحد شيئًا من الأمر الذي أرسلتك فيه وأمرتك به، وأما الغلمان فقد عينت لهم الموضع الفلاني والفلاني" [2]. كان داود رجلًا حسب قلب الله، لكنه في ضعفه كان يخطئ؛ وقد أدى ضعفه هذا وكذبه إلى عواقب وخيمة؟ [18-19]. طلب داود من خبز الوجوه، الخبز المقدس (لا 24: 5-9)، الذي كان الكهنة يضعونه جديدًا كل سبت ويأكلون القديم، ولا يحل تقديمه لغير الكهنة. ومع ذلك فقد قبل أخيمالك أن يقدمه لداود ورجاله إن كانوا طاهرين حتى من العلاقات الزوجية، ذلك لأنهم جاعوا ولم يكن يوجد خبز آخر. استخدم السيد المسيح الحادثة ليوضع لليهود كيف أنه يحل للتلاميذ أن يقطفوا السنابل ويفركوها بأيديهم ويأكلوا منها يوم السبت (مر 2: 25؛ مت 12: 3-4؛ لو 6: 3-5). يقول القديس كيرلس الكبير: [مع أن داود سلك مسلكًا مغايرًا للناموس ولكن له في نفوسنا كل إكبار وإجلال، فهو قديس ونبي... يجب أن نلاحظ أن خبز التقدمة الوارد ذكره في رواية داود يشير إلى الخبز النازل من السماء الذي تراه على موائد الكنائس المقدسة وأن جميع أمتعة المائدة التي نستعملها في خدمة المائدة السرية لهي رمز للكنوز الإلهية الفائقة ]. لم يفعل داود النبي ذلك عن تهاون بالوصية أو تراخ، لكن لم يكن أمامه طريق آخر، لذا لم يُحسب أكله هو ومن معه من هذا الخبز كسرًا للوصية. وقد حمل تصرفه هذا رمزًا إذ تمتعت الأمم لا بخبز التقدمة وإنما بجسد السيد المسيح، الخبز النازل من السماء، كمصدر شبع حقيقي للنفس. سأل داود عن وجود أي سلاح لدى الكاهن في الخيمة، فأعطاه سيف جليات الذي قتله داود في وادي البطم (السنط) ملفوفًا ربما في ثوب جليات وكان موضعًا خلف أفود الكهنة ليكون في مأمن. قال داود للكاهن: "لا يوجد مثله أعطني" [9]. كان يكفيه أن ينظر إلى السيف فتهدأ نفسه ويطمئن. كان يلزمه أن يذكر كيف وقف أمام جليات الجبار بكل سلاحه كشاب لا يملك سوى عصا ومقلاع وخمسة أحجار ملسى من الوادي، وباسم الرب غلب وانتصر. كان في نوب أحد عبيد شاول، ربما ذات الغلام الذي كان يرافقه حين ذهب يبحث عن أتن أبيه الضالة (1 صم 9: 3)، يدعى دواغ الأدومي، رئيس رعاة شاول، رجل دخيل، كان محصورًا أمام الرب [7] إما لوفاء نذر أو للتطهير. وقد أدرك داود أن في وجود دواغ خطرًا، لذا أسرع بترك المكان في ذات اليوم. لكن دواغ أبلغ شاول بما حدث وأثاره لقتل لا اخيمالك وحده بل وجميع الكهنة مع نسائهم وأولادهم مع ماشيتهم. يرى القديس أغسطينوسأن "دواغ" تعني "تحركًا" وآدوم تعني "ترابًا" أو "أرضًا"... وكأنه يمثل من يحمل "تحركًا أرضيًا" لا سماويًا، أي سلوكًا أرضيًا يفسد خدمة الرب. 2. داود في جت: هرب داود إلى جت مدينة جليات الجبار الذي قتله، وها هو قادم يحمل سيف بطلهم، فثاروا ليقتلوه. لقد وجد أرامل وأيتامًا ترملن وتيتموا بسبب داود ولم يكن ممكنًا أن يستضيفوا داود كطريد شاول، إنما حسبوه جاسوسًا خبيثًا ومتهورًا. قُدم لأخيش (أحد ألقاب الملوك الفلسطينيين) فلم يجد وسيلة للخلاص إلا بالتظاهر بالجنون، فقد تمتع المجانين ببعض الامتيازات، منها عدم معاقبتهم على تصرفاتهم، كما حسب البعض أن بهم روحًا يخافونه ويرهبونه. يا له من منظر يمثل منتهى البؤس! إذ نرى داود الجبار، رجل الله التقي، المتكل على الله، يخور في إيمانه ليتظاهر بالجنون. فيخربش أي يكتب كتابة غير واضحة على الباب، وبحسب الترجمة السبعينية كان يطبل على الباب، وكان يريقه يسيل على لحيته [13]، وهذه كانت تعتبر بعض علامات الجنون في الشرق، لا سيما ما للحية من إكرام. لقد استخدم رجل الإيمان وسيلة بشرية لخلاصه!! حسب داود نفسه في جت كحمامة بكماء بين الغراء، ضاقت نفسه جدًا، لم يجد ما يتكلم به لينقذه، ولا قوة للخلاص، لا حول له ولا قوة... لقد اضطر إلى استخدام الوسيلة البشرية المُرّة، غير أن قلبه ارتفع نحو الله كما أعلن في مزموره السادس والخمسين. جاء في مقدمة المزمور [عنوان لداود عندما أخذه الفلسطينيون (Allophyli معناها "الغرباء") في جت (معناها "معصرة")]. يعلق القديس أغسطينوس على هذه المقدمة، قائلًا بإن ما حدث كان رمزًا لما تحقق مع شخص ربنا يسوع المسيح بن داود الذي أخذه غير المؤمنين - الغرباء - ليجتاز معصرة الصليب. [كيف أُخذ هنا إلى جت؟ أُخذ جسده، الذي هو الكنيسة، إلى المعصرة. ماذا في المعصرة...؟ إثمار! العنب الذي يُترك على الكرمة بلا عصر يبدو سليمًا لكنه لا يفيض (عصيرًا)، متى أُلقى، في المعصرة وديس وعصر يبدو كأن ضررًا أصابه، لكن هذا الضرر لا يؤذي (إذ يقدم عصيرًا)... ليت القديسين الذين يعانون من العصير بواسطة غرباء يدركون هذا المزمور... وينطقون بكلماته. "ارحمني يا الله لأن الإنسان يطأني" (مز 56: 1). لا تخف لأن الإنسان يطأك، فسيكون لك خمر. فيك عنب لكي تُداس (فتنتج عصيرًا). "اليوم كله محاربًا يضايقي" (مز 56: 1)، كل شخص غريب عن القديسين يضايقك.. "اليوم كله" أي في كل الأزمنة... لا يقل أحد في نفسه: وُجدت مضايقات في أيام آبائنا، أما في أيامنا فلا توجد. إن ظننت أنك لا تعاني من مضايقات، فأنت لم تبدأ بعد أن تكون مسيحًا. هنا يظهر صوت الرسول: "جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون" (2 تي 3: 12). إن كنت لا تعاني اضطهاد من أجل المسيح احذر لئلا تكون لم تبدأ أن تعيش بالتقوى في المسيح. متى بدأت بالتقوى في المسيح تدخل المعصرة؛ استعد للعصر. لا تكن جافًا لئلا تعجز عن أن تفيض بشيء خلال العصير]. إذ أنقذ الله داود من أبيمالك -بعدما تظاهر بالجنون- انطلق مسبحًا ذاك الذي أنقذه قائلًا: "أبارك الرب في كل حين... بالرب تفتخر نفسي، يسمع الودعاء فيفرحون... طلبت إلى الرب فاستجاب لي ومن كل مخاوفي أنقذني... ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم، ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب... قريب هو الرب من المنكسري القلوب ويخلص المنسحقي الروح. كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب. يحفظ جميع عظامه. واحد منها لا ينكسر... الرب فادي نفوس عبيده وكل من اتكل عليه لا يُعاقب" (مز 34). يعلق القديس أغسطينوس على تصرفات داود النبي أمام ملك جت كما جاء في الترجمة السبعينية "وأخذ يطبل على أبواب المدينة" [13] قائلًا: ["وأخذ يطبل"، لأن الطبلة لا تُعمل إلا بشد الجلد على خشب؛ داود طبل ليعني أن المسيح ينبغي أن يصلب. لكنه "أخذ يطبل على أبواب المدينة". ما هي "أبواب المدينة" إلا قلوبنا التي أُغلقت أمام المسيح، هذا الذي بطبله صليبه يفتح قلوب الساقطين تحت الموت؟]. |
||||
07 - 07 - 2023, 05:17 PM | رقم المشاركة : ( 24 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر حبقوق
إذ ترك داود النبي جت ذهب إلى مغارة عدلام، وجد كل رجل متضايق أو من كان عليه دين وكل رجل مرّ النفس بسبب انحدار حكم شاول وفساده في داود ملجأ، إذ جاءوا إليه ليكون رئيسًا عليهم؛ هؤلاء الذين كانوا في نظر شاول خطرين وشاردين التصقوا بداود ليصيروا فيما بعد أناسًا جبابرة يعلمون لحساب المملكة الجديدة. التصاق هؤلاء الرجال بداود أثار حقد شاول لكي يقتل جميع كهنة مدينة نوب -ماعدا أبيأثار الذي أفلت من يده- ذلك لأن أخيمالك قدام لداود خبزًا وسيفًا دون علمه بما كان بين شاول وداود. 1. داود في مغارة عدلام: كان من الصعب على داود الذي خلص شعبه من الأعداء أن يبقى خارج وطنه كمن هو خارج عن القانون، خاصة أن الله سمح أن يثور أهل جت عليه ليقتلوه، لذا بدأ يتجه نحو يهوذا لكن في شيء من التخوف. لقد جاء إلى مغارة بالقرب من مدينة عدلام الكنعانية القديمة، واختبأ فيها حتى أتاه والده وإخوته كما اجتمع إليه كثير من المتضايقين ليجدوا فيه رجاءً. "عدلام"كلمة عبرية تعني "ملجأ"، سكنها الكنعانيون في أيام يعقوب (تك 38: 1-2). وهي إحدى المدن التي كانت من نصيب سبط يهوذا، يُشار إليها بين بلدتي يرموت وسوكوه (يش 15: 35). يرى البعض أنها عين الماء الحديثة، كانت تدعى "عيد الماء"، تقع على بعد حوالي 12 ميلًا جنوب غربي بيت لحم، في وادي إيله. لا تزال هناك نحو 15 مغارة هائلة تسمى مغاير عيد الماء، من بينها مغارة وادي قريطون بجوار بيت لحم، وهي المغارة التي سكنها داود ورجاله، إذ يبلغ حوالي 160 مترًا. يرى البعض أن موقف داود في المغارة وبعد ذلك في وعر حارث [5] يرمز لموقف رب المجد حين جاء إلى مغارة هذا العالم متجسدًا: أ. كان شاول الملك المرفوض يسيطر على الشعب، رمزًا لرئيس العالم - الشيطان - وقد ملك على قلوب الكثيرين (يو 14: 30). ب. كان مُلك داود مخفيًا بالرغم من مسحه بالدهن المقدس، ومملكة رب المجد يسوع أيضًا مخفية في القلوب لا يدركها إلا من آمن به وخضع له. ج. التف حول الملك المتضايقون والذين عليهم دين وكل مرّ النفس، هكذا اجتمع حول السيد المسيح المتألمون والخطاة المذنبون والعشارين والزناة ليجدوا فيه وفاءً لدينهم وتجديدًا لطبيعتهم وعذوبة في العشرة معه. د. كان رجاء من هم حول أن يروه ملكًا، ونحن ننتظر مجيء الرب ليملك إلى الأبد. ه. إذ جاءه أبياثار بن أخيمالك يروي عليه قصته الأليمة احتضنه، هكذا ينتظر رب المجد كل نفس هاربة تلجأ إليه ليحفظها آمنة [23]. ز. جاء داود إلى المغارة يختفي فيها، وجاء السيد المسيح كلمة الله مخفيًا بناسوته. إذ هرب داود من شاول إلى مغارة عدلام وضع مذهبة (مز 57)، جاء فيها: "ارحمني يا الله ارحمني لأنه بك احتمت نفسي، وبظل جناحيك احتمى إلى أن تعبر المصائب. أصرخ إلى الله العلّي، الله المحامي عني. يُرسل من السماء ويخلصني. عيّر الذي يتهمني (يطأ عليّ). سلاه.." (مز 57). لقد هرب داود من وجه شاول إلى مغارة ليختبئ فيها، وكان ذلك رمزًا لما صنعه السيد المسيح كما يقول القديس أغسطينوس: [ماذا يعني الاختباء في مغارة؟ اختباء في أرض. لأن من يهرب إلى مغارة، يتغطى بأرض كي لا يُرى. أما يسوع فقد حمل أرضًا، تقبل جسدًا مأخوذًا من الأرض، فيه أخفى نفسه بكونه الله."لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد" (1 كو 2: 8)... لقد فعل ذلك ليهرب (يسوع) من وجه شاول في مغارة. يمكن أن تفهم المغارة كمكان سفلي في الأرض. بالتأكيد كما هو واضح وأكيد للكل، أن جسده وُضع في قبر منحوت في صخرة. هذا القبر هو المغارة التي فيها هرب من وجه شاول. فقد اضطهده اليهود حتى عندما وضع (جسده) في مغارة... حتى عندما مات وهو معلق على الصليب طعنوه بحرية (يو 19: 34). لكن عندما كُفن وتم تجنيزه وضع في مغارة فلم يعودوا قادرين على عمل شيء للجسد. وإذ قام الرب من المغارة بلا ضرر ولا فساد من ذلك الموضع الذي هرب إليه من وجه شاول، خافيًا نفسه من الأشرار الذين رُمز إليهم بشاول، أعلن نفسه لأعضائه... إذ لمسه أعضائه -الرسل- بعد قيامته وآمنوا (لو 24: 39)؛ إذ أدركوا أن اضطهاد شاول لم ينفع (المضطهدين)]. يقول القديس جيروم: [ترمز المغارة للعالم لأن نوره ضئيل جدًا إن قورن بنور العالم المقبل، ومع هذا فبمجيء الرب إلى العالم أناره بكونه هو النور]؛ [كما دخل داود المغارة هاربًا من شاول، هكذا جاء الرب إلى العالم واحتمل اضطهاد ]. ليتنا نحن أيضًا إذ تمررت نفوسنا خلال حكم شاول، أي سقوطنا تحت سلطان عدو الخير إبليس، نلجأ إلى ابن داود المختبئ في المغارة. نلجأ إليه فقد جاء إلى عالمنا لينيره بمجد لاهوته الخفي، واهبًا إيانا الاستنارة الداخلية عوض الظلمة، مقدمًا لنا الحياة الجديدة عوض الموت الذي ملك علينا. لنلجأ إلى مسيحنا فقد دخل مغارة طبيعتنا كي لا نرتعب منه، بل نجده قريبًا منا، حالًا في وسطنا بل في داخلنا ليجدد طبيعتنا فيه ويقدسها ويمجدها ببهاء مجده. لندخل إلى ابن داود في المغارة لنجد حوله النفوس المضطهده والمُرّة النفس، هذا هو طريق الملكوت والمجد أن نشارك المتألمين آلامهم، نقبل سكني المغارة المظلمة لتدخل بنا إلى بهاء الملكوت الداخلي. لا خلاصي خارج الباب والضيق والطريق الكرب مادام مسيحنا يجتاز خلالهما. أخيرًا حوّل داود هذه الطاقات التي كانت تبدو شاردة ومقاومة لكي تصير لبنيان مملكته الجديدة بعدما تحطمت مملكة شاول. لنتقدم إلى ابن داود بطاقاتنا التي نظنها أحيانًا محطمة لنا - من عواطف ومشاعر وأحاسيس ومواهب وقدرات - لكي يتسلمها في المغارة ويقدسها بروحه القدوس فتصير طاقات بنّاءة لحساب ملكوته الجديد. أما عدد الرجال الذين تجمعوا حول داود ليكون رئيسًا عليهم فكان نحو أربعمائة، هذا الرقم أيضًا يحمل معنى رمزيًا. فإن رقم 100 يشير إلى كمال عدد المؤمنين أما رقم 4 فتشير إلى العالم بجهاته الأربع وإلى الجسد المأخوذ من التراب أي من الأرض (4 جهات الأرض). وكأننا إذ نلتقي بمسيحنا المتجسد، في المغارة، يتحول العالم كما كالجسد إلى بركة لنا، فلا نرى في العالم شيئًا غير صالح ولا أيضًا في الجسد، فإنه خليقة الله الصالحة. يقول القديس أكليمندس الإسكندري: ["الله يحب كل ما خلقه"، الله لا يبغض شيئًا، ولا يحمل عداوة ضد شيء ما]. 2. ذهابه إلى أرض يهوذا: "فقال جاد النبي لداود لا تُقِم في الحصن؛ اذهب وادخل أرض يهوذا، فذهب داود وجاء إلى وعر حارث" [5]. لم نسمع عن جاد النبي إلا في هذا الموضع وحتى آخر حياة داود حين أحصى الشعب (2 صم 24: 11-15). ساعد في ترتيب الخدمة الموسيقية في بيت الرب (2 أي 29: 25)، وكان أحد المؤرخين الذين كتبوا حوادث مُلك داود (1 أي 29: 29). يبدو أن جاد هذا كان أحد تلاميذ صموئيل النبي في مدرسة الأنبياء، وأن صموئيل نصح داود أن يكون جاد النبي أو الرائي مرافقًا له؛ وها هو ينصح داود ألا يقيم في الحصن الذي في موآب بل يذهب إلى أرض يهوذا حيث يواجه المتاعب من أجل شعب الله. وقد كان ذلك لخيره ولبنيان الشعب، حيث خلص أهل قعلية من الفلسطينيين (1 صم 23: 1-2) كما دافع عن مدن يهوذا (1 صم 27: 8-11) فاشتهر ونال ثقة يهوذا؛ وعندما قُتل شاول كان حاضرًا ليخلفه. كانت الدعوة أن يترك الحصن ويذهب إلى وعر حارث (كلمة وعر تضاد سهل، لكنها استخدمت هنا عن الغابة ربما لأن السير فيها صعب)، وهي غابة تقع في جنوب غربي بيت لحم. إنها دعوة لترك الحصون الآمنة البشرية وقبول طريق الصليب الوعر، إذ هو طريق المُِلك والمجد. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الألم هو معلمنا. إننا لا نجلب الألم على أنفسنا، إنما نحتمله بشجاعة متى تعرضنا له، لأنه دائمًا مصدر خيرات كثيرة]. [لا تشته حياة خالية من كل ضيقة، فإن هذا ليس فيه خيرك]. 3. شاول يقتل الكهنة: إذ رجع داود ورجاله إلى اليهودية بدأت الأخبار تنتشر وأحبهم الكثيرون الأمر الذي أثار غيرة شاول من جديد، حتى ضاقت نفسه جدًا في داخله، شعر كأن لا عمل لداود إلا تحطيم مملكته ولا همّ لمن حوله إلا خيانته من أجل المكافأة حتى ابنه وارث عرشه يقف ضده. إذ كان شاول مقيمًا تحت شجرة في مدينة جبعة في الرامة (غالبًا لا تعني مدينة الرامة إنما تعني الأكمة، أي على مرتفع) وقف أمامه عبيده وقد أمسك بالرمح كصولجان في يده، وصار يوبخهم قائلًا: "اسمعوا يا بنيامينيون. هل يعطيكم جميعكم ابن يسى حقولًا وكرومًا؟! وهل يجعلكم رؤساء ألوف ورؤساء مئات؟! [7]. كشف هذه الكلمات عن انغلاق قلب شاول، فمع كونه ملكًا على إسرائيل كله لكنه اختار جميع رجال البلاط وأصحاب المراكز العليا من سبطه وحده، لذا دعاهم: "اسمعوا يا بنيامينيون". هذه صورة مؤلمة تكشف عن قيادة مملوءة أنانية تهتم بما لنفسها وليس بما للجميع. ما أبعد الفارق بين شاول وموسى النبي، فإن الأخير اختار يشوع بن نون تلميذًا له يتسلم القيادة من بعده وليس أحدًا من أولاده. ما أجمل كلمات القديس يوحنا الذهبي الفم إذ يحمل قلبه أبوة للجميع بلا تحيز: [جماعتكم هي إكليلي؛ كل واحد منكم- في عيني - يساوي المدينة كلها]. لعل شاول بسبب عدم إيمانه كان متخوفًا من إقامة عبيد غير بنيامينيين لئلا يغتصب الملك منه أو من أولاده من بعده. بلا شك إن هذا التحيز أثار متاعب كثيرة في نفسية شيوخ الأسباط الأخرى. بسبب الحسد لم يحتمل شاول أن يذكر اسم داود لذا سما "ابن يسى". إذ كان شاول طماعًا ومحبًا للمجد الباطل بدأ يثير عبيده بأن ابن داود يحرمهم مما تمتعوا به من حقول وكروم ومراكز قيادية... وهو في هذا يتمثل بعدو الخير الذي يحرض البشرية على الشر خلال الإغراءات المادية والكرامات الزمنية. تسلطات الظنون على شاول فحسب كل عبيده يقاومونه، إذ يتهمهم قائلًا: "حتى فتنتم كلكم عليّ وليس من يخبرني بعهد ابني مع ابن يسى؟! وليس من يحزن عليّ أو يخبرني بأن ابني قد أقام عبدي عليّ كمينا كهذا اليوم؟!" [8]. حين يفقد الإنسان علاقته مع الله مصدر السلام يرى الجميع حوله أعداءً، يهرب إلى سبعة طرق وليس من عدو خلفه... أفكاره الداخلية هي التي تطارده وتشتت طاقاته. أما من ينعم بسلام مع الله فيحمل سلامًا في قلبه وسلامًا مع الناس ولا يخاف حتى مقاوميه. أراد دواغ الأدومي أن يبرر نفسه وزملاءه، إذ كان الكل خائفين لئلا يفتك بهم شاول ألقى بالمسئولية على رئيس الكهنة قائلًا: "قد رأيت ابن يسى آتيًا إلى نوب إلى أخيمالك بن أخيطوب، فسأل له من الرب وأعطاه زادًا وسيف جليات الفلسطيني أعطاه إياه" [9-10]. كان دواغ صادقًا فيما قاله لكنه بتر الحقيقة وشوهها، إذ لم يعرض الحوار الذي دار بين أخيمالك وداود ليبرر نية أخيمالك؛ على العكس ببتر الحقيقة صور أخيمالك كخائن لشاول يتعمد مساندة عدوه داود. كان يليق به أن يظهر أن أخيمالك حسب داود يقوم بعمل هام بأمر الملك كما سمع من داود، وأنه قصد خدمة الملك نفسه. استدعى شاول أخيمالك وجميع بيت أبيه الكهنة لكي ينكل بالجميع؛ هكذا فعل هامان إذ ازدُرى في عينيه أن يمد يده إلى مردخاي وحده بل طلب أن يقتل كل الشعب انتقامًا منه (إس 3: 6). تحدث شاول مع أخيمالك بأسلوب مهين قائلًا: "اسمع يا ابن أخيطوب..."، مع أن الكاهن أظهر كل احترام وتوقير للملك، إذ أجابه: "هأنذا يا سيدي". فنّد أخيمالك الاتهام هكذا: أ. لم ينكر أنه أعطاه خبزًا وسيفًا وسأل له من الله، لكنه فعل هذا من أجل أمانة داود له، وقرابته له كصهر الملك، ومركزه وكرامته في البلاط، إذ قال: "مَنْ مِنْ جميع عبيدك مثل داود أمين وصهير الملك وصاحب سرك ومكرم في بيتك؟!". سؤال فيه دفاع عن نفسه ويتضمن أيضًا توبيخًا لشاول الذي اتسم بعدم الاستقرار يصاحب ويخاصم بلا تعقل. ب. إنه لم يكن على علم بما حدث بينه وبين داود لا في الأمور الصغيرة ولا الكبيرة. لم يكن لدى شاول ما يُجب به عليه، لكن كعادته يأخذ قراره المتسرع كإجابة ظالمة دون استشارة أحد. أصدر الحكم "موتًا تموت يا أخيمالك أنت وكل بيت أبيك". دخل كخصم وحكم بنفسه، وطلب من السعاة أن ينقذوا فلم يقبلوا أن يمدوا أيديهم إلى كهنة الرب، ليكونوا شهودًا على الظلم والعنف وإهانة خدام الرب. أما دواغ الأدومي الذي قدم الاتهام فقام بتنفيذ الأمر وقتل في ذلك اليوم خمسة وثمانين كاهنًا، ثم ذهب إلى مدينتهم -نوب- ليقتل الرجال والنساء والأطفال والرضعان حتى الحيوانات بحد السيف. صورة بشعة لوثت تاريخ شاول واقشعرت لها كل الأسباط. لم يخرب شاول مدينة للأعداء بل إحدى مدن شعبه... هذا ما تفعله الخطية في حياة الإنسان، إذ يحطم حياته الداخلية وتفسد طاقاته ومواهبه، يصير عدوًا ومقاومًا حتى لنفسه. على أي الأحوال تحققت كلمات الرب بخصوص بيت عالي الكاهن (1 صم 2: 31) إذ قُتل أخيمالك والكهنة الذين من نسل عالي. 4. نجاة أبيأثار الكاهن: يبدو أن أبيأثار بن أخيمالك لم يذهب مع أبيه وأقربائه إلى شاول إذ بقى لحراسة الخيمة، وإذ سمع بما حل هرب إلى داود قبل مجيء دواغ الأدومي [20]. أخبر أبيأثار داود بما حدث، وكانت إجابة داود النبي: "أنا سببت لجميع أنفس بيت أبيك؛ أقم معي؛ لا تخف؛ لأن الذي يطلب نفسي يطلب نفسك ولكنك عندي محظوظ" [23]. أحد سمات داود التقوية اعترافه بخطئه وإلقاء اللوم على نفسه لا على الآخرين؛ فكان يمكنه القول بأنه لم يكن يعرف أن دواغ الأدومي هناك عندما ذهب إلى أخيمالك، وأنه لم يكن يتوقع أن شاول يقوم بقتل كهنة الرب... كما كان يمكنه أن يهاجم دواغ وشاول على عنفهما... لكن داود المتضع قال: "أنا سببت لجميع أنفس أبيك". ما أعذب أن يعترف الإنسان في أعماق قلبه كما بلسانه: "أخطأت". ليس شيء أفضل من أن يلقي باللوم على نفسه، ولا أشر من أن نلقي باللوم على الغير. دان داود نفسه، وحاول علاج الخطأ باحتضان أبيأثار وحمايته، فصار معه نبيًا (جاد) وكاهنًا. اهتم الآباء -بفِكر إنجيلي- أن يتدرب المؤمنون على إدانتهم لأنفسهم لا للغير. * إن لم يكن لدى الإنسان الجرأة لكي يلوم نفسه فإنه لن يتردد في أن يلوم الله نفسه. الأب دوروثيؤس من غزة |
||||
11 - 07 - 2023, 07:26 PM | رقم المشاركة : ( 25 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر حبقوق
شاول يطارد داود هاجم الأعداء قعيلة فتطلع الشعب إلى داود ورجاله القلائل (نحو ستمائة رجل) كملجأ لهم بينما تجاهلوا الملك الرسمي بكل جيشه إذ فقدوا الثقة فيه وخاب أملهم من جهته. لقد أدرك الكثيرين أن داود الطريد يعمل من أجل بناء الجماعة المقدسة بينما شاول الملك لا همّ له إلا مقاومة داود ومطاردته بلا سبب. فإن الأشرار لا يطيقون أولاد الله. وكما يقول العلامة ترتليان: [إن العالم لا يطيق الكنيسة فيضطهدها بينما تحب الكنيسة العالم وتخدمه]. 1. داود ينقذ قعيلة: سمع داود عن مهاجمة الأعداء لمدينة "قعيلة"، وهي مدينة في سهل يهوذا بالقرب من تخم الفلسطينيين (يش 15: 44) فوق وادي البطم (السنط)، تبعد حوالي ثلاثة أميال من مغارة عدلام، وثمانية أميال ونصف شمال غرب حبرون، تدعى حاليًا خربة كيلا. كلمة "قعيلة" عبرية معناها "قلعة" أو "محاط بسور". لم يتحرك شاول ربما لعجزه عن حراسة مملكته من الأعداء، إذ ضاعت كل طاقاته الفكرية والنفسية والعسكرية في التخطيط لقتل داود بسبب الغضب الذي يعكر العينين، إذ يرى الإنسان أصدقاءه والمعينين له أعداء يلزم مقاومتهم والخلاص منهم، بينما يتغاضى عن العدو الحقيقي المحطم لحياته. كان قلب داود ملتهبًا بالحب نحو إخوته، لذا سأل الرب - ربما عن طريق جاد النبي وأبأثار الكاهن- إن كان يذهب ليخلص قعيلة من الأعداء، فجاءته الإجابة بالإيجاب. وإذ خاف الرجال الذين معه بسب قلة عددهم ونقص السلاح عاد يسأل الرب ثانية ليتحقق الأمر، فجاءت الإجابة كالمرة الأولى. تحرك داود ورجاله ليخلصوا قعيلة ويغلبوا الأعداء ويتمتعوا بغنيمة عظيمة. الآن أدرك داود ورجاله لماذا طلب الرب منهم مغادرة الحصن والذهاب إلى أرض يهوذا، إذ استخدمهم الرب لخلاص أولاده مهيئًا بذلك الطريق لكي يملك داود. فقد شاول كل تمييز وحكمة، فقد كان يليق به أن يستغل فرصة غلبة داود على العدو ليطلب مصالحته فيكون سندًا له ضد الأعداء؛ لكنه على العكس ظن أن الله قد رفض داود، إذ قال: "قد نبذه الله إلى يدي لأنه قد أغلق عليه بالدخول إلى مدينة لها أبواب وعوارض" [7]. حسب دخوله إلى قعيلة، المدينة المحصنة (يش 11: 13) فرصة إلهية يقدمها الله له ليسلمه عدوه داود. قوله "نبذه الله" في العبرية تعني "جعله أجنبيًا"، أي صار غريبًا مرفوضًا من الله. إنه لأمر خطير أن يفقد الإنسان روح الحكمة، فيرى الأمور بمنظار مقلوب، مضاد للحقيقة، فماذا يكون الحال إن فقد القائد الروحي هذه الروح، ليدفع بنفسه كما بقطيع المسيح إلى الهلاك عوض الأمام. لهذا يشترط القديس يوحنا الذهبي الفم في الكاهن: [أن يكون حكيمًا ومحنكًا في أمور شتى، وأن يكون خبيرًا بشئون العالم بأقل من القوم المتصرفين فيه. وفي نفس الوقت متحررًا من العالم أكثر من الرهبان سكان البراري]. ظن شاول أن داود لن يفلت من يده فقد أغلق الرب عليه، إما أن تسقط المدينة عند المحاصرة أو يسلمه أهلها، ولم يدرك أن الله الذي أعطاه الغلبة على جليات بحجر أملس صغير قادر أيضًا أن يخلصه. لقد دعا شاول جميع الشعب، أي رجال الحرب؛ بينما التجأ داود إلى الرب؛ إذ طلب من أبيأثار أن يقدم الأفود التي تستخدم عند دخول الكاهن إلى القدس أمام الرب (خر 28: 29) وعند سؤال الرب في أمر ما (خر 28: 30). بعد سؤال الرب عرف داود أنه يمكن لشاول أن ينزل قعيلة وأن أهلها يمكنهم أن يسلموه له. عجيبة هي عناية الله بنا ورعايته الفائقة، لقد أعطى النصرة لداود ضد الأعداء ليخلص مدينة قعيلة. لكنه طلب منه الهروب منها حتى لا يقتله شاول وهو أضعف من الأعداء؛ لماذا؟ أ. لكي يدرك داود أن نصرته هي من الرب، به يغلب العدو القوي لكنه بذاته يعجز عن الغلبة على شاول الضعيف... وكأن الله أراد لداود أن يعيش في اتضاعه على الدوام. ب. لكي لا يدخل في حرب مع شاول وجيشه فيكون مقاومًا لشعبه، ويحسب هذا عارًا عليه. الله في رعايته طلب منه الذهاب إلى قعيلة ليحارب، وبذات الرعاية طلب منه أن يهرب ليعيش مع رجاله في البرية كتائهين، إذ قيل: "وخرجوا من قعيلة، وذهبوا حيثما ذهبوا". الله في عنايته أحيانًا يهبنا الغلبة والنصرة، وبذات العناية يفتح لنا بابًا للهروب في مرة أخرى. 2. داود في برية زيف: غادر الراعي الأمين من وجه الأجير الذي يهتم بنفعه الخاص ولو على حساب غنم رعيته. وكان الزيفيون أيضًا مستعدين لتسليم داود، وإذ أرشدوا عن موضعه في برية معون وكان شاول ورجاله يطاردونه سمح الله بهجوم الوثنيين على المملكة حتى يرجع شاول عن مطاردة داود. ربما نعطي عذرًا لأهل قعيلة لأنها مدينة صغيرة ولم يكن ممكنًا لها أن تقف أمام جيش شاول، أما أهل زيف فخافوا داود وأبلغوا عن موضعه حيث التجأ إلى حصون طبيعية هناك. كان يمكنهم أن يطلبوا من داود أن يفارقهم عن أن يغدروا به. "زيف" مدينة في المنطقة الجبلية ليهوذا (يش 15: 55) بالقرب من برية وغابة، حصّنها رحبعام (2 أي 11: 8). تدعى الآن "تل زيف"، وهي هضبة ترتفع 2882 قدمًا فوق سطح البحر، وتبعد أربعة أميال جنوب شرقي حبرون. إذ جاء الزيفيون إلى شاول يقولون له: "أليس داود مختبئًا عندنا؟!" نطق بالمزمور 54: "اللهم باسمك خلصني، وبقوتك احكم لي. اسمع يا الله صلاتي، أصغَ إلى كلام فمي، لأن الغرباء قد قاموا عليّ، وعتاه طلبوا نفسي، لم يجعلوا الله أمامهم. سلاه..." (مز 54). يرى القديس أغسطينوسبأن "زيفًا" معناها "مزخرف" أو "مزدهر". وكأن الذين خانوا داود كانوا كالعشب الذي يزهو وينمو لكن سرعان ما يذبل. لقد ظن الزيفيون أنهم ازدهروا بخيانتهم داود لكن خطتهم فشلت وهلكوا بينما خرج داود من الضيقات غالبًا ومنتصرًا. * لم تكن خيانتهم لصالحهم، ولا هي أضرت داود. * كان داود في البداية مختبئًا وأما أعداؤه فكانوا مزدهرين. لاحظ داود المختبئ في قول الرسول عن أعضاء المسيح: "قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله" (كو 3: 3). كانوا مختبئين (مستترين في المسيح) فمتى يزدهرون؟ يقول: "متى أُظهر المسيح حياتنا فحينئذ تُظهرون أنتم أيضًا معه في المجد" (كو 3: 4). عندما يزدهر هؤلاء (المستترون في المسيح) يذبل أولئك الزيفيون. لاحظ بأية زهرة قورن مجد (الزيفيين): "كل جسد عشب وكل جماله كزهر (الحقل)" (إش 40: 6). ما هي نهايتهم؟ "يبس العشب، ذبل الزهر". ما هي نهاية داود؟ لاحظ ما قيل بعد ذلك: "وأما كلمة الرب فتثبت إلى الأبد" (راجع إش 40: 8). أتريدون أن تكونوا زيفيين؟ إنهم يزهرون في العالم ويذبلون في الدينونة، وإذ يذبلون يلقون في نار أبدية؛ أتختارون هذا...؟! لقد كان (ربك) مختبئًا هنا، وكل الصالحين مختبئين هنا، لأن صلاحهم داخلي ومخفي في القلب حيث يوجد الإيمان والحب والرجاء حيث يكون كنزهم... كل هذه الأمور الصالحة مخفية، ومكافأتها مخفية. القديس أغسطينوس 3. عهد مع يوناثان:تم اللقاء الأخير بين داود النبي يوناثان في وسط المحنة [15-18]. وقد ظل الأخير صادقًا في حبه وإخلاصه لصديقه داود، إذ خاطر بحياته ليلتقي به في وقت بلغت كراهية شاول لداود أشدها. لم يكن ممكنًا ليوناثان أن يقدم شيئًا لصديقه، فقد جاء خفية بمفرده، إنما قدم له حبه الذي لا يقدر بثمن. وأعلن له أن سلاحه الوحيد هو معية الله ومواعيده، طالبًا أن يكون هو الثاني بعده، مقدمًا داود أمامه بفرح وسرور، إذ قيل: "شدَّد يده بالله، وقال له: لا تخف لأن يد شاول أبي لا تجدك وأنت تملك على إسرائيل وأنا أكون لك ثانيًا. وشاول أبي أيضًا يعلم ذلك". جددا العهد معًا أمام الرب ليفترقا إلى غير لقاء في هذا العالم. لقد مات يوناثان قبل أن يتبوأ داود العرش، إذ كان صعبًا لا على يوناثان بل على داود نفسه أن ينتزع المُلك من صديق مخلص يضحي بحياته لأجله. لسنا نعرف ماذا كان يحدث لو أن شاول مات وحده ليبقى داود ويوناثان الحبيبان اللذان ما كانا يتصارعان على استلام العرش... لكن الله سمح فأراح داود من الدخول في هذا المأزق. 4. شاول يطارد داود: لا نعرف لماذا غدر الزيفيون بداود فأبلغوا عنه لدى شاول لتسليمه إياه، هل خوفًا من شاول؟ كان يمكن أن يطلبوا من داود أن يترك منطقتهم كي لا يحرجوا مع الملك؛ أم تراهم فعلوا هذا كراهية وبغضة نحو داود؟! لقد أخبروا شاول أن داود مختبئ في حصون الغاب في تل حخيلة، حاليًا تدعى "بكين"، وهي رأس مرتفع يشرف على البرية، خلالها يرى الإنسان شواهق عين جدي والبحر الميت وجبال موآب . "حخيلة" معناها "مظلم" أو "كئيب". سُر شاول بتصرفهم هذا، وحسبه تصرفًا من قبل الله الذي ينصفه من ظلم داود إذ قال لهم: "مباركون أنتم من الرب لأنكم قد أشفقتم عليّ" [21]. هكذا فسدت بصيرته فحسب نفسه مظلومًا وداود ظالمًا ومفتريًا، وأنه هو عبد الرب وداود الإنسان المنبوذ من الرب، لذا فهم مباركون إذ أشفقوا على المظلوم عبد الرب! طلب منهم أن يتعقبوا آثار رجليه على الرمال، مشبهًا داود بالوحش البري، الذي يتعقبه الصيادون بواسطة أثر أرجله. أنطلق الزيفيون وراءهم شاول ورجاله للتفتيش عن داود، فانطلق داود إلى برية معون (حاليًا تدعى معين تبعد حوالي ثمانية أميال جنوبي حبرون (يش 15: 55)، كانت مسكن نابال (1 صم 25: 2). كلمة "معون" معناها "سكن"). ذهب شاول إلى جانب الجبل وداود على الجانب الآخر، بينهما صخور كثيرة وعرة لا يمكن عبورها. كانا ينظران الواحد الآخر لكن لا يمكن وصول شاول إليه إلا من خلال دوران طويل. أرسل شاول فريقًا من جانب وفريقًا آخر من جانب آخر حتى لا يفلت داود من أيديهم، فيُحاط من كل ناحية. لكن الله أوجد لداود منفذًا، إذ جاء رسول إلى شاول يقول: "أسرع وانزل لأن الفلسطينيين قد اقتحموا الأرض" [27]. يقُال إنهم اقتحموا أرضه الخاصة، لولا ذلك لما تحرك. دُعي الموضع "صخرة الزلقات"، إذ فيه زلق شاول أي تغير فلم يمسك داود. صعد داود من هناك وأقام في حصون عين جدي، وهي حصون طبيعية كالصخور والمغاير، كانت قبلًا تدعى "حصون ثامار" (تك 14: 7، 2 أي 20: 2)، على الشاطئ الغربي للبحر الميت، تبعد 35 ميلًا من القدس، وعلى بعد ميل من شاطئ البحر الميت. ارتفاعها 400 قدم عن سطح البحر. لا تزال تسمى عين جدي، وهو نبع فياض تنحدر مياهه من علو شاهق على جبل صخري، أسفله أرض خصبة. |
||||
14 - 07 - 2023, 01:01 PM | رقم المشاركة : ( 26 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر حبقوق
رقة داود تجاه شاول بينما كان شاول ينهار أمام نفسه وأمام الآخرين بلا سبب كان داود يتمجد، ولعل قوته قد تجلت في أعظم صورها عندما وقع شاول بين يديه وهو يطارده، وحسب رجال داود أن الوقت قد حان لكي يموت شاول ويملك داود على الشعب [4]، أما هو فوجدها فرصة فريدة لتحقيق وصية الله مكتفيًا بقطع طرف جبة شاول، "وقد ضربه قلبه على هذا العمل أيضًا" [5]. وقف داود في اتضاع مع حزم يوبخ شاول على مطاردته له، وأحس شاول أن داود لا بُد وأن يستلم المملكة. 1. داود في كهف عين جدي: هرب داود إلى حصون عين جدي. تبعد عين جدي عن البحر الميت حوالي 200 مترًا، الوصل إليها لا يخلو من خطر جسيم، وهي مأوى للجداء (المعزي) السورية، ومنها اشتق الاسم "عين جدي". عندما انتهى شاول من حملة الفلسطينيين على أرضه الخاصة استأنف نشاطه بمطاردته المريرة لداود فقد انطلق إلى برية عين جدي ومعه ثلاثة آلاف رجل منتخبين. انطلق إلى صخور الوعول، وهي صخور وعرة لا يقدر أحد الوصول إليها إلا الوعول (التيوس أو الشياه الجبلية)، فقد أصر أن يتحمل ورجاله كل مشقة للخلاص من داود. جاء إلى "صير الغنم" وهي حظيرة غنم أو مغزى يقيمها الرعاة عند باب كهف تأويها الغنم ليلًا وفي أيام المطر والبرد. دخل شاول كهفًا كبيرًا ليغطي رجليه، وهو تعبير مهذب للقول "يتبرز"، حيث كان داود ورجاله جلوسًا في مغابن الكهف [3]. إذ كان الكهف مظلمًا لم ير شيئًا فيه، أما داود ورجاله فكانوا في داخله وقد اعتادوا الظلام فرأوا شاول عند دخوله وعرفوه. كان رجال داود يشيرون عليه أن ينتقم من شاول وهو في الكهف بمفرده ليأخذ المملكة بالقوة، وأن هذه الفرصة هي من قبل الله. قالوا له: "هوذا اليوم الذي قال لك عنه الرب هأنذا أدفع عدوك ليدك فتفعل به ما يحسن في عينيك" [7]. رفض داود هذه المشورة فإن الله لم يطلب منه أن يتعامل معه كعدو، إنما قال صموئيل لشاول: "قد انتخب الرب لنفسه رجلًا حسب قلبه" (1 صم 14: 13)، "يمزق الرب مملكة إسرائيل عنك اليوم ويعطيها لصاحبك الذي هو خير منك" (1 صم 15: 28). واضح أن الله لم يدعُ داود ليفعل بشاول ما يريد كعدو له، بل اختاره ملكًا عوضًا عنه من أجل نقاوة قلبه وأنه أفضل من شاول، يعامله كصاحبه. يبدو أن داود ورجاله انتظروا حتى يأخذ شاول ركنًا في المغارة ليستريح وينام، عندئذ مدّ داود يده ليقطع طرف جبة شاول. لكنه لم يحتمل هذا التصرف إذ خشى أن يكون بهذا قد أساء إلى مسيح الرب، فصارت ضربات قلبه تتزايد. يقول القديس أغسطينوس: [كان خائفًا لئلا يُتهم بأنه اقتحم سرًا عظيمًا في شاول لأنه تحرّش بثوبه، لذلك كُتب: "إن قلب داود ضربه على قطعه طرف جبة شاول" أما الرجال الذين معه إذ نصحوه أن يحطم شاول فخلصهم بقوله لهم: "حاشا لي من قبل الرب أن أمد يدي على مسيح الرب". هكذا أظهر تقديرًا عظيمًا لظل الأمور المقبلة؛ هذا التقدير ليس من أجل ما حدث معه وإنما من أجل ما ترمز إليه]. أنقذ داود شاول من أيدي رجاله الذين طلبوا قتله ليملك رئيسهم داود، وإذ صمت الكل انتظر داود حتى يخرج شاول من الكهف ليخرج من بعده وفي اتضاع نادى وراءه قائلًا: "يا سيدي الملك!". ولما التفت إليه "خرّ داود على وجهه إلى الأرض وسجد". يا للعجب! كان شاول شريرًا ترك كل أعمال المملكة ليكرس طاقاته لقتل داود، أما داود فينقذ حياته، ويكرمه ويسجد له وهو غير مستحق للإكرام. داود النبي في اتضاع يسجد أمام ملك مرفوض حتى الأرض ليكسر كبرياءه بينما يخجل الكثيرون من السجود أمام قديسين علامة توقير، أما سجود العبادة فلا يليق تقديمه إلا لله وحده. ارتفع داود في عيني الله والناس باتضاعه، إذ يقول لشاول: "وراء من خرج ملك إسرائيل؟! وراء من أنت مطارد؟! وراء كلب ميت! وراء برغوث واحد!" [14]. يقول الأب دوروثيؤس: [الاتضاع هو الذي يخلصنا من حيل العدو كلها... لا يوجد ما هو أقوى من الاتضاع]، [حقًا يا إخوة طوبى لمن كان له اتضاع حقيقي]. مع اتضاع داود الشديد وانسحاقه حتى أمام ملك مرفوض وهو يعلم أنه يستلم الحكم منه نراه أيضًا الإنسان الحازم الصريح والشجاع. فقط أظهر نفسه لشاول لا في داخل المغارة حين كان شاول في قبضة يده في ضعف شديد، وإنما بعد خروجه من المغارة ليؤكد له أنه لا يخشى غدره ولا رمحه. في صراحة كشف له كذب مشيريه الذين يحرضونه ضده مدعين أن يطلب قتله. كما أعلن له أنه لا يخافه ولا يمد يده إليه إذ ترك الله الديان يقضي له. في قوة وصراحة يقول: "لماذا تسمع كلام الناس القائلين هوذا داود يطلب أذيتك؟! هوذا قد رأت عيناك اليوم هذا كيف دفعك الرب اليوم ليدي في الكهف، وقيل لي أن أقتلك، ولكنني أشفقت عليك، وقلت لا أمد يدي إلى سيدي لأنه مسيح الرب... اعلم وانظر أنه ليس في يدي شر ولا جرم ولم أخطئ إليك وأنت تصيد نفسي لتأخذها. يقضي الرب بيني وبينك وينتقم لي الرب منك ولكن يدي لا تكون عليك. كما يقول مثل القدماء: من الأشرار يخرج شر. "ولكن يدي لا تكون عليك" [9-31]. لقد أعطيت له الفرصة لينتقم لكنه لم يقتل إذ لم يرد أن يمد يده على مسيح الرب، ولأن قلبه ليس شريرًا ليخرج شرًا، إنما ترك الأمر بين يدي الله الذي يسمح للأشرار أن يمدوا يدهم بالشر عليه انتقامًا لداود. إننا نُحيّي شخص داود النبي الذي قابل مطاردة شاول له المستمرة بالسماحة الحقة، حتى قال القديس يوحنا الذهبي الفمعنه: [نعم، لقد ارتفع فوق الناموس القديم إلى الوصايا الرسولية ]. وكأنه مارس الوصية الإنجيلية الخاصة بالمحبة الأعداء وهو تحت الناموس. ويقول القديس أمبروسيوس: [أي عمل تقوي هذا إذ رغب داود أن يستبقى حياة الملك عدوه مع أنه كان قادرًا أن يؤذه! كم كان هذا نافعًا له، إذ ساعده عندما تولى العرش! فقد تعلم الكل أن يكون أمينًا لملكهم وألا يغتصب أحد الملك بل يهاب الملك ويكرمه]. 2. شاول يتصاغر في عيني نفسه: لم يحتمل شاول المملوء حسدًا وبغضة، قاتل الكهنة بلا سبب، أن يسمع صوت داود المملوء اتضاعًا، وأن يواجه سماحته العجيبة، لذا تصاغر شاول جدًا في عيني نفسه، إذ نراه: أ. يدعو داود ابنه، قائلًا: "أهذا صوتك يا ابني داود" [16]. لقد دعاه داود "سيدي الملك"، "انظر يا أبي" [8-11]. أمام هذا الاتضاع المملوء وداعة ولطفًا دعاه شاول "ابني داود"، مع أنه كان في أغلب الأوقات لا يقدر أن ينطق اسمه بل يدعوه "ابن يسى" (1 صم 22: 7، 8، 13...) لأول مرة يدعوه ابنًا له، إذ شعر أنه غير مستحق أن يدعوه داود "أبًا" له. ب. شاول الجبار القادم ومعه 3000 رجل حرب يرفع صوته ويبكي! شعر بالضعف الشديد والحقارة فتفجرت دموعه وعلت صرخاته؛ لقد ضاقت به الدنيا جدًا وشعر بأنه وضع نفسه في فخ وشرك وليس من ينقذه! ج. شعر شاول بشره، هذا الذي سبق أن تحدث مع أهل زيف كمن هو مظلوم أمام داود (1 صم 23: 21). وإذ قارن نفسه بداود قال: "أنت أبر مني، لأنك جازيتني خيرًا لأن الرب قد دفعني بيدك ولم تقتلني" [18]. د. أدرك شاول بأن المُلك لا بُد أن يخرج من يديه ليتسلمه داود الذي ينجح في طريقه. "والآن فإني علمت أنك تكون ملكًا وتثبت بيدك مملكة إسرائيل، فاحلف لي الآن بالرب أنك لا تقطع نسلي من بعدي ولا تبيد اسمي من بيت أبي" [20-21]. لقد تأكد أن ما سمعه من صموئيل النبي سيتحقق (1 صم 15: 28). |
||||
14 - 07 - 2023, 01:26 PM | رقم المشاركة : ( 27 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر حبقوق
داود وأبيجايل في الأصحاح السابق سقط شاول العنيف بين يدي داود الوديع المتضع فأبت نفسه أن تصنع به سوءًا، والآن إذ رفض نابال في حماقة أن يقدم عطية لغلمان داود الذين حرسوا غنمه، سابًا إياهم، صمم داود أن ينتقم منه (ضعف بشري!)، فأرسل الله له امرأة حكيمة ترده عن الانتقام لنفسه، وقد استجاب النبي لمشورتها (وداعة!). 1. موت صموئيل النبي: بعد فترة جهاد طويلة -إذ دُعي صموئيل وهو في الثانية عشرة من عمره، وبقى يخدم الرب وشعبه بكل أمانة حتى بلغ التسعين من عمره- مات فاجتمع جميع إسرائيل وندبوه كما ندبوا موسى النبي (تث 34: 8) ودفنوه في الرامة على مرتفعات بنيامين، غالبًا في فناء بيته أو البستان الملحق به، إذ لم يكن ممكنًا دفنه داخل مبنى البيت لأن ذلك يُحسب نجاسة (1 صم 19: 16). تُرى هل التقى داود بشاول ويوناثان؛ لأنه غالبًا ما يُنادَى بعفو شامل في مثل هذه المناسبات، وقد جاء داود ليشترك في توديع معلمه وأبيه الروحي وصديقه الحق والسند الوداع الأخير. غالبًا لم يقدر أن يقترب من شاول إلا في حدود مراسيم وواجبات الجنازة. 2. حماقة نابال: إذ انتهت مراسيم الجنازة نزل داود إلى برية فاران [1]، وهي برية متسعة تكاد تكون مقفرة من السكان، جنوب اليهودية، يحدها شرقًا أرض أدوم وجنوبًا برية سيناء وغربًا برية شور. جاء في الترجمة السبعينية أنه ذهب إلى "معون"، وهي تبعد نحو ميل واحد عن الكرمل وثمانية أميال جنوب حبرون. وجود داود ورجاله في المنطقة كان باعثًا للسلام والطمأنينة خاصة بالنسبة للرعاة إذ كانوا يتعرضون لهجمات العمالقة والفلسطينيين، بجانب هجمات الحيوانات المفترسة. كان داود ورجاله أشبه بسور يحمي المراعي هناك خاصة مراعي نابال الذي كان غنيًا جدًا، له ثلاثة آلاف من الغنم وألف من الماعز. وقد عبر رعاته عن دينهم لداود ورجاله بحمايتهم لهم، إذ قال أحدهم: "الرجال محسنون إلينا جدًا فلم نؤذ ولا فُقد منا شيء. كل أيام ترددنا معهم ونحن في الحقل، كانوا سورًا لنا ليلًا ونهارًا كل الأيام التي كنا معهم نرعى الغنم" [15-16]. أما اسمه "نابال" فعبري معناه "جاهل" (مز 14: 1). وكما قالت زوجته أبيجايل عنه لداود كي تصرف عنه غضبه: "لأن كاسمه هذا هو، نابال اسمه والحماقة عنده" (1 صم 25). مسكينة هذه الزوجة التي اقترنت برجل اتسم بالحماقة والجهالة. اضطرت أن تعترف بحماقته في مرارة نفس، لتنقذه وتنقذ حياتها وأيضًا تخلص داود من غضبه ورغبته للانتقام لنفسه. ليتنا نحن أيضًا إذ قبلنا الجهالة قرينًا لنا نعترف بذلك أمام ابن داود مخلص نفوسنا "الحكمة" ذاته ليحل في قلوبنا نازعًا ظلمة الجهل من أعماقنا. يحذرنا سليمان الحكيم في سفر الأمثال من الجهل قائلًا: "الابن الحكيم يسر أباه والابن الجاهل حُزن أمه... الحكماء يذخرون معرفة، أما فم الغبي فهلاك قريب... فعل الرذيلة عند الجاهل ضحك" (أم 23: 10-11). للأسف كان هذا الرجل الأحمق من نسل كالب الذي سكن حبرون وما جاورها (يش 15: 13)، أي جاء من أصل شريف، لكن الأصل لا يشفع فيه، إذ قيل عنه: "وأما الرجل فكان قاسيًا ورديء الأعمال" [3]. سمع داود أن نابال يجز غنمه [4] وكان هذا الوقت يُحسب وقت فرح وأكل وشرب وعطاء بسخاء، لذا أرسل إليه داود يقول له: "حييت وأنت سالم وبيتك سالم وكل مالك سالم، والآن قد سمعت أن عندك جزّازين. حين كان رعاتك معنا لم نؤذهم ولم يُفقد لهم شيء كل الأيام التي كانوا فيها في الكرمل. اسأل غلمانك فيخبرونك - فليجد الغلمان نعمة في عينيك لأننا قد جئنا في يوم طيب. فأعطِ ما وجدته يدك لعبيدك ولابنك داود". لقد خدموا نابال إذ حفظوا ماله من الوحوش اللصوص دون مقابل، ولم يرد داود أن يأخذ شيئًا بغير رضاه. لذا أرسل في هذه المناسبة يطلب ما تجود به يده، وقد طلب بأدب ووداعة كابن يتحدث مع أبيه. وقد طلب من رسله ألا يزيدوا شيئًا عن كلامه [9] حتى لا يخطئ واحد منهم بكلمة فظَّة فتنسب لداود. قابل نابال هذا اللطف بغلاظة قلب وإساءة إذ تجاهل السبب الذي لأجله يعيش داود طريدًا، معللًا ذلك بأقسى الألفاظ، حاسبًا إياه إنسانًا متمردًا على سيده الملك، فلا يستحق خيرًا لأنه خارج عن القانون [10-11]. كشف أسلوب إجابته عن طمعه، إذ يقول: "أآخذ خبزي ومائي وذبيحي الذي ذبحت لجازيّ وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم" [11]. إذ سمع داود من غلمانه ما قال نابال أدرك كيف تحدث باستخفاف محتقرًا إياه، كما شعر أنه طماع ظلم غلمان داود الذين قاموا بحراسته بأمانة وشجاعة. ثار داود وغضب، فطلب من رجاله أن يتقلد كل واحد سيفه وتقلد هو أيضًا سيفه وخرج معه حوالي 400 رجل وترك مائتين مع الأمتعة. داود الذي اتسم بضبط النفس والتواضع، الآن في لحظات ضعفه كاد أن يقترف جريمة لو تمت لأحزنت قلبه كل بقية أيام حياته، ولصارت عثرة لشعبه عندما يتولى الحكم. 3. حكمة أبيجايل: إن كانت حماقة نابال كادت تؤدي إلى هلاكه، فإن حكمة أبيجايل هدأت قلب داود كي لا ينتقم لنفسه، وأزالت الهلاك المدبر لها ولرجلها بواسطة رجال داود، وأهلتها لتصير زوجة داود الملك والنبي. قيل عنها: "وكانت المرأة جيدة الفهم وجميلة الصورة" [3]. كانت جيدة الفهم، أي مملوءة حكمة، وقد طبعت هذه الحكمة انعكاسًا على ملامح وجهها فكانت جميلة الصورة. حقًا توجد نساء جميلات الصورة لكنهن بغير الحكمة يفقدن قيمة هذا الجمال، بل يتحول الجمال إلى تحطيم لشخصياتهن وحياتهن. ما أحوجنا أن تكون الحكمة طبيعتنا في كياننا الداخلي مقترنة بجمالنا في الخارج، أي نحمل قدسية الإنسان الداخلي وقدسية الجسد أيضًا بأحاسيسه ومشاعره ومواهبه وكل طاقاته. هذه الحكمة (أو المعرفة أو الفهم) هي هبة إلهية. * الروح القدس الذي فيه كل أنواع المواهب، يهب البعض كلمة حكمة . * خلال قيادة الروح يأتي الإنسان إلى معرفة طبيعة كل الأشياء. * أرسل نورك (مز 43: 3)؛ هذا النور المرسل من الآب إلى ذهن المدعوين للخلاص هو الفهم خلال الروح، الذي يقود الذين استناروا بالله. العلامة أوريجانوس * ليست معرفة بدون إيمان ولا إيمان بدون معرفة... الابن هو المعلم الحقيقي. القديس أكليمندس الإسكندري "أبيجايل" كلمة عبرية مشتقة من كلمتين تعنيات "أب" (أو "مصدر")، "الفرح"... وكأن الحكمة هي مصدر الفرح الحقيقي لا للإنسان الحكم وحده وإنما أيضًا لعائلته ولمن حوله. يقول سليمان الحكيم: "الابن الحكيم يسر أباه والابن الجاهل حزن أمه" (أم 10: 1)."الحكمة خير من القوة والحكيم أفضل من الجبار" (حك 6: 1). يحدثنا الكتاب المقدس عن الحكمة ليس فقط كعطية إلهية وإنما بالأحرى هي أقنوم إلهي يتعامل معنا ونحن معه في علاقات شخصية متبادلة: أ. الحكمة كخالق: "أي شيء أثمن من الحكمة صانعة الجميع؟!" (حك 8: 5). ب. الحكمة تنادي وتحب: "ألعل الحكمة لا تنادي والفهم ألا يعطي صوته. عند رؤوس الشواهق عند الطريق بين المسالك تقف... أنا أحب الذين يحبونني والذين يبكرون إليّ يجدونني... كنت عنده صانعًا وكنت كل يوم لذته فرحة دائمًا قدامه" (أم 8: 1، 2، 17، 30). "الحكمة بنت بيتها، نحتت أعمدتها السبعة، ذبحت ذبحها، مزجت خمرها، أيضًا رتبت مائدتها... قالت له: "هلموا كلوا من طعامي واشربوا من الخمر التي مزجتها" (أم 9: 1-5). نتحد بها وهي تجعلنا أصدقاء الله: "لقد أحببتها والتمستها منذ صباي وابتغيت أن أتخذها لي عروسًا، وصرت لجمالها عاشقًا... عزمت أن أتخذها قرينة لحياتي..." (حك 8: 2، 9). "وفي كل جيل تحل في النفوس القديسة فتنشئ أحباء الله وأنبياء، لأن الله لا يحب أحدًا إلا من يُساكن الحكمة" (حك 7: 27-28). لقد عرف الغلمان أن أبيجايل اتسمت بالحكمة على خلاف رجلها نابال الأحمق، لذا جاء أحدهم إليها يخبرها بما حدث قائلًا: "هوذا داود أرسل رسلًا من البرية ليباركوا سيدنا فثار عليهم. والرجال محسنون إلينا جدًا فلم نؤذَ ولا فُقد منا شيء كل أيام ترددنا معهم ونحن في الحقل. كانوا سورًا لنا ليلًا ونهارًا... والآن اعلمي وانظري ماذا تعملين لأن الشر قد أُعد على سيدنا وعلى أهل بيته وهو ابن لئيم لا يمكن الكلام معه" [17-24]. هذا الحديث الصريح الذي فيه يتحدث الغلام بأدب واحتشام لكن في صراحة يصف رجلها كابن لئيم يكشف عن جانبين في حياة أبيجايل وهي ثقة الكل فيها وفي حسن تدبيرها من جهة وتقديرها لكل إنسان، لذا لم يخف الغلام من دعوة رجلها كابن لئيم، إذ يعرف أنها تجيد الاستماع وتسمع بحكمة لكل كلمة في غير غطرسة أو عجرفة، الأمر الذي ينقص الكثيرين في تعاملاتهم ليس فقط مع مرءوسيهم وإنما حتى مع أولادهم. يكشف الحديث أيضًا عن دور داود ورجاله في المنطقة إذ حسبهم الغلمان سورًا لهم. فإن حماية ثلاثة آلاف من الغنم من الماعز في منطقة واسعة من البرية يهاجمها عنفاء كالعمالقة والجشوريين والجرزيين (1 صم 27: 8) ليس بالأمر السهل. لقد أدرك داود النبي أن الله سوره وملجأ له، لذا لا يكف عن أن يكون هو سورًا للآخرين، يرد حب الله بحبه لخليقته المحبوبة لديه أي بني البشر. الله سور لنا، يحمينا من ضربات العدو ويستر على ضعفاتنا، هكذا يليق بنا أن نكون سورًا للآخرين، نسند ضعفاء النفوس (2 كو 11: 29؛ رو 15: 1؛ 1 تس 5: 14)، نستر أيضًا ضعفاتهم بالحب ولا ندينهم. يقول الأب دوروثيؤس: [في كلمة - كما سبق أن قلت - يليق بكل أحد أن يعين الغير قدر استطاعته لأنه كلما اتحد الإنسان مع قريبه يتحد بالأكثر مع الله]. إذ سمعت أبيجايل كلام الغلام لم تحتد عليه لأنه تدخل فيما لا يعنيه ولأنه دعا رجلها كابن لئيم، ولا ناقشت الأمر، إذ كان الوقت مقصرًا والحاجة ماسة للعمل السريع بحكمة. لقد أخذت من الخيرات مائتي رغيف خبز وزقي خمر وخمسة خرفان مهيأة وخمس كيلات من الفريك ومائة عنقود من الزبيب. ومائتي قرص من التين ووضعتها على الحمير وطلبت من غلمانها أن يعبروا قدامها، ولم تخبر نابال رجلها بما فعلت. كان داود في ثورته يتحدث مع رجاله، وقد أقسم: "هكذا يصنع الله لأعداء داود وهكذا يزيد إن أبقيت من كل ماله إلى ضوء الصباح بائلًا بحائط" (2 صم 25: 22)، أما هي فبحكمتها قدمت أمامها هدية مادية من الخيرات (أم 17: 8؛ 18: 6)، وقدمت تواضعًا، إذ نزلت عن الحمار، وسقطت أمامه على وجهها، وسجدت إلى الأرض عند رجليه، كما قدمت جوابًا لينًا يصرف الغضب (أم 15: 1)، إذ قالت له: "عليّ أنا يا سيدي هذا الذنب ودع أمتك تتكلم في أذنيك واسمع كلام أمتك. لا يضعن سيدي قلبه على اللئيم هذا نابال لأن كاسمه هذا هو... وأنا أمتك لم أرَ غلمان سيدي الذين أرسلتهم... والآن يا سيدي حيّ هو الرب وحية هي نفسك إن الرب قد منعك عن إتيان الدماء وانتقام يدك لنفسك... وأصفح عن ذنب أمتك لأن الرب يصنع لسيدي بيتًا أمينًا، لأن سيدي يحارب حروب الرب ولم يوجد فيك شر كل أيامك. وقد قام رجل ليطاردك ويطلب نفسك، ولكن نفس سيدي لتكن محزومة في حزمة الحياة مع الرب إلهك وأما نفس أعدائك فليرم بها كما من وسط كفة المقلاع. ويكون عندما يصنع الرب لسيدي حسب كل ما تكلم به من الخير من أجلك ويقيمك رئيسًا على إسرائيل، أنه لا تكون لك هذه مصدمة ومعثرة قلب لسيدي، أنك قد سفكت دمًا عفوًا أو أن سيدي قد أنتقم لنفسه. وإذا أحسن الرب إلى سيدي فاذكر أمتك" [24-31]. ما أحكم هذه السيدة وما أعذب كلامها، فقد كشفت عن روحها الداخلية التي اتسمت بالتواضع إذ بدأت تعترف بخطئها أو ذنبها الذي لم ترتكبه بإرادتها إنما بكونها شريكة حياة رجل أحمق يخطئ فيسيء إلى البيت كله. اعتذرت في رقة أنها لم تر غلمان داود لتعطيهم من خيرات الله لها. كما اتسمت بالإيمان فحسبت شاول مرفوضًا إذ دعته "رجلًا" وليس "ملكًا" بينما نظرت إلى داود كرئيس وملك في طريقه لاستلام العرش. اتسمت أيضًا بالحكمة ففي لطف ذكّرت داود بالآتي: أ. أنه لا يليق به مقاومة رجل لئيم كنابال... فإن داود أسمى وأعظم من أن يمد يده إلى مثل نابال. ب. أن الله هو الذي أرسلها كي لا ينتقم لنفسه، فهو رجل عام ذو نفس كبيرة يعمل لحساب الجماعة لا لحساب نفسه. ج. أن شاول قام وحاربه لكن الله حفظ نفسه كما في حزمة (صرة)، أما أعداؤه فيلقون كحجارة من وسط المقلاع... فلماذا الآن يدافع عن نفسه؟ د. أنه مهتم أن يحارب حروب الرب، فلا يليق به أن يهتم بهذه الصغائر. ه. أنه سيستلم المُلك على كل الشعب، فليعمل كملك يهتم بشعبه ولا يعثرهم بالانتقام لنفسه. و. أنه يملك، لذا تطلب ألا ينساها عندما ينال هذه الكرامة... وكأنها تقول له إن عيون الكل إليك كملك تنتظر منك إحسانًا فلا تنشغل بغير هذا. يمكننا القول إن الله سمح لأبيجايل أن تتدخل كي لا يخطئ داود لسببين: أ. أن داود نقي القلب احتمل شاول في اضطهاده له مرات كثيرة، لهذا إذ يضعف داود يسرع الرب فيحدثه بطريق أو آخر. لم تأتِ أبيجايل إليه مصادفة، إن صح التعبير، وإنما مجيئها بتدبير إلهي؛ نظر الرب إلى قلبه وطول أناته فلم يرد له السقوط. ب. اتسم داود بالاتضاع فلم يستكف من قبول مشورة من الآخرين ما دامت بفكر روحي سليم. هنا تبرز حكمة داود الملتحمة بحكمة أبيجايل، إذ قبل المشورة ومدحها وقام بتنفيذها، بالرغم من قسمه الذي حلف به أمام رجاله. وكما يقول الأب يوسف: [لقد فضل (داود) أن يكون كاسرًا لكلمته عن أن يحفظ وعده المرتبط بالقسوة]. 4. داود يمتدح أبيجايل: شعر داود النبي أن ما قامت به أبيجايل هو رسالة إلهية مملوءة حكمة، فقال لها: "مبارك الرب إله إسرائيل الذي أرسلك هذا اليوم لاستقبالي... لقد سمعت لصوتك ورفعت وجهك" [32-35]. لا أعرف هل أمتدح أبيجايل التي ردّت رجلًا عظيمًا كداود عن ارتكاب جريمة أم أمدح داود الذي قبل المشورة وامتدحها؟! إن كان قد تتلمذ على يدي صموئيل النبي التقي فقد قيل إن أبيجايل أيضًا تتلمذت على يديه، فحمل الاثنان روح الحكمة الممتزجة بالتواضع والورع. ليتنا نتمثل بداود إذ لم يعتمد على رأيه الذاتي بل قبل مشورة الغير: * يستحيل على إنسان يتمسك بحكمة الخاص وفكره الذاتي أن ينكر نفسه... * الذي لا يتشبث بإرادته الذاتية ينال دائمًا ما يريده. فمن الخارج لا يسلك طريقه الذاتي لكن ما يحدث - أيا كان الأمر - أنه ينال شبعًا كافيًا ويكتشف أمام نفسه أن ما حدث يحقق إرادته. * إنني أعرف أنه لا يحدث سقوط لراهب سوى من اعتدً بآرائه. ليس شيء يدعو إلى الأسى - ولا ما هو أكثر خطورة - من أن يكون الإنسان مرشدًا لنفسه. الأب دوروثيؤس * استعد المحاربون للانتقام من نابال، لكن أبيجايل صدتهم بتوسلاتها, من هنا ندرك أنه يلزمنا ليس فقط أن نخضع لتوسلاتهم (الصالحة) في الوقت المناسب، بل ونسر بها. هكذا كان داود إذ سُرّ بمن توسطت لديه وباركها، لأنه مُنع من الرغبة في الانتقام لنفسه. القديس أمبروسيوس هكذا كانت أبيجايل حكيمة في توبيخها وكان لداود الأذن الصاغية وكما يقول سليمان الحكيم: "قرط من ذهب وحليّ من إبريز الموبخ الحكيم لأذن سامعه" (أم 25: 12)، وكما يقول داود نفسه: "ليضربني الصديق فرحمة، وليوبخني فزيت للرأس" (مز 141: 5).5. داود يتزوج أبيجايل: انتهت القصة بموت نابال بعد حوالي عشرة أيام بسكتة قليية، ربما بسبب الضيق الداخلي والكآبة ثم تزوج داود أبيجايل. عادت أبيجايل لتجد نابال رجلها قد أقام وليمة كوليمة الملوك [36]، يسرف بلا حساب من أجل الترف بينما رفض تقديم القليل لمن يستحقون. ظن أن الوليمة تسعده، لكنه إذ سكر جدًا زاد حماقة، ولم يسعد بشيء. إذ عرف داود بموت نابال أدرك أن يد الله قد امتدت لتعمل وتضرب من أساء إليه دون أن يخطئ هو إليه. طلب أبيجايل زوجة، فقبلت في الحال بغير حوار وفي اتضاع، إذ قامت وسجدت على وجهها إلى الأرض أمام رسل داود. وقالت: "هوذا أمتك جارية لغسل أرجل عبيد سيدي". قبلته وهو وسط الضيق لترافقه أيام مجده. جاء زواج داود بأبيجايل بعد موت صموئيل النبي وأيضًا رجلها الأحمق نابال، يمثل اتحاد السيد المسيح بكنيسته أبيجايل الحقيقية، صارت فيه مصدر الفرح الداخلي. فإنه ما كان يمكن لأبيجايل أن تتحد بعريسها السماوي إلا بعد موت صموئيل النبي، أي بعد إكمال الناموس ونبوات العهد القديم لتحيا لا تحت الناموس بل في حرية النعمة. اتحدت بعريسها الجديد بعد أن مات رجلها القديم الأحمق أي العبادة الوثنية، إذ جاءت الكنيسة من بين الأمم الوثنية. لِنَمُت عن حرفية الناموس، ولنرفض نابال من حياتنا، فنقبل ابن داود عريسًا حقيقيًا يفيض بنعمته فينا فنمتلئ فرحًا بروحه القدوس لنفيض به بلا توقف، إذ يقول: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب يجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 37-38). |
||||
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
حبقوق النبي | حبقوق يرق لشعبه |
شخصية حبقوق النبي في سفر حبقوق في الكتاب المقدس |
تفسير بعض آيات سفر حبقوق |
سفر حبقوق 1: 1 الوحي الذي راه حبقوق النبي |
تفسير سفر حبقوق - د/ مجدى نجيب |