06 - 12 - 2022, 10:45 AM | رقم المشاركة : ( 21 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر التكوين التاريخ البدائي
موت سارة إن كانت سارة كزوجة تمثل الجسد في ارتباطه بالنفس، فإن سارة كرفيقة لرجلها في جهاده الروحي، لا تمثل ثقلًا يعطل نموه بل معينًا له تسنده كل أيام غربته، تنطلق معه من أور الكلدانيين لتعيش كغربية، وتشاركه استضافته الغرباء، تسمع له وتتجاوب معه، إنما تمثل الجسد الذي بتقديسه بالروح القدس لا يعوق النفس في انطلاقها نحو السماء بل يسندها خلال الممارسات الحية من صلاة وأصوام وتعبدات إلخ.... الآن ماتت سارة ليدفنها إبراهيم رجلها على رجاء القيامة. 1. موت سارة: رجع إبراهيم ومعه إسحق حيًا وكأنه قائم من الأموات. آمن إبراهيم بالقادر على الإقامة من الأموات فنال في ابنه تأكيد الوعد الإلهي بقسم أن يكون نسله كنجوم السماء... لكن كان لا بُد للموت أن يجتاز هذه العائلة المباركة فيقتنص جسد سارة إلى حين يبقى قلب إبراهيم ونسله متعلقًا بالرب القادر على إقامة النفس والجسد معًا. مما يلفت نظرنا أن الكتاب المقدس اهتم بتحديد عمر سارة والحديث عن شراء قبر في أرض كنعان لدفنها... إذ يقول "وكانت حياة سارة مئة وسبعًا وعشرين سنة سني حياة سارة. وماتت سارة في قرية أربع التي هي حبرون في أرض كنعان، فأتى إبراهيم ليندب سارة ويبكي عليها" [1-2]. عاشت سارة 127 عامًا، كلها أعوام مثمرة في الرب، بدت في سنواتها التسعين الأولى عقيمة من جهة الإنجاب، لكن بالإيمان ظهرت أمًا للمؤمنين (إش 51: 2)، تشارك رجلها إبراهيم (أب المؤمنين) كل أيام جهاده، تحمل معه المشقات وتتقبل معه الوعود الإلهية... كما سلكت بروح الطاعة حتى طلب الرسول بطرس من المؤمنات أن يتمثلن بها: "كما كانت سارة تطيع إبراهيم داعية إياه سيدها، التي صرتنَّ أولادها صانعات خيرًا وغير خائفات خوفًا البتة" (1 بط 3: 6). يبدو أن إبراهيم كان متغيبًا عن خيمته في لحظات موتها، وإذ جاء وسمع بالخبر وقف أمامها يذكر عشرات السنوات التي عاشتها معه، وقد بقيت الوحيدة من أهله التي خرجت معه من أور الكلدانيين لتعيش متغربة حيثما حلّ. وقف أمام جثمانها لا ليسترجع ذكريات طويلة، إنما كان يتلامس مع شريكة حياته، وجزءًا لا يتجزأ من كيانه، فصار يندبها ويبكها. وهذه هي المرة الأولى التي نسمع فيها عن إبراهيم الشيخ الوقور يندب ويبكي. فلم نسمع أنه بكى أو حزن عند مفارقته أهله بأور الكلدانيين، ولا عند سبي لوط، ولا عن انطلاقه ثلاثة أيام ليذبح ابنه، لكنه يقف الآن أمام سارة يندبها ويبكها. إن كان إيمان إبراهيم قد رفعه فوق الأحداث، فبالإيمان حارب الملوك لينقذ ابن أخيه لوط، وبالإيمان أخذ ابنه إسحق إلى أرض المريا ليذبحه... لكن هذا الإيمان لا يتعارض مع المشاعر الإنسانية الرقيقة التي فجرت ينابيع دموعه أمام جثمان سارة! الإيمان لا يجردنا من الإحساسات، بل يقدسها وينميها في الرب. هذا ما نراه في أبينا إبراهيم رجل الإيمان، وما نلمسه في التلاميذ والرسل، بل وفي السيد المسيح نفسه الذي لم يحتمل دموع مريم ومرثا على أخيهما لعازر فبكى (يو 11: 35) حتى قال اليهود: "انظروا كيف كان يحبه؟!" (يو 11: 36). وقد جاءت رسائل معلمنا بولس الرسول مشحونة بالمشاعر الإنسانية المقدسة، فنراه يذكر دومًا منظر تلميذه تيموثاوس وهو يبكي عند فراق الرسول أو عند سجنه (2 تي 1: 3، 4). 2. شراء مغارة المكفيلة: في هذه اللحظات المرة التي فيها تفجرت ينابيع دموع إبراهيم تعلن مشاعره من نحو زوجته سارة سلك إبراهيم بحكمه وإيمان، فنلاحظ في تصرفاته الآتي: أولًا: لم يفكر إبراهيم في دفن زوجته بجوار أسلافه، فإن كان بالإيمان قد خرج مع سارة من أور الكلدانيين، بقى سالكًا بالإيمان حتى النفس الأخير، فلم يدفن زوجته هناك بل اقتنى مغارة في كنعان لتدفن سارة ويدفن هو وإسحق ورفقة ويعقوب وليئة. ثانيًا: يقول الكتاب: "وقام إبراهيم من أمام ميته وكلم بني حثِ، قائلًا: أنا غريب ونزيل عندكم، أعطوني ملك قبر معكم لأدفن ميتي من أمامي. فأجاب بنو حث إبراهيم، قائلين له: اسمعنا يا سيدي أنت رئيس من الله بيننا، في أفضل قبورنا ادفن ميتك... فقام إبراهيم وسجد لشعب الأرض لبني حث..." [3-7]. يبرز الكتاب المقدس اتضاع إبراهيم النابع عن شعوره بالتغرب...، فبينما يتطلع إليه بنو حث كسيد ورئيس (أمير) من الله بينهم، إذ به يدعو نفسه غريبًا ونزيلًا عندهم، لا يحتمل حبهم وكرمهم فيسجد أمامهم علامة الشعور بالجميل. حقًا إن أولاد الله ظاهرون لا بحب السلطة والاعتداد بالذات إنما بروح الحب والوداعة والاتضاع. بهذا يتحقق القول: "لا يمكن أن تخفي مدينة قائمة على جبل" (مت 5: 14)، لا جبل التشامخ بل جبل الله، القائمة والمؤسسة على السيد المسيح نفسه واهب الاتضاع! عاش إبراهيم سنوات طويلة بين قبيلة بني حث، وهي من نسل حث بن كنعان (تك 10: 15) التي أسست دولة الحثيين، وقد حسبوه رئيسًا عليهم من قبل الرب لا بإقامته ملكًا أو تسلمه مركزًا قياديًا مرموقًا وإنما خلال إدراكهم بالخضوع له من أجل ما تمتع به من شركة مع الله. أما هو فكان يشعر بالغربة في أعماق قلبه، الأمر الذي تكشف في لحظات موت سارة. بهذه الروح عاش أولاد إبراهيم الحقيقيون، فقال داود النبي في أيامه الأخيرة إذ أعدّ كل شيء لابنه سليمان لبناء الهيكل: "من أنا ومن هو شعبي حتى نستطيع أن ننتدب هكذا، لأن منك الجميع ومن يدك أعطيناك، لأننا نحن غرباء أمامك، نزلاء مثل كل آبائنا، أيامنا كالظل على الأرض وليس رجاء" (1 أي 29: 14، 15). ويلخص الرسول بولس حياة رجال الإيمان، أولاد إبراهيم، قائلًا: "في الإيمان مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد بل من بعيد نظروا وصدقوها وحيوّها وأقروا بأنهم غرباء ونزلاء على الأرض" (عب 11: 13). ثالثًا: تأثر بنو حث جدًا بالشيخ الذي فقد زوجته، فأعلنوا حبهم له وتكريمهم إياه، واشتياقهم أن يقدموا له أفضل مدفن لهم ليكون بين يديه، أما هو فلم يستغل هذا الحب بل في نقاوة قلب سألهم أن يقبل صاحب المغارة الثمن. وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [مع أن سكان هذا الموضع دعوه رئيسًا إلا أنه وضع في نفسه أن يدفع ثمن القبر]. ليت كل خادم للرب وكل راعٍ في الكنيسة إذ يرى الشعب يشتاق أن يقدم حبًا، لا يستغل هذه المحبة، إنما في نقاوة قلب يسلك بروح عفيفة لا تشتهي شيئًا! رابعًا: يبرز القديس إيرنييؤس الفكر الإيماني الذي عاشه أبونا إبراهيم وأعلنه بقوة برفضه استلام المقبرة كهبة مجانية من يدي إنسان، منتظرًا بصبر أن يتقبل نسله الأرض كلها -أرض الموعد- من يدي الله، إذ يقول: [هكذا إذن فإن وعد الله لإبراهيم قد بقى ثابتًا، إذ قال له: "ارفع عينيك وأنظر من الموضع الذي أنت فيه شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، لأن جميع الأرض التي أنت ترى لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد" (تك 13: 14، 15). وأيضًا قال: "قم امشِ في الأرض طولها وعرضها، لأني لك أعطيها" (تك 13: 17). ومع ذلك "لم يعطه فيها ميراثًا ولا وطأة قدم" (أع 7: 5)، بل ظل غريبًا ونزيلًا هناك على الدوام. وعند موت سارة زوجته لما أراد الحثيون أن يمنحوه موضعًا ليدفنها فيه رفض أن يأخذه كهبة بل اشترى بأربعمائة شاقل فضة مقبرة من عفرون بن صوحر الحثي. وهكذا فقد انتظر بصبر تحقيق وعد الله ولم يقبل أن يظهر كمن يتقبل من الناس شيئًا وعده الله أن يهبه إياه، عندما قال له أيضًا: "لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات" (تك 15: 18). فإن كان الله قد وعده بأن يرث الأرض، ولكنه لم ينلها طوال أيام رحلته، فلا بُد أن ينالها في قيامة الأبرار هو ونسله معًا، أي خائفوا الله والمؤمنون به. نسله هذا هو الكنيسة التي تمتعت بالنبوة لله في الرب، كقول يوحنا المعمدان: "الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم" (مت 3: 9). هكذا أيضًا يقول الرسول في الرسالة إلى أهل غلاطية: "وأما نحن أيها الأخوة فنظير إسحق أولاد الموعد" (غل 4: 28). وفي نفس الرسالة يعلن بوضوح أن الذين آمنوا بالمسيح يقبلون المسيح بكونه الوعد الذي أُعطى لإبراهيم، إذ يقول: "وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله؛ لا يقول في الإنسان كأنه عن كثيرين بل كأنه عن واحد في نسلك الذي هو المسيح" (غلا 3: 16)... هكذا إذن الذين هم من الإيمان يتباركون مع إبراهيم المؤمن، وهم أولاد إبراهيم]. خامسًا: يرى القديس باسيليوس الكبير أن إبراهيم كرجل إيمان لم يقتن شيئًا، إنما اقتنى في كل حياته مقبرة يُدفن فيها مع زوجته وأولاده... وكأنه يعلن أنه لا يطلب من الأرض إلا ما يدفن فيه الجسد على انتظار القيامة من الأموات! سادسًا: اشترى إبراهيم المغارة التي يُدفن فيها مع زوجته وأولاده بالفضة، فإن كانت الفضة تشير إلى كلمة الله (مز 12: 6)، فانه مُصرّ ألا تكون له ملكية في العالم سوى الموضع الذي يقتنى بكلمة الله. أخيرًا فإن مغارة المكفيلة أي الكهف (المزدوج) إنما هي مغارة تضم مغارتين معًا، إحداهما داخلية والأخرى خارجية، في مدينة الخليل. كانت ملكًا لعفرون ( أي شبيه بالآيل) بن صوحر (بياض أو لماّع)، ويبدو أن إبراهيم لم يكن يعرفه حين أراد شراء المغارة كما يظهر من سياق الحديث بين إبراهيم وبني حث [13]، أما عفرون فكان يعرف إبراهيم تمامًا وقد اشتاق أن يقدمها هدية مجانية له [11]. بل ويهبه أيضًا الحقل المجاور للمغارة. |
||||
07 - 12 - 2022, 11:35 AM | رقم المشاركة : ( 22 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر التكوين التاريخ البدائي
مواليد إسماعيل: ولد إسماعيل اثنى عشر ابنًا صاروا رؤساء لقبائل أو لشعوب كوعد الله لإبراهيم (17: 20). فإن الله لم ينس إسماعيل وأولاده، وإن كان لم ينعم بما ناله إسحق الذي جاء السيد المسيح من نسله متجسدًا، لكنه يذكر نسل إسماعيل حيث يأتي السيد ليضم كل الشعوب والأمم ويجعلهم واحدًا فيه. |
||||
07 - 12 - 2022, 12:11 PM | رقم المشاركة : ( 23 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر التكوين التاريخ البدائي
تغرب إسحق في جرار معاملات الله مع إسحق (ص 21-27) تغرب إسحق في جرار إذ حدث جوع في الأرض لم ينزل إلى مصر كأبيه إبراهيم بل تغرب في جرار كطلب الرب، وكما فعل أبوه هكذا سلك إسحق قائلًا عن رفقة إنها أخته فوبخه أبيمالك ملك جرار. وإذ تزايد إسحق طمس الفلسطينيون آباره، فمضى إلى وادي جرار ومنها إلى بئر سبع حيث ظهر له الرب وباركه مجددًا معه العهد الذي وهبه لأبيه، كما أعطاه نعمة في عيني الملك ورئيس جيشه. مرّ إسحق بذات التجربة التي مر بها أبوه إبراهيم: "وكان في الأرض جوع غير الذي كان في أيام إبراهيم" [1]. لقد حدث جوع، لكن الجوع "كان في الأرض" ولم يقع عليه، مسّ أرضه أي جسده دون أن يدخل إلى أعماقه. وكما سبق فقلنا أن المؤمن يخضع بجسده (بأرضه) للتجربة دون أن تمس حياته الداخلية، أما غير المؤمن فيسقط بكليته تحت الضيق، يفقد سلامه الداخلي ويخسر رجاءه ويتحطم تمامًا. إذ حدث جوع في أيام إبراهيم ذهب أبونا إلى مصر دون استشارة الله فكاد أن يفقد زوجته لولا تدخل الله، أما إسحق فيبدو أنه استشار الله الذي ظهر له وقال له: "لا تنزل إلى مصر، اسكن في الأرض التي أقول لك. تغرب في هذه الأرض، فأكون معك وأباركك، لأني لك ولنسلك أعطى هذه البلاد وأفي بالقسم الذي أقسمت لإبراهيم أبيك، وأكثر نسلك كنجوم السماء وأعطى نسلك جميع أمم الأرض" [2-4]. إن كان إبراهيم قد أخطأ بنزوله إلى مصر أثناء المجاعة فقد طلب الله إسحق ألاَّ يتصرف كأبيه بل يبقى في أرض كنعان حتى وقت المجاعة علامة قبوله وعود الله لأبيه... كل ما فعله أنه انتقل من عند بئر لحيّ إلى جرار، التي تبعد حوالي 6 أميال جنوب شرقي غزة، تقع في الموقع الذي لا يُدعى الآن "خربة أم جرار"، وقد رأينا أن الاسم مشتق من كلمة "جرة" أو (إناء خزفي) ]. إذ سمع لصوت الرب لم ينطلق إلى مصر بل بقى في جرار تمتع إسحق بتجديد العهد الإلهي وظهور الله... حقًا إن كنا وسط الضيق نسمع للصوت الإلهي ننعم بتجليه فينا وتجديد العهد معه! 2. دعوته رفقة أختًا له: حمل إسحق ذات الضعف لأبيه، فإذ خاف أن يقتله أهل الموضع من أجل امرأته رفقة إذ كانت حسنة الصورة دعاها "أخته". وفي هذه المرة نجد أبيمالك - وهو غالبًا غير أبيمالك الذي كان في أيام إبراهيم، إذ قلنا أنه "أبيمالك" هو لقب ملك جيرار وليس اسمه - تطلع من الكوة ونظر إسحق يلاعب رفقة امرأته، فاستدعاه وصار يعاتبه بنبل، وقد أوصى الملك: "الذي يمس هذا الرجل أو امرأته موتًا يموت" [11]. إن كان الكتاب المقدس يبرز ضعفات الأبرار مثل إسحق فيظهر خوفه من أهل جرار وكذبه عليهم من جهة زوجته، الأمر الذي يجعلنا حذرين من كل ضعف أو خطية ويبعث فينا عدم إدانة أحد، إذ لكل مؤمن ضعفاته مهما بلغت قداسته، فمن الناحية الأخرى يبرز أيضًا الجوانب الطيبة حتى في الوثنيين كأبيمالك الذي يخشى لئلا يسقط أحد من شعبه في الاعتداء على زوجة إسحق فيجلب على الشعب كله ذنبًا [10]، الأمر الذي يجعلنا لا نحتقر أحدًا حتى إن كان وثنيًا. 3. حسد الفلسطينيين له: يعلن الكتاب مباركة الله لإسحق بقوله: "وزرع إسحق في تلك الأرض (شعير حسب الترجمة السبعينية) فأصاب في تلك السنة مائة ضعف وباركه الرب، فتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم حتى صار عظيمًا جدًا. فكان له مواشٍ من الغنم ومواشٍ من البقر وعبيد كثيرون فحسده الفلسطينيون" [12-14]. إن كان إسحق في ضعف قد أخطأ أرسل الله له ملكًا وثنيًا يعاتبه ويوبخه... لكن هذا لا يمنع بركة الرب عنه ولا تحقيق وعود الله له، فإذ زرع شعيرًا (حسب الترجمة السبعينية) أصاب مائة ضعف بجوار الغنم والمواشي الكثيرة والعبيد أيضًا، الأمر الذي أثار سكان المنطقة ضده، إذ خشوا منه. يعلق العلامة أوريجانوسعلى زراعته للشعير أنه يشير إلى الناموس أو الوصايا السهلة الذي يقدم للفقراء روحيًا أما القمح فيشير إلى الإنجيل الذي يقدم للروحيين، إذ يقول: [لماذا زرع إسحق شعيرًا؟ ولماذا باركه الرب إذ زرع الشعير؟ لماذا اغتنى جدًا؟ الشعير عادة هو غذاء الحيوانات والعبيد العاملين في القرية... إسحق يعد القمح للكاملين والروحيين كما يعد الشعير للمبتدئين، إذ هو مكتوب: "الناس والبهائم تخلص يا رب" (مز 36: 7)... وربنا الذي هو إسحق الكامل يقدم الكمال (القمح) للتلاميذ، ويقدم الأمور البسيطة والسهلة (الشعير) للجماهير. أتريدون دليلًا أنه يقدم شعيرًا كغذاء للمبتدئين؟ جاء في الإنجيل أنه طعم الجموع مرتين؛ في المرة الأولى "أعطاهم أرغفة شعير" (يو 6: 98) للمبتدئين، وإذ تقدموا في الكلام والتعليم أعطاهم خبز قمح (مت 15: 34) ]. ليتنا إذن نتقبل كروحيين خبز قمح، وإلاَّ فلنقبل كمبتدئين أرغفة شعير من يديّ إسحق الحقيقي ! إذ زرع إسحق شعيرًا أصاب في تلك السنة مئة ضعف وتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم حتى صار عظيمًا جدًا. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [إن كان الشعير يشير إلى الناموس فقد كان إسحق الحقيقي صغيرًا خلال الناموس، وتعاظم أكثر فأكثر خلال النبوات. خلال الناموس كانت معرفتنا عن المسيح كما خلال ظلال، لكن الأنبياء كشفوا عنه فقد ظهر السيد المسيح عظيمًا. والآن إذ ننزع عن الشعير قشه أي ننزع عنه حرفيته يظهر "الناموس الروحي" (رو 7: 14)، عندئذ يصير إسحق عظيمًا جدًا... بمعنى آخر خلال الشعير تعاظم إسحق جدًا وظهر غناه، باقتنائها للناموس بعد نزع قشه أي حرفيته والدخول إلى روحه وأعماقه]. وللعلامة أوريجانوستعليق آخر على خبزات الشعير التي أظهرت عظمة إسحق وغناه، فإنه إذ كانت الخبزات غير مكسورة لم يشبعها منها أحد، لكنه إذ أمر بكسرها وتوزيعها على الجموع شبع الآلاف من الجماهير وتبقى أيضًا من الكسر. هكذا إذ نقدم كلمات الكتاب المقدس للعالم كله ونكسر عنها الحرف لينعموا بأعماقها يشبع الكل ويتبقى أيضًا ما نجمعه حتى لا يضيع شيئًا (يو 6: 12). أمام هذا الغنى والعظمة اللذين ظهرا خلال زراعة الشعير يقف العدو حاسدًا فيطمر الآبار التي حفرها إبراهيم بالتراب، ويطلب أبيمالكَ من إسحق أن يترك الموضع، قائلًا له: "اذهب من عندنا لأنك صرت أقوى منا جدًا" [16]. يعلق العلامة أوريجانوس على طمر الآبار بالتراب وعودة إسحق لنبش الآبار التي حفروها في أيام إبراهيم أبيه وطمسها الفلسطينيون بعد موت أبيه [18]، قائلًا: [يحتقر الفلسطينيون المياه ويحبون الأرض، أما إسحق فيحب المياه ويبحث عن الآبار ويخلص الآبار القديمة كما يحفر آبارًا جديدة. لنتأمل في إسحق الذي "أسلم نفسه لأجلنا" (أف 5: 2)، فقد جاء إلى وادي جرار الذي يعني (الحائط) أو (الحاجز) (أف 2: 14)، جاء لينقض حائط السياج المتوسط، أي الخطية التي تفرق بيننا وبين الله ؛ ينقض الحاجز الذي بيننا وبين الفضائل الروحية، وبهذا "جعل الاثنين واحدًا" (أف 2: 14)، حاملًا الخراف الضالة على كتفيه على الجبال ليضمهم مع التسعة وتسعين غير المفقودين (15: 6؛ مت 28: 12). إسحق هذا. مخلصنا، إذ يكون في وادي جيرار يريد قبل كل شيء أن يحفر الآبار التي سبق فحفروها في أيام أبيه، أي يكشف آبار الناموس والأنبياء التي طمسها الفلسطينيون... لكن من هم هؤلاء الذين يملأون الآبار ترابًا؟ إنهم بلا شك الذين يقدمون الناموس بفكر أرضي جسداني، مبتعدين عن الغنى الروحي السرائري، فلا يشربون ولا يدعون الآخرين يشربون. اسمعوا ما يقوله إسحق مخلصنا، يسوع المسيح، في الإنجيل: "ويل لكم أيها الناموسيون لأنكم أخذتم مفتاح المعرفة، ما دخلتم أنتم والداخلون منعتموهم" (لو 11: 52) ]. لقد حفر السيد المسيح بخدامه الآبار القديمة إذ كشف عن أسرار الناموس وإعلانات الأنبياء معطيًا لنا مفاهيم روحية عميقة كان قد أفسدها محبو الحرف القاتل. ولم يقف عمل السيد عند هذا الحد بل حفر لنا برسله وتلاميذه آبارًا جديدة بالرغم من مقاومة عدو الخير ومحاولته طمر كل بئر روحي. يقول العلامة أوريجانوس: [حفر إسحق وخدامه آبارًا جديدة. حفر متى ومرقس ولوقا ويوحنا وبطرس ويعقوب ويهوذا وبولس الرسول آبار العهد الجديد، وإن كان قد أرتفع ضدهم الذين يفكرون في الأرضيات (في 3: 19) ]. روى لنا الكتاب المقدس عن حفر ثلاثة آبار، الأولى دعيت "عشقًا" أو (خصامًا)، والثانية "سطنة" أي (نزاعًا)، إذ تنازع عليها رعاة جرار مع رعاة إسحق، فتركها إسحق لرعاة جرار، أما الثالثة فلم يحدث عليها شجار لذا دعاها "روحوبوت" أي (الأماكن الرحبة أو المتسعة)، وهي في المنطقة التي تدعى حاليًا "وادي الرحيبة"، تقع على بعد حوالي 19 ميلًا جنوب غربي بئر سبع. وقد شعر إسحق أن الله قد أعطاه مكانًا رحبًا ومتسعًا وجاد عليه بالبركات بغير نزاع. ويرى العلامة أوريجانوس في البئر الثالثة إشارة إلى الإيمان بسر الثالوث القدوس الذي به أعلن أتساع الملكوت للعالم كله إذ يقول: [بعد ذلك حفر إسحق بئرًا ثالثًا دعاها "رحوبوت"، وقال: "الآن قد أرحب لنا الرب وأثمرنا في الأرض" [22]. حقًا لقد صار إسحق في رحب وتعظم اسمه في الأرض كلها عندما ملأنا بمعرفة الثالوث. قبلًا كان الله غير معروف إلاَّ في يهوذا وكان اسمه عظيمًا في إسرائيل (مز 76: 1)، أما الآن فخرج في الأرض منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلمته (مز 19: 4). وانتشر خدام إسحق على كل الأرض، وحفروا الآبار مظهرين مادة الحياة للجميع، إذ قيل: "عمدوا جميع الأمم باسم الآب والابن والروح القدس" (مت 28: 19)، لأن للرب الأرض وملؤها (مز 24: 1) ]. 4. قطع عهد مع أبيمالك: سبق فطلب أبيمالك أن يقطع عهدًا مع إبراهيم إذ قال له: "الله معك في كل ما أنت صانع" (تك 21: 22)، والآن يقطع أبيمالك - ليس بالضرورة ذات الملك - عهدًا مع ابنه إسحق، وقد جاء إليه مع مستشارين له هما صديقه أحزات الذي يعني (مُلك)، ورئيس جيشه فيكول، قائلين: "إننا قد رأينا أن الرب كان معك، فقلنا ليكن بيننا حلف بيننا وبينك، ونقطع معك عهدًا، أن لا تصنع بنا شرًا كما لم نمسك وكما لم نصنع بك إلاَّ خيرًا وصرفناك بسلام. أنت الآن مبارك الرب" [28-29]. إن كان نجاح إسحق قد سبب لأهل المنطقة خوفًا وأثار فيهم روح الحسد، لكنهم إذ رأوا فيه عمل الله صاروا شهود حق، فدعوه "مبارك الرب"، وسألوه أن يقطع معهم عهدًا. ما أجمل أن يكون للمؤمن شهادة من الذين في الخارج، فيدركون أنه رجل الله ويشعرون بهيبة الله تحوط به. إن كان نجاح المؤمن يثير في البداية حسدًا لكنه يبعث في النهاية نعمة في أعين الجميع! قابل إسحق مخاوفهم بالحب، فصنع لهم ضيافة وأكرمهم بعد أن أقام معهم ميثاق صُلح ومحبة وسلام. يرى العلامة أوريجانوسفي أبيمالك الذي تارة يبغض إسحق [27]. وأخرى يطلب الصلح معه، رمزًا لفلسفة هذا العالم؛ تارة تناقض الإيمان وأخرى تتجاوب معه. إن كانت الفلسفة ليست في تعارض مع ناموس الرب على طول الخط، فهي أيضًا لا يمكن أن تكون معه في اتفاق تام. ويعطي العلامة أوريجانوس أمثلة، فيقول: [إن بعض الفلاسفة يتفقون مع الناموس بل ومع الإنجيل حينما ينادون بوجود إله واحد خالق الكل، صنع كل شيء ودبره بكلمته الإلهية، لكنهم يتعارضون معنا في الإيمان باعتقادهم بأزلية العالم وأبديته، فيحسبون المادة شريكة مع الله في السرمدية. أبيمالك ورفيقاه: أخزات صديقه وفيكول رئيس جيشه، الثلاثة - في رأى العلامة أوريجانوس يشيرون إلى فروع الفلسفة الثلاثة: المنطق أي الفلسفة المعتمدة على العقل وحده (أبيمالك)، والفلسفة التي تقوم على قوة الطبيعة (أحزات)، والفلسفة الأخلاقية أو السلوكية (فيكول). هذه الفروع الثلاثة بالرغم مما تحمله من أخطاء لكنها إن تقدست تخضع للإيمان، قائلًا: "قد رأينا أن الرب معك، فقلنا ليكن بيننا حلف بيننا وبينك، ونقطع معك عهدًا". ويرى العلامة أوريجانوسأيضًا في هؤلاء الرجال الثلاثة الغرباء الذين جاءوا يقطعون عهدًا مع إسحق ويطلبون المصالحة رمزًا للمجوس الثلاثة الذين جاءوا من الشرق، قائلين: "رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له" (مت 2: 2). أما الضيافة التي صنعها إسحق لهم والمصالحة التي وهبهم إنما تشير إلى اتساع الإيمان ليمتص كل فلسفة وكل فكر لحساب المسيح، وكما يشير إلى استضافة السيد المسيح للمجوس كرمز لكنيسة الأمم. ولعل استضافته لثلاثة رجال إنما يشير إلى استضافة الرب لكل الشعوب والأمم التي تسلسلت عن سام وحام ويافث، أي لكل البشرية. 5. زواج عيسو من الحيثيين: تزوج عيسو بامرأتين من بني حث، كانتا مرارة نفس لإسحق ورفقة [34-35]. لم يكن حكيمًا في تصرفه إذ التحم بوثنيتين أفسدتا علاقته بوالديه وحرمتاه ونسله من السلام. |
||||
07 - 12 - 2022, 12:36 PM | رقم المشاركة : ( 24 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر التكوين التاريخ البدائي
1. إسحق يستدعي عيسو: "وحدث لما شاخ إسحق وكلّت عيناه عن النظر أنه دعا عيسو ابنه الأكبر وقال: يا ابني... إني قد شخت ولست أعرف يوم وفاتي، فالآن خذ عدتك جعبتك وقوسك وأخرج إلى البرية وتصيد لي صيدًا، واصنع لي أطعمة كما أحب وآتي بها لآكل حتى تباركك نفسي قبل أن أموت" [ظ،-ظ¤]. لقد سبق فعرف إسحق أن الكبير يستعبد من الصغير (25: 23)، وسمع أن عيسو في استهتار باع بكوريته بأكله عدس مستهينًا بها، ولمس في حياته ارتباطه بزوجتين وثنيتين بعيدتين عن إيمان أبيه كانتا علة مرارة له ولرفقة زوجته، ومع هذا فقد استدعاه ليأكل من صيد يديه وتباركه نفسه قبل أن يموت، يورثه البركة التي نالها عن أبيه إبراهيم. ترى هل كان مدفوعًا بعواطفه الأبوية البشرية أم حمل عملًا نبويًا بغير إرادته؟! إن كنا نلوم رفقة لأنها تدخلت بطريقة بشرية لينال يعقوب المحبوب لديها البركة عوض أخيه عيسو، حتى وإن كان في ذلك تحقيق للصوت الإلهي بأن الكبير يستعبد للصغير، فنحن لا نستطيع إنكار ضعف إسحق إذ أراد أن يبارك إنسانًا كعيسو سبق فأعلن الله أنه يكون مستعبدًا للصغير، لكن القديس جيروم يقدم لنا تفسيرًا رمزيًا مختصرًا اقتبسه عن القديس هيبوليتس يكشف فيه عما حمله هذا الأصحاح من عمل نبوي رمزي يعلن عن العصر المسياني، يمكننا أن نستعرضه هكذا: إسحق في دعوته لابنه عيسو كي يباركه عندما شاخ وكلت عيناه إنما يشير إلى الآب السماوي الذي دعي في أواخر الدهور جماعة اليهود بكونهم الابن البكر، مشتاقًا أن يهبهم البركة الإنجيلية وأن ينعموا بالخلاص الأبدي فيملكون مع السيد المسيح ويحفظون السبت الجديد. أما رفقة فتشير للروح القدس الذي يدرك أن الكبير يستعبد للصغير فاهتم بجماعة الأمم (الابن الأصغر) لكي تقتنص البركة الإنجيلية عوض اليهود بعدما رفض اليهود الإيمان بالمسيا المخلص. وإن كان الجدي يشير إلى خلاص الخطاة، فإن الجديين الجيدين من المعزى اللذين قدمهما يعقوب طعامًا لأبيه إنما يشيران إلى اجتماع بعض اليهود مع الأمم. ألبست رفقه يعقوب ثياب أخيه عيسو، إشارة إلى رجال العهد الجديد الذين اقتنوا بالروح القدس الكتب المقدسة، وسحبوا من اليهود الناموس والعهود والنبوات التي كانت لباسًا لهم وخلعوها عنهم خلال جحودهم بالمسيح يسوع. أما جلود المعزى التي لبسها يعقوب في يديه وعنقه فتشير إلى الخطية التي حملها السيد المسيح عنا، مع أنها ليست خطاياه إذ هو القدوس حامل خطايانا. الطعام الذي قدمه هو الذبيحة الفريدة التي تفرح قلب الآب فتنال الكنيسة خلال بركة الله، أما عيسو فنال اللعنة بسبب الجحود. هروب يعقوب إلى حاران من وجه عيسو كان رمزًا لانطلاق الإيمان إلى الغرباء أي الأمم بعد أن قاومه اليهود. خلال هذا المفهوم الآبائي يمكننا إدراك السر الحقيقي لدعوة عيسو لينال البركة فيغتصبها يعقوب منه بتدبير أمه رفقة. 2. رفقة تسند يعقوب: كانت رفقة تسمع ما قاله إسحق رجلها لعيسو، وربما كانت حاضرة، والآن في محبتها لابنها يعقوب أخبرته بما حدث... والعجيب أن رفقة ويعقوب لم يشعرا أنهما أخطأ قط، ولا وبخهما إسحق على تصرفهما بعد اكتشافه الخدعة، بل أكد بركته ليعقوب، ولعل إسحق أدرك أنها على حق وإن استخدما وسيلة غير سليمة! ويرى القديس أغسطينوسأن الكتاب المقدس أراد أن يوضح أن تصرف يعقوب لم يكن عن مكر واحتيال إنما كان في بساطة قلب وإيمان، إذ سبق فأعلن "وكان عيسو إنسانًا يعرف الصيد إنسان البرية ويعقوب إنسانًا كاملًا (بسيطًا) يسكن الخيام" (تك 25: 27)، وإن الكلمة اليونانية المترجمة كاملًا (بلا عيب) تعنى بلا عيب أو بسيطًا أو بلا تظاهر، لهذا استحق نوال البركة. كنا نتوقع في رفقة كأم حكيمة وزوجة محبه لرجلها أن تصارح إسحق بما في قلبها وتذكره بالصوت الإلهي الخاص بمباركة الأصغر، لكن الله استخدم حتى ضعفها للخير، وإن كانت قد ذاقت مرارة تصرفاتها المتسرعة. أتقنت رفقة الدور تمامًا فقد هيأت إسحق الطعام الذي يحبه، وأعطيت ليعقوب أن يلبس ثياب أخيه الحاملة لرائحته، وأن يضع جلدا على يديه وعنقه، هكذا يجد إسحق الطعام والرائحة واللمس فيبارك ابنه. من جهة الثياب فيرى البعض أن عيسو كبكر كان له ثوب كهنوتي يرتديه في شيخوخة أبيه ليقدم الذبائح عن العائلة، أما الجلد الذي وضُع حول ذراعي يعقوب فكما يقول القديس أغسطينوس: [يشير إلى حمله خطايا الآخرين ]. بلا شك كان يعقوب هنا يمثل السيد المسيح رأس الكنيسة الذي قدم حياته ذبيحة حب، طعامًا سماويًا يفرح قلب الآب، وليس زيّنا وملابسنا، وحمل خطايانا، لكي يقبل باسمنا ولحسابنا المجد الأبدي ورضا أبيه السماوي! قال إسحق: "الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو"... فباركه! إنها صورة حية للسيد المسيح، صوته صوت الابن وحيد الجنس، لكن يديه هما أيدينا إذ حمل طبيعتنا فيه! صار كعيسو يحمل ضعفاتنا وخطايانا وهو يعقوب البار! 3. يعقوب يتمتع ببركة أبيه: "فقال له إسحق أبوه: تقدم وقبلني يا ابني. فتقدم وقبله، فشم رائحة ثيابه وباركه، وقال: أنظر، رائحة ابني كرائحة حقل باركه الرب. فليعطك الله من ندى السماء ومن دسم الأرض وكثرة حنطة وخمر. ليستعبد لك شعوب، وتسجد لك قبائل. كن سيدًا لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك. ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين" [ظ¢ظ¦–ظ¢ظ©]. أكل إسحق وشرب خمرًا وطلب من ابنه أن يتقدم ويقبله قبلة الحب والاحترام، لينال البركة الأبوية خلال فيض الشبع الذي ملأ حياة إسحق والرائحة الذكية التي عاشها كل أيام غربته. اشتم رائحة ثيابه، فقد كانت ثياب عيسو الثمينة وسط روائح طيبة وقد أثارت فيه رائحة الحقول بزهورها وثمارها المبهجة، لهذا بدأ البركة يقول: "رائحة ابني كرائحة حقل باركه الرب"، طالبًا له ندى السماء الذي يحول الأرض القفر إلى جنة، ودسم الأرض أي خصوبتها، وأن يمنحه الرب حنطة وخمرًا علامة الشبع والفرح، كما سأل من أجله أن يخضع له الشعوب والقبائل ويسجد له اخوته. هنا يقول القديس إيريناؤس: [لا يمكننا قبول البركة بالمفهوم الحرفي وإنما بالمفهوم الرمزي الروحي الذي تحقق خلال بركات العهد الجديد. يشرح القديس إيريناؤس هذه البركة هكذا: [إن كان أحد لا يتقبل هذه الأمور بكونها تشير إلى الملكوت المعين (المسياني) يسقط في تناقض كما حدث مع اليهودي صاروا مرتبكين في الأمر. فإنه ليس فقط لم تخدم الأمم يعقوب في حياته وإنما حتى بعد نواله البركة هو نفسه ترك بيته وخدم خاله لابان السرياني عشرين عامًا (تك 31: 41)، وليس فقط لم يصر سيدًا لأخيه إنما انحنى وسجد أمام عيسو أخيه عند عودته من بين النهرين إلى بيت أبيه مقدمًا له هدايا كثيرة (تك 3: 33). أضف إلى هذا بأي طريقة ورث حنطة وخمرًا كثيرًا هنا، ذاك الذي هاجر إلى مصر بسبب المجاعة التي حلت بالأرض التي سكنها، وسار خاضعًا لفرعون الذي كان يحكم مصر في ذلك الحين؟! ]. إذن لا يمكن أن تُفهم هذه البركة على أساس حرفي، إنما تحققت روحيًا بمجيء السيد المسيح حيث تمتع يعقوب – أي الكنيسة – بالملكوت الروحي. وكما يقول القديس أغسطينوس: [بركة يعقوب هي إعلان المسيح لكل الأمم. الأمر الذي تحقق الآن... إسحق هو الشريعة (الناموس) والنبوة، فإنه حتى خلال فم اليهود أعلنت بركة المسيح خلال النبوة كما بشخص لم يعرفها ولم يدركها. العالم يشبه حقلًا مملوءًا برائحة اسم المسيح الذكية. بركته هي الندى الذي من السماء أي أمطار الكلمات الإلهية، ودسم الأرض أي جمع الشعوب معًا. بركته هي فيض الحنطة والخمر أي الجموع التي تجمع الخبز والخمر في سرّ جسده ودمه إياه تخدم الأمم ويتعبد له الرؤساء. إنه سيد اخوته إذ يحكم شعب اليهود. إياه يتعبد له أبناء الآب، الذين هم أولاد إبراهيم حسب الإيمان، إذ هو نفسه ابن إبراهيم حسب الجسد. من يلعنه يصير ملعونًا، ومن يباركه يتبارك]. في المسيح يسوع ربنا يصير كل منا يعقوب الذي يسمع البركة من فم أبيه، هكذا: رائحة ابني كرائحة حقل قد باركه الرب، فليعطك الله من ندى السماء، ومن دسم الأرض وكثرة حنطة وخمر... كن سيدًا لأخوتك. حقًا في المسيح يسوع يصير قلبنا حقلًا بل جنة تحمل رائحة طيبة تفرح قلب العريس القائل: "قد دخلت جنتي يا أختي العروس، قطفت مري مع طيبي، أكلت شهدي مع عسلي، شربت خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب، أشربوا واسكروا أيها الأحباء" (نش 4: 1). يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص في تفسيره سفر النشيد: [إنه يأتي إلى جنته... ويقطف أطيابها المملوءة من ثمر فضائلها، عندئذ يتحدث عن تمتعه بالوليمة وتلذذه بها، قائلًا لعروسه: قد نزلت إلى جنتي يا أختي العروس ]. ما هو ندى السماء إلاَّ تقديس النفس التي تصير كسماء تحمل نعمه الله كندى يستخدمه الروح القدس لإثمار أراضٍ كثيرة، أما دسم الأرض فيشير إلى خصوبة الجسد الذي يتقدس بالروح القدس فتنطلق كل طاقاته وأحاسيسه ومواهبه للعمل منسجمًا مع ندى السماء. أما كثرة الحنطة فتكشف عن شبع النفس بعريسها الخبز النازل من السماء. وكثرة الخمر يشير إلى فيض الفرح الروحي الداخلي. أخيرًا التمتع بالسيادة إنما يشير إلى حالة الإنسان الروحي كملك صاحب سلطان وسيد يقول لهذا الفكر أن يأتي فيأتي وأن يذهب فيذهب، له سلطان بالرب على أفكاره كما على حواسه وكل أعماقه! 4. عيسو يُحرم من البركة: ربما يتساءل البعض: وما ذنب عيسو ليُحرم من بركة اختلسها أخوه بتدبير أمهما رفقة؟ ألم يصرخ صرخة عظيمة ومرّة جدًا عندما سمع من أبيه أن أخاه اختلس البركة طالبًا أن يباركه هو أيضًا؟! يُجاب على ذلك بأن عيسو كان متهاونًا فيما بين يديه - البكورية - ففقد بغير إرادته البركة. هذا وأن تصرفاته بوجه عام هي التي حرمته من نوال البركة. إن صرخة عيسو العظيمة والمرة جدًا تعنى أنه طلب البركة بدموع كما قال الرسول (عب 12: 17) لكنه لم يطلبها بمفهومها الروحي، بل طلبها لأجل البركات الزمنية، والدليل على ذلك أنه سأله أن ينال هو أيضًا بركة، قائلًا: "أما أبقيت لي بركة ؟!" [36]. هي بركة واحدة خلالها ينعم بأن يأتي من نسله السيد المسيح، فكيف يمكن أن تكون لآخين؟! 5. عيسو يحقد على أخيه: إن كان عيسو قد حقد على أخيه لكننا لا ننكر شهامته، فقد رفض أن يقتل أخاه من اجل كرامة شيخوخة أبيه... متوقعًا سرعة موت أبيه ولم يعلم أن أباه يعيش بعد ذلك سنوات طويلة. ربما خشيت رفقة أن تفاتح إسحق في أمر حقد عيسو على يعقوب فسألته أن يطلب من يعقوب أن يذهب إلى حاران يتزوج من هناك ولا يتخذ له زوجة من بنات حث كما فعل عيسو أخوه... وبهذا وجدت المنفذ لأبنها لينال البركة من أبيه قبل هروبه من وجه أخيه. أخيرًا حُرمت رفقة من ابنها يعقوب كثمرها لتخطيطها البشرى وخداعها لرجلها. وإن كان القديس أمبروسيوس يرى في تصرف رفقة الأخير الحكمة، فقد تغلبت مشاعر الأمومة الطبيعية حتى تصرف الغضب عن ابنها عيسو ولا تفقده هو ويعقوب أخاه، إذ يقول: [أرادت والدته أن يعيش غريبًا حتى يصرف غضب أخيه. المشورات الصالحة تعلو على المشاعر الطبيعية]. |
||||
07 - 12 - 2022, 12:50 PM | رقم المشاركة : ( 25 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر التكوين التاريخ البدائي
تجلى الله في حياة إبراهيم وسارة، وتسلم ابنهما إسحق بركة الرب لهما وتمتع برجائهما في الخلاص وجاء الرب نفسه يؤكد له مواعيده مع أبيه... والآن يتسلم يعقوب بركة والديه إسحق ورفقة، أو قل بركة الرب التي حلت بهما ليعيش حاملًا إيمانهما ومتنعمًا برجائهما فيه، مجاهدًا كل أيام غربته من أجل الرب. يعقوب والسماء المفتوحة إذ بارك إسحق ابنه يعقوب أوصاه -كطلب رفقه- أن ينطلق إلى خاله لابان ليتزوج من بناته زوجة له تقدر أن تسنده في طريق إيمانه ولا يرتبط كأخيه ببنات حث الوثنيات... وفي الطريق انفتحت السموات ليرى يعقوب سلمًا رأسه في السماء وملائكة الله صاعدون ونازلون عليه، والرب واقف عليه... وإذ استيقظ من نومه مسح الحجر الذي كان مستندًا عليه ليكون عمودًا في بيت الله. إن كانت رفقة سألت يعقوب أن يهرب من وجه أخيه عيسو حتى يهدأ غضبه، فقد تيقنت هي وزوجها إسحق أن يعقوب هو وراث البركة، وفيه تتحقق المواعيد، لهذا في حديثها معه كانت متأكدة من عودته إلى أرض كنعان (27: 44، 45) ليرث أرض الموعد... الأمر الذي أوضحه أيضًا إسحق بقوله له: "يعطيك بركة إبراهيم لك ولنسلك معك، لترث أرض غربتك التي أعطاها الله لإبراهيم" [4]. حقًا كان يمكن لإسحق أن يرسل عبدًا يأتي إليه بزوجة ليعقوب كما فعل إبراهيم عند زواج إسحق، لكن بسبب حقد عيسو فضل إسحق ورفقة أن ينطلق ابنهما إلى خاله ويقيم عنده " أيامًا قليلة"، هذه الأيام القليلة امتدت حوالي 40 عامًا... خلالها ماتت رفقة ولم تنظر ابنها يعقوب. بارك إسحق ابنه يعقوب قبل انطلاقة إلى لابان خاله الذي وصفه الكتاب هكذا: "أخ رفقة أم يعقوب وعيسو" [5]. هنا تدعى رفقة أم يعقوب إذ حُسب البكر والمتمتع ببركة إبراهيم. رأى عيسو أن أخاه قد نال البكورية فالبركة، وتثبت ذلك بإرساله إلى فدان آرام ليتزوج من بنات خاله، كما شعر أن زواجه ببنات حث الوثنيات حرمه من الكثير لهذا عزم أن يتزوج من نسل إبراهيم ليسترضى والديه فأخذ لنفسه زوجة ثالثة هي محله بنت إسماعيل بن إبراهيم أخت نبايوت. والآن انطلق يعقوب هاربًا من وجه أخيه عيسو، محرومًا من عاطفة والديه واهتمامهما، صار في الطريق عند غروب الشمس وحده معرضًا لمخاطر كثيرة... وسط هذا الضيق وضع يعقوب رأسه على حجر واضطجع في ذلك الموضع ليرى السموات مفتوحة، وسلمًا سماويًا منصوبًا على الأرض رأسه يمس السماء، الأمر الذي لم يكن ممكنًا أن يشاهده حين كان مدللًا في الخيمة تهتم به والدته وتضع الوسائد الناعمة تحت رأسه! وسط الضيق والحرمان يتجلى الله ليسد كل عوز ويعطي بفيض أكثر مما نسأل وفوق ما نطلبه. كما يقول القديس جيروم: [الحجر الذي تحت رأسه هو المسيح، إذ لم يكن له من قبل حجر تحت رأسه، إنما صار له في ذلك الوقت الذي هرب فيه من مضطهده. عندما كان في بيت أبيه مستريحًا حسب الجسد لم ينعم بحجر تحت رأسه. لقد ترك بيته كفقير وصار كوحيد، ليس لديه سوى عصا، فوجد في نفس الليلة حجرًا يضعه تحت رأسه. وإذ صارت له وسادة من هذا النوع استراحت رأسه خلال الرؤيا التي شاهدها ]. إن كان الحجر هو السيد المسيح فإننا لا ننعم به في حياتنا، يسند رأسنا بالرؤى السماوية والمعرفة الإلهية الفائقة مادمنا نعيش مدللين نطلب الاتكاء على الآخرين... يرى الأب قيصريوس أسقف Arlesأن يعقوب يشير إلى السيد المسيح، وأن أباه إسحق الذي طلب منه أن يترك بنات المنطقة يشير إلى الآب الذي طلب منه أن يترك المجمع اليهودي ليذهب إلى موضع بعيد حيث يقتنى كنيسة الأمم عروسًا له. هذا قد تحقق عندما قال الرسولان لليهود: "كان يجب أن تُكلموا أنتم بكلمة الله، ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية هوذا نتوجه إلى الأمم" (أع 13: 46). كما يرى الأب قيصريوس في الحجر رمزًا للسيد المسيح أيضًا، الذي عليه تقوم الكنيسة، وقد مسحه الآب للعمل الخلاصي، فبينما ظهر السيد المسيح على السلم في أعلى السماء بكونه السماوي، إذا به تحت رأس يعقوب كحجر الزاوية الذي عليه تتأسس الكنيسة بتجسده. يتحدث القديس أغسطينوس عن هذا الحجر، قائلًا: [في هذا الحجر نفهم المسيح... وضعه عند رأسه بكونه رأس الرجل (1 كو 11: 3). وقد مُسح الحجر، لأن "المسيح" دعي هكذا إذ هو "ممسوح"]. أما السلم الذي رآه يعقوب فهو صليب ربنا يسوع المسيح الذي بالإيمان نرتفع خلاله لننعم بالسماء عينها، وخلال الجحود به انحدر اليهود إلى الهاوية وكما يقول القديس جيروم: [أظن أن صليب المخلص هو السلم الذي رآه يعقوب. على هذا السلم كانت الملائكة نازلة وصاعدة. على هذا السلم، أي على الصليب كان اليهود نازلين والأمم صاعدين]. كما يقول: [لقد رأى ملائكة يصعدون، إذ رأى بولس صاعدًا؛ ورأى ملائكة ينزلون، إذ رأى يهوذا الخائن ساقطًا إلى التمام. رأى ملائكة يصعدون،إذ رأى قديسين يرتفعون من الأرض إلى السماء، كما رأى ملائكة ينزلون أي الشيطان وكل جيشه ينحدرون من السماءّ]. إذ نرى السلم لا نستصعب الصعود خلاله، فإن الرب واقف عليه يسندنا ويرفعنا إليه، كما يقول القديس جيروم: [لا تنظر إلى الدرجات بل تطلع إلى فوق حيث الرب]. ويشجعنا القديس جيروم على الاستمرار في الصعود بلا توقف، قائلًا: [إن كان واحد منا واقفًا على الدرجة الأولى فلا ييأس من بلوغ الثانية، ومن كان على الثانية فلا يفقد رجاءه في بلوغه الثالثة. يا لغبطة الشهداء إذ تأهل الكثير منهم إلى الصعود حتى الدرجات النهائية، إلى القمة عينها. نحن الذين نعيش في العالم لا نقدر على صعود كل الدرجات دفعة واحدة من أسفل إلى أعلى، لكنه ليتنا لا نكتفي بالوقوف على الدرجة الأولى إنما يليق بنا أن نجاهد صاعدين درجات أعلى]. كما يقول: [الدرس الذي نتعلمه من السلم أنه لا يليق بالخاطي أن ييأس من الخلاص، ولا البار أن يستكين مطمئنًا لفضيلته ]. ويعلل الأب قيصريوس توقيت ظهور هذه الرؤيا في الطريق بقوله: [لماذا حدث هذا في الطريق قبل أن يقتنى يعقوب زوجته؟ لأن ربنا -يعقوب الحقيقي- انحني أولًا على السلم أي الصليب وبعد ذلك شكل الكنيسة لنفسه. في الوقت الذي فيه قدم لها دمه مهرًا لملكوته!]. 4. يعقوب وبيت الله: في دراستنا للكنيسة كبيت الله تحدثنا عن بيت إيل بكونه أول بيت لله أقامه الإنسان بعدما تمتع بالسماء المفتوحة ورأى السلم المنصوب على الأرض رأسه يمس السماء، والملائكة صاعدين ونازلين عليه كما سمع الرب الواقف عليه يقول له: "ها أنا معك". فبكر يعقوب وقال: حقًا، إن الرب في هذا المكان...! ما أرهب هذا المكان...! ما هذا إلاَّ بيت الله، وهذا باب السماء ! ثم أخذ الحجر وأقامه عمودًا وصب عليه زيتًا، ودعي الموضع "بيت إيل" أي (بيت الله). أراد الله أن يقدم للجماعة المقدسة خلال أبيهم يعقوب حقيقتين إيمانيتين، هما: معييته معهم، وانفتاح السماء على الأرضيين. فمن جهة معييته مع شعبه، نجد تأكيد الرب "ها أنا معك"، في الوقت الذي لم يجد فيه يعقوب من يقدر أن يسنده... ومن جهة انفتاح السماء على الأرضيين، فقد تمت المصالحة خلال السلم الحقيقي، وصارت الكنيسة بيت الله ومسكن ملائكته. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يرسل الله الملائكة إلى البشر، عندئذ يقود البشر إلى السمويات. هوذا السماء تُقام على الأرض، حتى تلتزم السماء بقبول الأرضيين]. وقد سبق لنا الحديث عن الكنيسة (بيت إيل) وارتباطه بالجماعة المقدسة والسماء. زواج يعقوب بليئة وراحيل إذ تمتع يعقوب بسلام الله خلال السلم أسرع نحو فدان آرام، وهناك التقى براحيل عند بئر الماء، وإذ خدم خاله لابان تزوج ابنتيه ليئه وراحيل. 1. لقاء مع راحيل: "ثم رفع يعقوب رجليه وذهب إلى أرض بني المشرق" [1]. تعبير "رفع رجليه" ربما يعني (الإسراع في الطريق)، فقد بعثت فيه الرؤيا الحميمة لينطلق في طمأنينة مسرعًا نحو خاله في أرض فدان آرام، شرقي كنعان، وكأنه كلما انفتحت أعيننا نحو السمويات، وتمتعت آذاننا الداخلية بمواعيد الله أنه معنا. أسرعنا في الطريق لا للزواج بليئة أو راحيل وإنما بالاتحاد مع الله في ربنا يسوع المسيح. "ونظر وإذا في الحقل بئر وهناك ثلاثة قطعان غنم رابضة عندها، لأنهم كانوا من تلك البئر يسقون القطعان، والحجر على فم البئر كان كبيرًا" [2]. اقترب يعقوب من حاران وإذا به يرى بئرًا في الحقل وثلاثة قطعان من الغنم رابضة تنتظر من يرفع الحجر الكبير الذي يغطى البئر حتى يسقى الكل منه. إن كان يعقوب يشير إلى السيد المسيح الذي جاء إلى العالم ليقتني راحيل الحقيقية -كنيسة العهد الجديد- عروسًا له. فإنه جاء إلى الحقل أي إلى العالم وكأن في الحقل بئرًا هي المعمودية المغلقة، إذ تحتاج إلى يعقوب ينزع عنها الحجر الكبير ويكشف سرها بحلوله فيها. أما القطعان الرابضة بجوار البئر تترجى مياهه وتنتظر من يرفع لها الحجر فهي ثلاثة جماعات راقدة على رجاء الخلاص هم: الآباء السابقون للناموس الموسوي مثل هابيل وأخنوخ وإبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف ومن سلك بإيمانهم، ورجال الناموس الموسوي الذين تلمسوا المسيا المخلص خلال الرموز والوصايا، والأنبياء الذين انفتحت أعينهم ليروا يعقوب الحقيقي قادمًا خلال روح النبوة. بمعنى آخر هذه القطعان الثلاثة التي جلست بجوار البئر تنتظر المسيا المخلص إنما هي: الناموس الطبيعي، والناموس الموسوي برموزه، والنبوات، جلس الكل عند البئر يدعون البشرية للتمتع بمياه المعمودية لنوال النبوة لله والدخول إلى الملكوت السماوي، لكنهم عاجزون عن تقديمهم. يشيرون إلى الملكوت بإصبعهم مترقبين مجيء المخلص مشتهى كل الأمم، العريس السماوي! إذ كان يعقوب يتحدث مع الرعاة أبصر راحيل قادمة ومعها غنم خاله لابان، فتقدم ودحرج الحجر عن فم البئر وسقى غنم خاله لابان. وقبّل يعقوب راحيل ورفع صوته وبكى وأخبرها أنه أخو أبيها وأنه ابن رفقة، فركضت وأخبرت أباها... وإذ جاء لابان قال له: "إنما أنت عظمى ولحمى فأقام عنده شهرًا". حديث يعقوب مع الرعاة والحجر قائم على فم البئر يشير إلى حديث كلمة الله مع رجال العهد القديم بطرق متنوعة، خلال الأحداث والرموز والنبوات، حتى إذ رأى مجيء كنيسة العهد الجديد قد حان، تقدم ودحرج الحجر عن فم البئر، مقدمًا للكنيسة أسراره الإلهية المقدسة. ولعل دحرجة الحجر أيضًا تذكرنا بما تم في يوم قيامته إذ قام والحجر على فم القبر، لكنه بعث بملاكه يدحرج الحجر لنشرب من ماء بئر قيامته، بدفننا معه وقيامتنا أيضًا معه، وكما يقول الرسول "مدفونين معه في المعمودية التي فيها أقُمتم أيضًا معه بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات" (كو 2: 12). قبّل يعقوب راحيل ورفع صوته وبكى... أيّة قبله هذه إلاَّ قبّل الحب العملي التي أعلنها حين صرخ على الصليب وأسلم نفسه لأجلها. هذه القبلة التي تشتهيها راحيل قائلة: "ليقبلني بقبلات فمه لأن حبك أطيب من الخمر" (نش 1: 2). أما إخباره لها أنه أخو أبيها إنما يشير إلى إعلان قرابته لنا خلال الصليب، إذ تمت المصالحة وصرنا أبناء أبيه السماوي! دخلنا مع السيد المسيح في قرابة خلال نعمة صليبه! أقام يعقوب عند لابان شهرًا، إذ كانت العادة أن يستضيف الإنسان الآخرين بحد أقصى هو شهر، بعده يُعامل الضيف كأحد أفراد العائلة، فلا يعامل معاملة الضيف بل يشاركهم الحياة اليومية العادية بما فيها من عمل وإن كان ينال أجرة عن عمله. في اختصار التقى يعقوب براحيل على مستوى يختلف عن لقائه مع الرعاة الجالسين بجوار البئر، من جوانب كثيرة: · التقى بها بعد رفع حجر الظلال والرموز ليدخل بها إلى كمال الحق! · التقى بها عند المياه لتدخل معه في علاقة القربى خلال سر المعمودية وتتمتع بالبنوة لله! · قبّلها ورفع صوته وبكى قبلة الصليب أي قبلة الحب العملي الذي فيه أسلم روحه من أجلها! · أعلن ذاته لها فقبلته ودخلت به إلى بيت أبيها! · سكن في بيت أبيها شهرًا... علامة الشركة معه كل أيام غربتنا حتى يدخل بنا إلى سمواته. 2. يعقوب يخدم خاله: إذ قضى يعقوب شهرًا كضيف وكان يعمل في بيت خاله لابان، "قال لابان ليعقوب ألأنك أخي تخدمني مجانًا؟! أخبرني ما أجرتك...؟! فقال أخدمك سبع سنين براحيل ابنتك الصغرى. فخدم يعقوب براحيل سبع سنين، وكانت في عينيه كأيام قليلة بسبب محبته لها" [25-20]. كان يمكن ليعقوب أن يقضي الشهر الأول كضيف لا يقوم إلاَّ بعمل بسيط، لكنه كرجل جهاد كان يبذل كل طاقته حتى شعر لابان أنه لا يستغني عنه فسأله أجرته... وكانت أجرته هي طلب ابنته الصغرى راحيل. كان يعقوب يمثل السيد المسيح الذي نزل إلى العالم كضيف وهو خالقه، وكان لا يزال يعمل في العالم من أجل الابنة الصغرى راحيل أي كنيسة العهد الجديد ليقتنيها لنفسه عروسًا. إذ كانت "ليئة" تعني (معياه) ربما بسبب مرض عينها، وراحيل تعني (شاه)، فإن يعقوب الحقيقي، حمل الله يطلب الشاه التي تقدست بدم الحمل. أما ليئة فقد فقدت جمالها بسبب ضعف عينها الداخليتين أو ضعف بصيرتها الروحية. قيل عن سنوات العمل التي قدمها يعقوب أنها: "كانت في عينيه كأيام قليلة بسبب محبته لها" [20]، وكما يقول القديس جيروم: [الحب يجعل لا شيء صعبًا، فالعمل صعب لمن يشتاق إليه ]. إن كان من أجل زواجه براحيل احتمل يعقوب سبع سنوات عمل وكانت كأيام قليلة، ثم عاد ليقضي سبع سنوات أخرى، فكم بالأحرى يليق بنا أن نقدم من أجل التمتع بملكوت الله بالاتحاد مع ربنا يسوع المسيح؟! 3. زواجه بليئة وراحيل: إذ أكمل يعقوب سبع سنين العمل كأيام قليلة طلب راحيل كزوجة حسب وعد أبيها، وإذ أقام لابان وليمة، قدم له في المساء ليئة ابنته وأعطاه زلفة جارية لها، وفي الصباح إذ اكتشف يعقوب خداع خاله له اعتذر له خال: "لا يفعل هكذا في مكاننا أن نعطي الصغيرة قبل البكر، أكمل أسبوع هذه فنعطيك تلك أيضًا نظير الخدمة التي خدمتني أيضًا سبع سنين أخر" [26-27]. إن كان يعقوب قد خدع أباه اسحق في شيخوخته فأخذ منه البركة عوض عيسو، حتى وإن كانت بقصد حسن وهدف روحي لكنه بالكيل الذي به كال لأبيه يُكال له... لهذا خُدع في زوجته من خاله، كما خدعه أولاده في أمر يوسف، وقضى يعقوب أغلب أيام حياته مرّ النفس! لم يكن الخداع صعبًا، إذ كانت العروس تزف في وليمة الزواج وهي مرتدية برقعًا أحمر... وفي الليل لم يكن سهلًا أن يميزها حيث النور الخافت أو الظلام... على أي الأحوال ما قد تم في أمر زواج يعقوب حمل عملًا رمزيًا نبويًا، وكما يقول الأب قيصريوس أسقف Arles: [هاتان الامرأتان اللتان تزوجهما يعقوب أي ليئة وراحيل تشيران إلى الشعبين. ليئة تشير لليهود وراحيل للأمم. والمسيح كحجر الزاوية ربط الشعبين كحائطين جاءوا من اتجاهين مختلفين... فيه وجدا السلام الأبدي، كقول الرسول: "لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحدًا" (أف 2: 14)]. هذا ويلاحظ أن السيد المسيح جاء من سبط يهوذا الذي ولدته ليئة [35]، إذ جاء السيد المسيح من الأمة اليهودية متجسدًا. لم تكن الشريعة بعد قد سُلمت، التي حرمت الزواج بأختين (لا 18: 18)، ولم يكن يعقوب يطلب تعدد الزواج، لكنه جاء من بيت أبيه يطلب زوجة واحدة، وفي خدمته للابان كان ينتظر راحيل كزوجة واحدة، أما التصاقه بالجواري فلم يكن عن شهوة جسد وإنما بسبب الحاجة إلى الأولاد إذ كان العالم في ذلك الوقت به قلة قليلة بالنسبة لحجمه. 4 . أولاد ليئة: ليس بدون هدف فتح الرب رحم ليئة لتنجب ليعقوب رأوبين فشمعون ولاوي ثم يهوذا لتتوقف عن الولادة فقد نظر الله إلى مذلتها إذ كان يعقوب يحب راحيل، فأعطى ليئة فرصة الالتقاء برجلها ليحبها من أجل أولادها. ومن جانب آخر فإن ليئة إذ تمثل اليهود فقد كان اليهود مخصبين في معرفة الرب، منهم خرج الآباء أو لأنبياء والكهنوت إلخ... أما راحيل فتمثل الأمم الذين كانوا قبلًا "عاقرًا" بلا ثمر روحي بسبب الوثنية. من ليئة جاء رأوبين البكر... إذ كان اليهود كبكر في عيني الرب حتى سحب الأمم منهم البكورية الروحية؛ ومنها جاء لاوي حيث الكهنوت، وأيضًا يهوذا إذ جاء السيد المسيح من اليهود... وهنا توقفت عن الولادة، إذ رفض اليهود السيد المسيح الخارج من سبط يهوذا فحدث توقف عن الإنجاب الروحي، ويبدو أن يعقوب قد هجرها إلى حين حتى أنجبت فيما بعد، ربما إشارة إلى رجوع اليهود عن جحدهم للسيد المسيح وقبولهم الإيمان المسيحي في أواخر الدهور. |
||||
08 - 12 - 2022, 06:26 PM | رقم المشاركة : ( 26 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر التكوين التاريخ البدائي
صراع في حياة يعقوب إن كان يعقوب قد دخل مع أخيه عيسو في صراع وهما بعد في الأحشاء (25: 22)، فقد قضى حياته كلها سلسلة لا تنقطع من الصراعات، فقد صارع مع عيسو واختلس منه البكورية والبركة، والآن هذا هو في أرض الغربة يعيش في جو عائلي مملوء صراعًا بين زوجتيه ليئة وراحيل، ويدخل في صراع مع أبيهما بسبب أجرته، ويبقى هكذا كل حياته مصارعًا. 1. صراع بين ليئة وراحيل: إذ كانت ليئة ضعيفة العينين، أكبر سنًا من راحيل وأقل منها جمالًا أعطاها الرب أولادًا حتى ينزع كراهية يعقوب لها (29: 31)، الأمر الذي أثار غيرة راحيل أختها فقالت لرجلها: "هب لي بنين وإلاَّ فأنا أموت" [1]. فتمررت نفس يعقوب إذ يود رِضَى راحيل التي يحبها، وها هي تطلب منه ما لا يستطيع، لذا في غضبه قال: "ألعلي مكان الله الذي منع عنك ثمرة البطن" [2]. وإذ قدمت له جاريتها بلهة لينجب لها بنينًا خلالها دخل في صراعات مستمرة بين راحيل وليئة... كل منهما تود أن يكون لها بنين أكثر من الأخرى. أما سر الصراع فهو: أولًا: ربما سمعت الزوجتان من يعقوب الكثير عن وعود الله لإبراهيم وإسحق ويعقوب وما يتمتع به نسلهم من ميراث لأرض الموعد وبركة بمجيء المخلص من نسلهم، فكان الصراع يقوم على أساس شوق كل منهما أن يحظى نسلها بالوعد الإلهي، ويتحقق فيه المواعيد الزمنية والروحية. ثانيًا: من جانب ليئة كانت تشعر أنها مكروهة، وأن يعقوب رجلها من حقها وحدها، لكن راحيل اغتصبت قلبه، فتشعر أن كثرة البنين يفتح قلب رجلها نحوها. هذا ما ظهر واضحًا عندما طلبت راحيل من ليئة أن تعطيها من لفاح ابنها [14] إذ أجابتها: "أقليل أنك أخذتِ رجلي فتأخذين لفاح وبني أيضًا؟!" [15]... وكأن ليئة كانت تشعر بأن راحيل أخذت منها رجلها. ويبدو أن يعقوب كان قد هجر ليئة إلى حين إذ قبلت أن تعطي راحيل لفاح ابنها رأوبين مقابل ترك يعقوب ليلة، كطلب راحيل نفسها [15]. أما موضوع اللفاح الذي وجده رأوبين في الحقل وجاء به إلى أمه [14] فهو نبات يسمى "تفاح الجن" أو "تفاح المحبة"، شكله كالتفاح يسمى أيضًا "اليربوح" وكان الاعتقاد سائدًا أنه يجلب محبة الزوج لزوجته إذا أكلت منه. ثالثًا: من جهة راحيل فقد امتلأت من جهة أختها التي أنجبت أربعة بنين بينما هي عاقر... وقد سمح الله بعقر راحيل ليعطي فرصة لانفتاح قلب يعقوب من جهة ليئة، ولتكون رمزًا لكنيسة العهد الجديد التي جاءت من الأمم الذين كانوا قبلًا بلا ثمر روحي، وقد وهبها أبناء، إذ يقول الكتاب: "وذكر الله راحيل وسمع لها الله وفتح رحمها، فحبلت وولدت أبنًا فقالت: قد نزع الله عاري، ودعت اسمه يوسف قائلة: يزيدني الرب أبنًا آخر" [22-23]. صارت رمزًا لكنيسة العهد الجديد التي أنجبت يوسف، ويعني "نمو" أو "زيادة" إذ تطلب حياة النمو بلا انقطاع، وتشتاق أن تثمر على الدوام! وفي وسط هذا الصراع المرّ بين راحيل وليئة بلا شك تمررت نفس يعقوب محاولًا الرضاء بين الطرفين، فعرف مرارة نفس أخيه الذي صارع معه ليأخذ منه البكورية والبركة... وهنا لا ننكر الأخطاء التي ارتكبتها راحيل في صراعها حتى أنجبت يوسف، ألا وهي: أولًا: سقطت راحيل في اليأس عوض إلقاء رجائها على الله، وطلبت من رجلها ما هو من حق الله وحده إذ قالت له: "هب لي بنين وإلاَّ فأنا أموت" [1]، كأنها تقول له: هب لي بنين وإلا فأحسب كميته... ما فائدة حبل لي وأنا بلا نسل أو أبن يرثنا؟! ثانيًا: تسرعت راحيل فألزمت رجلها أن ينجب لها خلال جاريتها ففتحت لنفسها مجالًا للصراع من جديد مع أختها ليئة وجاريتها هي أيضًا. ثالثًا: اتكلت على المعتقدات العامة الخاطئة، فظنت في أكل اللفاح ما يجلب حب رجلها لها، ربما لأنها خشيت أن يتركها رجلها إن شاخت ولم تنجب له بنين! أخيرًا يبدو أنها ألقت رجاءها على الله عندما فشلت الطرق البشرية البحتة خارج دائرة الإيمان، عندئذ فتح الله رحمها ووهبها أبنًا دعته: "يوسف" أي "النمو" أو "الزيادة"، واثقة في الله الذي يعطي ولا يتوقف. فيما يلي بيان بأبناء يعقوب ومعنى أسمائهم وعلة التسمية: هكذا بدأ نسل يعقوب بالبكر جسديًا رأوبين الذي يعلن أن الله رأى مذلتنا فوهبنا ثمرًا، ويظل يهبنا حتى ننعم ببنيامين، أي نبلغ خلال الألم إلى يمين الله شركاء في المجد الأبدي. وقد لاحظ بعض الآباء على أبناء يعقوب الآتي: أولًا: جاء الترتيب هنا بحسب السن، فبدأ بالبكر جسديًا وانتهى بالأصغر بنيامين، أما في التعداد الوارد في سفر الرؤيا فجاء الترتيب هكذا: أبناء ليئة فأبناء راحيل ثم أبناء الجاريتين دون التزام بتاريخ ميلادهم. وكأن الله أراد أن يؤكد أن الأمجاد الإلهية لا تُعطي بحسب السن إنما حسب النمو الروحي والاتحاد العملي مع الله. ثانيًا: رأى بعض الآباء أن لأثنى عشر أبنًا كان لهم أخت واحدة "دينة" من ليئة [21]، أو على الأقل لم يذكر الكتاب سواها، فإن كان الأبناء الذكور يشيرون إلى ثمر الروح فإن الابنة تشير إلى ثمر جسدي. دينة هذه وهي وحيدة بسببها دخل يعقوب وأولاده في صراع مع أهل شكيم (ص 34)، وكأن الجسد ما لم يضبط ويتقدس يفسد سلام الروح ويفقدها ثمرها المتكاثر. 2. يعقوب يطلب أجرته: ما أنجبت راحيل حتى بدأ شيء من الاستقرار العائلي بين الزوجتين، فصارت ليئة تشعر باقتران رجلها بها بسبب كثرة البنين وراحيل قد انطفأت غيرتها بهذا الابن "يوسف". هنا بدأ يعقوب يفكر في العودة إلى أرض كنعان، قائلًا للابان خاله: "اصرفني لأذهب إلى مكاني وإلى أرضي، أعطني نسائي وأولادي الذين خدمتك بهم فأذهب، لأنك أنت تعلم خدمتي التي خدمتك" [26]. كانت هذه الكلمات تحمل عتابًا حازمًا ورقيقًا في نفس الوقت، فقد قضى 14 سنة يخدمه ليتزوج بنتيه، وحوالي ست سنوات لا يأخذ شيئًا سوى طعام زوجتيه وأطفاله، والآن يخرج ومعه إحدى عشر أبنًا وأيضًا ابنة ومعه زوجتاه لا يملك شيئًا من الغنم. كان لابان يدرك بركة الرب العاملة في بيته بسبب يعقوب، إذ يقول له: ليتني أجد نعمة في عينيك، قد تفاءلت فباركني الرب بسببك" [27]. "وقال: عين لي أجرتك فأعطيك" [28]. هنا طلب يعقوب أن تكون له كل شاه بلقاء (أي تكون النقط السوداء والبيضاء منتشرة بالتساوي تقريبًا) ورقطاء (أي سوداء يشوبها نقط بيضاء) وسوداء، وأيضًا كل معزى بلقاء ورقطاء... وهذه الأصناف كانت قليلة في الشرق، فاختار لنفسه القليل ليترك الكثير للابان. إذ أفرز يعقوب ما اتفق عليه مع لابان وصار بين قطيعه وقطيع خاله "مسيرة ثلاثة أيام" [36]، أي حوالي 40 ميلًا. هذا يكشف مدى الغنى الذي وصل إليه لابان حتى اضطر الأمر إلى عزل القطيعين كل هذه المسافة، هذا الذي لم يكن يملك إلا قطيعًا صغيرًا تقوده أبنته الصغرى راحيل لتسقيه في يوم مجيء يعقوب من بيت أبيه. كان لكي يغتني يعقوب يلزمه أن يعتزل خاله مسيرة ثلاثة أيام، وكما سبق فقلنا أن الثلاثة أيام تشير إلى شركة القيامة مع السيد المسيح القائم في اليوم الثالث، وكأنه لكي ينعم الرب بالبركة يلتزم أن يمارس الحياة المقامة أو الحياة الجديدة التي له في المسيح يسوع الذي يحرم منها لابان. إن كان يعقوب قد استخدم مكرًا بوضع القضبان المخططة من نباتات اللبني (وهو نبات له لبن كالعسل يسمى الميعة) واللوز والدلب (ويسمى بالعبرية عرمون وهو نبات يوجد في السهول وعلى شواطئ الأنهار) عندما يأتي القطيع ليشرب متى كان القطيع سمينًا وقويًا أو في فترة الربيع حيث المراعي الغنية، لكي في وحمها تنجب أغنامًا رقطاء وبلقاء... فإن سر غناه الحقيقي هو بركة الرب. لنخرج خارج محبة العالم ملتصقين بالرب القائم من الأموات فنكون كيعقوب الذي أنطلق مسيرة ثلاثة أيام، فقيل عنه: "فاتسع الرجل جدًا، وكان له غنم كثير وجوار وعبيد وجمال وحمير" [34]. بالحياة الجديدة التي لنا في المسيح يسوع يكون لنا غنى روحي وفيض بتقديس حواسنا وعواطفنا ومواهبنا وكل طاقاتنا لحساب مملكته! العودة إلى كنعان إن كان يعقوب يشير إلى السيد المسيح فإنه يضم إليه كنيسة العهد الجديد (راحيل) بأبنائها وكنيسة العهد القديم (ليئة) بأبنائها ليحمل الكل معًا إلى كنعان السماوية... لكن لابان الوثني الذي يمثل إبليس لا يستطيع أن يقبل هذا الموكب السماوي فينطلق بجنوده ليعوقه فيفشل تمامًا. شعر بنو لابان أن يعقوب أخذ كل ما كان لأبيهم وصنع لنفسه كل هذا المجد [1]، الأمر الذي جعل وجه لابان يتغير بالنسبة ليعقوب... في ذلك الوقت "قال الرب ليعقوب ارجع إلى أرض آبائك وإلى عشيرتك، فأكون معك" [3]. بلا شك كان قلب يعقوب ملتصقًا بأرض كنعان كأرض الموعد التي وعد الله إبراهيم أن تكون لنسله، فكان يشتاق أن يتزوج راحيل ليعود فيرث، وقد مرت السبع سنوات الأولى فالثانية، الآن له عشرون عامًا، وكان لا بُد أن يخرج من حاران وينطلق... لقد صارت له الزوجة المحبوبة ولديه الأولاد ومعه غنم ومواشي كثيرة له عبيد وجوارٍ، فكيف يخرج؟ لقد حدثه الرب بلغة العمل إذ سمح بإثارة لابان وأولاده ضده ليشعر بالغربة وينطلق، وفي نفس الوقت تحث معه على ما يبدو خلال رؤيا في حلم يأمره بالخروج [12-13]. وقد أدرك يعقوب أن ما يمر في حياته ليس جزافيًا أو محض الصدفة إنما بتدبير إلهي وسماح إلهي حتى تتحقق غاية الله فيه. إن كان ما أظهره لابان وبنوه كان بدافع الحسد بروح شرير لكن يعقوب تلمس أن ما حدث جاء في الوقت المناسب. ليس شيء في حياتنا يسير هكذا إلاَّ لصالحنا إن سلمنا حياتنا في يديه، الأمر الذي لمسه الرسول بولس فقال: "نحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله" (رو 8: 28). أرسل يعقوب ودعا زوجتيه راحيل وليئة إلى الحقل إلى غنمه حتى إذ تدركان غناه يقبلان مشورته منطلقين بأولادهما معه... لقد كشف لهما بروح التفاهم عن تغير وجه أبيهما من نحوه وذكر لهما كيف خدم أباهما بأمانة وكان أبوهما يغدر به أي يحنث بوعده مرارًا كثيرة، وكيف امتدت يد الله لتسلب مواشي أبيهما وتعطيه... وأخيرًا فقد دعاه الله للعودة إلى أرض ميلاده وهو ملتزم بالطاعة. ويظهر من حديثه معهما أنهما تعرفان قصة الحلم الذي رآه عند هروبه من وجه أخيه ومسحه للعمود في بيت إيل ونذره نذرًا [13]... وكأن يعقوب بأحاديثه السابقة مع زوجتيه قد هيأ قلبيهما وذهنيهما لقبول الخروج طاعة لله... إذ كان ختام حديثهما معه: "كل ما قال الله لك افعل" [16]. يمكننا القول أن طاعة راحيل وليئة ليعقوب وتحاملهما على أبيهما لم يكن وليد ساعة معينة، إنما هو ثمرة إدراكهما لمعاملات الله المستمرة مع رجلهما، وتفاهمهما معه قبلًا حول نوال البركة وتمتعه بمواعيد الله واشتياقه للرجوع إلى الموعد وتقديم نذره في بيت إيل... فجاء الحديث الأخير متجاوبًا مع فكر داخلي يملأ عقليهما. بمعنى آخر، نجح يعقوب في كسب عائلته لحساب الرب وتهيئة حياتها للطاعة لله بفرح. شعت راحيل وليئة أن أباهما عاملهما كغريبتين، فعوض أن يهبهما مما له باعهما بخدمة رجلهما الأمين سبع سنوات فسبع أخر... فصارتا مشجعتين ليعقوب على الرحيل. للحال "قام يعقوب وحمل أولاده ونساءه على الجمال، وساق كل مواشيه وجمع مقتناه الذي كان قد اقتنى، مواشي اقتنائه التي اقتنى في فدان آرام ليجئ إلى إسحق أبيه إلى أرض كنعان... فهرب هو وكل ما كان له وقام وعبر النهر وجعل وجهه نحو جبل جلعاد" [17-21]. إن كان يعقوب يمثل السيد المسيح الذي جاء إلى أرضنا كما إلى حاران وأخذنا من أبينا القديم أي إبليس - لابان عابد الأوثان - فإنه اقتنانا كعروس له، سواء كنا من الأمم كراحيل أو من اليهود كليئة، ليحملنا بأولادنا أي ثمار الروح وغنمنا أي ثمار الجسد المقدس وكل ما أقتناه فينا من تقديس للحواس والفكر والمواهب والطاقات. ينطلق بنا من أرضنا من فدان آرام ليعبر بنا لا نهر الفرات كيعقوب وإنما نهر المعمودية المقدسة وقد جعل وجهه لا نحو إسحق إنما نحو حضن الآب لنوجد معه في سمواته أبديًا! هذا هو يعقوبنا الجديد الذي جاء إلينا ولا يستريح حتى ينطلق بنا إلى حيث أمجاده السماوية، يحملنا لكن ليس قسرًا إنما بإرادتنا كما فعلت راحيل وليئة مع يعقوب. لنشعر نحن أيضًا بذات شعور هاتين الزوجتين، لنقل معهما أن أبينا القديم عدو الخير قد عاملنا كغرباء، وباعنا إذ سلبنا حياتنا وحريتنا وأمجادنا ها هو يحتال لكي يأسرنا في ملكوته... لنهرب مع يعقوبنا من سلطانه، ولننطلق بالروح القدس عابرين مياه المعمودية لندخل إلى أبينا الجديد الآب السماوي القدوس فننعم بميراثه عوض ميراث أبينا القديم المهلك! 2. لابان يسعى وراء الموكب: إن كان يعقوب قد انطلق كهارب من وجه لابان، لكنه كان يقود موكب الكنيسة المجاهدة والمنتصرة بي وفيه، وكما يقول الرسول بولس: "ولكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان" (2 كو 2: 14). هذا الموكب كما يقول الأب قيصريوسأسقف Arles: [يثير عدو الخير الذي لا يحتمل أن يرى السيد المسيح حاملًا البشرية، بل يتعقبه. فإن كنا قد قبلنا السيد المسيح كقائد روحي يحملنا فيه للنصرة منطلقًا بنا إلى أحضان أبيه، لا يقف عدو الخير متفرجًا بل يتعقب حياتنا لعله يجد في داخلنا له شيئًا فيمسك بنا ويطالب بنا كأننا له، أو أولاده!]. والعجيب أن لابان إذ كان قد مضى ليجز غنمه [19]، سرقت راحيل أصنامه أي الترافيم التي كان يقيمها في خيمته أو بجوارها، ولم يشعر بهروب يعقوب ومن معه إلاَّ في اليوم الثالث [22]. كان لابان - كممثل لعدو الخير - يجز غنمه، فإن كان إبليس يبذل كل الجهد ليقتني كل نفس كغنيمة له إنما ليجزها ويأخذ صوفها لحساب مملكته، إنه مستغل لتابعيه! أما راحيل فتشير لكنيسة الأمم التي استطاعت أن تسرق آلهته منه إذ حطمت أوثان أبيها التي عاشت تتعبد لها زمانًا طويلًا قبل مجيء السيد المسيح. وأما عدم شعوره بهروب يعقوب إلاَّ في اليوم الثالث إنما يشير إلى عدم إمكانية عدو الخير أن يتعرف بحق على سر عمل المسيح الخلاصي إلاَّ بقيامة السيد من الأموات (في اليوم الثالث). لم يدرك العدو غلبة السيد المسيح ونصرته على الصليب إلاَّ حين عرف أنه القيامة، واهب الحياة! إذ عرف لابان بهروب يعقوب في اليوم الثالث "أخذ أخوته معه وسعى وراءه مسيرة سبعة أيام، فأدركه في جبل جلعاد، وأتى الله إلى لابان الأرامي في حلم في الليل، وقال له: احترز من أن تكلم يعقوب بخير أو بشر" [23-24]. إن كان العدو قد أدرك موكب نصرتنا حينما عرف عن السيد المسيح كواهب القيامة، فإنه عوض أن يتراجع أخذ أخوته معه وانطلق وراءنا سبعة أيام، كأن العدو يستخدم كل وسيلة ويستغل كل أحد ليحارب موكب النصرة، ويبقى في تعقبه سائرًا سبعة أيام، أي يحاربنا كل أيام الأسبوع بلا راحة. يحاربنا مادمنا في العالم لم نخلع بعد الجسد ولا يستريح قط آملًا أن يقتنصنا لحساب مملكته ويردنا عن طريق خلاصنا. لم تكن الحرب أو الخصومة بين يعقوب ولابان، فهي ليست خصومة شخصية، بل هي بين مملكة الله ومملكة إبليس، لذلك تدخل الله نفسه في الوقت المناسب وأنذر لابان حتى لا يمس رجله يعقوب. 3. لابان يطلب ما له فينا: عاتب لابان يعقوب لأنه أخذ بنتيه كسبايا الحرب وهرب بهما ولم يدعه يقبلهما مع أولادهما، متهمًا إياه بالغباوة أو الحماقة، إذ كان يود أن يودعه بالأغاني والدف والعود... لكنه من الواضح أن لابان لم يكن يترك يعقوب وعائلته ينطلقون هكذا ربما كان يعوقه كما قال يعقوب نفسه. على أي الأحوال كان السؤال الرئيسي بعد إعلانه أنه عاجز عن أن يصنع بيعقوب شرًا بسبب ظهور الله له في حلم وتحذيره... هو: "لماذا سرقت آلهتي؟" [30]. وكانت إجابة يعقوب: "الذي تجد آلهتك معه لا يعيش، قدام اخوتنا انظر ماذا معي وخذه لنفسك" [32]. لم يعلم يعقوب أن راحيل كانت قد سرقت آلهة أبيها... والآن قد وضعتها في رحل الجمل أو حداجه وجلست عليها مدعية أنها غير قادرة على الوقوف بسبب مرضها الشهري. وكما قلنا أن راحيل تمثل الكنيسة القادمة من الأمم حيث العبادة الوثنية وقد حطمت الأوثان تحت قدميها! لقد طلب يعقوب أن يفتش لابان في أمتعته وأمتعة أسرته، فمن وجد آلهته عنده لا يعيش بل يأخذه كعبد له... وكما يقول الأب قيصريوس أسقف Arles: [ليت مراحم الله تدركنا وتمنحنا ألا يجد الخصم فينا شيئًا مما له، فإنه بهذا لا يقدر أن يعوقنا عنده ولا أن يردنا عن الحياة الأبدية]. احتج يعقوب على لابان مشهدًا القوم على أمانته له في خدمته كل هذه العشرين عامًا، إذ يقول: "الآن عشرين سنة خدمتك، نعاجك وعنازك لم تسقط، وكباش غنمك لم آكل. فريسة لم أحضر إليك، أنا كنت أخسرها، من يديَّ كنت تطلبها، مسروقة النهار ومسروقة الليل. كنت في النهار يأكلني الحرّ وفي الليل الجليد طار النوم من عيني... وقد غيرت أجرتي عشر مرات" [37-41]. هكذا يعلن يعقوب مدى أمانته في خدمته للابان على مدى عشرين عامًا، مقدمًا صورة حية لا لراعي الخراف غير العاقلة فحسب إنما لكل إنسان خاصة المؤتمن على رعاية النفوس، كيف يحتمل حرّ النهار وجليد الليل كي لا يسمح بافتراس نفس واحدة أو سرقة قلب واحد! أقول تبقى عبارات يعقوب توبخ كل خادم في كرم الرب... فإن كانت الخراف غير الناطقة هكذا ثمينة في عيني يعقوب، فكم بالأولى أن تكون كل نفس في أعيننا؟! لقد غير لابان الأجرة عشر مرات أي مرات كثيرة أما يعقوب فلم يتغير عن أمانته... وهكذا يليق بنا ألا نرعى من أجل الأجرة أيًا كانت: مادة أو كرامة! لنبق أمناء من أجل خلاص كل نفس. ما أجمل الكلمات التي سجلها لنا القديس يوحنا الذهبي الفم بخبرته العملية كما بقلمه: [إني أب مملوء حنوًا... أسمعوا ما يطلبه بولس: "يا أولادي الصغار الذي أتمخض بهم" (غل 4: 19). كل أم تصرخ وهي تتمخض في ساعة الولادة، هكذا أفعل أنا أيضًا]. 4. قطع العهد: رأى لابان أنه من الحكمة أن يقيم عهدًا مع يعقوب صهره حتى لا يسئ أحدهما إلى الآخر، وقد أقام يعقوب عمودًا، ثم عملوا رجمة (كومة) من الحجارة ليأكلوا عليها وليمة مصالحة، ويكون العمود والرجمة شهادة وتذكارًا للميثاق الذي قطعاه. دعى لابان الرجمة بالسريانية يجر سهدوثا، ويعقوب بالعبرية جلعيد، وكلا التعبيرين يعنيان "رجمة الشهادة"، كما دعيت بالعبرية مصفاة بمعنى "برج المراقبة"، كأن الله يكون رقيبًا عليهما. إن كان يعقوب ولابان قد أقاما عمودًا ورجمة كشهادة للصلح وأكلا هناك معًا علامة السلام، أي اشتركا معًا في خبزة واحدة كما في دم واحد، فإن هذا العمود يشير إلى صليب ربنا يسوع الذي ارتفع على جبل الجلجثة مقدمًا جسده ودمه ذبيحة حب لنا. صالحنا السيد المسيح مع الله أبيه في جسده ببذله عنا وتقديمه طعام حب فائق، قادر أن يرفعنا إلى الإتحاد مع الله الآب بالثبوت فيه! ويبقى الصليب وتبقى جراحات الرب ويبقى جسده ودمه الأقدسين شهادة حق لهذه المصالحة على مستوى أبدي، وعلامة الميثاق الجديد الذي صار لنا الذي ندعوه "بالعهد الجديد" (مت 26: 28؛ لو 22: 20؛ 1 كو 11: 25). هذا العهد قبلناه ونلتزم به، وكما يقول الرسول بولس: "كم عقابًا تظنون أنه يحسب مستحقًا من داس ابن الله، وحسب دم العهد الذي قدس به دنسًا، وازدرى بروح النعمة؟!" (عب 10: 29)]. 5. انصراف الفريقين: "ثم بكر لابان صباحًا وقبل بنيه وبناته وباركهم ومضى ورجع لابان إلى مكانه" [55]. في نهاية الموقف رجع لابان إلى مكانه، وذهب يعقوب في طريقه... لقد وضع لابان قلبه في حاران، ووضع يعقوب قلبه في أرض الموعد، فأعطى الله لكل واحد سؤال قلبه، الله لا يحابي إنسانًا، من وضع قلبه في التراب يسمع الصوت الإلهي: "لأنك تراب وإلى التراب تعود" (تك 3: 19)، أو "لأنك أرض وإلى الأرض تعود"، أما من وضع قلبه في السماء فيسمع الصوت الإلهي: "لأنك سماء وإلى السماء تعود". إنه يعطينا حسبما يشتهي القلب وأينما ينطلق، فإن انحدر هابطًا إلى الزمنيات تحولت حياتنا إلى الفساد الزمني، وإن أنطلق مرتفعًا نحو السماء تتحول حياتنا كلها إلى السمويات! |
||||
10 - 12 - 2022, 06:23 PM | رقم المشاركة : ( 27 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر التكوين التاريخ البدائي
الاستعداد لملاقاة عيسو إن كان يعقوب قد ارتبك جدًا وخاف من لقائه مع أخيه عيسو، لكن الله هيأ قلبه لهذا اللقاء بظهوره لخاله لابان مؤكدًا له أنه هو الحافظ له والمدبر لحياته، وفي الطريق ظهر الله له وسمح له بمصارعته ليهبه اسمًا جديدًا تحمله كنيسة العهد القديم عبر الأجيال. "وأما يعقوب فمضى في طريقه ولاقاه ملائكة الله، وقال يعقوب إذ رآهم: هذا جيش الله، فدعا اسم المكان محنايم" [1-2]. إن كان لابان قد عاد مع أخوته إلى أرضه التي وضع قلبه فيها، فإن يعقوب بدوره انطق مع أسرته وكل ممتلكاته نحو الكنعان، وكأنه منطلق نحو كنعان السماوية، نحو أرض الموعد، لذا لاقته ملائكة الله. يعقوب يمثل الكنيسة المتغربة على الأرض تنطلق بقلبها وبأعضائها وبكل ما لها نحو حضن الآب بالروح القدس خلال اتحادها في المسيح يسوع رأسها وثبوتها فيه، تسير مختفية في مسيحها ومستندة أيضًا. بجيشه (ملائكة الله). هذا ما نظره يعقوب، إذ قال: "هذا جيش الله"... فنحن نسير في موكب إلهي ترافقنا الملائكة المحبين لخلاصنا. يبدو أن عدد الملائكة كان ضخمًا حتى دعاهم يعقوب "جيش الله"، وقد دعى الموضع "محنايم" ويعني "معسكرين" أو "محلتين"، إذ كان يعقوب بقومه يمثل جيشًا منظورًا، والملائكة الحافظة لهم تمثل جيشًا إلهيًا غير منظور. يرى العلامة أوريجانوسأن الكنيسة وهي تضم خائفي الرب إذ تجتمع معًا تجتمع أيضًا ملائكة الله التي تحوط بخائفيه، فيكون مع الكنيسة المنظورة الكنيسة من الملائكة غير منظورة... يجتمع الكل معًا في المسيح يسوع حجر الزاوية، الذي يوّحد الأرضيين مع السمائيين. هكذا تصير الكنيسة "محنايم" أي تصير معسكرين (أو محلتين) متحدين معًا. 2. يعقوب يبعث رسلًا لأخيه: إن كان الله قد أعطى يعقوب درسين، الأول خلال ظهوره للابان القادم إليه ليصنع به شرًا إذ أوقفه عن هذا العمل، والثاني بظهور ملائكة الله له، فإن يعقوب في ضعفه البشري كان يخاف غضب أخيه فأرسل أليه رسلًا ليختبر شعوره نحوه. وكان عيسو في أرض سعير في بلاد أدوم، والاسمان يخصان عيسو نفسه، كان يُدعى سعير أي كثير الشعر، وأدوم تعني أحمر أو دموي (تك 25: 25). وربما دعيت المنطقة سعير بسبب كثرة الأشجار كأنها أشبه بالشعر الذي يغطي الجسم، وقد امتدت بلاد سعير من خليج العقبة إلى البحر الميت، وكانت ملكًا للحويين (تك 14: 6)، استولى عليها عيسو. أرسل يعقوب الرسل وبعث معهم رسالة استعطاف دون استشارة الرب أو طلب عون له... وإن كان في رسالته استخدم روح المحبة والاتضاع، ملقبًا أخاه "سيدي". سمع عيسو الرسالة وكان غنيًا جدًا حتى خرج للقاء أخيه ومعه أربعمائة رجل من عبيده، الأمر الذي أرعب قلب يعقوب فضاق به الأمر [7]، ففكر في تقسيم موكبه إلى جيشين حتى إذا هاجم عيسو الجيش الأول يهرب الآخر، كما فكر في تقديم هدية محبة استرضاءً لأخيه. لا يُلام يعقوب في تدبيره للأمر، خاصة وأنه عمل بحكمة وفي اتضاع، لكنه يُلام على عدم استشارته للرب! 3. يعقوب يلجأ لله إله أبيه: إذ ضاق الأمر بيعقوب وخشى أخاه عيسو التجأ إلى الله بالصلاة وجاءت صلاته قوية وفعالة، إذ اتسمت بالآتي: أولًا: يتحدث مع الله خلال العلاقة الشخصية فيدعوه: "يا إله أبي إبراهيم وإله أبي إسحق" [9]. لا يتحدث مع الله بكونه إلهًا معتزلًا البشرية، ولا كمحب للبشر بوجه عام، بل كآب له ولعائلته. ما أجمل أن يشعر الإنسان أنه على مستوى العلاقة الشخصية مع الله، الأمر الذي وضح في حياة القديس أغسطينوس حتى قال في إحدى مناجاته أنه يتخيل كما لو لم يوجد في العالم غير الله وهو؛ يهبه الله كل الحب، ويرد هذا الحب بتقديم كل قلبه لله. ثانيًا: يُذكر الله بمواعيده: "الرب الذي قال لي أرجع إلى أرضك وإلى عشيرتك فأحسن إليك" [9]. يفرح الله بأولاده الذي يصرون على تحقيق المواعيد الإلهية ويتمسكون بها في دالة البنوة. ثالثًا: يشعر في صلواته بالضعف أمام غنى محبة الله الفائقة، وكأنه يخجل أن يطلب بعد شيئًا، إذ يقول: "صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التي صنعت إلى عبدك" [10]. فما يطلبه الآن إنما هو امتداد للتمتع بغنى محبة الله العملية التي ذاقها وذاب فيها! لا يطلب كمن له حق أو كمن يسأل الله أن يرد له شيئًا عن عمل صالح فعله، إنما يسأله أن يعطيه كما قد عوده كل أيامه السابقة، إذ كان ولا يزال غنيًا وسخيًا في عطائه له. رابعًا: يقول يعقوب: "فإني بعصاي عبرت هذا الأردن والآن قد صرت جيشين" [10]. حين ترك يعقوب بيت أبيه خرج فارغ اليدين لا يملك سوى عصا في يده، والآن يرجع بجيشين عظيمين. وكأنه بالمؤمن وقد أنطلق من العالم يحمل في قلبه عصاه أي صليبه كسر قوته، خلال هذه العصا الإلهية التي صارت له يصير في عيني الله كجيشين عظيمين، إذ يتقدس بروحه كما بجسده، وتقدم الروح كل طاقاتها كما يقدم الجسد كل حواسه مقدسة في الرب! ويرى الأب قيصريوس في منظر يعقوب وهو خارج بعصا ليعود بجيشين صورة رمزية للسيد المسيح، إذ يقول: [استخدم يعقوب عصاه ليقتني زوجته، أما المسيح فحمل خشبة الصليب ليخلص الكنيسة]. أخيرًا: بعد أن نسب الله لنفسه وعائلته، وبعد أن ذكره بمواعيده الإلهية، وأعلن حقه في المواعيد لا عن بر صنعه إنما عن غنى محبة الله المتزايدة، وبعد أن تحدث عن الجانب الإيماني الخاص بفاعلية الصليب (عصاه) أخيرًا سأله أن ينجيه! ليتنا لا نعرض مشاكلنا ومتاعبنا واحتياجاتنا إلاَّ بعد تقديم ذبيحة شكر لله والتمتع بحديث وديّ معه واستعراض أعماله العجيبة معنا! 4. يعقوب يرسل هدية لأخيه: بحكمة بعث يعقوب إلى أخيه هدية محبة يطفئ بها لهيب الغضب الذي اشتعل منذ حوالي عشرين عامًا، مقتنيًا محبته مقابل حوالي 580 رأس غنم وبقر وآتان إلخ... وقد أرسل الهدية مجزئة، كل هدية تليها هدية حتى يأسر قلب أخيه. ومع الهدية قدم اتضاعًا، إذ سأل حاملي الهدايا أن يقولوا: "لعبدك يعقوب هو هدية مرسلة لسيدي عيسو، وها هو أيضًا وراءنا" [18]، "وتقولون: هوذا عبدك يعقوب أيضًا وراءنا، لأنه قد استعطف وجهه بالهدية السائرة أمامي وبعد ذلك أنظر وجهه، عسى أن يرفع وجهي" [20]. ليتنا إن أمكن نسالم جميع الناس، فنكسب كل واحد كصديق لنا بأمور هذا العالم الزائل، وبروح الاتضاع الذي يرفعنا في عيني الله والملائكة والناس أيضًا! أخيرًا أخذ يعقوب امرأتيه وجاريتيه وأولاده الأحد عشر وعبر مخاضة يبوق، أي نهر يبوق، ويعني "المتدفق" هو أحد روافد نهر الأردن يبعد حوالي 23 ميلًا شمالي البحر الميت، يدعى الآن الزرقاء. 5. يعقوب يصارع الله: "فبقى يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر" [24]. إذ اجتاز يعقوب وأسرته نهر يبوق انفرد للخلوة، وكأنه كان يستعد للقاء عيسو خلال لقائه مع الله، وقد ظهر له إنسان، يرى غالبية الدارسين أنه ملاك على شكل إنسان، وليس كلمة الله، لكنه يمثل الحضرة الإلهية، إذ يقول يعقوب: "لأني نظرت الله وجهًا لوجه ونجيت نفسي" [30]، كما قيل له: "لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت" [28]. "ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه، فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه" [25]. بمعنى رأى الملاك أن يعقوب في جهاده لم يستسلم بل صار يصارع طول الليل... الأمر الذي بدا فيه الملاك كمن هو مغلوب والإنسان كغالب، فضربه على حق فخذه ضربة خفيفة حتى جاءت في بعض الترجمات "لمس حق فخذه"، وكان يعقوب يصر "لا أطلقك إن لم تباركني" [26]. إذ أدرك أنه كائن سماوي. يعلق القديس أغسطينوسعلى هذا التصرف فيقول: [لماذا صارع يعقوب معه وأمسك به؟ لأن "ملكوت السماوات يُغصب والغاصبون يختطفونه" (مت 11: 12). لماذا صارع...؟ لكي يمسك به بتعب، فما نناله بعد جهاد نتمسك به أكثر ]. كما يقول: [الإنسان غلب والملاك أنهزم. الإنسان الغالب يمسك بالملاك ليقول: لا أطلقك إن لم تباركني. يا له من سر عظيم! فالمهزوم يقف ليبارك الغالب! إنه منهزم لأنه أراد ذلك لكي يظهر في الجسد ضعيفًا، وإن كان بعظمته قويًا، فقد صُلِبَ في ضعف وقام في قوة (2 كو 13: 4)]. وكأن ما حدث مع يعقوب قبيل لقائه مع عيسو ليغلبه بالحب إنما يشير إلى عمل السيد المسيح الذي جاء كضعيف يحمل طبيعتنا، ويحتل آخر الصفوف، فيحصى مع الآثمة، ويحمل عار الصليب كمغلوب، لكنه هو القائم من الأموات يبارك طبيعتنا ويجددها فيه! ويرى القديس أمبروسيوس أن ما حل بيعقوب حيث انخلع فخذه إنما يشير إلى شركة آلامه مع السيد المسيح الذي يأتي متجسدًا خلال نسله، إذ يقول: [في نسله يتعرف على وارث جسده، وبه يسبق فيعرف آلام وارثه خلال خلع حق فخذه]. انتهى الجهاد بسؤال مشترك، سأل الملاك يعقوب عن اسمه لا لجهله بالاسم وإنما لكي يغيره إلى اسم جديد يليق به كمجاهد، إذ يقول له: "لا يُدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت" [28]. وكما يقول القديس إكليمنضس الإسكندري: [قدم له الاسم الجديد للشعب الجديد]، وكأن هذه العطية لم توهب ليعقوب في شخصه وإنما لكل شعب الله علامة جهادهم الروحي. دعى يعقوب الموضع الذي تم فيه هذا الصراع: "فنيئيل" أي "وجه الله"، إذ حسب نفسه مغبوطًا أن يرى الله وجهًا لوجه وتنجو نفسه... وإذ أشرقت الشمس انطلق يعقوب ليلحق بأسرته متشددًا بهذه الرؤى وهذا الجهاد. لقاء يعقوب مع عيسو إن كان يعقوب قد دبر الأمر لملاقاة أخيه عيسو بالصلاة وتقديم هدايا وتقسيم أسرته إلى جيشين، فإن الله من جانبه هيأ قلب عيسو فأشعل فيه مشاعر الأخوّة وألهب فيه الحنين نحو لقاء أخيه. 1. لقاء الأخوين: تطلع يعقوب فرأى أخاه قادمًا من بعيد ومعه رجاله فخاف، وقسم عائلته هكذا: يبدأ الموكب بالجاريتين وأولادهما ثم ليئة وأولادها وأخيرًا راحيل وأبنها يوسف، أما هو فتقدم الكل وسجد إلى الأرض سبع مرات قبل لقائه بعيسو. هذا التدبير كشف عن قلب يعقوب فمن جهة وضع راحيل المحبوبة لديه مع أبنها في آخر الموكب ليعطيهما فرصة أكبر من الجميع أن يهربا إن قام عيسو ورجاله بالهجوم، وأما هو فتقدم الكل وكأنه يقدم نفسه فدية عن الجميع حتى عن جاريتيه. هكذا يليق بالمسيحي أن يحمل هذا الروح، روح البذل عن الجميع، فيكون كسيده السيد المسيح الذي تقدم الخراف بكونه الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف الناطقة. قاد يعقوب الموكب لا بروح التشامخ والعنف بل بروح الاتضاع إذ كان يسجد لأخيه سبع مرات علامة كمال الخضوع. أما السيد المسيح عريس الكنيسة السماوي ورأسها فقاد موكب النصرة باتضاعه إذ أخلى ذاتي وأخذ شكل العبد وأطاع حتى الموت موت الصليب (في 2: 6- 8)، وهو ابن الله الوحيد الجنس تعلم الطاعة مما تألم به (عب 5: 5). وإذ هو واحد مع أبيه صام وصلى وركع مقدمًا الخضوع له باسمنا ولحسابنا فتُقبل عبادتنا فيه. إن كان يعقوب قد اغتصب البكورية والبركة وتمتع بمواعيد الله لأبيه إبراهيم وأبيه إسحق، لكن الكتاب لم يتجاهل ما حمله أخوه من طيبة قلب ورقة شعور، الأمر الذي ظهر خلال التصرفات التالية: أولًا: إذ رأى عيسو أخاه حنت أحشاؤه نحوه، إذ يقول الكتاب: "فركض للقائه ووقع على عنقه وقبله وبكيا" [4]... وكأنه نسى الماضي بما يحمله من حقد وحسد! ثانيًا: كشف عن حبه بسؤاله بدالة أخوية عن هذا العدد الكبير الذي قدم مع يعقوب، وهنا يعترف يعقوب أنها نعمة الله الواهبة كل شيء. ثالثًا: يبدو أن عيسو لم يسترح لاستلام الهدية التي قدمها له يعقوب، بل أراد أن يستضيفه هو وعائلته وعبيده بكل قطيعه... وقد قابل يعقوب هذه المشاعر بروح الاتضاع والحكمة، إذ قال له: "إن وجدت نعمة في عينيك تأخذ هديتي من يدي" [10]. وكأنه يعتذر عن الماضي ويسأله أن يعلن رضاه عنه بقبوله الهدية. وبحكمة يقول: "لأني رأيت وجهك كما يُرى وجه الله فرضيت عليَّ" [10]، رأيت فيك صورة الله الذي يقابلنا بالحب ويعلن رضاه ومحبته لعبيده. وقد ألحّ يعقوب على عيسو ليقبل الهدية فقبلها. رابعًا: إذ اعتذر يعقوب بأن أولاده صغار وغنمه مرهقة فهو مضطر إلى الإبطاء في الحركة، سائلًا عيسو أن يتقدمهم، أراد عيسو أن يترك من رجاله من يسندونه ويرشدونه. 2. يعقوب في سكوت وشكيم: أرتحل يعقوب إلى "سكوت" وتعني "مظال"، وقد وجدت بلاد كثيرة تحمل هذا الاسم، مثل سكوت التي أقام فيها اليهود المظلات بعد خروجهم من مصر بالقرب من رعمسيس (خر 12: 37)، وسكوت بغرب الأردن، أما سكوت هنا فتقع شرقي الأردن جنوب نهر يبوق بحوالي ميل. بعد سكوت انطلق إلى شكيم في أرض كنعان (راجع 12: 6). وفي بعض الترجمات قيل: "أتى يعقوب إلى ساليم مدينة شكيم" [18]، أي إلى ساليم على حدود أراضي شكيم بن حمور. وهناك اشترى حقلًا من بني حمور بمئة سقيطة (السقيطة عملة مرتفعة القيمة (أي 42: 11)، ويترجمها البعض "خروف" ربما لأنه قد رسم صورة خروف على هذه العملة). على أي الأحوال إن أول عمل قام به يعقوب عند عودته أرض كنعان هو إنشاء مذبح للرب، إذ قيل: "وأقام هناك مذبحًا للرب ودعاه إيل إله إسرائيل" [20]. أي دعاه: "الله إله إسرائيل" فقد جاء ليستقر في حضن الله خلال الذبيحة المقدسة. ليكن لنا في قلبنا مذبح للرب، فتكون أعماقنا كنعان الروحية التي يتجلى الله فيها خلال ذبيحة الصليب! |
||||
16 - 12 - 2022, 06:02 PM | رقم المشاركة : ( 28 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر التكوين التاريخ البدائي
نسل عيسو إذ مات إسحق ودفنه عيسو ويعقوب ابناه قدم لنا الكتاب المقدس قوائم بنسل عيسو والأمراء الخارجين منه، ونسل سعير وملوك آدوم... وقد جاءت القوائم مختصرة حتى يمكن للمؤمن أن يتفهم الأحداث الواردة بعد ذلك عبر العصور بمعرفته لأصل كل شعب أو أمة. هذا وقد دخلت الشعوب في الإيمان عندما جحد إسرائيل القديم مسيحه. 1. نساء عيسو: سبق أن ذكرت أسماء نساء عيسو في (تك 26: 34، 35؛ 28: 9)، أما سبب الاختلاف بين القائمة الواردة هنا وما ورد قبل ذلك فهو حمل بعضهن أكثر من أسم، وهذه عادة كانت سائدة بين الرجال والنساء كدعوة عيسو أدوم، وساري سارة إلخ... يُلَاحَظ هنا: أولًا: أهوليبامة بنت صبعون الحوي غالبًا هي يهوديت، والدها عني الحوّي وهو بعينه بيري الحثي، ذلك لأن والد حوي وأمه حثية، خاصة وأن الحويين والحثيين من القبائل المتناسلة من كنعان (10: 15، 17) وكانوا يصاهرون بعضهم بعضًا. ثانيًا: عدا أو عادة بنت إيلون الحثي هي بسمة (26: 34). ثالثًا: بسمة بنت إسماعيل أخت نبايوت كانت تدعى محلة (28: 9) 2. مواليد عيسو في كنعان: قٌدِّمَ لنا قائمة بالأولاد الذين أنجبتهم نساء عيسو حين كان لا يزال في مع أبيه إسحق في كنعان، وهم: أولًا: ابن عدا: أليفاز (إلهي قوة). ثانيًا: ابن بسمة: رعوئيل (رعاية الله). ثالثًا: أبناء أهوليبامة: يعوش (يهوه يسرع)، يعلام (يهوه يعلم)، قورح (نبات القرع). 3. ارتحال عيسو إلى سعير: إذ اغتنى يعقوب وعيسو جدً لم تعد أرض كنعان تَسَعْهُمَا، فسكن يعقوب بعد موت أبيه في أرض كنعان ليرث هو ونسله ما وعده به الرب، أما عيسو فارتحل إلى بلاد سعير، كانت تمتد من البحر الميت إلى خليج العقبة وهي تضم سلسلة من الجبال بها مناطق وعرة كما بها مناطق زراعية. يرى البعض أن اسم سعير ينسب لعيسو نفسه بكونه مملوءًا شعرًا، ويرى آخرون أنه نسبة إلى وجود أشجار كثيرة فتشبه الأرض الجسد المشعر، وآخرون يرون انه نسبة إلى سعير أحد أمراء الحوريين [20]، الذي صاهره عيسو بزواجه أهوليبامة ابنة صبعون وقد ارتحل عيسو وامتلك الأراضي هناك. 4. مواليد عيسو في سعير: قدم لنا الكتاب المقدس قائمة بأبناء عيسو وأحفاده الذين صاروا له في جبل سعير، بعد رحيله من كنعان... وإن كانت القائمة قد ضمت بعضًا ممن ولدوا في كنعان. 5. أمراء بني عيسو: يقصد بالأمراء هنا رؤساء قبائل، وقد جاءت الكلمة العبرية بمعنى "ألف" أي رؤساء ألوف، وكان دورهم أقرب إلى شيوخ القبائل. 6. بنو سعير: يذكر هنا أولاد سعير الحوري السبعة وأحفادهم. 7. أمراء سعير: دعي أبناء سعير السبعة أمراء باعتبارهم رؤساء قبائل. 8. ملوك أدوم: يذكر هنا ملوك أدوم، وكان هؤلاء الملوك أشبه بالقضاة في إسرائيل، فلم يكن يُورث وسلطانه أشبه برئيس قبيلة. سبق لنا في مقدمة السفر أن علقنا على العبارة "قبلما مَلَك مُلِك لبني إسرائيل" [31]، ورأينا أنها لا تعني بأنها كُتبت في عصر ملوك إسرائيل، إنما كتبها موسى النبي الذي كان يعلم أنه سيملك ملوك على إسرائيل في عصور مقبلة كوعد الله لآبائه مثل قول الرب ليعقوب: "وملوك سيخرجون من صلبك" (35: 11). 9. قائمة أخرى بأمراء عيسو: يرى البعض أن بعض هؤلاء الأمراء تولوا الإمارة بالقوة لا الوراثة. معاملات الله مع يوسف في لقائنا مع آبائنا إبراهيم وإسحق ويعقوب نشعر بآباء شيوخ ارتسمت في حياتهم معاملات الله بغنى لتخرج من صلبهم كنيسة العهد القديم كخميرة كان يجب أن تخمر العجين كله، والآن إذ نلتقي بيوسف يرتسم في ذهننا شخص ربنا يسوع، إذ جاء كرمز له في جوانب كثيرة: يوسف الابن والعبد إن كان الكتاب المقدس قد أبرز حياة إبراهيم أب الآباء بكونه قد نال الوعد: "يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض" (22: 18)، إذ جاء السيد المسيح مخلص العالم ومشتهى الأمم من نسله، وهكذا بالنسبة لإسحق ويعقوب، ربما توقع البعض أن يعرض حياة يهوذا الذي من نسله يأتي السيد، لكننا نجده يتحدث عن يوسف في شيء من الإفاضة فقد حملت حياته صورة رمزية حيَّة عن شخص المسيّا وسماته وعمله الخلاصي وأمجاده حتى أستحق أن ينعم بنصيب ضعفين إذ صار دون إخوته سبطين هما أفرايم ومنسى، هذا وتعتبر حياة يوسف حلقة الوصل بين عصر الآباء ونشأة اليهود كشعب أو أمة، إذ فتح يوسف الطريق لأبيه وأخوته أن يعيشوا في مصر. في الأصحاح الذي بين أيدينا نرى يوسف رمز السيد المسيح بكونه الابن المحب والعبد المحب لأخوته، يقدم حياته فدية عنهم: 1. يوسف في بيت أبيه: "وسكن يعقوب في أرض غربة أبيه في أرض كنعان. هذه مواليد يعقوب: يوسف إذ كان ابن سبع عشرة سنة كان يرعى مع أخوته الغنم وهو غلام عند بني بلهة وبني زلفة امرأتي أبيه، وأتى يوسف بنميمتهم الرديئة إلى أبيهم، وأما إسرائيل فأحب يوسف أكثر من سائر بنيه، لأنه ابن شيخوخته" [1-3]. سكن يعقوب كنعان كأرض غربة كأبيه إسحق حتى يتسلمها أحفاده فيما بعد كأرض موعد يعيشون فيها لا كغرباء في خيام وإنما كمواطنين يبنون المدن والمنازل... وكأن يعقوب يمثل النفس المصارعة روحيًا لحساب الملكوت تعيش بالإيمان في كنعان السماوية حتى ترثها فيما بعد وتستوطن هناك إلى الأبد. لم يجد الوحي الإلهي ما يسجله عن مواليد يعقوب أي نسله أعظم من الحديث عن الشاب يوسف الذي كان يبلغ السابعة عشر عامًا، كغلام يساعد أولاد الجاريتين بلهة وزلفة. إنه عظيم في عيني الله ومحبوب لدى أبيه، وإن عمل غلامًا لدى أولاد الجواري! فالعظمة الحقيقية لا تنبع عن نوع العمل الذي يمارسه الإنسان ولا عن مركزه وإنما عن حياته الداخلية وسلوكه الروحي. لقد استطاع يوسف أن يغتصب قلب أبيه أكثر من جميع أخوته وحسبه ابن شيخوخته مع أنه يوجد اخوة أصغر منه. قلنا كان يوسف رمزًا للسيد المسيح، فهو الابن المحبوب لدى أبيه، وكما يقول الأب قيصريوس أسقف Arles: [أحب يعقوب أبنه لأن الآب يحب ابنه الوحيد الجنس، إذ يقول: "هذا هو ابني الحبيب" (مت 3: 17) ]. إن كان يوسف يصير عبدًا في مصر بسبب أخوته وسجينًا ليدخل إلى القصر فيشبع احتياجات أخوته فقد أعلن الكتاب أنه الابن المحبوب لدى أبيه... أقول أنها صورة حيَّة لحياة ربنا يسوع المسيح الذي نزل إلى مصرنا كعبد ودخل من أجلنا تحت المحاكمة ليرفعنا معه إلى قصره السماوي، وهو الابن وحيد الجنس. وما أقوله عن السيد المسيح أقوله عن كل مؤمن حقيقي إذ يليق به أولًا أن4ئ يدخل إلى البنوة لله ويكون موضع حبه خلال ثبوته في المسيح يسوع، بهذه البنوة نتقبل بالحب أن نصير عبيدًا وندخل تحت الحكم من أجل اخوتنا لكي نرفعهم معنا بالمسيح يسوع ليذوقوا شركة مجده ويشبعوا من الخبز السماوي. هذا ما عبرّ عنه الرسول بقوله: "فإني إذ كنت حرًا من الجميع استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثيرين" (1 كو 9: 19). في مياه المعمودية تمتع بالحرية في المسيح يسوع، هذه الحرية المملوءة حبًا دفعته أن يصير عبدًا للجميع ليربح الأكثرين في مجد ربنا يسوع المسيح. إذ أحب إسرائيل ابنه أكثر من أخوته: "صنع له قميصًا ملونًا" [3]. ما هو هذا القميص الملون إلاَّ الكنيسة المتعددة المواهب التي تقبلها السيد المسيح من يديّ أبيه ثمنًا لحبه للبشرية ودخوله إلى العبودية من أجلها؟! هذا ما أكده القديس أغسطينوس والعلامة أوريجانوس فالقميص الملون هو الكنيسة التي التصقت بالسيد المسيح كثوب له. ففي تجليه "صارت ثيابه بيضاء كالنور" (مت 17: 2). إشارة إلى الكنيسة التي أقتناها الرب لنفسه وسكن فيها بكونه شمس البر الذي ينيرها. هذا الثوب ذيله الرسول بولس القائل عن نفسه أنه: "آخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا، وآخر الكل" (1 كو 15: 8، 9). هذا الهدب لمسته نازفة الدم (أي جماعة الأمم التي تنجست بالعبادات الوثنية) فبرأت من نزف دمها. أما كونه ملون، فيقول الرسول: "فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد، وأنواع خدم موجودة ولكن الرب واحد" (1 كو 12: 4، 5). إنه القميص الواحد صاحب الألوان الكثيرة، إن نُزع عنه لون ما قد فقد جماله بل وفقد متانته، وهكذا تعلن الكنيسة حاجتها لكل عضو فيها أيًا كان لونه أي مركزه أو عمله أو مواهبه. في مقارنة يوسف بالسيد المسيح يقول أوستيريوس أسقف أماسيا: [صنع أبوه قميصًا ملونًا ليوسف، وقيل عن المسيح: "تبتهج نفسي بإلهي، لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص، كساني رداء البر مثل عريس يتزين بعمامة (بإكليل)" (إش 61: 10)]. 2. صاحب الأحلام: لم يحتمل إخوة يوسف محبة أبيهم لأخيهم يوسف فكانوا يحقدون عليه حتى "لم يستطيعوا أن يكلموه بسلام" [4]. هذه المشاعر المرة التي أحاطت بيوسف من إخوته في بيت أبيه لم تكن قادرة أن تغلق قلبه نحوهم ولا أن تؤذي مشاعره أو تفقده سلامه، لهذا انفتحت السماء قدامه لتؤكد له بحلمين متتاليين يحملان معنى واحدًا هو "دخوله إلى المجد، وخضوع الكل له". كأنه يمثل السيد المسيح الذي يفتح قلبه بالحب للبشرية التي حملت العداوة بلا سبب، مقدمًا حياته فدية حتى لصالبيه! حلم يوسف أن حزمًا قد أحاطت بحزمته وسجدت لها، كم حلم أن الشمس والقمر وأحد عشر كوكبًا قد سجدت له، فأدرك إخوته أنه يملك عليهم، وهم يخضعون له... وعوض أن يسمعوا لصوت السماء فينفتح قلبهم له "ازدادوا أيضًا بُغضًا له من أجل أحلامه ومن أجل كلامه" [8] وامتلأوا حسدًا [11]، وكأنهم بالكرامين الأشرار الذين "لما رأوا الابن قالوا بينهم: هذا هو الوارث، هلموا نقتله ونأخذ ميراثه" (مت 21: 38). أعلنت السموات مجده فازداد الأشرار من نحوه شرًا، فإذا بالله الصالح يخرج من الشر خيرًا، ويحوّل تصرفاتهم إلى طريق لإتمام خطته الإلهية. "حسده إخوته وأما يعقوب فحفظ الأمر" [11]. أدرك يعقوب أنه يخضع لابنه في مجده... وربما كان الأمر يمثل سرًا لم يكن قادرًا على إدراكه في ذلك الحين، فحفظ الأمر في قلبه مترقبًا في صمت وتأمل أعمال الله وتحقيق مواعيده. هكذا يعيش أُناس الله يحفظون في قلبهم وفكرهم إعلانات الله ويتأملون معاملاته كما قيل عن القديسة مريم: "وكانت أمه تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها" (لو 2: 51). 3. إرسالية محبته: مضى إخوة يوسف إلى شكيم ليرعوا غنم أبيهم، ويغلب أن يكون هذا الغنم قد ضم الأغنام التي استولوا عليها بعد قتل أهلها انتقامًا لأختهم دينة (ص 34)، لذلك أرسل يعقوب يوسف لينظر سلامة إخوته وسلامة الغنم خشية أن تكون بعض القبائل الكنعانية قد اعتدت عليهم انتقامًا لأهل شكيم. أنطلق يوسف في طاعة لأبيه المحب لأولاده بالرغم مما اتسموا به من أعمال النميمة الرديئة [2] وما حملوه من بغضة وحسد لأخيهم المحبوب والمحب يوسف؛ لكنها لم تكن طاعة الخوف كالعبيد ولا طاعة الأجير المنتظر الأجرة إنما طاعة الابن المحب لأبيه ولأخوته الحاسدين له. في حب أنطلق من وطاء حبرون إلى شكيم، وإذ لم يجدهم لم يرجع بل بحث عنهم وذهب وراءهم إلى دوثان. إرسالية يوسف تمثل إرسالية الابن وحيد الجنس، وكما يقول الأب قيصريوس أسقف Arles: [أرسل يعقوب ابنه ليعلن قلقه عليهم، وأرسل الآب ابنه الوحيد ليفتقد الجنس البشري الذي كان ضعيفًا بالخطية، قطيعًا مفقودًا. عندما كان يوسف يتطلع على إخوته جال في البرية، والسيد المسيح إذ بحث عن الجنس البشري جال في العالم... يوسف بحث عن إخوته في "شكيم" التي تعني "كتفًا" فقد أعطى الخطاة ظهورهم في وجه البار وجعلوا أكتافهم من خلف] 4. المفترى عليه: إذ نزل يوسف من بيت أبيه بالحب يبحث عن أخوته الضالين يقول الكتاب: "فلما أبصروه من بعيد قبلما اقترب إليهم احتالوا عليه ليميتوه، فقال بعضهم لبعض: هوذا هذا صاحب الأحلام قادم، فالآن هلم نقتله ونطرحه في إحدى الآبار ونقول وحش رديء أكله، فنرى ماذا تكون أحلامه" [18-20]. تشفع فيه رأوبين فلم يقتلوه بل خلعوا عنه القميص الملون وألقوه في بئر ماء فارغ. وإذ جلسوا يأكلون رأوا قافلة إسمعيليين قادمة من جلعاد محملة كثيراء وبلسانًا ولاذنًا لينزلوا بها إلى مصر فأشار عليهم يهوذا ببيعه عبدًا لهم، فباعوه بعشرين من الفضة. وإذ رجع رأوبين إلى إخوته لم يجد يوسف في البئر فمزق ثيابه ولم يعرف كيف يتصرف. لم يحتملوا رؤيته حتى من بعيد، إذ جاءهم في إرسالية محبة لهم أما هم فكانوا يزدادون حسدًا من أجل عمل الله معه وإعلاناته له (صاحب الأحلام). وكما يقول الأب بيامون: [لم يكن يوسف أخوهم قادرًا أن يخفف من حدة حسد إخوته الأحد عشر، الراغبين في موته مع أنه لم يؤذهم في شيء. ومن الواضح أن الحسد هو من أسوأ الخطايا وأصعبها شفاءً، لأنه يلتهب بنفس الأدوية التي بها تهلك بقية الخطايا... ماذا تفعل لإنسان تزداد معصيته كلما ازددت اتضاعًا ورحمة، هذا لا يغضب طمعًا في رشوة ينالها... أو خدمات يحصل عليها، وإنما يغضب بسبب نجاح الآخرين وسعادتهم؟! ]. ما فعله إخوة يوسف هنا حمل رمزًا لما فعله اليهود مع السيد المسيح في جوانب متعددة منها: أ. يقول الأب أوستريوس أسقف أماسيا: [لقد كدّس إخوة يوسف تعنيفًا مرًا لأخيهم وقدم اليهود لومًا للرب قائلين: "إننا لم نولد من زنا" (يو 8: 41)... أُرسل يوسف لأخوته كطبيب يفتقدهم فكان عندهم كعدو مخطط مكائد، وأُرسل المسيح راعيًا رحيمًا فنظروه كلص مصلوب... ]. ويقول الأب قيصريوس: [كما حمل إخوة يوسف لأخيهم حسدًا فأعطوا للحب الأخوي ظهورهم لا أوجههم، هكذا للأسف فضّل اليهود الحسد على الحب نحو مقدم الخلاص الذي جاء إليهم. عن مثل هؤلاء قيل في المزامير: "لتُظْلم عيونهم عن البصر، وقَلْقِلْ متونهم دائمًا" (مز 69: 23) ]. ب. لم يقف الأمر عند الحسد الداخلي لكنه تُرجم إلى ثورة وخطة وخيانة. يقول الأب قيصريوس: [وجد يوسف إخوته في دوثان التي تعني "ثورة"، فقد كان الذين يطلبون قتل أخيهم في ثورة عظيمة بحق. عند رؤيتهم يوسف ناقشوا موته، وذلك كما فعل اليهود بيوسف الحقيقي، المسيح الرب، إذ صمم الجميع على خطة واحدة أن يُصلب. اغتصب إخوة يوسف ثوبه الخارجي الملون، ونزع اليهود عن المسيح ملابسه عند موته على الصليب. إذ نُزع الثوب عن يوسف أُلقي يوسف في جب أي حفرة، وإذ حطموا جسد المسيح نزل إلى الجحيم. رُفع يوسف من الجب وبيع للإسماعيليين أي للأمم، والمسيح إذ عاد من الجحيم اشتراه الأمم بثمن الإيمان]. هكذا كان يوسف رمزًا للسيد المسيح والمشاورة ضده، وفي إلقائه في الجب، وفي خلع ثيابه، وفي بيعه للأمم. ج. كما أشار يهوذا ببيع يوسف هكذا باع يهوذا السيد المسيح؛ بيع الأول بعشرين من الفضة، وفي الترجمة السبعينية "بعشرين من الذهب" وأما سيده فبيع بثلاثين من الفضة. ويعلق الأب قيصريوس على ذلك بقوله: [بيع العبد بأكثر من سيده، لكن بالتأكيد خدعت الحسابات البشرية الإنسان في حالة ربنا الذي لا يُقدر بثمن!]. د. إذ ألقى الإخوة يوسف في البئر الفارغة من الماء "جلسوا ليأكلوا طعامًا" [25]، وهكذا إذ دبرّ اليهود قتل السيد المسيح جلسوا يأكلون الفصح القديم كطعام يشبع أجسادهم لا نفوسهم. ه. كانت جمال الإسماعيليين الذين اشتروا يوسف محملة بالكثيراء. وهو نوع من أنواع الصمغ يستخدم في الطب وفي التغرية (لصق الأشياء) من أشجار شوكة المعزي Astraaglus، وبالبلسان وهو دهن طيب الرائحة يسيل من شجرة البلسان متى جُرح ساقها يستخدم في الطب والتحنيط، وباللاذن وهو نوع من الصمغ شجرته تسمى Cistus Creticus كان يستخدم في الطب. هذه الخيرات التي حملتها جمال الإسماعيليين عند شراء يوسف إنما تشير إلى مواهب الأمم وقدراتهم التي تقدموا بها عند إيمانهم بيوسف الحقيقي فتقدست واُستخدمت لحساب ملكوته. 5. غمس قميصه بالدم: حاول إخوة يوسف خداع أبيهم بغمس قميص يوسف الملون بدم تيس وتقديمه له ليتحقق إن كان هو قميصه، معلنين أن وحشًا رديئًا افترسه. فمزق يعقوب ثيابه ووضع مسحًا على حقويه وناح على ابنه أيامًا كثيرة. لقد خدع يعقوب أباه إسحق في اغتصابه البركة... ومن أجل نقاوة قلبه وجهاده نال البركة دون عيسو، إذ جاء السيد المسيح من نسله، لكن نال تأديبًا عن خداعه لأبيه. ما كاله لأبيه كُيل له من أبنائه يعيش أيامًا كثيرة في نوح بلا عزاء حتى يلتقي بابنه في مصر. لم يستطع يعقوب أن ينظر قميص ابنه الملون قد تلطخ بالدم، مع أن القميص وهو يشير إلى الكنيسة لا يمكن أن يكون له كيانه وجماله إلاَّ بالغمس في دم الذبيح ربنا يسوع، الذي أسلم جسده للموت بإرادته ليسكب دمه الطاهر على مؤمنيه واهبًا لهم قوة قيامته. إذ ظن يعقوب أن ابنه مات قال في مرارة: "إني أنزل إلى ابني نائحًا إلى الهاوية" [35]. وكما يقول القديس چيروم: [نزل إلى الهاوية لأن الفردوس لم يكن بعد قد أُفتتح باللص]. كان الكل يخشى الموت لأنه عبور إلى الجحيم انتظارًا لمجيء السيد المسيح ليحمل غنائمه في فردوسه، في مقدمتهم اللص الذي آمن بالرب المصلوب. 6. يوسف العبد: "وأما المديانيون فباعوه في مصر لفوطيفار خصي فرعون رئيس الشرطة" [36]. الابن المدلل بيع كعبد في مصر، يحمل قلبًا حرًا ونفسًا كريمة لا تستطيع العبودية الخارجية أن تدخل إلى أعماقه الداخلية، إنما بحريته الداخلية رفع من شأن العبيد وكرّم الإنسانية الحرة أيًا كان وضعها الاجتماعي. يقول القديس چيروم: [نقرأ عن يوسف الذي قدم برهانًا عن نزاهته عندما كان في عوز كما وهو غني، والذي أكدّ حرية النفس وهو عبد كما وهو سيد]. يوسف الابن صار عبدًا وكأنه يحمل صورة ربنا يسوع المسيح الابن الوحيد الذي صار من أجلنا عبدًا (في 2: 7). يقول الأب قيصريوس: [نزل يوسف إلى مصر، ونزل المسيح إلى العالم! أنقذ يوسف مصر من عدم وجود الحنطة وحرر المسيح العالم من مجاعة كلمة الله. لو لم يُبع يوسف من إخوته لما أُنقذت مصر، حقًا فإنه لو لم يصلب اليهود المسيح لهلك العالم]. بيع لفوطيفار، اسمه يعني "المنتسب إلى رع (إله الشمس)"، أما كلمة "خصي" فلا تعني أنه مخصي وإنما تعني وظيفة رئيس من رؤساء الحرس لدى فرعون، وكان له أن يحكم أحيانًا على المذنبين ويشرف على السجون (37: 36؛ 39: 1، 20). |
||||
20 - 12 - 2022, 03:35 PM | رقم المشاركة : ( 29 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر التكوين التاريخ البدائي
يهوذا وثامار إذ يأتي السيد المسيح من نسل يهوذا كان لا بُد للكتاب المقدس أن يعرض لنا سلسلة مواليد يهوذا حتى نتتبع أنساب السيد. حقًا لقد أشار يهوذا -في محبته للمال- على إخوته أن يبيعوا أخاهم يوسف، لكن الله حول خطأه إلى تحقيق مقاصده الإلهية، فصار يهوذا للأمة اليهودية التي خانت يوسف الحقيقي. والآن ينطلق يهوذا ليتزوج بكنعانية، لكن نعمة الله الفائقة حولت حتى هذا العمل لإعلان تدبير الله الخلاصي... 1. أولاد يهوذا: "وحدث في ذلك الزمان أن يهوذا نزل من عند أخوته ومال إلى رجل عدلامي اسمه حيرة، ونظر يهوذا هناك ابنة رجل كنعاني اسمه شوع، فأخذها ودخل عليها، فحبلت وولدت ابنًا ودعى اسمه عيرا" [1-3]. أنفصل يهوذا عن إخوته ومال إلى حيرة العدلامي، ربما كان صديقًا له، وهناك اقترن بابنة رجل كنعاني يدعى "شوع" أي "غنى". وكأنه يمثل الأمة اليهودية التي جحدت يوسف الحقيقي وانطلقت خلال محبتها لغنى العالم تقترن بالفتاة الوثنية أي عدم الإيمان. حبلت ابنة شوع ثم ولدت أونان، وللمرة الثالثة أنجبت شيلة وكان في كزيب حين ولدته. هذا الالتصاق والإنجاب من الكنعانية إنما يشير إلى إصرار الأمة اليهودية على رفض الإيمان بالمخلص، وفي المرة الثالثة تم الإنجاب في كزيب التي تعني "كاذبًا"، إذ تحمل الأمة ثمارًا كاذبة خلال التصاقها بالجحود. هذا وعدلام التي ينسب إليها حيرة والد شوع هي إحدى مدن كنعان الكبرى، معناها "مخبأ أو ملجأ"، وهي تقترب من مغارة داود المشهورة في وادي إيله الممتد من حبرون إلى فلسطين على غاية ميلين أو ثلاثة أميال جنوب شوكوة و15 ميلًا تقريبًا شمال غربي حبرون. أما كزيب فقد دعيت في نبوة ميخا "إكزيب" (مي 1: 14، 15)، تقع عند عين كذبة شمال عدلام وبالقرب منها. 2. عير وثامار: أخذ يهوذا لبكره عير ثامار زوجة له التي يعني أسمها "نخلة". إن كان يهوذا قد أخطأ باقترانه بامرأة كنعانية، فإن ثمر هذا الخطأ قد تجلى في أولاده، فيروي لنا السفر عن ابنه البكر عير أنه قد مات قبل أن ينجب ليكون درسًا لعائلته وليتعظ بالأكثر يهوذا وبقية أولاده. لكن الدرس لم يكن له أثره في حياة إخوته، فعندما ألزم يهوذا ابنه أوثان أن يتزوج ثامار لينجب طفلًا باسم الميت عير تصرف بطريقة غير إنسانية في حياته الزوجية حتى لا تنجب ثامار. ولعله كان يهدف بهذا أن ميراث والده يوزع عليه وعلى أخيه الأصغر شيلة ولا يكون للميت (عير) نصيب. هكذا من أجل الطمع في النصيب الأكبر رفض أن ينجب طفلًا باسم أخيه الميت... لذلك أماته الرب أيضًا [10]. كان يليق بيهوذا أن يراجع حساباته، ويدرك أنه فشل في تربية أولاده، وها هو قد فقد عيرًا وأوثانًا ولم يبق سوى شيلة... فعوض التفاهم مع شيلة ليسلك بروح آبائه يعقوب وإسحق وإبراهيم طلب من ثامار أن ترجع إلى بيتها تحت ستار صغر سن ابنه الثالث، أما في قلبه فقال "لعله يموت هو أيضًا كأخويه" [11]. ما أحوجنا في علاج أمورنا أن ندخل إلى العمق، فنرى السبب الحقيقي للفساد وننزعه، عوض التصرف بطريقة شكلية خارجية. لو أن يهوذا انتزع الخطية من أسرته لما كانت هناك حاجة للمخاوف التي ملأت فكره وقلبه ولما كانت هناك ضرورة لرد ثامار إلى بيت أبيها. 3. يهوذا وثامار: كبر شيلة ولم يف يهوذا بوعده، إذ لم يقدمه زوجًا لثامار... وإذ كان يهوذا صاعدًا إلى تمنة ليجز غنمه، خلعت ثامار ثياب ترملها وتغطت ببرقع وجلست في مدخل عينايم التي على طريق تمنة، وإذ حسبها يهوذا زانية دخل عليها بعد أن قدم لها خاتمه وعصاه رهنًا حتى يرسل لها جدي معزي من الغنم. وإذ أرسل يهوذا جدي المعزي لم يجدها الرسول فرده إلى يهوذا. وبعد ثلاثة أشهر أُخبر يهوذا بأن ثامار حامل، فقال يهوذا: "أخرجوها فتحرق" [24]، أما هي فأخرجت الخاتم والعصا، وإذ تحققهما يهوذا أدرك خطأه، فقال: "هي أبر مني، لم أعطها لشيلة ابني" [26]. ويلاحظ في هذه القصة الآتي: أولًا: "تمنة" بالعبرية تعني "النصيب المعين "، يوجد أكثر من موضع يحمل هذا الاسم، أما المذكورة هنا فتبعد حوالي 7 أميال من عدلام حيث كان يهوذا وحيرة، وهي تقرب من بيت لحم، وتسمى حاليًا تبنة. لقد انطلق يهوذا إلى تمنة أي نصيبه الخاص به بعد أن تعزى إذ كانت ابنة شوع قد ماتت... ولم يكن يهوذا يفكر في نصيب غيره، يهتم بما لنفسه ولا يهتم بما لثامار كنته الأرملة... لهذا صدق في قوله: "ثامار أبر مني". ثانيًا: ثامار التي كانت تشتهي ككل سيدة عبرانية أن يأتي من نسلها المسيا المخلص قبلت أن تعرض حياتها للخطر، فخلعت ثياب ترملها وارتدت برقعًا على وجهها ولم تخجل من أن تظهر كزانية ليس من أجل شهوة الجسد إنما من أجل الإنجاب. فقد التصقت بحميها وهو رجل قد كبر في السن... وتظهر طهارتها أنها إذ كشفت الأمر لم تطلب بعد الزواج بأخي رجلها إنما عاشت مع حميها، وقد قيل "لم يعد يعرفها أيضًا" [26]. من أجل إيمانها اشتهت أن تنجب أما يهوذا ففي كبر سنه أرتكب الزنا... لذا يقول: "هي أبر مني" [26]... وقد صارت ثامار مثلًا حيًا يمنعنا من الإدانة مهما كانت علامات الخطية تبدو واضحة وملموسة. وقد علق القديس أمبروسيوس كثيرًا على هذه العبارة "هي أبر مني" في حديثه عن التوبة، سائلًا كل إنسان - حتى الأسقف - ألا يدين أحدًا بل يترفق ويحنو على الخطاة، فمن كلماته: [يا رب هب لي أن تكون سقطات كل إنسان أمامي، حتى أحتملها معه، ولا أنتهره في كبرياء، بل أحزن وأبكي، ففي بكائي من أجل الآخرين أبكي على نفسي، قائلًا "هي أبر مني". لنفرض أن فتاة قد سقطت، إذ خدعتها وجرفتها ظروف مثيرة للخطايا - حسنًا، ونحن الأكبر سنًا قد نسقط أيضًا - إنه فينا نحن أيضًا ناموس الجسد يحارب ناموس أذهاننا، ويجعلنا أسرى للخطية، حتى أننا نفعل ما لا نريده (رو 7: 23). قد يكون صباها عذرًا لها، لكن ما هو عذري أنا؟! إنه يجب عليها أن تتعلم، أما أنا فيلزمني أن أعلم إنها "هي أبر مني". إننا قد نسب طمع الآخرين، لكن لنتأمل إن كنا لم نطمع قط. وإن الطمع أو محبة المال أصل كل الشرور، يعمل في أجسادنا كالأفعى المخيفة في وكرها. لذلك ليقل كل منا: "هي أبر مني". عندما نحتد بشدة على إنسان، يكون هذا العلماني أقل تهورًا مما أرتكبه الأسقف، لذلك يجب علينا أن نتمعن في الأمر، قائلين بأن ذاك الذي انتهرناه أبر منا. فإنه إذ نقول ذلك قد حفظنا أنفسنا مما قاله لنا الرب يسوع... "لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها... يا مرائي أخرج أولًا الخشبة من عينك وحينئذ تبصر جيدًا أن تخرج القذى من عين أخيك" (مت 7: 3، 5). ليتنا إذن لا نخجل من أن نعترف بأن خطأنا أبشع من خطأ من نرى أنه مستوجب الانتهار، لأن هذا هو ما صنعه يهوذا الذي وبخ ثامار، فإذ تذكر خطيته قال: "هي أبر مني"... لقد أتهم نفسه قبل أن يتهمه الآخرون]. ثالثًا: بهذا العمل الإيماني تأهلت ثامار أن تكون جدة للسيد المسيح، دمها يجري في عروقه، حتى سجل الإنجيلي متى أسمها في نسب السيد المسيح (مت 1: 23) بينما لم يسجل اسم سارة ولا رفقة ولا غيرهما من الأمهات المباركات. كانت ثامار رمزًا لجماعة الأمم التي صارت كنيسة مقدسة للرب، هذه التي كانت قبلًا بلا ثمر كثامار، أشبه بأرملة مهجورة ليس من يسندها ولا من يعينها. لم يتزوجها وليها الأول شيلة بل التصقت بالولي الثاني يهوذا... هكذا لم تلتصق جماعة الأمم بالوليّ الأول أي بالناموس الموسوي ولا التزمت بالختان والتهود إنما التصقت بالوليّ الثاني أي يهوذا الحقيقي، ربنا يسوع المسيح الخارج من سبط يهوذا. والعجيب أن تصرفات ثامار حملت الكثير من الرموز التي تطابق ما تمتعت به كنيسة الأمم نذكر منها: أ. خلعت ثامار ثياب ترملها لكي تلتصق بيهوذا، وهكذا خلعت الأمم ثياب الإنسان القديم لتلبس الإنسان الجديد الذي يليق باتحادها مع العريس الأبدي، بل صار السيد المسيح نفسه ثوبها الجيد. ب. غطت ثامار وجهها ببرقع، والأمم إذ قبلوا الإيمان يعيشون هنا كما في لغز حتى يلتقون بالعريس وجهًا لوجه فيرونه في كمال مجده وعظمة بهائه ويتعرفون على سمو أسراره الفائقة. ج. جلست ثامار في مدخل عينايم أي مدخل ينبوعين، وكأنها بكنيسة الأمم التي لم تنعم بينبوع العهد القديم وحده بل وأيضًا بينبوع العهد الجديد معه. د. تمتعت ثامار بخاتم يهوذا وعصابته وعصاه، أي بخاتم البنوة لله والإكليل السماوي مع خشبة الصليب المحيية. ه. ظهر علامات الحمل بعد ثلاثة شهور، وكأنها بكنيسة الأمم التي حملت ثمارًا روحية خلال إيمانها بالثالوث القدوس (3 أشهر) وتمتعها بالحياة المقامة في المسيح يسوع الذي قام في اليوم الثالث. رابعًا: يرجح بعض الدارسين أن الزانية العادية لم تكن تتغطى ببرقع، إنما تفعل ذلك المرأة التي تنذر نفسها للزنا لحساب الآلهة خاصة العشتاروت إلهة القمر، تفعل ذلك لتجمع من كل رجل جدي معزي تقدمه لهيكل الآلهة. لذلك جاءت كلمة "زانية" في النص العبري "قدشه" أو قديسة أو نذيرة للآلهة. بفعلها هذا احتلت ثامار مركز الفتاة الأممية المتعبدة للوثن لتمثل جماعة الأمم الذين انغمسوا في النجاسات وقد التصقوا بالإيمان بيهوذا الجديد لينعموا بالحياة المقدسة الطاهرة ويكون لهم نصيب في الرب. 4. ولادة فارص وزارح: أخرج زارح يده فربطت القابلة يده بخيط قرمزي أحمر، لكنه أدخل يده ليخرج فارص أولًا وبعده زارح. ويرى بعض الآباء في زارح مثلًا للشعب اليهودي الذي كان يجب أن يكون البكر، وقد مدّ يده واستلم الشريعة التي تركزت حول الذبيحة (الدم القرمزي) لكن خلال عدم الإيمان خرج فارص ممثلًا الأمم الذين صارت لهم باكورية الروح عوض نازح (اليهود)]. يوسف وامرأة فوطيفار إن كان يهوذا الابن الحرّ قد استعبد نفسه لشهوة الجسد فتزوج بالكنعانية ابنة شوع، فإن يوسف العبد أعلن حريته الحقة إذ لم تستطع امرأة سيده أن تقتنص قلبه أو تدنس جسده بالرغم من كل الظروف المرة التي يعيش فيها هذا الشاب. حقًا إن كان "يوسف" يعني "نمو" أو "تزايد"، فقد حمل في حياته نموًا بلا توقف، نجح في حبه لأخوته بالرغم من بغضهم له وها هو ينجح في التمتع بالطهارة في بيت العبودية. 1. يوسف في بيت فوطيفار: لم نسمع عن يوسف وهو في بيت أبيه يعقوب أن البيت تبارك بسببه ولا قيل: "كان الرب مع يوسف فكان رجلًا ناجحًا" [2]، ليس لأن يوسف لم يكن "بركة" في بيت أبيه ولا لأنه لم يكن ناجحًا... لكنه إذ كان مدللًا في أحضان أبيه يتمتع بالقميص الملون دون أخوته لم يكن محتاجًا إلى كلمة تشجيع... أما وقد بيع كعبد في أرض غريبة وحرم من كل عاطفة أسرية أعلن الوحي أن الرب نفسه كان معه يهبه النجاح ويعطيه نعمة في عيني سيده، حتى قيل: "الرب بارك بيت المصري بسبب يوسف، وكانت بركة الرب على كل ما كان له في البيت وفي الحقل، فترك (فوطيفار) كل ما كان له في يد يوسف، ولم يكن معه يعرف شيئًا إلاَّ الخبز الذي يأكل، وكان يوسف حسن الصورة وحسن المنظر" [5-6]. كان يوسف أشبه بقارورة طيب كثيرة الثمن محفوظة ومغلقة في بيت يعقوب، لا يشتم أحد رائحتها كما هي عليه، لكنها إذ كُسرت بآلام العبودية والحرمان من الحب العائلي فاحت رائحتها في بيت فوطيفار، وملأت حقوله أيضًا فأحب يوسف جدًا ورأى فيه عمل الرب فسلمه كل شيء، رآه الكل حسن الصورة وحسن المنظر، إذ كشفت الضيقة عن جمال وجهه الداخلي وسلام قلبه وفكره. ما حدث مع يعقوب أبيه تكرر معه، فما استطاع يعقوب أن يتمتع بالسلم السماوي ولا أن يدرك إسرار الصليب وأمجاده وهو في خيمة أبيه وبين أحضان أمه رفقة إنما نال ذلك عندما صار طريدًا في الطريق بلا عون بشري، يسند رأسه على المسيح (حجر الزاوية). هكذا لم تنكشف بركة الرب ليوسف ونجاح أعماله وجمال ملامحه الداخلية إلاَّ في بيت العبودية في أرض الغربة. إن جاز لنا القول أننا ما كنا نستطيع التعرف على يوسف الحقيقي بكونه "أبرع جمالًا من بني البشر" (مز 44: 3) إلاَّ برفعه على الصليب واجتيازه المعصرة وحده من أجلنا، لذا تناجيه الكنيسة قائلة: "أسمك دهن مهراق" لذلك أحبتك العذارى" (نش 1: 3). 2. يوسف وامرأة سيده: تقف الكنيسة في كل أجيالها أمام يوسف الطاهر الذي عرض حياته للموت حتى لا يدنس جسده بكل إجلال وتكريم. فالقلب الذي امتلأ بالحب الحق حتى لإخوته المبغضين له ليس فيه فراغ لشهوة جسدية ولا عوز إلى عاطفة امرأة غريبة! لقد نجح يوسف في تجربته التي نصبها له العدو خلال امرأة سيده لا من أجل شهامة إنسانية ولا من أجل تربية نشأ عليها وإنما بالأكثر من أجل الحب الذي ملأ قلبه. هذا ما أكده القديس يوحنا الذهبي الفم حين قارن يوسف وامرأة فوطيفار معلنًا أن يوسف أحبها بحق عمليًا، ففي حديثه معها لم يجرح مشاعرها بكلمة قاسية... لم يتفوه بكلمة أنها تزني، بل في اتضاع قال: "هوذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت وكل ما له قد دفعه إلى يديّ، ليس هو في هذا البيت أعظم مني، ولم يمسك عني شيئًا غيرك لأنك امرأته" [9]. إنه يذكرها بأنها سيدته، وأنها امرأة سيده... كما يعلن عن إكرامها له فكيف يرد إكرامها بهذه الخيانة؟! يعلن أنه العبد الذي يخدم ولا يخون، وأنه موضع ثقة سيده فلا يقدر أن يجحده! لقد أوضح أنه علاقته بهما إنما هي في الرب: "فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟!" [9]. لقد أحبها في الرب وخضع لها في الرب... أما علامة حبه الصادق أنه لم يشهر بها في السجن ولا انتقم منها حين سلمه فرعون كل شيء! وعلى العكس كانت امرأة فوطيفار تحبه جسديًا أو بمعنى آخر تحب شهوات جسدها، وعلامة ذلك إنها سلمته للسجن وعرضته للموت بعد أن شهرّت به، فهل حملت حبًا له؟! يقول الأب قيصريوس: [أظن أنها لم تكن تحبه ولا تحب نفسها. لو كانت تحبه لماذا أرادت تحطيمه؟! ولو كانت تحب نفسها لماذا أرادت أهلاك نفسها...؟! إنها لم تكن تحب لكنها كانت محترقة بسم الشهوة، ولم تكن مشرقة بلهيب الحق]. في حديثه مع من أحبته بعنف لا يستنكف من دعوة رجلها "سيدي" فأنه لا يستغل مشاعرها الشريرة ليسيطر عليها أو يحدثها كمن هو ند لها، إنما زيّن نفسه بروح الاتضاع وكما يقول القديس أمبروسيوس: [مع أن يوسف كان من أسرة البطاركة العظام لم يخجل من العبودية المنحطة بل بالحري زينها باستعداده للخدمة، وجعلها مجيدة بفضائله. لقد عرف كيف بتواضع ذاك الذي كان بين أيدي الشاري والبائع ويدعوهما "سيدي"]. 3. يوسف والثوب: إذ كان بمفردهما في البيت أمسكت به، للحال "ترك ثوبه في يدها وهرب وخرج إلى خارج" [13]. كان يعرف ثمن هروبه: العري والفضيحة والافتراء عليه والسجن وربما الموت، لكنه قبل هذا كله ثمنًا لعلاقته مع الله وطهارته. بهذا صار يوسف الشاب مثلًا حيًا للطهارة وكما يقول الأب قيصريوس: [يوجد في الكنيسة ثلاثة نماذج للطهارة يجب أن نتمثل بها: يوسف وسوسنة ومريم. يتمثل الرجال بيوسف والنساء بسوسنة والعذارى بمريم ]. إن كان قد قيل عن يوسف أنه: "حسن الصورة وحسن المظهر" [6]، فبتركه الثوب في يديّ سيدته كشف عن طهارته وجمال نفسه وعذوبة قلبه وكما يقول الأب قيصريوس: [كان يوسف جميلًا في الداخل أكثر من الخارج، بهيًا بنور قلبه أكثر من جمال جسده، حيث لم تكن عينا هذه المرأة تقدران أن تحترقا وتتمتعا بجماله]. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [أن يوسف قد تعرى فصار أكثر بهاءً من غيره، وكأنه قد عاد إلى حال آدم العريان في الفردوس ولا يخجل، من أجل طهارته]. صار يوسف مثلًا حيًا وشجاعًا للهروب من الشر، فمن كلمات الآباء في ذلك الشأن: * إن كنت طاهرًا حتى الآن فلتكن أكثر طهارة بتجنب مثل تلك المناظر. لا تبتهج بالمناقشات الباطلة ولا تحتج بالأعذار غير النافعة وإنما ليكن لك عذر واحد... أترك الزانية المصرية كمن يهرب من يديها عاريًا. القديس يوحنا الذهبي الفم من يلتذ للسماع إنما يحث الآخر على الكلام. القديس أمبروسيوس القديس چيروم القديس چيروم يرى الأب أوستريوس أسقف أماسيا أن ما فعله يوسف حمل ما تحقق بقوة في المسيح يسوع ربنا، إذ يقول: [أمسكت امرأة مصرية بيوسف فترك لها ثيابه ورحل، والمسيح رحل من الموت الذي أمسك به، تاركًا الثياب في القبر. أمسكت المصرية بثياب يوسف ولم يكن ممكنًا لها أن تمسك به هو، وكانت الأكفان في القبر الذي لم يعق الرب إذ لم يكن ممكنًا أن يمسك به] 4. يوسف في السجن: إذ لم تستطع امرأة فوطيفار أن تغتصب قلب يوسف وأمسكت بثيابه صرخت لتتهمه بالشر، فحمي غضب رجلها: "فأخذ يوسف سيدهُ ووضعه في بيت السجن المكان الذي كان أسرى الملك محبوسين فيه، وكان هناك في بيت السجن. ولكن الرب كان مع يوسف وبسط إليه لطفًا وجعل نعمة له في عينيّ رئيس بيت السجن" [20-21]. لقد نجح يوسف في بيت أبيه كابن محب لمبغضيه فدخل به الرب إلى العبودية ليعلن نجاحه كعبد غريب، وإذ نجح في عبوديته وزينها بفضائل دخل به إلى السجن ليتمجد الله فيه وسط المجرمين. لقد أعطاه الرب نعمة في عيني رئيس بيت السجن فسلمه كل شيء؛ وإذا بالرب معه "ومهما صنع كان الرب ينجحه" . ما أجمل الكلمات التي قالها القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان يوسف أكثر مجدًا من كل منتصر مكلل وهو مستمر تحت القيود، وكانت (امرأة فوطيفار) أكثر بؤسًا من أي سجين حتى وإن قطنت المساكن الملوكية ]. يؤكد الوحي الإلهي "الرب كان مع يوسف"... بهذا تحول السجن إلى سماء، لأنه حيث يوجد الرب يصير الموضع سماءً! التقى يونان بالرب المدفون في القبر وهو في جوف الحوت وسط تيارات المياه ولجج البحر الثائرة، وظهر كلمة الله ليحيط بالثلاثة فتية وهم في أتون النار... بينما حُرم الفريسي من اللقاء مع الله داخل الهيكل حين وقف متشامخًا يعدد فضائله! لست أقلل بهذا من قدسية الهيكل، لكنني أود أن نتلقى بربنا أينما وجدنا! إن غاية بيت الرب أن نصير مقدسًا للرب وهيكلًا لروحه القدوس، أينما حللنا إنما نحمله في داخلنا. هكذا تحول السجن في حياة يوسف إلى لقاء جديد مع الرب على مستوى ربما أعمق مما كان عليه وهو في بيت أبيه أو في بيت سيده. على أي الأحوال ألقت المرأة الشريرة بيوسف في السجن لتحطمه، فإذا به ينال نجاحًا في السجن ونعمة، ويتحول السجن إلى طريق للمجد. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هكذا هي طرق الله في التدبير، أن الأمور التي تضرنا هي بعينها التي تنفعنا. هذا ما حدث مع يوسف، فقد أرادت سيدته أن تحطمه، وبدت بالحقيقة تصارع معه لتحطيمه لكنها فيما هي تفعل ذلك كان عملها يدخل به إلى الأمان. فالبيت الذي كان فيه هذا الوحش (المرأة) محفوظًا كان بالنسبة ليوسف جبًا، أما السجن فكان بالنسبة له لطفًا. عندما كان في البيت محفوفًا بالإكرام والتودد (مغازلتها له) كان في رعب يخشى أن تقتنصه سيدته. كان في حالة خوف أقسى مما كان عليه وهو في السجن. أما بعد الاتهام فصار في سلام وأمان، إذ تخلص من هذا الوحش وفسقه وتدابيره المهلكة، لذا كان الأفضل له أن يُحفظ في موضع بائس (السجن) وسط خليقة بشرية عن أن يكون في صحبة سيدة مجنونة... بالحقيقة لم يُلق في سجن إنما انطلق من سجن. لقد جعلت من سيده عدوًا له، لكنها جعلت من الله صديقًا له؛ دخلت به إلى علاقة أوثق مع الله الذي هو الصديق الحق ]. |
||||
21 - 12 - 2022, 09:32 AM | رقم المشاركة : ( 30 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير سفر التكوين التاريخ البدائي
يوسف في السجن دخل يوسف السجن لا لذنب ارتكبه وإنما ثمنًا لشهوة امرأة فوطيفار، وهكذا نزل الرب إلينا واجتاز المعصرة لا عن شر ارتكبه إنما فدية للبشرية التي تنجست. وفي السجن التقى بخصيي الملك وكأنه بالسيد المسيح بين لصين. 1. الخصيان في السجن: إذ سخط فرعون على خصييه رئيس السقاة ورئيس الخبازين ووضعهما في حبس بيت رئيس الشرطة في بيت السجن، ولم يجدا من يخدمهما بأمانة ورقة مثل يوسف. لقد عاش يوسف في السجن -كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم- كما في بيته، يهتم بالمسجونين كأعضاء معه في بيت واحد. أتسم بالوداعة والرقة والطاعة. لم يخجل من عبوديته ولا من سجنه بل كان مترفقًا بالجميع يخدم حتى قساة المسجونين. هكذا نجح يوسف أينما وجد. 2. حلما الخصيين: قلنا قبلًا أن "الخصي" هنا لا يعني المعنى الحرفي وإنما يشير إلى مركز سام في بلاط فرعون. لقد حلم الاثنان في ليلة واحدة وفي موضع واحد، وكان الاثنان مغتمان... لكن يوسف استطاع بالله أن يفرز بينهما، قائلًا: "أليست لله التعابير؟! قُصَّا عليّ" [8]. ماذا يعني هذا؟ أولًا: لعل الخصيين يشيران إلى اللصين الذين كانا حول السيد المسيح المصلوب -يوسف الحقيقي- يعيرانه، لكن اللص اليمين عاد فأعلن توبته واغتصب الفردوس ليبقى مع الرب، إما اللص الذي على اليسار فبقي في شره وتعييره فخسر حياته الزمنية وأبديته. الخصيان يشيران إلى جنس البشرية الساقط، لكن قسمًا بالإيمان يجتاز الغضب ويعبر إلى الملكوت والآخر في جحوده يفقد حياته أبديًا. من هو الذي أغتصب مراحم الله إلاَّ رئيس السقاة الذي حمل عصير العنب في الكأس ليقدمه للملك، كأنه بجماعة المؤمنين الذين يقبلون دم السيد المسيح في كأس حياتهم ويجتازون بالإيمان معه المعصرة فيسر الآب بذبيحة ابنه القادرة على الخلاص. أما رئيس الخبازين فقد حمل من جميع طعام فرعون من صنعة الخباز وكان الطيور تأكله من السّل الذي على رأسه. يبدو لي أن هذا الطعام الذي تختطفه الطيور إنما يشير إلى أعمال الناموس التي اتكأ عليها اليهود خلال عبادتهم الحرفية أو أعمال البر الذاتي، الأعمال التي لا ترتبط بالإيمان فيخطفها عدو الخير ولا تكون موضع سرور الله. ثانيًا: يشير الخصيان إلى العذارى الحكيمات والجاهلات (مت 25: 1-13)، فرئيس السقاة كان خصيًا أي كالعذراء وقد قدم في كأسه عصير الكرمة، وكأنه بالعذارى الحكيمات الحاملات مصابيحهن ممتلئة بزيت الإيمان الحي العامل بالمحبة. ثالثًا: رأى رئيس السقاة كرمة ذات ثلاثة قضبان وقد أفرخت وطلع زهرها ونضج عناقيدها عنبًا [10]، ورأى رئيس الخبازين في الحلم ثلاث سلال حواري على رأسه... وفسر يوسف رقم "3" بثلاثة أيام في نهايتها يتمتع الأول بالتكريم والثاني بالموت. في دراستنا لسفري الخروج ويشوع رأينا أن رقم 3 يشير إلى القيامة من الأموات مع السيد المسيح القائم في اليوم الثالث، وكأن الحلمين بالنسبة لرئيس السقاة يشير إلى قيامة السيد المسيح (وقيامتنا معه) وما تحقق بالنسبة لرئيس الخبازين يشير إلى موت السيد المسيح (إذ ندفن أيضًا معه)، وقد بدأ بالقيامة حتى لا نرتعب من الموت والدفن، كما فعل الرسول بولس حينما قال: "لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبها بموته" (في 3: 10). ولعل رئيس السقاة يشير إلى جماعة المؤمنين الحقيقيين الذين قبلوا سمات القيامة فيهم رائحة حياة، أما رئيس الخبازين فيشير إلى الذين صار لهم عمل المسيح رائحة موت بسبب جحودهم. وكما يقول الرسول: "ولكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان، لأننا رائحة المسيح الذكية لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون، لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياه لحياة" (2 كو 2:14-16). ومع ما وصل إليه يوسف من هذا السمو الفائق فصار رمزًا للسيد المسيح في موته وقيامته، ورمزًا له في صلبه بين اللصين لكنه في ضعف بشري أتكل على ذراع بشرية، طالبًا من رئيس السقاة أن يذكره أمام فرعون، وإن كان قد تحدث في أدب لم يجرح مشاعر فوطيفار أو امرأته، إذ قال: "لأني قد سُرقت من أرض العبرانيين، وهنا أيضًا لم أفعل شيئًا حتى وضعوني في السجن" [15]. الله في محبته ليوسف أدّبه على هذا التصرف وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إذ كان يوسف متعجلًا في الهروب من السجن تُرك هناك زمانًا...حتى يتعلم ألا يضع رجاءه أو ثقته في البشر وإنما في الله وحده ]. 3. تحقق الحلمين: تحقق الحلمان في اليوم الثالث كقول يوسف، يوم ميلاد فرعون، حيث صنع وليمة لجميع عبيده، ونال رئيس السقاة العفو والعودة إلى عمله بينما عُلق رئيس الخبازين كما عبر يوسف. إنه يوم ميلاد جديد فيه يحيا الإنسان الجديد (رئيس السقاة) المجتاز المعصرة بينما يموت الإنسان العتيق المتعجرف إذ وضع الخبز على السلة العليا. يوسف الممجد تخرج يوسف في مدرسة المحبة الصادقة، فقد أتسع قلبه بالحب لإخوته المبغضين له، ونجح في بيت فوطيفار كعبد يخدم في محبة طاهرة، وأخيرًا كسجين وسط المذنبين، وفي الوقت المناسب رفعه الله إلى القصر وكأنه بالسيد المسيح الذي نزل من أجلنا إلى سجن الجحيم لكي يرفعنا معه إلى قصره السماوي واهبًا إيانا خبزًا سماويًا. طلب يوسف من رئيس السقاة أن يذكره أمام فرعون دون أن يمس سمعة امرأة فوطيفار في شيء، لكن إذ اتكل يوسف على هذا الذراع البشري تركه بعد ذلك سنتين في السجن، حتى متى جاء الوقت المحدد من قبل الله تكلم الله نفسه في قلب فرعون خلال حلمين أزعجاه. رأى فرعون نفسه واقفًا عند نهر النيل، وإذا بسبع بقرات حسنة المنظر وسمينة خرجت من النهر لترتع من مرج أخضر وخصيب، ثم خرجت سبع بقرات أخرى قبيحة المنظر ورقيقة اللحم أكلت البقرات الأولى وقد بقيت كما هي في قبح منظرها [21]. وإذ استيقظ فرعون ونام رأى سبع سنابل في ساق واحدة سمينه وحسنة، ابتلعتها سبع سنابل رقيقة ملفوحة بالريح الشرقية نابتة وراءها... لقد فسر يوسف الحلمين بكونهما يشيران إلى أمر واحد أراد الله تأكيده، هو حدوث رخاء عظيم لمدة سبع سنوات يفسده جوع شديد وقحط ليس له مثيل لمدة سبع سنوات تالية. إن كان النيل يشير إلى مياه المعمودية التي من خلالها أنطلق الرب بكنيسته المقدسة مرموزًا إليها بالسبع بقرات الحسنة المنظر والسمينة فإن عدو الخير ينطلق كوحش بحري معه أتباعه الأشرار القبيحو المنظر روحيًا والرقيقو اللحم، غايتهم افتراس الكنيسة في أواخر الدهر... إذ يقول السيد المسيح: "لو لم تقصر تلك الأيام لم يخلص جسد" (مت 24: 22)؛ "حتى يضلوا لو أمكن المختارون أيضًا، هذا أنا قد سبقت وأخبرتكم" (مت 24: 25). وقد قدم لنا السيد المسيح وصفًا مرًا لمجيء المسيح الدجال في أواخر الدهور، سبق لنا عرض أقوال الكثير من الآباء في تفسيره . تكرر الأمر بالنسبة لسنابل الحنطة، فإن كانت الكنيسة تمثل سنابل القمح المتحدة في ساق ملفوحة بالريح الشرقية، التي يقول عنها القديس هيبوليتس الروماني : [أنها المسيح الدجال، يهب من الشرق كريح ساخنة تحرق الزرع المقدس. هكذا يهاجم المسيح الكذاب بأتباعه الكنيسة المسيح ليفسدها في أواخر الدهور]. يبدو أنها ستكون أيام مريرة عند ظهور ضد المسيح، الذي قال عنه الرسول بولس: "يستعلن إنسان الخطية ابن الهلاك المقاوم والمرتفع على كل ما يدعى إلهًا أو معبودًا حتى أنه يجلس في هيكل الله (كإله) مظهرًا نفسه أنه إله" (2 تس 2: 4). وإذ يتعرض العلامة أوريجانوس لضد المسيح في عظاته على سفر إرميا يشكر الله أنه لا يعاصر هذه الأيام القادمة إذ يتساءل: "هل يا ترى سيوجد مؤمن واحد في كل كنيسة؟! بهذا يعكس العلامة أوريجانوس فكر الكنيسة في القرن الثاني عن المسيح الدجال. 2. إحضار يوسف: إذ أنزعج فرعون أحضر جميع سحرة مصر وحكمائها وقص عليهم حلمه فعجزوا عن تقديم تفسير للحلم. هنا تذكر رئيس السقاة ما حدث له ولرئيس الخبازين في السجن وكيف فسر لهما الغلام العبراني يوسف الحلمين. أخبر رئيس السقاة فرعون، فاستدعى يوسف الذي حلق وأبدل ثيابه ودخل على فرعون... وإذ أخبره فرعون بالأمر، أجاب: "ليس لي، الله يجيب بسلامة فرعون" [16]. إن كان إطلاق الشعر وارتداء ملابس السجن يشيران إلى التجسد الإلهي، حيث حمل السيد المسيح طبيعتنا لكن بغير فساد وارتدى جسدنا، فما فعله يوسف إذ حلق شعره وأبدل ثيابه ليدخل على فرعون يشير إلى السيد المسيح الذي يرتفع بنا إلى مجده، إلى حضن أبيه بعد أن ينزع عنا عارنا ويبدل طبيعتنا الأولى إلى طبيعة تليق بتمتعنا بحياته. في المسيح يسوع نخلع إنساننا القديم لنلبس الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه. 3. الحلمان وتفسيرهما: قص فرعون ليوسف الحلمين وأخبره أن السحرة لم يستطيعوا أن يخبروه بتفسيرهما. هنا فرعون يمثل العالم الذي كان الله يتحدث معه خلال الأحلام والرموز خاصة في العصر الموسوي... حتى يأتي السيد المسيح نفسه -يوسف- الذي يكشف لنا الرموز، ويحدثنا فمًا لفم، ويهبنا المشورة الصالحة باستلامه قيادة حياتنا، وإقامة مخازن قمح روحي في أعماقنا. ما أحوجنا أن ننطلق من الحكماء والسحرة إلى يوسف الحقيقي، فلا نعود نتكل على فهمنا البشري بل بالإيمان نلتقي بربنا يسوع، يكشف لنا الأسرار الإلهية ويقود حياتنا في أيام الشبع كما في أيام الجوع، ويتسلم تدبيرنا الروحي حتى يخرج بنا من ضيق هذا العالم إلى كمال مجده الأبدي! 4. مشورة يوسف: لم يقف عمل يوسف عند تفسير الحلمين بل قدم لفرعون مشورة صالحة بحسب الحكمة الإلهية: "فالآن لينظر فرعون رجلًا بصيرًا وحكيمًا يجعله على أرض مصر. يفعل فرعون فيوكل نظارًا على الأرض، ويأخذ خُمس غلة مصر في سبع سني الشبع، فيجمعون جميع طعام هذه السنين الجيدة القادمة ويخزنون قمحًا تحت يد فرعون طعامًا في المدن ويحفظونه، فيكون الطعام ذخيرة لسبع سني الجوع التي تكون في أرض مصر، فلا تنقرض الأرض بالجوع" [34-36]. لقد تركزت مشورة يوسف في النقاط التالية: أولًا: الحاجة إلى رجل بصير وحكيم يقيمه فرعون على أرض مصر... وكانت إجابة فرعون على هذا المطلب: "هل نجد مثل هذا رجلًا فيه روح الله؟! ثم قال فرعون ليوسف: بعدما أعلمك الله كل هذا ليس بصير وحكيم مثلك. أنت تكون على بيتي، وعلى فمك يقبل جميع شعبي" [38-40]. إذ يفتح الرب بصيرتنا فلا نعيش بعد تحت ظلال الناموس، بك يتكشف الحلمان فنفهم الحق عوض الظل، والمرموز إليه عوض الرموز نكتشف هذه الحقيقة أننا محتاجون إلى من يتسلم أرضنا ويتدبر حياتنا الداخلية بحكمة سماوية، فنقول ليوسفنا: إن كنت قد أدخلتنا إلى الحق، وفتحت بصائرنا على السموات من هو بصير وحكيم مثلك؟! من يكون على بيتي الداخلي ويشبع أفواه حواسي وعواطفي وكل طاقاتي غيرك؟! بمعنى آخر كلما دخل بنا ربنا يسوع المسيح إلى أسراره السماوية ازداد إحساسنا بالحاجة إليه والتهبت أعماقنا شوقًا نحوه، فنقول مع العروس: "وجدت من تحبه نفسي فأمسكته ولم أرخه حتى أدخلته بيت أمي وحجرة من حبلت بي" (نش 3: 4). إن كان فرعون قد تعلق قلبه بيوسف قائلًا: "هل نجد مثل هذا الرجلًا فيه روح الله؟!"، فكم بالحري يليق بنا أن نتعلق بذاك الذي روح الله هو روحه؟! الواحد مع الروح القدس في اللاهوت؟! يقول الرسول بولس: "لأن غاية الناموس هي المسيح" (رو 10: 4)... فإذ يكشف لنا السيد المسيح عن أسرار الناموس وأعماقه نكتشف غايته أن يدفعنا نحو المسيح كمخلص وعريس للنفس البشرية. ولعله لهذا السبب كان المرتل يصرخ: "بنورك يا رب نعاين النور"، وكأنه يقول بمسيحك الذي هو نورك نكتشف أسرار ناموسك فيدخل بنا إلى المسيح نفسه بكونه "النور الإلهي". المسيح هو الطريق وهو الغاية! ثانيًا: يوسف يسأل فرعون أن يقيم نظارًا على الأرض تحت قيادة ذاك الحكيم الذي يدبر أرض مصر. ماذا يعني بهؤلاء النظار إلاَّ تقديس الحواس، فتكون جميع حواسنا مضبوطة في الرب ومقدسة، تعمل لا حسب أهواء الجسد بل حسب مشورة السيد المسيح مدبر حياتنا كلها. والعجيب أن السيد المسيح لم يأتمن نظارًا على حواسنا غير روحه القدوس الذي وحده يقدر أن يقدس ويشكل حواسنا حسب إرادته الإلهية. يقول القديس الأنبا أنطونيوس: [الروح القدس يعلم الإنسان أن يحفظ الجسد كله -من الرأس إلى القدمين- في تناسق. فيحفظ العينين لتنظرا بنقاوة. ويحفظ الأذنين لتصغيا في سلام دون أن تتلذذ بالأحاديث عن الآخرين والافتراءات وذم الغير. ويحفظ اللسان لينطق بالصلاة وحده، معطيًا وزنًا لكل كلمة، فلا يسمح لشيء دنس أو شهواني أن يختلط بحديثه. ويحفظ اليدين لتتحركا طبيعيًا فترتفعان للصلاة لصنع الرحمة والكرم. ويحفظ المعدة ليكون لها حدود مناسبة للأكل والشرب، وذلك حسب القدر الكافي لقوت الجسد، فلا يترك الشهوة والنهم ينحرفان به فتتعدى حدودها. ويحفظ القدمين ليسلكا حسب إرادة الله بهدف القيام بالأعمال الصالحة. بهذا يكون الجسد كله قد اعتاد كل عمل صالح، وصار خاضعًا لسلطان الروح القدس، فيتغير شيئًا فشيئًا حتى يشارك - إلى حد ما - في النهاية صفات الجسد الروحي الذي يناله في القيامة العادلة ]. ثالثًا: طالب يوسف فرعون بالجمع في أيام الشبع، وتخزين خُمس المحصول السنوي لمدة سبع سنوات حتى يستخدم هذا الفائض في أيام الجوع. هذه مشورة حكيمة يليق بكل مؤمن أن يلتزم بها روحيًا، ففي فترات تعزيته الروحية والتهاب قلبه بمحبة الله يكون حريصًا أن يغتنم كل فرصة ليجمع لحساب ملكوت الله في مخازن قلبه الداخلية، حتى متى كان أمينًا وغير مستهتر في تلك الآونة يسنده الرب نفسه في أوقات الجفاف وفي فترات التجارب. بقد أمانتنا في فترات الالتهاب الروحي وحرصنا على كل فرصة للنمو والبنيان المستمر، نجد عون الله المجاني يفيض في فترات الفتور... فهو أمين و"ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة" (عب 6: 10). إن كنا تحت الناموس نلتزم بتقديم العشور، ففي عهد النعمة يليق بنا أن نقدم بفيض، فالخُمس هنا لا يعني كمًا معينًا إنما تقديم حواسنا له بكونها خمس حواس! رابعًا: إذ نقيم في الأرض مخازن "لا تنقرض الأرض بالجوع" [36]... بمعنى أنه إن صار جسدنًا يحمل فيه مخازن الحنطة الروحية، فإن الخطية لا تستطيع أن تفسده بجوعها، بل يجتاز فترات الضيق دون أن يهلك! 5. يوسف وختم فرعون: تلمس فرعون في يوسف أنه رجل فيه روح الله [38]، إنسان بصير وحكيم ليس مثله في الحكمة، لذا قال له: "أنظر قد جعلتك على كل أرض مصر، وخلع فرعون خاتمه من يده وجعله في يد يوسف، وألبسه ثياب بوص (من الكتان الأبيض) ووضع طوق ذهب في عنقه، وأركبه في مركبته الثانية، ونادوا أمامه أركعوا" [41-43]. يا للعجب الذي طرده إخوته من بينهم وحسبوه أهلًا للموت يكرمه الملك الوثني ويقيمه في قصره على كل أرض مصر. إخوته خلعوا قميصه الملون، وغريب الجنس يقدم له الثوب الكتاني الأبيض. باعه إخوته كعبد والوثني يهبه خاتمه ويضع طوق في عنقه ويركبه مركبته الثانية. إخوته أذلوه والغريب نادى أن يركع له الجميع. من هو يوسف هذا إلاَّ السيد المسيح الذي رفضته أمته وقبله الأمم كملك يسيطر على قلوبهم ويدبر حياتهم ويتجلى في أعماقهم؟! من هو يوسف هذا إلاَّ كل مؤمن حق يثبت في السيد المسيح ليصير مرفوضًا من أخوته، مشهودًا لبره من الذين في الخارج؟! أما فرعون فإن كان يمثل الشعوب الوثنية التي قبلت السيد المسيح، العبد المرفوض من إخوته، ليملك عليها روحيًا ويتسلم قيادة حياتها، يمكننا القول أنه يمثل الآب أيضًا. فكما خرج يوسف من السجن ليلتقي بفرعون ويتسلم الخاتم من يده والثوب الكتاني الأبيض وطوق الذهب في عنقه والمركبة. إنه السيد المسيح الذي صار لأجلنا كعبد، ودخل إلى الجحيم كما في السجن، ولحسابنا أنطلق فنال باسمنا من الآب خاتم البنوة، فصرنا فيه أبناء الله، وتمتعنا ببره كثوب كتاني أبيض بلا عيب ولا دنس، وصار لنا شركة أمجاده معلنة في الطوق الذهبي، وتمتعنا بالمركبة السماوية المنطلقة بنا نحو السماء كما من مجد إلى مجد ومن قوة إلى قوة، وصرنا فيه ملوكًا مكرمين. لقد دعى فرعون يوسف "صفنات فعنيح" التي تعني بالمصرية "طعام الحياة"... اللقب الذي يليق بحق بالسيد المسيح إذ لم يبن مخازن أرضية ليجمع حنطة في أيام الرخاء بل قدم نفسه خبزًا سماويًا، من يأكله لا يجوع إلى الأبد. يرى البعض أن هذا اللقب يعني بالعبرية "مخلص العالم" أو "معلن الأسرار". أزوجه فرعون اسنات ابنة فوطي فارع كاهن أون، وكان في ذلك يرمز لاتحاد السيد المسيح بعروسه القادمة من الأمم حيث كان والدها يتعبد ويكهن للأصنام. هذا وأسنات اسم آلهة الحكمة، واسم أبيها فوطي فارع يعني المنتسب لرع إله الشمس، أما أون فهي هليوبوليس مدينة الشمس ... ويقول إن أسنات كانت فتاة جميلة ومهذبة أحبت يوسف بسبب ما اتسم به من سمات فتركت عبادة الأوثان والتصقت بعبادة الله الحيّ. على أي الأحوال ليتنا نحسب كأسنات فنكون "حكماء" نترك عبادة شمس هذا العالم لنلتصق بشمس البر عريسًا أبديًا. 6. يوسف وتخزين القمح: أقام يوسف مخازن في كل مدينة وإذ بدأ الموظفون يقيدون كميات الطعام الواردة في كل مدينة حدث فيض حتى لم يستطع أحد أن يحصي الكميات الواردة، "وخزن يوسف قمحًا كرمل البحر كثيرًا جدًا حتى ترك العدد إذ لم يكن له عدد" [49]. حينما نسلم حياتنا في يد ربنا يسوع يفيض في كل مخازن حياتنا، ويهبنا شبعًا بلا كيل، فوق كل الحسابات البشرية، فيعيش الإنسان متهللًا، لا يستطيع الفراغ أن يتسلل إلى فكره أو قلبه أو أحاسيسه! إذ يبسط الرب يديه يعطي بسخاء ولا يعير، مفجرًا في داخلنا ينابيع حيَّة تفيض بلا توقف. 7. أبنا يوسف: في سنوات الشبع أنجبت أسنات ليوسف ابنين هما منسى، إذ قال يوسف: "الله أنساني كل تعبي وكل بيت أبي" [51]، أفرايم، قائلًا: "الله جعلني مثمرًا في أرض مذلتي" [52]. النفس التي تلتصق بالسيد المسيح تنجب كأسنات ابنين هما منسى وأفرايم، الأول يمثل الجانب السلبي حيث ينسى الإنسان هموم الحياة ومتاعبها وينسى بيت أبيه القديم، أما الثاني فيمثل الجانب الإيجابي إذ أفرايم يعني "الثمر المتكاثر" فلا يكفي أن ننسى الماضي وإنما يليق بنا أن نثمر في الرب. إن كانت أسنات تمثل الحياة الفاضلة، إذ هي اتحاد مع يوسف الحقيقي، فإن هذه الحياة الفاضلة كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا تقف عند ترك الشر أو نسيانه إنما يلزم معه صنع الخير. فالفضيلة في المسيح يسوع لها شقان متكاملان: نسيان الشر وممارسة للخير، أي انغلاق عن الخطية مع انفتاح على البر الحقيقي]. 8. يوسف يشبع مصر: كملت سبع سني الشبع لتأتي السبع سني الجوع... وإذ كان يوسف مدبرًا للأمر يقول الكتاب: "فكان جوع في جميع البلدان وأما أرض مصر فكان فيها خبز" [54]. إن سلمنا حياتنا في يديّ إلهنا وقت الشبع فإن لن يتركنا جائعين وقت الجوع! نختم حديثنا هنا بالتأمل في تدبير الله العجيب، فقد سمح ليوسف أن يُلقى في السجن حتى ينقذ المصريين من المجاعة ويهب لعائلته الحياة... وكأنه بالسيد المسيح الذي صار عبدًا، ودخل تحت حكم الصليب لكي يقدم ذاته خبزًا سماويًا يشبع الأمم الغريبة الجنس، وفي آخر الأزمنة ترجع إليه خاصته التي جحدته لتقبل الإيمان به بعد سني الجحود الطويلة. |
||||
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
تفسير سفر التكوين - د/ مجدى نجيب |
تفسير سفر التكوين د. مجدى نجيب |
تفسير سفر التكوين - المقدمة |
تفسير قراءات 1يناير من سفر التكوين |
تفسير سفر التكوين - المقدمة |