عمل الروح القدس وقيادته للكنيسة
بعد قيامته من الموت ظل السيد المسيح القائم من الموت يظهر لتلاميذه، رسله، مدة "أربعون يومًا ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله. وفيما هو مجتمع معهم أوصاهم أن لا يبرحوا أورشليم بل ينتظروا موعد الآب الذي سمعتموه منى. لأن يوحنا عمد بالماء وأما أنتم فستعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير.. لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لي شهودًا في أورشليم وفى كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض" (156)،
"فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالي" (157).
طلب السيد القائم من الموت من تلاميذه، رسله، أن يقيموا في مدينة أورشليم ولا يبرحوها مهما كانت الظروف إلى أن يحل عليهم الروح القدس الذي سيعطيهم مواهبه وسيهبهم القوة "ستنالون قوة"، "تلبسوا قوة"، ولن تكون معموديتهم بالماء فقط، كما عمد يوحنا المعمدان، بل بالروح القدس، بالماء والروح، كما قال الرب لنيقوديموس ":إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله.. ينبغي أن تولدوا من فوق" (158). هذا الروح، الروح القدس، لا يعطى ولا يحل إلا على المؤمنين بالرب يسوع المسيح، فهذا ما أعلنه الرب نفسه "من آمن بي كما قال الكتاب تجرى من بطنه أنا هو ماء حيّ. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه لأن الروح القدس لم يكن قد أعطى بعد. لأن يسوع لم يكن قد مجد بعد" (159).
من هذه الآيات ومما سبق نخرج بثلاث حقائق هامة:
إن الرب يسوع المسيح كان قد أعد تلاميذه، رسله، ليكونوا شهودًا له، شهودًا لشخصه وأعماله وأقواله، وبالدرجة الأولى شهودًا لصلبه وقيامته وصعوده، شهودًا له كالرب القائم من الموت والصاعد إلى السموات والجالس عن يمين العظمة في الأعالي.
ولكنه أكد لهم أنهم لن يستطيعوا أن يؤدوا الشهادة له أمام البشرية في كل العالم من ذواتها وبمجهودهم البشرى فهو لابد أن يكون معهم بروحه القدوس، ومن ثم فلابد أن يحل على الروح القدس، روح الله الآب وروح الابن، وأن يسكن فيهم ويقودهم ويرشدهم ويعلمهم ويذكرهم بكل ما قاله لهم وعمله أمامهم ويهبهم القوة لمواجهة العالم وقواته الشريرة.
وكان مقررًا أن يحل الروح القدس على التلاميذ والكنيسة، التي كانوا هم نواتها، بعد صلب المسيح وقيامته، أو بتعبير الرب نفسه بعد أن يتمجد، ومجده، كما سبق، هو ارتفاعه على الصليب "قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان.. وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلى الصليب الجميع" (160). وهذا ما عبر عنه عندما حانت لحظة القبض عليه لمحاكمته وصلبه "أيها الآب قد أتت الساعة. مجد أبنك ليمجدك أبنك أيضًا" (161)، "الآن قد تمجد ابن الإنسان وتمجد الله فيه" (162). وكان لابد أن يصعد المسيح إلى السماء ليرسل الروح النجس ويسكبه على التلاميذ؛ "لكنى أقول لكم الحق أنه خير لكم أن أنطلق. لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى. ولكن إن ذهبت أنا أرسله إليكم" (163).
وكان السيد المسيح قد أعلن لتلاميذه بعد العشاء الرباني وقبل القبض عليه ماهية وصفات وعمل الروح القدس في الآيات التالية:
"وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. أما أنتم فتعرفونه لأن ما معكم ويكون فيكم. لا أتترككم يتامى. أنى آتى إليكم.. وأما المعزى الروح القدس الذي سيرسله الآب بأسمى فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم" (164)،
"ومتى جاء المعزى الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي. وتشهدون أنتم أيضًا لأنكم من الابتداء" (165)،
"لكنى أقول لكم الحق أنه حير لكمن أن أنطلق. لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى. ولكن إن ذهبت أرسله إليكم ومتى جاء ذلك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة. أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي. وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبى ولا ترونني أيضًا. وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين. إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لن تستطيعوا أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية. ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم.كل ما للآب هولي. لهذا قلت أنه يأخذ مما لي ويخبركم. كل ما للآب هو لي. لهذا قلت أنه يأخذ مما لي ويخبركم. بعد قليل لا تبصرونني. ثم بعد قليل أيضًا ترونني لأني ذاهب أبى الآب" (166).
وفى هذه الآيات يكشف الرب عن الآتي:
إن هذا المعزى الذي سيرسله من عند الآب باسمه هو روح الحق، روح الله "الله روح"، الروح القدس، "روح إلهنا" (167)، "روح المسيح الذي فيهم" (168)، "روح يسوع المسيح" (169) روح الآب وروح الابن "أن كان روح الله ساكنًا فيكم. ولكن أن كان أحد ليس روح المسيح فذاك ليس له" (170). فهو روح الله وروح المسيح، روح الآب وروح الابن، والآب والابن واحد (171)، ومن ثم فروح الآب والابن واحد، والآب والابن والروح القدس واحد "باسم الآب والابن والروح القدس" (172)، لذلك يقول الوحي "أرسل الله روح ابنه" (173)، فالله واحد؛ موجود بذاته، الآب، ناطق بكلمته، الابن حي بروحهن الروح القدس. والابن صادر (مولود) من الآب بالولادة بلا انفصال "أنت أبنى أنا اليوم ولدتك" (174)، والروح القدس صادر (منبثق) من الآب بالانبثاق، بدون انفصال أو انقطاع "الذي من عند الآب ينبثق" (175). ولأن الروح القدس هو روح الآب والابن المنبثق من الآب فهو مرسل من الآب "يرسله الآب" ومن الابن أيضًا "إن ذهبت أرسله (أنا) إليكم" ولكن "سأرسله أنا إليكم من الآب باسم الابن "الذي سيرسله الآب باسمي".
وقد دعى السيد المسيح الروح القدس ب "البارقليط" وفى اليونانية "بارالكيتوس – Parakletos" “Advocate” أي مدافع أو محامى. وقد دعاه السيد المسيح "باراقليطًا آخر" لأن المسيح نفسه أيضًا دعى باراقليط، يقول القديس يوحنا الرسول بالروح "وإن أخطأ أحد فلنا شفيع (باراكليت – Paraleton) عند الآب يسوع المسيح البار" (176)، وقد ترجمت كلمة "باراقليط" في العربية "شفيع"، والشفيع هو المحامى أو المدافع.
وهو سيمكث إلى الأبد "يمكث إلى الأبد" وسيكون مع الرسل وفيهم "لأنه ماكث معكم وفيكم "روح المسيح الذي فيهم"، سيسكن فيهم "أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم" (177)، "أن جسدكم هو هيكل للروح القدس" (178).
"لا يستطيع العالم أن يقبله" لأنه ضد روح العالم الشرير الذي رفض المسيح "إن كان العالم يبغضكم فأعلموا أنه قد ابغضني قبلكم. لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته" (179)، يقول الوحي بلسان بولس الرسول "الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة" (180).
وهو غير مرئي لأنه جوهر إلهي روحي غير مرئي، وغير مدرك "لا يراه ولا يعرفه". الله روح وغير مرئي "الله لم يره أحد"، "الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه" (181)، "لأن الإنسان لا يراني ويعيش" (182). كما أن الروح، بصفة عامة، ليس لها خواص الكائنات المرئية من لحم ودم وعظام كما قال السيد نفسه "الروح ليس له لحم ولا عظام" (183).
ومهمته الأساسية هي الشهادة للمسيح "فهو الذي يشهد لي"، "والروح هو الذي يشهد لأن الروح هو الحق.. إن كنا نقبل شهادة الناس فشهادة الله أعظم لأن هذه شهادة الله التي قد شهد بها عن ابنه. من يؤمن بابن الله فعنده الشهادة في نفسه. ومن لا يصدق الله فقد جعله كاذبًا لأنه يؤمن بالشهادة التي قد شهد بها الله عن ابنه. وهذه هي الشهادة إن الله أعطانا حياة أبدية. وهذه الحياة هي في ابنه" (184).
وكانت له مهمة خاصة جدًا بالنسبة للرسل وهى أن يعلمهم كل شيء ويذكرهم بكل ما قاله الرب لهم ويرشدهم إلى كل الحق: "فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم"، "فهو يرشدكم إلى جميع الحق".
وهو يعلمهم كل شيء بأن يعطيهم الاستنارة الداخلية ويعلن لهم، يوحى لهم بكلمة الله "أما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شئ.. وأما أنتم فالمسيحية التي أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد بل كما تعلمكم هذه المسحة عينها عن كل شيء" (185)، "ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله التي نتكلم بها أيضًا لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلمه الروح القدس" (186).
وكان الروح القدس وما يزال، كما وعد الرب هو الذي يتكلم على لسان التلاميذ والرسل والمدافعين والخدام ويعلمهم ما يجب أن يقولونه:
"ومتى قدموكم إلى المجامع والرؤساء والسلاطين فلا تهتموا كيف أو بما تحتجون أو بما تقولون. لأن الروح القدس يعلمكم في تلك الساعة ما يجب أن تقولونه" (186)،
"فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون. لأنكم تُعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به. لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم" (187)،
"فضعوا في قلوبكم أن لا تهتموا من قبل لكي تحتجوا. لأني أنا أعطيكم فمًا وحكمة لا يقدر جميع معانديكم أن يقاوموها أو يناقضوها" (188)،
"فمتى ساقوكم ليسلموكم فلا تعتنوا من قبل بما تتكلمون ولا تهتموا. بل مهما أعطيتهم في تلك الساعة فبذلك تكلموا. لأن لستم أنتم المتكلمين بل الروح القدس" (189).
وهذا ما تم حرفيًا، يقول الكتاب أنه عندما وقف بطرس ويوحنا أمام الكهنة والشيوخ ورؤساء الكهنة "امتلأ بطرس من الروح القدس" ووبخهم وشهد بكل جرأة لصلب وقيامة المسيح وأنه لا خلاص لهم إلا بالإيمان به "وليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس أسم أخر تحت السماء قد أعطى بين الناس به ينبغي أن نخلص"، ثم يقول الكتاب "فلما رأوا مجابهة بطرس ويوحنا ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعاميان تعجبوا. فعرفوهما أنهما كانا مع يسوع" (190).
ب_ ويذكرهم بكل ما قاله الرب لهم "ويذكركم بكل ما قلته لكم؟ كانت بعض أقوال السيد المسيح، خاصة المتصل منها بآلامه وصلبه وقيامته غير متوقعة وصعبة على فهم التلاميذ وإدراكهم، كيهود، فقد كانت توقعاتهم وآمالهم في المسيح عكس ذلك تمامًا، ولذا يكرر الكتاب عبارات مثل:
"وهذه الأمور لم يفهما تلاميذه أولًا" (191)،
"وأما هم فلم يفهموا هذا القول. وكان مخفي عنهم لكي لا يفهموه" (192)،
"وأما هم فلم يفهموا هذا القول وخافوا أن يسألوه" (193)،
"أما هم فلم يفهموا من ذلك شيئًا وكان هذا الأمر مخفي عنهم ولم يفهموا ما قيل" (194).
ولكن بعد الصلب والقيامة بدأوا يتذكرون ويدركون مغزى ما سبق أن قاله لهم:
"ولكن لما تمجد يسوع حينئذ تذكروا أن هذه كانت مكتوبة عنه" (195)،
"فلما قام من الأموات تذكر تلاميذه أنه قال هذا" (196)،
"فتذكرن كلامه" (197).