11 - 03 - 2014, 05:48 PM | رقم المشاركة : ( 21 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
العلاقة مع أشور نبوخذنصر ملك بابل دبر الرب في مرحلة السبي أن يتعرف ملوك بابل ومادي وفارس على أنبياء الرب أمثال دانيال النبي الذي حكى وفسّر لنبوخذ نصر الملك حلمه المختص بالممالك التي سوف تتعاقب إلى مجيء السيد المسيح. وكان حلم الملك أن تمثالًا عظيمًا بهيًا جدًا وهائلًا، رأسه من ذهب جيد. صدره وذراعاه من فضة. بطنه وفخذاه من نحاس، وساقاه من حديد. وقدماه بعضهما من حديد والبعض من خزف. وبينما كان ينظر الملك قُطع حجر بغير يدين وضَرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معًا وصارت كعصافة البيدر في الصيف فحملتها الريح فلم يوجد لها مكان. أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلًا كبيرًا وملأ الأرض كلها (انظر دا 2: 31-36). وقد أطلق نبوخذ نصر على دانيال النبي اسم "بلطشاصر" (دا4: 8) وعيّنه كبيرًا للمجوس (انظر دا 4: 9) في المملكة وظل يشغل هذا المنصب أيضًا في مملكة مادي وفارس التي جاءت بعد مملكة بابل. كان الحجر الذي صار جبلًا كبيرًا هو رمز للسيد المسيح الذي ولد بغير زرع بشر وهو ملك الملوك ورب الأرباب،وكان التمثال يرمز إلى الممالك المتعاقبة من مملكة بابل إلى مملكة مادي وفارس ثم ملك الإسكندر الأكبر وما أعقبه من ممالك أربعة والإمبراطورية الرومانية التي جاء بعدها المُلك الروحي الإلهي للسيد المسيح الذي فاق كل عظمة ممالك الأرض. وبناءً على حلم الملك نبوخذ نصر وتفسيرات ونبوات دانيال، جاء المجوس من المشرق ليسجدوا للملك المسيح ويقدموا عبادتهم وقرابينهم. وبهذا وضع السيد المسيح في بلاد المشرق أساس الإيمان بملكوته السمائي. وحينما بدأت الكرازة بالإنجيل في تلك البلاد كان الأساس موجودًا في واحدة من أقدم الحضارات الوثنية وأعتاها. |
||||
11 - 03 - 2014, 05:50 PM | رقم المشاركة : ( 22 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
نشأة السيد المسيح كما كان السيد المسيح عجيبًا في ميلاده، هكذا أيضًا كان عجيبًا في نشأته وباقي أمور حياته وخدمته. فقد هرب من وجه هيرودس الملك الذي أراد أن يقتله. وذهب السيد المسيح متغربًا في أرض مصر وتباركت مصر بحضوره إليها. وارتجت أوثان مصر وذاب قلب مصر داخلها (انظر إش19). كان من الممكن أن يصطدم السيد المسيح بهيرودس الملك، لأن المسيح أقوى منه بكثير، ولكن في إخلائه لذاته، فضَّل أن يهرب -مع ما في الهروب من مظاهر الضعف وعدم المواجهة- لأن السيد المسيح لم يكن منشغلًا بمظاهر القوة والعظمة الخارجية، بل بتحقيق الانتصار غير المنظور ضد مملكة الظلمة الروحية، فأظهر بالضعف ما هو أقوى من القوة. #وبعد مذبحة أطفال بيت لحم بدا للناس وكأن السيد المسيح الذي رأى المجوس نجمه، قد ذُبح وانتهى أمره. وبهذا قَبِلَ السيد المسيح أن يصير مذبوحًا في نظر الناس، وكأنه غير موجود، وهو الحامل لكل الوجود، والذي به "نحيا ونتحرك ونوجد" (أع17: 28). قَبِل المسيح هزيمة مؤقتة أمام هيرودس، في نظر الناس. فمن الواضح أن مذبحة الأطفال وهروب السيد المسيح إلى أرض مصر قد صنعا معًا فاصلًا بين ميلاده ونشأته في الناصرة، حتى ظن اليهود فيما بعد أن السيد المسيح من الجليل. وقالوا مستنكرين "ألعل المسيح من الجليل يأتي. ألم يقل الكتاب إنه من نسل داود ومن بيت لحم القرية التي كان داود فيها يأتي المسيح؟" (يو7: 41، 42). وحتى نثنائيل الذي دعاه السيد المسيح، قال في البداية "أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟!" (يو1: 46). ولكن حينما كُتب الإنجيل فيما بعد اتضح أن السيد المسيح لم يكن من الجليل ولا من الناصرة في ميلاده، بل من بيت لحم اليهودية مدينة داود الملك حسب الكتب المقدسة. وأعطى القديس لوقا الدليل القاطع الذي يستطيع أن يرجع إليه كل إنسان في ذلك الزمان الذي كتب فيه إنجيله، بأن ذكر أن السيد المسيح قد تسجّل ضمن الاكتتاب الأول الذي أمر به أوغسطس قيصر.. إذ أمر بأن تكتتب كل المسكونة "وهذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سورية" (لو2: 2)، مشيرًا في أي سجلات المواليد ينبغي أن يبحث الإنسان عن زمان ومكان ونسب السيد المسيح. قيل عن السيد المسيح أنه "كان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لو2: 52). وأيضا "كان الصبي ينمو ويتقوى بالروح ممتلئًا حكمة وكانت نعمة الله عليه" (لو2: 40). أخلى السيد المسيح ذاته آخذًا صورة عبد "وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه" (فى2: 8). ولذلك قَبِل أن يوجد في صورة طفل رضيع تحمله السيدة العذراء بين ذراعيها وتمنحه الغذاء حينما أرضعته من لبنها. وقَبِل أن ينمو قليلًا قليلًا بشبه البشر وأن يتعلم المشي والكلام وهو المذخر فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة والعلم، وهو اللوغوس (الكلمة). # خضع السيد المسيح لنواميس الطبيعة بلا خطية وخضع لقواعد الحياة ونواميسها،فكان خاضعًا لأبويه (أى العذراء وخطيبها يوسف)، مطيعًا لهما (انظر لو2: 51). وبهذا أكمل الوصايا الإلهية بما في ذلك وصية "أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض" (خر20: 12) "التي هي أول وصية بوعد" (أف6: 2). لم يقدّم السيد المسيح في تجسده خضوعًا للآب السماوي فقط، بل وضع نفسه وأطاع من أوصى الرب بطاعتهم من البشر. مقدمًا المثل الأعلى في التواضع وإنكار الذات. # وبالرغم من أن السيد المسيح هو قدوس القديسين، وهو رئيس كهنة الخيرات العتيدة، وهو رئيس الخلاص، وهو رئيس السلام، وهو راعي الخراف العظيم، وهو ملك الملوك ورب الأرباب، وهو مشتهى الأجيال، وهو خلاص الله الذي أعده قدام كل شعوب الأرض. إلا أنه لم يبدأ خدمته الخلاصية المبشرة بالإنجيل وباقتراب ملكوت الله إلا بعد بلوغه سن الثلاثين. في تلك السن مسح الآب السيد المسيح بالروح القدس في نهر الأردن ليُستعلَن السيد المسيح كخادم للخلاص وككاهن مدعوًا من الله رئيس كهنة على رتبة ملكي صادق. كان أبناء هرون لا يبدأون في ممارسة خدمتهم الكهنوتية في خيمة الاجتماع حسب الشريعة إلا بعد بلوغهم سن الثلاثين. وهكذا فعل أيضًا السيد المسيح. إن العقل يقف حائرًا أمام هذه الأعوام الثلاثين التي قضاها السيد المسيح بدون خدمة رسمية، بل اقتصرت خدمته على حياته وقدوته الحسنة ومعاملاته الطيبة. وتمتعت السيدة العذراء بعشرة طويلة مع ابنها الوحيد يسوع المسيح القدوس الذي "فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديًا" (كو2: 9). من يستطيع أن يحكى عن حلاوة تلك الأيام والشهور والسنين الطويلة؟! وأي قلب بين البشر أحب السيد المسيح مثل قلب العذراء القديسة التي حملته في بطنها، كما حملته في قلبها وعقلها ووجدانها؟! ويكفى أنها كانت تراه في كل يوم وكل ساعة ملء العين والقلب والفكر على مدى ثلاثين عامًا. كان يعمل نجارًا، يستجيب لمطالب الناس ويعمل في الخير ما يرضيهم. كم من البيوت امتلأت من فنه وعمل يديه؟! وهو الذي "قاس السماوات بالشبر" (إش40: 12) والمسكونة هي عمل يديه.. ما أعجب اتضاعك أيها السيد النجار..؟! في صمتك، في هدوئك، في وداعتك وأنت تعمل من أجل بناء الإنسان وأنت المهندس الأعظم.. |
||||
11 - 03 - 2014, 05:50 PM | رقم المشاركة : ( 23 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
عماد السيد المسيح قبل أن يبدأ السيد المسيح خدمته التبشيرية بملكوت الله ذهب ليعتمد من يوحنا المعمدان في نهر الأردن. كان الشعب يذهبون ليعتمدوا بمعمودية التوبة لغفران الخطايا في نهر الأردن، وذهب معهم السيد المسيح في اتضاع عجيب، ضمن جموع التائبين الذين يغتسلون بالماء من خطاياهم، مع أنه لم يفعل أية خطية. (هنا ونشير إلى حقيقة أن الغفران بذبائح العهد القديم أو بمعمودية يوحنا غفرانًا ينتظر ذبيحة صليب السيد المسيح وفاعليتها، إذ لم ينتقل البشر من الموت إلى الحياة، ومن الجحيم إلى الفردوس إلا بعد إتمام الفداء على الصليب). ذهب مخلص العالم البار القدوس الذي بلا خطية وحده، ليُحسب (في نظر الناس) مع الخطاة والتائبين الذين يغتسلون من خطاياهم، مثلما قيل عنه "وأحصى مع أثمة" (إش53: 12). حقًا يا رب لقد حملت خطايانا، وقبلت ذلك بكل اتضاع لكي نحمل نحن الخطاة صورة برك وقداستك وكمالك. إن العقل يتساءل: ما الذي فكرتْ فيه تلك الجموع، حينما أبصرتْ السيد المسيح آتيًا إلى معمودية التوبة من يوحنا..؟! ذلك المشهد العجيب الذي تحيّرت أمامه أفهام الملائكة العلوية. حاول يوحنا أن يمنع السيد المسيح من ذلك وقال له: "أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتى إلىّ؟!" (مت3: 14). ولكن السيد المسيح أجابه في اتضاع عجيب بعيد عن كل مظاهر العظمة والافتخار: "اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر" (مت3: 15)، "حينئذ سمح له (يوحنا)" (مت3: 15). لقد دار ذلك الحديث بينهما ولم يسمعه غالبية الجمع، ولكن ما أبصرته الجموع هو ذلك الحمل الوديع وهو يضع نفسه أمام الآب في طاعة عميقة صامتة، حاملًا صورة الإنسان الذي أخطأ وجاء لكي يطلب الاغتسال والمغفرة.. ونزل السيد المسيح إلى الماء، واعتمد من يوحنا الكاهن. وهنا لم يكن ممكنًا للسماء أن تصمت أكثر من ذلك، فللوقت وهو صاعد من الماء "وإذا السماوات قد انفتحت له.. وصوت من السماوات قائلًا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت3: 16، 17). وقف يوحنا المعمدان ليرى بعينيه الروح القدس آتيًا من السماء التي انشقت ومستقرًا على رأس السيد المسيح، وليسمع بأذنيه صوت الآب السماوي وهو يشهد لابنه الوحيد الذي تجسد، بأنه هو فتاه الذي اختاره وحبيبه الذي سُرَّت به نفسه (انظر مت12: 18)،ومنذ ذلك اليوم فصاعدًا صار يوحنا يشهد للسيد المسيح ويرشد الناس إليه.. حقا قال الآباء: [إن من يسعى وراء الكرامة تهرب منه، ومن يهرب منها تسعى خلفه وترشد جميع الناس إليه]. |
||||
11 - 03 - 2014, 05:51 PM | رقم المشاركة : ( 24 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
قد رأيت الروح قال يوحنا المعمدان: "إني قد رأيت الروح نازلًا مثل حمامة من السماء فاستقر عليه. وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء، ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلًا ومستقرًا عليه فهذا هو الذي يعمّد بالروح القدس. وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله" (يو1: 32-34). كانت هذه هي العلامة التي أعطاها الله لنبيه يوحنا، أن الذي يرى الروح أثناء عماده نازلًا من السماء ومستقرًا عليه، فهذا هو المسيح ابن الله، حمل الله الذي يحمل خطية العالم ليخلّصه. وقد حل الروح القدس وظهر "بهيئة جسمية مثل حمامة" (لو3: 22) إذ "السماوات قد انشقت" (مر1: 10) ونزل الروح القدس واستقر على رأس السيد المسيح (انظر يو1: 32). كان المنظر مبهرًا وجميلًا جدًا؛ فالسماوات التي انفتحت قد جاء منها الروح القدس، وصوت الآب قائلًا: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت3: 17). ولاشك أن يوحنا قد انبهر وفرح بهذا المشهد العجيب، مع صوت الآب وتسابيح الملائكة، والمناظر السمائية حينما انفتحت السماء،مشهد لا يقل بالطبع روعة عن حلم الأب يعقوب حينما أبصر السلم المنصوب على الأرض ورأسه يمس السماء، والملائكة صاعدة ونازلة عليه، والرب واقف عليه بمنظر مخوف يتكلم مع يعقوب. كان سلم يعقوب إشارة إلى التجسد الإلهي، وإشارة إلى انفتاح السماوات على الأرض. وها هو يوحنا يبصر بعينيه، ليس في منام، بل في يقظة، السماوات مفتوحة بكل ما فيها من أمجاد روحانية لتعلن أن الصاعد من مياه الأردن هو الابن الحبيب الذي سُرّ به قلب الآب، والذي عليه يكون رجاء الأمم والشعوب. |
||||
11 - 03 - 2014, 05:52 PM | رقم المشاركة : ( 25 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
لماذا سُرَّ الآب بابنه الحبيب؟ من المفهوم طبعًا أن الابن في تجسده كان موضوعًا لسرور الآب نظرًا لقداسته المطلقة وطاعته الكاملة. لهذا قال السيد المسيح: "الذي أرسلني هو معي ولم يتركني الآب وحدي لأني في كل حين أفعل ما يرضيه" (يو8: 29). وفي مناجاته مع الآب السماوي في ليلة صلبه وآلامه قال له: "أنا مجّدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته.. أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم.. وعرّفتهم اسمك وسأعرّفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم" (يو17: 4، 6، 26). لاشك أن السيد المسيح قد أرضي قلب الآب بتقديم مثال الإنسان الكامل الذي تمم كل رغبات الآب وأطاع حتى الموت موت الصليب. ولكن هناك بُعدًا آخرًا لسرور الآب من نحو ابنه الوحيد الجنس المولود منه قبل كل الدهور وقبل خلق الملائكة والبشر وكل ما في العالم من موجودات. وذلك لأن الابن في ولادته الروحية الأزلية من الآب قد حمل في أقنومه الخاص كل الصفات الإلهية التي للآب مثل الحق والحكمة والصلاح والقداسة والحب والقدرة على كل شيء والعدل والقوة.. ولأن المحبة هي من صفات الجوهر الإلهي؛ فينبغي أن تمارَس بين الأقانيم الثلاثة قبل كل الدهور لهذا قال السيد المسيح للآب: "لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم" (يو17: 24). فالابن -والحال هكذا- هو موضوع لحب الآب ولمسرته.. لأن الآب يرى في الابن كل الكمالات الإلهية التي يحبها. وقد يسأل سائل كيف يستطيع الآب أن يرى الابن بينما نعلم أن الابن هو في الآب حسب قوله لتلاميذه: "صدقوني أنى في الآب والآب فيَّ" (يو14: 11)؟ ونجيب على ذلك بأن الرؤية الإلهية لا تخضع للمقاييس المادية. وعلى سبيل المثال: فإن الفكر يولد من العقل في العقل ومع ذلك فإن العقل يستطيع أن يرى الفكر المولود منه وفيه. ويعجب به مثلما يقول قائل عن فكرة أعجبته [أنا أرى أن هذه الفكرة جميلة] أو عن فكر صائب [أنا أرى أن هذا الفكر سليم]. فالعقل يرى الفكر ومن الممكن أن يحبه ويعجب به. فكم بالأولى يكون الحال بين الآب الوالد للابن، والابن الكلمة المولود منه الذي هو العقل الإلهي منطوق به؟!! إن الابن هو موضوع سرور الآب منذ الأزل أي قبل كل الدهور وهو موضوع فرحُه الدائم. وكل ما يمكن أن يُسر قلب الآب بالنسبة للخليقة هو من خلال مسرته بالابن. لهذا قال معلمنا بولس الرسول في رسالته إلى أهل أفسس إن الآب قد باركنا في المسيح واختارنا قبل تأسيس العالم في المسيح فكتب يقول: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة،إذ سبق فعيّننا للتبنّي بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب" (أف1: 3-6). لقد بارك الله الآب قديسيه في المسيح لأنهم صاروا أعضاء في جسده أي الكنيسة، واختارهم في المسيح لأنهم باغتسالهم بدمه قد نالوا سلطانًا أن يصيروا أولاد الله. لهذا قال: "إذ سبق فعيّننا للتبنّي بيسوع المسيح.. الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا" (أف1: 5، 7). وقد كتب القديس أثناسيوس الرسولي يقول: (الآب يفعل كل شيء من خلال الكلمة (أى الابن) في الروح القدس) (الرسالة الأولى إلى سرابيون). وهذا ما يؤكده قول معلمنا بولس الرسول: "مخلصنا الله.. بمقتضى رحمته خلّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا" (تى3: 4-6). وأيضًا قوله عن قدومنا إلى الآب بالابن في الروح القدس "المسيح يسوع.. به لنا كِلَينا قدومًا في روح واحد إلى الآب" (أف2: 13، 18). إن الله لم يبارك قديسيه ويختَرهم فقط في المسيح، بل أكثر من ذلك أنهم قد خلقوا به وله. كقول معلمنا بولس الرسول في رسالته إلى أهل كولوسي عن الابن: "الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة. فإنه فيه خُلِقَ الكل ما في السماوات وما على الأرض ما يُرى وما لا يُرى سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلق. الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل وهو رأس الجسد الكنيسة" (كو1: 15-18). إن الخليقة قد خلقت من أجل الابن.. ليس فقط كل شيء به كان، بل كل شيء لأجله أيضًا كان. أليست الخليقة هي نتيجة الحكمة الإلهية والابن هو الملقّب "حكمة الله" (1كو1: 24)؟! |
||||
11 - 03 - 2014, 05:53 PM | رقم المشاركة : ( 26 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
ما بين الظهور والتجسد لم يكن ظهور الروح بهيئة جسمية مثل حمامة معناه أن الروح القدس قد تجسّد.. لأن الروح القدس لا يتجسد مثلما تجسد كلمة الله. بل إن الظهور شيء، والتجسد شيء آخر. فالمسيح كلمة الله قد ظهر مرارًا في العهد القديم دون أن يكون ذلك تجسدًا على الإطلاق. وفى هذا المقام نذكر على سبيل المثال ظهور السيد المسيح مع ملاكين لإبراهيم عند بلوطات ممرا في هيئة ثلاثة رجال. وتكلم إبراهيم معه ودعاه وأعطاه الرب الموعد بميلاد إسحق بعد عام من هذا الظهور. ثم سار إبراهيم مع السيد المسيح بينما ذهب الملاكان إلى سدوم وعمورة وتحدث الرب مع إبراهيم عما كان مزمعًا أن يفعله بالنسبة لشر سدوم وعمورة الذي كان قد تزايد جدًا (تك18). ونذكر أيضًا ظهور السيد المسيح ليعقوب أب الآباء عند مخاضة يبوق، إذ ظهر له في هيئة إنسان، وصارعه إلى طلوع الفجر وباركه في النهاية وأعطاه اسمًا جديدًا ودعا يعقوب اسم ذلك المكان فنيئيل قائلًا: "لأني نظرت الله وجهًا لوجه ونُجِّيت نفسي" (تك32: 30). لم تكن هذه الظهورات تجسدًا على الإطلاق، بل ظهر السيد المسيح بهيئة جسمية مثل إنسان. ولكنه حينما حل في بطن العذراء مريم، فقد أخذ طبيعة بشرية حقيقية كاملة بلا خطية وجعلها في وحدة حقيقية تامة مع لاهوته بغير اختلاط ولا تغيير. التجسد يعنى أن يأخذ الرب جسدًا حقيقيًا مساويًا لطبيعتنا في الجوهر بلا خطية.. جسدًا حقيقيًا بروح عاقلة أي طبيعة بشرية كاملة، وهذا الجسد الإنساني أو هذه الطبيعة البشرية لها كل خواص الطبيعة البشرية، بما في ذلك القابلية للحزن وللألم وللجوع وللموت، وكذلك للفرح والراحة وما يشبه ذلك من أمور بشرية بلا خطية. لهذا ينبغي أن نرى الفارق الواضح بين الظهور والتجسد. ولم يكن مجيء ابن الله في الجسد مجرد ظهور، ولكنه كان تجسدًا بمعنى الكلمة، ولهذا قال الإنجيل: "والكلمة صار جسدًا وحل بيننا" (يو1: 14). ولكن التجسد طبعًا يتضمن الظهور أيضًا كما هو مكتوب "الله ظهر في الجسد" (1تى3: 16). أما ظهور الروح القدس عند نهر الأردن فكان ظهورًا فريدًا.. ظهر فيه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة، ليكون ذلك علامة فريدة على نزوله واستقراره على السيد المسيح إتمامًا للنبوات، وإعلانًا لبدء عمله الكهنوتي النبوي الملوكي لخلاص البشرية. في هذه المناسبة الفريدة ظهر الثالوث القدوس بأجلي بيان. |
||||
11 - 03 - 2014, 05:54 PM | رقم المشاركة : ( 27 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
عيد الظهور الإلهي صوت الآب من السماوات المفتوحة، والابن المتجسد صاعد من مياه الأردن، والروح القدس آتيًا ومستقرًا عليه مثل حمامة. لهذا تسمى الكنيسة هذا اليوم "يوم الظهور الإلهي" (عيد الإبيفانيا). وقد ظهر الروح القدس مرة أخرى في يوم الخمسين على هيئة ألسنة منقسمة كأنها من نار، مقترنًا بصوت كما من هبوب ريح عاصف وملأ كل البيت حيث كان التلاميذ مجتمعين (انظر أع2: 1-3). كان منظر الألسنة التي تشبه منظر النار إشارة إلى عمل الروح القدس في التطهير وفي محبة الله. وصار منظر كل واحد من التلاميذ كأنه مصباح أو شمعة متقدة بالنار لتنير للعالم من فوق المنارة. كما إنه لم تكن مصادفة أن تبدأ خدمة السيد المسيح الخلاصية في سن الثلاثين لأن هذا هو سن الكاهن حسب شريعة موسى في بداية خدمته الكهنوتية (انظر عد4: 23، 35) و(1 أي 23: 3). ولم تكن مصادفة أن يمسح السيد المسيح بالروح القدس من قِبل الآب السماوي عند عماده من يوحنا المعمدان. ولم تكن مصادفة أيضًا أن يستعلن الثالوث القدوس بهذه الصورة الواضحة في بداية خدمة ومسح قدوس القدوسين. لقد تجسد الله الكلمة لكي يعرفنا الثالوث فباعتباره هو الابن الوحيد الجنس من الآب فقد أظهر لنا ذاته حينما تجسد. ولهذا قال معلمنا بولس الرسول: "وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كُرز به بين الأمم، أومن به في العالم، رفع في المجد" (1تى3: 16). أما عن الآب فقد خبّرنا عنه بكل الوسائل ولهذا قال في مناجاته مع الآب قبل الصلب: "أنا مجدتك على الأرض.. أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني.. وعرفتهم اسمك وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم" (يو17: 4، 6، 26). وبالنسبة للروح القدس فقد أفرد حديثًا طويلًا مع تلاميذه في ليلة آلامه عن الروح القدس سجّله القديس يوحنا في إنجيله ومن أمثلة ذلك قول السيد المسيح: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم" (يو14: 15-17) وقال أيضًا: "وأما المعزى الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم" (يو14: 26)،وكذلك قال: "ومتى جاء المعزى الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي. وتشهدون أنتم أيضًا لأنكم معي من الابتداء" (يو15: 26، 27). وهكذا عبّر القديس غريغوريوس النازينزي في قداسه العظيم قائلًا عن السيد المسيح: (الذي أظهر لنا نور الآب، الذي أنعم علينا بمعرفة الروح القدس الحقيقية). إن معرفة الآب والابن والروح القدس هي الوسيلة الحقيقية للوصول إلى الحياة الأبدية. فعن معرفة الآب والابن قال السيد المسيح: "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يو17: 3). وعن معرفة الروح القدس قال: "روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. أما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم" (يو14: 17). المعمودية والثالوث ارتباط المعمودية بالثالوث واضح من أمرين: الأمر الأول: هو إعلان الثالوث أثناء عماد السيد المسيح. والأمر الثاني: هو قول السيد المسيح لتلاميذه قبيل صعوده إلى السماء: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (مت28: 19). أي أن المعمودية تتم على اسم الثالوث القدوس لأنها مرتبطة بالإيمان بالثالوث القدوس الواحد في الجوهر. إن خدمة السيد المسيح قد بدأت بمسحه بالروح القدس وإعلان الثالوث. ثم وصلت إلى غايتها حينما صالح الآب مع البشرية بدم صليبه وأخذ موعد الآب بإرسال الروح القدس في يوم الخمسين وبذلك دخلت الكنيسة إلى شركة الحياة مع الثالوث القدوس. |
||||
11 - 03 - 2014, 05:59 PM | رقم المشاركة : ( 28 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
التجربة على الجبل والصوم الأربعين لم يبدأ السيد المسيح خدمته مباشرة بعد أن تعمد في نهر الأردن، بل اقتيد "بالروح في البرية أربعين يومًا يجرب من إبليس" (لو4: 1، 2). بعد الإعلان السماوي العجيب حينما أتى صوت الآب من السماء المفتوحة "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت3: 17)، والروح القدس الذي ظهر بهيئة جسمية مثل حمامة آتيًا من السماء ومستقرًا على رأسه؛ كان من المتصور أن يبدأ السيد المسيح خدمة مجيدة قوية مؤيَّدة بالإعلان السماوي وروحه القدوس ولكن ما حدث هو العكس.. خرج يسوع بقوة الروح القدس إلى البرية أربعين يومًا في القفر، ولم يأكل أو يشرب طوال هذه المدة، بل كان مع الوحوش وحيدًا.. بعيدًا عن الناس.. بعيدًا عن إعجابهم ومديحهم وإطرائهم.. بلا مؤنس بلا تعزية من البشر.. لا أحد يخدمه أو يقدم له شيئًا من الراحة. إن العقل يقف حائرًا أمام هذا المشهد الغريب والعجيب: الابن الوحيد الأزلي للآب السماوي، كلمة الله الذي تخضع له كل الخليقة وهو الذي يحملها بقدرته الإلهية. حينما أخلى ذاته ووضع نفسه، واقتيد بالروح في البرية القفرة، إذ أنه تجسد فوجد في الهيئة كإنسان وأطاع إلى المنتهى.. وسمح للشيطان أن يُجرِّبه. كان اتضاع السيد المسيح هو سبب تجاسر الشيطان في أن يتقدم ليجربه، لأنه حينما صام في البرية صار في حالة من الإعياء والتعب الشديد، إذ جاع جوعًا شديدًا -من حيث إنه شابهنا في كل شيء ماخلا الخطية وحدها- فلم يمنع عن جسده التعب والجوع.. ولهذا اعتقد الشيطان إنه من الممكن أن يُجرّب السيد المسيح كإنسان. أمام هذا السر العجيب الذي لتجسد الكلمة، انحمق الشيطان وتقدم ليُجرِّب السيد المسيح في جسارة عجيبة، انتهت بهزيمته في البرية، تمهيدًا للهزيمة الكبرى عند صليب الجلجثة. كان السيد المسيح يريد أن يرسم لنا طريق الانتصار بالاتضاع ولهذا لم يبدأ خدمته بعد مجد الظهور الإلهي عند نهر الأردن وهو الظهور الذي أعلن سر الثالوث القدوس، ولكن بدأ خدمته في ساحة التجربة في البرية في القفر. حقًا "كل مجد ابنة الملك من داخل" (مز44: 13)، فالمجد الداخلى لازم وضروري لإثبات أصالة النفس البارة المقدسة. أما من يسعى وراء الأمجاد الخارجية ومديح الناس فإنه يكون عرضة للسقوط في الكبرياء والمعصية. البعض للأسف يبحثون في خدمتهم عن مظاهر خلابة تجذب الناس وراءهم.. ويهتمون ويفرحون بالأمور الخارقة للطبيعة التي تبدو في ظاهرها مؤيدة لإرساليتهم، ويسقطون في خداعات الشياطين، لأن الشيطان يستطيع أن يغير شكله إلى شبه ملاك نور. المسلك المتضع الهارب من المجد والمظاهر الخارجية، هو برهان صدق الإعلان السماوي وصدق المعجزات الخارقة. ينبغي أن تُختبَر أصالة الخدمة في ساحة الاتضاع وإنكار الذات أولًا، لأن الذهب النقي يختبر بالنار. المحبة الحقيقية تُختبر بالألم، والخدمة السماوية تُختبر بالاتضاع وإنكار الذات وبالطاعة والمسكنة والخضوع. هل هناك من هو أعظم مجدًا من الابن الوحيد الذي هو "بهاء مجده ورسم أقنومه" (عب1: 3).. ومع ذلك فإنه حينما تجسد وصار إنسانًا مثلنا، قدّم لنا مثالًا في خدمته الخلاصية بأن بدأها بالاتضاع. فما الذي يمكن أن يفعله الرب أكثر من ذلك ليحذرنا من غواية الشياطين في خدمتنا؟. إن الروح القدس هو الذي يستطيع أن يقود أفكارنا ونحن نفحص أصالة كل خدمة وبرهان تأييد السماء لها، لهذا يقول معلمنا يوحنا الرسول: "أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله" (1يو4: 1). "وكما سمعتم أن ضد المسيح يأتي، قد صار الآن أضداد للمسيح كثيرون.. منا خرجوا لكنهم لم يكونوا منا لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا، لكن ليظهروا أنهم ليسوا جميعهم منا. وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء" (1يو2: 18-20). لماذا صام؟ من المعلوم طبعًا أن السيد المسيح لم يكن محتاجًا إلى الصوم لتدريب جسده أو تقويمه لأنه هو الوحيد الذي بلا خطية بين البشر جميعًا. ومن المعلوم أن الصوم بالنسبة لنا يساعدنا على التحرر من رغبات الجسد وتغليب رغبات الروح، وعلى تدريب الإرادة على ضبط النفس أي قمع الجسد، كما أنه يساعد في تذللنا أمام الله مثلما صام أهل نينوى من الكبير إلى الصغير ولبسوا مسوحًا وتضرعوا إلى الله بالتوبة فرحمهم الله ورفع غضبه عنهم. ولم يكن السيد المسيح شخصيًا محتاجًا إلى أي شيء من هذه الأمور جميعًا. نقول في ألحان التوزيع في الكنيسة في الصوم الكبير (يسوع المسيح صام عنا أربعين يومًا وأربعين ليلة)، إذن فإن السيد المسيح قد صام نيابة عنّا وليس عن نفسه. لم يكن السيد المسيح طبعًا محتاجًا للصوم ولا للتجربة على الجبل لأنه "قدوس القدوسين" (دا9: 24)..لكنه صام وسمح للشيطان أن يجرّبه لكي يعلّمنا.. أراد أن يرسم لنا طريق الجهاد والنصرة على الشيطان. وقال لتلاميذه إن "هذا الجنس (أي جنس الشيطان) لا يمكن أن يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم" (مر9: 29، انظر مت17: 21). كما أنه أراد أن يعلّمنا أهمية الصلاة قبل البدء في الخدمة، لذلك أراد أن يختلي وقتًا طويلًا في مناجاة عميقة يعبّر فيها عن محبته للآب، ويطلب فيها من أجل نجاح مناداته بالتوبة والإيمان بالإنجيل في قلوب سامعيه، حينما تبدأ خدمته بعد عودته من البرية. صام ليسجل انتصارًا على الشيطان لحسابنا عندما سمح للشيطان أن يجربه. أي ليلقن الشيطان درسًا من خلال طبيعتنا التي تباركت فيه أي باتخاذه إياها ليعبر بنا فيها من الهزيمة إلى النصرة، ومن الموت إلى الحياة. فكما أنه مات عنا ولم يكن مستوجبًا الموت؛ ولهذا داس الموت بالموت؛ وقام منتصرًا من الأموات. وكما كانت القيامة من الأموات أمرًا حتميًا بانتصاره على الموت "إذ لم يكن ممكنًا أن يمسك منه" (أع2: 24) هكذا كان انتصار السيد المسيح على الشيطان في التجربة أمرًا حتميًا، إذ لم يكن ممكنًا أن ينهزم منه لأنه هو نفسه "قدوس القدوسين" (دا 9: 24). وبذلك علّمنا أن الصوم والصلاة هما اللذان يخرجان الشياطين ويقهران سلطانهم اللعين. وصام ليبارك الصوم وليبارك طبيعتنا بالصوم (باركت طبيعتي فيك، أكملت ناموسك عنى) (القداس الغريغوري). باركت طبيعتي فيك عندما تجسد ابن الله الكلمة ووجد في الهيئة كإنسان، فإنه قد بارك الطفولة في طفولته، وبارك سن الشباب في شبابه، وبارك سن الرجولة في رجولته. عندما أكل بارك الطعام، وعندما صام بارك الصوم. عندما نام بارك النوم، وعندما سهر الليل كله بارك السهر.. عندما حضر عرس قانا الجليل بارك الزواج، ولأنه ولد من عذراء فقد بارك البتولية.. عندما ولد في حظيرة للخراف واضطجع في المذود بارك الفقراء، وعندما تقبل هدايا المجوس بارك الأغنياء الأسخياء. عندما عمل كنجار بارك العمل، وعندما تفرغ للخدمة بارك التكريس. عندما مشى على الأرض، بارك الأرض. وعندما مشى على المياه بارك المياه.. عندما تكلّم بارك الكلام. وعندما صمت بارك الصمت.. قوة الصوم لهذا فقد أعطى السيد المسيح بركة وقوة للصوم حينما صام. وفي الأربعين يومًا التي صامها أدخر لنا قوة النصرة في حروب الشياطين بواسطة الصوم المقترن بالصلاة والتأمل والإيمان بالمسيح وأسرار الكنيسة. الصوم يسبق المعمودية المقدسة، ويسبق التناول من جسد الرب ودمه، ويسبق مسحة الميرون، ويسبق سيامة الكهنة وخدمة الكهنوت، ويسبق سر مسحة المرضى الذي تكثر الكنيسة من ممارسته في الصوم المقدس وفي يوم جمعة ختام الصوم. ما أجمل التناول من الأسرار المقدسة بعد الصوم، حيث يقدّم الإنسان جسده كذبيحة في الصوم على مثال ذبح إسحق. ثم يتناول من الحمل المذبوح عوضًا عن إسحق، ليعود إسحق حيًا بإيمان القيامة. الصوم الكبير في الصوم الكبير المقدس تُذكِّرنا الكنيسة بأهمية التوبة. ويقترن الصوم بالتوبة وممارسة سر الاعتراف،وتخصص الكنيسة أسابيعَ من الصوم المقدس تدور قراءاتها حول التوبة وأهميتها مثل أحد السامرية وأحد الابن الضال وأحد المخلّع. وفى مدائح الصوم الكبير نسمع كثيرًا في الكنيسة عن التوبة: تُب يا إنسان عن جهلك وارجع إلى الله وتقدّم عسى بالله تبلغ أملك واترك خطاياك وتندَّم ضيّعت زمانك وأفنيته كنزك في التراب أخفيته ومصباحك من عدم زيته طفى وبقيت في الظلمات وتتحدث هذه المدائح عن أهمية ممارسة الرحمة لينال الإنسان رحمة من عند الرب فيأتى القرار: طوبى للرحما على المساكين فإن الرحمة تحل عليهم والمسيح يرحمهم في يوم الدين ويحل بروح قدسه فيهم إن الصوم بالنسبة لنا يستمد قوته وفاعليته من صوم السيد المسيح، والنصرة الروحية في الصوم تأتى من رصيد النصرة الذي حققه لنا مخلصنا الصالح الذي صام عنا أربعين يومًا وأربعين ليلة. وبهذا الإيمان نبدأ رحلة الصوم والعبادة الروحية فيه بقوة الروح القدس. في البرية ربما يتساءل البعض عن ارتباط الرهبنة بالبرية.. وها نحن نرى السيد المسيح وهو يرسم طريقًا واضحًا للجهاد النسكي في ارتباطه بالبرية. فبعد عماده في نهر الأردن أُقتيد "بالروح في البرية أربعين يومًا يجرب من إبليس" (لو4: 1، 2). لم يأكل السيد المسيح، ولم يشرب شيئًا في تلك الأيام.. وارتبط الصوم بالبعد عن المشاغل الموجودة في العالم بما في ذلك الانشغال بخدمة الآخرين بصورة مباشرة. كان الوقت مخصصًا للتأمل والصلاة مع الصوم.. هكذا نرى الصوم في أبهى صوره حسب قول الكتاب "قدسوا صومًا. نادوا باعتكاف" (يؤ2: 15). الصوم مع الاعتكاف هو صوم لجميع الحواس الجسدية.. ليس فقط حاسة التذوق، بل أيضًا حاسة السمع، وحاسة النظر، وحاسة اللمس، وحاسة الشم. في البرية تتفرغ الحواس جميعًا للعمل الروحي.. بالنسبة لنا نحن نحتاج إلى صوم الحواس.. وكما قال أحد الآباء [إن مجرد نظر القفر، يبطل في النفس الحركات العالمية]. وقد أراد السيد المسيح أن يجتذبنا نحو القفر حينما نتبع مسيرته في البرية أربعين يومًا في جهاد من أجلنا. نحن نحتاج إلى القفر.. بل يجب أن يعيش القفر في قلوبنا خاصة أثناء الصوم. وفى القفر نردد على وزن منظومة قداسة البابا شنودة الثالث عن الوطن [إن القفر ليس قفرًا نعيش فيه، بل هو قفر يعيش فينا].. هذا هو حال القلب الزاهد في الأمور الدنيوية.. وبالقفر نعيش الفقر الاختياري.. أو بالفقر نعيش القفر متحررًا من محبة العالم وكل ما فيه. قضى السيد المسيح أربعين يومًا في القفر لكي يدخل القفر إلى قلوبنا.. ولكي نرى القفر فردوسًا روحيًا نحيا فيه مع الله. لأن الفردوس الأول الممتلئ بالخيرات (جنة عدن)، كان مكانًا سقط فيه آدم الأول.. والبرية مكان انتصر فيه آدم الثاني، ليجعل من البرية فردوسًا روحيًا لموكب المنتصرين. أيام في البرية بالرغم من أن السيد المسيح قد جاء لخلاص العالم، إلا أنه قد ذهب إلى البرية للاختلاء والصوم والمناجاة مع الآب قبل أن يبدأ خدمته بين الناس. وهو بهذا قد أرسى مبدأ أهمية الوجود في البرية بعيدًا عن الانشغال بالخدمة ومتطلباتها وذلك من أجل خدمة قوية ناجحة ينهزم فيها الشيطان أمام إنسان البرية. لهذا قيل عن الكنيسة المقدسة "من هذه الطالعة من البرية كأعمدة من دخان معطّرة بالمُر واللبان وبكل أذرة التاجر" (نش3: 6). معطّرة بالمُر واللبان: أي بالصوم والصلاة، وهى طالعة من البرية متشبهة بالسيد المسيح في صومه في البرية وفي مناجاته للآب السماوي من أجل الكنيسة ونصرتها على الشيطان. لقد هزم السيد المسيح الشيطان في البرية ليسجل انتصارًا لحساب الكنيسة.. لحساب البشرية التي انهزمت قبل ذلك طويلًا أمام الشيطان، وبعدها صار الشيطان يرتعب من رؤية السيد المسيح ويصرخ ويقول "آه ما لنا ولك يا يسوع الناصري أتيت لتهلكنا، أنا أعرفك من أنت؛ قدوس الله" (مر1: 24). وكان السيد المسيح ينتهرهم ولا يدعهم ينطقون لأنه لا يقبل الشهادة من الشيطان كما أنه كان يريد أن يخفى لاهوته عن الشيطان، وقد حقق ذلك بالفعل فيما بعد بحكمة عجيبة. ولكن ما يستوقفنا هنا؛ هو أن السيد المسيح في البرية قد واجه تساؤلًا مكررًا من الشيطان "إن كنت ابن الله..؟!" (مت4: 3، 6، لو4: 3، 9). وبعد المواجهة التي حدثت في البرية صار يواجه عبارة مختلفة "يا يسوع الناصري.. أنا أعرفك من أنت قدوس الله" (مر1: 24، لو4: 34). لقد صنعت البرية الكثير في نظرة الشيطان للسيد المسيح كخادم. بل صارت البرية بذكريات صوم السيد المسيح وصلاته فيها مكانًا للنصرة على الشيطان بعد أن كانت مكانًا مهجورًا تهيم فيه الشياطين التي لا تجد لها مكانًا يتسع لأعدادها الكبيرة في البشر. وقد علّق السيد المسيح على ذلك بقوله: "متى خرج الروح النجس من الإنسان؛ يجتاز في أماكن ليس فيها ماء يطلب راحة. وإذ لا يجد؛ يقول أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه. فيأتي ويجده مكنوسًا مزيناً. ثم يذهب ويأخذ سبعة أرواح أُخر أشر منه، فتدخل وتسكن هناك. فتصير أواخر ذلك الإنسان أشر من أوائله" (لو11: 24-26). لقد تقدّست البرية بحلول السيد المسيح فيها وبصومه وبصلاته وبنصرته على الشيطان عن الإنسان. وصار القديسون يجدون مجالًا للنمو في حياة القداسة في البرية.. وصارت مسكنًا للملائكة الذين رافقوا صلوات وتسابيح هؤلاء القديسين الذين سكنوا في الجبال والمغاير وشقوق الأرض من أجل عظم محبتهم في الملك المسيح. الجسد والنفس والروح في البرية قدّم السيد المسيح مثالًا لنا للزهد في رغبات الجسد، ورغبات النفس، لكي نحيا في الروح. فبالنسبة للجسد أعطانا فكرة أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت4: 4). وبالنسبة للنفس أعطانا فكرة عن الزهد في أمجاد العالم الزائلة، وأن نخدم الله لا المال أو الجاه أو السلطان. وقد رفض كل ممالك العالم التي رآها من فوق الجبل حتى لا يتعطل الصليب. كما أن الجسد يحتاج إلى الطعام المادي ليعيش وينمو، هكذا أيضًا الروح تحتاج إلى الغذاء الروحي لكي تعيش ولكي تنمو. لهذا قال السيد المسيح: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت4:4). وبقوله: "ليس بالخبز وحده" كان يقصد أنه إلى جوار الخبز المادي اللازم لحياة الإنسان من ناحية جسده، فإن هناك كلمة الله لحياة الإنسان من جهة روحه. وقال أيضًا السيد المسيح: "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة" (يو6: 63). وقال: "أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أعطى هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يو6: 51). عمومًا الروح تحتاج إلى الغذاء الروحي لتحيا وتنمو تمامًا مثلما يحتاج الجسد إلى الطعام الجسدي ليحيا وينمو. فبالنسبة للروح أعطانا السيد المسيح فكرة عن الزهد، حينما رفض أن يطير من فوق جناح الهيكل لينظره الناس سابحًا في الفضاء محمولًا على أيدي الملائكة. إن الصعود بالنسبة للسيد المسيح هو من خلال الصليب. وقد قال: "أنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلىّ الجميع" (يو12: 32). ورآه كثيرون معلقًا فوق الإقرانيون، محتملًا الاحتقار والذل والعار.. وكان الارتفاع فوق الصليب هو الطريق الحقيقي نحو المجد غير المنظور. وبعد القيامة صعد السيد المسيح أمام أعين تلاميذه. ولكن لم يكن الصعود بالنسبة للسيد المسيح نوعًا من التباهي. ولكنه كان صعودًا باعتباره الذبيحة المقدسة المقبولة إلى المقدس السماوي، حيث دخل السيد المسيح كسابق لنا، ليكون هو رئيس الكهنة الذي يشفع في جنس البشر أمام الله الآب كل حين "دخل.. فوجد فداءً أبديًا" (عب9: 12). قبل أن يصعد السيد المسيح بيمين الآب إلى السماء، كان قد أصعد ذاته على الصليب ذبيحة مقبولة عن خلاص جنسنا.. لهذا كان لابد للصعيدة أن تصعد. وقد صعد السيد المسيح في البرية.. إلى جبل التجربة.. أربعين يومًا يجرب من إبليس. وكانت حياة السيد المسيح صعودًا متتاليًا.. صعد إلى جبل التجربة، وصعد إلى جبل التجلي، وصعد إلى جبل الجلجثة، وصعد إلى جبل الصعود، ثم صعد إلى عرش الله. ولكننا نراه صاعدًا وهو يحمل الصليب، مكللًا بالأشواك.. كما بجهاد الصوم والصلاة. ونرى عروسه الكنيسة وهى تحمل صورته، كما رسمها في سفر النشيد وتغنى بها، "من هذه الطالعة من البرية كأعمدة من دخان معطّرة بالمُر واللبان وبكل أذرة التاجر" (نش3: 6). هكذا تصير الكنيسة مثل صعيدة من البخور (أعمدة من دخان) معطرة بالصوم والصلاة (المر واللبان).. نراها طالعة من البرية مستندة على ذراع حبيبها (انظر نش8: 5) الذي صام عنها ويعطيها نعمة الصوم لتتحلى به كعروس "جميلة كالقمر، طاهرة كالشمس، مرهبة كجيش بألوية" (نش6: 10). ما أحلاك أيتها الكنيسة العروس، وأنت مشرقة بحب عريسك الحبيب..!! ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان كانت الوصية الأولى للإنسان تحمل في مضمونها وصية صوم "لا تأكل من شجرة معرفة الخير والشر" (انظر تك2: 16، 17، تك3) فالإنسان مكوّن من روح وجسد وليس هو جسدًا فقط.. وكما أن الجسد يحتاج إلى طعام لكي يحيا ويعيش، هكذا الروح أيضًا لها غذاء تحتاج إليه وتحيا به وهو كلام الله. لهذا قال السيد المسيح للشيطان حينما طالبه قرب نهاية صومه بأن يحوّل الحجارة إلى خبز: "مكتوب أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة من الله" (لو4: 4). لم يقل السيد المسيح "ليس بالخبز يحيا الإنسان" لأن هذا هو الواقع الطبيعي للإنسان.. بل قال: "ليس بالخبز وحده" أي أن هناك مصدرًا آخر لحياة الإنسان وهو الله. الله الذي "به نحيا ونتحرك ونوجد" (أع17: 28). الله الذي تغتذي به وبالعشرة معه أرواحنا، وترتقي حتى تأكل طعام الملائكة الروحانيين. الله الذي يحيينا بكلامه، وينير عقولنا "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة" (يو6: 63). لهذا يقول المرنم "من كل قلبي طلبتك، فلا تبعدني عن وصاياك. أخفيت أقوالك في قلبي لكي لا أخطئ إليك".. وقال أيضًا: "اذكر لعبدك كلامك الذي جعلتني عليه أتكل. هذا الذي عزاني في مذلتي. لأن قولك أحياني".. "خيرًا صنعت مع عبدك يا رب بحسب قولك، صلاحًا وأدبًا ومعرفة. علّمني فإني قد صدّقت وصاياك".. "ناموس فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة".. "الذين يخافونك يبصرونني ويفرحون، لأني بكلامك وثقت".. "تاقت نفسي إلى خلاصك، وعلى كلامك توكلت".. "يا رب كلمتك دائمة في السماوات إلى الأبد".. "لو لم تكن شريعتك تلاوتي لهلكت حينئذ في مذلتي. وإلى الدهر لا أنسى وصاياك، لأنك بها أحييتني، يا رب. لك أنا فخلصني. يا رب لأني لوصاياك طلبت".. "إن كلماتك حلوة في حلقي. أفضل من العسل والشهد في فمي".. "مصباح لرجلي كلامك، ونور لسبلي".. "يا رب أحيني كقولك".. "ورثت شهاداتك إلى الأبد، لأنها بهجة قلبي".. "أعضدني حسب قولك فأحيا".. "لأجل هذا أحببت وصاياك أفضل من الذهب والجوهر".. "فتحت فمي واجتذبت لي روحًا، لأني لوصاياك اشتقت".. "أضئ بوجهك على عبدك وعلّمني حقوقك".. "عادلة هي شهاداتك إلى الأبد، فهمني فأحيا".. "بحسب أحكامك أحيني".. "من أجل كلامك أحيني".. "أبتهج أنا بكلامك كمن وجد غنائم كثيرة".. "توقعت خلاصك يا رب، ووصاياك حفظتها. حفظت نفسي شهاداتك وأحببتها جدًا".. "ككلمتك أحيني.. تفيض شفتاي السبح إذا ما علمتني حقوقك".. "لتكن يدك لخلاصي، لأنني اشتهيت وصاياك".. "تحيا نفسي وتسبحك، وأحكامك تعينني".. (المزمور118). هذه بعض أجزاء من المزمور الكبير الذي يؤكد ويوضح بمعاني جلية أن كلام الله فيه حياة لنفس الإنسان مثل قوله "لأن قولك أحياني".. في هذا المزمور يتأكد للمصلى أهمية كلام الله بالنسبة له كمصدر لحياته، وكمصدر للمعونة والإنقاذ، وكمصدر للبهجة والرجاء والنصرة، وكمصدر لتذوق حلاوة العشرة مع الله، وكمصدر للثقة والاتكال على الله، وكمصدر للفهم والمعرفة، وكمصدر للنور الذي يضئ الطريق، وكمصدر للتسبيح الذي تنطق به النفس نحو الله بقوة كلمته العاملة فيها. ليتنا ننتفع من كلمات هذا المزمور الذي رتبته الكنيسة في صلاة نصف الليل مع إنجيل العذارى المستعدات للقاء العريس. مواجهة مع إبليس في التجربة على الجبل استخدم إبليس وسيلتين لمحاولة معرفة حقيقة السيد المسيح من جهة ألوهيته.. ولكنه فشل إلى جوار هزيمته الواضحة أمام الرب المتجسد. لم يكن من السهل على إبليس أن يفهم معنى إخلاء الذات بالنسبة للإله الكلمة الذي هو ابن الله الوحيد الجنس. ولم يكن مفهومًا بالنسبة له أن يخفى الابن الوحيد مجده الإلهي، ولا أن يقدم طاعة للآب وهو المساوي للآب في المجد والكرامة والقدرة والعظمة والسلطان بسبب وحدانية الجوهر من حيث لاهوت السيد المسيح. كانت مسألة التجسد محيّرة للشيطان.. لذلك قال معلمنا بولس الرسول: "وبالإجماع عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كرز به بين الأمم، أومن به في العالم، رُفع في المجد" (1تى3: 16). وقال أيضًا عن تدبير الخلاص بعد أن تم: "وأنير الجميع في ما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور في الله خالق الجميع بيسوع المسيح. لكي يُعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة حسب قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا" (أف 3: 9-11). ولكن ينبغي أن نلاحظ أن الإنارة دائمًا تكون للمستقيمي القلوب والأفهام. فالمعرفة السليمة للأمور الإلهية ترتبط بالمحبة لأن "الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه" (1يو4: 16). هناك من يدرك قدرة الله ويخشاها ويرتعب منها ولكنه لا يفهم أعماق الله وأعماق محبته إلا بالروح القدس "لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله. لأن مَن مِن الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضًا أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله" (1كو2: 10، 11). الوسيلة الأولى كانت الوسيلة الأولى التي استخدمها إبليس لمحاولة معرفة حقيقة السيد المسيح هي أنه قال له عندما رآه جائعًا بعد صوم طويل لمدة أربعين نهارًا وأربعين ليلة "إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا" (مت4: 3). والواضح من العبارة التي قالها إبليس أنه كان يتساءل عن بنوة السيد المسيح لله من خلال الاستدلال بقدرته على استخدام قدرته الإلهية للخلاص من الجوع ومتاعب الجسد المنهك من الصيام الطويل. ولكن السيد المسيح اتجه في إجابته إلى ما يخص إنسانيته وليس ما يخص لاهوته مستخدمًا آيات الكتاب المقدس إذ رد وقال: "مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت4: 4). كان الهدف من تساؤل إبليس هو أن يعلن السيد المسيح عن ألوهيته وبنوته لله. ولكن السيد المسيح أكّد إنسانيته وكيف أن الطبيعة الإنسانية يلزمها الغذاء الروحي للروح بكلام الله، كما يلزمها الغذاء الجسدي للجسد بتناول الخبز. وبهذا فشل إبليس في الوصول إلى هدفه الخبيث. الوسيلة الثانية وكانت الوسيلة الثانية التي استخدمها إبليس هي الاستفزاز بأسلوب غير لائق. ولكن السيد المسيح أضاع عليه الفرصة باتضاعه العجيب. في الوسيلة الأولى كان هناك نوع من التساؤل باحترام أما في الوسيلة الثانية فكانت هناك جسارة بالغة تكشف عن الكم الهائل من الوقاحة التي يتصف بها إبليس إذ أُتيحت له الفرصة بسماح من الله. قال إبليس للسيد المسيح بعد ما أصعده على جبل عال وأراه جميع ممالك العالم ومجدها "أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي" (مت4: 9). هل هناك جسارة واستفزاز يفوق ذلك القول؟ ولكن السيد المسيح استمر في إخفاء حقيقة لاهوته عن الشيطان متوشحًا بالاتضاع الذي التحف به في مجيئه إلى العالم من أجل خلاص البشرية. أجاب السيد المسيح: "اذهب يا شيطان. لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" (مت4: 10) لقد وضع السيد المسيح الوصية الإلهية المعطاة لبنى البشر في مواجهة استفزازات إبليس. ومع كون السيد المسيح هو ملك الملوك ورب الأرباب المسجود له من الملائكة والبشر ولكنه إذ وُجِدَ في الهيئة كإنسان تكلّم عن واجب البشر في السجود لله وحده، ولم يتكلم عن السجود اللائق له هو شخصيًا. وهكذا استمر في إخفاء لاهوته عن الشيطان. المسيح أقوى من الشيطان قال السيد المسيح: "لا يستطيع أحد أن يدخل بيت قوى وينهب أمتعته إن لم يكن يربط القوى أولًا وحينئذ ينهب بيته" (مر3: 27). وقد دل السيد المسيح بهذا الكلام أنه أقوى من الشيطان بما لا يقاس، وهذا أحد أسباب التجسد الإلهي، إذ لم يكن ممكنًا لطبيعتنا البشرية أن تحقق الانتصار الساحق على الشيطان، إلا بتجسد الله الكلمة نفسه "الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل" (2تى1: 10). ما أجمل رد قداسة البابا شنودة الثالث على السبتيين الأدفنتست الذين يدعون أن السيد المسيح قد ورث الميل إلى الخطية بوراثته للخطية الأصلية في ولادته من العذراء مريم، إذ قال قداسته (إن الميل للخطية لا يتفق مع لاهوت هذا المولود، فكيف يتحد اللاهوت مع جسد فيه ميل إلى الخطية؟! مستحيل) (مجلة الكرازة السنة الثلاثون العددان 13، 14 بتاريخ 29/3/2002). إن الأدفنتست قد فاقوا في ضلالهم الكثير من الهراطقة لأن نسطور حينما نادى بنفس تعليم وراثة المسيح للخطية الأصلية والميل الطبيعي للخطية لم يكن يؤمن بأن الإنسان المولود من العذراء مريم هو هو نفسه الله الكلمة بالحقيقة مثلما يؤمن السبتيون الذين يجدّفون بذلك على الله. لذلك ينبغي أن نحذر الشعب المسيحي في كل مكان من بدعة السبتيين الذين يقدسون يوم السبت مثل اليهود، وليس يوم الأحد الذي قام الرب فيه منتصرًا من الأموات. إن نصرة قيامة السيد المسيح وأهميتها غائبة عن أذهانهم تمامًا مثلما غابت عن أذهانهم حتمية الانتصار في التجربة على الجبل. دعاوى الأدفنتست السبتيين يدعى الأدفنتست أن السيد المسيح قد حمل طبيعة بشرية فيها إمكانية الخضوع للخطية (The possibility of yielding to sin) ويستدلون على ذلك بواقعة التجربة على الجبل ويقولون إن التجربة على الجبل تصبح في حكم التمثيلية لو لم يكن احتمال سقوط المسيح واردًا فيها. وهم في عقيدتهم الخاطئة هذه يرددون تعليم نسطور الذي قال إن يسوع المسيح قد قدّم على الصليب ذبيحة وكفارة عن نفسه وعن الآخرين لأن الله الكلمة قد اتخذ إنسانًا محتاجًا للخلاص مثل سائر البشر. ونرد على هرطقة السبتيين فنقول لو كان السيد المسيح هو نفسه الله الكلمة الذي تجسد لأجل خلاصنا. فإن القول بإمكانية خضوعه للخطية بحسب طبيعته البشرية يكون تجديفًا خطيرًا ضد الله نفسه. لأن الله الكلمة حينما أخلى ذاته آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس قد قَبِل الموت والآلام بحسب الجسد لأجل خلاصنا، ولسبب أن يسوع المسيح هو نفسه الله الكلمة بالحقيقة، صار يُنسب إلى الله الكلمة الميلاد من العذراء والآلام والموت بحسب إنسانيته، دون أن ينُسب ذلك إليه بحسب ألوهيته. لكن الآلام والموت من الممكن قبولها كعمل من أعمال المحبة من قِبل أقنوم الله الكلمة المتجسد. أما أن ينسب إليه إمكانية الخضوع أو الميل للخطية فهو أمر مستحيل لأنه لا يحمل أي مجد بل يعتبر إهانة صريحة لأقنوم الله الكلمة المتجسد وتجديف على الله غير مقبول. وهذا يعنى أن السبتيين لا يؤمنون إيمانًا حقيقيًا أن يسوع الناصري هو الله الكلمة وليس آخر. هناك فرق بين أن يخفى الله الكلمة مجده في التجسد، أو أن يحتمل الآلام إنسانيًا من أجل من أحبهم إلى المنتهى، وبين أن يصير معرَّضًا للخطية أو السقوط وهذا ليس في إطار أمجاد المحبة الباذلة. لقد حمل السيد المسيح -وهو برئ- خطايا الآخرين وأوفى الدين عنها. ولكنه هو نفسه قد حمل طبيعة خالية تمامًا من أي نوع من نوازع الخطية. لهذا قال الملاك للعذراء عن ميلاد السيد المسيح منها: "فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يدعى ابن الله" (لو1: 35). لا يمكن أن يفدى العالم إلا من كان خاليًا تمامًا من كل عيب، وخاليًا تمامًا من أي ميل نحو الخطية. ولا يمكن أن تتبارك طبيعتنا فيه إلا إذا كانت هذه الطبيعة التي اتحدت باللاهوت في التجسد هي طبيعة خالية تمامًا من كل نوازع الشر والخطية. ولا يمكن أن يحدث اتحاد حقيقي، طبيعي وأقنومي بين اللاهوت والناسوت في المسيح إلا إذا كان الناسوت خاليًا تمامًا من كل ما يتعارض مع قداسة اللاهوت وصلاحه. إذ كيف يجتمع النور مع الظلمة؟! لقد خاطب السيد المسيح أباه السماوي في ليلة آلامه قائلًا: "أنا مجدتك على الأرض.. والآن مجدّني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم" (يو17: 4، 5). لقد تمجّد الناسوت عند صعود السيد المسيح إلى السماء ودخوله إلى مجده بأمجاد اللاهوت وذلك لسبب الاتحاد التام والطبيعي بين اللاهوت والناسوت. لم يعد الناسوت يخفى مجد اللاهوت حينما تمجّد يسوع وجلس عن يمين الآب في السماوات. أسباب التجربة إن التجربة على الجبل لم تكن تمثيلية كما يدّعى السبتيون. ولكن السيد المسيح قد لقّن الشيطان درسًا لن ينساه حينما سمح له أن يجربه وهو في صورة الإنسان. أي أن السيد المسيح قد أعاد للإنسان هيبته وكرامته بانتصاره على الشيطان في التجربة على الجبل أولًا ثم بعد ذلك بصورة حاسمة في الصليب كما هو مكتوب "إذ جرّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه (أي في الصليب)" (كو2: 15). لقد قدّس السيد المسيح الصوم بصومه مانحًا إياه قوة فائقة للطبيعة لهزيمة الشياطين. ولقد رسم السيد المسيح لنا مثالًا لنقتفى أثر خطواته ولنتشبه به في الصوم وفي الانتصار على الأرواح الشريرة. كذلك أعطانا السيد المسيح دروسًا في الحرب الروحية وكيفية مجابهتها. فمثلًا حينما استخدم الشيطان آية من الكتاب المقدس، رد عليه السيد المسيح بآية من الكتاب المقدس أيضًا بقوله: "مكتوب أيضًا لا تجرب الرب إلهك" (مت4: 7). ونحن نرى اليوم كثير من النقاد وبعض الدارسين (Scholars) يستخدمون آيات الكتاب المقدس بطريقة خاطئة ضد العقائد السليمة والتسليم الرسولي. وينبغي علينا أن نرد عليهم بآيات من الكتاب. كذلك أعطانا السيد المسيح فكرة عن عدم استخدامه لسلطانه الإلهي من أجل إراحة جسده، وكذلك فكرة عن عدم استخدام أمجاد وسلطان الأرض من أجل نشر الكرازة بالإنجيل وعدم التنازل عن المبادئ في الخدمة مهما كان المقابل المادي. لماذا التجربة؟ كان السيد المسيح "يقتاد بالروح في البرية، أربعين يومًا يجرب من إبليس" (لو4: 1، 2) هل كان السيد المسيح يحتاج أن يختبر. أو أن يجرب؟! وإذا كان يسوع المسيح هو الله الكلمة المتجسد فما فائدة التجربة؟! أليس هو نفسه الرب الذي هو "غير مُجرَّب بالشرور، وهو لا يجرِّب أحدًا" (يع1: 13)؟ أليس هو الله الظاهر في الجسد، والذي هو بلا خطية وحده؟ كل هذه الأسئلة وكثير غيرها، قد يذكرها البعض متسائلًا: ما فائدة التجربة بالنسبة للسيد المسيح؟ لأنه من المعلوم مقدمًا أنه لابد أن ينجح في الاختبار حتميًا وبغير نقاش. وقد يتساءل البعض عن ما هو مفهوم التجربة في الكتاب المقدس لأنها تَرِدْ أحيانًا بمعنى الآلام، وأحيانًا بمعنى محاربات الشيطان. وقد تأخذ محاربات الشيطان الآلام وسيلة لها في بعض الأحيان. وللإجابة على ذلك نقول: أولًا: إن السيد المسيح قد جاء في الجسد، لينوب عن البشرية في أمرين أساسيين: الأمر الأول: أن يغلب الشيطان في جسم بشريتنا لحساب الجنس البشرى، مقدمًا الصورة المثالية للإنسان في طاعته الكاملة لله الآب. والأمر الثاني: أن يموت على الصليب نيابة عن الكل، ليوفى العدل الإلهي حقه بالكامل، ويكفّر بذلك عن خطايا جميع البشر الذين يقبلوه كفادٍ ومخلص. لهذا كان ينبغي أن ينوب عنا في محاربة إبليس، وينتصر عليه لأجلنا. ثانيًا: أن السيد المسيح أراد أن يخفى لاهوته عن الشيطان، ولهذا فقد سمح للشيطان أن يجربه مثل سائر البشر؛ في المجال المناسب وبدون أن يخطئ وبعد ذلك "لما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين" (لو4: 13). وعبارة "إلى حين"تعنى أن الشيطان بعد هذه المعركة، قد ذهب ليستعد للمعركة الكبرى عند الجلجثة.. كان صوم السيد المسيح وتجربته على الجبل، هي المعركة التي أثارت إبليس، لكي يعلن الحرب القصوى ضد السيد المسيح. فهناك فرق بين معركة تقديم المغريات، وبين معركة توجيه الضربات. على الجبل كان الشيطان يقدّم عروضًا اختيارية بدون ضغط.. أما في معركة الجلجثة الكبرى، فقد استعمل السوط، والمسمار، والأشواك، والآلام الرهيبة الجسدية والنفسية، والتعييرات. وجاء إبليس وهو يحمل معه سيف الموت مشهرًا بجسارة تتعجب أمامها الألباب!! ولكن هوشع النبي قد تغنى مُلهَمًا بالروح القدس في القديم، وهو يرى بعين النبوة نتائج هذه المعركة "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟" (انظر هو13: 14، 1كو15: 55). حينما. خرج مسيح الرب داود وهو شاب صغير لملاقاة جليات الجبار، أخذ السيف الذي كان بيد جليات وقطع رأسه بنفس هذا السيف. وكان هذا رمزًا وإشارة إلى ما فعله السيد المسيح الذي أباد سلطان الموت بسيف الموت الذي كان إبليس يستخدمه ضد جميع البشر. وقد شرح معلمنا بولس الرسول ذلك بقوله: "لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية" (عب2: 14، 15). وهكذا أيضًا تتغنى الكنيسة في لحن القيامة (بالموت داس الموت). بعد التجربة على الجبل ذهب إبليس ليحشد كل قواه، وليتآمر بأقصى ما يستطيع على السيد المسيح. وكان الهدف هو موت المسيح، أو أن يهرب من الموت منهزمًا. ولكن لم يكن ممكنًا للمعركة أن تبدأ على هذا المستوى الخطير، لولا أن السيد المسيح قد أخفى لاهوته عن الشيطان. الصوم الأربعيني وحتى على جبل التجربة، كان الصوم هو الوسيلة التي اجتذب السيد المسيح بها الشيطان لمحاربته. اختار هو بنفسه ساحة المعركة؛ في البرية؛ ومع الصوم الكبير. الأمر الذي جذب انتباه الشيطان ليتساءل: هل هذا موسى جديد يصوم أربعين يومًا على الجبل؟! أم إيليا آخر يصوم مثله؟! أم لعل هذا هو المسيح الذي تنبأ عنه موسى والأنبياء؟!! وما العمل أمام من ترنمت الملائكة في يوم مولده بتسابيح لم يسبق لها مثيل؟! ما سر أفراح الملائكة بهذه الصورة غير المسبوقة منذ سقوط الإنسان الأول؟! وما سر هذا الميلاد العذراوي العجيب؟.. وكيف تحققت كثير من أقوال الأنبياء القديسين الذين هم منذ الدهر..؟! وإن كان يسوع هو الله الظاهر في الجسد، فكيف ولد في المذود المتواضع بين الحيوانات..؟! وكيف هرب من بطش هيرودس الملك..؟! وكيف ذهب مع يوسف وأمه العذراء ليسكن في الناصرة، تفاديًا لغضب الملك الجديد ابن هيرودس..؟! وكيف عاش هذه السنوات حتى سن الثلاثين مثل إنسان عادى يعمل نجارًا بسيطًا..؟! ولماذا تقبل العماد في وسط التائبين من يوحنا في نهر الأردن؟! كثير من الأسئلة أدخلت الشيطان في الحيرة.. ولم يفهم في كبريائه معنى أن السيد المسيح كلمة الله "إذ كان في صورة الله، لم يحسب مساواته لله اختلاسًا. لكنه أخلى نفسه، آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت - موت الصليب" (فى2: 6-8). لذلك صدق القديس بولس الرسول حينما قال: "وبالإجماع عظيم هو سر التقوى؛ الله ظهر في الجسد" (1تى3: 16). حقًا عظيم هو سر التقوى.. إنه سر عجيب، لم يفهمه الشيطان لسبب كبريائه.. ولن يفهمه..!! |
||||
11 - 03 - 2014, 06:00 PM | رقم المشاركة : ( 29 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
المسيح في بداية خدمته رجع بقوة الروح بعد العماد والتجربة في البرية "رجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل، وخرج خبر عنه في جميع الكورة المحيطة، وكان يعلم في مجامعهم ممجدًا من الجميع" (لو4: 14، 15). من المعلوم أن السيد المسيح هو كلمة الله الممجد مع الآب والروح القدس ولكنه إذ أخلى ذاته آخذًا صورة عبد، فإنه "إذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه" (فى2: 8) ليقبل قيادة الروح القدس. وذلك كما حدث في خروجه إلى البرية "رجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس. وكان يُقتاد بالروح في البرية" (لو4: 1). بعد الأربعين يومًا التي قضاها في البرية منقادًا بالروح، هكذا أيضًا رجع بقوة الروح ليبدأ خدمته في الجليل. ما هذا الاتضاع العجيب؟! إن قوة الروح القدس هى نفسها قوة الكلمة الأزلي، فالأقانيم متساوية في كل القدرات والصفات المختصة بالجوهر الإلهي الواحد.. ولكن السيد المسيح كان يحلو له أن ينسب القدرة للروح القدس، وأن ينسب العمل إلى الآب السماوي لأنه لم يحسب مساواته لله اختلاسًا، ولهذا أخلى ذاته وأخذ صورة عبد (انظر فى2: 6). ولكننا نسمع الآب يشهد للسيد المسيح أنه هو ابنه الحبيب الذي سُرت به نفسه، كما نلاحظ كيف جاء الروح القدس ليشهد للسيد المسيح بعد صعوده إلى السماء.. هكذا كان ينبغي أن يمجد الابن الوحيد من الآب ومن الروح القدس، بعد أن أخلى ذاته لأجل خلاصنا.. إننا نتعبد في خشوع أمام الثالوث القدوس، ونحن نتفكر في هذا الحب الأزلي العجيب الذي بين الأقانيم المتساوية في الجوهر الإلهي الواحد. يقول معلمنا بولس الرسول عن نتيجة طاعة السيد المسيح واتضاعه: "لذلكرفَّعه الله أيضًا، وأعطاه اسمًا فوق كل اسم. لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء، ومن على الأرض، ومن تحت الأرض. ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو ربٌ لمجد الله الآب" (فى2: 9-11). فى مجمع الناصرة أراد السيد المسيح في إخلائه لذاته، أن يبرز انقياده للروح القدس، ومسحه بالروح القدس فجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى. ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ. فدفع إليه سفر إشعياء النبي. ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوباً فيه "روح الرب علىَّ لأنه مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأشفى المنكسري القلوب لأنادى للمأسورين بالإطلاق وللعمى بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية وأكرز بسنة الرب المقبولة" (لو4: 18، 19، انظر أيضًا إش61: 1، 2). "ثم طوى السفر وسلّمه إلى الخادم وجلس. وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه. فابتدأ يقول لهم إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم. وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه" (لو4: 20-22). أراد السيد المسيح أن ينسب كل ما في خدمته من قوة وبركة وتأثير للآب وللروح القدس؛ فقال: "روح الرب علىّ لأنه مسحني لأُبشر المساكين.." (لو4: 18). الابن الوحيد الحبيب هو الذي تجسد، وهو الذي تألم، وهو الذي قدّم ذاته ذبيحة مقبولة عن خلاص جنسنا.. وها نحن نراه يُخفى نفسه ويقول: "روح الرب علىّ لأنه مسحني.. لأُنادى للمأسورين بالإطلاق.. وأكرز بسنة الرب المقبولة". وها نحن أيضًا نسمعه ينادى الآب في اتضاع ويقول: "أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم.. الكلام الذي أعطيتني قد أعطيتهم.. أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته" (يو17: 6، 8، 4). لقد علّمنا السيد المسيح كيف يمكن أن نمارس الاتضاع من خلال المحبة. لأن الذي يحب حقًا يمكنه أن ينكر نفسه. لأن المحبة "لا تطلب ما لنفسها" (1كو13: 5)، بل إن المحبة الكاملة هي العطاء الكلى للذات. هناك من الأسرار الروحية ما يقف العقل أمامها مبهورًا، مشدودًا نحو التأمل في سر الأبدية مع السيد المسيح وفي السيد المسيح، حيث نور معرفة الله الذي تخشع أمامه النفس، وتستر وجهها من بهاء عظمة مجده. فى عرس قانا الجليل كان هناك عرس في قانا الجليل، وكانت السيدة العذراء أم يسوع هناك.. ودعى أيضًا السيد المسيح وتلاميذه إلى العرس (انظر يو2: 1، 2). كان السيد المسيح في بداية أيام خدمته، بعد عودته من الجبل بعد صومه الأربعيني المقدس، وقد وافق أن يقبل الدعوة لحضور العرس ومعه تلاميذه.. وهناك وبتوسط العذراء أمه، صنع أول معجزات خدمته أمام تلاميذه، إذ "لما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر" (يو2: 3)، فحوّل السيد المسيح الماء إلى خمر بناءً على طلبها. فكانت "هذه بداية الآيات فعلها يسوع.. وأظهر مجده فآمن به تلاميذه" (يو2: 11). اختار السيد المسيح أن يبدأ معجزاته في وسط تلاميذه، بناء على طلب من السيدة العذراء، ليعلّمنا أن شفاعتها التوسلية لديه مقبولة في كل حين وفي مقدمة كل الشفاعات. لم يكن السيد المسيح متعجلًا أن يصنع معجزات يظهر بها قوته الإلهية.. مع أن الفرصة كانت متاحة له لصنع معجزة. إلا أنه مكث في العرس دون أن يفعل شيئًا. حتى جاءت أمه القديسة فائقة الكرامة مريم، الشفيعة المؤتمنة على جنس البشر والمكرمة جدًا أكثر من الشاروبيم والسيرافيم.. جاءت ترجوه في حب وثقة أن يفعل شيئًا من أجل أصحاب العرس، الذين تورطوا في حرج شديد حينما فرغت الخمر (غير المسكرة) التي يقدمونها للمدعوين. الخمر في الكتاب المقدس تشير إلى محبة الله كقول عروس النشيد "أدخلني إلى بيت الخمر، وعلمه فوقى محبة" (نش2: 4)،وهكذا دائماً تطلب العذراء من أجل فيض محبة الله أن يتجدد في أحشائنا بقوة شفاعتها غير المرفوضة. كم هو جميل أن ندعو سيدنا يسوع المسيح ووالدته العذراء إلى عرس حياتنا حتى تتدفق فينا محبته بغزارة، وبحلاوة عجيبة. قال السيد المسيح لأمه: "ما لي ولك يا امرأة" (يو2: 4) بمعنى أنه لا يمكن أن يرد طلب للعذراء الطاهرة المرأة التي أعادت اللقب الأول لحواء قبل السقوط "هذه تدعى امرأة لأنها من امرءٍ أخذت" (تك2: 23). لأنها آمنت وأطاعت وقبلت أن تصير أمًا لمخلص العالم. وترنمت بالروح القدس قائلة: "تبتهج روحي بالله مخلصي" (لو1: 47). فهمت السيدة العذراء أن المخلص قد قبِل توسلها وطِلبتها، وأنه سوف يصنع المعجزة، مع أنه قال: "لم تأتِ ساعتي بعد" (يو2: 4)، فقالت للخدام: "مهما قال لكم فافعلوه" (يو2: 5). وصنع يسوع المعجزة، وحوّل الماء إلى خمر شهد لها رئيس المتكأ. وقال الإنجيل عن هذه المعجزة "هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه" (يو2: 11). في اتضاعه العجيب لم يفعل هذه الآية إلا بتوسل السيدة العذراء، ولهذا حسب أن ساعة صنعه للمعجزات لم تكن قد أتت بعد. وهكذا كان السيد المسيح دائمًا يحاول أن يخفى مجده، ولا يطلب مجدًا من الناس، بل يبحث عن خيرهم. كان الحب هو دافعه.. في بحثه عن خراف بيت إسرائيل الضالة.. في سعيه من أجل خلاص البشرية.. في تعبه من أجل الخطاة.. "يجول يصنع خيرًا" (انظر أع10: 38) و"يشفى كل مرض وكل ضعف في الشعب" (مت 4: 23). ولكن لماذا اختار أن يبدأ معجزات خدمته في عرس، وليس في أي مجال آخر؟ كانت علاقة الرب بالبشرية قد بدأت في الفردوس، حيث نشأت العائلة البشرية الأولى.. وكانت هذه العائلة الأولى من آدم وامرأته، هي الرمز الأول لعلاقة السيد المسيحبالكنيسة. فمن المعلوم أن "الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح أيضًا رأس الكنيسة" (أف5: 23) وقيل للرجال: "أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة، وأسلم نفسه لأجلها.. مطهرًا إياها" (أف5: 25، 26). وقال معلمنا بولس الرسول عن الزواج كصورة لارتباط السيد المسيح كعريس بكنيسته: "هذا السر عظيم، ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة" (أف5: 32). وفى مَثل العذارى الذي يرمز إلى العرس السماوي قال السيد المسيح: "يشبه ملكوت السماوات عشر عذارى أخذن مصابيحهن وخرجن للقاء العريس.. ففي نصف الليل صار صراخ هوذا العريس مقبل، فاخرجن للقائه" (مت25: 1، 6). ومعلمنا بولس الرسول يؤكّد هذه الحقيقة أن السيد المسيح هو عريس لكنيسته بقوله: "خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2كو11: 2). لهذا اختار السيد المسيح أن يبدأ معجزاته التي أظهر بها مجده في وسط تلاميذه، في عرس قانا الجليل، وفي حضور العروس الحقيقية رمز الكنيسة كلها، وأم جميع القديسين، العذراء والدة الإله. إن المعجزة الحقيقية التي صنعها السيد المسيح، هي أنه أعاد العائلة البشرية مرة أخرى إلى الفردوس. وهكذا جاءت هذه الصورة الجميلة، المسيح والكنيسة في عرس. وكانت الكنيسة ممثلة في العذراء مريم الشفيعة المؤتمنة أمام ربنا يسوع المسيح، وفي تلاميذه الذين أبصروا مجده المعجزي الخالق في ذلك العرس الممتلئ فرحًا. عصير الكرمة ارتبط عصير الكرمة المختمر بالعرس ارتباطًا وثيقًا. إن السيد المسيح هو الكرمة الحقيقية كما قال لتلاميذه. وفى العشاء الأخير قال لتلاميذه: "شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم" (لو22: 15). "وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبى" (مت26: 29). إن الكرمة تذكّرنا بالفردوس الذي فقدناه بالخطية التي أسكرتنا زمنًا طويلًا. وجاء السيد المسيح لكي يسقينا من خمر محبته، كقول عروس النشيد: "أدخلني إلى بيت الخمر وعلمه فوقى محبة" (نش2: 4). وقولها أيضًا: "نذكر حبك أكثر من الخمر" (نش1: 4). في سر الافخارستيا يكون السيد المسيح حاضرًا في الكنيسة في وسطنا، بجسده ودمه الأقدسين، يسقينا من عصير محبته ويمنحنا الحياة. هذا عشا العريس قُدم للعروس والوعد بالفردوس لحافظ العهد إن الإفخارستيا هي العرس الدائم الذي تحيا به الكنيسة في غربتها الحالية، إلى أن تتمتع بشركة الحياة الأبدية مع السيد المسيح في ملكوت السماوات، حيث العرس الأبدي الذي لا توصف حلاوته الحقيقية. في عرس قانا الجليل جاءت الخمر الجيدة الحلوة التي صنعها السيد المسيح في نهاية العرس. لكي نفهم أن حلاوة الحياة مع السيد المسيح سوف نتذوقها بما لا يقاس عند استعلان ملكوت السماوات. الرب الخالق ارتبط عرس قانا الجليل بمعجزة خلق واضحة.. حيث خلق السيد المسيح من الماء خمرًا حقيقية حلوة المذاق، قال عنها رئيس المتكأ إنها الخمر الجيدة. فهذا العرس يذكرنا بالفردوس، حيث خلق السيد المسيح أبوينا الأولين على صورة الله ومثاله. وفى العرس كان هناك ستة أجران يسع كل جرن مطرين أو ثلاثة. وقد أمر السيد المسيح الخدام أن يملأوها بماء إلى فوق ففعلوا هكذا. وقد حوّل السيد المسيح الماء الذي في الأجران إلى خمر جيدة، بمجرد أن أراد ذلك في نفسه، وقال للخدام: "استقوا الآن، وقدّموا إلى رئيس المتَّكأ، فقدّموا.." (يو2: 8). هذه الأجران الستة تذكّرنا بأيام الخليقة الستة.. لأن الرب صنع العالم والمخلوقات التي فيه في ستة أيام واستراح في اليوم السابع. وقد خلق الرب الإنسان في اليوم السادس، كما أنه قد صُلب على الصليب في اليوم السادس من الأسبوع، وفي وقت الساعة السادسة. الرقم ستة دائمًا في الكتاب المقدس يرمز إلى كمال العمل، وإلى عمل السيد المسيح في خلق الإنسان وفي خلاصه من الخطية. وها هو الرب الخالق يعود ليبدأ مع الإنسان من جديد لأنه "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديدًا" (2كو5: 17). ولكن هذا الجديد في حياتنا مع الله، ليس هو الجديد، بل هو الأصيل.. هو الأقدم والأعمق من العتيق. لأن الأصل هو في شركة الحياة الفردوسية مع الله. مقصود بالأشياء العتيقة أي الخطايا والشرور التي دخلت إلى حياة الإنسان.. ولكن ما هو أقدم وأعتق، هو العلاقة المقدسة مع الله التي بدأت مع خلق الإنسان.. لهذا صنع الرب في الأجران خمرًا جديدة، أطيب من العتيقة.. أعتق في طعمها بكثير.. أليس هذا ما عبّر عنه القديس أغسطينوس في مناجاته عن الله ومحبته: ]آه.. تأخرت كثيرًا في حبك أيها الجمال الفائق في القدم والدائم جديدًا إلى الأبد[. |
||||
11 - 03 - 2014, 06:02 PM | رقم المشاركة : ( 30 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
المسيح في صنعه المعجزات لم يصنع السيد المسيح المعجزات ليتباهي بها، ولا ليأخذ مجدًا من الناس، بل على العكس كثيرًا ما أوصى الذين شفاهم أن لا يخبروا أحدًا بما صنعه معهم. وهذه بعض الأمثلة: 1- واقعة شفاء الرجل الأبرص يحكى لنا إنجيل معلمنا مرقس عنها "فأتى إليه أبرص يطلب إليه جاثيًا وقائلًا له إن أردت تقدر أن تطهرني. فتحنن يسوع ومد يده ولمسه وقال له أريد فاطهر. فللوقت وهو يتكلم ذهب عنه البرص وطهر. فانتهره وأرسله للوقت وقال له انظر لا تقل لأحد شيئًا. بل اذهب أرِ نفسك للكاهن، وقدّم عن تطهيرك ما أمر به موسى شهادة لهم. وأما هو فخرج وابتدأ ينادى كثيرًا ويذيع الخبر، حتى لم يعد يقدر أن يدخل مدينة ظاهرًا، بل كان خارجًا في مواضع خالية. وكانوا يأتون إليه من كل ناحية" (مر1: 40-45). وعن نفس المعجزة كتب القديس لوقا الإنجيلي. من هذه المعجزة وملابساتها يتضح ما يلي:
هكذا يعلمنا السيد المسيح بمثاله الصالح أن نهرب من طلب مجد الناس، صانعين مشيئة الله من القلب وأن من يهرب من الكرامة تجرى خلفه، وترشد جميع الناس إليه. 2- إقامة ابنة يايرس من الموت يقول معلمنا لوقا الإنجيلي: "فلما جاء إلى البيت لم يدع أحدًا يدخل إلا بطرس ويعقوب ويوحنا وأبا الصبية وأمها. وكان الجميع يبكون عليها ويلطمون. فقال لا تبكوا. لم تمت لكنها نائمة. فضحكوا عليه عارفين أنها ماتت. فأخرج الجميع خارجًا وأمسك بيدها ونادى قائلًا: يا صبية قومي. فرجعت روحها وقامت في الحال. فأمر أن تُعطى لتأكل. فبُهت والداها. فأوصاهما أن لا يقولا لأحد عما كان" (لو8: 51-56). وعن نفس المعجزة يقول القديس متى الإنجيلي: "فخرج ذلك الخبر إلى تلك الأرض كلها" (مت9: 26). في هذه المعجزة ترى السيد المسيح يصنع الأمور التالية: أولًا: منع الجموع التي كانت تسير خلفه من الدخول إلى موضع المعجزة. ثانيًا: لم يأخذ من التلاميذ إلى الداخل إلا بطرس ويعقوب ويوحنا، الذين أخذهم معه على جبل التجلي، وفي بستان جثسيماني وهو يجاهد في الصلاة، ليكونوا شهودًا بعد قيامته من الأموات على هذه الأمور (انظرمت17: 9). ثالثًا: أخرج جميع الأهل والزوار والمعزين خارجًا، ولم يستبقِ سوى والد الصبية وأمها. رابعًا: أنه أوصى الذين شاهدوا المعجزة وقت حدوثها، أن لا يقولوا لأحد عما كان. وبالرغم من كل ما فعل السيد المسيح لإخفاء المعجزة، إلا أن الخبر قد خرج إلى تلك الأرض كلها، لأنه "لا يمكن أن تخفى مدينة موضوعة على جبل، ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت المكيال، بل على المنارة فيضئ لجميع الذين في البيت" (مت5: 14، 15). 3- شفاء الأعميان عن هذه المعجزة يقول معلمنا متى البشير: "وفيما يسوع مجتاز من هناك تبعه أعميان يصرخان ويقولان: ارحمنا يا ابن داود. ولما جاء إلى البيت تقدم إليه الأعميان. فقال لهما يسوع: أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا؟ قالا له: نعم يا سيد. حينئذ لمس أعينهما قائلًا: بحسب إيمانكما ليكن لكما. فانفتحت أعينهما. فانتهرهما يسوع قائلًا: انظرا لا يعلم أحد. ولكنهما خرجا وأشاعاه في تلك الأرض كلها" (مت9: 27-31). لم يقدّم السيد المسيح الشفاء لهذين الأعميين بمجرد أن طلبا ذلك، بل ظل ساكتًا وهو يسير في الطريق نحو البيت، بالرغم من صراخهما "ارحمنا يا ابن داود". ولما جاء إلى البيت تقدما إليه فسألهما عن إيمانهما، فأجابا بالإيجاب. * كان السيد المسيح يرغب في إظهار إيمان هذين الرجلين، فتمهل عليهما في الاستجابة. * كما إنه لم يرغب في أن يصنع المعجزة علنًا في الطريق، فسار نحو البيت وهما يتبعانه. * إلى جوار ذلك أوصاهما السيد المسيح بشدة أن لا يعلم أحد. * ولكنهما خرجا وأشاعا خبر المعجزة في تلك الأرض كلها. 4- شفاء مريض بيت حسدا عندما سأل السيد المسيح الرجل المفلوج الذي مكث بجوار بِركة مياه بيت حسدا لمدة ثماني وثلاثين سنة، قائلًا: "أتريد أن تبرأ"؟ (يو5: 6).. قال له المفلوج: "يا سيد ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء. بل بينما أنا آتٍ ينزل قدامى آخر" (يو5: 7). ليس لي إنسان في هذه البِركة للمياه ذات الخمسة أروقة "كان مضطجعًا جمهور كثير من مرضى وعمى وعرج وعسم يتوقعون تحريك الماء، لأن ملاكًا كان ينزل أحيانًا في البِركة ويحرك الماء. فمن نزل أولًا بعد تحريك الماء، كان يبرأ من أي مرض اعتراه" (يو5: 3، 4). كان حال الرجل المفلوج بجوار هذه البِركة ذات الخمسة أروقة، يمثل حال البشرية التي انتظرت مجيء المخلّص أكثر من خمسة آلاف عام، وقد أعطيت شريعة موسى ذات الخمسة أسفار والتي لم تتمكن من تخليص البشرية مما هي فيه من فساد طبيعتها، ومن الموت الذي نتج عن دخول الخطية إلى العالم. في مدة انتظار البشرية، كان الرب يرسل أنبياء بين الحين والآخر لتنبيه البشرية إلى الخلاص، الذي كان الرب مزمعًا أن يصنعه في ملء الزمان، وقد تنبأوا عن مجيء المخلص،ولكن لم يتمكن أحد منهم من تخليص البشرية من عجزها الروحي، ومن حالة الموت التي سيطرت عليها منذ سقوط أبوينا الأولين. كانت هناك ومضات من السماء عبر الأجيال، عبّر عنها نزول الملاك أحيانًا لتحريك المياه في البركة. ولكن هذه الومضات كانت لتذكير البشرية بأن الخلاص سوف يتم بمجيء المخلّص. وها هو المخلّص قد أتى ووقف إلى جوار الرجل المفلوج يسأله "أتريد أن تبرأ؟" أجابه المريض يا سيد "ليس لي إنسان". لعل رد الرجل المريض يذكّرنا بما ورد في سفر إشعياء عن حال البشرية إذ قال: "ننتظر عدلًا وليس هو. وخلاصًا فيبتعد عنّا. لأن معاصينا كثرت أمامك، وخطايانا تشهد علينا، لأن معاصينا معنا وآثامنا نعرفها.. وقد ارتد الحق إلى الوراء، والعدل يقف بعيدًا.. فرأى الرب وساء في عينيه أنه ليس عدل. فرأى أنه ليس إنسان وتحيّر من أنه ليس شفيع. فخلّصت ذراعه لنفسه وبره هو عَضَدَهُ. فلبس البر كدرع وخوذة الخلاص على رأسه" (إش59: 12،11، 14-17). كما قال المريض: "ليس لي إنسان"هكذا رأى الرب أنه "ليس إنسان".. أي لا يوجد إنسان يستطيع أن يتمم الفداء ويخلّص البشرية. ولذلك يقول: "رأى (الرب) أنه ليس إنسان، وتحيّر من أنه ليس شفيع، فخلَّصت ذراعه لنفسه وبره هو عضّده" (إش59: 16). كان من الضروري أن يقوم الرب هو نفسه بالخلاص، لأنه لا يقدر أحد أن يتمم الفداء إلا الرب نفسه. لذلك يكمّل قائلًا: "فخلّصت ذراعه لنفسه.. فلبس البر كدرع، وخوذة الخلاص على رأسه" صار الرب الله هو نفسه المخلص.. لهذا قال الإنجيل "وكان الكلمة الله.. والكلمة صار جسدًا وحل بيننا ورأينا مجده مجدًا كما لوحيدٍ من الآب مملوءًا نعمةً وحقًا" (يو1: 1، 14). صار لي خلاصًا عن هذا تغنى إشعياء النبي قائلًا: "هوذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب، لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي وقد صار لي خلاصًا. فتستقون مياهًا بفرح من ينابيع الخلاص" (إش12: 2، 3). لقد صار يهوه نفسه هو الخلاص، لأنه تجسد وهو المخلص. هو الكاهن، وهو الذبيحة. هو الحمل، وهو الراعي. هو الهيكل، وهو القربان. وتغنت العذراء مريم قائلة: "تبتهج روحي بالله مخلصي" (لو1: 47). وقيل عن السيد المسيح في ميلاده "وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم" (مت1: 21). وكلمة "يسوع" معناها "يهوه خلّص". الكلمة الذي له نفس جوهر الآب، هو الذي تجسد وصنع الفداء. فالله يهوه هو المخلّص. لأن الكلمة من حيث جوهره هو يهوه، ومن حيث أقنومه هو الابن المولود من الآب، الذي هو يهوه أيضًا من حيث الجوهر. وقد قال الرب صراحة في إشعياء النبي: "أنا أنا الرب وليس غيري مخلّص.. وأنتم شهودي يقول الرب وأنا الله" (إش43: 11، 12). ما أعجب محبتك يا رب لأنك إذ لم تجد من يمكنه خلاص البشرية، أرسلت ابنك الوحيد ليولد متجسدًا من العذراء مريم، وإذ صار إنسانًا مثلنا بلا خطية، يقوم هو نفسه بإتمام الفداء، يقدّم نفسه كشفيع ويموت نيابةً عن الكل. ويقيمنا معه بانتصاره على الموت.. وبهذا صار الرب نفسه هو المخلص، وخلّصت ذراعه لنفسه وبره هو عضَدّه. قم احمل سريرك وامشِ قال الرب للمفلوج: "قم احمل سريرك وامش" (يو5: 8). بعد أن كانت الروح عاجزة عن الحركة. ترقد في فراش الجسد، بكلمة الله صار لها القدرة أن تحمل الجسد، وتتحرك به بملء الصحة الروحية. صارت الروح قادرة أن تقود الجسد، لأنها تنقاد بروح الله، وتتقوى بنعمة الروح القدس. لم يعد الجسد هو موضع ترقد الروح فيه عاجزة عن الحركة نحو حياة الأبد، بل صارت الروح قادرة أن تقود الجسد وأن تحمله إلى بيت الآب. ما أجمل هذه الكلمة "قم". سوف يسمعها كل من آمن وتمتع بالخلاص.. حينما ينادى ابن الله الذين رقدوا ليقوموا بأجساد روحانية ويرثوا الحياة الأبدية. إذا قال الرب للإنسان "قم" فسوف يقوم حتمًا.. إنها كلمة الرب القادرة الحية إلى الأبد. 5- شفاء الأعمى قال هذا النداء الرجل الأعمى الذي كان جالسًا يستعطى على الطريق المؤدى إلى أريحا بقرب أريحا "فلما سمع الجمع مجتازًا، سأل ما عسى أن يكون هذا؟ فأخبروه أن يسوع الناصري مجتاز. فصرخ قائلًا: يا يسوع ابن داود ارحمني. فانتهره المتقدمون ليسكت، أما هو فصرخ أكثر كثيرًا: يا ابن داود ارحمني. فوقف يسوع وأمر أن يُقدّم إليه. ولما اقترب سأله قائلًا: ماذا تريد منى أفعل بك؟ فقال: يا سيد أن أبصر. فقال له يسوع: أبصر، إيمانك قد شفاك. وفي الحال أبصر، وتبعه وهو يمجد الله. وجميع الشعب إذ رأوا سبحوا الله" (لو18: 36-43). إن طلب الرحمة بلجاجة، وبصراخ من الأعماق من السيد المسيح يجلب للإنسان كثير من المراحم الإلهية. إن اللجاجة في الطلب والصراخ من عمق القلب هي دليل على قوة الإيمان بالمسيح. وبالرغم من المعوقات المحيطة بهذا الرجل الأعمى إلا أنه قد وصل إلى غايته وتغلب على كل الصعوبات. أولًا: تغلّب على مشكلة عدم قدرته على الإبصار بأن سأل من حوله "ما عسى أن يكون هذا؟"وذلك عندما شعر بالجمع مجتازًا. ثانيًا: تغلّب على مشكلة عدم قدرته على الاتجاه نحو السيد المسيح لأنه لا يبصر طريقه بأن صرخ قائلًا: "يا يسوع ابن داود ارحمني". ثالثًا: تغلّب على التذمر لإصابته بالعمى بالثقة في مراحم الرب الجزيلة. رابعًا: تغلّب على مشكلة انتهار المتقدمون من الجمع الذين حاولوا أن يمنعوه من الصراخ طالبًا رحمة السيد المسيح بأن أصر على طلب الرحمة وصرخ أكثر كثيرًا "يا ابن داود ارحمني". خامسًا: لم يثنه عن طلب الرحمة سؤال السيد المسيح له "ماذا تريد أن أفعل لك؟" بل أجابه لوقته "يا سيد أن أبصر". فالسيد المسيح يريدنا أن نحدد احتياجنا وطلباتنا منه. لا يكفى أن نطلب الرحمة بل ينبغي أن يكون لنا هدف واضح في صلاتنا. وقد شهد السيد المسيح لإيمان هذا الرجل الذي استمر في الطلبة واثقًا من الاستجابة. ألم يقل السيد المسيح: "كل ما تطلبونه حينما تصلون فآمنوا أن تنالوه فيكون لكم" (مر11: 24). لقد قاسى هذا الأعمى في حياته واضطر أن يتسول بأن يطلب عطايا من الناس لأنه لا يستطيع أن يكسب قوته لإصابته بالعمى. وهو لم يتذمر على الله الذي سمح له بهذه الضيقة وهذه المذلة بل صرخ نحو السيد المسيح طالبًا الرحمة في ثقة وإيمان. هناك أناس تبعدهم الضيقات عن الله فيتذمرون عليه قائلين لماذا يسمح الله لنا بالذل والهوان والمشقة والتعب. أما المؤمنون فإن الضيقة تعتبر مجالًا يلتقون فيه مع الله ويقتربون منه. لقد أوقف صراخ هذا الأعمى السيد المسيح الذي أمر أن يقدم إليه. ولما اقترب سأله قائلًا: "ماذا تريد أن أفعل بك؟". وهنا نرى كيف أمر السيد المسيح بأن يقترب إليه هذا الأعمى لكي يمنحه الشفاء. وقد صار هذا الأعمى تلميذًا للسيد المسيح لأنه مكتوب أنه "أبصر وتبعه وهو يمجد الله". لقد امتلأ فمه فرحًا وتسبيحًا وتمجيدًا وصار شاهدًا لعمل الرب في حياته. وبسببه "جميع الشعب إذ رأوا سبحوا الله" (لو18: 43). ما أجمل هذه الأنشودة في حياة الإنسان أن يتمجد من خلال الضيقات التي يحتملها بإيمان. وما أجمل أن ننادى اسم يسوع الرب في كل حين من عمق القلب. إن صلاة (يا ربى يسوع المسيح ارحمني -يا ربى يسوع المسيح أعنى - يا ربى يسوع المسيح خلصني) هي من أقوى الصلوات فاعلية في الحروب الروحية ضد الشياطين. لأن مجرد ذكر اسم الرب يسوع المسيح ترتعب منه جيوش الشياطين. لهذا ففي إبصالية يوم السبت من كل أسبوع تسبح الكنيسة (اسمك حلو ومبارك في أفواه قديسيك: يا ربى يسوع المسيح مخلصي الصالح - كل أحد يباركك السمائيون والأرضيون: يا ربى يسوع المسيح مخلصي الصالح - سبع مرات كل يوم أبارك اسمك القدوس: يا ربى يسوع المسيح مخلصي الصالح.. الخ). إن اسم يسوع في اللغة العبرية هو "يهوشع" أي "يهوه خلّص" بمعنى "الله خلّص" لهذا قال القديس بطرس الرسول لرؤساء اليهود بعد شفاء الرجل المفلوج: "فليكن معلومًا عند جميعكم وجميع شعب إسرائيل، أنه باسم يسوع المسيح الناصري، الذي صلبتموه أنتم، الذي أقامه الله من الأموات، بذاك وقف هذا أمامكم صحيحًا.. وليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطى بين الناس به ينبغي أن نخلص" (أع4: 10، 12). إن اسم يسوع يحمل قوة الله للخلاص ولا يوجد اسم في الوجود له فاعلية الخلاص مثله بالنسبة للبشر. لذلك صرخ الأعمى نحو السيد المسيح قائلًا: "يا يسوع ابن داود ارحمني". فلنردد هذا الاسم من عمق قلوبنا ولا نكف عن ترديده بكل الثقة والإيمان ويصرخ كل منا قائلًا (يا ربى يسوع المسيح ارحمني). وهكذا نرى من الأمثلة الخمسة السابقة وغيرها كثير، إن السيد المسيح كان يميل دائمًا إلى إخفاء ما يصنعه من المعجزات. وبالفعل أمكن إخفاء بعضها إلى ما بعد قيامته من الأموات، كما سوف نرى في معجزة التجلي، التي لم يبصرها سوى بعض من تلاميذه الاثني عشر. |
||||
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
من كتاب مشتهى الأجيال: صعود المسيح |
من كتاب مشتهى الأجيال: من القدس إلى قدس الأقداس |
من كتاب مشتهى الأجيال: التجربة على الجبل |
من كتاب مشتهى الأجيال: مصير العالم يتأرجح |
من كتاب مشتهى الأجيال: يأس المخلص |