تذكر الخطايا
إن بطرس الرسول لم يكن يدرك تمامًا حقيقة ما يفعل، وهو يسب ويجدف وينكر المسيح.. ولكنه لما صاح الديك وأحس بعمق خطيئته، "خرج خارجًا، وبكى بكاء مرًا" (مت 26: 75).
وهكذا أيضًا فعلت المرأة الخاطئة، التي بلت قدمى الرب بدموعها، ومسحتهما بشعر رأسها (لو 7: 38) وبالمثل بكى داود النبى، لما اظهر له ناثان النبي عمق خطاياه (2صم 12: 7). إن نسيان الخطايا يجفف القلب ويجفف العينين. لذلك حسنًا قال داود النبى:
خطيتى أمامى في كل حين (مز 50). فليتك تفعل هذا، وتجعل خطاياك قدام عينيك، تذل بها نفسك وتوبخها، وتبكى على هذه الخطايا النهار والليل. فإن البكاء على الخطايا يغسل القلب، ويطهر الروح، ويعطى يقظة للضمير، فيمنع الإنسان من العودة إلى الخطيئة مرة أخرى، ويعلمه الحرص والتدقيق.
ولهذا فإن نصيحة تتكرر في بستان الرهبان، يقولها الآباء لمن يطلب كلمة منفعة:
"اجلس في قلايتك، وابك على خطاياك".
وغفران الله للخطية، لا يمنع بكاء الخاطئ عليها. إنه لا يبكى خوفًا من العقوبة.. إنما يبكى لأنه أحزن قلب الله بخطاياه، أحزن روح الله الذي في داخله، وابعد عنه الملائكة المحيطين به، وكشف نفسه رديئة أمام أرواح المنتقلين ويبكى أيضا لأنه بخطيئته قد فقد صورته الإلهية، وسقط وتدنس..
يبكى متألمًا، كيف ضعفت إرادته هكذا، وتدنست روحه؟
ويشعر بالخجل أمام نفسه، وبالخزى أيضًا. كما قال دانيال النبي في المزمور "خزى وجهى قد غطانى" (مز 44: 15). وكما قال دانيال النبي وهو يعترف بخطايا الشعب "ياسيد، لنا خزى الوجوه لملوكنا لرؤسائنا ولآبائنا، لأننا أخطأنا إليك" (دا 9: 8، 7).
وهكذا كان القديسون يبكون ايضًا من أجل خطايا الشعب.
يبكون حزنًا على الذين يسقطون والذين يهلكون، كما ناح صموئيل على شاول الملك (1صم 15: 35). ويبكون طالبين المغفرة للناس، وطالبين لهم نعمة للتوبة، كما بكى عزرًا الكاهن بسبب خطايا الشعب، ومزق ثيابه ونتف شعر راسه (عز 9: 3).وصلى وأعترف وهو باك وساقط أمام بيت الله" (عز 10: 1). وقال "اللهم أنى أخجل وأخزى أن أرفع يا الهى وجهى نحوك، لأن ذنوبنا قد كثرت فوق رؤوسنا، وآثامنا تعاظمت إلى السماء" (عز 9: 6)
ونفس الوضع حدث مع نحيما، حينما أعترف بخطايا الشعب وقال "إنى أنا وبيت أبى قد أخطأنا وأفسدنا أمامك" (نح 1: 6، 7).
ومن أجل الشعب أيضًا بكى ارمياء النبى:
وتسجلت دموعه ومراثيه في سفر كامل في الكتاب نقرؤه باستمرار في الساعة الثانية عشرة من يوم الجمعة العظيمة..
إن كان الناس لا يبكون على خطاياهم، فمن واجب القديسين أن يبكوا من أجلهم، طالبين لهم الرحمة والمغفرة وطالبين لهم التوبة.
لقد بكى السيد المسيح على أورشليم (لو 19: 41)، إذ كان يبصر هلاكها أمام عينيه.. ونحن في كل يوم نبصر الذين يسقطون ويهلكون، والذين ينحرفون ويبتعدون. أفلا يستحقون منا البكاء؟ إن نحميا، لما سمع أن سور أورشليم منهدم، وأبوابها محروقة بالنار، يقول "فلما سمعت هذا الكلام، جلست وبكيت، ونحت أيامًا وصمت وصليت.." (نح 1: 3،4)
وبكى نحميا أمام الله معترفًا بخطايا الشعب.. وقال للرب في صلاته "إنى أنا وبيت أبى قد أخطأنا. لقد أفسدنا أمامك، ولم نحفظ الوصايا والفرائض والأحكام التي أمرت بها موسى عبدك.."
والسيد المسيح لما بكت عليه بنات أورشليم، قال لهن "لا تبكين على، بل أبكين على أنفسكن وعلى أولادكن" (لو 23: 28).. حقًا، كانت تلك النفوس تحتاج إلى البكاء، تلك الخاطئة التي بكى المسيح من أجلها..
حينما نبكى على خطايانا، نتذكر أيضًا محبة الله التي صبرت علينا كل هذا الزمان
نتذكر احتمال الله لنا، وطول أناته، ونحن مستمرون في الخطأ زمانًا هذه مدته.. وتذكرنا لمحبة الله الصابرة والمحتملة، تعطينا سببًا جديدًا للبكاء تأثرًا بمعاملته المترفقة.. وحينما تبكى النفس التائبة أمامه، يشفق الرب، ويغلب من تحننه، ويقول لتلك النفس "حولى عينيك عن، فإنهما قد غلبتانى" (نش 6: 5).
إن داود النبى من أبرز الأمثلة للبكاء على الخطايا.
يكفى قوله "في كل ليلة أعوم سريرى. بدموع أبل فراشى" (مز 6) تعبر عن الوقت واستمرار البكاء. وعبارة "أعوم سريرى "تدل على كمية الدموع المنسكبة..! تصوروا هذا الملك العظيم، ويرجع إلى قصره ليلًا، فبخلع عنه تاجه وملابسه الملكية، ويركع أمام الله باكيا، ليبلل فراشه بالدموع. وحتى إذا نام، ينام على سرير غارق في الدموع.. على الرغم من كل مظاهر العظمة والأبهة المحيطة. ويقول أيضًا: "صارت دموع لي خبزًا نهارًا وليلًا" (مز 42: 3).
وأيضًا يقول في تذلله وبكائه"، "أكلت الرماد مثل الخبز، ومزجت شرابى بالدموع" (مز 102: 9).. أي أنه حينما يشرب، تتساقط دموعة فتختلط بالماء الذي يشربه، فيشربها معه! وكان داود يحدث الله عن هذه الدموع، فيقول له "أنصت إلى دموعى، ولا تسكت عنى، لأنى غريب عندك" (مز 39: 12)، "اجعل دموعى في زق عندك" (مز 56: 8).
إن الذين يسرعون إلى الفرح حال توبتهم، يفقدون بركة الإنسحاق وتعزية الدموع.
وقد يرجعون إلى الخطية مرة أخرى، لأن التوبة لم تستوف مطالبا من الانسحاق ومن البكاء وهذا الفرح السريع عطل القلب عنه الشعور بمرارة الخطية وقداحتها، فعبر عليها كما لو كانت أمرًا بسيطا.. حينما يبدأ التائب في البكاء والتذلل أمام الله، يحاربه الشيطان بعبارة: "امنحنى بهجة خلاصك" (مز 50). والملاحظ أن داود النبى قدمها كطلبة، ولم يعرفها كحالة.. ولاشك أنه لا يتمتع ببهجة الخلاص إلا الذي أدراك مرارة الخطية، وبكى بكاء مرًا كما فعل القديس بطرس الرسول..
لقد كان خروف الفصح يمثل الخلاص من عبودية فرعون، ويرمز إلى ذبيحة المسيح (1كو5: 7). ومع ذلك كان أمر الرب أن يأكلوه على أعشاب مرة (خر 12: 8) متذكرين خطاياهم التي جلبت لهم العبودية. البكاء إذن هو الوسيلة إلى التعزية، كما قال الكتاب:
(الذين يزرعون بالدموع، يحصدون بالابتهاج" (مز 126: 5).
بهذه الدموع التي تسكبها أمام الله تحصل على بهجة خلاصه.