17 - 07 - 2012, 07:12 AM | رقم المشاركة : ( 21 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير كامل لانجيل متى لابونا تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الحادي والعشرون دخول الملك أورشليم تقدّم لنا الأصحاحات الثمانية الأخيرة (21-28) صورة حيّة للأسبوع الأخير لحياة السيِّد المسيح على الأرض الذي قدّم لنا فيه نفسه فِصحًا ليعبُر بنا من ملكوت الظلمة إلى ملكوته الأبدي. وقد حرص الإنجيليّون أن يسجّلوا لنا صورة تفصيليّة عن هذا الأسبوع الذي غيّر مجرى حياة البشريّة. 1. دخوله أورشليم 1-11. 2. تطهير الهيكل 12-14. 3. تسبيح الأطفال 15-16. 4. في بيت عنيا 17. 5. شجرة التين العقيمة 18-22. 6. جدال الرؤساء معه 23-26. 7. مثل الابنين والكرم 27-32. 8. مثل الكرّامين الأشرار 33 -44. 9. إدراك الرؤساء أمثلته 45-46. 1. دخوله أورشليم "ولما قربوا من أورشليم وجاءوا إلى بيت فاجي عند جبل الزيتون، حينئذ أرسل يسوع تلميذين. قائلاً لهما: اذهبا إلى القرية التي أمامكما، فللوقت تجدان أتانًا مربوطة وجحشًا معها، فحلاّهما وأتياني بهما. وإن قال لكما أحد شيئًا، فقولا: الرب محتاج إليهما، فللوقت يرسلهما" [1-3]. كانت أورشليم تكتظ بالملايين في ذلك الوقت، جاءوا يشترون خرافًا يحتفظون بها لتقديمها فِصحًا عنهم، أمّا السيِّد المسيح - حمل الله - فتقدّم بنفسه متَّجهًا نحو أورشليم ليقدّم نفسه فِصحًا عن البشريّة بإرادته. إنه ليس كبقيّة الحملان التي تُذبح فتؤكل وتُستهلك، إنّما يقدّم جسده ذبيحة حب قادرة أن تقيم من الموت وتهب حياة أبديّة لمن ينعم بها. إنه الكاهن والذبيحة في نفس الوقت الذي يتقدّم إلى الصليب، كما إلى المذبح لكي يرفع البشريّة المؤمنة إلى الحياة الجديدة التي فيه، ويحملها معه إلى سماواته. لقد "جاءوا إلى بيت فاجي"، وهي قرية صغيرة جنوب شرقي جبل الزيتون، يسكنها الكهنة ليكونوا قريبين من الهيكل بأورشليم. يرى البعض أن "بيت فاجي" تعني بالعبريّة "بيت التين"، وقد سبق فرأينا في "التينة" رمزًا للكنيسة من جهة وحدتها حيث تضم بذورًا كثيرة داخل غلاف الروح القدس الحلو، خلاله يكون للكل طعمًا شهيًا، وبدونه تصير البذور بلا قيمة لا يمكن أكلها. هذه هي الكنيسة الواحدة المملوءة حلاوة خلالها يرسل السيِّد تلميذيْه ليحلاّ باسمه المربوطين، ويدخلا بالقلوب إلى أورشليم العُليا، أي رؤية السلام. ويرى العلاّمة أوريجينوس أن "بيت فاجي" تعني "بيت الفَكْ"، وكأنها تذكرنا بالفكْ الذي يُلطم عليه المؤمن الحقيقي (الخد الأيمن) فيُحوّل الآخر لمن يلطمه، مقدّمًا له الحب ليكسر شرّه. كما يذكِّرنا بالفكْ الذي ضرب به شمشون الأعداء فأهلكهم، وقد أفاض ماءً أنعشه وقت عطشه (قض 15: 19). هكذا لا نستطيع أن نلتقي بالمسيّا المخلّص كفاتح لأورشليمنا الداخليّة ما لم نقدّم خدِّنا الأيمن وأيضًا الأيسر بالحب لمضايقينا، محتملين شرّهم بصبرٍ حقيقيٍ. هذا هو باب التمتّع بمسيحنا - الفِصح الحقيقي - الذي أفاض علينا ينبوع مياه حيّة كما مع شمشون (قض 15: 19) هو ينبوع ماء روحه القدّوس الذي يروي القلب ليحوِّله من بريَّة مقفرة إلى جنّة الله المثمرة. يقول الإنجيلي: "ولما قربوا من أورشليم وجاءوا إلى بيت فاجي عند جبل الزيتون" [1]... ما هو جبل الزيتون الذي جاء إليه السيِّد قبيل دخوله أورشليم الذي اكتظّ بأشجار الزيتون، إلا السيِّد المسيح نفسه، الذي هو نفسه "الطريق"، هو بدايته وهو نهايته. به يدخل إلينا، وفيه يستقر! وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [لعلّ المسيح نفسه هو الجبل، فمن هو ذاك الجبل إلا الذي يقدر أن يقدّم أشجار زيتون مثمرة، لا كالأشجار التي تنحني بسبب ثِقل ثمارها، وإنما تذخر بالأمم خلال كمال الروح؟! إنه ذاك الذي خلاله نصعد وإليه نبلغ. إنه الباب وهو الطريق؛ هو الذي ينفتح لنا، وهو الذي يفتح.] يقول أيضًا القدّيس أمبروسيوس: [لقد جاء إلى جبل الزيتون لكي يغرس الزيتون الصغير بقوّته السماويّة... إنه الزارع السماوي؛ وكل غرس يغرسه في بيت الله يعلن: "أمّا أنا فمثل زيتونة خضراء في بيت الله، توكّلت على رحمة الله إلى الدهر والأبد" (مز 52: 8).] عند جبل الزيتون أرسل السيِّد تلميذين، قائلاً لهما: "اذهبا إلى القرية التي أمامكما". بعث بتلميذيه إلى قرية ليأتيا بالأتان والجحش المربوطين بعد حلّهما، ليستخدمهما في دخوله أورشليم. معلنًا احتياجه إليهما، وقد رأى آباء الكنيسة أن كل كلمة وردت بخصوص هذا الحدث تحمل معنى يمس خلاص البشريّة، نذكر على سبيل المثال: أولاً: الأتان والجحش يمثّلان رمزيًا العالم في ذلك الحين وقد انقسم إلى اليهود والأمم... فالرب محتاج إلى كل البشريّة حتى وإن انحطّت في فكرها إلى الأتان والجحش من جهة معرفتهم لله وسلوكهم الروحي. وكما يقول المرتّل: "صرتُ كبهيمة عندك، ولكنّني دائمًا معك" (مز 73: 22-23). في تواضع إذ يشعر الإنسان بعجزه عن إدراك أسرار الله يرى نفسه وقد صار كبهيمة عاجزة عن التفكير، فيحمل كلمة الله داخله، ويصير هو نفسه كأورشليم الداخليّة. إنه يتقبّل عمل السيِّد في حياته كما من خلال تلميذيه، يحلانه من الرباطات الأولى بالروح القدس ويقدّمانه للسيِّد كمركبة إلهيّة تنطلق في حرّية، نحو أورشليم العُليا (غل 4: 26) عِوض قريته الأولى وأعمال العبوديّة الحقيرة. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لقد شبّه البشر بهذين الحيوانين لوجود مشابهات معهما... فالحمار حيوان دنس (حسب الشريعة) وأكثر الحيوانات المستخدمة للحمل غباءً، فهو غبي وضعيف ودنيء ومثقّل بالأحمال. هكذا كان البشر قبل مجيء المسيح إذ تلوّثوا بكل شهوة وعدم تعقل، كلماتهم لا تحمل رقّة، أغبياء بسبب تجاهلهم لله، فإنه أيّة غباوة أكثر من احتقار الشخص للخالق وتعبُّده لعمل يديه كما لو كان خالقه؟! كانوا ضعفاء في الروح، أدنياء، إذ نسبوا أصلهم السماوي وصاروا عبيدًا للشهوات والشيّاطين. كانوا مثقّلين بالأحمال، يئنّون تحت ثقل ظلمة الوثنيّة وخرافاتها.] ويقول القدّيس كيرلّس الكبير في هذا: [لقد خلق إله الكل الإنسان على الأرض بعقلٍ قادرٍ على الحكمة، له قُوى الفهم، لكن الشيطان خدعه؛ ومع أنه مخلوق على صورة الله أضلَّه، فلم تعد له معرفة بالخالق صانع الكل. انحدر الشيطان بسكان الأرض إلى أدنى درجات عدم التعقّل والجهل. وإذ عرف الطوباوي داود ذلك، أقول بكى بمرارة قائلاً: "والإنسان في كرامة لم يفهم، يشبه البهائم بلا فهم" (مز 49: 12). من المحتمل أن الأتان الأكبر سنًا ترمز لمجمع اليهود إذ صار بهيميًّا، لم يعطِ للناموس اهتمامًا إلا القليل، مستخفًا بالأنبياء والقدّيسين، وقد أضاف إلى ذلك عصيانه للمسيح الذي دعاه للإيمان ولتفتيح عينيّه، قائلاً: "أنا هو نور العالم، من يؤمن بي فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة" (يو 8: 12). الظلمة التي يتحدّث عنها هنا بلا شك تخص الذهن وتعني الجهل والعُمى وداء عدم التعقّل الشديد. أمّا الجحش الذي لم يكن بعد قد اُستخدم للركوب فيمثِّل الشعب الجديد الذي دُعيَ من بين الوثنيّين. فهذا أيضًا قد حُرم بالطبيعة من العقل؛ كان هائمًا في الخطأ، لكن المسيح صار حكمته "المذخَّر فيه جميع كنوز الحكمة (وأسرار) العلم" (كو 2: 3). لذلك أُحضر الجحش بواسطة تلميذين أرسلهما المسيح لهذا الغرض. ماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن المسيح دعا الوثنيّين بإشراق نور الحق عليهم، يخدمه في ذلك نظامان: الأنبياء والرسل. فقد رُبح الوثنيّون للإيمان بكرازة الرسل الذي يستخدمون كلمات مقتبسة من الناموس والأنبياء. يقول أحدهم للذين دُعوا بالإيمان لمعرفة مجيء المسيح: "وعندنا الكلمة النبويّة وهي أثبت، التي تفعلون حسنًا إن اِنتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضعٍ مظلمٍ، إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم" (2 بط 1: 19)... فإذ تفجّر النهار بإشراق نور الحق لم تعد الكلمة النبويّة سراجًا صغيرًا بل صار يضاهي أشعة كوكب الصبح. لقد أُحضر الجحش من قرية، مشيرًا بذلك إلى حال فكر الوثنيّين غير المتمدِّن، إذ لم يكن كمن تعلَّم في مدينة، وإنما كمن عاش بطريقة ريفيّة خشنة وفَظّة... هؤلاء لا يستمرّون على هذا الحال بخصوص الذهن غير المتمدِّن، وإنما يتغيّرون إلى حالة من السلام والحكمة بخضوعهم للمسيح معلّم هذه الأمور. إذن، لقد أُهملت الأتان، إذ لم يركبها المسيح مع أنها سبق فاُستخدمت للركوب ومارست الخضوع لراكبيها، مستخدمًا الجحش الذي كان بلا مران سابق ولم يستخدمه أحد... وكما سبق فقلت لقد رفض المجمع اليهودي الذي سبق فامتطاه الناموس، وقبل الجحش، الشعب الذي أُخذ من الأمم.] هذا التفسير الرمزي للقدّيس كيرلّس الكبير أخذه عن العلاّمة أوريجينوس القائل: [رَمَزَ للمجمع اليهودي القديم بالأتان، إذ كان مقيَّدًا بخطاياه. وكان أيضًا معها الجحش مقيَّدًا، كرمز للشعب الحديث الولادة من الأمم. وإذ اقترب المخلّص وصار الطريق لأورشليم السماويّة مفتوحًا أمر بحلِّها خلال تعاليم تلاميذه الذين أعطاهم الروح القدس، قائلاً: "اقبلوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه تُغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أُمسكت" (يو 20: 22-23). كما يقول: [كان احتياجه هكذا أنه إذ يجلس عليهما يحرّرهما من الأتعاب، مصلحًا من أمْر من يجلس عليهما، لا بمعنى أنه هو الذي يستريح بواسطتهما.] ويقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [يعني بالجحش الكنيسة والشعب الجديد الذي كان قبلاً غير طاهر وقد صار طاهرًا، إذ استقرّ يسوع عليه.] ثانيًا: يتحدّث القدّيس جيروم عن التلميذين اللذين أرسلهما السيِّد، قائلاً: [أرسل تلميذيه، أحدهما لأهل الختان والآخر للأمم.] أمّا القدّيس هيلاري أسقف بواتييه فيرى أن التلميذين قد أرسلا إلى الأمم، أحدهما إلى السامرة التي كانت لها بعض المعرفة عن الله والآخر لبقيّة الأمم، قائلاً: [الأتان والجحش يشيران إلى دعوة الأمم المزدوجة. فالسامريّون عبدوا الله خلال طقوسهم، وقد أُشير إليهم بالأتان، أمّا الأمم فيُشار إليهم بالجحش إذ لم يكونوا بعد قد تدرّبوا على الحمل. هكذا أرسل (السيِّد) اثنين لتحرير من كانوا تحت رباطات الخزعبلات. فآمنت السامرة بواسطة فيلبس، وآمن كرنيليوس بالمسيح كبكر عن الأمم بواسطة بطرس.] لاحظ القدّيس جيروم في إنجيل لوقا البشير أن للجحش أصحاب كثيرون، وكأن هذا الشعب خاضع ليس لخطيّةٍ واحدٍ أو لشيطانٍ واحدٍ بل لكثيرين، هؤلاء الذين اِستسلموا خلال كرازة الرسل، تاركين إيّاه لسيِّده الحقيقي يسوع المسيح. ثالثًا: يتحدّث القدّيس أمبروسيوس عن السلطان الإلهي الذي وُهب للتلميذين ليحلاّ الأتان والجحش، قائلاً: [ما كان يمكن حلهما إلا بأمر الرب، فاليد الرسوليّة التي من قبل الرب تحلِّهما.] ويقول العلاّمة أوريجينوس: [هذه الأتان كانت حاملة أولاً بلعام (عد 22)، والآن تحمل المسيح، هذه التي حلّها التلاميذ، فتحرّرت من الرباطات التي كانت تقيّدها، ذلك لأن ابن الله صعد عليها ودخل بها في المدينة المقدّسة أورشليم السماويّة.] ويقول القدّيس جيروم: [كما أرسل (السيِّد) تلميذيه ليحلاّ الجحش ابن الأتان ليمتطيه، هكذا يرسلهما إليك ليحلاّك من اهتمامات العالم وتركك للّّبْْن والقش الذي لمصر فتتبعه بكونه موسى الحقيقي، وتدخل إلى أرض الموعد خلال البرّيّة.] رابعًا: طلب السيِّد من تلميذيه أن يقولا لصاحب الأتان والجحش: "الرب محتاج إليهما". حقًا إنه يتطلّع إلى البشريّة كلها لا كمن يتعالى عليها، بل كمن هو محتاج إلى الجميع، يطلب قلوبنا مسكنًا له، وحياتنا مركَّبة سماويّة تحمله. لاحظ القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن السيِّد لم يطلب منهما أن يقولا: "ربَّك محتاج إليهما"، ولا أن يقولا "ربّنا محتاج إليهما"، بل قال "الرب"، وذلك [لكي يُدركون أنه رب البشريّة كلها، حتى الخطاة منتمون إليه، وإن كانوا بكامل حرّيتهم قد اِنتموا إلى الشيطان.] والعجيب أن صاحب الأتان والجحش لم يجادلهما بل سلَّم بملكِه للسيِّد، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إن كان الذي لم يعرف المسيح خضع له، فكم بالأحرى يليق بتلاميذه أن يقدّموا له كل شيء.] خامسًا: يُعلن الإنجيلي متّى أن ما يحدث قد سبق فأنبأ به زكريّا النبي: "فكان هذا كلّه لكي يتمّ ما قيل بالنبي القائل: قولوا لابنة صهيون هوذا ملكك يأتيك وديعًا راكبًا على أتان وجحش ابن أتان" [4]. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إذ عرف النبي، أعني زكريّا، حقد اليهود ومقاومتهم للمسيح عند صعوده للهيكل، سبق فحذَّرهم، معطيًا لهم هذه العلامة لكي يعرفوه.] لقد أعلن السيِّد المسيح حبّه لعروسه فتصاغر أمامها لكي يخدمها، فعند دخوله إلى أورشليم ليمد يده للنفس البشريّة كعروس له، لم يتَّخذ لنفسه مركبًا وخيلاً ورجالاً يجرون أمامه، كما فعل أبشالوم بن داود عند دخوله مدينة أبيه (2 صم 5: 1)، ولا اِتخذ لنفسه عجلات وفرسانًا كما فعل أدونيا (1 مل 1: 5)، ولم يبوِّق قدَّامه بالبوق والناي كما حدث مع سليمان (1 مل 1: 38-40). الجالس في سماء السماوات سبق فأرسل إلى إيليّا مركبة ناريّة، أمّا هو فركب أتانًا وجحش ابن أتان، مع أنه هو الذي رآه إشعياء جالسًا على كرسي عظمته على مركبة الكاروبيم على كرسي عال مرتفع وأذياله تملأ الهيكل (إش 6: 1) وكما ينشد القدّيس يعقوب السروجي قائلاً: [حبَّك أنزلك من المركبة إلى الجحش العادي. عِوض جنود الكاروبيم غير المفحوصين، يبجِّلك جحش متواضع في بلدنا! أنزلتْكَ المراحم من بين العجل والوجوه وأجنحة اللهب، لكي يبجّلك ابن الأتان في المركبة. يجاهر السمائيّون ببهائك، وهنا الجحش الحقير المزدرى به يحملك بين السمائيّين. كاروبيم النار يباركونك طائرين، وهنا الأطفال يمجّدونك بتسابيحهم. ملائكة النور... يهيّئون طريقه، والتلاميذ هنا يلقون قدامه ثيابهم. نزل الجبار من عند أبيه ليفتقد مكاننا، وبإرادته بلغ إلى منتهى التواضع. ركب الجحش ليفتقد بالتواضع شعبه. زكريّا النبي حمل قيثارة الروح، وأسرع قدّامه بترتيل نبوّته بابتهاج، شدّ أوتاره وحرَّك صوته وقال: "افرحي يا ابنة صهيون واهتفي واصرخي، لأن ملكك يأتي، وها يبلغ راكبًا جحشًا ابن أتان" (زك 9:9).] ويُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على استخدام السيِّد للأتان والجحش، قائلاً: [إن كان النبي قد عاش قبل مجيئه بزمان طويل يقول "هوذا" (زك 9:9)، ليوضّح أن من يتكلَّم عنه هو ملكهم حتى قبل أن يولد. متى رأيتموه لا تقولوا: ليس لنا ملك إلا قيصر، فقد جاء إليكم ليخلّصكم إن فهمتموه، أمّا إن لم تفهموه فيأتي ضدَّكم. جاء "وديعًا" حتى لا تهابوا عظمته، بل تُحبُّون رقَّتِه. لا يأتي جالسًا على مركبة ذهبيَّة، ولا ملتحفًا بالأرجوان، ولا راكبًا على فرس ناري، كمن يشتاق إلى الخصام والصراع، وإنما يأتي على أتان صديقًا للهدوء والسلام.] سادسًا: إلقاء الثياب تحته، "فذهب التلميذان وفعلا كما أمرهما يسوع. وأتيا بالأتان والجحش، ووضعا عليهما ثيابهما، فجلس عليهما. والجمع الأكثر فرشوا ثيابهم في الطريق" [6-8]. سبق فقلنا أن تقديم الثوب إلى شخص يُشير إلى ترشيحه للرئاسة (إش 3: 6)، وهنا تقدّم التلاميذ نيابة عن الكنيسة يُعلنون قبولهم العريس رأسًا ورئيسًا. ألقوا بالثوب القديم ليتمتّعوا بالسيِّد المسيح نفسه كثوب البرّ الذي يلتحفون به ويختفون فيه. نزعوا ثوب السجن مع يهوياكين (إر 52: 33) حتى يقدروا أن يجالسوا العريس ملك الملوك، فيسمعوا مناجاته: "ما أحسن حبِّك يا أختي العروس... رائحة ثيابِك كرائحة لبنان" (نش 4: 11). أمّا هم فيردّدون: "فرحًا أفرح بالرب، تبتهج نفسي بإلهي، لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص، كساني رداء البرّ، مثل عريس يتزيَّن بعمامة ومثل عروس تتزيّن بحليّها" (إش 61: 10). يتحدّث القدّيس جيروم عن هذه الثياب، قائلاً: [ثياب التلميذين التي وضعاها على الحيوان تُشير إلى تعليم الفضيلة أو تفسير الكتاب المقدّس وإلى الحق الذي للكنيسة، فإن لم تتزيّن النفس بهذه الأمور وتلتحف بها لا تستحق أن تحمل الرب.] سابعًا: استخدموا سعف النخيل وأغصان الزيتون، "وآخرون قطعوا أغصانًا من الشجر وفرشوها في الطريق" [8]. جاء في إنجيل يوحنا "فأخذوا سعوف النخل، وخرجوا للقائه" (يو 12: 13). أعلن الشعب عن فرحة الكنيسة بنصرتها بالرب. وقد اختلط سعف النخل بأغصان الزيتون، وكأن روح النصرة قد امتزجت بروح السلام، إذ دخل الأسد ليرقد في القبر، فيفزع الموت، ويفجِّر أبواب الجحيم، مقدّمًا سلامًا فائقًا للنفس بارتفاعها فوق الموت، ودخولها إلى حضن الآب في مصالحة أبديّة. يقول القدّيس أغسطينوس: [سعف النخيل شعار للمدح، يعني النصرة، فقد كان الرب قادمًا للنصرة على الموت بالموت، وهزيمة الشيطان رئيس الموت بصليبه الغالب.] ولعلّ أغصان الشجر هنا تُشير إلى نبوّات العهد القديم التي تقتطعها لكي تفرش لنا طريق دخول المسيّا المخلّص إلى قلبنا، فإنه ما كان يمكن للعالم أن يتقبّل ربّنا يسوع بكونه المسيّا المخلّص لو لم تُفرش هذه النبوّات أمامه في أذهاننا وقلوبنا تُعلن عن شخصه. ثامنًا: صرخات الجموع "والجموع الذين تقدّموا والذين تبعوا، كانوا يصرخون، قائلين: أوصانا لابن داود، مبارك الآتي باسم الرب، أوصنا في الأعالي" [9]. استقبلته الجماهير بفرح وتهليل كملك "ابن داود"، إذ وحده يقدر أن يخلّصهم، ويرتفع بهم إلى الأعالي. لكن ماذا يعني بالجموع التي تقدّمته والتي تبعته. يقول القدّيس جيروم: [جموع الذين آمنوا بالرب قبل الإنجيل (التي تقدّمته)، والذين آمنوا به بعد الإنجيل (تبعته)، فالكل يسبّح معًا بصوت واحد ويشهدون له.] هذا التفسير الرمزي التقطه القدّيس جيروم عن العلاّمة أوريجينوس القائل: [يمكننا القول بأن الذين تقدّموه هم الأنبياء القدّيسون الذين عاشوا قبل مجيئه، أمّا الذين تبعوه، فهم الرسل الذين التصقوا به بعد مجيء الله الكلمة. أعلن الكل نفس الشيء، متّحدين معًا بصوت واحد: إن المخلّص قد تأنّس.] ويقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [السابقون أعلنوا بالنبوّة عن المسيح الآتي، والآخرون سبَّحوا معلنين أن مجيئه قد تحقّق.] هكذا استقبلته الجماهير، تقدّمته جماعة بالتهليل ممثّلة رجال العهد القديم الذين رأوه بعينيّ الإيمان خلال النبوّة، وتبعته جماعة خلفه تسبِّحه كممثّلة لرجال العهد الجديد الذين تمتّعوا بما اشتهاه الأنبياء. أما تسابيحهم فتركّزت في إعلان الخلاص، قائلين: "أوصنا" أو "هوشعنا"، وهي كلمة عبريّة تركت في أغلب الترجمات كما هي، لذلك يراها القدّيس أغسطينوس أداة تعجّب تكشف عن حالة ذهنيّة أكثر منها معنى خاص، وإن كان أغلب الآباء والدارسين يرون فيها معنى "خلصنا". وكما يقول القدّيس جيروم: [أنها تعني أن مجيء المسيح هو خلاص العالم.] أما قوله "أوصنا لابن داود... أوصنا في الأعالي" فكما يقول العلاّمة أوريجينوس: [مدحوا ناسوتيتّه بصراخهم: "هوشعنا يا ابن داود"، ومدحوا إصلاحه، هذا يعني أن الخلاص هو في الأعالي، مشيرًا بوضوح إلى أن مجيء المسيح يعني الخلاص الذي لا يمس البشر وحدهم بل المسكونة كلها، رابطًا الأرضيّات بالسماويات (في 2: 10).] ويُعلّق القدّيس أغسطينوس على قوله "مبارك الآتي باسم الرب قائلاً: [لنفهم من قوله "باسم الرب" بالأكثر "اسم الله الآب"، وإن كان يمكن أن يُفهم على أنه باسمه هو بكونه الرب... لقد قال بنفسه: "أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني، إن أتى أحد باسم آخر فذلك تقبلونه" (يو 5: 43). فإن المعلّم الحقيقي للتواضع هو المسيح الذي أخلى نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب (في 2: 8)، لكنّه لم يفقد لاهوته بتعليمه التواضع. فبالواحد هو مساوٍ للآب، وبالآخر هو مشابه لنا نحن. بذاك الذي هو مساوي للآب دعانا إلى الوجود، وبالذي صار به مشابهًا لنا، خلَّصنا من الهلاك.] تاسعًا: "ولما دخل أورشليم اِرتجَّت المدينة كلها قائلة: من هذا؟. فقالت الجموع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل" [10-11]. هكذا إذ دخل يسوعنا الحيّ إلى أورشليمنا الداخليّة ليُقيم ملكوته فينا بالصليب يرتج القلب كلّه مقدّمًا كل مشاعره وأحاسيسه وحبّه للملك الجديد، فيستعيد سلامه ويدخل إلى المصالحة مع السماء، بل ويصير سماءً جديدة! 2. تطهير الهيكل إذ يدخل الرب أورشليمنا الداخليّة إنّما يدخل إلى مقدسه، يقوم بنفسه بتطيره، فيصنع سوطًا يطرد به باعة الحمام ويقلب موائد الصيارفة وهو يقول: "مكتوب بيتي بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة للصوص" [13]. ما هو هذا السوط إلا الروح القدس الذي يرسله الابن من عند الآب ليبكِّت على خطيّة، ويهب التوبة الداخليّة، ويعطي حِلاً من الخطيّة خلال الكنيسة؟! بالروح القدس الناري يعيد الرب لمقدسه فينا قدسيَّته التي فقدها، بتحويل حياتنا الداخليّة عن "حياة الصلاة" إلى عمل تجاري حتى في الأمور الروحيّة. عِوض أن يكون القلب خزانة إلهيّة تضم في داخلها السيِّد المسيح نفسه كنزًا سماويًا لا يفنى يرتبك بحسابات الصيارفة وتجارة الحمام، فينزع عنه سلام الله الفائق ليقتني لنفسه ارتباكات زمنيّة خانقة للنفس. يرى القدّيس جيروم أن الكهنة اليهود كانوا يستغلِّون عيد الفِصح حيث يأتي اليهود من العالم كلّه لتقديم الذبائح، فحوَّلوا الهيكل إلى مركز تجاري، أقاموا فيه موائد الصيارفة ليقدّموا القروض للناس لشراء الذبائح، يقدّمونها لا بالربا إذ تمنعه الشريعة، وإنما مقابل هدايا عينيّة، هي في حقيقتها ربا مستتر. هذه صورة مؤلمة فيها يتحوّل هيكل الرب عن غايته، ويفقد الكهنة عملهم الروحي، ويحوِّلون رسالتهم إلى جمع المال. وكما يقول العلاّمة أوريجينوس: [ليُطرد كل إنسان يبيع في الهيكل، خاصة إن كان بائع حمام... أي يبيع ما يكشفه له الروح القدس (الحمامة) بمالٍ ولا يُعلّم مجَّانًا، يبيع عمل الروح فيُطرد من مذبح الرب.] يفقد الرعاة عملهم الروحي ويحوِّلون كلمة الله ومواهب الروح القدس وعطاياه إلى تجارة. وكما يقول القدّيس جيروم: [يدخل يسوع كل يوم إلى هيكل أبيه ويطرد من كنيسته في كل العالم أساقفة وكهنة وشمامسة وشعبًا موجِّهًا إليهم ذات الاتهام، أنهم يبيعون ويشترون. وما أقوله عن الكنائس يطبِّقه كل واحد على نفسه، إذ يقول الرسول "أنتم هياكل الله وروح الله ساكن فيكم". ليخلوا بيت قلبنا من كل تجارة ومقر للبائعين والمشترين ومن كل رغبة للحصول على هدايا، لئلا يدخل الرب ثائرًا ويُطهّر هيكله بلا تراخٍ بطريقة أخرى غير السوط، فيُقيم من مغارة اللصوص وبيت التجارة بيتًا للصلاة.] يُعلّق القدّيس جيروم على طرد باعة الحمام وقلب موائد الصيارفة هكذا: [يظن معظم الناس أن أعظم معجزاته هي إقامة لعازر من الأموات أو تفتيح عينيّ المولود أعمى... وفي نظري أن أعجَبَها هي أن شخصًا واحدًا منبوذًا بلا اعتبار (ليس له مركز ديني معيَّن) قُدِّم للصلب استطاع أن يضرب بسوط الكتبة والفرّيسيّين الثائرين ضدّه، والذين يشاهدون بأعينهم دمار مكاسبهم، فيطرد الجمع الكبير ويقلب الموائد ويحطَّم الكراسي، فإن لهيبًا ناريًا ملتهبًا كان يخرج من عينيّه، وعظمة لاهوته تشعْ على وجهه، فلم يتجاسر الكهنة أن يمدُّوا أيديهم عليه.] على أي الأحوال، بحسب الحسابات البشريّة خسر الهيكل في نظر القادة الدينيّين في ذلك الوقت الكثير، إذ طرْد الباعة والمشترين وقلبْ موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام، لكن بمنطق الإيمان نال الهيكل قدسيَّته بحلول السيِّد نفسه فيه، الأمر الذي لا يهمهم في شيء. عِوض التجارة الزمنيّة حلّ الكنز السماوي نفسه يملأ الهيكل سلامًا ومجدًا، واهبًا نورًا لعيون العمي وإمكانيّة للعرج أن يمشوا، إذ قيل "وتقدّم إليه عًمي وعرج في الهيكل فشفاهم" [14]. وكما يقول القدّيس جيروم: [لو لم يقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام ما كان يستحق العمي والعرج أن يستردّوا النور، ويصيروا سريعين في المشي.] إذ يحلّ الرب في القلب يحطَّم الشرّ وكل ما يتعلق به، لتحل بركة الرب فينا، فعِوض العمى الروحي تنفتح أعيننا الداخليّة لمعاينة السماويّات، وتشفي أرجلنا الداخليّة لتنطلق النفس بقوة الروح نحو الأبديّة، بعد أن توقَّفت زمانًا طويلاً لا تقدر على السير في الطريق الملوكي. 3. تسبيح الأطفال [15-17] بينما انفتحت ألسنة الأطفال والرُضَّع بالتسبيح [16] غضب رؤساء الكهنة والكتبة. الأطفال الصغار لم يقرأوا النبوّات ولا رأوا المعجزات، لكن قلوبهم البسيطة انفتحت للملك فطفقت ألسنتهم العاجزة تنطق بالفرح الداخلي والمجيد. أمّا رؤساء الكهنة والكتبة فقد أُؤتُمنوا على النبوّات وقاموا بشرحها، وجاء المجوس يؤكّدونها، ونظروا المعجزات، لكن قلوبهم المتحجِرة أُغلقت أمام الملك، فامتلت غمًا، وعِوض التسبيح صرخوا غاضبين: "أتسمع ما يقول هؤلاء؟" [16]. حقًا لقد أعلن الأطفال ملكوت الله المُفرح بينما كشف رؤساء الكهنة بضيقهم عن ملكوت الشرّ فاقد السلام. يقول الأب موسى: [أينما وُجد ملكوت السماوات فبالتأكيد تكون الحياة الأبديّة بفرح، وحيثما وُجد ملكوت الشيطان فبلا شك يوجد الموت والقبر، ومن يكون في ملكوت الشيطان لن يقدر أن يحمد الله، إذ يخبرّنا النبي، قائلاً: "ليس الأموات يسبّحون الرب، ولا من ينحدر إلى أرض السكوت، أمّا نحن الأحياء الذين نعيش لله وليس للخطيّة أو للعالم فنُبارك الرب من الآن وإلى الدهر. هللويا (مز115: 17-18).] 4. في بيت عنيا "ثم تركهم وخرج خارج المدينة إلى بيت عنيا، وبات هناك" [17]. إن رجعنا إلى سفر حزقيال نجد الله يهتمّ بمن يسمِّيهم "البقيَّة" وهم جماعة قليلة أطاعت الرب وسمعت له، يهتمّ الله بها حتى وسط التأديبات القاسية التي خضع لها الشعب بكهنته ورؤسائه. هنا أيضًا إن كانت أورشليم قد ثارت ضدّ السيِّد خلال الكتبة والفرّيسيين والصدّوقيّين مع الكهنة ورؤساء الكهنة، لكنّه وجد موضع راحة في قرية قريبة تُسمى "بيت عنيا"، إنه يهتمّ أن يذهب إلى هذا البيت الذي هو بيت لعازر ومريم ومرثا ليستريح فيه. "بيت عنيا" يعني "بيت العناء أو الألم". فإن كان العالم يجري وراء الترف واللذّة الزمنيّة فلا يجد الرب راحته إلا في القلب الذي يصير "بيت عنيا"، محتملاً الآلام من أجل الملكوت. لقد خرجت الألوف في أورشليم تستقبل السيِّد، لكنّه لم يجد قلوبًا منفتحة لاستقباله مثل أصحاب هذا البيت! يُعلّق القدّيس جيروم على ذهاب السيِّد إلى بيت عنيا قائلاً: [كان شديد الفقر بعيدًا كل البعد عن التملُّق فلم يجد في المدينة الكبيرة (أورشليم) مأوى أو مسكنًا، إنّما سكن عند لعازر وأختيْه في بيت صغير جدًا في بيت عنيا.] 5. شجرة التين العقيمة ما كان يمكن أن تقوم مملكة السيِّد إلا بهدم مملكة الظلمة، لهذا إذ أراد غرس كرمه المقدّس التزم أن يحطَّم التينة العقيمة. حقًا لقد كان للتينة ورقها الجذّاب، يأتي إليها الجائع ظنًا أنه يجد ثمرًا، لكنّه يرجع جائعًا. هكذا كان لليهود ورقهم الأخضر من معرفة عن الله وحفظ للشريعة وتسجيل للنبوّات. لكن مع هذا كلّه لم تكن لهم الحياة الداخليّة التي تقدّم ثمرًا. لقد ارتبطوا بالشكل الخارجي البرّاق دون التمتّع بالأعماق الحيّة، اهتموا بالحرف دون الروح. لذلك فإن ما فعله السيِّد، هو هدم للحرف لإقامة الروح الواهب الحياة. وقف السيِّد أمام شجرة التين العقيمة فجفَّت بكلمةٍ من فيهِ، وكما يقول القدّيس جيروم: [تبدَّدت ظلمة الليل بأشعة ضوء الصباح.] ويُعلّق القدّيس أغسطينوس على لَعن شجرة التين، بقوله: [أدرك الرب يسوع أن شجرة معيّنة تستحق أن تصير يابسة، إذ لها الورق دون الثمر. هذه الشجرة هي مجمع اليهود... كان لديهم كل كتابات الأنبياء التي لم تكون إلا أوراقًا، والمسيح جائع يطلب ثمرًا فيهم فلا يجد، إذ لم يجد نفسه بينهم. فمن ليس له المسيح ليس له ثمر. من لا يتمسَّك بوحدة المسيح لا يكون له المسيح، وأيضًا من ليس له المحبّة... اسمع الرسول يقول: "وأما ثمر الروح فهو محبّة" (غل 5: 22) مظهرًا عظمة هذا العنقود خلال هذه الثمرة.] [إننا نجد شجرة التين تُلعن لأن لها ورق بلا ثمر، ففي بداية الجنس البشري لذ أخطأ آدم وحواء صنعا لنفسيهما إزاريْن من أوراق التين (تك3: 7)، هذه التي تُشير إلى الخطايا. نثنائيل أيضًا كان تحت شجرة التين كمن هو تحت ظل الموت، هذا الذي رآه الرب الذي يهتمّ بمن قيل عنهم: "الجالسون في أرض ظلال الموت أشرّق عليهم نور" (إش 9: 2).] إذ يبست الشجرة تعجّب التلاميذ لهذا، فقال لهم السيِّد: "الحق أقول لكم إن كان لكم إيمان ولا تشكّون فلا تفعلون أمر التينة فقط، بل إن قلتم أيضًا لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر فيكون" [21]. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [إنه قد جفَّت تينة اليهود التي رفضت أن تحمل المسيح فيها ثمرًا حيًا، لهذا يقول الرب "أوصَى الغَيْم أن لا يُمطر عليها مطرًا" (إش 5: 6)، لكن بالإيمان انطلق السيِّد المسيح الجبل الحقيقي وانطرح في بحر الأمم، ليتحقّق القول النبوي "جعلتُك نورًا للأمم ليكون خلاص إلى أقصى الأرض" (إش 49: 6).] إن كان لنا الإيمان بالمسيح يسوع ربَّنا، فإنه ليس فقط يجفِّف تينتنا العقيمة التي اِحتلَّت مقدِسه في قلوبنا، وإنما يدخل بنفسه إلينا كما ينطرح الجبل في البحر ليكون سرّ خلاص لنا. بالإيمان ننعم بكل شيء في المسيح يسوع مادمنا نناله فينا، وكما يقول القدّيس مار فيلوكسينوس: [الإيمان يعطي الإنسان قوّة إلهيّة فيه، حيث يؤمن أن كل شيء يريده يفعله!] 6. جدال الرؤساء معه إذ وجَّه السيِّد ضربة لتحطيم مملكة الخطيّة، خاصة الرياء مقيمًا مملكة البرّ، ثار رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب، وكأنهم قاموا يدافعون عن الظلمة، إذ سألوه: "بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن أعطاك هذا السلطان؟" [23]. ولم يكن هذا التساؤل بقصد التمتّع بالمعرفة الروحيّة لبنيانهم، وإنما بقصد اقتناص الفرصة لمهاجمته، لهذا لم يُجب سؤالهم، إنّما ردّ عليه بسؤال، إذ قال لهم: "وأنا أيضًا أسألكم كلمة واحدة، فإن قلتم لي عنها أقول لكم أنا أيضًا بأي سلطان أفعل هذا. معموديّة يوحنا من أين كانت: من السماء أم من الناس؟" [24-25]. لقد سألوه بمكرٍ: بأي سلطان تفعل هذا؟ وكما يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [إنهم ظنّوا بهذا يجرحون مشاعره ككاسر للناموس الموسوي، إذ لم يكن من سبط لاوي بل من سبط يهوذا، ليس له حق التعليم وشرح الناموس الخ. ولم يُدركوا أنه هو نفسه واضع الناموس.] أجابهم السيِّد بحكمة، فكتم مكرهم بسؤالهم عن القدّيس يوحنا المعمدان، إذ "فكّروا في أنفسهم قائلين: إن قلنا من السماء، يقول لنا فلماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا من الناس، نخاف من الشعب، لأن يوحنا عند الجميع مثل نبي" [26]. بقدر ما نتقدّم للسيِّد بقلبٍ بسيطٍ ندخل إلى أسراره، إذ يفرح بنا ويقودنا بروحه القدّوس إلى معرفة أسراره غير المُدركة. أمّا من يستخدم مكر العالم فلا يقدر أن يدخل إليه، بل يبقى خارجًا محرومًا من معرفته. لقد فقد الفرّيسيّون والكهنة وشيوخ الشعب بساطتهم، إذ طلبوا مجدهم الذاتي، ممّا دفعهم إلى الخوف من الناس فلم يدخلوا إلى الحق. وكما يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [لاحظ مكر الفرّيسيّين الشديد فقد هربوا من الحق، رفضوا النور، ولم يشعروا بخوف عند اِرتكاب الخطيّة.] 7. مثل الابنين والكرْم إذ يهدم السيِّد الشرّ يقدّم تبريرًا وتوضيحًا لتصرُّفه، والآن إذ دخل أورشليم وقد هاج الرؤساء الدينيّون عليه قام بتوضيح ضرورة طردهم من الكرم ليقيم غيرهم، قادرين على الرعاية بمفهوم جديد يليق بملكوته. في المثل الذي بين أيدينا يَظهر رب المجد كرب بيت يسأل ابنيه أن يعملا في كرْمه - أي كنيسته - لحساب ملكوت السماوات، والأول يمثّل الأمم، الذين بدءوا حياتهم برفض العمل، لكنهم ندِموا أخيرًا ومضوا يعملون في الكرْم، أمّا الثاني فيُشير لليهود الذين قالوا "ها أنا يا سيّد" [30]، لكنهم لم يمضوا. حقًا لقد قبل اليهود العمل في الملكوت لكنهم قبلوه بالكلام دون العمل، لذلك طَردوا أنفسهم بأنفسهم من الكرْم، ليتركوا مكانهم للأمم الذين لم يسمعوا لله أولاً لكنهم عادوا ليُطيعوه. ما أصعب على نفس هؤلاء المؤتمنين على كلمة الله أن يتركوا الكراسي - بسبب عدم إيمانهم بالحق - للعشّارين والزواني الذين سبقوهم إلى ملكوت الله بالإيمان. 8. مثل الكرّامين الأشرار لخّص السيِّد تاريخ الخلاص كلّه في هذا المثل، فيه أوضح محبّة الله المترفّقة، إذ غرس كرمًا وأحاطه بسياج، وحفر فيه معصرة، وبنى برجًا، وسلّمه إلى كرّامين، وسافر. لقد ائتمنهم على الكرم بعد أن قدّم لهم كل الإمكانيّات للعمل، لكن إذ أرسل عبيده يطلب ثمرًا، جلَد الكرّامون بعضهم، وقتلوا بعضًا، ورجموا بعضًا. وتكرّر الأمر في دفعة أخرى، وأخيرًا "أرسل إليهم ابنه قائلاً: يهابون ابني. وأما الكرّامون فلما رأوا الابن قالوا بينهم: هذا هو الوراث، هلمّوا نقتله، ونأخذ ميراثه. فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه" [37-39]. في المثل السابق ظهر اليهود كأصحاب كلام بلا عمل، ففقدوا مركزهم ليحل محلَّهم من بالعمل أعلنوا ندمِهم على ماضيهم. أمّا هنا فالسيِّد يكشف لهم أنهم عبر التاريخ كلّه لم يكونوا فقط غير عاملين، وإنما مضطهِدين لرجال الله في أعنف صورة، حتى متى جاء ابن الله نفسه الوارث يُخرجونه خارج أورشليم ليقتلوه! لقد أصدر الحكم عليهم من أفواههم، إذ سألهم: "فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل بأولئك الكرّامين؟" قالوا له "أولئك الأردياء يهلكهم هلاكًا رديًا، ويسلّم الكرْم إلى كرّامين آخرين، يعطونه الأثمار في أوقاتها" [40-41] وختم السيِّد على الحكم بقوله: "أمَا قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رفضه البنّاؤون هو قد صار رأس الزاوية، من قِِبَل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا. لذلك أقول لكن إن ملكوت الله يُنزع منكم ويعطي لأُمَّة تعمل أثماره. ومن سقط على هذا الحجر يترضَّض، ومن سقط هو عليه يسحقه" [42-44]. هكذا بلغ بهم السيِّد إلى النتيجة، ألا وهي الحاجة إلى هدْم البناء القديم ليقوم ملكوت الله على أساس جديد. ما هو الحجر المرفوض؟ قيل أنه عند بناء هيكل سليمان وَجد البنّاؤون حجرًا ضخمًا، فظنّوا أنه لا يصلح لشيءٍ فاحتقروه، ولكن إذ احتاجوا إلى حجر في رأس الزاوية لم يجدوا حجرًا يصلح مثل ذلك الحجر المُحتقر. وكان ذلك رمزًا للسيِّد المسيح الذي احتقره رجال الدين اليهودي، ولم يعلموا أن الحجر الذي يربط بين الحائطين في الهيكل الجديد، يضم فيه من هم من اليهود ومن هم من الأمم، ليصير الكل أعضاء في الملكوت الجديد. شرح القدّيس كيرلّس الكبير هذا المثل في شيء من التفصيل، إذ قال: [إن كان أحد يفحص مدلول ما قيل هنا بعينيّ الذهن الفاحصين يجد كل تاريخ بني إسرائيل مختصرًا في هذه الكلمات. فمن هو الذي غرس الكرم، وماذا يُفهم بالكرم المغروس قد أوضحه المرتّل بقوله عن الإسرائيليّين... "كرمَة من مصر نُقلت، طَردت أُممًا وغرستْها، هيَّأت قدامها فأصَّلت أصولها فملأت الأرض" (مز 80: 8-9). ويُعلن النبي الطوباوي إشعياء ذات الأمر بقوله: "كان لحبيبي كرْم على أَكَََمَة خصبة" (إش 5: 1)، ويتحدّث بأكثر قوّة موضّحًا ما سبق أن قيل بطريقة غامضة: "إن كرم رب الجنود هو بيت إسرائيل وغرس لذّته رجال يهوذا" (إش 5: 7). إذن الله هو غارس الكرم، سافر لمدة طويلة. إن كان الله يملأ الكل وليس غائبًا عن أي كائن بل هو موجود، فكيف سافر صاحب الكرم زمانًا طويلاً؟ هذا يعني أنهم بعد أن رأوه في شكل نار عند نزوله على جبل سيناء مع موسى الذي تكلم معهم بالشريعة كوسيطٍ، لم يعد يهبهم حضرته بطريقة منظورة، وإنما استخدم التشبيهات مأخوذة عن الأعمال البشريّة، فكانت علاقته بهم علاقة من هو سافر عنهم في رحلة بعيدة. إذن كما قلت، لقد سافر ومع هذا كان مهتمّا بكرْمه، يشغِل ذهنه. وإذ أرسل لهم خدّامًا أمناء على مراحل ثلاث مختلفة ليطلب المحصول أو الفاكهة من مخازن كرْمه. لم يترك فترة فاصلة بين هذه المراحل لم يُرسل الله فيها أنبياء أو أبرارًا ينصحون إسرائيل ويَحثّونه على تقديم ثمار حسب الشريعة لأمجاد الحياة. لكنهم كانوا أشرّارًا وعصاه ومتحجّري القلب، وكانت قلوبهم قاسية لا تقبل النصيحة حتى أنهم لم يصغوا للكلمة التي تنفعهم. فنرى إشعياء النبي وهو شخص يمكن القول إنه ذاب من كثرة الأتعاب والمشقّات بلا نفع، قائلاً: "يا رب من صدّق خبرّنا" (إش 53: 1). فبتجاهلهم للمرسلين إليهم "أرسلوهم فارغين" (لو 20: 10)، إذ لم يكن لهم من شيء صالح يقدّمونه لله مُرسلهم. وقد وبّخ إرميا أيضًا جموع اليهود مع حكّامهم بسبب عجرفتهم، وأنذره قائلاً: "من أُكلِّمه وأُنذره فيسمع؟! ها إن أُذنهم غلْفاء فلا يقدرون أن يَصغوا. ها إن كلمة الرب قد صارت لهم عارًا لا يُسرُّون بها" (إر6: 10). وفي موضع آخر يحدّث أورشليم هكذا: "داويْنا بابل فلم تُشفَ، دعوهما ولنذهب كل واحد إلى أرضه، لأن قضاءها وصل إلى السماء" (إر 51: 9). وكما قلت أنه يدعو أورشليم بابل، لأنها لا تختلف عن فارس (عاصمتها بابل) في عصيانها وارتدادها، ولأنها لم ترد أن تخضع للشرائع المقدّسة. وأيضًا ربّما لأنها صارت محتقرة، لأن ليس لها معرفة الله، إذ اختارت أن تتعبّد للخليقة دون الخالق ولعمل يديها، لأن إسرائيل كان مخطئًا بالارتداد عن الإيمان وعبادة الأوثان. هذا هو الطريق الذي به يطردون المرسلين إليهم بخزي. إذ تأمّل رب الكرْم مع نفسه قال: "ماذا أفعل؟!" (لو 20: 13). ويليق بنا أن نفحص بدقّة معنى هذا القول. هل يستخدم صاحب الكرْم هذه الكلمات، لأنه لم يعد له خدّام آخرين؟ بالتأكيد لا، فإن الله لا ينقصه خدّام لتحقيق إرادته المقدّسة. لكنّه كطبيب يقول للمريض: ماذا أفعل؟ من هذا نفهم أن الطبيب قد استخدم كل مصدر للفن الطبّي ولكن بلا نفع. لهذا نؤكد أن رب الكرْم قد مارس كل رقَّة ورعاية مع كرْمه، لكنّه دون أن ينتفع الكرْم بشيء، لهذا يقول: ماذا أفعل؟ وما هي النتيجة؟ لقد أراد أن يحقّق هدفًا أعظم إذ قال "أرسل ابني الحبيب، لعلّهم إذ رأوه يهابونه". فبعد إرساله الخدّام أرسل الابن كواحد لا يُحصى بين الخدّام إذ هو الرب والابن الحقيقي. إن كان قد أخذ شكل العبد من أجل التدبير لكنّه هو الله، ابن الله الآب نفسه، له سلطان طبيعي. فهل كرّم هؤلاء ذاك الذي جاء بكونه الابن والرب والمالك، بكونه وارثًا كل ما يخصّ الله الآب؟! لا، بل قتلوه خارج الكرْم، وقد دبّروا فيما بينهم عملاً غبيًا مملوء جهالة وشرًا، قائلين: "هلمّوا نقتله لكي يصير لنا الميراث". لكن اخبرني، كيف نقبل هذا؟ هل أنت ابن الله الآب؟ هل يكون لك الميراث طبيعيًا؟ إن كنت تطرد الوارث بعيدًا عن الطريق، فكيف تصير أنت ربًا تطمع في الميراث؟! كيف لا يكون هذا أمرًا مضحكًا وسخيفًا؟! فالرب بكونه الابن وكوارثٍ حقيقيٍ له السلطان لدى الآب قد صار إنسانًا، دعا الذين آمنوا به إلى شركة مملكته فيكون مالكًا معهم، أمّا هؤلاء فقد أرادوا نوال المملكة بمفردهم دونه، مغتصبين لأنفسهم الميراث الربّاني. هذا الهدف كان مستحيلاً ومملوء جهالة، لذلك يقول عنهم الطوباوي داود في المزامير: "الساكن في السموات يضحك بهم والرب يستهزئ بهم" (مز 2: 4). ولهذا طرد رؤساء مجمع اليهود بسبب مقاومتهم إرادة الله، مطالبًا إيّاهم بتسليم الكرْم الذي أُؤتُمنوا عليه ولم يُثمر. لقد قال الله في موضع آخر: "رعاة كثيرون أفسدوا كرمي، داسوا (دنّسوا) نصيبي، جعلوا نصيبي المشتهَى برّيّة خربة، جعلوه خرابًا" (إر 12: 10). وقيل على لسان إشعياء: "قد اِنتصب الرب للمخاصمة وهو قائم لدينونة الشعوب، الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم، وأنتم قد أكلتم (حرقتم) الكرم" (إش 3: 13-14). فإذ ردُّوا الأرض بلا ثمر كأشرار، فإنهم بعدلٍ يسقطون تحت ضيقات قاسية بسبب إهمالهم وقتلهم للرب. "ويعطي الكرم لآخرين"، من هم هؤلاء الآخرون؟ أجيب إنهم جماعة الرسل القدّيسين، والمبشّرون بالوصايا الإنجيليّة وخدّام العهد الجديد. الذين يعرفون كيف يهذّبون الناس بطريقةٍ لائقةٍ بلا لومٍ، ويقودونهم في كل شيء بما يَسُر الله بطريقة رائعة. هذا ما تتعلَّمه من قول الله على لسان إشعياء لأُمَّة اليهود أي مجمعهم: "وأرُد يدي عليكِ... وابحث عنك لأُنقّيكِ والذين لا يطيعونني يهلكون، وأنزع عنكِ فاعلي الشرّ وأخضع المتعجرفين، وأعيد قُضاتك كما في الأول ومشيريكِ كما في البداءة" (إش 1: 25) الخ. وكما قلت يُشير بهذا إلى مبشري العهد الجديد الذين قيل عنهم في موضع آخر في إشعياء: "أمّا أنتم فتُدعون كهنة الرب، تُسمُّون خدّام الله" (61: 6). أما كون الكرْم قد أُعطيَ لكرّامين آخرين، ليس فقط للرسل القدّيسين، وإنما أيضًا للذين جاءوا بعدهم، وإن كانوا ليسوا من دم إسرائيلي، فهذا يعلنه إله الجميع بقوله على لسان إشعياء عن كنيسة الأمم وعن بقيّة إسرائيل: "ويقف الأجانب ويرعون غنمكم ويكون بنو الغريب حُرَّاثيكم وكرَّاميكم" (إش 61: 5). فإنه بحق كثير من الأمم حُسِبوا كقدّيسين، وقد صاروا معلِّمين ومدرِّبين، وإلى الآن يوجد رجال من أصل أممي يحتلُّون مراكز كبرى في الكنائس يبذرون بذار التقوى التي للمسيح في قلوب المؤمنين ويردُّون الأمم الذين أُؤتُمنوا عليهم ككروم جميلة في نظر الله.] ويُعلّق القدّيس كيرلّس أيضًا على كلمات السيِّد عن نفسه أنه الحجر المرفوض، هكذا: [المخلّص هو الحجر المختار وقد رذَله هؤلاء الذين كان يجب عليهم بناء مجمع اليهود، وقد صار رأس الزاوية. يشبِّهَه الكتاب المقدّس بحجر زاوية، لأنه يجمع الشعبين معًا: إسرائيل والأمم في إيمان واحد وحب واحد (أف2: 15).] 9. إدراك الرؤساء أمثلته "ولما سمع رؤساء الكهنة والفرّيسيّون أمثاله عرفوا أنه تكلَّم عليهم. وإذ كانوا يطلبون أن يمسكوه، خافوا من الجموع، لأنه كان عندهم مثل نبي" [45-46]. لقد أدرك رؤساء الكهنة والفرّيسيّون كلمات الرب بعقولهم لكنهم لم يقبلوها بروح الحب والبنيان، وعِوض أن يقدّموا توبة عما ارتكبوه فكّروا في الانتقام منه. 1 و لما قربوا من اورشليم و جاءوا الى بيت فاجي عند جبل الزيتون حينئذ ارسل يسوع تلميذين 2 قائلا لهما اذهبا الى القرية التي امامكما فللوقت تجدان اتانا مربوطة و جحشا معها فحلاهما و اتياني بهما 3 و ان قال لكما احد شيئا فقولا الرب محتاج اليهما فللوقت يرسلهما 4 فكان هذا كله لكي يتم ما قيل بالنبي القائل 5 قولوا لابنة صهيون هوذا ملكك ياتيك وديعا راكبا على اتان و جحش ابن اتان 6 فذهب التلميذان و فعلا كما امرهما يسوع 7 و اتيا بالاتان و الجحش و وضعا عليهما ثيابهما فجلس عليهما 8 و الجمع الاكثر فرشوا ثيابهم في الطريق و اخرون قطعوا اغصانا من الشجر و فرشوها في الطريق 9 و الجموع الذين تقدموا و الذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين اوصنا لابن داود مبارك الاتي باسم الرب اوصنا في الاعالي 10 و لما دخل اورشليم ارتجت المدينة كلها قائلة من هذا 11 فقالت الجموع هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل 12 و دخل يسوع الى هيكل الله و اخرج جميع الذين كانوا يبيعون و يشترون في الهيكل و قلب موائد الصيارفة و كراسي باعة الحمام 13 و قال لهم مكتوب بيتي بيت الصلاة يدعى و انتم جعلتموه مغارة لصوص 14 و تقدم اليه عمي و عرج في الهيكل فشفاهم 15 فلما راى رؤساء الكهنة و الكتبة العجائب التي صنع و الاولاد يصرخون في الهيكل و يقولون اوصنا لابن داود غضبوا 16 و قالوا له اتسمع ما يقول هؤلاء فقال لهم يسوع نعم اما قراتم قط من افواه الاطفال و الرضع هيات تسبيحا 17 ثم تركهم و خرج خارج المدينة الى بيت عنيا و بات هناك 18 و في الصبح اذ كان راجعا الى المدينة جاع 19 فنظر شجرة تين على الطريق و جاء اليها فلم يجد فيها شيئا الا ورقا فقط فقال لها لا يكن منك ثمر بعد الى الابد فيبست التينة في الحال 20 فلما راى التلاميذ ذلك تعجبوا قائلين كيف يبست التينة في الحال 21 فاجاب يسوع و قال لهم الحق اقول لكم ان كان لكم ايمان و لا تشكون فلا تفعلون امر التينة فقط بل ان قلتم ايضا لهذا الجبل انتقل و انطرح في البحر فيكون 22 و كل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه 23 و لما جاء الى الهيكل تقدم اليه رؤساء الكهنة و شيوخ الشعب و هو يعلم قائلين باي سلطان تفعل هذا و من اعطاك هذا السلطان 24 فاجاب يسوع و قال لهم و انا ايضا اسالكم كلمة واحدة فان قلتم لي عنها اقول لكم انا ايضا باي سلطان افعل هذا 25 معمودية يوحنا من اين كانت من السماء ام من الناس ففكروا في انفسهم قائلين ان قلنا من السماء يقول لنا فلماذا لم تؤمنوا به 26 و ان قلنا من الناس نخاف من الشعب لان يوحنا عند الجميع مثل نبي 27 فاجابوا يسوع و قالوا لا نعلم فقال لهم هو ايضا و لا انا اقول لكم باي سلطان افعل هذا 28 ماذا تظنون كان لانسان ابنان فجاء الى الاول و قال يا ابني اذهب اليوم اعمل في كرمي 29 فاجاب و قال ما اريد و لكنه ندم اخيرا و مضى 30 و جاء الى الثاني و قال كذلك فاجاب و قال ها انا يا سيد و لم يمض 31 فاي الاثنين عمل ارادة الاب قالوا له الاول قال لهم يسوع الحق اقول لكم ان العشارين و الزواني يسبقونكم الى ملكوت الله 32 لان يوحنا جاءكم في طريق الحق فلم تؤمنوا به و اما العشارون و الزواني فامنوا به و انتم اذ رايتم لم تندموا اخيرا لتؤمنوا به 33 اسمعوا مثلا اخر كان انسان رب بيت غرس كرما و احاطه بسياج و حفر فيه معصرة و بنى برجا و سلمه الى كرامين و سافر 34 و لما قرب وقت الاثمار ارسل عبيده الى الكرامين لياخذ اثماره 35 فاخذ الكرامون عبيده و جلدوا بعضا و قتلوا بعضا و رجموا بعضا 36 ثم ارسل ايضا عبيدا اخرين اكثر من الاولين ففعلوا بهم كذلك 37 فاخيرا ارسل اليهم ابنه قائلا يهابون ابني 38 و اما الكرامون فلما راوا الابن قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث هلموا نقتله و ناخذ ميراثه 39 فاخذوه و اخرجوه خارج الكرم و قتلوه 40 فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل باولئك الكرامين 41 قالوا له اولئك الاردياء يهلكهم هلاكا رديا و يسلم الكرم الى كرامين اخرين يعطونه الاثمار في اوقاتها 42 قال لهم يسوع اما قراتم قط في الكتب الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار راس الزاوية من قبل الرب كان هذا و هو عجيب في اعيننا 43 لذلك اقول لكم ان ملكوت الله ينزع منكم و يعطى لامة تعمل اثماره 44 و من سقط على هذا الحجر يترضض و من سقط هو عليه يسحقه 45 و لما سمع رؤساء الكهنة و الفريسيون امثاله عرفوا انه تكلم عليهم 46 و اذ كانوا يطلبون ان يمسكوه خافوا من الجموع لانه كان عندهم مثل نبي |
||||
17 - 07 - 2012, 07:13 AM | رقم المشاركة : ( 22 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير كامل لانجيل متى لابونا تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثاني والعشرون مقاومو الملكوت إذ كانت الأيام تقترب جدًا ليتمجّد السيِّد على الصليب، معلنًا ملكوته السماوي الداخلي، كان العدوّ يقاوم بعنفٍ، مكثّفًا كل الطاقات للعمل ضدّ الملكوت. 1. المدعوُّون المعتذرون 1-14. 2. سؤاله بخصوص الجزية 15-22. 3. سؤاله بخصوص القيامة 23-33. 4. سؤاله عن الوصيّة العُظمى 34-40. 5. السيِّد يسألهم عن نفسه 41-46. 1. المدعوُّون المعتذرون يقدّم لنا السيِّد المسيح ملكوت السماوات بكونه عُرسًا صنعه ملك لابنه، ومع ذلك كان العرس ثقيلاً على المدعوّين "الذين لم يريدوا أن يأتوا" [3]. إنهم لم يكونوا مدعوّين للمشاركة من بعيد كمتفرجين ولا مجرّد أصدقاء، وإنما كعروس تتَّحد بالابن العريس على مستوى أبدي. إنها دعوة للدخول للفرح الدائم بلا انقطاع. لكن النفس من أجل بؤسها الداخلي ترفض الفرح لتعيش في غمٍ نابع لا عن ظروف خارجيّة، وإنما عن قلب مغلق لا يريد أن ينفتح للرب واهب السلام والفرح. هذا المثل كما يقدّمه لنا السيِّد المسيح ينطبق على اليهود خاصة القادة، الذين رفضوا ملكوت المسيّا السماوي، وهو بطريق أو آخر ينطبق على كل نفسٍ ترفض ملكوته الحقيقي في داخلها. العُرس الملوكي وجعل يسوع يكلّمهم أيضًا بأمثال، قائلاً: يشبه ملكوت السماوات إنسانًا ملكًا صنع عرسًا لابنه. وأرسل ليدعو عبيده المدعوّين إلى العرس، فلم يريدوا أن يأتوا" [1-3]. ما هو هذا الملكوت السماوي إلا الكنيسة التي في حقيقتها هي عرس دائم، فقد أقامها الآب لابنه ينعم بها، وتنعم هي بحلوله في وسطها، وبإتكائها على صدره، تتقبّل منه أسرار أبيه، وتتمتّع بإمكانيّاته الإلهيّة، حتى ترتفع به وفيه إلى حضن أبيه، تنعم بشركة أمجاده. هذا هو العرس الذي اشتهى الآباء والأنبياء أن ينعموا به إذ رأوه من بعيد خلال الرموز والنبوّات حتى جاءت القدّيسة العذراء تحني رأسها بالطاعة والخضوع لله أمام الملاك جبرائيل، قائلة: "ليكن لي كقولك" (لو 1: 38)، فقبلت العُرس في داخلها. وكما يقول الأب غريغوريوس (الكبير): [يمكننا بوضوح وثقة أن نقول بأن الآب صنع للملك ابنه العُرس خلال سرّ التجسّد، حيث التصقت به الكنيسة المقدّسة، وكانت أحشاء العذراء الأم هي حجال العُرس... لهذا يقول المرتّل: "جعل في الشمس مظلَّته، مثل العريس الخارج من خدره" (راجع مز 18: 6). إنه مثل العريس الخارج من خدره، لأن الله المتجسّد خارج من أحشاء العذراء غير الدنسة ليتَّحد بالكنيسة.] حقًا إن الآب القدّوس الذي أرسل روحه إلى الأحشاء البتوليّة ليتمّم التجسّد الإلهي بحلول الكلمة الإلهي فيها، مقدّمًا للبشريّة العريس الحقيقي، مشتهى الأمم، هذا الذي رفضه اليهود، يودّ أن يجعل من كل مؤمن ملكوتًا سماويًا بحلول العريس في داخله، يُقيم فيه عرسًا روحيًا وفرحًا سماويًا لا يقدر العالم أن ينزعه! لقد بدأ السيِّد خدمته بدخوله عرس قانا الجليل ليقدّسه معلنًا أن رسالته تنطلق بدخوله إلينا ليقيم عرسنا الداخلي متقدّما كعريس أبدي، قادر وحده أن يتّحد بنا ويقدّسنا ويكشف لنا أسراره الإلهيّة الفائقة. حقًا إن دعوته لنا، إنّما هي دعوة لقبوله عريسًا أبدياً مشبع لنفوسنا! إرسال العبيد إن كان لا يمكن لعريسٍ أن يغتصب قلب من يطلبها كعروسٍ له بغير إرادتها؛ حتى إن أمكنه ذلك، فإنه لن يستريح ما لم ينبع حبّها له من قلبها بكامل حريَّتها، هكذا لا يريد السيِّد أن يغتصب قلوب شعبه بغير إرادتهم، إنّما يكتفي بتكرار الدعوة وإعلان فيض محبّته العمليّة نحوهم، مقدّمًا لهم وعوده الأبديّة، تاركًا لهم كامل الحرّية أن يقبلوه أو يرفضوه! يقول السيِّد أنه أرسل عبيده، وإذ رفضوا عاد فأرسل عبيدًا آخرين [4]، فأمسكوهم وشتموهم وقتلوهم [6]. بالنسبة لليهود العبيد الأوّلون هم الآباء الأوّلون كإبراهيم واسحق ويعقوب الذين نالوا الوعد ووضعوا ملامح الطريق الملوكي، حتى قال السيِّد "أبوكم إبراهيم تهلّل بأن يرى يومي فرأى وفرح" (يو 8: 56). لكن اليهود لم يسمعوا لهم ولا سلكوا على منوالهم إذ يوبّخهم السيِّد: "لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم" (يو 8: 39). وعِوض أن يفرحوا كأبيهم بيوم مجيئه رفضوا وقاوموا عمله الإلهي. أمّا العبيد الآخرون فهم الأنبياء الذين رسموا بكل وضوح خلال النبوّات كل ما يخصّ المسيّا الملك في تفاصيل كثيرة، لكن قتلة الأنبياء (مت 23: 37) يرفضون قبول نبواتهم عمليًا. وكما قتل آباؤهم الأنبياء ها هم يريدون أن يقتلوا من تنبَّأوا عنه. يرى القدّيس هيلاري أسقف بواتييه أن العبيد الآخربن هم الرسل الذين جاءوا يعلنون لليهود العرس الذي تحدّث عنه أنبياؤهم، لكنهم رفضوه وجاء تلاميذهم أي خلفهم يكرّرون الدعوة. ما فعله السيِّد مع اليهود فعله معنا جميعًا، فإنه لا يمل من إرسال عبيد لدعوتنا لهذا العرس بكل طريقة لكي نقبَّله عاملاً فينا. يدعونا خلال خدّامه وإنجيله والأحداث المحيطة بنا، ويتّكلم بروحه فينا. إنه "واقف على الباب يقرع" ينتظر أن ندخل به إلى قلبنا كما إلى جنّته، نجلس فيها سويًا، وننعم بالاتّحاد معه! الدعوة كانت ولا تزال دعوته إلينا خلال عبيده: "هوذا غذائي أعددته، ثيراني ومسمّناتي قد ذُبحت، وكل شيء مُعد؛ تعالوا إلى العرس" [4]. إنها دعوة إلهيّة: "تعالوا إلى العرس"، تحمل قوّة وسلطانًا تقدر أن تجتذب القلب إلى العريس ليتَّحد معه ويكون معه واحدًا، لكن دون إلزام أو إجبار. وقد دفع العريس ثمن الدعوة بقوله: "هوذا غذائي أعددته، ثيراني ومُسمَّناتي قد ذُبحت، وكل شيء مُعد". تكلفة الدعوة هي حياته التي بذلها لمصالحتنا مع أبيه صاحب الدعوة، مقدّمًا لنا جسده ودمه المقدّسين طعامًا وشرابًا روحيًا لوليمة الملكوت الجديد. لقد صار كل شيء معدًا لدخولنا إلى الوليمة المقدّسة التي هي في جوهرها ارتفاع إلى الحياة السماويّة، فقد أرسل لنا روحه القدّوس في كنيسته، عمله أن ينطلق بكل نفس خلال التوبة إلى الحضرة الإلهيّة، ويرتفع بها من مجدٍ إلى مجدٍ، ليدخل بها إلى الهيكل الإلهي لتشارك الملائكة ليتورجيَّاتهم وتسابيحهم وتفتح فاهها لتتقبّل عريسها في داخلها سرّ فرح أبدي لا ينقطع. هكذا ينشغل الثالوث القدّوس بهذا العرس، فالآب هو صاحب الدعوة، والابن هو العريس الذي يدفع تكلفة العرس، والروح القدس هو الذي يعمل فينا ليهيئنا للعرس. ما هي هذه الوليمة التي أُعدَّت إلا تحقيق النبوّات بتقديم السيِّد المسيح عمله الخلاصي خلال الصليب، ذبيحة سرور ورضا لدى الآب وشبع للنفس البشريّة. لهذا يقول:"ثيراني ومُسمَّناتي قد ذُبحت، وكل شيء مُعد" [4]. لقد أُعدَّت المائدة المشبعة لله والناس! يرى العلاّمة أوريجينوس أن هذه المائدة الإلهيّة هي كلمة الله، فالثيران المذبوحة إنّما هي منطوقات الله العظيمة المُعدة لنا كطعامٍ روحيٍ، والمسمنات هي كلماته العذبة الشهيَّة. كأنه بمجيء الكلمة المتجسّد وارتفاعه على الصليب دخل بنا إلى سرّ الكلمة لنكتشف عظمتها ودسمها. ويرى القدّيس هيلاري أسقف بواتييه أن الثيران إنّما ترمز للشهداء الممجَّدين الذين شهدوا للرب مقدِّمين حياتهم ذبائح مختارة، والمُسمنات تُشير إلى الروحيّين الذين ينتعشون بالخبز السماوي ليحلِّقوا كالطيور، فيقدّمون كشبع للآخرين من الدسم الذي أكلوه. وكأننا إذ ننعم بملكوت السماوات خلال عضويّتنا الحقيقية للكنيسة المقدّسة ندخل إلى الوليمة التي تشبعنا، هذه التي قدّم الشهداء حياتهم ثمنًا للشهادة، والروحيّون جهادهم الدسم ثمنًا لحبّهم لمن فداهم. حقًا إن دماء الشهداء وجهاد الروحيِّين لا يضيع بل يبقى رصيدًا تعيش عليه الأجيال، لا لينتهي، إنّما ليضيفوا إليه أرصدة جديدة بشهادتهم وجهادهم القانوني. لهذا تترنَّم الكنيسة في ختام ثيؤطوكيَّات الواطس: "يأتي الشهداء حاملين عذاباتهم، ويأتي الصدّيقون حاملين فضائلهم، ويأتي ابن الله في مجده ومجد أبيه". قابلو الدعوة ورافضوها هذه الوليمة كما يكشفها لنا الوحي الإلهي في سفر الأمثال، تقدَّم لا للحكماء المتَّكلين على فهمهم، وإنما للذين هم في الشوارع والطرقات، يجوعون للحكمة الإلهيّة ويعطشون. لمثل هؤلاء تُقدّم الوليمة فيتناولوا الذبيحة المقدّسة، وينعموا بخمر الفرح الأبدي، فتبني الحكمة بيتها فيهم، بل يصيرون هم أنفسهم بيت الحكمة، حيث يسكن السيِّد المسيح، الحكمة ذاته، فيهم. جاء في سفر الأمثال: "الحكمة بنت بيتها، نحتت أعمدّتها السبعة، ذبحت ذبْحها، مزجت خمرها، أيضًا رتَّبت مائدتها، أرسلت جواريها تنادي على ظهور أعالي المدينة: من هو جاهل فلْيَمل إلى هنا، والناقص الفهم قالت له: هلمّوا كلوا من طعامي واشربوا من الخمر التي مزجتها، اُتركوا الجاهلات فتحيوا وسيروا في طريق الفهم" (أم 9: 1-6). إنها دعوة للعطاش إلى الحكمة، يُحرم منها من يظن في نفسه أنه في حالة شبع؛ دعوة للخطاة الراجعين، ينعمون بها أكثر ممن يظنّون في أنفسهم أنهم أبرار. فقد أقيمت الوليمة للابن الضال كطلب الآب المحب: "اِخرجوا الحُلًَّة الأولى وأَلبسوه، واجعلوا خاتمًا في يده وحذاء في رجليه، وقدّموا العجل المسمَّن واذبحوه، فنأكل ونفرح، لأن ابني هذا كان ميّتًا فعاش، وكان ضالاً فوُجد، فابتدأوا يفرحون" (لو 15: 22-24). أمّا الابن الأكبر، وإن كان لم يفعل ما ارتكبه أخوه، لكنّه وقف خارجًا حزينًا من أجل الوليمة المقامة والفرح الذي يملأ بيت أبيه. في المثال الذي قدَّمه السيِّد يُظهر المدعوين متهاونين بالوليمة كالابن الأكبر السابق ذكره، إذ يقول: "ولكنهم تهاونوا ومضوا واحد إلى حقله وآخر إلى تجارته. والباقون أمسكوا عبيده وشتموهم وقتلوهم" [5--6]. إنهم بالفعل هم الابن الأكبر، إذ هم جماعة اليهود الذين سبقوا الأمم في معرفة الله ولم يصنعوا شرورًا كالابن الأكبر أي الأمم، لكنهم لم ينعموا بالوليمة التي قُدّمت للابن الأصغر. لقد "تهاونوا" معتمدين على بنوَّتهم لإبراهيم ونوالهم الناموس والوعود وتمتّعهم بالنبوّات. "ومضوا واحد إلى حقله وآخر إلى تجارته". عاد الشعب إلى حقله، أي إلى الانشغال بالأمور الزمنيّة، والكهنة إلى تجارتهم أي إلى الهيكل يمارسون فيه "التجارة بالدين" عِوض العبادة الروحيّة. هكذا تركوا "المسيح" العريس ووليمته السماويّة لينشغلوا بالأمور الأرضيّة. مساكين هم هؤلاء المتهاونون بالوليمة، واحد منهم يُحرم منها بسبب حقله أي ذاته أو الأنا ego التي تثْقل نفسه فيبقى مرتبطًا بالحقل الذي يظنُّه باقيًا له إلى الأبد، أي يرتبط بالأرض ولا يقدر أن يرتفع إلى السماويات. هكذا تربطه الأنا بما هو حوله، فلا يقدر أن يتبرّر ليرتفع فوقها ويتّسع قلبه فوق حدودها! وآخر يُحرم من الوليمة من أجل تجارته، فتتحوّل العبادة إلى بيع وشراء من أجل الأنا أيضًا كما في الهيكل في أيام السيِّد المسيح، فيكون قلبه مركزًا للأعمال البشريّة لحساب مكاسب زمنيّة ومديحٍ زمنيٍ عِوض الأمجاد الأبديّة والأفراح الإلهيّة الدائمة، أمّا الثالث فيُحرم من العرس بسبب حبّه للشر، فيقابل العبيد المرسلين إليه للدخول إلى الوليمة بالسب والشتم بل والقتل، كأنما يتقدّمون إليه بأذيَّته. هكذا القلب الشرّير خلال البصيرة المظلمة يرى حتى الدعوة إلى العرس شرًا يقاومه بالشرّ! يا للعجب! عندما يدعو الله الناس للفرح الأبدي يتذمَّرون ويرفضون، بل ويتطاولون على خدّامه بالسب والقتل. وعندما يطلب منهم النوح للتوبة يفرحون ويتهلّلون حسب أهواء قلبهم الشرّير. يقول إشعياء النبي: "ودعا السيِّد رب الجنود في ذلك اليوم إلى البكاء والنوح والقرعة والتنطُّق بالمسح، فهوذا بهجة وفرح وذبح ونحر غنم، أكل لحم وشرب خمر، لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت" (إش 22: 12-13). لهذا يقول السيِّد الرب: "بمن أشبِّه هذا الجيل؟! يشبه أولادًا جالسين في الأسواق ينادون إلى أصحابهم ويقولون: زمّرنا لكم فلم ترقصوا، نُحنا لكم فلم تلطِموا" (مت 11: 16-17). يدعوهم للعرس فيأبون الحضور، ويسألهم النوح على خطاياهم فيرفضون. لهذا يُعلن السيِّد غضبه على هذا الشعب الرافض الدعوة، مقدّمًا إيّاهم للأمم إذ يقول: "فلما سمع الملك غضب وأرسل جنوده وأهلك أولئك القاتلين وأحرق مدينتهم. ثم قال لعبيده: أمّا العرس فمستعد، وأمّا المدعوُّون فلم يكونوا مستحقِّين. فاذهبوا إلى مفارق الطرق وكل من وجدّتموه فادعوه إلى العرس" [7-9]. لقد غضب الملك من أجل مقاومي الملكوت الذين كان يجب أن يفرحوا بالدعوة ويكرزون بها، فصاروا رافضين لها، بل ومضطهدين للداعين إليها. لقد ألزموا الملك المسيّا أن يرفضهم، فتنفتح أبواب عرسه للأمم الذين يتشبَّهون بملكة سبَأْ التي سمعت بخبر سليمان لمجد الرب (1 مل 10: 1) فأسرعت إليه تسمع حكمته. يقول الوحيّ: "فأتت إلى أورشليم بموكبٍ عظيمٍ جدًا، بجمال حاملة أطيابًا وذهبًا كثيرًا جدًا وحجارة كريمة، وأتت إلى سليمان وكلّمته بكل ما كان بقلبها، فأخبرها سليمان بكل كلامها. لم يكن أمر مخفيًا عن الملك لم يخبرها به" (1مل10: 2-3). جاءت الأُمميَّة إلى أورشليم قاتلة الأنبياء، وارتفعت بقلبها نحو مدينة الملك العظيم، نحو السماء عينها، جاءت منطلقة بموكب عظيم جدًا تحت قيادة روح الله القدّوس، لتلتقي بسليمان الحقيقي واهب الحكمة وكاشف القلوب، الذي لا يُخفي عنه شيء. جاءت تُمثِّل كنيسة الأمم التي تقدّمت بجمالها، المحمَّلة بالأطياب والذهب الكثير جدًا والحجارة الكريمة. ما هذه الأطياب إلا مشاعر الحب التي كانت قبلاً مُمتصَّة بالكامل في الشهوات، فصارت الآن تحمل رائحة المسيح الذكية؟! والذهب الذي كان يستخدم في صنع الأصنام والآلهة الوثنيّة، وقد صار رمزًا للحياة الجديدة السماويّة وقبول ملكوت المسيح فينا؟! والحجارة الكريمة التي كانت لزينة الهياكل الوثنيّة وملابس الكهنة الوثنيّين، قد صارت الآن رمزًا للمسيح نفسه "اللؤلؤة كثيرة الثمن" (مت 13: 46)، ولأبواب أورشليم العليا وأساستها (رؤ 21: 19، 21)! كانت الأمم تعيش في الحياة المترفة المملوءة بالنجاسات، وكان الغنى عائقًا لها عن معرفة الله، كالجمل الذي لا يدخل من ثقب إبرة (مت 19: 24). لكنها إذ قبلت الكرازة بالإنجيل استطاع الجمل أن يحمل كل إمكانيّاتها مقدّسة للرب، فيعبُر بها خلال الباب الضيق "ثقب الإبرة"، ليقدّم مشاعرها وغناها من ذهب وحجارة كريمة لخدمة العُرس الجديد. رأت كنيسة الأمم سليمان الحقيقي، مصدر الحكمة، والبيت الذي بناه (1 مل 10: 4) أي كنيسته كبيتٍ ملوكيٍ لها؛ وطعام مائدته ومجلس عبيده (1 مل 10: 5)، لتجلس وتأكل من المائدة المعدَّة: الثيران والمُسمَّنات المذبوحة... تتناول من مذبحة سرّ حياتها وشبعها. لقد دخلت إلى أسرار العرس حتى "لم يبق فيها روح بعد" (1مل10: 5). هكذا انفتح الباب للأمم وصارت الدعوة للبشريّة كلها، إذ يقول السيِّد: "فاذهبوا إلى مفارق الطرق وكل من وجدّتموه فاِدعوه إلى العرس" [9]. يقول العلاّمة أوريجينوس عن هؤلاء العبيد الذين أرسلهم السيِّد إلى مفارق الطرق هم الرسل أو الملائكة، الذين عهد إليهم دعوة الأمم، فإن العرس بالحق مُعد. وإن كانت الطرق تُشير إلى العالم فإن مفارقه كما يقول القدّيس هيلاري أسقف بواتييه إنما تعني الدعوة لغفران كل الخطايا الماضية التي سقطت فيها البشريّة. إنها دعوة للجميع ولمغفرة كل الماضي! ثوب العرس انفتح باب الخلاص على مصراعيه ليدخل الكل إلى الوليمة، ولكن يلزم أن يلتحف بلباس العرس، إذ يقول السيِّد: "فلما دخل الملك لينظر المتّكئين رأي هناك إنسانًا لم يكن لابسًا لباس العرس. فقال له: يا صاحب كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العرس؟ فسكت. حينئذ قال الملك للخدّام: اِربطوا رجليه ويديه وخذوه واِطرحوه في الظلمة الخارجيّة. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان. لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون" [11-14]. حقًا إن الدعوة مفتوحة للجميع، إذ الله "يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1تي 2: 4)، لكن ليس الكل يقبل نعمة الله التي تقدّسه، بل قليلون هم الذين يقبلونها ويتجاوبون معها، فيصير لهم ثوب "الحياة المقدّسة" اللائق بالعرس الإلهي. يقول صفنيا النبي: "لأن الرب قد أعد ذبيحة قدْس مدعوِّيه. ويكون في يوم ذبيحة الرب إني أعاقب الرؤساء وبني الملك وجميع الأمم اللابسين لباسًا غريبًا" (صف 1: 7-8). فإن كانت الدعوة قد وجِّهت للأمم الذين كانوا في الطرقات، فصاروا رؤساء وبني الملك، لكنهم إن لم يحملوا الثوب المقدّس في الرب يُطردون. يكون حالهم كما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم كمن يهتمّ بثياب خارجيّة مُوَشَّاة بالذهب بينما تلتحف نفسه الداخليّة بالخرق الباليّة، أو كمن يسكن في قصر فخم مزيَّن بستائر ذهبية، بينما يبقى هو عاريًا يلبس الخِرق. ثوب العْرس عنده هو الحياة الداخليّة المقدّسة والمعلنة خلال التصرّفات العمليّة. حقًا إن الذين يدخلون العرس بثياب دنسة هم أكثر شرًا من الذين احتقروا الدعوة ورفضوها. فإن الآخرين احتقروا صاحب الدعوة برفضهم إيّاها، أمّا الأوّلون فاحتقروه بدخولهم الوليمة بحياة دنسة وثياب داخليّة نجسة لا تليق بكرامة صاحب الوليمة. يرى البعض أن لباس العرس ما هو إلا الإنسان الجديد الذي ننعم به في مياه المعموديّة كصورة خالقه، والذي يلتزم المؤمن بالحفاظ عليه ناميًا بواسطة روح الله القدّوس خلال حياة التوبة العمليّة المستمرّة والجهاد الروحي القانوني. يقول القدّيس هيلاري أسقف بواتييه: [ثوب العرس هو نعمة الروح القدس والبهاء الذي يضيء الحالة السماويّة التي يتقبّلها بالاعتراف الصالح الذي للإيمان، فيصير المؤمن بلا دنس ولا عيب إلى اجتماع ملكوت السماوات.] وكأن ثوب العرس هو الحياة الجديدة التي صارت لنا كعطيّة الروح القدس نتقبّلها بالإيمان الحق خلال مياه المعموديَّة بتمتّعنا بالإنسان الجديد. لكن ليس كل من اِعتمد يحتفظ بثوب عرسه... إنما يلتزم خلال إيمانه أن يسلك بالوصيّة الإنجيليّة بالروح القدس الساكن فيه. لهذا يقول القدّيس جيروم: [ثوب العرس هي وصايا الرب والأعمال التي تتمِّم الناموس والإنجيل، فتصير ثوبًا للإنسان الجديد، فمن يوجد في يوم الحكم حاملاً اسم "مسيحي" وليس له هذا الثوب يُدان.] ويحدّد القدّيس أغسطينوس الثوب في وصيّة واحدة يلتزم بها المسيحي هي "المحبّة". حقًا إن جميع الداخلين إلى الكنيسة أي ملكوت السماوات ينالون المعموديّة وقد يصومون ويصلّون. لكن سِمة المحبّة الحقيقيّة هي الثوب البهي الذي بدونه لن ينعم أحد بالوليمة، ويحدّد القدّيس على وجه الخصوص محبّة الأعداء بكونها المحك الحقيقي الذي يكشف عن حبّنا لله والقريب. لقد أعلن السيِّد محبّته للأعداء على الصليب طالبًا لهم الغفران، وحمل الشهيد استفانوس ذات الروح أثناء رجمه، معلنًا أنه يلبس ثوب العرس الأبدي. في محبّة الأعداء تتم كل الوصايا ويُعلن بهاء الإنسان الجديد الذي نلناه في مياه المعموديّة، وتظهر قوّة الروح القدس العامل فينا... بمعنى آخر ما يقوله القدّيس أغسطينوس إنما يكمّل ما قاله الآباء الآخرون. فيما يلي مقتطفات مختصرة لكلمات القدّيس أغسطينوس في هذا الشأن: v ثوب العرس، هل هو المعموديّة؟ بلا شك بدون المعموديّة لا يدخل أحد إلى الله، لكن ليس كل من ينال المعموديّة يأتي إليه، لذلك لا يمكننا أن نتطلّع إلى المعموديّة كثوب العرس... هنا ثوب العرس! "وأما غاية الوصيّة فهي المحبّة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء" (1تي1: 5). هذا هو ثوب العرس! لكنّها ليست أيّة محبّة! v يُرتدى ثوب العرس تكريمًا للعرس، أي تكريمًا للعروس والعريس... إذن فلتكرم العريس ولتكرم العروس ولتكن ابنًا لهما! v ليكن لكم الإيمان العامل بالحب، فإن هذا ثوب العرس. يا من تحبُّون المسيح حِبُّوا بعضكم بعضًا، حِبُّوا أصدقائكم وأعداءكم، ولا يكن هذا ثقلاً عليكم... أن تحبُّوا زوجاتكم وأولادكم هذا ليس بالأمر الكافي ليكون ثوبًا للعرس. آمنوا بالله! لتحبُّوا الله أولاً، وليمتد حبّكم له مقتنصين كل أحدٍ له. ألك عدو؟ اِقتنصه (بالحب) لله، لك زوجة وابن وعبد، أحضرهم لله. يوجد غريب! اِقتنصه لله، اِحضر عدوّك، فإنه لا يعود بعد عدوًا لك. لتصير فينا المحبّة كاملة ولتنتعش فتتكمّل، بهذا نرتدي ثوب العرس. القدّيس أغسطينوس v بحق تدعى المحبّة ثوب العرس، فقد اِلتحف به خالقنا عندما جاء إلى عرسه مع الكنيسة. خلال حب الله فقط وَحَّد الابن الوحيد نفوس المختارين من البشر معه. لهذا يقول يوحنا: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد" (يو 3: 16)... فمن يأتي إلى وليمة العرس بدون ثوب العرس إنّما هو ذاك الذي له إيمان بدون حب. الأب غريغوريوس (الكبير) وإذ يتكلَّم القدّيس يوحنا الذهبي الفم عن المحبّة يقول أنها الثوب الملوكي الذي يلتحف به الإنسان فيصير كملكةٍ تدخل إلى العرش لتلتقي بالملك السماوي، ولا يقدر أحد من رجال البلاط أن يعترض طريقها. ويرى الأب غريغوريوس (الكبير) أن هذا الثوب الملوكي للعرس إنّما يُنسج بين عارضتين، هما محبّة الله ومحبّة القريب. فالحب هو طبيعة تتّسم بها النفس، لا تقدر أن تفصل محبّة الله عن القريب ولا القريب عن الله، الأمر الذي تحدّثنا عنه في دراستنا لسفر زكريّا (الأصحاح الثاني). موقف غير اللابسين للثوب يقول السيِّد "فقال له: يا صاحب كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العُرس، فسكت" [12]. لقد اِنتهى الزمان الذي كان يمكن فيه أن ينسج ثوب العرس، لذا يصمت من ليس لهم الثوب، إذ ليس لهم عذر ولا إمكانيّة للعمل! v لا يوجد في هذه الساعة موضع للتقدّم ولا فرصة للاعتذار لذلك يشهد كل الملائكة والعالم نفسه عن خطاياه. القدّيس جيروم v من يخطئ ولم يتجدّد ولا لبس الرب يسوع المسيح ليس له عذر، لذلك قيل "فسكت". العلاّمة أوريجينوس الظلمة الخارجيّة "قال الملك للخدّام: أربطوا رجليه ويديه وخذوه واطرحوه في الظلمة الخارجيّة، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" [13]. الإنسان الذي رفض بالحب أن يلبس ثوب العرس، فينال الحلّ من الخطيّة، مُقيِّدًا نفسه بنفسه بخطاياه خلال عدم محبّته، يسلّمه الملك المسيح للخدّام لكي يُربط، فيُحرم من حرّية الروح وحرّية الجسد، لا يقدر أن يحرّك رجليه ولا يديه، إذ لا يعرف أين يذهب ولا ماذا يفعل. لقد اختار أن يبقى في الظلمة الداخليّة، إذ انطمست بصيرته الداخليّة عن التمتّع بالحياة الجديدة وإدراك أسرار مسيحه، لهذا ينال أيضًا الظلمة الخارجيّة... هي امتداد لما صنعه بنفسه في داخله. أمّا البكاء وصرير الأسنان فيشير كما يقول القدّيس جيروم إلى قيامة الجسد ليشترك مع النفس في مرارة الظلمة الخارجيّة. كثيرون يُدعوْن، وقليلون يُنتخَبون في حديث السيِّد المسيح عن ملكوت السماوات يميّز بين وليمتين، الأولى وليمة العُرس التي نتحدّث عنها هنا، وهي تمثل الكنيسة الحاضرة التي تحمل عريسها في داخلها، ويجتمع فيها المؤمنون كأعضاء جسد المسيح يلبسون ثياب العرس، وإن كان يتسلّل معهم وبينهم من هم بغير هذه الثياب. أمّا الوليمة الأخرى (مت 8: 11) فهي امتداد للوليمة الحاضرة لا يوجد فيها إلا لابسو ثياب العرس. يصف السيِّد وليمة العرس التي نعيشها الآن فيقول: "لأن كثيرين يُدعوْن، وقليلين يُنتخَبون" [14]. ويُعلّق الآباء على هذا القول الإلهي هكذا. v كثيرون هم الذين يأتون إلى العُرس، وقليلون هم الذين يجلسون على المائدة. العلاّمة أوريجينوس v الصالحون كثيرون فإن قورنوا بالأشرار نجدهم قليلين. كثيرة هي حبوب الحنطة، لكنَّها إن قورنت بالتِبن تحسب قليلة. القدّيس أغسطينوس يتطلّع الأب غريغوريوس (الكبير) ليرى الكنيسة وقد اختفت الحنطة وسط التبن، فظهر كثير من الأشرار والخطاة وقليل من الأبرار الصالحين، لذلك يشبهها بفلك نوح المتسع من أسفل حيث يضم الحيوانات والثعابين، أمّا الإنسان والطيور ففي الطبقة العليا الضيقة. الجسديون من أسفل يملأون الفلك، أمّا الروحيّون فقليلون من أعلى. حقًا يتطلّع الرب إلى الكنيسة ليجد الأبرار كالسوسنة المحاطة بكثير من الأشواك (نش 2: 2). في مرارة يقول الإنسان لابس ثوب العرس: "صرت أخًا للتنانين وصاحيًا للنعام" (راجع أي30: 29). هذه هي الكنيسة أنها تضم قدّيسين، لكن الأشرار كالتنانين والمهملين كالنعام يتسلّلون إليها. 2. سؤاله بخصوص الجزْيَة إن كان السيِّد قد فضح القادة الدينيّين لليهود بأمثاله لأجل توبتهم، فإنهم عِوض إصلاح موقفهم ورجوعهم عن العناد ازدادوا قسوة، فتكاتفوا معًا على مقاومته بكل طريقة. "حينئذ ذهب الفرّيسيّون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة. فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودسيّين، قائلين: يا معلّم نعلم أنك صادق وتُعلم طريق الله بالحق ولا تبالي بأحد، لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس. فقل لنا ماذا تظن، أيجوز أن تُعطي جزية لقيصر أم لا؟" [15-17] يمكننا أن نتوقَّع من الهيرودسيّين مثل هذا السؤال، إذ يهتمّون بجمع الجزية فيقدّمون منها نصيبًا لقيصر ويغتصبون الباقي لحسابهم الخاص، أمّا ما هو عجيب فإن الذين يثيرونه هم الفرّيسيّون الذين كانوا يطلبون التحرّر من الاستعمار الروماني، ويحسبون هذه الجزية علامة عبوديّة ومذلّة، ويتطلّعون إلى الهيروديسيّين كخونة ضدّ أمّتهم وناموسهم. لكن من أجل الخلاص من المسيح ومقاومة عمله كانوا يعملون مع الهيروديسيّين متجاهلين أفكارهم نحوهم التي نشأوا عليها زمانًا. "فعلم يسوع خبثهم، وقال: لماذا تجرِّبونني يا مراءون؟" [18]. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لقد دعاهم مُرائين حتى متى عرفوا أنه قارئ قلوب البشر لا يتجاسروا بعد أن يتمّموا خططهم.] يكمّل السيِّد حديثه، قائلاً: "أرُوني معاملة الجزية، فقدّموا له دينارًا. فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟. قالوا له: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذًا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. فلما سمعوا تعجّبوا وتركوه ومضوا" [19-22]. كان ذلك الموقف فرصة يُعلن فيها السيِّد مبدأً روحيًا يلتزم به تلاميذه، ألا وهو "أعطوا إذًا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، والعجيب أنه قدّم إعطاء قيصر حقّه قبل إعطاء الله حقّه. التزام المسيحي بالطاعة لقيصر أو للرؤساء وتقديم حقوق الوطن عليه من ضرائب والتزامات أخرى أدبيّة وماديّة فيه شهادة حق لحساب الله نفسه. يقول القدّيس بولس: "لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتَّبة من الله، حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة... لذلك يلزم أن يُخضع له ليس بسبب الغضب فقط بل أيضًا بسبب الضمير، فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضًا... فاعطوا الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام" (رو 13: 1-7). يقول القدّيس أمبروسيوس: [يلزم الخضوع له كما للرب، وعلامة الخضوع هو دفع الجزية]، وأيضًا يقول: [يركّز الرسول على أن نرُد له ليس فقط المال، بل الكرامة والمهابة.] إذن ليست هنا ثنائيّة بين عطاء قيصر حقّه وعطاء الله حقّه، فإن كليهما ينبعان عن قلبٍ واحدٍ يؤمن بالشهادة لله خلال الأمانة في التزامه نحو الآخرين ونحو الله. في هذا المبدأ أيضًا احترام الكنيسة لقيصر، تعطيه حقّه في تدبير أموره، فلا تتدخل في السياسة، وإنما تلتزم بعملها الروحي. فالكنيسة ليست دولة داخل دولة، ولا هي منعزلة عن قيصر، إنّما تحبّه وتكرمه وتعطيه حقّه. هكذا تقدّم له حقّه، لكن ليس على حساب حق الله وشهادتها له. ويرى بعض الآباء في هذه العبارة الإلهيّة معنى رمزيًا، فإن كان قيصر يمثّل الجسد فإن الله يمثّل النفس، وكما يقول العلاّمة أوريجينوس: [لنعطِ الجسد بعض الأشياء أي الضروريّات كجزية لقيصر، أمّا الأمور الخاصة بطبيعة نفوسنا والتي تقودنا للفضيلة فيجب أن نقدّمها لله.] أمّا القدّيس هيلاري أسقف بواتييه فيقول: [لنرد لله ما هو لله أي نقدّم له الجسد والنفس والإرادة، عملة قيصر هي من الذهب وعليها ختم صورته، وعملة الله عليها صورته. لنعطِ المال لقيصر ولنحتفظ بالضمير الذي بلا عيب لله.] ما أحوجنا أن نفتح القلب بالروح القدس للسيِّد المسيح، فيصير بكامله له، عندئذ لا نحتاج إلى مجهود في تقديم كل حياتنا له، مقدّمين ما للمسيح للمسيح. فإن تقدَّست كل الحواس وانفتحت أبوابها لتتقبّل ما هو للمسيح تقدّم كل الحياة للمسيح. أمّا إن انفتحت أبواب الحواس لمشتهيات العالم وشهواته فلا يكون فينا ما هو للمسيح لنقدّمه له، بل نقدّم ما للعالم للعالم. في هذا يقول القدّيس هيلاري: [إن كان ليس لقيصر شيء لدينا فلا نلتزم أن نرد له شيئًا، ولكن إن كنّا نعتمد عليه وننعم بمميزات حكمه نلتزم أن نرد ماله.] ليتنا إذن لا نكون مدينين لأحد بشيء، ولا للشيطان أو الخطيّة حتى لا نلتزم له برد الضعف، إنّما نكون مدينين لله بكل عطاياه المجّانيّة ومحبّته فنقدّم له حياتنا وحبّنا. في أسلوب آخر يقول القدّيس أغسطينوس: [كما يطلب قيصر صورته على العملة هكذا يطلب الله صورته فينا.] بمعنى أن من يجد صورته فينا يمتلكنا ويستعبدنا، فإن رأى الله صورته فينا لا نقدر أن نهرب منه، وإنما من حقّه أن يمتلكنا ويستعبدنا، وإن رأى العالم فينا صورته يستعبدنا ويذلِّنا تحت قدميه. نستطيع أن نقول بأن هذا الدينار الذي أمسك به السيِّد وقد حمل ختم قيصر وكتابته ليس إلا النفس البشريّة التي حملت صورة الله ومثاله، حتى بعد سقوطها عاد الروح القدس فختمها من جديد، لتحمل صورة الملك وسجل فيها كلمته، لنلتزم أن نقدّم للملك السماوي عُملته الروحيّة تحمل صورته وكتابته. وكما أن العُملة إن أُهملت زمانًا تحتاج إلى تنظيفها لتظهر الصورة والكتابة من جديد، هكذا بالتوبة المستمرّة تظهر صورة خالقنا متجليّة في حياتنا. ويقدّم لنا العلاّمة أوريجينوس تفسيرًا رمزيًا آخر لكلمات السيِّد هنا، إذ يقول: [يحمل الإنسان صورتين؛ الأولى استلمها من الله عند الخلقة كما يقول سفر التكوين: "على صورة الله خلقه" (تك 1: 27)، والأخرى صورة الإنسان الترابي (1 كو 15: 49) التي أخذها بسبب عصيانه وخطيَّته عند طرده من الفردوس وقد أغراه "رئيس هذا العالم" (يو 12: 31). كما أن العُملة أو الفلس بها صورة لسلطان هذا العالم، هكذا من يتمّم أعمال رئيس الظلمة (أف 6: 12) يحمل صورته. لذلك يأمر يسوع بإرجاع هذه الصورة ونزعها عنّا حتى نتقبّل الأصل الذي عليه خلقنا مشابهيّن لله. بهذا نرد ما لقيصر لقيصر وما لله لله... بنفس المعنى يقول بولس: "كما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضًا صورة السماوي" (1 كو 15: 49). فالقول "اِعطوا ما لقيصر لقيصر" إنّما يعني: [اتركوا صورة الترابي، اِلقوا عنكم الصورة الأرضيّة لتنعموا بصورة الإنسان السماوي، عندئذ تعطوا ما لله لله.] 3. سؤال بخصوص القيامة إذ كان السيِّد المسيح يتحدّث عن الملكوت السماوي كملكوت أبدي، تقدّم إليه الصدّوقيّون الذين سيطر عليهم الفكر المادي، خاصة في تفسير الكتاب المقدّس بطريقة حرفيّة، فلم يستطيعوا أن يقبلوا عودة الجسد بعد انحلاله لذلك أنكروا القيامة، فاصطدموا بكلمات السيِّد في هذا الشأن. سألوه: "يا معلّم، قال موسى إن مات أحد وليس له أولاد يتزوّج أخوه بامرأته ويقيم نسلاً لأخيه. فكان عندنا سبعة إخوة وتزوَّج الأول ومات. وإذ لم يكن له نسل ترك امرأته لأخيه. وكذلك الثاني والثالث إلى السبعة. وآخر الكل ماتت المرأة أيضًا. ففي القيامة لمن من السبعة تكون زوجة، فإنها كانت للجميع؟" [24-28]. يقول العلاّمة أوريجينوس: [يرجع خطأ كل الصدّوقيّين إلى عدم فهمهم لعبارات الأنبياء، كأن يقرأون في إشعياء: "لا يتعبون باطلاً ولا يلدون للرعب، لأنهم نسل مباركي الرب وذرّيتّهم معهم" (إش 65: 23)، وفي فصل البركة في التثنية: "ويبارك ثمرة بطنك" (تث 28: 4). فيعتقدون أن هذا يتحقّق عند القيامة دون أن يفهموا أنه يتنبأ عن البركة الروحيّة. فبولس "الإناء المختار" (أع 9: 15) يدرك تمامًا أن البركة المُشار إليها في الناموس لا تعني الجانب الجسداني، إنّما يفسرها بطريقة روحيّة، فيقول لأهل أفسس: "مبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحيّة في السمويّات" (أف 1: 3)... يسقط الصدّوقيّون في نفس الخطأ حين يقرأون في المزامير (بطريقة حرفيّة): "امرأتك مثل كرْمة مخصبة في جوانب بيتك، بنوك مثل غروس الزيتون حول مائدتك هكذا يُبارَك الرجل المتَّقي الرب" (مز 128: 3-4)... بينما الذين يفهمون العبارة عن أورشليم الروحيّة يُدركون أنها "أورشليم العُليا التي هي أُمِّنا جميعًا، فهي حرة" (غل 4: 26)، ويرون أن فيها تتحقّق هذه الخيرات الواردة في المزمور.] قدّموا للسيِّد المسيح القصة السابقة ظانِّين أنها لغز لا يمكن حلُّه، لكن السيِّد كعادته يستخدم حتى المقاومة كفرصة لتقديم المفاهيم الإيمانيّة السليمة. فقد انتهز السيِّد هذه الفرصة ليحدّثنا عن مفهوم الحياة الملكوتيّة العتيدة، مؤكِّدًا أنها لا تقوم على مفاهيم أرضيّة، ولا يرتبط فيها الأعضاء برباطات جسديّة، إذ يقول: "تضلُّون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوّة الله. لأنهم في القيامة لا يزوِّجون ولا يتزوَّجون، بل يكونون كملائكة الله في السماء. وأما من جهة قيامة الأموات، أفما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله القائل. أنا إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب، ليس الله إله أموات بل إله إحياء" [29-32]. لقد أجاب السيِّد سؤالهم من جانبين: من الجانب المنطقي، فإن الحياة الأبديّة هي حياة فائقة على مستوى ملائكي، ومن الجانب الكتابي أن الله إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب، إنّما هو إله أحياء لا إله أموات. في الحياة الأبديّة نمارس حياة ملائكيَّة فلا يوجد زواج. هنا يسترعي القدّيس يوحنا الذهبي الفم اِنتباهنا أنه ليس لأنهم لا يتزوَّجون هم ملائكة، وإنما لأنهم ملائكة فهم لا يتزوَّجون. لذلك فإن غايتنا - حتى بالنسبة للرهبان - أن ننعم بالحياة الملائكيّة لا عدم الزواج في ذاته. يقول القدّيس كيرلّس الكبير أن الصدّوقيّين بشرِّهم اقتربوا إلى السيِّد المسيح مخلّص الكل، الذي هو الحياة والقيامة (يو 11: 25)، وكانوا يسعون لإنكار القيامة حتى يفقدوا العالم كلّه الرجاء، وكان يمكن للسيِّد المسيح أن يؤكّد لهم القيامة من كتابات الأنبياء (هو 13: 14، إش 36: 19، مز 104: 29) لكنّه لم يدخل معهم في مناقشات كلاميّة، إنّما قدّم لهم تذوّقا جديدًا للقيامة، ملهبًا قلب مؤمنيه نحوها للتمتّع بالحياة الملائكيّة الفائقة. ربّما نتساءل: هل في السماء نتجاهل القرابات الجسديّة؟ يجيب القدّيس أغسطينوس: [لا يوجد في ملكوت السماوات قرابات زمنيّة من هذا النوع: "لأنه ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حرّ، ليس ذكر وأنثى" (غل 3: 28)، "بل المسيح الكل في الكل" (كو 3: 11)... لو سألنا مسيحيًّا صالحًا له زوجة، وقد يكون لديه أبناء منها عمَّا إذا كان يرغب في أن تكون له علاقة جسديّة بزوجته في ملكوت السماوات، فبالرغم من محبّته لزوجته في الحياة الحاضرة وارتباطه بها، سيجيب بلا تردّد رافضًا بشدة أن تكون علاقته بها في السماء علاقة جسديّة، لأنه يهتمّ بتلك الحياة التي فيها يلبس الفاسد عدم فساد، وهذا المائت عدم موت. هل لي أن أسأله مرّة أخرى، عمَّا إذا كان يرغب في أن تكون زوجته معه بعد القيامة هناك، حتى يكون لها ذلك التغيّر الملائكي الذي وعد به الرب القدّيسين، فإنه سيجيب بالإيجاب بشدَّة، قدر ما رفض بشدة في الحالة الأولى... وهذا ما ينطبق أيضًا على الأبوَّة والأمومة وبقيّة العلاقات الجسديّة... فهناك لا نقول لأحد "أبي" بل جميعنا نقول لله "أبانا"، ولا نقول لأحد "أمِّي"، بل نقول جميعنا لأورشليم السماويّة "أُمِّنا"، ولا نقول لأحد "أخي" بل يقول كل للآخر "أخانا". حقًا سيكون هناك زواج من جانبنا، إذ نتقدّم جميعًا كزوجة واحدة لذاك الذي خلَّصنا من نجاسة هذا العالم بسفك دمه.] ويجيب القدّيس جيروم قائلاً: [عندما يُقال: لا يزوَّجون لا يتزوِّجون يظهر أن التمايز الجنسي قد انتهى.] [حقًا سيكونون ممجّدين وينعمون بالسموّ الملائكي، لكنهم مع هذا يبقون بشريّين، فيبقى الرسول بولس وهو بولس ومريم هي مريم.] مرّة أخرى في حديثه ضدّ أتباع جوفنيانوس يقول: [إن كان الوعد لنا أن نكون كالملائكة، ولا يوجد بين الملائكة جنسان متمايزان، فإنّنا سنكون بلا تمايز جنسي كالملائكة. على أي الأحوال، فإنّنا إذ نقوم من الأموات نحمل الجنس الذي لنا لكننا لا نمارس وظيفة الجنس.] يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [إذ تنزع كل شهوة جسديّة ولا يكون فيهم موضع للملذّات الجسديّة. يشبهون الملائكة، مقدّمين خدمة روحيّة غير ماديّة، فيصيرون كأرواح مقدّسة، وفي نفس الوقت يحسبون مستحقِّين لمجد يتمتّع به الملائكة.] إن عدنا إلى القصة التي رواها الصدّوقيّون، فإنها ربّما تمثل قصَّة الكنيسة كلها. فالمرأة التي تحدّثوا عنها هي الكنيسة التي ارتبطت بعريسها الأبدي ليملأ قلبها، لكن من خلال واقعها الزمني الذي يُشار له بالرجال السبعة، لأن الزمن يُشار إليه برقم 7 (عدد أيام الأسبوع) ارتبطت بأعمال الناموس كرجل لها فظن اليهود أنهم أبرار، لكن يلزمهم أن يتقبّلوا العريس الأبدي إن ماتوا عن البِرّ الذاتي أو الأعمال البشريّة الزمنيّة الذاتيّة. هذه الكنيسة إذ تقوم لعريسها الأبدي تحمل الطبيعة الملائكيّة، ولا يقوى عليها الموت، فلا تحتاج إلى الزيجات الجسديّة بعد انقضاء الدهر. نحن في العالم نحتاج إلى الزواج بسبب موت الجسد، لكننا إذ نصير كالملائكة لا تدخل إلينا الخطيّة ولا نسقط تحت الموت، فلا حاجة إلى زواجٍ لإنجاب أجيال تالية عِوض الجيل القائم. 4. سؤاله عن الوصيّة العُظمى "وأما الفرّيسيّون فلما سمعوا أنه أبكَمَ الصدّوقيّين اجتمعوا معًا. وسأله واحد منهم وهو ناموسي ليجرّبه قائلاً: يا معلّم أيّة وصيّة هي العُظمى في الناموس؟ فقال له يسوع: تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هي الوصيّة الأولى والعُظمى. والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيّتين يتعلَّق الناموس كلّه والأنبياء" [34-40]. سمع الفرّيسيّون أنه أبكَمَ الصدّوقيّون. وقد ميّز العلاّمة أوريجينوس بين حالة البُكْم وحالة الصمت المقدّس. فقد أصيب الصدّوقيّون بالبُكْم كعلامة فشل، لم يجدوا بعد كلمة يمكنهم أن ينطقوا بها ضدّ الحق، أمّا الصمت المقدّس فهي حالة توقف إرادي عن الكلام مع الناس، لكي تنفرد النفس بالحديث مع الله. الصمت ليس علامة فشل وعجز بل انطلاق للنفس نحو الله تناجيه ويناجيها. v بهاء الحق يُسكت على الدوام صوت الباطل المرّ والمضر. v يصمت البار إذ يُعلّم أن للسكوت وقت وللكلام وقت (جا 3: 7)، لكنّه لا يصير أبكمًا. إنّما هذه سِمة خاصة بالصدّوقيّين - وكل من يُعلّم بالباطل، إذ هم يبكمون ولا يصمتون. فإنهم وإن كانوا بُكمًا عن الحق لكنهم غير صامتين، هكذا قال الرب للبحر وليس للإنسان أن يبكم، منتهرًا إيّاه إذ كان عاصفًا. العلاّمة أوريجينوس إذ سمع الفرّيسيّون أنه أبْكَم الصدّوقيّين اجتمعوا معًا، إذ شعروا بمهابة السيِّد المسيح وخشوا أن يلتقوا به فرادى، تقدّموا كجماعة... وعندئذ تقدّم فرّيسي ناموسي بمكر يجرّبه في الناموس ذاته، بسؤاله: "يا معلّم أيّة وصيّة هي العُظمى في الناموس؟" ربّما توقع الناموسي في السيِّد أن يميّز بين الوصايا الموسويّة فيكون بهذا قد احتقر الناموس، أو ربّما سمعوا عن موعظته التي ألقاها على الجبل مكملاً الناموس، فظنّوا أنه يجيب بأن الناموس ناقص، وأنه قد جاء ليكمّله، فيجدوا ما يشتكون به عليه. لكن السيِّد أجاب بحكمة وبالحق معلنًا أن الوصيّة الأولى والعظمة هي محبّة الله من كل القلب والنفس والذهن، وأن الوصيّة التاليّة ليست بأقل منها بل مثلها أن يحب الإنسان قريبه مثل نفسه. بهذه الإجابة المختصرة قدّم لنا السيِّد مفهوم الوصيّة بمنظار مسيحي، أن الوصايا وِحدة واحدة لا تنفصل عن بعضها البعض، فإن كان حبّنا لله بلا حدود هو أعظم الوصايا، فإن حبّنا لإخوتنا ليس بأقل منها، إذ لا يمكننا أن نحب الله غير المنظور خارج حبّنا لإخوتنا المنظورين. وبحبّنا لله والإنسان إنّما تكمل جميع الوصايا والأنبياء. هذا من جانب، ومن جانب آخر فقد أراد السيِّد تأكيد حقيقة هامة وهي أن الوصايا ليست موضوع بحث عقلي ومناقشات ومجادلات، وإنما هي حياة حب يعيشها الإنسان ويحياها. v هؤلاء وحدهم يتقبّلون داخلهم عظمة الوصيّة وأولويَّتها، ليس من يحبُّون الرب إلههم فحسب، إنّما يضعون في أنفسهم أن يحقّقوا هذا خلال شروط ثلاثة؛ أي بكل قلبهم يتمسَّكون في داخلهم بكمال هذا الحب وأفكاره وأعماله؛ وبكل نفسهم أي يكونون على استعداد أن يبذلوها من أجل الخدمة لله الذي خلق كل شيء، عندما يتطلّب ذلك نشر كلمته؛ فإن الله يُحَبْ من كل النفس عندما لا يُمسك أي جزء من النفس خارج حفظ الإيمان؛ ويحبّونه بكل الفكر، فلا يفكِّرون بشيء ولا ينطقون إلا في الإلهيّات. العلاّمة أوريجينوس v قريبي إنسان مثلي على صورة الله، يليق بي أن أُحبّه كما أُحِب نفسي... يلزمني أن أهتم به كما بجسدي ودمي، وأتعامل معه بالحب واللطف والحنو، غافرًا له أفكاره كما أغفر لنفسي أفكاري، وكما أشتاق إلى العفو من الآخرين عن ضعفاتي. الأب يوحنا من كرونستادت كيف يعتمد كل الناموس والأنبياء على هاتين الوصيّتين؟ v من يتمّم كل ما هو مكتوب بخصوص حب الله وحب القريب يستحق أن يتقبّل هبات الله العُليا، أوِّلها كلمة الحكمة خلال الروح القدس، خلالها تأتي كلمة المعرفة حسب نفس الروح (1 كو 12: 8). وإذ يتأهّل لكل هذه العطايا يفرح بحكمة الله ويمتلئ قلبه بحب الله، وتستنير نفسه بنور المعرفة وذهنه بكلمة الله. v من له المحبّة لن يفرح بالظلم، وإنما يفرح على الدوام بالحق. v من له المحبّة يحتمل كل التجارب بصبرٍ، ولا يكون له الإيمان جزئيًا بل الإيمان بكل شيء، ولا يكون رجاؤه جزئيًا بل يترجَّى كل شيء. ليس شيء لا تحتمله المحبّة. العلاّمة أوريجينوس 5. السيِّد يسألهم عن نفسه إن كان قادة الفكر اليهودي قد قاوموا الملكوت بكل الطريق، فإن السيِّد أفحمهم بكشفه عن حقيقة شخصه كرب داود، إذ سأل الفرّيسيّين: "ماذا تظنّون في المسيح، ابن من هو؟ قالوا له: ابن داود. قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح ربًا، قائلاً: قال الرب لربِّي اِجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك. فإن كان داود يدعوه ربًا، فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة" [42-46]. لم يستطع أحد أن يجيبه إذ كشف لهم أن المسيّا ابن داود إنّما هو ربُّه الذي يخضع مقاوموه تحت قدميه. وكأن السيِّد كان يُحذّرهم من المقاومة، إذ جاء ليُخلّص لا ليدين. إنه يفتح الباب لقبولهم حتى لا يوجدوا في يوم الرب العظيم كأعداء مقاومين. v المسيح هو ابن داود وربُّه. إنه رب داود على الدوام وابنه حسب الزمن... هو رب داود المولود من الآب، وابن داود المولود ابنًا للعذراء مريم الذي حُبل به منها بالروح القدس. فلنتمسَّك بكليهما بشدة... فلو لم يهبنا ربّنا يسوع المسيح أن يصير إنسانًا لهلك الإنسان. القدّيس أغسطينوس v الكلمة معنا بكونه الله وقد أخذ شكلنا ولم يحتقر بشريَّتنا المتواضعة حتى يخلّص من هم تحت السماء. القدّيس كيرلّس الكبير 1 و جعل يسوع يكلمهم ايضا بامثال قائلا 2 يشبه ملكوت السماوات انسانا ملكا صنع عرسا لابنه 3 و ارسل عبيده ليدعوا المدعوين الى العرس فلم يريدوا ان ياتوا 4 فارسل ايضا عبيدا اخرين قائلا قولوا للمدعوين هوذا غدائي اعددته ثيراني و مسمناتي قد ذبحت و كل شيء معد تعالوا الى العرس 5 و لكنهم تهاونوا و مضوا واحد الى حقله و اخر الى تجارته 6 و الباقون امسكوا عبيده و شتموهم و قتلوهم 7 فلما سمع الملك غضب و ارسل جنوده و اهلك اولئك القاتلين و احرق مدينتهم 8 ثم قال لعبيده اما العرس فمستعد و اما المدعوون فلم يكونوا مستحقين 9 فاذهبوا الى مفارق الطرق و كل من وجدتموه فادعوه الى العرس 10 فخرج اولئك العبيد الى الطرق و جمعوا كل الذين وجدوهم اشرارا و صالحين فامتلا العرس من المتكئين 11 فلما دخل الملك لينظر المتكئين راى هناك انسانا لم يكن لابسا لباس العرس 12 فقال له يا صاحب كيف دخلت الى هنا و ليس عليك لباس العرس فسكت 13 حينئذ قال الملك للخدام اربطوا رجليه و يديه و خذوه و اطرحوه في الظلمة الخارجية هناك يكون البكاء و صرير الاسنان 14 لان كثيرين يدعون و قليلين ينتخبون 15 حينئذ ذهب الفريسيون و تشاوروا لكي يصطادوه بكلمة 16 فارسلوا اليه تلاميذهم مع الهيرودسيين قائلين يا معلم نعلم انك صادق و تعلم طريق الله بالحق و لا تبالي باحد لانك لا تنظر الى وجوه الناس 17 فقل لنا ماذا تظن ايجوز ان تعطى جزية لقيصر ام لا 18 فعلم يسوع خبثهم و قال لماذا تجربونني يا مراؤون 19 اروني معاملة الجزية فقدموا له دينارا 20 فقال لهم لمن هذه الصورة و الكتابة 21 قالوا له لقيصر فقال لهم اعطوا اذا ما لقيصر لقيصر و ما لله لله 22 فلما سمعوا تعجبوا و تركوه و مضوا 23 في ذلك اليوم جاء اليه صدوقيون الذين يقولون ليس قيامة فسالوه 24 قائلين يا معلم قال موسى ان مات احد و ليس له اولاد يتزوج اخوه بامراته و يقم نسلا لاخيه 25 فكان عندنا سبعة اخوة و تزوج الاول و مات و اذ لم يكن له نسل ترك امراته لاخيه 26 و كذلك الثاني و الثالث الى السبعة 27 و اخر الكل ماتت المراة ايضا 28 ففي القيامة لمن من السبعة تكون زوجة فانها كانت للجميع 29 فاجاب يسوع و قال لهم تضلون اذ لا تعرفون الكتب و لا قوة الله 30 لانهم في القيامة لا يزوجون و لا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء 31 و اما من جهة قيامة الاموات افما قراتم ما قيل لكم من قبل الله القائل 32 انا اله ابراهيم و اله اسحق و اله يعقوب ليس الله اله اموات بل اله احياء 33 فلما سمع الجموع بهتوا من تعليمه 34 اما الفريسيون فلما سمعوا انه ابكم الصدوقيين اجتمعوا معا 35 و ساله واحد منهم و هو ناموسي ليجربه قائلا 36 يا معلم اية وصية هي العظمى في الناموس 37 فقال له يسوع تحب الرب الهك من كل قلبك و من كل نفسك و من كل فكرك 38 هذه هي الوصية الاولى و العظمى 39 و الثانية مثلها تحب قريبك كنفسك 40 بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله و الانبياء 41 و فيما كان الفريسيون مجتمعين سالهم يسوع 42 قائلا ماذا تظنون في المسيح ابن من هو قالوا له ابن داود 43 قال لهم فكيف يدعوه داود بالروح ربا قائلا 44 قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى اضع اعداءك موطئا لقدميك 45 فان كان داود يدعوه ربا فكيف يكون ابنه 46 فلم يستطع احد ان يجيبه بكلمة و من ذلك اليوم لم يجسر احد ان يساله بتة |
||||
17 - 07 - 2012, 07:16 AM | رقم المشاركة : ( 23 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير كامل لانجيل متى لابونا تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثالث والعشرون الويْلات لمقاومي الملكوت في الاصحاحات السابقة كشف معلّمنا متّى الإنجيلي عن دور الكتبة والفرّيسيّين والصدّوقيّين مع الهيرودسيّين في مقاومة ملكوت السموات، وقد حوّل السيِّد مقاومتهم إلى فرصة لتعليمهم مع الشعب عن المفاهيم الجديدة لملكوته. وإذ أصرّوا على مقاومتهم له سقطوا تحت الويْلات، ليس غضبًا منه عليهم، وإنما نتيجة طبيعيّة للمقاومة. فما أعلنه السيِّد من ويْلات هو ثمر طبيعي للحياة الشرّيرة التي قبلوها بإرادتهم. وقد أبرز السيِّد بحديثه ثمار تصرُّفاتهم لكي يعطيهم فرصة لمراجعة أنفسهم، وفي نفس الوقت يُحذِّر تلاميذه لئلا يسقطوا فيما سقط فيه هؤلاء المقاومين. 1. التعليم دون العمل 1-4. 2. طلب المتكآت الأولى 5-12. 3. ظُلم الآخرين مع ممارسة العبادة 13-14. 4. إعثار الدخلاء 15-16. 5. النظرة الماديّة في العبادة 17-22. 6. الحرفيّة في الوصيّة 23-24. 7. الشكليّة في العبادة 25-28. 8. مقاومة الحق تحت ستار الدين 29-36. 9. الحكم بالخراب الأبدي 37-39. 1. التعليم دون العمل "حينئذ خاطب يسوع الجموع وتلاميذه. قائلاً: على كرسي موسى جلس الكتبة والفرّيسيّون. فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فأحفظوه وإفعلوا، ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا، لأنهم يقولون ولا يفعلون" [1-3]. اضطّر السيِّد أن يُعلن الويُلات أمام الجموع والتلاميذ ليس تشهيرًا بالكتبة والفرّيسيّين، وإنما تحذيرًا لشعبه لئلاّ يُعثرهم هؤلاء بتصرُّفاتهم، وما هو أهم لئلاّ يسقط شعبه فيما سقطوا فيه. والعجيب أن الكتبة والفرّيسيّين صوبوا سهامهم ضدّ السيِّد المسيح، أمّا هو ففي لطف وعطف يقول: "كل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه واِعملوه"، وكأنه يحث الشعب على الخضوع لهم، لا من أجل سلوكهم، ولكن من أجل كرسي موسى الذي جلسوا عليه. لقد جلس الكتبة والفرّيسيّون على كرسي موسى، أي تسلّموا ناموسه، لكي يسجّلوه ويقرأوه ويفسروه، فما ينطقون به ليس من عنديَّاتهم، ولا هو ثمرة قلبهم الشرّير، وإنما هو ثمرة الكرسي الذي يجلسون عليه، أمّا أعمالهم فهي عظة مُرّة وقاتلة تحمل ثمار قلوبهم الدنسة. لهذا شجَّع السيِّد الشعب أن يسمعوا لهم فيما يصدر عن الكرسي لا ما ينبع عن قلوبهم. هذا هو حال كل خادم متكبّر يقدّم للآخرين كلمة الله، ليس من عندياته وإنما من الكتاب المقدّس، دون أن ينتفع هو به، وكما يقول عنه القدّيس أغسطينوس: [الخادم المتكبّر يُحسب مع الشيطان، أمّا عطيّة المسيح (كلمة الوعظ)، فلا تَفسد بل تفَيض نقيّة خلاله وتعبُر كالماء إلى أرض مخصبة، فيكون الخادم كقناة من الحَجر لا يقدر أن يقدّم ثمرًا بالمياه التي تعبر القناة الحجرية إلى أحواض الزهور في الحديقة. أنها لا تقدّم نموًا في داخلنا كقناة حجرية بل تهب ثمرًا كثيرًا في الحدائق.] ربّما يسأل أحدهم: كيف نحفظ ما يقوله هؤلاء الأشرار، مع أن السيِّد يقول في موضع آخر: "الإنسان الشرّير من الكنز الشرّير يُخرج الشرور، يا أولاد الأفاعي كيف تقدرون أن تتكلّموا بالصالحات وأنتم أشرّار؟" (مت12: 34-35)؟ يجيب القدّيس أغسطينوس، قائلاً: [يخرج الشرّير من عندياته ما هو شرّ... لأن قلبه شرّير... ولا يطلب السيِّد المسيح منّا طاعة الأشرار، لأن ما يخرجوه من كنز قلبهم الشرّير يختلف عمَّا ينطقون به وهم على كرسي موسى. مثال ذلك: في المحكمة ينطق الحاجب بما يقوله القاضي. فما ينطق به لا يُنسب إليه طالما يتّكلم في حضرة القاضي. ما ينطق به الحاجب في بيته يختلف عما ينطق به وهو في المحكمة، إذ ينطق هنا بما يسمعه من القاضي. فالحاجب ينطق بالعقوبة، أراد أو لم يرد، حتى لو كانت العقوبة موجّهة ضدّ صديق له. وينطق أيضًا بالبراءة، شاء أو لم يشأ، ولو كانت لصالح عدوّ له. فلو نطق الحاجب بحسب ما في قلبه لأعطى براءة لصديقه وعاقب عدوّه، لكنّه إذ يتكلَّم من كرسي الحُكم قد يعاقب صديقه ويبرِّئ عدوّه. هكذا بالنسبة للكتبة أيضًا، فلو أنهم تحدّثوا بحسب ما في قلوبهم لسمعتم قولهم: "لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت" (إش 22: 13)، أمّا إذا تكلّموا من على كرسي موسى فيقولون: "لا تقتل، لا تزن، لا تسرق...". إذن لنعمل حسب ما يُعلنه الكرسي الرسمي على فم الكنيسة، لا ما تتفوَّه به قلوبهم. لذلك ينبغي عليك ألا تضطرب عندما تسمع قول الرب: "كل شجرة تُعرف من ثمارها، هل يجتنون من الشوك عنبًا ؟ أو من الحَسَكِ تينًا؟" (لو 6: 44؛ مت 7: 16)... لكن أحيانًا تتشابك كروم العنب بين الحَسَك. لذلك عندما تسمع "الشوك" لا تتجاهل التفكير في العنب، إنّما اِبحث فتجد جذور الأشواك، وعليك أن تميِّزها من بين جذور الكرْم، وأعلم أن إحداها تُشير إلى قلب الكتبة والفرّيسيّين، والأخرى تُشير إلى كرسي موسى.] حقًا لنقبل كلمات الخدّام ولا نمتثَّل بضعفاتهم أو شرورهم، كما لا ندين تصرفاتهم. هذا من جانبنا، أمّا من جانب الخدّام فيليق بهم أن يهتمّوا أن تكون أعمالهم ختمًا لكلماتهم، حتى لا تتحوّل عظاتهم وتوجيهاتهم إلى "فلسفة نظريّة". لهذا يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [ما أسوأ أن نكون فلاسفة في الكلمات لا في الأعمال.] يقول السيِّد: "فإنهم يحزمون أحمالاً ثقيلة عسرة الحَمل، ويضعونها على أكتاف الناس وهم لا يريدون أن يحرّكوها بإصبعهم" [4]. الوصيّة في ذاتها ليست مستحيلة ولا ثقيلة، وإنما إذ تصدر عن معلّمين لا يجاهدون فيها يجدها الشعب حِملاً ثقيلاً عسر الحمل، قد حزمها المعلّمون، لا ليحملوها مع الشعب، وإنما ليثقِّلوا بها كاهل الآخرين، أمّا هم فلا يفكِّرون حتى في مجرّد تحريكها بإصبعهم. وعلى العكس فإن ذات الوصيّة إذ يقدّمها معلّمون مختبِرون ومجاهِدون يفرح بها الشعب ويتسابقون على حِملها معهم. هذا ما فعله السيِّد المسيح نفسه، فإنه إذ رأى البشريّة تتسابق على الكراسي فيحزمون لإخوتهم أحمالاً ثقيلة وهم لا يريدون أن يحرّكوها بإصبعهم، إذا به يترك كرسي مجده لينزل وسط شعبه يحمل أثقالنا ويكمّل الناموس عنّا، فيصير النير هيّنًا والحمل خفيفًا. 2. طلب المتكآت الأولى بينما ترك هؤلاء المراءون الوصايا الإلهيّة لغيرهم اِمتدّت يدهم للعمل لا في تنفيذ الوصيّة وإنما في المظهريَّة التي يراها الناس، وكما يقول السيِّد المسيح: "وكل أعمالهم يعملونها لكي تنظرهم الناس، فيُعرِّضون عصائبهم ويُغطّون أهداب ثيابهم" [5]. ما هي هذه العصابة العريضة التي تغطِّي رؤوسهم، وأهداب الثياب الثمينة التي تغطي أخمص أقدّامهم، إلا الاهتمام بالمظهريّة في كل حياتهم من شعر رؤوسهم حتى أخمص القدمين، يطلبون الزينة الخارجيّة الثمينة التي تخفي حياة داخليّة فارغة بلا عمل ونفس فقدت حياتها! ينشغل المُرائي بالعِصابة الجميلة والعريضة التي تغطِّي رأسه وذهنه، فلا يفكّر في أمور حياته الداخليّة ولا في خلاص نفسه، فلا يمكن أن يرتفع بذهنه إلى السماويات، إنّما يبقى منشغلاً بالجمال الزمني والمديح الباطل. أمّا الأهداب الذهبية الثمينة فإنها تشل حركة قدميه فيقف جامدًا أسير نظرة الناس، لا يقدر أن يتحرّك في الطريق الكرب المؤدي إلى الملكوت. إنه يخاف على أهداب ثوبه من طريق الملكوت! يقول القدّيس جيروم: [كل إنسان يسلك لكي ينظره الناس هو كاتب وفرّيسي... ويل لنا نحن البائسين ورثة رذائل الفرّيسيّين. عندما أعطى الله شريعته لموسى وأوصى "اربطها علامة على يدك، ولتكن عصائب بين يديك" (تث 6: 8). وهذا هو المعنى: لتكن تعاليمي على يدك لتتأمّلها نهارًا وليلاً؛ لكن الفرّيسيّين فسّروا الوصيّة حرفيًا فكانوا يكتبون الوصايا العشرة على أربطة صغيرة من الجلد ويطوُونها ويربطونها على رؤوسهم ليحملوها كل يوم أمام الناس. هذه العادة نشاهدها في أيامنا هذه عند الهنود والبابليّين الذين يحملون هذا التاج ليعبروا به أمام الناس... وكانت هذه الأربطة تسمى Phylatères، وهي كلمة مأخوذة عن اليونانيّة تعني "حماية". وحسب مفهومهم أن من يحملها يقتني حماية خاصة. هكذا لم يفهم الفرّيسيّون أنه يجب حمل الوصايا في القلب وإنما على الجسد. هذا وكانت خزائنهم وصناديقهم مملوءة كتبًا ولكن ليس لهم معرفة الله.] لا يمس الرياء مظهر ثيابهم فحسب، وإنما يبتلع كل حياتهم، فيطلبون الكرامة البشريّة أينما وُجدوا، إن دُعوا كمجاملين في الولائم أو كقادةٍ في المجامع أو حتى إن ساروا في الأسواق، إذ يقول السيِّد: ويحبُّون المتكأ الأول في الولائم، والمجالس الأولى في المجامع، والتحيَّات في الأسواق، وأن يدعوهم الناس: سيِّدي، سيِّدي" [6-7]. إذ يسحب الرياء قلب المعلّم من أعماقه الداخليّة ليلهيه في العصابة التي يغطي بها رأسه وأهداب ثوبه، تبقى حياته الداخليّة في فراغٍ شديدٍ، فلا يقدر أن يطلب ما يخصّ حياته أو حياة إخوته، إنما يطلب ما هو لمجده الباطل. فإن دُعي في وليمة بدلاً من مشاركته الآخرين أفراحهم أو آلامهم بالحب الداخلي العملي يتسابق على المتكأ الأول. وإن جلس في مجمع لا يهتمّ بتقديم ما هو للبنيان، إنّما يطلب المجلس الأول. وإن نزل إلى الأسواق، لا يلتقي مع الشعب كواحدٍ منهم، بل يطلب التحيَّات والألقاب ليسمعهم يخاطبونه: "سيِّدي، سيِّدي". هذا كلّه دعا المعلّم الأعظم ربّنا يسوع المسيح أن يدخل في بدء خدمته وليمة عرس مُحتلاً الموضع الأخير لكي يخدمهم، مقدّمًا لهم خمر محبّته الفائق عِوض أجران مياه قلوبهم الباردة. وفي المجامع لم يحتل المجلس الأول إنّما بتواضعه كان يسحب الجماهير إلى التمتّع بالحق. لقد نزل إلى الأسواق في تواضع ليحل بين الشعب كواحدٍ منهم، يحملهم على كتفيه بكونهم خرافه الناطقة المريضة؛ يحتضنهم بالحب لينطلق بهم إلى السماويات. يكمّل السيِّد المسيح حديثه الخاص برفض الكرامات الزمنيّة، قائلاً: "وأما أنتم فلا تدعوا سيِّدي، لأن معلّمكم المسيح، وأنتم جميعًا إخوة. ولا تدعوا لكم أبًا على الأرض، لأن أباكم واحد الذي في السماوات. ولا تدعوا معلّمين، لأن معلّمكم واحد المسيح. وأكبركم خادمًا لكم، فمن يرفع نفسه يتّضع، ومن يضع نفسه يرتفع" [8-11]. هل يريد السيِّد المسيح منّا مجرّد إلغاء الألقاب "سيِّدي وأبي ومعلّمي" بالنسبة للأشخاص الروحيِّين؟ يقول السيِّد المسيح "لا تدعوا لكم أبًا على الأرض"، وكأنه أراد أن ينزع عنّا نظرتنا للقادة الروحيّين كآباء "على الأرض" أي حسب الجسد الترابي. فإن السيِّد المسيح إذ نزل إلينا على أرضنا حاملاً طبيعتنا، إنّما يريد أن تكون بصيرتنا منفتحة نحو السماء لا الأرض، وعلاقتنا بالجميع، وخاصة القادة الروحيّين، لا ترتبط بالأرض بل بالسماء، نتمتّع بهم في المسيح يسوع ربّنا، فلا نعرف لنا سادة أو آباء أو معلّمين أرضيِّين جسديّين خارج المسيح، إنّما نعرفهم كروحيّين فيه. ففي الوقت الذي فيه يقول السيِّد "لا تدعوا لكم أبًا على الأرض" يقول الرسول: "لأنه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح لكن ليس آباء كثيرين، لأني أنا ولدتكم في المسيح بالإنجيل" (1 كو 4: 15). إنه يعتزّ بأبوَّته لهم، لأنها "في المسيح بالإنجيل". مرّة أخرى لا يُحسب الرسول كاسرًا للوصيّة الإلهيّة حينما يعتزّ بدعوة أنسيموس ابنًا روحيًا له، إذ يقول:"أطلب إليك لأجل ابني أنسيموس الذي ولدته في قيودي... الذي هو أحشائي" (فل 10، 12). وبقوة الروح يدعو القدّيس يوحنا شعبه "يا أولادي" (1 يو 2: 1؛ 3 يو 4). خارج المسيح يفقد الكاهن أبوّته الروحيّة، وتصير دعوته أبًا اغتصابًا، أمّا في المسيح فيحمل أبوة الله لأولاده، مختفيًا وراء الله نفسه، فيقدّم لهم ما هو لله لا ما هو لذاته. وما قلناه عن الأبوة نكرّره بخصوص دعوة القادة الروحيّين "معلّمين"، فقد حذَّرنا السيِّد: "لا تدعوا معلّمين لأن معلّمكم واحد المسيح"، لا لنفهمها حرفيًا، وإنما لكي لا نقبل من إنسانٍ تعليمه الذاتي، فلا ندعوه معلّمًا مباشرًا لنا، وإنما نقبله فقط متى جاءنا مختفيًا في تعليم المسيح الحق، فلا يُعلّم من عنديَّاته بل يُعلن كلمة المسيح وإنجيله وشهادته وحياته. لهذا يقول السيِّد نفسه لتلاميذه: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم... وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (مت 28: 20). أعطاهم حق التعليم بقوله: "علّموهم" فيُدعون معلّمين لكن لا يعلِّمون خارج المسيح بل "جميع ما أوصيتكم به"، خلال حلوله فيهم "ها أنا معكم". إنهم معلّمون حقيقيُّون ماداموا يعملون لحساب السيِّد وباسمه، وليس لحسابهم الخاص ومن عنديّاتهم. لا يُحسب كسرًا للوصيّة أن يؤكّد الرسل وجود معلّمين في الكنيسة ماداموا مختفين في الرب. يقول الرسول: "أم المعلّم ففي التعليم" (رو 12: 7)، ويلقب نفسه معلّمًا: "الذي جُعلت أنا له كارزًا ورسولاً ومعلّما للأمم" (2 تي 1: 11). هكذا أيضًا بالنسبة لدعوة الآخرين "سيِّدي"، فمن جهة وجود سادة لوجود فوارق طبقيّة وُجدت في ذلك الحين، فإن الرسل وضعوا بروح الإنجيل وبوحي الروح القدس وصايا للسادة والعبيد لا لتأكيد الفوارق وإنما للشهادة للحق، وإعلان روح الأخوة عند السادة نحو العبيد وروح الخضوع لدى العبيد نحو سادتهم لكن في الرب. وفي هذا كلّه يتصرَّف الجميع خلال منظار السيِّد المسيح (أف 6: 5-9، كو 3: 22، 1 بط 2: 18). خلال هذا الروح أمكن للبشريّة أن تحطِّم الرقيق ويتقبّل الناس بعضهم البعض إخوة، أعضاء لبعضهم البعض. أمّا بالنسبة للقادة الروحيّين فقد أراد السيِّد المسيح ألا يعطي لهم سلطان على الشعب اللهمّ إلا في الرب بالروح القدس. فالرسول بولس إذ يكتب إلى القدّيس فليمون يقول له بسلطان ولكن في الرب: "وإن كان لي بالمسيح ثقة كثيرة أن آمرك بما يليق، من أجل المحبّة أطلب.. حتى لا أقول أنك مديون لي بنفسك أيضًا" (فل 8-9، 19)... إنه سيّد له أن يأمر، لكنّه يسأل خلال المحبّة. لم يتحرَّج الرسولان بولس وسيلا حين قال سجّان فيلبي لهما: "يا سيّديَّ ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص؟" (أع 16: 30)، إذ لم يكن هذا اللقب تملقًا... إنّما إدراكًا لسلطانهما في الرب. أمّا الرسولان فلم يهتمّا باللقب، وإنما بخلاص الرجل وأهل بيته. عندما يسود روح "الحياة الروحيّة الملتهبة" لا يكون للألقاب خطورتها على حياة الراعي، لأن شوقه لخلاص كل نفس يملأ قلبه، فلا يجد الرياء أو الكبرياء موضعًا فيه. في اختصار نقول أن السيِّد المسيح لم يقصد إلغاء الألقاب بمفهوم حرفي قاتل، لكنّه أراد أن نلتقي بالقادة الروحيّين خلاله شخصيًا، نقبلهم فيه كروحيّين سمائيّين، ولا نرتبط بهم خلال التملق والمجاملات. لهذا يكمِّل: "وأكبركم يكون خادمًا لكم، فمن يرفع نفسه يتّضع ومن يضع نفسه يرتفع" [11-12]. الخطورة أن يسعى القادة إلى العظمة عِوض الخدمة، فيرتفعون بأنفسهم ليسقطوا، أمّا القائد المتّواضع فإن الألقاب لا تزيده إلا شعورًا بالانسحاق وإحساسًا بالمسئوليّة واتّساعًا لقلبه لخدمة الجميع من أجل الرب لا الناس. يقول القدّيس جيروم: [هناك فارق كبير بين دعوة إنسان كأبٍ أو معلّمٍ بالطبيعة وبين أن يكون ذلك للمجاملة. عندما ندعو إنسانًا أبًا يكون في ذلك إكرام وتوقير من أجل سنّه. وعندما ندعوه معلّما بكونه يشترك مع المعلّم الحقيقي.] 3. ظلم الآخرين مع ممارسة العبادة يمتد الرياء لا ليسحب الخادم إلى الأمجاد الزمنيّة الباطلة فحسب، وإنما ليظلم الأرامل والمحتاجين من أجل إشباع نفسه، مغطِّيًا تصرفاته هذه بشكليِّات من العبادة وإطالة في الصلوات. "لكن ويل لكم أيها الكتبة والفرّيسيّون المراءون، لأنكم تغلقون ملكوت السماوات قدام الناس، فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون. ويل لكم أيها الكتبة والفرّيسيّون المراءون، لأنكم تأكلون بيوت الأرامل ولِعلّه تُطيلون صلواتكم، لذلك تأخذون دينونة أعظم" [13-14]. هكذا إذ تتضخَّم الأنا ego لا يطلب الراعي الكرامات فحسب، وإنما يجري وراء الماديَّات على حساب شعبه فيمتلئ، ولا يقدر أن يدخل طريق الملكوت الكرب خلال الباب الضيِّق، بل يقف خارجًا ليسد الطريق أمام الآخرين، فيتعثّر ويُعثِر. وكما قال النبي: "وكما يكمن لصوص لإنسان كذلك زمرة الكهنة في الطريق يقتلون نحو شكيم" (هو 6: 9). يقول القدّيس جيروم: [على أي الأحوال المعلّم الذي يُعثِر تلاميذه بأعماله الرديئة يغلق ملكوت السماوات أمامهم.] 4. إعثار الدخلاء "ويل لكم أيها الكتبة والفرّيسيّون المراءون، لأنكم تطوفون البحر والبرّ لتكسبوا دخيلاً واحدًا، ومتى حصل تصنعونه ابنًا لجهنم أكثر منكم مضاعفًا" [15]. يبذل المرائي الكثير محتملاً مشقَّات السفر والحرمان ليكسب دخيلاً واحدًا، لكنّه إذ يدخل به إلى الإيمان يكتشف الدخيل فيه رياءه، فيتحطَّم إيمانه فيه. إنه يدرك عن قرب ثوب معلّمه المزيف، فلا يعود ينظر إلى كلماته، بل يتطلّع إلى أعماله الخفيّة الشرّيرة، فيترك الإيمان بلا رجعة، إذ لا يعود يفتح باب قلبه لكارزٍ آخر يشهد له عن الإيمان، حتى وإن كان الأخير رجلاً مباركًا، فإن الخبرة الأولى قد حطَّمت الدخيل. وربّما يسلك الدخيل طريقًا آخر، فإنه وإن كان لا يرتدّ عن الإيمان علنًا، لكنّه يرتدّ بسلوكه العملي، إذ يشرب من معلّمه مياه الرياء ليسلك بروحه وربّما بصورة أشد، وفي الحالتين يزج المرائي بالدخيل إلى نيران الظلمة الأبديّة. ويُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على العبارة السابقة، قائلاً: [هنا يصدر الاتهام في أمرين: الأول عدم نفعهم في خلاص الكثيرين إذ يحتاجون إلى أتعاب كثيرة ليربحوا شخصًا واحدًا، والثاني الإهمال في حفظ من كسبوه. فإنهم ليس فقط يتَّسِمون بالإهمال بل والخيانة، إذ يفسدونه بحياتهم الشرّيرة ويجعلونه أشرّ منهم فلا يقف (الدخيل) عند شرّ معلّمه. فإنه إن رأى معلّمه إنسانًا فاضلاً يتمثل به، أمّا إن رآه شريرًا فيتعدَّاه في الشرّ بسبب الميل الطبيعي للإنسان نحو الشرّ.] وكما يقول القدّيس جيروم: [كانوا يجتهدون ليصنعوا دخيلاً واحدًا من الشرفاء، يضمّونه إلى شعب الله... لكنّه إذ كان ينظر إلى معلّميه فيُدرك أن أعمالهم تهدم تعاليمهم يرجع إلى قيئه، وبعودته أمميًا يُحسب جاحدًا فيستحق عقابًا أشد ممّا كان عليه قبل قبوله الإيمان.] 5. النظرة الماديّة في العبادة يفسد الرياء المعلّمين فعِوض أن يحكموا روحيًا حتى في الأمور الماديّة، إذا بهم يحكموا بمنظار مادي حتى في الروحيّات. فيرون في ذهب الهيكل أنه أفضل من الهيكل، والقربان أثمن من المذبح، فمن يُقسِم بذهب الهيكل أو القربان يلتزم بالقسَم أو من يقسِم بالهيكل نفسه أو المذبح فليس بشيءٍ. هكذا إذ تَظْلَمْ البصيرة الداخليّة ويصيبها العمى تنجذب النفس إلى المقدّسات لتطلب الماديَّات فحسب. يرى القدّيس جيروم: [أنهم يسلكون لا بمخافة الله بل بالرغبة في الغنى]، فالذي يحلف بالذهب أو القربان يلتزم بدفع الذهب وتقديم القربان الأمر الذي ينتفع منه الكهنة، لكن من يحلف بالهيكل أو المذبح ويحنث بالقسم فلا يشغل قلبه في شيءٍ. 6. حرفيُّون في الوصيّة بلا روح يظهرون في تنفيذ الوصيّة كمدقِّقين للغاية، فيُعشِّرون النِعناع والشبَت والكمُّون الخ. الأمور التي ربّما تُزرع بكميَّات قليلة جدًا في المنازل للاستعمال الشخصي، لكنهم يتركون أثقل الناموس: "الحق والرحمة والإيمان". من أجل المظهر يتمِّمون الأمور التافهة تحت ستار التدقيق، أمّا جوهر الوصيّة الخفي فلا يمسُّونه. يحملون في قلوبهم الكراهيّة والبُغضة والحسد، ويتخلُّون عن الحق والرحمة والإيمان. لكنهم يظهرون كمُحبِّي الحق والمدافعين عنه، أنقياء لا يظلمون أحدًا وأطهارًا، فيُصفُّون عن البعوضة، مع أنهم في الداخل يبلعون الجمل، وكما يقول السيِّد: "أيها القادة العميان الذي يُصفّون عن البعوضة ويبلعون الجمل" [24]. يرى القدّيس جيروم في ذلك جشع للقادة اليهود فإنهم يهتمّون بالعشور حتى بالنسبة للخضروات ذات القيمة البسيطة لأنها تدخل إلى بيوتهم، أمّا الوصايا الخاصة بالرحمة تجاه الفقراء والأرامل والأيتام ومحبّة الله فيتهاونون فيها. وكما يقول القدّيس كيرلّس الكبير: إنهم يدقّقون في الوصيّة التي تحقّق هدفهم المادي وجشعهم ويتهاونون في الوصيّة التي تمسّ علاقتهم مع الله وحياتهم الروحيّة، مع أن كسر أيّة وصيّة إنّما هو كسر للناموس كله. إذ يقول: "عصيان وصيّة واحدة هو عصيان للناموس" (يع 2: 10)، إذ يجعله بلا ناموس. فإن تجاهل أحد هذه الوصايا خاصة الهامة منها، فأيّة كلمات يجدها قادرة أن تُخلِّصه من العقوبة التي يستحقَّها؟! هذا ما اِستحقَّه الفرّيسيّون من توبيخات قاسية إذ حَكم عليهم الرب: "ويل لكم أيها الفرّيسيّون لأنكم تُعشِّرون النَعنع والسَذاب وكل بَقْل وتتجاوزون الحق ومحبّة الله" (لو 11: 42). فإذ هم طامعون أكثر من غيرهم ومشغوفون بالربح القبيح أمروا بضرورة ملاحظة شريعة العشور بدقّة وحرفيّة حتى لا يحذفوا من حساباتهم أقل الأمور والبقول التي بلا ثمن، بينما يتجاهلون ما كان يجب مراعاته من وصايا هامة أعطيت بواسطة موسى مثل الحق الذي يحقّق العدالة في الحكم ومحبّة الله. لقد وبَّخهم الروح بصوت داود: "الله قائم في مجمع الآلهة يقضي وسط الآلهة، حتى متى تقضون جورًا، وترفعون وجوه الأشرار؟!" (مز 82: 1). كما اتَّهمهم على لسان إشعياء: كيف صارت المدينة الأمينة صهيون زانية، ملآنة حقًا كان العدل يبيت فيها وأما الآن فقاتلون؛ صارت فضتك زَغْلاً، ويخلِط تُجَّارك الخمر بالماء، رؤساؤك متمرِّدون وشركاء اللصوص، كل واحد منهم يحب الرشوة ويتبع العطايا، لا يقضون لليتيم ودعوى الأرملة لا تصل إليهم. فإن القضاء بالجور ليس من عمل محبِّي الإخوة. ويُعلّق القدّيس أمبروسيوس على دعوة الفرّيسيّين "عميانًا" موضّحًا أنهم بلا عذر فقد رأوا السيِّد المسيح لكن حسب الجسد ببصيرة روحيّة عمياء، إذ أظْلم الرياء وحرفيّة العبادة قلوبهم، قائلاً: [لم يبصِره اليهود مع أنهم رأوه.] غير أن رجال الإيمان من أسلافهم لم يروا الرب بالجسد، لكنهم عاينوه روحيًا، إذ لهم البصيرة المستنيرة، لهذا يقول الكتاب أن الشعب كان يرى صوت الله (خر 2: 18). ويُعلّق القدّيس، قائلاً: [من الواضح أن الصوت يُسمع ولا يُرى، فما الصوت إلا موجات تسمعها الأذن ولا تراها الأعين. هذه فكرة عميقة دفعت موسى ليؤكّد أن الإنسان يرى صوت الرب، يراه داخل القلب حيث يشخص إليه بعينيّه (الداخليّتين)... رآه إبراهيم كما هو مكتوب: "إبراهيم تهلّل بأن يرى يومي" (يو 8: 56).. رأى الرب مع أنه بالتأكيد لم ينظره بالجسد... الذين صرخوا: أصلبه، أصلبه، لم يروه، "لأنهم لو عرفوا رب المجد لما صلبوه" (1 كو 2: 8).] 7. شكليُّون في العبادة بلا حياة من أجل الناس يظهرون كمدقِّقين، ليس فقط في تنفيذ الوصيّة، وإنما في الطقس أيضًا، فيهتمّون جدًا بنقاوة الكأس والصحفة من الخارج، ولا يبالون بما يحملونه في الداخل غير المنظور، فصاروا أشبه بالقبور الجميلة المبْيَّضة من الخارج ومن الداخل مملوءة نتانة وكل نجاسة. حقًا ما أخطر أن يهتمّ الإنسان بشكليّات العبادة الخارجيّة دون أن يلتقي بالسيِّد المسيح نفسه جوهر عبادتنا وسرّ حياتنا، فتصير العبادة ليست كأسًا للخلاص، وإنما يحمل موتًا للنفس وضيقًا للجسد. وتتحوّل حياة الإنسان إلى قبر جميل من الخارج ينعته الناس بالجمال الروحي والنقاوة، إذ هو مبيَضّ بينما في داخله يحمل نفسًا ميّتة ونجاسة، وإذ لا يجد السيِّد المسيح فيها له مسكنًا. وكما يقول القدّيس جيروم: [كما أن القدّيس هو هيكل الله، هكذا الخاطي يُقيم من نفسه قبرًا.] 8. مقاومون للحق تحت ستار الدين إذًا يهتمّ الكتبة والفرّيسيّون ببناء قبور الأنبياء ويزيِّنون مدافن الصدِّيقين، فإنهم بهذا العمل إنّما يشهدون عما فعله آباؤهم بالأنبياء والصدِّيقين، إذ قاوموهم وقتلوهم. وها هم يكمِّلون مكيال آبائهم مدبِّرين المؤامرات لقتل السيِّد المسيح نفسه. يخاطبهم القدّيس جيروم على لسان السيِّد المسيح، قائلاً: [املأوا بدوركم مكيال آبائكم، فما لم يحقّقوه هم أكملوه أنتم؛ هم قتلوا الخدّام، وأنتم تصلبون المعلّم. هم قتلوا الأنبياء وأنتم تصلبون ذاك الذي تنبَّأ عنه الأنبياء.] هكذا يدفع الرياء الإنسان من عمل شرير إلى آخر حتى ينتهي بمقاومة الحق تمامًا، مقدّمين دم الأبرياء ثمنًا رخيصًا في أعينهم، إنه يُحذّرهم من هذا المرض الخبيث الذي هو الرياء، الذي دخل بهم إلى دوَّامة المظهر الباطل والكرامة الزمنيّة ليعبر بهم إلى اغتصاب حقوق الأرامل، متستّرين تحت لواء الكرازة، فيدخلون بالدخلاء إلى نار جهنّم، وتحت ستار الوصيّة يقدّمون ما هو ظاهر، ويكسرون جوهرها. هكذا يلتحفون بشكليَّات العبادة، فيحكمون على أنفسهم بالموت، متستِّرين بقبر أجسادهم، وأخيرًا ها هم يدبِّرون المؤامرات لقتل ابن الله الوحيد ثمنًا للحفاظ على كراسيهم وسلطانهم وكرامتهم، تحت ستار الدفاع عن مجد الله والناموس والأنبياء. "أيها الحيّات أولاد الأفاعي،كيف تهربون من دينونة جهنّم؟ لذلك هأنذا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة، فمنهم تَقتلون وتَصلبون، ومنهم تَجلدون في مجامعكم، وتَطردون من مدينة إلى مدينة. لكي يأتي عليكم كل دم زكي سُفك على الأرض، من دم هابيل الصدِّيق إلى دم زكريّا بن برخبا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح" [33-35]. من هو زكريّا بن برخيا؟ يرى القدّيس جيروم أنه وجد في عصره ثلاثة آراء: 1. زكريّا النبي أحد الأنبياء الصغار، وإن كان اسم أبيه مطابقًا لكلمات السيِّد، لكن لم يذكر الكتاب شيئًا عن سفك دمه بين الهيكل والمذبح، خاصة وأن الهيكل في عصره كان مجرّد حطام. 2. زكريّا أب يوحنا المعمدان، قُتل بسبب نبوّته عن مجيء المخلّص، لكن القدّيس جيروم لا يقبل هذا الرأي. 3. زكريّا الذي قتله يوآش ملك يهوذا كما جاء في أخبار الأيام الثاني (24: 21)، لكن اسم أبيه كما جاء في الكتاب المقدّس هو يهوياداع. ويرى القدّيس جيروم أن برخيا تعني "بركة" أو "مبارك من الرب"، ويهوياداع تعني "قداسة"، وإن الشخص يحمل الاسمين، لذلك يحبذ القدّيس جيروم هذا الرأي. 9. الحكم بالخراب الأبدي إذ تظاهروا بالغيرة على مجد الله والهيكل والناموس والأنبياء، متطلّعين إلى السيِّد كمقاومٍ لهذه جميعها، دفعوا أنفسهم مع الشعب إلى الخراب الأبدي بتشويههم للحق، فيحملون ثمر أعمالهم وأعمال آبائهم. "الحق أقول لكم أن هذا كلّه يأتي على هذا الجيل. يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء والمرسلين إليها، كم مرّة أردتُ أن أجمع أولادك، كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا. هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا. لأني أقول لكم أنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب" [36-39]. لقد بكى السيِّد على أورشليم عندما اقترب منها، وهو يقول: "إنك لو علمتِ أنتِ أيضًا حتى في يومك هذا ما هو لسلامك، ولكن الآن قد أُخفيَ عن عينيّك، فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة، ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة، ويهدمونك وبنيك فيك، ولا يتركون فيك حجرًا على حجر، لأنك لا تعرفي زمان افتقادك" (لو 19: 42-44). ويبقى السيِّد المسيح يبكي على كل نفس قبلته كأورشليم وصارت هيكلاً له ثم عادت فتنجَّست وقاومته. يقول العلاّمة أوريجينوس: [في الحقيقة نحن أورشليم التي بكاها يسوع... فبعد أن عرفنا أسرار الحق وكلمات الإنجيل وتعاليم الكنيسة، وبعد أن رأينا أسرار الرب نخطئ!... بكى على أورشليمنا فبسبب خطيّتها، إذ يحاصرها الأعداء، ويهدمون بنيها فيها، ولا يتركون فيها حجرًا على حجر. هذا ما يحدث الآن، فبعد أن يعيش إنسان في نسك كامل لسنين ينهزم أمام جاذبيَّة الجسد، ولا يقدر أن يحتمل مستلزمات الطهارة، فيتدنّس الإنسان ويعيش في عدم طهارة، وكأنه لا يُترك فيه حجر على حجر. وفي موضع آخر نقرأ: "كل بِرِّه الذي عمله لا يُذكر، في خيانته التي خانها وفي خطيّته التي أخطأ بها يموت" (خر 18: 14). هذه هي أورشليم التي يُبكى عليها.] ويقول القدّيس كيرلّس الكبير: [ها أنت ترى أنه بالحقيقة غالبًا ما يطلب أن يمنحهم رحمته لكنهم رفضوا معونته، لذلك أدانهم قانون الله المقدّس، ونزعهم عن عضويَّة بيته الروحي.] ويقول القدّيس جيروم: [أتيت كالدجاجة لأحميهم، لكنهم استقبلوني بالكراهيّة والغدر. جئت كأم وهم ظنّوا إني قاتلهم فقتلوني.] ويرى القدّيس أغسطينوس أن السيِّد شبَّه نفسه بالدجاجة، لأنها إذ تحتضن بيضها أو يكون لها صغار يضعف جسمها جدًا ويسقط ريشها لاهتمامها بصغارها. وكأن في ذلك رمز لعمل السيِّد المسيح الذي نزل إلينا يحمل ضعفنا بحبّه ورعايته الإلهيّة. 1 حينئذ خاطب يسوع الجموع و تلاميذه 2 قائلا على كرسي موسى جلس الكتبة و الفريسيون 3 فكل ما قالوا لكم ان تحفظوه فاحفظوه و افعلوه و لكن حسب اعمالهم لا تعملوا لانهم يقولون و لا يفعلون 4 فانهم يحزمون احمالا ثقيلة عسرة الحمل و يضعونها على اكتاف الناس و هم لا يريدون ان يحركوها باصبعهم 5 و كل اعمالهم يعملونها لكي تنظرهم الناس فيعرضون عصائبهم و يعظمون اهداب ثيابهم 6 و يحبون المتكا الاول في الولائم و المجالس الاولى في المجامع 7 و التحيات في الاسواق و ان يدعوهم الناس سيدي سيدي 8 و اما انتم فلا تدعوا سيدي لان معلمكم واحد المسيح و انتم جميعا اخوة 9 و لا تدعوا لكم ابا على الارض لان اباكم واحد الذي في السماوات 10 و لا تدعوا معلمين لان معلمكم واحد المسيح 11 و اكبركم يكون خادما لكم 12 فمن يرفع نفسه يتضع و من يضع نفسه يرتفع 13 لكن ويل لكم ايها الكتبة و الفريسيون المراؤون لانكم تغلقون ملكوت السماوات قدام الناس فلا تدخلون انتم و لا تدعون الداخلين يدخلون 14 ويل لكم ايها الكتبة و الفريسيون المراؤون لانكم تاكلون بيوت الارامل و لعلة تطيلون صلواتكم لذلك تاخذون دينونة اعظم 15 ويل لكم ايها الكتبة و الفريسيون المراؤون لانكم تطوفون البحر و البر لتكسبوا دخيلا واحدا و متى حصل تصنعونه ابنا لجهنم اكثر منكم مضاعفا 16 ويل لكم ايها القادة العميان القائلون من حلف بالهيكل فليس بشيء و لكن من حلف بذهب الهيكل يلتزم 17 ايها الجهال و العميان ايما اعظم الذهب ام الهيكل الذي يقدس الذهب 18 و من حلف بالمذبح فليس بشيء و لكن من حلف بالقربان الذي عليه يلتزم 19 ايها الجهال و العميان ايما اعظم القربان ام المذبح الذي يقدس القربان 20 فان من حلف بالمذبح فقد حلف به و بكل ما عليه 21 و من حلف بالهيكل فقد حلف به و بالساكن فيه 22 و من حلف بالسماء فقد حلف بعرش الله و بالجالس عليه 23 ويل لكم ايها الكتبة و الفريسيون المراؤون لانكم تعشرون النعنع و الشبث و الكمون و تركتم اثقل الناموس الحق و الرحمة و الايمان كان ينبغي ان تعملوا هذه و لا تتركوا تلك 24 ايها القادة العميان الذين يصفون عن البعوضة و يبلعون الجمل 25 ويل لكم ايها الكتبة و الفريسيون المراؤون لانكم تنقون خارج الكاس و الصحفة و هما من داخل مملوان اختطافا و دعارة 26 ايها الفريسي الاعمى نق اولا داخل الكاس و الصحفة لكي يكون خارجهما ايضا نقيا 27 ويل لكم ايها الكتبة و الفريسيون المراؤون لانكم تشبهون قبورا مبيضة تظهر من خارج جميلة و هي من داخل مملوءة عظام اموات و كل نجاسة 28 هكذا انتم ايضا من خارج تظهرون للناس ابرارا و لكنكم من داخل مشحونون رياء و اثما 29 ويل لكم ايها الكتبة و الفريسيون المراؤون لانكم تبنون قبور الانبياء و تزينون مدافن الصديقين 30 و تقولون لو كنا في ايام ابائنا لما شاركناهم في دم الانبياء 31 فانتم تشهدون على انفسكم انكم ابناء قتلة الانبياء 32 فاملاوا انتم مكيال ابائكم 33 ايها الحيات اولاد الافاعي كيف تهربون من دينونة جهنم 34 لذلك ها انا ارسل اليكم انبياء و حكماء و كتبة فمنهم تقتلون و تصلبون و منهم تجلدون في مجامعكم و تطردون من مدينة الى مدينة 35 لكي ياتي عليكم كل دم زكي سفك على الارض من دم هابيل الصديق الى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل و المذبح 36 الحق اقول لكم ان هذا كله ياتي على هذا الجيل 37 يا اورشليم يا اورشليم يا قاتلة الانبياء و راجمة المرسلين اليها كم مرة اردت ان اجمع اولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها و لم تريدوا 38 هوذا بيتكم يترك لكم خرابا 39 لاني اقول لكم انكم لا ترونني من الان حتى تقولوا مبارك الاتي باسم الرب |
||||
17 - 07 - 2012, 07:18 AM | رقم المشاركة : ( 24 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير كامل لانجيل متى لابونا تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الرابع والعشرون علامات مجيء الملكوت حديث السيِّد المسيح عن مجيء الملكوت السماوي يشغل أذهان الكثيرين بكونه حديثًا نبويًا، أعلن عن مجيء الملكوت الأخروي، ومجيئه في كنيسة العهد الجديد، كما يمتزج بمجيئه داخل النفس. 1. هدم الهيكل القديم 1-2. 2. ظهور مسحاء كذبة 3-5. 3. قيام حروب وكوارث 6-7. 4. حدوث مضايقات 8-10. 5. ظهور أنبياء كذبة 11-14. 6. رجسة خراب الهيكل 15. 7. وصايا للدخول في الملكوت 16-20. 8. الضيقة العُظمى 21-22. 9. ظهور مسحاء كذبة 23-28. 10. انهيار الطبيعة 29. 11. ظهور علامة ابن الإنسان 30-31. 12. مثل شجرة التين المخضرّة 32-34. 13. تأكيد مجيئه 35-36. 14. الاستعداد لمجيئه 37-40. 15. مثَل العبد والسيِّد القادم 41-51. 1. هدم الهيكل القديم "ثم خرج يسوع ومضى من الهيكل، فتقدّم تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل. فقال لهم يسوع: أما تنظرون جميع هذه، الحق أقول لكم أنه لا يُترك ههنا حجر على حجر لا يُنقض" [1-2]. كان اليهود يتطلّعون إلى الهيكل بكونه علامة ملكهم، فهو الموضع الوحيد الذي فيه يُعلن الله مجده ويتقبّل من أيدي مؤمنيه الذبائح والتقدمات. أينما وُجد المؤمن، وحلت به ضائقة، تطلّع نحو الهيكل لينعم بعونٍ إلهيٍ. وكانت أبنية الهيكل بضخامتها علامة عظمة ملكوتهم، لهذا أراد التلاميذ أن يُرُوا السيِّد المسيح هذه المباني، لكن السيِّد أكّد لهم: "لا يترك ههنا حجر على حجر لا ينقض". فماذا أراد السيِّد بكلماته هذه؟ كان الهيكل مع قدسيَّته قد تحوّل في حياة اليهود بسبب ريائهم وفكرهم المادي إلى عقبة أمام العبادة الروحيّة. فقد انشغلوا بعظمة الهيكل الخارجي عن قدسيَّة هيكل القلب الداخلي، فكانوا يهتمّون عبر العصور بإصلاح المباني لا القلب، الأمر الذي كرّس أغلب الأنبياء حياتهم لتصحيح هذا المفهوم خاصة إرميا النبي. فمن كلماته المشهورة: "لا تتّكلوا على كلام الكذب، قائلين: "هيكل الرب، هيكل الرب هو" (إر 7: 4). وجاء بعده حزقيال النبي يُعلن لهم ثمرة اهتمامهم بالمبنى دون الحياة الداخليّة أن مجد الرب يفارق البيت (حز 10: 18-19)، بل ويفارق المدينة كلها (حز 11: 22-23). ما قاله السيِّد قد تحقّق حرفيًا عام 70م. حين أصرّ الجنود الرومان تحت قيادة تيطس على هدم الهيكل تمامًا، وكان ذلك إعلانًا عن قيام الهيكل الجديد لكنيسة العهد الجديد بمفاهيم جديدة. على أي الأحوال، هذا هو عمل الروح القدس في مياه المعموديّة أن يحطم إنساننا القديم، فلا يترك حجر على حجر من أعماله الشرّيرة فينا، ويقوم هيكل جديد ليس من صنع أيدينا، هو الإنسان الجديد على صورة خالقنا. هذا العمل هو بداية حلول الملكوت فينا، وعربون للتمتّع بالملكوت الأخروي، خلاله ننتظر بفرح مجيء الرب كعريسٍ لنفوسنا. 2. ظهور مسحاء كذبة "وفيما هو جالس على جبل الزيتون تقدّم إليه التلاميذ على انفراد، قائلين: قل لنا متى يكون هذا؟ وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟ فأجاب يسوع، وقال لهم: انظروا لا يضلّكم أحد. فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين: أنا هو المسيح، ويضلّون كثيرين" [3-5]. إن كان الله في إقامته للملكوت يُعلن ذاته فينا، حاسبًا إيّانا هيكله المقدّس، فإن عدوّ الخير لا يواجه هذا الأمر بالصمت، بل بالأحرى تزداد حربه ضدّنا. وكما يُقيم المسيح ملكوته فينا، يرسل الشيطان مضلِّلين مُدَّعين أنهم مسحاء لكي يقيموا مملكة إبليس داخل الإنسان. لقد عبَّر التلاميذ بسؤالهم عن مجيء الرب الأخير عما يدور في أذهان البشريّة في كل العصور، وهو رغبتهم في معرفة المستقبل وتحديد الأزمنة. لكن السيِّد لم يحدّد مواعيد، مكتفيًا بتقديم العلامات، لا ليعرفوا الأزمنة، وإنما لكي لا يخدعهم المسحاء المضلّلون، الذي يظهرون لأجل مقاومة الحق تحت ستار الدين نفسه. لقد تحوّل كثير من الكتاب الدينيّين ودارسي الكتاب المقدّس المعاصرين إلى الانشغال بتحديد أزمنة مجيء السيِّد، بل وقامت بعض الطوائف هي في حقيقتها غير مسيحيّة مثل شهود يهوه تحوّل كلمة الله من كلمة للخلاص والتمتّع بالملكوت السماوي، كملكوت حاضر داخل القلب إلى مناقشات فكريّة عقيمة تسحبنا إلى مجادلات فكريّة تخص تحديد الأزمنة، الأمر الذي يرفضه السيِّد تمامًا. لقد أوضح السيِّد غاية حديثه هذا عن علامات مجيئه في نهاية الاصحاح، ألا وهو السهر الدائم وانتظار مجيء الملكوت على الدوام، أي تهيئة النفس لملاقاة العريس الأبدي لتدخل معه في شركة أمجاده. 3. قيام حروب وحدوث كوارث عامة "وسوف تسمعون بحروب وأخبار حروب. انظروا لا ترتاعوا، لأنه لابد أن تكون هذه كلها، ولكن ليس المنتهى بعد. لأنه تقوم أُمَّة على أُمَّة، ومملكة على مملكة، وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن. ولكن هذه كلها مبتدأ الأوجاع" [6-8]. ليس عجيبًا أن تكون علامات مجيء السيِّد في مجموعها تمثِّل جوانب متعدّدة من الآلام والأتعاب والكوارث، فإن هذا هو الطريق الذي يهيئ لمجيئه، كيف؟ كلما أدرك عدوّ الخير أي الشيطان أن مملكة المسيح قادمة على الأبواب ازدادت حربه ضدّ المؤمنين لكي يقتنص ما استطاع كأعضاء في مملكته مقاومين مملكة المسيح. في هذا كلّه يزداد المؤمنون الساهرون والحكماء قوّة وثباتًا فيتزكّون، وكأنه خلال هذه المتاعب يملأ الشيطان كأس شرّه، وتمتلئ كأس المجاهدين بركة، فتقترب النهاية لكي ينال الشيطان وجنوده ثمار شرّهم ويتمتّع المجاهدون الحقيقيُّون بالإكليل. أما بدء هذه الآلام التي يثيرها عدوّ الخير فهي تهيئة جوّ خانق للنفس من حروب وأخبار حروب وانقسامات على مستوى الأمم والممالك، وظهور أوبئة، وحدوث زلازل الخ. إنه يريد أن يحطَّم نفسيَّة الناس، فيرون إخوتهم كأشرار منقسمين يثيرون الحروب، فيعيشون في رعب خائفين من الحرب. والذين لا تلحقهم الحروب يتعرّضون للأوبئة والأمراض فيرتبكون خائفين على حياتهم الزمنيّة. وإن هربوا من الأمراض تلاحقهم الزلازل التي تتم فجأة. إن هدف عدوّ الخير أن يشغل المؤمن بعيدًا عن الفرح بمجيء المسيح، فيلهيه بالمشاكل الإنسانيّة (الحروب) والصحيّة بل والطبيعية (الزلازل)، وكأن العالم كلّه قد اسوَّد في عينيه، ليس من معين ولا من سند له. إن تركنا المعنى الحرفي لنتأمّل في تمتّعنا بملكوت الله داخلنا، فإنّنا نلاحظ إنه ما أن يقترب المؤمن بالروح القدس نحو مسيحه حتى يجد عدوّ الخير يشغله بمشاكل كثيرة، تخص الآخرين أو جسده أو العالم المادي المنظور، فتلهيه عن خلاص نفسه وتفكيره في الملك المسيح. 4. حدوث مضايقات "حينئذ يسلّمونكم إلى ضيق، ويقتلونكم، وتكونون مبغضين من جميع الأمم لأجل اسمي. وحينئذ يعثر كثيرون، ويسلّمون بعضهم بعضًا، ويبغضون بعضهم بعضًا" [9-10]. إذ يتقبّل الإنسان ملكوت الله داخله ينتقل من الضيقة العامة، أي الجو الخارجي الذي يثيره العدوّ ضدّ الملكوت بقصد إرباك المؤمنين وشغلهم عن المسيح، ليدخل بهم إلى ضيقات خاصة بهم، فيهيّج العدوّ الآخرين عليهم لمضايقتهم وقتلهم، لا لذنب ارتكبوه، وإنما من أجل "اسم المسيح"، وهذه هي جريمتهم. فالضيقة هي إحدى ملامح الطريق الأساسية للملكوت، إذ يمتلئ القلب من الداخل فرحًا بالمسيح الساكن فيه، بينما يُعصر في الخارج بالضيق. 5. ظهور أنبياء كذبة "ويقوم أنبياء كذبة كثيرون، ويضلّون كثيرين، ولكثرة الإثم تبرد محبّة الكثيرين، ولكن الذي يصير إلى المنتهى فهذا يخلّص. ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم، ثم يأتي المنتهى" [11-14]. هذا هو السهم الثالث الذي يصوِّبه عدوّ الخير ضدّ أبناء الملكوت. السهم الأول هو خلق جو عام قابض للإنسان يسحبه بعيدًا عن حياته الداخليّة، السهم الثاني هو تصويب الضيق إليه شخصيًا من أجل المسيح، أمّا الثالث وهو الأخطر فهو تصويب السهم ضدّ الإيمان، لينحرف به بعيدًا عن مسار الملكوت. فإن كان من الجانب التاريخي يظهر أنبياء كذبة يضلّلون الكثيرين، فإن هذا أيضًا يمكن أن يأخذ صورًا متعدّدة، كظهور فلسفات جديدة، ربّما تختفي وراء الدين، غايتها أن تقدّم أفكارًا برّاقة فلسفيّة وأخلاقيّة بعيدة عن الحياة مع المخلّص واختبار عمل الروح القدس الناري فينا. إنهم يلبسون ثوب النبوّة أو التديّن، لكنهم مضلِّلون يقودون النفس بعيدًا عن سرّ حياتها الحقيقي. ويظهر ثمر هؤلاء الأنبياء الكذبة عمليًا إذ تبرد محبّة الكثيرين، فيصير التديُّن كلمات جوفاء ومعرفة ذهنيّة وفلسفات بلا روح. يفقد الإنسان قلبه، فلا يقدر أن يحب الله والناس بل يبقى كائنًا جامدًا. إن كان عمل إبليس هو بث البرود الروحي في حياة الناس، خاصة خلال الأنبياء الكذبة، فإن الله هو وحده الذي ينزع هذا البرود. وكما يقول القدّيس جيروم: [إن كان الله نارًا، فهو نار لكي يسحبنا من برود الشيطان... ليت الله يهبنا ألا يزحف البرود إلى قلوبنا، فإنّنا لا نرتكب الخطيّة إلا بعد أن تصير المحبّة باردة.] هنا يقدّم لنا السيِّد وعدًا ليبعث فينا الرجاء، وهو أنه بقدر ما تنتشر الأضاليل ويخسر الكثيرون حياة الحب يعمل روح الله بقوَّة للكرازة بين الأمم في كل المسكونة. إنه صراع بين النور والظلمة، ينتهي بنصرة النور؛ مقاومة الباطل للحق تنتهي بتزكيَّة الحق ونموّه فينا. 6. رجسة خراب الهيكل في العبارات السابقة حدّثنا السيِّد عن نهاية الهيكل وخراب أورشليم بطريقة خفيَّة، أمّا هنا فيتحدّث علانيّة، إذ يقول: "فمتى نظرتم رِجْسَة الخراب التي قال عنها دانيال النبي قائمة في المكان المقدّس، ليفهم القارئ" [15]. هكذا كان السيِّد المسيح يدعوهم لقراءة سفر دانيال (9: 27)، ليتأكَّدوا من خراب الهيكل اليهودي. ما هي رِجْسَة الخراب هذه؟ أولاً: يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [أنها تعني الجيش الذي به خربت أورشليم]؛ نقلاً عن كلمات السيِّد نفسه: "ومتى رأيتم أورشليم محاطة بجيوش، فحينئذ اِعلموا أنه قد اِقترب خرابها" (لو21: 20). فقد دخل الأمم الهيكل ودنَّسوه بل وحطَّموه تمامًا، وكان ذلك علامة نهاية الملكوت الحرفي، وقيام الملكوت الروحي. ثانيًا: يقول القدّيس جيروم: [يمكن أن تفهم عن تمثال قيصر الذي وضعه بيلاطس في الهيكل أو (تمثال) هادريان الفارسي الذي أُقيم في قدس الأقداس... في العهد القديم يُدعى التمثال بالرِجْسة، وقد أضيفت كلمة "خراب"، لأن التمثال قد وُضع في وسط الهيكل المهجور.] وقد أخذ القدّيس يوحنا الذهبي الفم بذات الرأي أيضًا. ثالثًا: يرى القدّيس هيلاري أسقف بواتييه أن هذه الرِجْسَة إنّما تُشير لما يحدّث في أيام ضد المسيح إذ يقول: [أعطى الله علامة كاملة عن مجيئه الأخير، إذ يتحدّث عن أيام ضدّ المسيح. يسمِّيها رِجْسَة لأنه يأتي ضدّ الله ناسبًا كرامة الله لنفسه. إنها رِجْسَة خراب لأنه يدمر الأرض بالحروب والقتل. يقبله اليهود، فيأخذ موقف التقدّيس، وفي الموضع الذي تقام فيه صلوات القدّيسين يستقبلون الخائن كمن هو مستحق لكرامة الله. وإذ يصير هذا الخطأ شائعًا بين اليهود فينكرون الحق ويقبلون الباطل، لذلك يطلب الله (من شعبه) أن يتركوا اليهوديّة ويهربوا إلى الجبال حتى لا يعوقهم أتباعه ولا يؤثِّرون عليهم.] 7. وصايا للدخول في الملكوت "فحينئذ ليهرب الذين في اليهوديّة إلى الجبال، والذي على السطح، فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئًا، والذي في الحقل، فلا يرجع إلى ورائه ليأخذ ثيابه، وويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام، وصلّوا لكي لا يكون هربكم في شتاء ولا في سبت" [16-20]. من الجانب التاريخي إذ رأى المسيحيّون الذين في أورشليم الرومان يحاصرونها أدركوا ما سيحل بها من خراب، كقول الرب فهربوا سريعًا. وهذا ما يحدث عند مجيء ضدّ المسيح كما رأينا في كلمات القدّيس هيلاري السابقة، فإذ تراه الكنيسة قد أقام نفسه إلهًا في هيكل الرب (2تس1-4) تهرب إلى البرّيّة "حيث لها موضع مُعد من الله، لكي يعولها هناك ألفًا ومائتين وستين يومًا" (رؤ 12: 6). وفي حياتنا الروحيّة إذ نرى هيكل الحرف ينهار في داخلنا، يلزمنا أن نهرب من اليهوديّة إلى الجبال، أي من حرفيّة اليهود في فهم الوصيّة إلى انطلاقة الروح العالية لتدخل إلى الفهم السماوي. وكما يقول العلاّمة أوريجينوس: [ليت الذين ينظرون هذا يهربون من حرف اليهوديّة إلى جبال الحق العالية. وإن صعد أحد إلى سطح الكلمة ووقف على قمّتها فلا ينزل ليطلب شيئًا من بيته، وإن كان في الحقل حيث يختبئ فيه الكنز فلا يرجع إلى الوراء، بل يجري من خطر خداع الكلمة الباطلة (ضد المسيح)، ويكون هذا على وجه الخصوص متى خلع ثوبه القديم فلا يرتدّ إليه ليلبسه مرّة أخرى.] الجبال كما يقول القدّيس أغسطينوس: تشير إلى النفوس العالية أو إلى القدّيسين حيث تستند التلال (النفوس الصغيرة) عليها. وكأن دعوة السيِّد المسيح للهروب هنا هي دعوة للالتصاق بالقدّيسين والشركة معهم. يوصي السيِّد مَنْ كان قد ارتفع بالروح القدس من طابق إلى آخر كما من مجدٍ إلى مجدٍ حتى بلغ السطح ليرى السماء قدام عينيّه واضحة ومكشوفة، لا تعوقها الأسقف الطينيّة أي الأمور الزمنيّة، فلا ينزل ثانية لتبقى حياته في حالة صعود بلا نزول، مع انتظار على السطح لرؤية السيِّد قادمًا على السحاب فلا يعود يطلب الأمور الزمنيّة التي هي سُفليّة. v السطح هو أعلى مكان في البيت، قمّة المبنى وكماله، لذلك من يقف عليه يكون كاملاً في قلبه، متجدِّدًا، غالبًا في الروح، ليحتفظ لئلا ينزل إلى الأمور الدنيا ويشغف بالممتلكات الزمنيّة. القدّيس هيلاري أسقف بواتييه v لنحذر في الضيقة من النزول عن المرتفعات الروحيّة ونرتبط بالحياة الجسدانيّة. ومن تقدّم لا ينظر إلى الوراء فيطلب الأمور الأولى ويتردّد راجعًا إلى الأمور السُفليّة. القدّيس أغسطينوس v من له ثوب المسيح فلا ينزل من السطح ليحضر ثوبًا آخر. v لا تنزل من سطح الفضيلة لتطلب الملابس التي كنت ترتديها قديمًا، ولا ترجع من الحقل إلى البيت. القدّيس جيروم v إن كان أحد على السطح، أي سبق فصعد إلى القمة حيث الفضائل العُظمى، فلا يعود ينزل إلى أعماق الأرض وهذا العالم. على السطح وقفت راحاب الزانية، رمز الكنيسة، واتّحدت في شركة الأسرار نيابة عن شعوب الأمم. خبَّأت الجاسوسين اللذين أرسلهما يشوع (يش 2: 1)، فلو نزلا إلى أسفل البيت لقتلهما الذين أُرسِلوا للقبض عليها. إذن السطح هو قمّة الروح حيث يتحصَّن الإنسان من ضعف الجسد الخائر بلا قوّة. هنا أفكر في المفلوج الذي حمله أربعة رجال ودلُّوه من السطح!... لنتبع بطرس الذي شعر بالجوع فصعد إلى سطح المنزل (أع 10: 9)، فهناك عرف سرّ نشأة الكنيسة، فما كان ينبغي له أن يحكم بنجاسة شعوب الأمم، لأن الإيمان يقدر أن يطهّرها من كل دنس... فإن كان بطرس لم يقدر أن يدرك هذا السرّ وهو أسفل، فكيف تستطيع أنت أن تفهمه (ما لم ترتفع إلى السطح)؟! لقد أدركه بطرس إذ صعد ليبشّر بالرب (إش 40: 9). القدّيس أمبروسيوس ومن كان في الحقل الإلهي يعمل لحساب السيِّد المسيح فلا ينظر إلى الوراء، مرتبكًا حتى بضروريَّات الحياة كالأكل والشرب والملبس، إنّما ينسى ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام، ناظرًا جعالة الله العُليا. النفس التي خلعت ثوب أعمال الإنسان القديم وانطلقت إلى الحقل تعمل لحساب المسيح لا ترتد إلى الوراء لترتديه مرّة أخرى، بل تتمثل بيوسف بن يعقوب، إذ يقول القدّيس جيروم: [ليتك بالأحرى إن أمكنك أن تتمثل بيوسف، فتترك ثوبك في يد سيِّدتَك المصريَّة وتتبع ربَّك ومخلّصك عاريًا.] v من كان في الحقل فلا يرجع إلى الوراء. ما هو هذا الحقل؟ لقد أعلمني إيّاه يسوع بقوله: "ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله" (لو 9: 12)... لتحرس حقلك إن كنت تريد بلوغ ملكوت الله، فيزهر لك أفعالاً صالحة خصبة، ويكون لك بنوك مثل غروس الزيتون حول مائدتك (مز 127: 3)... ليدخل الرب يسوع في الحقل: "تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل" (نش 7: 11). فيقول: "دخلتُ إلى جنَّتي يا أختي العروس قطفتُ مُرّي مع طيبي، أكلتُ شهدي مع عسلي" (نش 5: 1). هل يوجد محصول أفضل من محصول الإيمان الذي يثمر أعمالاً صالحة ترتوي بينبوع الفرح الأبدي؟! إن كان قد منعك من النظر إلى الوراء، فبالأحرى يمنعك من الرجوع لتأخذ ثوبك. فمن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فأترك له الرداء أيضًا (مت 5: 40)، فيليق بك لا أن تترك الخطايا فقط، بل وتمحو كل ذكرى لأعمالك السابقة، فكان بولس ينسى ما هو وراء (في 3: 13)، يخلع عنه الخطيّة ولا يترك التوبة. القدّيس أمبروسيوس خلال هذا الجهاد الحيّ الذي فيه نهرب من يهوديّة الحرف إلى حرّية الجبال المقدّسة، نرتفع على السطح لنرى السماوات مكشوفة، فلا ننشغل بغير مجيء المسيح الأخير، نعمل في الحقل ممتدِّين إلى قدَّام بلا تراجع من أجل الدخول في الأبديّة. يُعلن السيِّد الويْل للحبالى والمُرضِعات. من هن هؤلاء الحبالى إلا النفوس التي وإن عرفت السيِّد المسيح لكن ثمر الروح لم يُعلن بعد فيها، والمُرضِعات هن اللواتي يبدو ثمرهن كرضع صغار. مثل هؤلاء اللواتي بلا ثمر عملي أو قليلي الثمر لا يقدرن على مواجهة الأيام الصعبة خاصة أيام ضد المسيح قبل مجيء المسيح. v النفس التي حبلت ولم تلد ثمرة الكلمة تسقط تحت هذا الويل، إذ تفقد ما حبلت به وتصير فارغة من رجائها في أعمال الحق. وأيضًا إن كانت قد ولدت لكن أطفالها لم ينتعشوا بعد. العلاّمة أوريجينوس ويرى بعض الآباء أن الحَبَل هنا إنّما هو الالتصاق بالخطيّة ليحمل الإنسان في داخله ثمر المُرّ، أمّا المُرضِعات فهنَّ النفوس التي أثمرت فيهن الخطيّة ثمارًا مُرّة. هؤلاء جميعهنَّ لا يستطعنَ الخلاص من ضد المسيح. v لا يفهم هذا على أنه تحذير من ثِقل الحَبَل، وإنما يُظهر أثقال النفس المملوءة بالخطايا، التي لا تستطيع أن تهرب من السطح أو الحقل حيث يحلّ غضب الله. أيضًا ويل للمُرضِعات، إذ يَظهرنَ المتخلّفين في معرفة الله كمن يرضعْن لبنًا، ويل لهم لأنهم سيكونون ضعفاء جدًا غير قادرين على الهروب من ضدّ المسيح، غير مستعدين على مجابهته، إذ لم يتوقّفوا عن الخطيّة ولا أكلوا خبز الحياة. القدّيس هيلاري أسقف بواتييه v الحَبالى هم الذين يطمعون فيما ليس لهم، والرُضَّع هم الذين نالوا بالفعل ما طمعوا فيه، هؤلاء يسقطون في الويْل في يوم الدينونة. القدّيس أغسطينوس يطالبنا السيِّد أن نصلّي ألا يكون هربنا في شتاء ولا في يوم سبت، أي لا تكون حياتنا قد أصابتها برودة الروح القاتلة كما في الشتاء، ولا حلّ بها وقت البطالة كما في السبت. فإن النفس الباردة والبطالة تسقط في خداعات المسيح الكذاب، ولا تقدر على ملاقاة رب المجد يسوع. v قال هذا لكي لا نوجد في صقيع الخطيّة ولا في لا مبالاة من جهة الأعمال الصالحة، فيفتقدنا العقاب الخطير. الأب هيلاري v عندما يصنع ضدّ المسيح أضاليل أمام أعين ذوي الفكر الجِسداني (السالكون في الشتاء) يجتذبهم إليه، لأن من يُسر بالأرضيّات لا يتردّد في الخضوع له. الأب غريغوريوس (الكبير) 8. الضيقة العُظمى "لأنه يكون حينئذ ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون. ولو لم تُقصَّر تلك الأيام لم يخلّص جسد. ولكن لأجل المختارين تُقصَّر تلك الأيام" [21-22]. إنها الضيقة العُظمى التي تحل بالكنيسة في أيام ضدّ المسيح، الذي يصنع لنفسه سِِمة يَختم بها شعبه على يدهم اليُمنى أو جباههم (رؤ13: 15) ولا يقدر أحد أن يشتري أو يبيع إلا من له السِمة التي هي التجديف على الله. هكذا يُحرم المؤمنون من التعامل اليومي، إذ يرفضون رسم السِمة عليهم، ويضطرُّوا إلى الهروب إلى البراري أمام ضيقات ضد المسيح. 9. ظهور مسحاء كذبة سرّ الضيقة العُظمى هو ظهور ضدّ المسيح وأتباعه. كما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [يتحدّث هنا عن ضدّ المسيح والذين يدعون مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، الذين يوجدون بكثرة حتى في أيام الرسل، أمّا قبل مجيء المسيح الثاني فيوجدون بأكثر حرارة.] "حينئذ إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدّقوا، لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، ويعطون آيات عظيمة وعجائب، حتى يضلّوا لو أمكن المختارين أيضًا. ها أنا قد سبقت وأخبرتكم" [23-25]. يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن [السيِّد قد أنهى حديثه عن أورشليم ليعبُر إلى الحديث عن مجيئه والعلامات التي تصحبُه، لا لإرشادهم هم فقط، وإنما لإرشادنا نحن أيضًا ومن يأتي بعدنا.] يستخدم ضدّ المسيح وأتباعه كل وسيلة للخداع، مقدّمًا آيات وعجائب هي من عمل عدوّ الخير للخداع. لذلك فالحياة الفاضلة في الرب وليس الآيات هي التي تفرز من هم للمسيح ومن هم لضد المسيح. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [يحذّرنا الرب من أنه حتى الأشرار يقدرون أن يصنعوا معجزات معيّنة لا يستطيع حتى القدّيسين أن يصنعوها، فليس بسببها يحسبون أعظم منهم أمام الله.] حقًا إن فكر ضدّ المسيح له خداعاته، ليس فقط خلال العجائب المضلّلة، وإنما يحمل أحيانًا صورة التقوى والنسك دون قوّتها، فيظهر في البرّيّة ويلتف حوله الكثيرون، كما يتسلّل إلينا خِفية داخل القلب، معلنًا اهتمامه بنا شخصيًا، لذلك يقول السيِّد: "فإن قالوا لكم ها هو في البرّيّة فلا تخرجوا، ها هو في المخادع فلا تصدّقوا [26]. ماذا تعني البرّيّة أيضًا إلا الحياة القفر من الإيمان، والخروج عن إيمان الكنيسة الجامعة، أمّا المخادع فتعني العمل في الظلمة بعيدًا عن نور الحق. وكما يقول الأب هيلاري: [لأن الأنبياء الكذبة الذين يتحدّث عنهم سيقولون أن المسيح في البرّيّة حتى يضلّوا البشر بعيدًا بواسطة الهرطقة، وفي المجامع السرّيّة (المخادع) لكي يأسرهم بقوِّة من هو ضدّ المسيح، أمّا المسيح فلا يكون مخفيًّا في موضع معيّن، ولا خاصًا بمجموعة قليلة، وإنما سيكون حاضرًا في كل موضع ومنظورًا أمام الجميع.] هذا يشبه السيِّد مجيئه بالبرق العلني: "لأنه كما أن البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب، هكذا يكون أيضًا مجيء ابن الإنسان، لأنه حيثما تكون الجثّة فهناك تجتمع النسور" [27-28]. مجيء ابن الإنسان الأخير لا تتبعه آيات ومعجزات ولا يظهر في البراري ولا خِفية، وإنما يأتي في الأعالي على السحاب فجأة، كالبرق يُشرق على المسكونة كلها، ليحملنا من كل أركان العالم، ويرفعنا إلى سماواته. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [كما أعلن أولاً عن طريقة مجيء ضدّ المسيح، هكذا بهذه الكلمات يصف طريقة مجيئه هو، وكما أن البرق لا يحتاج إلى من يُعلن عنه ويخبر به بل يُنظر في لحظة في العالم، فإنه حتى بالنسبة للذين يجلسون في بيوتهم سيأتي ابن الإنسان ويُنظر في كل موضع دفعة واحدة بسبب بهاء مجده.] يرى القدّيس جيروم في "المشارق والمغارب" إشارة إلى الكنيسة الجامعة التي يشرق الرب فيها دائمًا ببهائه كالبرق، إذ يقول: [إن وعدك أحد بأن المسيح يوجد في برّيّة الوثنيّين أو خيام الفلاسفة أو في مجالس الهرطقة السرّيّة (المخادع) وإنه هناك يقدّم معرفة أسرار الله فلا تصدّق، وإنما آمن بإيمان الكنيسة الجامعة الذي يضيء في الكنائس من الشرّق إلى الغرب.] ويرى العلاّمة أوريجينوس أن المشارق والمغارب إنّما تُشير إلى النبوّات التي حملت إلينا نور الحق وقدّمت لنا حياة المسيح من مشرق ميلاده حتى مغارب آلامه وقيامته. فإن أردنا أن نلتقي بالمسيح الحقيقي يمكننا أن نبحث عنه في النبوّات الخاصة به. ماذا يعني بقوله: "لأنه حيثما تكون الجُثّة فهناك تجتمع النسور؟" إن كان السيِّد المسيح قد قدّم جسده ذبيحة حب على الصليب فإن المؤمنين كنسور قويّة هائمة في السماويات لا تستقر إلا حول الصليب، تجتمع معًا لتَشبع بذبيحة الرب واهبة الحياة. وعلى العكس حيثما توجد جثّة ضدّ المسيح كجُثّة هامدة يجتمع حولها الأشرار كالنسور تطلب ما يناسب طبيعتها. فالقدّوس يجتمع به القدّيسون والشرّير يجتمع به الأشرار. v لنتعلّم عن المسيح خلال مثالٍ من الطبيعة نراه كل يوم، يُقال عن النسور والصقور أنها إذ ترى الجثّة وراء البحار تجتمع معًا إليها لتتغذى عليها. فإن كانت الطيور تدرك بالغريزة الطبيعيّة على مسافات كهذه أين توجد الجُثّة الصغيرة، فكم بالأكثر يُسرع جموع المؤمنين إلى ذاك الذي يكون مجيئه كالبرق، فيظهر من المشارق إلى المغارب! إنه يقصد بالجُثّة تلميحًا لآلام المسيح وموته. v "لقد دُعوا نُسورًا إذ يتجدّد مثل النسر شبابهم" (مز 103: 5) ويحملون أجنحة ليأتوا إلى آلام المسيح. القدّيس جيروم v يتحدّث عن النسور المقدّسة بسبب الطيران الروحي لأجسادهم مُظهرًا أن الملائكة تجمعهم معًا إلى موضع آلامه. وبطريقة لائقة ننظر مجيئه في مجد، فإنه بالنسبة لنا قد اقتنى السيِّد المجد الأبدي بتواضع آلامه الجسديّة. الأب هيلاري 10. انهيار الطبيعة "وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوءه، والنجوم تسقط من السماء، وقوات السماوات تتزعزع" [29]. هذه الأمور ستتحقّق بلا شك حرفيًا قبل مجيء السيِّد المسيح الأخير. هذا ليس بالأمر العجيب، فإنّنا نعلم اليوم عن تساقط بعض النجوم وعن حدوث بعض انفجارات شمسيّة، هذا يتزايد جدًا في فترة ما قبل ضد المسيح وأثناءها للإنذار. حقًا إنه لابد لكي يأتي ملكوت المسيح الأبدي في كمال مجده أن ينهار هذا العالم الحاضر، كقوله: "السماء والأرض تزولان" [35]، فيملك الرب علينا وفينا إلى الأبد، كما في أرض جديدة وسماء جديدة (رؤ21: 1)، لا تحتاج إلى شمس إذ يكون السيِّد نفسه شمسها، أمامه تفقد كل شمس بهاءها، ولا تحتاج إلى قمر حيث يُعلن بهاء الكنيسة كالقمر، ويُحسب المؤمنون ككواكب منيرة. v الآن نهاية كل الحياة الزائلة، وكما يقول الرسول، تزول هيئة هذا العالم الخارجي ليتبعه عالم جديد؛ وعِوض الكواكب المنظورة يضيء المسيح نفسه بكونه الشمس الخليقة الجديدة وملكها. عظيمة هي قوّة هذه الشمس الجديدة، وعظيم هو بهاؤها، حتى أن الشمس التي تضيء الآن والقمر والكواكب الأخرى تظلم أمام هذا النور العظيم. يوسابيوس القيصري v كما أن القمر والنجوم يتضاءلون بسرعة أمام الشمس المشرقة، هكذا أمام ظهور المسيح تظلم الشمس ولا يعطي القمر ضوءه وتتساقط النجوم من السماء، فيُنزع عنها بهاؤها السابق لكي تلبس ثوب النور العظيم. القدّيس يوحنا الذهبي الفم v تتم هذه الأمور لا بانطفاء النور الحالي، إذ نقرأ أن "نور الشمس يكون سبعة أضعاف" (إش 30: 26)، لكن بمقارنته بالنور الحقيقي تبدو كل الأشياء مظلمة. القدّيس جيروم هذا ويمكننا أن نفهم هذه النبوّة كعلامات تخص الكنيسة نفسها وكل عضو فيها. فإذ سأل الأسقف هسخيوس Hesychius القديس أغسطينوس عن مجيء المسيح الأخير والعلامات السابقة له، كتب إليه يطلب منه أن ينظر إلى هذه العلامات بطريقة رمزيّة. ربّما يقصد بالشمس هنا نور معرفة المسيح الذي لا يكون له موضع في مملكة ضد المسيح المسيطرة على أغلب العالم، وكأن الشمس قد اِظلمت. والقمر التي هي الكنيسة إذ قيل عنها "جميلة كالقمر طاهرة كالشمس" (نش 6: 10) صارت مطرودة أمام مضطهديها، لا يمكن رؤيتها. وكأنها قمر لا يعطي ضوءه؛ ويسقط بعض الجبابرة كالنجوم الساقطة من السماء لتعمل لحساب ضد المسيح، ويتزعزع الكثيرون عن إيمانهم. إنها صورة مرعبة لهذه الفترة العصيبة التي يواجهها العالم كلّه قبل مجيء ابن الإنسان. وما أقوله عن الكنيسة يمكن أيضًا تطبيقه على المؤمن كعضو فيها، فإنه إذ يقبل أفكار ضد المسيح أي ضدّ المسيح أو عدم الإيمان يفقد بصيرته الداخليّة. وكأن شمسه الداخليّة قد اظلمت، فلا يحمل نور المعرفة، وقمره لا يعطي ضوءه إذ فقد قلبه ملكوت النور وتحوّل إلى مملكة للظلمة. وتهوى كل مواهبه ودوافعه كالكواكب متساقطة من الحياة السماويّة المقدّسة إلى هاوية الفساد، ويتزعزع قلبه كقوات سماويّة تفقد طبيعتها العلويّة وتنحط إلى أفكار الجحود المهلكة! v إذ يرتدّ كثيرون عن المسيحيّة يظلم بهاء الإيمان بسحابة الارتداد، فإن الشمس السمائيّة تُظلم أو تُشرق ببهاء حسب الإيمان. وكما أن القمر يحدث له خسوف شهري لأن الأرض تأتي بين القمر والشمس، فيختفي عن النظر، هكذا في الكنيسة المقدّسة إذ تقف الرذائل الجسديّة في طريق النور السماوي تحجب بهاء النور الإلهي الصادر عن شمس المسيح. وفي أوقات الاضطهادات تقف محبّة الحياة الحاضرة في طريق الشمس الإلهيّة. أما النجوم، أي البشر، فيحيط بهم مديح إخوتهم المسيحيّين، ليسقطوا أثناء تصاعد مرارة الاضطهاد الذي لابد أن ينتهي ويكمّل عدد المؤمنين فيتزكَّى الصالحون ويظهر الضعفاء. القدّيس أمبروسيوس v تتزعزع قوات السماء بسبب اضطهادات الأشرار حيث يمتلئ بالخوف حتى بعض الثابتين في الإيمان جدًا. القدّيس أغسطينوس 11. ظهور علامة ابن الإنسان "وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء، وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض، ويبصرون ابن الإنسان آتيًا على سحاب السماء بقوَّةٍ ومجدٍ كثيرٍ، فيُرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت، فيجمعون مُختاريه من الأربع رياح من أقصاء السماوات إلى أقصائها" [30-31]. بعدما تتشدَّد مملكة ضد المسيح لتُقاوم مملكة المسيح أي كنيسته، فتَظلمْ الشمس والقمر لا يعطي ضوءه والنجوم تسقط وقوات السماوات تتزعزع، يأتي السيِّد نفسه في موكِبه الملائكي تتقدّمه علامة الصليب مُعلَنة في السماء، الأمر الذي يُفرِّح الكنيسة الحاملة للطبيعة السماويّة من أجل قدوم عريسها بينما يحزن جميع قبائل الأرض التي احتضنت ضد المسيح وصارت لا تطيق الحق. v لنرى علامة الصليب، هذه التي يراها الذين طعنوه حسب نبوّة زكريّا ويوحنا (يو 19: 37) وهي علامة النصرة. العلاّمة أوريجينوس v إن كانت الشمس تَظلَم فإنه لا يمكن للصليب أن يظهر ما لم يكن أكثر بهاءً من الشمس! فلا يخجل التلاميذ من الصليب ولا يحزنون. إنه يتحدّث عنه كعلامة تظهر في مجد! فستظهر علامة الصليب لتُبكِم جسارة اليهود! سيأتي المسيح ليُدين مشيرًا إلى جراحاته كما إلى طريقة موته المملوء عارًا، عندئذ تنوح كل قبائل الأرض. فإنهم إذ يرون الصليب يفكِّرون كيف أنهم لم يستفيدوا شيئًا من موته، وأنهم صلبوا من كان يجب أن يعبدوه. القدّيس يوحنا الذهبي الفم v حقًا يقول: "تنوح جميع قبائل الأرض" لأنهم ليسوا بمواطني السماء بل مكتوبين في الأرض. القدّيس جيروم v يراه المؤمنون كما غير المؤمنين، فإن الصليب والمخلّص يضيئان ببهاء شديد أكثر من الشمس، فيراهما الكل (المؤمنون يفرحون بالمخلّص المصلوب وغير المؤمنين يرتعبون منه). الأب ثيؤفلاكتيوس بطريرك سلفانيا هكذا من الجانب النبوي تظهر علامة ابن الإنسان قبل مجيء السيِّد. أمّا في حياتنا الروحيّة فيبذل عدوّ الخير - ضد المسيح - كل الجهد لكي يملك على قلوبنا، مشتاقًا أن يطفئ شمس الحق فينا، ويفقدنا عضويتنا الحقّة في الكنيسة. فتصير الكنيسة بالنسبة لنا كقمرٍ لا يعطي ضوءه، ويعمل العدو بكل حيلة وخداعاته أن يسقط فينا كواكب المواهب والنعم الداخليّة، لكي يزعزع قوّات السماوات في قلوبنا. أما السيِّد المسيح فيُسرع إلينا كما هو قادم من السماء، يدخل إلينا بمجده، مقدّمًا لنا صليبه علامة غلبته ونصرته فينا ولحسابنا، وعلامة حلوله داخلنا. فتنهار كل خداعات العدوّ الكثيرة وكل شهوة جسديّة وفكر أرضي في داخلنا، وكأنها قد صارت قبائل الأرض الشرّيرة التي تنوح حين يظهر السيِّد فينا بقوَّة الروح ومجده السماوي العظيم. ويرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت، فنشاركهم تسابيحهم وليتورجيَّاتهم، ويجمعون كل طاقات جسدنا كما من الأربعة رياح من أقصاء السماوات إلى أقصائها، لتعمل بانسجام وتوافق مع طاقات النفس لخدمة الملك السماوي. مجيئه على السحاب v سيرى البشر ابن الله بأعينهم الجسديّة قادمًا في شكل جسدي "في سحاب السماء"، أي قادمًا من السماء. وكما عند تجلِّيه جاء صوت من السحابة، هكذا يأتي مرّة أخرى متجلِّيًا في مجده، جالسًا لا على سحابة بل على سحابٍ كثيرٍ كأنه مركبة له! إن كان عند صعوده إلى أورشليم كان الذين يحبّونه يبسِطون ثيابهم في الطريق حتى لا يطأ ابن الإنسان بقدميه على الأرض، راغبين ألا يلمس حتى الجحش الذي يركبه الأرض (مت 21: 8)، فأي عجب إن كان الآب إله الكل يفرش سحب السماء تحت جسد ابنه لأجل انقضاء الدهر؟ العلاّمة أوريجينوس v يمكن أن يُفهم (مجيئه على السحاب) بطريقتين: إمّا أنه يأتي في كنيسته كما في السحاب، فإنه حتى الآن لا يمتنع عن أن يأتي، لكنّه يأتي فيما بعد بسلطان أعظم وعظمة، مظهرًا سلطانه وعظمته بالأكثر لقدّيسيه الذين يهبهم القوّة فلا تغلبهم تجربة عظيمة كهذه. أو أنه يأتي في جسده الذي جلس به عن يمين الآب. هكذا يليق بنا بحق أن نؤمن أنه سيأتي، ليس فقط في جسده ولكن أيضًا في السحاب، فقد تركنا (بالجسد) لكي يأتي إلينا مرّة أخرى. فقد "ارتفع وأخذته سحابة عن أعينهم" (أع 1: 9)، عندئذ قال الملاك: "سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء" (أع 1: 11). القدّيس أغسطينوس v تفهم الأحداث الكبرى في علاقتها ببعضها البعض، فكما جاء في مجيئه الأول في تواضع هكذا يأتي في مجيئه الثاني في مجده اللائق. القدّيس كيرلّس السكندري 12. مثَل شجرة التين "فمن شجرة التين تعلّموا المثَل، متى صار غصنها رخصًا، وأخرجت أوراقها تعلمون أن الصيف قريب، هكذا أنتم أيضًا متى رأيتم هذا كلّه فاعلموا أنه قريب على الأبواب. الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كلّه" [32-34]. بعد أن قدّم لنا السيِّد المسيح العلامات السابقة لمجيئه في نهاية الأزمنة كما في مجيئه ليملك علينا روحيًا ونحن على الأرض أي في حياتنا الروحيّة أراد أن يوجِّه أفكارنا إلى الجانب الروحي لا الاهتمام بالأوقات والأزمنة. كأنه يقول إن كنتم تعرفون أن تميّزوا الأزمنة فتُدركون أن الصيف قد اقترب خلال شجرة التين متى صار غصنها رخصًا وأخرجت أوراقها، فبالأولى والأهم أن تتطلّعوا إلى هذه العلامات التي قدّمتها لكم، وكأنها شجرة تين من خلالها تعرفون أن وقت مجيئه قد اقترب وكأنه صيف. بقوله هذا، كما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [يؤكّد لنا أن مجيئه أمر محقَّق حتمًا، ينبغي ألا يشك فيه كما لا نشك في مجيء الصيف. هكذا يليق بالمؤمن كلما ظهرت هذه العلامات من أتعاب وآلام، يُدرك بالأكثر رعاية الله له وسُكنى المسيح بالإيمان في قلبه... إنه يؤكّد لنا مجيئه المستمر فينا بتجلِّيه في داخلنا من يوم إلى يوم ليُعلن ذاته فينا.] وفي هذا المثل أيضًا يؤكّد لنا السيِّد أن أمجاده مخفيّة في داخلنا كما في شجرة التين في فترة الشتاء، لكنّه إذ يحلّ فصل الصيف يُعلن المجد الخفي ونتكلّل علانيّة في يوم الرب العظيم. إننا الآن كمن هم في فصل الشتاء نظهر بلا مجد ولا جمال كأشجار جافة بلا أوراق ولا زهور أو ثمار، لكن الشتاء ينتهي وتظهر الحياة الكامنة في داخلنا. شبَّه السيِّد مجيئه بالصيف لأنه يقدّم لنا جوًا حارًا للحب، حيث يلتهب قلبنا بأكثر حب عند رؤيتنا لعريس نفوسنا قادمًا فينا وإلينا. والصيف هو زمن الحصاد (إر 8: 20)، فيأتي الرب ليحمل فينا ثمره الروحي فيفرح بنا. لهذا تسأل النفس عريسها "ليأت حبيبي إلى جنّته ويأكل ثمره النفيس" (نش 4: 16)، ويجيب الرب العريس: "قد دخلتُ جنتي يا أختي العروس، قطفتُ مُرِّي مع طيبي، أكلتُ شهدي مع عسلي، شربتُ خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب اشربوا واسكروا أيها الأحبّاء" (نش 5: 1). إنه الوقت الذي يقطف فيه السيِّد بنفسه الثمر النفيس بكونه ثمرة هو فيها... يفرح ويتهلّل ويقيم وليمة، فيفرح معه السمائيون من أجل عروسه المثمرة! ويرى بعض الآباء في شجرة التين رمزًا لليهود في عودتهم لتكوين مملكة كعلامة لنهاية الأزمنة، أو لقبولهم الإيمان بالمسيح يسوع الذي رفضوه قبل انقضاء الدهر، كما يرى البعض في شجرة التين رمزًا لظهور مملكة ضد المسيح. v شجرة التين هي رمز لمجمع اليهود، أمّا الغصن فهو ضدّ المسيح، ابن الشيطان، نصيب الخطيّة... هذا الذي بظهوره كما لو أن الحياة تنقشع والأوراق تُرى فتنتصر زهور الخطيّة بنوع ما، بهذا يكون قد اقترب الصيف أي يوم الدينونة. الأب هيلاري v لشجرة التين معنيان... إمّا يقصد بها عندما تظهر الثمرة على كل الشجرة فيعترف كل لسان بالرب، ويؤمن أيضًا شعب إسرائيل، عندئذ نترجَّى مجيء الرب، وكأن وقت الصيف قد حلّ لجمع ثمار القيامة؛ وإما يقصد بها أنها عندما يلبس ابن الخطيّة إكليل زهور، بافتخاره الباطل والفارغ، فتظهر أوراق الغصن الخاصة بالمجمع اليهودي، عندئذ يجب أن تترقَّب مجيء الدينونة، إذ يُسرع الرب بالمجيء ليكافئ المؤمنين ويضع نهاية للشر. القدّيس أمبروسيوس أما قول السيِّد: "الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كلّه" [34]. فيشير إلى أمرين: أولاً: يُشير إلى تحقيق العلامات الخاصة بدمار الهيكل اليهودي على يدي القائد الروماني تيطس عام 70م، لإعلان مجيء الرب في هيكل جديد. ثانيًا: يريد ربّنا أن يوجِّه أنظارنا إلى مجيئه الداخلي فينا وإعلان مجده في القلب... فإنه وإن كنّا نترقَّب يوم الرب العظيم لكن عملنا الآن هو التمتّع بحلوله داخلنا وتجلِّيه المستمر فينا. 13. تأكيد مجيئه "السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول، وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يُعلّم بهما أحد ولا ملائكة السموات إلا أبي وحده" [35-36]. ما أعلنه السيِّد إنّما هو كلمته الخالدة التي لا تزول، فإن السماء والأرض تزولان، أمّا كلامه فلن يزول. ما هي السماء إلا نفوسنا التي ترحل من هذا العالم، والأرض هي جسدنا الذي يعود إلى التراب إلى أن يأتي "كلمة الله" الذي لا يزول، فتعود السماء جديدة فيه وأيضًا أرضنا. إن السيِّد قادم لا محالة، أمّا تحديد الأزمنة فليس من عملنا، ولا هو من رسالتنا، بل هو عمل الله المدبّر للأزمنة. v السماء والأرض بحقيقة خلقتهما لا يحويان داخلهما التزام بالخلود الدائم، أمّا كلمات المسيح الأزليّة فتحل داخلها البقاء الدائم. الأب هيلاري v كأنه يقول أن كل ما يبدو باقيًا لا يبقى إلى الأبد، وما يبدو لكم زائلاً يبقى ثابتًا بلا تغيير! إن كلماتي تعبِّر عن الأمور التي بلا تغيير. الأب غريغوريوس (الكبير) 14. الاستعداد لمجيئه "وكما كانت أيام نوح كذلك أيضًا مجيء ابن الإنسان، لأنه كما كانوا في الأيام التي قبل الطوفان يأكلون ويشربون ويتزوَّجون ويزوِّجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك، ولم يعلموا حتى جاء الطوفان وأخذ الجميع، كذلك يكون أيضًا مجيء ابن الإنسان" [37-39]. يقدّم لنا السيِّد المسيح الطوفان الذي أنقذ نوح وعائلته، وأهلك البشريّة الشرّيرة مثالاً لمجيئه، حيث ينعم أولاد الله بالإكليل الأبدي، ويدخلوا إلى المجد، كما إلى الفلك، بينما يهلك الأشرار كما في الطوفان. لقد كان الأشرار غير مستعدّين، انسحبت قلوبهم إلى الاهتمام بالأكل والشراب والزواج ولم ترتفع قط إلى الله. حقًا إن الأكل والشراب والزواج هذه جميعها في ذاتها ليست بشرّيرة، وإنما تتحوّل إلى إله لمن يُستعبد لها، فيصير قلبه كلّه مرتبكًا بسببها، هذه بعينها تُحسب مباركة ومقدّسة بالنسبة للقلب المقدّس في الله. عن الأوّلين يقول الرسول: "الذين نهايتهم الهلاك، الذين إلههم بطنهم ومجدهم في خزيهم، الذين يفتكرون في الأرضيّات" (في 3: 19)، "لأن مثل هؤلاء لا يخدمون ربّنا يسوع المسيح بل بطونهم" (رو 16: 18)، "الكرّيتيّون دائمًا كذّابون، وحوش رديّة، بطون بطالة" (تي 1: 12). إنهم يستعبدون لبطونهم فيعملون لحسابها وليس لخدمة المسيح، يعيشون كمن في بطالة، يفسدون حياتهم بلا ثمر! أمّا الآخرون فيقولون: "ولكن الطعام لا يقدّمنا إلى الله، لأننا إن أكلنا لا نزيد وإن لم نأكل لا ننقص" (1 كو 8: 8). "الذي يأكل فللرب يأكل لأنه يشكر الله، والذي لا يأكل فللرب لا يأكل ويشكر الله، لأنه ليس أحد منّا يعيش لذاته ولا أحد يموت لذاته" (رو 14: 6-7). "لأن ليس ملكوت الله أكلاً وشربًا، بل هو برّ وسلام وفرح في الروح القدس" (رو 14: 17). ولكي يؤكّد السيِّد أن الاستعداد إنّما هو عمل داخلي، قال: "حينئذ يكون اثنان في الحقل، يؤخذ الواحد ويُترك الآخر. اثنتان تطحنان على الرحَى، تؤخذ الواحدة وتترك الأخرى" [40-41]. لا يمكن للإنسان أن يُدرك أسرار قلب أخيه، فبينما يعمل رجلان معًا في حقلٍ واحدٍ، وتعمل امرأتان معًا على رحى واحدة، إذا بالواحد يحمل قلبًا مرتفعًا نحو السماويات والآخر يرتبك بالأرضيّات. واحد يعمل ويشكر الله ويمجِّده، والآخر يعمل لخدمة بطنه وإشباع شهواته مرتبكًا بالأمور الزمنيّة. ويُعلّق القدّيس كيرلّس الكبير على المرأتين اللتين تطحنان على الرحى فتُؤخذ الواحدة وتترك الأخرى قائلاً: [يبدو أن هاتين المرأتين تشيران إلى الذين يعيشون في فقر وتعب، فحتى هؤلاء يوجد بينهم اختلاف كبير. البعض منهم يحتملون الفقر بنضوج وقوة في حياة فاضلة، والآخر له شخصيّة مختلفة إذ يسلكون بدهاء في حياة شرّيرة دنيئة.] إذًا لنسهر لا بالمفهوم الجسدي الظاهر وإنما بالقلب والحياة الداخليّة خلال انتظار مجيئه. فالقلب الساهر يكون كالعروس المشتاقة إلى عريسها، يأتيها السيِّد، فتفرح وتتهلّل، أمّا القلب المتهاون والنائم يأتيها يوم الرب كلصٍ يسطو على البيت. القلب اليقظ يفرح ويُسر كلما اقتربت الساعة، أمّا القلب الخامل فيُفاجأ به ليحزن ويخسر كل ما كان يظن أنه يملكه! هكذا يدعونا الرب للسهر لملاقاته دون تحديد موعد مجيئه وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [ليس من صالحنا أن نعرف الأزمنة، بل بالأحرى من صالحنا عدم معرفتها، فجهلنا لها يجعلنا نخاف ونسهر فينصلح حالنا.] 15. مثل العبد والسيِّد القادم إننا كعبيد أقامنا السيِّد على خدامه لنعطيهم الطعام في حينه، من كان أمينًا يعرف كيف ينمِّي بالروح القدس كل طاقاته ومواهبه وأحاسيسه ودوافعه في الروح فيمتلئ ثمرًا، فيأتي سيّده ويقيمه "على جميع أمواله" [47]، فيجعله ملكًا ينعم بميراثٍ أبديٍ وإكليل لا يفنى. أمّا الذي يضرب العبيد رفقاءه فيحطَّم ما وهبه الله من طاقات ومواهب وأحاسيس ودوافع، فلا تنمو في الروح بل تتعثّر وتضمر، فيُقطع ويصير نصيبه مع المرائين. قد يتساءل البعض هل نحب الجسد أيضًا كأحد الخدم الذين أوكلنا السيِّد على رعايتهم؟ يجيب الرسول بولس: "فإنه لم يبغض أحد جسده قط بل يقوته ويربّيه كما الرب أيضًا للكنيسة، لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه" (أف 5: 29-30). هكذا يرفع الرسول الجسد إلى هذه القُدسية، فنراه كما يرى الرب كنيسته، نهتم بقدسيَّته ولا نحطِّمه، إنّما نرفض الشهوات الجسديّة التي تنزل بنا إلى الارتبكات الزمنيّة والملذّات القاتلة. يقول القدّيس جيروم: [إني أحب الجسد، لكنّني أحبُّه عندما يكون طاهرًا، عندما يكون عذراويًا، عندما يُمات بالصوم. لست أحب أعماله إنّما أحبُّه هو، هذا الذي يلزم أن يحكم عليه ويموت كشهيدٍ من أجل المسيح فيُجلد ويُمزَّق ويُحرق بالنار.] يحدّثنا القدّيس يوحنا الذهبي الفم عن الجسد كخادم نهتم به في الرب، يعمل مع النفس لحسابه، قائلاً: [حقًا لقد أقام الله فينا الأعين والفم والسمع بهذا القصد، أن تخدمه جميع أعضائنا، فننطق بكلماته ونفعل أعماله، ونتغنَّى له بالتسابيح الدائمة، ونقدّم له ذبائح الشكر، بهذا تتنقَّى ضمائرنا تمامًا! وكما أن الجسد يصير في أكثر صحّة عندما يتمتّع بالهواء النقي، هكذا النفس بالأكثر تنعم بالحكمة العمليّة عندما تنتعش بمثل هذه التداريب. أليس إن وُجدَت عينا الجسد في دخان تبكيان على الدوام، وإن وُجِدَتا في هواء نقي ومُروج وينابيع وحدائق تصيران بحدَّة وفي أكثر سلام؟ هكذا أيضًا بالنسبة لعين النفس، فإنها إذ تتقوَّت على مروج الأقوال الروحيّة تصير نقيّة وحادة البصر، لكنها إن رحلت إلى دُخَّان أمور هذه الحياة فإنها تبكي بلا حدود، وتبقى في عويل ههنا وفيما بعد. لهذا قال أحدهم: "فنَتْ أيامي كالدخان" (مز102: 3 LXX).] 1 ثم خرج يسوع و مضى من الهيكل فتقدم تلاميذه لكي يروه ابنية الهيكل 2 فقال لهم يسوع اما تنظرون جميع هذه الحق اقول لكم انه لا يترك ههنا حجر على حجر لا ينقض 3 و فيما هو جالس على جبل الزيتون تقدم اليه التلاميذ على انفراد قائلين قل لنا متى يكون هذا و ما هي علامة مجيئك و انقضاء الدهر 4 فاجاب يسوع و قال لهم انظروا لا يضلكم احد 5 فان كثيرين سياتون باسمي قائلين انا هو المسيح و يضلون كثيرين 6 و سوف تسمعون بحروب و اخبار حروب انظروا لا ترتاعوا لانه لا بد ان تكون هذه كلها و لكن ليس المنتهى بعد 7 لانه تقوم امة على امة و مملكة على مملكة و تكون مجاعات و اوبئة و زلازل في اماكن 8 و لكن هذه كلها مبتدا الاوجاع 9 حينئذ يسلمونكم الى ضيق و يقتلونكم و تكونون مبغضين من جميع الامم لاجل اسمي 10 و حينئذ يعثر كثيرون و يسلمون بعضهم بعضا و يبغضون بعضهم بعضا 11 و يقوم انبياء كذبة كثيرون و يضلون كثيرين 12 و لكثرة الاثم تبرد محبة الكثيرين 13 و لكن الذي يصبر الى المنتهى فهذا يخلص 14 و يكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الامم ثم ياتي المنتهى 15 فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي قائمة في المكان المقدس ليفهم القارئ 16 فحينئذ ليهرب الذين في اليهودية الى الجبال 17 و الذي على السطح فلا ينزل لياخذ من بيته شيئا 18 و الذي في الحقل فلا يرجع الى ورائه لياخذ ثيابه 19 و ويل للحبالى و المرضعات في تلك الايام 20 و صلوا لكي لا يكون هربكم في شتاء و لا في سبت 21 لانه يكون حينئذ ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم الى الان و لن يكون 22 و لو لم تقصر تلك الايام لم يخلص جسد و لكن لاجل المختارين تقصر تلك الايام 23 حينئذ ان قال لكم احد هوذا المسيح هنا او هناك فلا تصدقوا 24 لانه سيقوم مسحاء كذبة و انبياء كذبة و يعطون ايات عظيمة و عجائب حتى يضلوا لو امكن المختارين ايضا 25 ها انا قد سبقت و اخبرتكم 26 فان قالوا لكم ها هو في البرية فلا تخرجوا ها هو في المخادع فلا تصدقوا 27 لانه كما ان البرق يخرج من المشارق و يظهر الى المغارب هكذا يكون ايضا مجيء ابن الانسان 28 لانه حيثما تكن الجثة فهناك تجتمع النسور 29 و للوقت بعد ضيق تلك الايام تظلم الشمس و القمر لا يعطي ضوءه و النجوم تسقط من السماء و قوات السماوات تتزعزع 30 و حينئذ تظهر علامة ابن الانسان في السماء و حينئذ تنوح جميع قبائل الارض و يبصرون ابن الانسان اتيا على سحاب السماء بقوة و مجد كثير 31 فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجمعون مختاريه من الاربع الرياح من اقصاء السماوات الى اقصائها 32 فمن شجرة التين تعلموا المثل متى صار غصنها رخصا و اخرجت اوراقها تعلمون ان الصيف قريب 33 هكذا انتم ايضا متى رايتم هذا كله فاعلموا انه قريب على الابواب 34 الحق اقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله 35 السماء و الارض تزولان و لكن كلامي لا يزول 36 و اما ذلك اليوم و تلك الساعة فلا يعلم بهما احد و لا ملائكة السماوات الا ابي وحده 37 و كما كانت ايام نوح كذلك يكون ايضا مجيء ابن الانسان 38 لانه كما كانوا في الايام التي قبل الطوفان ياكلون و يشربون و يتزوجون و يزوجون الى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك 39 و لم يعلموا حتى جاء الطوفان و اخذ الجميع كذلك يكون ايضا مجيء ابن الانسان 40 حينئذ يكون اثنان في الحقل يؤخذ الواحد و يترك الاخر 41 اثنتان تطحنان على الرحى تؤخذ الواحدة و تترك الاخرى 42 اسهروا اذا لانكم لا تعلمون في اية ساعة ياتي ربكم 43 و اعلموا هذا انه لو عرف رب البيت في اي هزيع ياتي السارق لسهر و لم يدع بيته ينقب 44 لذلك كونوا انتم ايضا مستعدين لانه في ساعة لا تظنون ياتي ابن الانسان 45 فمن هو العبد الامين الحكيم الذي اقامه سيده على خدمه ليعطيهم الطعام في حينه 46 طوبى لذلك العبد الذي اذا جاء سيده يجده يفعل هكذا 47 الحق اقول لكم انه يقيمه على جميع امواله 48 و لكن ان قال ذلك العبد الردي في قلبه سيدي يبطئ قدومه 49 فيبتدئ يضرب العبيد رفقاءه و ياكل و يشرب مع السكارى 50 ياتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره و في ساعة لا يعرفها 51 فيقطعه و يجعل نصيبه مع المرائين هناك يكون البكاء و صرير الاسنان |
||||
17 - 07 - 2012, 07:20 AM | رقم المشاركة : ( 25 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير كامل لانجيل متى لابونا تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الخامس والعشرون انتظار الملكوت يقدّم لنا السيِّد المسيح، وهو في أورشليم كحملٍ محفوظٍ لتقديمه ذبيحة فصح عنّا، مفاهيم حيّة للملكوت الذي ننتظره، ليس كشيء خارج عنّا إنّما نتقبّله امتدادًا للعربون الذي فينا. 1. العذارى الحكيمات 1-13. 2. مثال الوزنات 14-30. 3. مجيء ابن الإنسان 31-46. 1. العذارى الحكيمات في منتصف كل ليل يقرأ المؤمن هذا الفصل من الإنجيل في الخدمة الأولى من صلاة نصف الليل، ليتعرّف على سرّ وقوفه للصلاة ألا وهو انتظار العريس، مهتمّا أن يكون كإحدى العذارى الحكيمات اللواتي يدخلن العرس الأبدي. إنه يقول: "ها هوذا الختن (العريس) يأتي في نصف الليل، طوبى للعبد الذي يجده مستيقظًا. أمّا الذي يجده متغافلاً، فإنه غير مستحق المُضيّ معه. فانظري يا نفسي لئلاّ تثقلي نومًا فتُلقي خارج الملكوت، بل اسهري واصرخي قائلة: قدّوس، قدّوس، قدّوس، أنت يا الله من أجل والدة الإله ارحمنا". ليقف المؤمن في الحضرة الإلهيّة مشتاقًا أن يقدّم حواسه الخمس مقدّسة له، بكونها العذارى الحكيمات اللواتي أخذن زيتًا في آنيتهن مع مصابيح ينتظرن العريس. حقًا إن العذارى الحكيمات يقفن جنبًا إلى جنب مع الجاهلات، كلهُنّ عذارى ومعهُن مصابيحهِّن، كلهُن نعسْنَ ونِمن [5]، لكن الحكيمات يحملن زيتًا تفتقر إليه الجاهلات. يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم في هذا الزيت إشارة إلى الأعمال الصالحة والمقدّسة التي تميّز الإيمان الحيّ من الميّت. فالمؤمن يقدّم بالروح القدس حواسه مقدّسة للعريس بالإيمان العامل بالمحبّة (غل 5: 6). يتقدّم للعريس حاملاً سماته عمليًا في كل أحاسيسه ومشاعره وتصرُّفاته. فإن أخذنا اللسان كمثال يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [عندما يكون لسانك كلِسان المسيح، ويصير فمك فم الآب وتكون هيكلاً للروح القدس، عندئذ أيّة كرامة تكون هذه؟! فإنه وإن كان فمك مصنوعًا من الذهب ومن الحجارة الكريمة فإنه لن يضيء هكذا كما بحُليّ الوداعة. أيّ شيء أكثر حبًا من الفم الذي لا يعرف أن يشتم، بل هو معتاد أن يبارِك وينطق بالكلمات الصالحة.] أما الجاهلات فحملْنَ مصابيحهِّن لكنّهُن لم يستطعن أن يقتنين الزيت المقدّس أي الأعمال الصالحة بالرب، إنّما حملْنَ إيمانا ميّتًا وعبادات شكليّة، وإن ينتهي النهار حيث يمكن للإنسان أن يعمل يأتي الليل حيث لا مجال للعمل، ولا يمكن لأحد أن يستعير زيتًا من آخر فلا يقدرن أن يلتقين بالعريس، إذ يقول السيِّد: "وفيما هنَّ ذاهبات ليبتعْنَ جاء العريس والمستعدَّات دخلْن معه إلى العرس، وأُغلق الباب" [10]. إنهُن لا يلتقين بالعريس كالحكيمات، بل يبقين في الخارج حيث الباب المُغلق. حقًا سيظهر ابن الإنسان على السحاب ويتحدّث مع الأشرار ليدينهم لكنهم لا ينعمون بمجده ولا يُدركون أسراره، إنّما يرونه كابن الإنسان المُرهِب، ينظرون عينيه تتّقِدان نارًا. بمعنى آخر يمكننا القول بأن المجد الذي ينعم به القدّيسون يصير بالنسبة للأشرار موضوع خوف ورِعدة، فلا يرون في السيِّد أمجادًا بل رعبًا! أما الحكيمات فإذ قلوبهِّن، أي عيونِهِّن الداخليّة، نقيّة يعاينَّ الله ويتمتّعنَ ببهائه كقول السيِّد: "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 8). ما يحدث مع العذارى ليس بالأمر الجديد، إنّما هو اِمتداد لما مارسوه على الأرض، فإن الحكيمات يتمتّعن بالحياة الداخليّة الجديدة كحياة شركة واتّحاد مع العريس مارسوه على الأرض. أمّا الجاهلات فلا خبرة لهُن بالعريس، وإنما يعشن حتى على الأرض خارج الأبواب، حتى وإن كان لهُن مظهر الحياة التعبّديّة بل والكرازيَّة. الذي اختار هنا أن يدخل مع المسيح ليحيا للملكوت فمن حقّه أن يعاينه في الأبديّة وجهًا لوجهٍ، والذي قبِل لنفسه أن يبقى هنا خارجًا فلن يقدر أن يُعاين السيِّد كعريس ولا يدخل معه عرسه الأبدي، بكونه بعيدًا عن الملكوت! ليس عجيبًا أن يقول السيِّد "إني ما أعرفكن"، لأنهُنَّ لم يدخلْنَ معه في شركة حقيقيّة ولا عاين مجده في داخلهِنَّ! يُعلّق القدّيس أغسطينوس على مثل العذارى الحكيمات والعذارى الجاهلات، قائلاً: [من هنَّ العشر عذارى اللاتي منهُنَّ خمس حكيمات وخمس جاهلات؟... هذا المثل أو هذا التشبيه لست أظن أنه ينطبق على أولئك النساء اللواتي يُدَّعينَ "عذارى" في الكنيسة من أجل قداستهِنَّ العظيمة، وإنما اعتقد أنه ينطبق على الكنيسة كلها... إنه لا ينطبق على الكهنة وحدهم الذين تحدّثنا عنهم بالأمس ولا على الشعب وحده وإنما على الكنيسة بأجمعها. لماذا كان عدد كل منهُنَّ خمس؟... كل روح في جسد تعُرف برقم خمسة، إذ تستخدم الحواس الخمس، فالجسد لا يدرك شيئًا إلا عن طريق المدخل ذي الخمسة أبواب: النظر والسمع والشم واللمس والتذوّق. فمن يضبط نفسه في النظر والسمع والتذوّق واللمس والشم بعيدًا عمَّا هو غير طاهر يحمل لقب "عذراء". إن كان من الصالح أن يحفظ الإنسان حواسه عن المثيرات الدنسة، وبذا يصير لكل نفس مسيحيّة لقب "عذراء"، فماذا إذن خمس منهُنَّ مقبولات وخمس مرفوضات؟ إنه لا يكفي أن يكُنّ عذارى وأن يحملن مصابيح، فهنّ عذارى لحفظهن من ملذّات الحواس الدنسة، ولهن مصابيح لأجل أعمالهن الصالحة التي يقول عنها الرب "فليُضيء نوركم قدَّام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجِّدوا أباكم الذي في السماوات" (مت 5: 16). مرّة أخرى يقول لتلاميذه: "لتكن أحقَّاؤكم ممنْطَقة وسُرُجِكم موقَدة" (لو 12: 35)، فبالأحقَّاء يعني البتولية والسُرُج الموقَدة يعني الأعمال الصالحة. إن لقب "البتولية" عادة لا ينطبق على المتزوّجين، لكنّه هنا يعني بتولية الإيمان التي تمثِّل الطهارة المكلَّلة. لذلك لتعلموا يا اخوتي المقدَّسين أن كل إنسان وكل نفس لها الإيمان عديم الفساد الذي به تُمسِك عن الأشياء غير الطاهرة وبه تَصنع الأعمال الصالحة لا تُحسب خِلسَة أن تدعى عذراء، فكل الكنيسة التي يدخل في عضويَّتها عذارى وصبيان ومتزوِّجين ومتزوِّجات يطلق عليها لقب "عذراء"، كيف هذا؟ لتسمع قول الرسول عن الكنيسة عامة وليس عن النساء المتبتّلات وحدهُنَّ: "خطبتُكم لرجل واحد لأقدِّم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2). ولأنه يجب الاحتراس من الشيطان مفسد الطهارة أردف الرسول قائلاً: "ولكنّني أخاف أنه كما خدعت الحيّة حواء بمكرها تُفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح" (2 كو 11: 3). قليلون اقتنوا بتولية الجسد لكن يليق بالكل أن يقتنوا بتولية الروح. فإن كان التحفظ من الفساد أمرًا صالحًا لذلك تقبل النفس لقب البتولية، وإن كانت الأعمال الصالحة تستحق المديح وقد شُبِّهت بالمصابيح، فلماذا خمس منهُنَّ مقبولات وخمس مرفوضات؟... وكيف نميِّز بين الاثنين؟ يميّز بينهُنَّ بالزيت؛ هذا الزيت هو شيء عظيم وعظيم جدًا، ألا وهو المحبّة... يقول الرسول: "وأيضًا أُريكم طريقًا أفضل: إن كنت أتكلّم بألسِنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبّة فقد صرتُ نحاسًا يَطِن أو صنجًا يَرِن" (1 كو 12: 31؛ 13: 1). هذه هي المحبّة، الطريق الأفضل، والتي شُبِّهت بالزيت، إذ يطفو على جميع السوائل. إن صبَبْت عليه ماءً يطفو الزيت....لأن "المحبّة لا تسقط أبدًا" (1 كو 13: 8).] لقد حملت العذارى الحكيمات زيتًا هو المحبّة، لذلك حتى إن نِمنَ مع الجاهلات أي رقدْنَ في القبر (1تس4: 13) وإن أبطأ العريس في قدومه حيث تمر آلاف السنين من آدم إلى مجيئه، لكنّه في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير (1كو15: 52) إذ تسمع الحكيمات صوته يجدن الزيت معهُنَّ فيشعلن مصابيحهن، أمّا الجاهلات فيطلبن زيتًا ولا يجِدُن! يرى القدّيس أغسطينوس: [أن هؤلاء الجاهلات يمثِّلْن النُسّاك الذين بسبب نسكهم صاروا عذارى، لكنهم كانوا يُرضون الناس لا الله؛ يحملون المصابيح ليمدحهم البشر، وليس لهم في داخلهم الزيت الذي يراه الله في القلب.] بنفس الروح يحذّرنا القدّيس جيروم بقوله: [ربّما تُفقَد البتولية بمجرد فِكر. فالبتوليّون الأشرار هم البتوليّون بالجسد دون الروح، هؤلاء أغبياء ليس لهم زيت، لذا يطردهم العريس.] 2. مثَل الوزنات أ. في هذا المثل يقدّم السيِّد لعبيده أموالاً، يعطي لواحد خمس وزنات، ولآخر وزنتين، ولثالث وزنة، كل واحدٍ قدر طاقته [14-15]. إنه لا يبخل على أحدٍ بعطاياه، ولا يُحابي أحدًا على حساب آخر، لكنّه يعرف كيف يوزِّع لكل قدر طاقته. فما قدّمه الله لنا من مواهب لم يقدّمها اعتباطًا، وإنما يعرف ما يناسب كل عضو لخلاصه. هذا يدفعنا ألا نتكبَّر على أصحاب المواهب الأقل ولا نحسِد أصحاب المواهب الأكثر، إنّما نشكر واهب المواهب... يكفي أنها من يديه. يقول الرسول: "أنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد، وأنواع خِدَم موجودة ولكن الرب واحد، وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد" (1 كو 12: 4-6). في حديث للقدّيس أغسطينوس مع شعبه يؤكّد لهم أن للكل وزنات قُدّمت لهم من قِبَل الله، إذ يقول لهم: [لا تظنّوا أن هذا العمل الخاص باستخدام الوزنات لا يخصّكم أنتم أيضًا. حقًا لا تستطيعون العمل من هذا الكرسي (الأسقفي) لكنكم تستطيعون ممارسته قدر ما تتاح لكم الفرصة. أينما هُوجم المسيح دافعوا عنه، أجيبوا على المتذمِّرين، انتهروا المجدِّفين وابتعدوا عن مصادقتهم... قوموا بأعباء وظيفتكم في منازلكم. فالأسقف يُدعى هكذا لأنه يَسُوس الآخرين، ويهتمّ بهم وينصت إليهم. إذن فكل إنسان مادام هو رأس منزله فليعمل عمل الأسقف مهتمّا بإيمان بيته حتى لا يسقط أحدهم في هرطقة: لا زوجة ولا ابن ولا ابنة ولا عبد له، لأنهم قد اُشتروا بثمن هذا مقداره... لا تُهمل أصغر هؤلاء الذين ينتمون إليك بل اِهتم بخلاص كل أهل بيتك بكل سهر؛ فإن فعلتم هذا تكونون قد استخدمتم الوزنة ولا تُحسَبون عبيدًا كسالى ولا تخافون العقاب المرعب.] ب. لا ينتظر الله الربح في ذاته، ولا يهتم بكميَّته، إنّما يهتم بأمانة عبيده أو إهمالهم. فما اقتناه العبدان أصحاب الخمس وزنات والوزنتين هو "الأمانة في الوكالة"، فتأهّلا أن يُقاما على الكثير، أمّا أصحاب الوزنة الواحدة فمشكلته إهماله، إذ أخفي الوزنة وعاش عاطلاً. ج. الربح يجلب ربحًا، والخسارة تجلب خسارة، والخطيّة تلد خطيّة، فصاحب الخمس وزنات إذ ربح خمس وزنات أقيم على الكثير بدخوله إلى فرح سيّده، أمّا صاحب الوزنة فإنه إذ أهمل وعاش عاطلاً ليس فقط لم يربح وزنة أخرى، وإنما خسر الوزنة التي لديه، وسقط في خطيّة أخرى وهي اتّهام سيّده بالقسوة والظلم، إذ يقول له: "يا سيّد، عرفت أنك إنسان قاسِ تحصد حيث لم تزرع، وتجمع من حيث لم تبذر، فخفت ومضيت وأخفيت وزنتك في الأرض" [24-25]. حياة الكسل والبّطالة دفعته لاتّهام سيّده بالقسوة، وهذا بالتالي دفعه للخوف... كل خطيّة تسلّمه إلى خطيّة وكما يقول الأب يوحنا من كرونستادت: [كل خطيّة تبدو بسيطة وغير هامة تقود إلى خطايا أخطر، لذا يجب مقاومتها في بدايتها وسحقها.] ولعلّ أهم الخطايا التي تبدو هيّنة لكنها محطِّمة هي التهاون أو الكسل، وكما يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [إذ يعرف بولس أن الكسل هو باب الهلاك يقول: "ويل لي إن كنت لا أبشر" (1 كو 9: 16).] د. حينما بدأ السيِّد بإدانة عبيده أو محاسبتهم بدأ بأصحاب الخمس وزنات فالوزنتين ثم الوزنة. كلما كثرت المواهب كلما كانت دينونتنا تسبق الآخرين ونُطالَب بأكثر. هـ. المكافأة هي "اُدخل إلى فرح سيّدك" [21]، هي دخول إلى العرس الأبدي ليبقى في الداخل، أمّا الجزاء فهو "اِطرحوه إلى الظلمة الخارجيّة" [30]، أي عدم التمتّع برؤية الله النور الحقيقي، وإنما البقاء خارجًا في الظلمة. الذين يدخلون يوجَدون في الداخل حيث لا يمكن إخراجهم خارجًا، وعلى العكس الذين هم في الخارج لا يقدرون على التمتّع بالداخل. يتحدّث القدّيس أغسطينوس على هذا الفرح الداخلي أثناء تعليقه على عبارة السيِّد: "كل ما يعطيني الأب فإليّ يقبل، ومن يقبل إليّ لا أخرجه خارجًا" (يو 6: 37). [أيّ نوع من الداخل هذا الذي لا يخرجون منه خارجًا؟ إنه حياة داخليّة ممتازة، مأوى حلو! يا له من مسكن خفي بلا قلاقل بغير مرارة الأفكار الشرّيرة، وبدون إغراءات الشهوات وفساد الأحزان! أليس هذا هو الموضع السرّي الذي يدخله العبد المستحق، الذي يقول له الرب: "اُدخل إلى فرح سيّدك".] يتحدّث الأب يوحنا من كرونستادت عن هذا الفرح الأبدي السماوي كاِمتداد طبيعي لحياتنا الروحيّة السماويّة التي نعيشها هنا على الأرض، إذ يقول: [خدمتنا الأرضيّة المتنوّعة لمَلِكنا ووطننا هي صورة لخدمتنا الرئيسيَّة لمَلِكنا السماوي، هذه التي يجب أن تستمر أبديًا، هذا الذي يلزمنا أن نخدمه بحقٍ قبل الكل... الخدمة الأرضيّة هي محك وخدمة بدائية للخدمة السماويّة.] المفهوم الرمزي للمثَل يرمز صاحب الوزنات الخمس للمؤمن الذي يقدّم حواسه الخمس مقدّسة لعريسه السماوي، معلنًا عمل روح الله القدّوس في جسده كما في نفسه ليكون بكلّيته للرب السماوي. بمعنى آخر، يُشير إلى الإنسان الذي يضرم فيه مواهبه لله خلال أبواب حواسه الخمسة. أما صاحب الوزنتين فيرمز إلى المؤمن الذي امتلأ قلبه بمحبّة أخيه في الرب، إذ يصير الاثنان واحدًا في الرب. ولهذا السبب نجد السامري الصالح يقدّم دِرهمين لصاحب الفندق علامة محبّته للجريح، والأرملة التي امتدحها السيِّد قدّمت فِلسين علامة حبّها لله ولاخوتها المحتاجين. وفي قبر السيِّد المسيح وُجد ملاكان، واحد عند الرأس والآخر عند القدمين إشارة إلى الحب الذي ربط السمائيّين مع الأرضيين فصار الكل جسدًا واحدًا في الرب المصلوب. وقد أعلن السيِّد ذاته لتلميذيّ عِمواس، مظهرًا أنه يكشف عن أسراره للقلوب المحبّة. إذن فصاحب الوزنات الخمس وصاحب الوزنتين نالا المكافأة الأبديّة بسبب حبِّهما لله والناس، أمّا صاحب الوزنة الواحدة التي دفنها في التراب فيُشير إلى الإنسان الأناني الذي يعمل لحساب ذاته وحده، فلا يرتبط بحب مع الله والناس، وإنما يتَقوْقع حول ذاته في أنانيّة قادرة أن تدفنه في التراب، وتجعل منه إنسانًا أرضيًا لا يقدر أن يرتفع نحو السماء حيث الحب! مثل هذا الإنسان الذي يحيا في التراب ليُشبع ذاته، يفسد نفسه ويخنقها إذ يدفنها في شهوات الجسد الترابي، فلا ينتفع روحيًا وحتى جسده يهلك، فيفقد السماء والأرض معًا. 3. مجيء ابن الإنسان بعد أن تحدّث عن انتظار العذارى لعريسهِنَّ وترقَّب العبيد الحكماء لمجيء سيّدهم ليدخل بهم إلى الفرح، كشف بأكثر وضوح هذا المجيء الأخروي. أولاً: "متى جاء ابن الإنسان في مجده" [31]، ويؤكّد السيِّد "لأن الآب لا يدين أحدًا، بل قد أَعطى كل الدينونة للابن" (يو 5: 22). ويُعلّق القدّيس أغسطينوس على ذلك معلنًا أن الابن المتجسّد هو الذي يدين، حتى لا يرى الأشرار أمجاد اللاهوت، إنّما تقف نظرتهم عند حدود الجسد الذي يظهر مُرهبًا لهم. يظهر بشكل عبد للعبيد، ويحفظ شكل الله للأبناء. ثانيًا: يهب الملكوت للذين قدّموا حبًا للصغار كما للسيِّد المسيح نفسه. وكما يقول القدّيس جيروم: [كل مرّة تبسط يدك بالعطاء أذكر المسيح.] ويقول: [الهيكل الحقيقي للمسيح هو نفس المؤمن فلنزيِّنه ونقدّم له ثيابًا،لنقدِّم له هبات، ولنرحِّب بالمسيح الذي فيه! ما نفع الحوائط المرصَّعة بالجواهر إن كان المسيح في الفقير في خطر الهلاك بسبب الجوع؟] يقول القدّيس كبريانوس: [ماذا يمكن أن يُعلَن المسيح أكثر من هذا؟ كيف يمكنه أن يحُثُّنا على أعمال البرّ والرحمة أكثر من قوله أن ما نعطيه للفقراء والمحتاجين إنّما نقدّمه له هو نفسه، وقوله أنه يحزن من أجل المحتاجين والفقراء إن لم يأخذوا منّا. فمن كان في الكنيسة ولا يعطي أخاه ربّما يتأثّر مفكرًا في المسيح. من لا يفكّر في رفيقه العبد المتألّم الفقير ربّما يفكّر في إلهه الساكن في هذا الرجل الذي يحتقره.] كما يقول القدّيس أمبروسيوس: [أيّة كنوز ليسوع أفضل من هؤلاء المساكين الذين يجب أن يُرى يسوع فيهم؟] كما يقول: [اخدموا الفقراء تخدمون المسيح.] لا يقف العطاء عند الجانب المادي، إنّما يلزمنا أن نسكب الحب كطيب ندهن به قدميّ المخلّص نفسه خلال هؤلاء الأصاغر، أي النفوس المحطَّمة والمحتاجة. وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [مات المسيح مرّة ودُفن مرّة واحدة، ومع هذا يودّ أن يُسكب الطيب على قدميه كل يوم. من هم الذي يُحسَبون قدمين للمسيح فنسكب عليهم الطيب إلا الذين قال عنهم: "بما أنكم فعلتم بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم" [40]. هاتان هما القدمان اللتان أنعشَتْهما المرأة المذكورة في الإنجيل وغسلَتْهما بدموعها.] ثالثًا: يقدّم السيِّد ملكوته السماوي لمن هم أنفسهم قد صاروا ملكوته أثناء غربتهم، إذ سبقوا فحملوه فيهم كملكوت يُشرق عليهم بمجده. يقول القدّيس أغسطينوس معلِّقًا على قول السيِّد: "تعالوا يا مباركي أبي رثو الملكوت المُعد لكم منذ تأسيس العالم" (مت 25: 34). [بمعنى أنتم الذين كنتم الملكوت لكن بغير سلطان لتحكموا، تعالوا لكي تملكوا! أنتم الذين كنتم قبلاً في الرجاء وحده، أمّا الآن فتنالون السلطان كحقيقة واقعة! إذن فإن بيت الله هذا، هيكله، ملكوت السماوات، لا يزال في دور البناء والتنفيذ والإعداد للاجتماع. فيه سيكون مواضع يعدّها الرب الآن، كما فيه أُعدّت بالفعل مواضع كما أوصانا الرب.] رابعًا: يقدّم السيِّد المسيح الملكوت لمؤمنيه بكونه: "المُعد لهم منذ تأسيس العالم" [34]، وعندما يُطرد الأشرار يقول عن النار الأبديّة "المُعدَّة لإبليس وملائكته" [41]، فهو لم يُعِد الإنسان للنار الخارجيّة وإنما للملكوت الأبدي. وقد اختار الأشرار لأنفسهم بأنفسهم أن يُلقوا فيما أُعدّ لغيرهم أي "إبليس وجنوده". أخيرًا فإن الملكوت الذي ننظره هو التمتّع بالسيِّد المسيح نفسه الذي هو سرّ فرحنا الأبدي، يملك فينا، ونقطن فيه إلى الأبد. وكما يقول القدّيس كبريانوس: [المسيح نفسه أيها الإخوة الأحيًاء هو ملكوت الله الذي نشتاق إليه من يوم إلى يوم لكي يأتي. مجيئه هو شهوةٌ لنا نودّ أن يُعلن لنا سريعًا. مادام هو نفسه قيامتنا ففيه نقوم، لنفهم ملكوت الله أنه هو بنفسه إذ فيه نملك.] 1 حينئذ يشبه ملكوت السماوات عشر عذارى اخذن مصابيحهن و خرجن للقاء العريس 2 و كان خمس منهن حكيمات و خمس جاهلات 3 اما الجاهلات فاخذن مصابيحهن و لم ياخذن معهن زيتا 4 و اما الحكيمات فاخذن زيتا في انيتهن مع مصابيحهن 5 و فيما ابطا العريس نعسن جميعهن و نمن 6 ففي نصف الليل صار صراخ هوذا العريس مقبل فاخرجن للقائه 7 فقامت جميع اولئك العذارى و اصلحن مصابيحهن 8 فقالت الجاهلات للحكيمات اعطيننا من زيتكن فان مصابيحنا تنطفئ 9 فاجابت الحكيمات قائلات لعله لا يكفي لنا و لكن بل اذهبن الى الباعة و ابتعن لكن 10 و فيما هن ذاهبات ليبتعن جاء العريس و المستعدات دخلن معه الى العرس و اغلق الباب 11 اخيرا جاءت بقية العذارى ايضا قائلات يا سيد يا سيد افتح لنا 12 فاجاب و قال الحق اقول لكن اني ما اعرفكن 13 فاسهروا اذا لانكم لا تعرفون اليوم و لا الساعة التي ياتي فيها ابن الانسان 14 و كانما انسان مسافر دعا عبيده و سلمهم امواله 15 فاعطى واحدا خمس وزنات و اخر وزنتين و اخر وزنة كل واحد على قدر طاقته و سافر للوقت 16 فمضى الذي اخذ الخمس وزنات و تاجر بها فربح خمس وزنات اخر 17 و هكذا الذي اخذ الوزنتين ربح ايضا وزنتين اخريين 18 و اما الذي اخذ الوزنة فمضى و حفر في الارض و اخفى فضة سيده 19 و بعد زمان طويل اتى سيد اولئك العبيد و حاسبهم 20 فجاء الذي اخذ الخمس وزنات و قدم خمس وزنات اخر قائلا يا سيد خمس وزنات سلمتني هوذا خمس وزنات اخر ربحتها فوقها 21 فقال له سيده نعما ايها العبد الصالح و الامين كنت امينا في القليل فاقيمك على الكثير ادخل الى فرح سيدك 22 ثم جاء الذي اخذ الوزنتين و قال يا سيد وزنتين سلمتني هوذا وزنتان اخريان ربحتهما فوقهما 23 قال له سيده نعما ايها العبد الصالح و الامين كنت امينا في القليل فاقيمك على الكثير ادخل الى فرح سيدك 24 ثم جاء ايضا الذي اخذ الوزنة الواحدة و قال يا سيد عرفت انك انسان قاس تحصد حيث لم تزرع و تجمع من حيث لم تبذر 25 فخفت و مضيت و اخفيت وزنتك في الارض هوذا الذي لك 26 فاجاب سيده و قال له ايها العبد الشرير و الكسلان عرفت اني احصد حيث لم ازرع و اجمع من حيث لم ابذر 27 فكان ينبغي ان تضع فضتي عند الصيارفة فعند مجيئي كنت اخذ الذي لي مع ربا 28 فخذوا منه الوزنة و اعطوها للذي له العشر وزنات 29 لان كل من له يعطى فيزداد و من ليس له فالذي عنده يؤخذ منه 30 و العبد البطال اطرحوه الى الظلمة الخارجية هناك يكون البكاء و صرير الاسنان 31 و متى جاء ابن الانسان في مجده و جميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسي مجده 32 و يجتمع امامه جميع الشعوب فيميز بعضهم من بعض كما يميز الراعي الخراف من الجداء 33 فيقيم الخراف عن يمينه و الجداء عن اليسار 34 ثم يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي ابي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تاسيس العالم 35 لاني جعت فاطعمتموني عطشت فسقيتموني كنت غريبا فاويتموني 36 عريانا فكسوتموني مريضا فزرتموني محبوسا فاتيتم الي 37 فيجيبه الابرار حينئذ قائلين يا رب متى رايناك جائعا فاطعمناك او عطشانا فسقيناك 38 و متى رايناك غريبا فاويناك او عريانا فكسوناك 39 و متى رايناك مريضا او محبوسا فاتينا اليك 40 فيجيب الملك و يقول لهم الحق اقول لكم بما انكم فعلتموه باحد اخوتي هؤلاء الاصاغر فبي فعلتم 41 ثم يقول ايضا للذين عن اليسار اذهبوا عني يا ملاعين الى النار الابدية المعدة لابليس و ملائكته 42 لاني جعت فلم تطعموني عطشت فلم تسقوني 43 كنت غريبا فلم تاووني عريانا فلم تكسوني مريضا و محبوسا فلم تزوروني 44 حينئذ يجيبونه هم ايضا قائلين يا رب متى رايناك جائعا او عطشانا او غريبا او عريانا او مريضا او محبوسا و لم نخدمك 45 فيجيبهم قائلا الحق اقول لكم بما انكم لم تفعلوه باحد هؤلاء الاصاغر فبي لم تفعلوا 46 فيمضي هؤلاء الى عذاب ابدي و الابرار الى حياة ابدية |
||||
17 - 07 - 2012, 07:21 AM | رقم المشاركة : ( 26 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير كامل لانجيل متى لابونا تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح السادس والعشرون فِصح الملكوت الجديد دخل السيِّد أورشليم ليُحفظ كخروف الفِصح، مقدّمًا ذاته الذبيحة الفريدة عن البشريّة كلها، وحياته فدية عن الجميع. 1. الفِصح والصليب 1-2. 2. التشاور ضدّه 3-5. 3. سكب الطيب لتكفينه 6-13. 4. خِيانة يهوذا 14-16. 5. تقديم الفِصح 17-25. 6. العشاء الأخير 26-30. 7. تحذيرهم من الشك 31-35. 8. في جثّسيماني 36-46. 9. القبض على السيِّد 47-56. 10. المحاكمة الدينيّة 57-68. 11. إنكار بطرس 69-75. 1. الفِصح والصليب "لما أكمل يسوع هذه الأقوال كلها قال لتلاميذه: تعلمون أنه بعد يومين يكون الفِصح، وابن الإنسان يسلّم ليصلب" [1-2]. في حديث السيِّد المسيح مع تلاميذه يربط الفِصح بالصليب بكونه الفِصح الفريد الذي قدّمه السيِّد بنفسه، ليعبُر بالبشريّة المؤمنة من العبوديّة القاتلة إلى الراحة الحقيقيّة، ويرفعهم من الاهتمام بالحياة الأرضيّة ليدخل بهم إلى حضن أبيه. وقد سبق لنا دراسة هذه العلاقة أثناء دراستنا الاصحاح الثاني عشر من سفر الخروج. v يتحقّق سرّ الفِصح في جسد الرب... فقد أُقتيد كحَمل، وذُبح كشاه، مخلِّصًا إيّانا من عبوديّة العالم (مصر)، ومحرِّرنا من عبوديّة الشيطان كما من فرعون، خاتمًا نفوسنا بروحه، وأعضائنا الجسديّة بدمه... إنه ذاك الواحد الذي خلَّصنا من العبوديّة إلى الحرّية، ومن الظلمة إلى النور، ومن الموت إلى الحياة، ومن الظلم إلى الملكوت الأبدي. الأب ميليتو أسقف ساردس v إننا نعبُر من محبَّة الجسد إلى العفَّة، ومن جهلنا القديم إلى معرفة الله الحقيقيَّة، ومن الشرِّ إلى الفضيلة على رجاء الدخول إلى أمجاد البرّ عِوض عار الخطيّة، ونعبر من الموت إلى عدم الفساد. القدّيس كيرلّس الكبير 2. التشاور ضدّه "حينئذ اجتمع رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب إلى دار رئيس الكهنة الذي يُدعى قيافا، وتشاوروا لكي يمسِكوا يسوع بمكر ويقتلوه، ولكنهم قالوا ليس في العيد لئلا يكون شغَب في الشعب" [3-5]. تهتم الكنيسة بهذا التصرّف، فكرَّست يوم الأربعاء على مدار السنة فيما عدا أيام الخماسين، لكي يصوم المؤمنون تذكارًا لهذا التشاور. لقد اجتمعت السلطات الدينيّة معًا ليدبِّروا قتله عِوض أن يشهدوا للحق ويكرزوا به. كان يليق برئيس الكهنة الذي يشفع في الشعب أن يفرح بمجيء رئيس الكهنة الأعظم القادر وحده أن يدخل بالجميع إلى حضن أبيه السماوي، ويليق بالكتبة أن يتهلّلوا، لأن ما كانوا يحفظونه على الرقوق - أي كلمة الله المكتوبة - قد تحقّق بمجيء الله المتجسّد ليحل وسط الشعب، يلتقون به ويتحدّون معه، وكان يلزم لشيوخ الشعب وهم يرون الشعب قد اِلتف حول الملك المسيّا أن يتهلّلوا. كنّا نتوقع أن يجتمع هؤلاء جميعًا في دار رئيس الكهنة يُعلنون فرحهم بالمسيّا الملك الذي يُحقّق ما عجزوا عنه هم وأسلافهم، لكن شكليّة العبادة وحرفيّة الناموس وطلب الكرامات الزمنيّة والجري وراء الكراسي، هذه كلها قد أغلقت قلوبهم عن الحق، فسعوا وراءه ليقتلوه. حقًا لقد اِجتمعوا معًا في دار رئيس الكهنة يضمُّهم معًا فهمِهم الحرفي القاتل والتصميم على تدبير مؤامرة لقتل "الحياة" عينَه، ولم يدروا أن ما يفعلونه إنّما يقتل حَرْفهم القاتل، لقد ظنّوا أنهم قادرون على قتل الحياة بالصليب، ولكن كان هذا الصليب وحده القادر أن يصلِب حَرْفهم القاتل واهبًا إيّاهم الروح الذي يبني. لقد حسبوا أنهم قادرون أن يكتموا أنفاس النور بظلمتهم، ولم يدركوا أن النور يبدّد ظلمتهم ليستنيروا هم بنوره. لقد خافوا من الشعب المجتمع للاحتفال بعيد الفِصح السنوي، ولم يُدركوا أنهم بهذا التشاور ساهموا في تحقيق الفِصح الجديد الفريد، القادر أن يعبّر بهم من الحرف القاتل إلى الروح المحيي. v وقف حشد اليهود مع رئيسهم ضدّ مجد المسيح، وناضلوا ضدّ رب الجميع، لكنهم لم يُدركوا أنهم إنّما فعلوا ذلك ضدّ أنفسهم، ناصبين لأنفسهم الشباك. لقد حفروا لأنفسهم حُفرًا لهلاكهم، وكما يقول المرتّل: "تورَّطت الأمم في الحُفرة التي عملوها، في الشبكة التي أخفوها اِنتشبت أرجلهم" (مز 9: 15)، لأن المخلّص رب الكل وإن كانت يمينه كليّة القُدرة وقوّته تطرد الفساد والموت، لكنّه خضع بإرادته، إذ صار جسدًا ليذوق الموت من أجل حياة الكل، لكي يُبطل الفساد، وينزع الخطيّة عن العالم، ويخلّص الذين هم تحت يد العدوّ الطاغية غير المحتمل. القدّيس كيرلّس الكبير 3. سكب الطيب لتكفينه كانت الأحداث تتكاتف معًا لتحقيق الفِصح بالصليب، الأمر الذي من أجله تجسّد ابن الله. ففي بيت عينا في بيت سمعان الأبرص تقدّمت امرأة لتسكب قارورة طيب كثير الثمن وهو متكئ - كنبوّة عن تكفينه - وكأن ما فعلته هذه المرأة يمثّل عمل محبّة تقدّمه الكنيسة كلها لهذا الجسد الطاهر، الذي قبل الموت بإرادته من أجل خلاصها، كسِرّ الفِصح الحقيقي. كثيرات اِلتقيْن بالسيِّد المسيح ممثِّلات الكنيسة المتَّحدة بعريسها، أمّا هذه فتبدو لي أنها فاقت جميعهن بعد القدّيسة مريم والدة الإله التي حملت ربّنا في أحشائها لتُمثل الكنيسة وقد صارت ملكوته، تحمل في داخلها سرّ حياتها وبهجتها. التقت الكنيسة التي لم يروها من قبل بعريسها، خلال المرأة السامريّة (يو 4) التي تزوَّجت بخمسة رجال والذي كان معها ليس برجلها، فجاء الرجل الحق يدخل بها إلى البئر الحقيقي ليُرويها فتفيض على كل العالم بسرّ شبعها. وفي وسط زحام البشريّة التقت كنيسة العهد الجديد سرّيًا مع طبيبها الحقيقي تلمس ثيابه، فيتوقّف نزف دمها (مت 9) ويزول عنها دنسها، خلال القوّة التي انطلقت إلى أعماقها الداخليّة! وتقدّمت الكنيسة التي كانت قبلاً قد سقطت تحت حكم الموت كامرأة زانية أُمسِكت في ذات الفعل (يو 8: 2-11) فاغتصبت مراحمه الغافرة. وانطلقت الكنيسة كأرملة فقيرة تدخل هيكل الرب لا تعرف ما تقدّمه سوى فِلْسين، هما كل ما تملكه كتقدِمة حب مقبولة! والتقت الكنيسة كأم ابني زبدي تقدِّم أبناءها للعريس، لكي ينعموا بملكوته الأبدي خلال شركتهم معه في كأسه واِصطباغِهم بصِبغتِه. وفي شخص مرثا تقدّمت الكنيسة تخدم عريسها (لو 10) في شخص اخوته الأصاغر، كتقدّمة محبّة فائقة. وفي بيت سمعان الفرّيسي اقتحمت المرأة الخاطئة المجلس (لو 7) لتقف عند قدميّ السيِّد من ورائه باكية، وكانت تَبِل قدميه بالدموع وتمسحهما بشعر رأسها، تُقبِّل قدميه وتدهنهما بالطيب (لو 7: 38) ممثّلة سرّ العضويّة الكنسيّة. إنه دخول إلى السيِّد المسيح لتلتقي به دون أن تعوقها الحياة الفرّيسيَّة التي لسمعان. فتقف النفس في اتّضاع تسكب دموع التوبة على قدمي المخلّص، وتنحني برأسها أيضًا، فكرها وشعرها أيضًا، جمالها الجسدي تمسح به القدمين. أنها تُعلن توبتها الممتزجة بالفرح، إذ تُقبِّل قدميه وتسكب الطيب عليهما، فتُعلن رائحة المسيح الذكيّة في حياتها. أما هذه المرأة التي التقت بالسيِّد في بيت عنيا في بيت سمعان الأبرص، فجاءت تُعلن أروع لقاء للعروسين - الكنيسة مع عريسها - في حِجالِه السماوي لتسكُب كل حياتها رائحة طيب كثير الثمن يملأ السماء والأرض برائحة الحب الذكيّة ـ ما جاء عن هذا اللقاء يدخل بنا إلى أسرار فائقة، أقف أمامها في دهشة لا أعرف كيف أُعبِّر عنها. أنها تحمل سرّ حياة أبديّة لا يمكن للغة البشريّة أن تُسجّلها كما هي! أولاً: هذه المرأة غالبًا هي القدّيسة مريم أخت لعازر ومرثا، والتي عُرفت بجلساتها الهادئة عند قدميّ المخلّص تسمع له وتتحدّث معه، بينما كانت مرثا ترتبك بخدمات كثيرة. لقد عرَفت كيف تبيع كل شيء لتقتني اللؤلؤة الكثيرة الثمن. خلال لقائها المستمر مع السيِّد تعرَّفت على سرّ الصليب وأدركت موته وتكفينه، لا كأحداث تاريخيَّة تترقبْها في تخوُّف واضطراب، وإنما كأعمال إلهيّة فائقة. لهذا كانت تبذل كل الجهد أن تدَّخِر كل ما يمكن ادِّخاره لتقدِّم قارورة الطيب الكثيرة الثمن في الوقت المناسب وفي المكان المناسب. ففي قارورة الطيب رأى السيِّد قلب الكنيسة عروسه وقد أدركت سرّ موته، كسرّ طيب مفرح ومبهج للنفس، لهذا أعلن بقوَّة أنه حيثما يُكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يُذكر ما فعلته هذه المرأة. ويقول الإنجيلي مرقس أنها كسرت القارورة! يا له من سرّ عجيب، فإن الكنيسة وقد رأت السيِّد يقدّم حياته مبذولة على الصليب، وينابيع حبّه لها تتفجَّر خلال الجنب المطعون، تقدّمت هي أيضًا في شخص مريم كقارورة طيب تكسرها بإرادتها لتُفجِّر رائحة حبّها خلال الطيب. وهكذا يمتزج الحب بالحب، والألم بالألم، والصليب بالصليب، والجنب المطعون بالقارورة المنكسرة والمسكوبة على الجسد المقدّس! ثانيًا: تمّ اللقاء في بيت عنيا في بيت سمعان الأبرص. إنه "بيت عنيا" موطن مريم، جاء إليه السيِّد مفضِّلاً إيّاه عن أورشليم، فيه يستريح كل ليلة. "بيت عنيا" تعني "بيت العناء" أو "بيت الألم"، فقد جاء إلينا إلى أرض آلامنا، لكي نلتقي به خلال الألم، نُدرك دفنه، لنُدفن معه، نقدّم له حياتنا مبذولة من أجله. اِلتقت به في بيت سمعان الأبرص، ولعلّ سمعان هذا كان أبرصًا طهَّره السيِّد. لقد جاء إلينا، إلى حياتنا البرصاء الدنسة لا ليحتقرها ولا ليأنف منها لأنها لا تقدر أن تُدنِّس القدّوس بل هو يطهرها. هنا تلتقي الكنيسة مقدَّسة وطاهرة بعريسها المتكئ في بيتها لتقدّم له تقدمة شكر! وكما لم تستطيع فرّيسيَّة سمعان أن تحرم المرأة الخاطئة من الالتقاء به لتقدِّم توبتها (لو 7)، فإنه لم يكن ممكنًا لبرص سمعان هنا إعاقة اِلتقاء مريم الشاكرة بمصدر تقديسها. ثالثًا: كان توقيت اللقاء دقيقًا للغاية، فقد جاء بعد إقامة لعازر شقيقها من الأموات كتقدّمة شكر. فرحت بإقامة أخيها من القبر فجاءت بإرادتها لكي تُدفن هي مع عريسها في القبر المقدَّس وتقوم به وفيه. في آخر يوم يأتي فيه السيِّد إلى بيت عنيا، إذ كان ذلك يوم الأربعاء بعد تشاور القادة اليهود لقتله، ولم يبق سوى خميس العهد حيث يُقبض على السيِّد لمحاكمته وصلبه، فلو تأخَّرت يومًا واحدًا لما نالت هذه الكرامة العظيمة، لما استحقَّت أن تتنبَّأ عن تكفينه. إنه بالروح الإلهي أدركت في أعماقها الوقت اللائق للالتقاء به بهذه الصورة الفريدة. v لقد قبِل السيِّد أن يُسكب الطيب فوق رأسه حتى يُعطِّر الكنيسة بنسائم عدم الفساد. لا تدهنوا بعفونة تعليم رئيس هذا العالم (إبليس) لئلا يقودكم إلى الأسْر بعيدًا عن الحياة المُعدَّة لكم. القدّيس أغناطيوس أسقف أنطاكية v المسيح ليس في حاجة إلى طيب، ولا الشهداء في حاجة إلى نور الشموع، لكن المرأة سكبت الطيب تكريمًا للمسيح فقبِل ورَع قلبها. القدّيس جيروم 4. خيانة يهوذا يقول الأب يوسف: [أي شيء يمكن أن تقدّمه أكثر فائدة للعالم كلّه مثل بركات آلام الرب المخلِّصة؟! ومع هذا فإن الخائن الذي سلَّم الرب للآلام لم ينتفع شيئًا من خيانته، بل أصابه ضرر بالفعل، إذ قيل عنه "ويل لذلك الرجل الذي به يُسلَّم ابن الإنسان، كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد" (مت 26: 24). فثِمار عمله لا ترتد إليه حسب ما جاءت به من نتائج فعليّة، بل حسب ما أراد هو واِعتقد.] في الوقت الذي تسلَّلت فيه القدّيسة مريم لتلتقي مع عريسها في بيت عنيا، تُعلن شوقها أن تُدفن معه، إذ بيهوذا "التلميذ" يبيع السيِّد بدراهم قليلة كعبد. لقد كان يهوذا مع السيِّد أغلب الأيام يقضي الساعات الطويلة، بل وأحيانًا الأيام، يراه يصنع أعمالاً عجيبة ويسمعه كثيرًا، بل ونال منه سلطانًا للكرازة وعمل الآيات، لكن قلبه لم يلتقي معه بسبب محبّة المال، أمّا المرأة فلم ترى هذا كلّه ولا سمعت مثله ولا نالت سلطانًا، لكنها تعرَّفت عليه بنقاوة قلب. لقد أعمى الطمع قلب يهوذا ليبيع سيّده، أمّا المرأة فتقدّمت بالحب في حرارة الروح لتتقبّل عمل الخلاص وحق الكرازة الخفيّة. لم تكن مريم كيهوذا تنعم بالتملذة... فإن سرّ القوّة لا يكمن في مركز الإنسان أو عمله، بل في حياته الداخليّة... يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [الإنسان الفاضل وإن كان عبدًا أو سجينًا فهو أكثر الناس سعادة!... ضعيفة هي الرذيلة وقويّة هي الفضيلة.] لقد قدّمت مريم غناها عطيّة للرب لتبقى غنيَّة في داخلها، حتى وإن بدت بلا أموال، وباع يهوذا سيّده بالفضّة ليبقى فقيرًا حتى وإن تمتّع بالفضّة في يديه. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [من هو ليس غنيًا في نفسه لا يمكن أن يكون غنيًا، كما أنه لا يمكن أن يكون فقيرًا من هو ليس بفقيرٍ في ذهنه. فإن كانت النفس هي أسمى من الجسد، فالأعضاء الأقل سُموًا ليس لها سلطان تؤثّر به حتى على ذاتها، أمّا ما هو أسمى فإنه يؤثر عليها ويغيِّرها]، كما يقول: [لا نفع للمال إذا كانت النفس فقيرة، ولا ضرر من الفقر إن كانت النفس غنية.] إن كانت القدّيسة مريم تمثِّل النفوس الأمينة التي تتقدّم بالحب إليه. فإن يهوذا يمثّل النفوس الخائنة التي تسعى وراء الشرّ وتبيع سيّدها بمُتعة زمنيّة. يلزمنا هنا أن نُدرك أنه ليس كل خطيّة يسقط فيها الإنسان هي خيانة الرب، وإنما الجري وراءها والبحث عنها، يطلبها الإنسان مستهينًا بالدم، فهذه تُحسب خيانة! v اليد التي تناولت العطيّة المقدّسة منذ لحظات قامت لتتسلَّم أجرة تآمرها لموت سيّدها. القدّيس كيرلّس الأورشليمي v عندما أعدَّ التلاميذ الفِصح أكله المسيح معهم، إذ أطال أناته على الخائن، وقبل أن يضمه إلى مائدة محبّته المترفِّقة اللانهائية - مع أنه كان خائنًا، وكان الشيطان قد وجد له موضعًا فيه. v يقول "واحد من الاثنى عشر" (26: 14، 47). هذا أمر غاية في الأهمّية إذ يوضّح خطيّة الخيانة بأكثر جلاء. فإن الذي كرَّمه مساويًا إيّاه بالبقيَّة، وزيّنه بالكرامات الرسوليّة، وجعله المحبوب وضمّه للمائدة المقدّسة... صار طريقًا ووسيلة لقتل المسيح. v أي موضع وجده الشيطان في يهوذا؟ إنه لم يقدر أن يقترب إلى كل الذين أشرت إليهم (الطوباوي بطرس أو يعقوب أو يوحنا...) لأن قلوبهم كانت راسخة ومحبّتهم للمسيح ثابتة، لكن الشيطان وجد له موضعًا في الخائن، من أجل مرض الطمع المرّ الذي يقول عنه الطوباوي بولس "أصل كل الشرور" ( 1تي 6: 10) كان قد هزمه. القدّيس كيرلّس الكبير 5. تقديم الفِصح كلما اقتربت ساعة الصليب كان الإنجيليُّون يبرزون كل تصرُّف للسيِّد المسيح بتفاصيله، لتكشِف عن أسرار عمله الخلاصي. "في أول أيام الفطير تقدّم التلاميذ إلى يسوع، قائلين له: أين تريد أن نُعد لك لتأكل الفِصح؟ فقال اذهبوا إلى المدينة إلى فلان وقولوا له: المعلّم يقول: إن وقتي قريب، عندك أصنع الفِصح مع تلاميذي، ففعل التلاميذ كما أمرهم يسوع وأعدّوا الفِصح" [17-19]. لِمَ سأل التلاميذ السيِّد هذا السؤال؟ أولاً: ربّما لأن التلاميذ إذ تبعوا السيِّد تركوا كل شيء، فصاروا كمن ليس لهم موضع يُعدُّون فيه الفِصح. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [من هذا يتَّضح أنه لم يكن له بيت ولا مكان للإقامة، كما يُفترض أنهم هم أيضًا كانوا هكذا، وإلا لتوسَّلوا إليه أن يذهب هناك.] ثانيًا: كان الفِصح في الطقس اليهودي يتمّ على مستوى عائلي، تقوم كل عائلة بذبح خروف الفِصح، وإن لم يكن في استطاعة العائلة ذلك يمكنها أن تنضم إلى عائلة أخرى، لكن السيِّد المسيح قدّم مفهومًا جديدًا للفِصح الجديد، فإن العائلة التي تحتفل به، إنّما رأسها السيِّد المسيح نفسه، وأعضاؤها يرتبطون بعلاقة روحيّة في المسيح، وليس خلال قرابة دمويَّة. "ولما كان المساء اِتَّكأ مع الاثني عشر، وفيما هم يأكلون قال: "الحق أقول لكم إنَّ واحدًا منكم يسلّمني" [20-21]. العجيب أن السيِّد تحدّث عن خائنه وسط الجماعة دون أن يُشير إليه، كان مهتمًّا بخلاص نفسه دون أن يجرح إحساساته، ولكن إذ رأى السيِّد أن التلاميذ حزنوا جدًا، وابتدأ كل واحد منهم يقول له: "هل أنا هو يا رب" [22]، خاف السيِّد عليهم من هذا الاضطراب لئلا يهلكوا يأسًا، فاضطّرّ أن يُشير إليه. ولئلا يظن التلاميذ أن ما يحدث للسيِّد يتم عن ضعف أكَّد: "إن ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذلك الرجل الذي يُسلِّم ابن الإنسان، كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد" [24]. لقد أعلن السيِّد بؤس يهوذا حتى يؤكِّد أن ما يتم وإن كان بتدبيرٍ إلهيٍ لكن ما يفعله يهوذا لا يتم بغير إرادته؛ لقد كان يهوذا شرِّيرًا وقد استخدم الله شرُّه لتحقيق الأمور الإلهيّة. 6. العشاء الأخير إذ كانوا يأكلون الفِصح اليهودي الرمزي "أحضر يسوع الخبز، وبارك وكسَّر وأعطى التلاميذ، وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي، وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلّكم، لأن هذا هو دمي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا" [26-28]. يُعلّق القدّيس كيرلّس الكبير على العشاء الأخير، قائلاً: [بأيَّة وسيلة يمكن للإنسان الذي على الأرض وقد اِلتحف بالمائت أن يعود إلى عدم الفساد؟ أجيب أن هذا الجسد المائت يجب أن يشترك في قوّة واهب الحياة النازلة من الله. أمّا قوّة واهب الحياة التي لله الآب فهي الابن الوحيد الكلمة، الذي أرسله إلينا مخلّصًا وفاديًا. كيف أرسله إلينا؟ يخبرّنا يوحنا الإنجيلي بكل وضوح: "والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا" (يو 1: 14)... عندما نأكل جسد المسيح المقدّس، مخلّصنا جميعًا، ونشرب دمه الكريم ننال الحياة فينا، إذ نكون كما لو أننا واحد معه، نسكن فيه وهو يملك أيضًا فينا... لا تشك فإن هذا حق مادام يقول بنفسه بوضوح: "هذا هو جسدي، هذا هو دمي" (يو 6)، بل تقبل كلمة المخلّص بإيمان، إذ هو الحق الذي لا يقدر أن يكذب .] لقد تحقّق ذلك في المساء [20] وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [المساء علامة أكيدة عن تمام الأزمنة، وأن الأمور قد جاءت الآن إلى ذات النهاية .] إذ أكمل السيِّد الفِصح حتى لا يُحسب متراخيًا في الشريعة، قدّم ذاته فِصحًا جديدًا عن البشريّة كلها، معلنًا أن ذبيحة الصليب لم تتم اعتباطًا وإنما بإرادته يسلّم نفسه للصليب. قام بتحويل الخبز والخمر إلى جسده ودمه الأقدسين ذبيحة حقيقيّة واهبة للغفران [28]. لقد قدّمها لكنيسته لكي تتمتّع بها عبر الأجيال تأكيدًا لاستمرار ذبيحة الصليب، كذبيحة حيّة وفريدة خلالها ينعم على المؤمنين بجسده ودمه الأقدسين كسِرّ حياتهم... يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [كثيرون يقولون الآن أرغب في رؤية هيئته وملابسه ونعاله، آه ها أنت تراه وتلمسه وتتناوله! حقًا أنت تريد ملابسه وها هو يعطي لك ذاته، لا لكي تراه فحسب بل تلمسه وتتناوله وتقبله في داخلك.] يكمّل السيِّد كلماته: "وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرْمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي" [29]. ما هو هذا الجديد الذي نشربه معه في ملكوت أبينا إلا تمتّعنا بشركة الاتّحاد مع الله في ذبيحة ابنه في السماوات على مستوى جديد. إنه اِمتداد لليتورجيّة الحاليّة ولكن بطريقة لا ينطق بها! بعد التناول "سبَّحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون" [30]. لقد تمَّت ذبيحة الشكر لتختم بالتسابيح، الأمر الذي تعيشه الكنيسة في كل قداس إلهي حيث تختم ليتورجيَّا الإفخارستيا بالتسابيح المفرحة خاصة المزمور 150. 7. تحذيرهم من الشك إذ اِنطلق السيِّد بتلاميذه إلى جبل الزيتون فقد انطلق بإرادته ليتقبّل الكأس من يدي الآب، حيث يقبل أن يحمل ثقل خطايانا على كتفيه مقدّمًا نفسه ذبيحة إثم عنّا. في طريقه إلى الصليب حذّر تلاميذه وشجَّعهم محدِّثًا إيّاهم عن الصليب والقيامة معًا، إذ يقول: "كلّكم تشكّون فيّ في هذه الليلة، لأنه مكتوب أني أضرب الراعي فتتبدّد خراف الرعيّة، ولكن بعد قيامي أسبقُكُم إلى الجليل" [31-32]. بالصليب أراد العدوّ أن يضرب الراعي ليُبدّد خراف الرعيَّة، لكن قد تحوّل الصليب إلى قيامة، فيسبقنا السيِّد إلى الجليل. ولما كانت كلمة "جليل" تعني "دائرة أو مقاطعة"، فكأن السيِّد بقيامته قد سبقنا إلى دائرة جديدة أو مقاطعة جديدة. إنه بكر الراقدين الذي يحمل فيه الحياة المقامة لكي ندخل به وفيه إلى دائرة هذه الحياة الجديدة المقامة. لقد ظنّ بطرس الرسول أنه قادر أن يقف بجانب السيِّد ولا يشك فيه أبدًا، لكن ما لم يعرفه بطرس عن نفسه كان يعرفه خالقه مؤكدًا له: "الحق أقول لك أنك في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك تُنكرني ثلاث مرّات" [34]. لقد كان بطرس واثقًا في ذاته بغير أساس، إذ قال: "ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك" [36]. وما قاله بطرس الرسول قاله أيضًا جميع التلاميذ. ما أحوجنا أن نرتمي في حضن الله العارف بضعفنا، فلا نثق بذواتنا بل في نعمة الله القادرة أن تقيمنا من الضعف. قد نظن أننا قادرون على الحياة الفاضلة المقدّسة، ولا ندري أننا ضعفاء كل الضعف يمكن أن نسقط في لحظات! وكما يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [ليتنا لا نفتخر بأنفسنا بل بالأحرى نفتخر بعطاياه.] والعجيب أن السيِّد المسيح الذي حذّر تلميذه من نتيجة تجربة الشيطان له إذ ينكره ثلاث مرّات أعطاه كلمة تعزية أنه يعود فيقوم بل ويسند إخوته (لو 22: 31-34). 8. في جثسيماني إذ جاء السيِّد بتلاميذه إلى جثسيماني، قال للتلاميذ: "اِجلسوا ههنا حتى أمضي وأصلِّي هناك، ثم أخذ بطرس وابنيّ زبدي، واِبتدأ يحزن ويكتئب" [36-37]. "جثسيماني" كلمة آراميَّة تعني "معصرة زيت". وكأن السيِّد يدخل بإرادته إلى المعصرة. ولم يكن ممكنًا للتلاميذ أن يدخلوا معه، إنّما اختار بطرس وابنيّ زبدي كشهود يرونه إلى حين، لكنهم لا يستطيعوا أن يعاينوا لحظات العصر، فقد تركهم قليلاً وسألهم أن يسهروا فلم يستطيعوا، بل ناموا. وتكرّر الأمر ثانية، فكان يسألهم أن يسهروا معه ولم يقدروا، وفي المرة الثالثة قال لهم: "ناموا الآن واستريحوا" [40]. بروح النبوّة رآه إشعياء النبي في جثسيماني وقد اِجتاز المعصرة الحقيقية، فقال "من ذا الآتي من آدوم بثياب حُمر... من بصرَة هذا البهي بملابسه.. المتعظِّم بكثرة قوّته؟! أنا المتكلِّم بالبرّ، العظيم للخلاص. ما بال لباسَك مُحمر، وثيابك كدائِس المِعصرة؟! قد دُستُ المِعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد" (إش 63: 1-3). لقد اجتاز السيِّد المِعصرة وحده وهو يقول: "نفسي حزينة جدًا حتى الموت" [38]. أمّا سِرّ حزنه فهو ليس الخوف من الآلام الجسديّة، إنّما ثقل الخطيّة التي لا يقبلها السيِّد ولا يطيقها، لكنّه من أجل هذا جاء، ونيابة عنّا خضع في طاعة للآب ليحمل موت الخطيّة فيه. إنه يصرخ: "يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنِّي هذه الكأس، لكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت" [39]. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [إن إرادة الآب وإرادة الابن واحدة لأن لهما روح واحد، لماذا إذن قال هذا؟ لقد جاء نيابة عنّا نحن الذين رفضنا إرادة الله فخضع للصليب بسرور من أجل الطاعة للآب، وفي نفس الوقت كان يريد ذلك. هذا ما أعلنه السيِّد نفسه بقوله: "هكذا أحبَّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد" (يو 3: 16). وكأن البذل هنا هو من إرادة الآب المحب. وفي نفس الوقت يقول الرسول: "أحبَّني وأسلم نفسه لأجلي" (غل 2: 20)، باذلاً نفسه المملوءة حبًا.] v من المستحيل أن ابن الإنسان كان يقول: يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنِّي هذه الكأس، تحت إحساس بالخوف!... فالرب يسوع لا يستعفي من ذبيحة الموت حتى تصل نعمة الخلاص للجنس البشري كله. العلاّمة أوريجينوس v "نفسي حزينة جدًا حتى الموت". لنقدّم الشكر أن ليسوع جسد حقيقي ونفس حقيقيّة، فلو أن الرب لم يأخذ الطبيعة الإنسانيّة بكاملها لما خلّص البشريّة. لو أنه أخذ جسدًا فقط بلا نفس لخلص الجسد دون النفس مع أننا نحتاج إلى خلاص النفس أكثر من خلاص الجسد. لقد أخذ الجسد والنفس معًا ليخلّصهما، يخلّص الإنسان بكامله كما خلقه. القدّيس جيروم v بكونه الله الذي لبس جسدًا قام بدور الضعف الجسدي حتى لا يوجد عذر لدى الأشرار مُنكري التجسّد. فمع قوله هذا إذا بأتباع ماني لا يصدّقون، وفالنتيوس ينكر التجسّد، ومرقيون يَدَّعي أنه كان خيالاً... لقد أظهر نفسه أنه يحمل جسدًا حقيقيًا. القدّيس أمبروسيوس يرى القدّيس كيرلّس الكبير أن سرّ حزن السيِّد المسيح هو رفض إسرائيل ابنه البكر له، إذ يقول: v كما بكى على لعازر في ترفُّق بالجنس البشري كلّه بكونه صار فريسة للفساد والموت، هكذا نقول أنه حزن هنا إذ رأى أورشليم، وقد أحاطت بها المآسي الكبرى، ولم يعد لمصائبها علاج. v لم تكن آلامه عملاً تحقّق بغير إرادته، لكن من جانب آخر كانت خطيرة، إذ تؤدي إلى رفض مجمع اليهود وخرابه. لم تكن إرادته أن يكون إسرائيل قاتلاً لربِّه، معرِّضًا نفسه للدينونة واللوم والحرمان من عطايا الله... بينما كانوا قبلاً شعبه، وحدهم كانوا شعبه ومختاريه وورثة! القدّيس كيرلّس الكبير لقد دخل السيِّد إلى صلاة أيضًا لتعليمنا، إذ يقول لتلاميذه: "اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة، أمّا الروح فنشيط، وأما الجسد فضعيف" [41]. يقول القدّيس جيروم: [بينما روحي قويّة تقودني للحياة، إذ بجسدي ضعيف يسحبني للموت.] فالحاجة ملحَّة إلى الصلاة ليسند الله روحنا ويقيم جسدنا من ضعفه. ويحدّثنا القدّيس كيرلّس الكبير عن ضرورة اقتدائنا بالسيِّد وقت التجربة، قائلاً: [كان يصلّي عندما كان الذين يريدون أن يمسكوه على الأبواب. لا يفهم أحد أنه يقدّم هنا توسُّلات كمن هو في حاجة إلى قوّة أو عون من آخر، إذ هو نفسه قوّة الله الآب القدير وسلطانه، إنّما صنع ذلك لتعليمنا، لكي ينزع عنّا التراخي عند حلول التجربة، وعندما يضغط الاضطهاد علينا وعندما تلقى شباك الغدر ضدّنا، وتكون شبكة الموت مُعدَّة لنا. فإن وسيلة خلاصنا هي السهر وإحناء الركب وتقديم التوسُّلات وسؤال العون من فوق حتى لا نضعف ويصيبنا هلاكًا مرعبًا.] إن كان السيِّد قد سألهم أن يسهروا، لكن بعد أن صلَّى ثلاث مرّات عاد إليهم وهو يقول: "ناموا الآن واستريحوا، هوذا الساعة قد اقتربت، وابن الإنسان يسلّم إلى أيدي الخطاة" [45]. إذ يسلّم السيِّد نفسه للموت ننام نحن ونستريح، إنه علّة راحتنا، يدخل إلى الصليب ليدفع الدين عنّا، يتألّم فنستريح، ويصلب فنكلّل! 9. القبض على السيِّد كان لابد للسيِّد المسيح وقد احتل آخر الصفوف - ليحمل آلامنا ويشرب عنّا الكأس حتى النهاية - أن يتقبّل الألم على يديّ أحد تلاميذه، وخلال قُبلة ليكون الجرح غاية في المرارة. لقد رآه النبي مجروحًا فسأله: "ما هذه الجروح في يديك؟" (زك 13: 6) فيجيب السيِّد في مرارة: "هي التي جُرحتُ بها في بيت أحبائي" (زك 13: 6). وتزداد الجراحات مرارة أنها جاءت مغلَّفة بغلاف الحب الغاش، والكلمات الليِّنة التي تحمل وراءها سُم الشرّ. ونحن أيضًا إذ نتَّحد بالسيِّد المسيح يلتقي بنا من هو من "أهل بيتنا"، كيهوذا مقاطعًا روح الحق فينا، إذ يقول: "أعداء الإنسان أهل بيته". لقد أعطى السيِّد الفرصة الأخيرة ليهوذا فإنه حتى في لحظات القبض عليه عاتبه بكلمات لطيفة: "يا صاحب لماذا جئتَ؟!" [50]. بقُبلة سلَّم يهوذا سيّده وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [إنك تقدّم قُبلة يا من لا تعرف سرّ القُبلة، فالمطلوب ليس قُبلة الشفتين وإنما قُبلة القلب والنفس.] مدّ بطرس الرسول يده واستل سيفه ليضرب ملْخَس عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه [51]...، فأمره السيِّد أن يرد سيفه إلى غِمده وشَفى أُذن العبد، قائلاً: "لأن كل الذين يأخذون بالسيف فبالسيف يُأخذون، أتظن إنّني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيُقدّم لي أكثر من اِثني عشر جيشًا من الملائكة، فكيف تكمل الكتب إنه هكذا ينبغي أن تكون؟! [52-54] حينما يستخدم الإنسان العنف في خدمته تحت ستار الدفاع عن السيِّد المسيح الحق، إنّما يكون كبطرس الذي يضرب بالسيف فيقطع أُذن العبد ويفقده الاستماع لصوت الكلمة. كلمة العنف تُزيد المقاومين عنادًا، تفقدهم سمعهم الروحي للحق، فلا يشتهوا الرجوع عن مقاومتهم ولا يتوقون للحق. بسرور احتمل السيِّد جراحات مقاوميه لكنّه لم يحتمل دفاع تلميذه عنه بالسيف، فإن ما حمله بطرس من مرارة تجاه صالبي السيِّد كان في نظره أمر من سيف الأشرار. كما يقول القدّيس أمبروسيوس: [لا يريد المسيح أن يُدافع عنه ضدّ جراحات المضطهد، بل أراد أن يشفي الكل بهذه الجراحات.] v لم يرد لنا أن نستخدم السيوف في مقاومة أعدائنا بل بالأحرى نستخدم الحب والوقار، فنكسب من هم ضدّنا. يعلّمنا بولس تعليمًا مشابهًا بقوله: "هادمين ظنونًا وكل علوّ يرتفع ضدّ معرفة الله ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح" (2 كو 10: 5)، لأن الحرب من أجل الحق روحيّة والسلاح الذي يجعلنا قدّيسين عقلي ومملوء محبّة الله. القدّيس كيرلّس الكبير v لقد قطع بطرس الأذن اليُمنى لعبد رئيس الكهنة، وكان هذا العمل بمثابة علامة على عجز اليهود عن السمع الجيد، لأنهم لهم ينصتوا جيدًا لكلمات المسيح، بل أكرَموا الأذن اليُسرى أي طاعة هواجسهم التابعة عن تعصبُّهم فصاروا "مضَلّين ومضِلَّين" (2 تي 3: 13). وكما يقول الكتاب لأنهم عندما عاشوا حسب الناموس لم يهتمّوا بالوصيّة قدر اهتمامهم بتعاليم الناس (مت 15: 19). v كأن بطرس كشف ما في أعماقهم أن أذنهم اليُمنى الروحيّة قد قُطعت إذ اهتموا بالأُذن اليُسرى والسماع للأضاليل... لكن السيِّد جاء ليُصلِح هذه الأذن اليُمنى ويهبها سماعًا روحيًا. القدّيس كيرلّس الكبير 10. المحاكمة الدينيّة وقف الديّان أمام رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ ليُحاكَم كمجدِّفٍ يسندهم شاهدا زور، وكان هو صامتًا. وُجه الاتهام إليه كمجدِّف بكونه قال: "إني أقدر أن أنقض هيكل الله وفي ثلاثة أيام ابنيه" [61]، وكان ذلك شهادة زور، فإنه لم يقل هذا بل قال: "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أُقيمه" (يو 2: 19). وكان يتحدّث عن هيكل جسده (2: 12)، أمّا هم ففهموه يتحدّث عن هيكل أورشليم. أما الجانب الثاني من التجديف فهو أنه يقول عن نفسه أنه المسيح ابن الله وعندما سأله رئيس الكهنة في ذلك، أجاب "أنت قلت، وأيضًا أقول لكم من الآن تُبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوّة، وآتيًا على سحاب السماء" [64]. إذ لم يحتمل رئيس الكهنة إجابة السيِّد مزَّق ثيابه، وكان ذلك علامة نزع الكهنوت اللاوي واِنتهائه، فيظهر كهنوت جديد على طقس ملكي صادق. يُعلّق القدّيس كيرلّس الكبير على سؤال رئيس الكهنة للسيِّد المسيح: "اَستحلفك بالله الحيّ أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله؟" [63]، قائلاً: ٌ[اِخبرني لماذا تسأله؟ هل لتعرف إن كان هو المسيح؟ فإنك تستطيع بسهولة أن تعرفه من الناموس والأنبياء. اِبحث في كتابات موسى، فتراه مصوِّرًا فيها بطرق متعدّدة... افحص كتابات الأنبياء فإنك تسمعهم يُعلنون معجزاته الإلهيّة العجيبة.] 11. إنكار بطرس كان بطرس جالسًا خارجًا في الدار، فاصطادته جارية لتتهمه أنه كان مع يسوع، فأنكر قدام الجميع. وإذ خرج إلى الدهليز رأته أخرى واِتَّهمته كالأولى فأنكر، وبعد قليل جاء القيام يُعلنون أن لُغته تظهره، فابتدأ يَلعن ويحلف أنه لا يعرفه وللوقت صاح الديك. النفس التي تبقى متراخية في حالة جلوس خارجًا ولا تدخل مع السيِّد إلى الصليب لتتعرَّف على أعماقه الداخليّة لا تقدر أن تشهد بل تُنكر، وإذ تخرج إلى الدهليز أي تحيا بلا حياة سرّيّة تكرّر إنكارها له، ويصطادها الكثيرون ليدفعوها إلى الإنكار. أمّا النفس التي تدخل إلى الصليب، وتقترب منه كيوحنا، فلا تُنكر بل تتقبّل من السيِّد المسيح أُمُّه أُمًّا لها. يتحدّث القدّيس كيرلّس الكبير عن ضعف بطرس الرسول وتوبته، قائلاً: [لم يكن المسيح قد قام من الأموات، ولا أبطل الموت، ولا نزع الفساد، لذلك كان الخوف من الموت فوق احتمال البشر... قد دان الرسول نفسه بضميره كما يظهر من بكائه مباشرة بعد ذلك ومن دموع توبته النازلة من عينيّه بسبب خطيّته الخطيرة... إنه لم يكن مهمِلاً في توبته، فكما سقط سريعًا في خطيّته هكذا بسرعة كانت دموعه تسقط بسببها، فإنه لم يبكِ فحسب وإنما بكى بمرارة. كإنسان سقط، وفي شجاعة قام مرّة أخرى إذ يعرف أن الله الرحوم يقول بأحد أنبيائه: "هل يسقطون ولا يقومون؟! أو يرتدّ أحد ولا يرجع؟!" (إر 8: 4). ففي رجوعه لم يفقد العلامة بل اِستمر كما كان عليه قبلاً كتلميذٍ حقيقيٍ.] ويقول القدّيس أمبروسيوس: [بكى بطرس لأنه أخطأ، كإنسان ضلَّ وبكى ولم يعتذر، لأن الدموع تغسل ما تخجل أفواهنا أن تنطق به... الدموع لا تسأل الغفران إنّما تناله... نظر إليه يسوع، فبكى بكاءً مرًا. لتنظر إلينا أيها الرب يسوع فنعرف البكاء على خطيَّتنا.] 1 و لما اكمل يسوع هذه الاقوال كلها قال لتلاميذه 2 تعلمون انه بعد يومين يكون الفصح و ابن الانسان يسلم ليصلب 3 حينئذ اجتمع رؤساء الكهنة و الكتبة و شيوخ الشعب الى دار رئيس الكهنة الذي يدعى قيافا 4 و تشاوروا لكي يمسكوا يسوع بمكر و يقتلوه 5 و لكنهم قالوا ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب 6 و فيما كان يسوع في بيت عنيا في بيت سمعان الابرص 7 تقدمت اليه امراة معها قارورة طيب كثير الثمن فسكبته على راسه و هو متكئ 8 فلما راى تلاميذه ذلك اغتاظوا قائلين لماذا هذا الاتلاف 9 لانه كان يمكن ان يباع هذا الطيب بكثير و يعطى للفقراء 10 فعلم يسوع و قال لهم لماذا تزعجون المراة فانها قد عملت بي عملا حسنا 11 لان الفقراء معكم في كل حين و اما انا فلست معكم في كل حين 12 فانها اذ سكبت هذا الطيب على جسدي انما فعلت ذلك لاجل تكفيني 13 الحق اقول لكم حيثما يكرز بهذا الانجيل في كل العالم يخبر ايضا بما فعلته هذه تذكارا لها 14 حينئذ ذهب واحد من الاثني عشر الذي يدعى يهوذا الاسخريوطي الى رؤساء الكهنة 15 و قال ماذا تريدون ان تعطوني و انا اسلمه اليكم فجعلوا له ثلاثين من الفضة 16 و من ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه 17 و في اول ايام الفطير تقدم التلاميذ الى يسوع قائلين له اين تريد ان نعد لك لتاكل الفصح 18 فقال اذهبوا الى المدينة الى فلان و قولوا له المعلم يقول ان وقتي قريب عندك اصنع الفصح مع تلاميذي 19 ففعل التلاميذ كما امرهم يسوع و اعدوا الفصح 20 و لما كان المساء اتكا مع الاثني عشر 21 و فيما هم ياكلون قال الحق اقول لكم ان واحدا منكم يسلمني 22 فحزنوا جدا و ابتدا كل واحد منهم يقول له هل انا هو يا رب 23 فاجاب و قال الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يسلمني 24 ان ابن الانسان ماض كما هو مكتوب عنه و لكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الانسان كان خيرا لذلك الرجل لو لم يولد 25 فاجاب يهوذا مسلمه و قال هل انا هو يا سيدي قال له انت قلت 26 و فيما هم ياكلون اخذ يسوع الخبز و بارك و كسر و اعطى التلاميذ و قال خذوا كلوا هذا هو جسدي 27 و اخذ الكاس و شكر و اعطاهم قائلا اشربوا منها كلكم 28 لان هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من اجل كثيرين لمغفرة الخطايا 29 و اقول لكم اني من الان لا اشرب من نتاج الكرمة هذا الى ذلك اليوم حينما اشربه معكم جديدا في ملكوت ابي 30 ثم سبحوا و خرجوا الى جبل الزيتون 31 حينئذ قال لهم يسوع كلكم تشكون في في هذه الليلة لانه مكتوب اني اضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية 32 و لكن بعد قيامي اسبقكم الى الجليل 33 فاجاب بطرس و قال له و ان شك فيك الجميع فانا لا اشك ابدا 34 قال له يسوع الحق اقول لك انك في هذه الليلة قبل ان يصيح ديك تنكرني ثلاث مرات 35 قال له بطرس و لو اضطررت ان اموت معك لا انكرك هكذا قال ايضا جميع التلاميذ 36 حينئذ جاء معهم يسوع الى ضيعة يقال لها جثسيماني فقال للتلاميذ اجلسوا ههنا حتى امضي و اصلي هناك 37 ثم اخذ معه بطرس و ابني زبدي و ابتدا يحزن و يكتئب 38 فقال لهم نفسي حزينة جدا حتى الموت امكثوا ههنا و اسهروا معي 39 ثم تقدم قليلا و خر على وجهه و كان يصلي قائلا يا ابتاه ان امكن فلتعبر عني هذه الكاس و لكن ليس كما اريد انا بل كما تريد انت 40 ثم جاء الى التلاميذ فوجدهم نياما فقال لبطرس اهكذا ما قدرتم ان تسهروا معي ساعة واحدة 41 اسهروا و صلوا لئلا تدخلوا في تجربة اما الروح فنشيط و اما الجسد فضعيف 42 فمضى ايضا ثانية و صلى قائلا يا ابتاه ان لم يمكن ان تعبر عني هذه الكاس الا ان اشربها فلتكن مشيئتك 43 ثم جاء فوجدهم ايضا نياما اذ كانت اعينهم ثقيلة 44 فتركهم و مضى ايضا و صلى ثالثة قائلا ذلك الكلام بعينه 45 ثم جاء الى تلاميذه و قال لهم ناموا الان و استريحوا هوذا الساعة قد اقتربت و ابن الانسان يسلم الى ايدي الخطاة 46 قوموا ننطلق هوذا الذي يسلمني قد اقترب 47 و فيما هو يتكلم اذا يهوذا احد الاثني عشر قد جاء و معه جمع كثير بسيوف و عصي من عند رؤساء الكهنة و شيوخ الشعب 48 و الذي اسلمه اعطاهم علامة قائلا الذي اقبله هو هو امسكوه 49 فللوقت تقدم الى يسوع و قال السلام يا سيدي و قبله 50 فقال له يسوع يا صاحب لماذا جئت حينئذ تقدموا و القوا الايادي على يسوع و امسكوه 51 و اذا واحد من الذين مع يسوع مد يده و استل سيفه و ضرب عبد رئيس الكهنة فقطع اذنه 52 فقال له يسوع رد سيفك الى مكانه لان كل الذين ياخذون السيف بالسيف يهلكون 53 اتظن اني لا استطيع الان ان اطلب الى ابي فيقدم لي اكثر من اثني عشر جيشا من الملائكة 54 فكيف تكمل الكتب انه هكذا ينبغي ان يكون 55 في تلك الساعة قال يسوع للجموع كانه على لص خرجتم بسيوف و عصي لتاخذوني كل يوم كنت اجلس معكم اعلم في الهيكل و لم تمسكوني 56 و اما هذا كله فقد كان لكي تكمل كتب الانبياء حينئذ تركه التلاميذ كلهم و هربوا 57 و الذين امسكوا يسوع مضوا به الى قيافا رئيس الكهنة حيث اجتمع الكتبة و الشيوخ 58 و اما بطرس فتبعه من بعيد الى دار رئيس الكهنة فدخل الى داخل و جلس بين الخدام لينظر النهاية 59 و كان رؤساء الكهنة و الشيوخ و المجمع كله يطلبون شهادة زور على يسوع لكي يقتلوه 60 فلم يجدوا و مع انه جاء شهود زور كثيرون لم يجدوا و لكن اخيرا تقدم شاهدا زور 61 و قالا هذا قال اني اقدر ان انقض هيكل الله و في ثلاثة ايام ابنيه 62 فقام رئيس الكهنة و قال له اما تجيب بشيء ماذا يشهد به هذان عليك 63 و اما يسوع فكان ساكتا فاجاب رئيس الكهنة و قال له استحلفك بالله الحي ان تقول لنا هل انت المسيح ابن الله 64 قال له يسوع انت قلت و ايضا اقول لكم من الان تبصرون ابن الانسان جالسا عن يمين القوة و اتيا على سحاب السماء 65 فمزق رئيس الكهنة حينئذ ثيابه قائلا قد جدف ما حاجتنا بعد الى شهود ها قد سمعتم تجديفه 66 ماذا ترون فاجابوا و قالوا انه مستوجب الموت 67 حينئذ بصقوا في وجهه و لكموه و اخرون لطموه 68 قائلين تنبا لنا ايها المسيح من ضربك 69 اما بطرس فكان جالسا خارجا في الدار فجاءت اليه جارية قائلة و انت كنت مع يسوع الجليلي 70 فانكر قدام الجميع قائلا لست ادري ما تقولين 71 ثم اذ خرج الى الدهليز راته اخرى فقالت للذين هناك و هذا كان مع يسوع الناصري 72 فانكر ايضا بقسم اني لست اعرف الرجل 73 و بعد قليل جاء القيام و قالوا لبطرس حقا انت ايضا منهم فان لغتك تظهرك 74 فابتدا حينئذ يلعن و يحلف اني لا اعرف الرجل و للوقت صاح الديك 75 فتذكر بطرس كلام يسوع الذي قال له انك قبل ان يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات فخرج الى خارج و بكى بكاء مرا |
||||
17 - 07 - 2012, 07:23 AM | رقم المشاركة : ( 27 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير كامل لانجيل متى لابونا تادرس يعقوب ملطي
الاصحاح السابع والعشرون الملك المصلوب لما كان الصليب هو الطريق الملوكي، لذلك قدّم لنا الإنجيلي متى صورة دقيقة عن أحداث الصليب: 1. محاكمته أمام الوالي 1-2. 2. رد الفضّة 3-10. 3. صمتِه أمام الوالي 11-14. 4. إطلاق باراباس 15-26. 5. آلامه قبيل الصلب 27-31. 6. آلامه أثناء الصلب 32-38. 7. الاستهزاء به 39-44. 8. ظلمة على الأرض 45. 9. صراخه وتسليمه الروح 46-50. 10. انشقاق الحجاب 51-56. 11. دفن السيِّد 57-61. 12. خِتم القبر 62-66. 1. محاكمته أمام الوالي تمت المحاكمات الدينيّة طوال الليل، وسط ظلمة الحقد والكراهيّة، "ولما كان الصباح تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع حتى يقتلوه، فأوثقوه ومضوا به ودفعوه إلى بيلاطس البنطي الوالي" [1-2]. كان قادة اليهود يطلبون المسيّا المخلّص لينقذهم من الحكم الروماني، ويقيم لهم مملكة مسيانيَّة أرضيّة، يطمع الكل أن يكون لهم فيها مراكز مرموقة وسلطان. أمّا وقد حطَّم السيِّد كل مفهوم مادي للملكوت معلنًا المفهوم الروحي، التجأوا إلى قادة الرومان أنفسهم ليحكموا عليه ليس فقط من جهة أمورهم الدينيّة، وإنما كخائنٍ وطنيٍ يُقيم نفسه ملكًا. وكأن هؤلاء الذي يطلبون التخلُّص من قيصر هم أنفسهم من أجل مصالحهم الذاتيّة تظاهروا كمدافعين عنه ضدّ المخلّص! كان مبدأهم الداخلي والخفي هو المصلحة الخاصة لا الجماعة أو خدمة الله والوطن! 2. رد الفضة لم يكن ممكنًا ليهوذا أن يترك الفضّة معه، فكما أن من يترك شيئًا من أجل السيِّد المسيح يرد له مئة ضعف في هذا العالم مع حياة أبديّة في الدهر الآتي (مت 19: 29)، هكذا من يبيع السيِّد بثمن يخسر مئة ضعف في هذا العالم ويفقد حياته إلى الأبد. كان يهوذا في طمعه يظن أنه يقتني ربحًا بالثلاثين من الفضّة، وإذا به يقتني همًّا وغمًا، فذهب يرد الفضّة في ندامة بلا توبة، ومرارة بلا رجاء، حتى لم يطِق حياته فمضى وخنق نفسه. لم يقبل رؤساء الكهنة أن تُوضع الفضّة في خزانة، لأنها ثمن دمٍ، فاشتروا بها حقل فخَّاري مقبرة للغرباء وقد دُعيَ بحقل الدم، شهادة لما فعلته البشريّة بمخلّصها. يُعلّق القدّيس كيرلّس الأورشليمي عن كلمات رؤساء الكهنة والشيوخ ليهوذا: "ماذا علينا؟ أنت أبصر" [4]، وقولهم عن الفضّة المطروحة في الهيكل: "لا يحلّ أن نلقيها في الخزانة، لأنه ثمن دم" [6]، قائلاً: [يا للعجب! القتلة يقولون: ماذا علينا؟ ويطلبون من الذي قبِل ثمن الجريمة أن يُبصر هو، أمّا هم قاتلوه فليس عليهم أن يُبصروا... يقولون في أنفسهم: لا يحلّ أن نلقيها في الخزانة، لأنه ثمن دم. إن ما نطقتم به هو الذي يدينكم! لأنه إذا كان وضع ثمن الدم في الخزانة يعتبر إثمًا، فكم يكون إهدار الدم؟! وإذا كنتم ترون عُذرًا لصلب المسيح فلماذا ترفضون قبول الثمن؟] "حقل الدم" الذي اُشتُرى بالثلاثين من الفضّة كمدفن للغرباء يُشير إلى العالم الذي افتداه الرب بدمه لكي يدفن فيه الأمم، فينعمون معه بقيامته. وكما يقول القدّيس جيروم: [لماذا اِشتروه؟ لكي يستخدموه مدفنًا للغرباء. إننا نحن المنتفعون به، فقد اُشترى الحقل لأجلنا بثمن دم المسيح.] ويقول القدّيس أمبروسيوس: [الحقل حسب الكلمات الإلهيّة هو كل العالم الحاضر (مت 13: 36)، وثمن الدم هو ثمن آلام الرب الذي اشترى العالم بثمن دمه ليخلّصه (يو 3: 17). جاء لكي يحفظ الذين دُفنوا مع المسيح وماتوا معه في المعموديّة (رو 6: 4، 8؛ كو 2: 12) لنوال البركات الأبديّة... فعِوض أن يعيشوا غرباء تحت الناموس... صاروا قريبين بدم المسيح (أف 2: 11-13).] وقد سبق لنا تفسير الثلاثين من الفضّة وبيت الفخّاري وحقل الدم وما ترمز إليه في دراستنا لسفر زكريّا النبي (زك 11: 12-13). 3. صمته أمام الوالي "فوقف يسوع أمام الوالي، فسأله الوالي، قائلاً: أأنت ملك اليهود! فقال له يسوع: أنت تقول. وبينما كان رؤساء الكهنة والشيوخ يشتكون عليه لم يجب بشيء. فقال له بيلاطس: أما تسمع كم يشتكون عليك؟ فلم يُجبه ولا عن كلمة واحدة، حتى تعجّب الوالي جدًا" [11-14]. كانت إجابته لبيلاطس الوالي مقتضبة للغاية، في الحدود التي فيها يكشف له عن الحق، فلا يكون له عذر. وعندئذ توقَّف عن الكلام سواء مع القادة الدينيّين أو الوالي، إذ لم يرد أن يدافع عن نفسه. لو أراد لأمكن أن يشهد عن نفسه، ويأمر السماء فتشهد له، لكنّه لم يكن محتاجًا إلى هذه الشهادة والدفاع عنه. حقًا إن كثرة الكلام وخاصة تبرير الإنسان نفسه يُعلن عن الفراغ الداخلي والضعف، ولكن بقدر ما تشبع النفس في الداخل ويكون إنساننا الداخلي قويًّا تقل الكلمات جدًا! صمْتْ السيِّد أمام متَّهميه هو كنز ثمين ورصيد يَغترف منه المؤمن عندما يُهان ويُتَّهم ظلمًا فلا يثور أو يضطرب. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هل شتمك أحد؟ اِرسم العلامة على صدرك وتذكَّر كل ما حدث (أثناء الصلب) وإذ بكل شيء ينطفئ".] ويكمّل قائلاً: [اشفق على من يشتمك فإنه خاضع لسيِّد هو شبَح رهيب أي الحَنق، ولشيطان خطير أي الغضب.] v كان مقتنعًا بأن حياته كلها وأعماله بين اليهود أفضل من أي كلام لدحض شهادة الزور، وأسمى من أي كلام يقوله للرد على الاتهامات. v على أي الأحوال، فإن يسوع يهاجمه شهود زور في كل وقت. طالما وُجد الشرّ في العالم فهو مُعرَّض للاتِّهامات بصفة دائمة. ومع ذلك فإنه لا يزال صامتًا أمام هذه دون أن يقدّم إجابة مسموعة، بل يضع دفاعه في حياة تلاميذه الحقيقيّين، وتعتبر هذه الحياة شهادة سامية جدًا تسمو فوق كل شهادة زور، وتفنِّد كل الهجمات والتهم التي بلا أساس وتهدمها. العلاّمة أوريجينوس 4. إطلاق باراباس بقدر ما تكاتفت قُوى الشرّ معًا ضدّ السيِّد المسيح للتخلُّص منه بالصلب، كان السيِّد وهو يقدّم نفسه فِصحًا عن البشريّة كلها بسرور، يسمح ببركات رمزيّة منظورة أثناء صلبه، كرمز للبركات غير المنظورة. ففي التشاور ضدّه التقت الجماعات الدينيّة المتضاربة معًا تشترك في هذا الهدف الواحد، وكأن بموته يقدّم المصالحة بين المتضارِبين في الفكر والمتخاصِمين ليس فقط بين فئات أُمَّة واحدة، وإنما بين أجناس وألسِنة وأممٍ متنوّعة. وأثناء محاكمته أرسله بيلاطس لهيرودس بكونه واليًا على الجليل، وكان الأخير يشتاق أن يراه فتمَّت مصالحة بين بيلاطس وهيرودس بسبب السيِّد المُقيَّد تحت المحاكمة! وقبْل الصلب مباشرة طلب بيلاطس من الشعب أن يطلق لهم واحدًا في العيد، فصرخوا أن يُصلب يسوع ويُطلِق باراباس الأسير المشهور، فأنقذ السيِّد بموته حياة باراباس! إذ وقف السيِّد بين يديّ بيلاطس "تعجّب الوالي جدًا" [14]، كما "علم أنهم أسلموه حسدًا" [18]. وإذ أراد الله أن يُرشده حدَّثه خلال زوجته في حُلم، فأرسلت تقول له: "إيّاك وذلك البار، لأني تألّمت اليوم كثيرًا في حُلم من أجله" [19]. كان ذلك درسًا ليس لبيلاطس وحده، وإنما لرؤساء الكهنة والشيوخ لكي يروا ويسمعوا غريب الجنس بيلاطس يُعلن براءة السيِّد بغسل يديه قدَّام الجميع. وهو يقول: "إني بريء من دم هذا البار، أبصروا أنتم" [24]. 5. آلامه قبيل الصلْب بعد أن جُلد السيِّد [26] وأُسلِم للصلب، اجتمعت عليه كل الكتيبة، فعرُّوه وألبَسوه رداء قُرمزيًا، وضفروا إكليلاً من الشوك ووضعوه على رأسه، وقصبة في يمينه، وكانوا يجثون قدَّامه ويستهزئون به، قائلين: "السلام يا ملك اليهود"، وبصقوا عليه وأخذوا القصبة وضربوه على رأسه. كان لابد للسيِّد وهو يقبَل الصلب أن يكشف عن ماهيّة ثمار الشرّ، بكونه نائبًا عن البشريّة يحمل ثمرة شرّهم. يطلب الإنسان الخطيّة ويسعى إليها من أجل مُتعة وقتيَّة، أو لذّة جسديّة، فأسلم السيِّد جسده للجلد وتعرَّض القدّوس جسديًا للجلدات المُميتة! كان مع كل جلدة تطبع علاماتها على الجسد الرقيق الوديع يرى السيِّد ثقل خطايانا كجلدات أبديّة ليس من يقدر أن يحملها غيره، متقبِّلاً إيّاها عنا. لهذا يقول الرسول: "لأنه جعل الذي لم يعرف خطيّة خطيَّة لأجلنا لنصير نحن برّ الله فيه" (2 كو5 : 21). الخطيّة في حقيقتها هي ثمر الأنا ego وفي نفس الوقت تضَّخم من الأنا. فالإنسان بأنانيَّته يطلب ما لنفسه من أمور ماديّة أو كرامات أو ملذّات، وهذه بعينها تُشعل بالأكثر حبّه لذاته، فيظن في نفسه أنه مركز الكون كله، يعمل الجميع من أجله. هذا ما أعلنته الحيّة لحواء عند إغوائها: "الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله" (تك 3: 5). لقد أراد الإنسان أن يتألَّه، فتنفتح عيناه ليرى ذاته فوق الجميع، يُسخِّّر كل شيء لذاته! لهذا اجتمعت الكتيبة كلها عليه، وكأنها تُمثل البشريّة كلها أو العالم كلّه، وقد اِلتفُّواحول الخاطي لا ليُكرِّموه ويعملوا لحسابه، وإنما لينزعوا عنه ثيابه ويلبسوه ثوبًا قُرمزيًا للسُخرية، إذ أراد الخاطي أن يُقيم نفسه إلهًا أو ملكًا. بالخطيّة فقد الإنسان إكليل المجد الخفي الذي وهبه الله ليسيطر به على كل الخليقة الأرضيّة، وضفر لنفسه إكليل شوك، هو من صنع الأرض التي لُعنت بسببه. عِوض الصوْلجان الذي قدّمه له الله ليملك على قلبه وأحاسيسه ومشاعره، قبِل أن يملك على الغير سلمته الخطيّة قصبة في يمينه، هو قضيب سُخرية يكشف عن فقدانه السلطان على حياته الداخليّة وكل أفكاره وأحاسيسه، فصار كقصبة تحرّكها الريح! في سُخرية تمسِك الخطيّة بهذا الصولجان المستعار لتضرب به على رأسه، وكأنها تُعلن أن ما حسبه كرامة ومجدًا له، إنّما هو انهيار حتى لرأسه وأفكاره الداخليّة. ظنّ الإنسان في خطيّته أنه يملك فيجثو له العالم، وإذا بالعالم في سُخرية يجثو ليهزأ به، قائلاً: "السلام يا ملك اليهود"، وكأنه يوبِّخه، قائلاً له: يا من فقدت سلامك الداخلي كيف تطلب سلامًا من الخارج؟! يا من خسرت ملكوتك على نفسك أتريد أن تملك على الآخرين؟!" فما حدث للسيِّد المسيح من آلام وسُخرية إنّما حمل صورة ظاهرة لِما كان يثْقُل على كتفيّ السيِّد، خلال خطايانا التي انحدرت عليه ليدفع عنّا ثمنها في جسده! 6. آلامه أثناء الصلب انطلق السيِّد يحمل صليبه إلى جبل الجلجثّة أي الجمجمة، ويُقال أنه هناك دُفن آدم. على أي الأحوال، رُفع الصليب في موضع الجمجمة لكي يهب حياة للعظام الجافة الميّتة! لقد حمل عنّا الموت واهبًا إيّانا الحياة! يتحدّث القدّيس كيرلّس الكبير عن حمل السيِّد لصليبه هكذا: [توجد ضرورة لهذه الحقيقة أن يحمل المسيح مخلّص الجميع الصليب، إذ قيل عنه على لسان إشعياء: "يولد لنا ولد ونُعطى ابنًا وتكون الرئاسة على كتفه" (إش 9: 6). فالصليب هو رئاسته، به صار ملكًا على العالم. وإذ كان هذا حق "أطاع حتى الموت موت الصليب، لذلك رفَعه الله أيضًا وأعطاه اسمًا فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة من في السماء وما على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الأب (في 2: 8). وأيضًا أظن أنه يلزم مراعاة هذا هنا (أن يحمل الصليب)، لأنه عندما صعد الطوباوي إبراهيم على الجبل الذي رآه ليقدِّم اسحق محرقة كأمر الله وضع الحطب على الابن، وكان ذلك رمزًا للمسيح الحامل صليبه على كتفيه مرتفعًا إلى مجد صليبه. فقد كانت آلام المسيح هي أمجاده كما علَّمنا بنفسه: "الآن تمجّد ابن الإنسان وتمجّد الله فيه" (يو 13: 31).] وفي الطريق إلى الصلب إذ سقط عدة مرّات تحت ثقل الصليب سخَّروا رجلاً قيروانيًا يسمّى سمعان ليحمل معه صليبه، وكأنه يمثّل كنيسة العهد الجديد التي يلزمها في نضوج الرجولة الروحيّة أن تغتصب الملكوت بشركتها مع السيِّد في صلبه. إنه لمجد عظيم أن ينحني المؤمن ليحمل مع سيّده آلامه، لكي تصير له معرفة اِختبارية بقوة القيامة وبهجتها فيه. على الصليب "أعطوه خلاً ممزوجًا بمرارة ليشرب، ولما ذاق لم يرِد أن يشرب" [34]. كانت هذه هي عادة الرومان في الصلب، يُعطي الخل الممزوج مرارة كنوعٍ من التخدير، فلا يشعر المصلوب بكل ثقل الآلام. لكن السيِّد ذاق المرارة عنّا ورفض أن يشرب الخل حتى يحمل الألم بكماله بإرادته الحرَّة. إذ صُلب السيِّد اقتسم الجند ثيابه أربعة أقسام، أمّا قميصه الذي كان بلا خياطة منسوجًا كلّه من فوق (يو 19: 23) فقد ألقوا عليه قرعة "لكي يتمّ ما قيل بالنبي: اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي ألقوا قرعة" [35]، هذا ولم يوجد مع ثيابه أحذية. فمن جهة الثياب المقتسمة إلى أربعة أقسام، فإنها تُشير إلى الكنيسة جسد المسيح الملتصق به، فقد انتشرت في أربعة جهات المسكونة. صارت بين يديّ الجند الرومان، في متناول يد الأمم، يستطيعون التمتّع بالعضويّة فيها. أمّا القميص الذي بلا خياطة، المنسوج كلّه من فوق، لا يُشق ولا يُقسَّم، فيُشير إلى الكنيسة الواحدة التي يلزم ألا يكون فيها اِنشقاقات أو انقسامات. لقد حرص السيِّد حتى في صلبه ألا يُشق ثوبه، وكأنه كلما دخلت الكنيسة في شركة صليبه، يحرص السيِّد ألا تدخل في انشقاق أو انقسام، لكن للأسف يحدث ذلك حينما توجد الكنيسة في فترة ترف بعيدًا عن الصليب. لقد كشف الصليب أن ثوبه منسوج من فوق (يو 19: 13)؛ هكذا إذ تدخل الكنيسة دائرة الألم تنكشف طبيعتها السماويّة، أنها منسوجة بيد الله نفسه، هي من عمل روحه القدّوس! هذا ولم يوجد للسيِّد حذاء يخلعه، فقد رأينا في دراستنا سفر الخروج كيف يُشير الحذاء إلى الأعمال الشرّيرة الميّتة، لهذا يخلعه الإنسان عند وقوفه أمام الله في موضع مقدّس كما فعل موسى النبي (خر 3: 5). بعد إلقاء القرعة على قميصه "جلسوا يحرسونه هناك" [36]. لم يكن السيِّد المسيح محتاجًا إلى حراسة، إنه الخالق الذي "به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء ممّا كان". لكنّه خضع بجسده لهذه الحراسة. حقًا لقد سمح السيِّد المسيح بطريقة خفيَّة للعسكر مضطهديه أن يكونوا حُرَّاسًا له على الصليب! إنها صورة مشرقة للعمل الإلهي، إذ يسمح للتجارب المحيطة بالكنيسة جسده المصلوب أن تكون حارسًا لها. التجارب تسند المؤمنين، فيعيشوا بروح التواضع وتزكّيهم! قدر ما يكون الأمر ثمينًا تزداد الحراسة، وقدر ما يعتزّ الله بأولاده وكنيسته يسمح له بالضيقات حتى يعبروا هذه الحياة محفوظين فيه. "وجعلوا فوق رأسه عِلَّتِه مكتوبة: هذا هو يسوع ملك اليهود"... لقد تُوِّج الملك بالصليب! وكما تقول الكنيسة في سفر نشيد الأناشيد: "اُخرجْن يا بنات صهيون، وانظرْن الملك سليمان بالتاج الذي توَّجته به أُمِّه في يوم عرسه وفي يوم فرح قلبه" (نش3: 11). أنها تدعو النفوس المؤمنة أن تخرج عن ذاتها وتتطلّع إلى ملكها واهب السماء، لتدخل معه خلال الصليب إلى عرسه وتنعم بالفرح القلبي الأبدي! "حينئذ صلبوا معه لصَّان، واحد عن اليمين، وواحد عن اليسار" [38]. جلس المعلّمون اليهود على الكراسي يعلِّمون كمن هم من فوق، يوبِّخون وينتهرون، يخشون على أنفسهم لئلا يمسّوا نجسًا فيتنجَّسوا، أمّا السيِّد فقدَّم مفهومًا جديدًا للتعليم، إذ ترك الكرسي ليُحصى بين الأثمة والمجرمين، يدخل في وسطهم ويشاركهم آلامهم حتى الصليب ويقبل تعييراتهم، معلنًا حُبّه العملي لكي ينطلق بهم إلى حضن أبيه. لقد صُلب مع اللصّين ولأجلهما، حتى إن أراد أحدهما يقدر أن يقبَله داخله ملكًا حقيقيًا يرتفع به إلى فردوسه، قائلاً له: "اليوم تكون معه في الفردوس". 7. الاستهزاء به تكاتفت كل قوى الشرّ ضدّ السيِّد المسيح لتقديم أمرّ صورة للصليب فقد "كان المجتازون يجدّفون عليه وهم يهزُّون رؤوسهم، قائلين: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلِّص نفسك؛ إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب" [40]. فقد المجتازون به اتّزانهم، وصاروا يهزّون رؤوسهم علامة السُخرية به، وكانوا يجدّفون عليه، قائلين: "يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلِّص نفسك". ولم يُدركوا أنهم هم الذين يبذلون كل الجهد لنقض هيكل جسده، إنّما يشهدون له بأنه سبق فأعلن عن قيامته مقدَّمًا، فصار المجدِّفون شهود حق لعمله الخلاصي وحياته المقامة، لقد طلبوا منه أن يخلِّص نفسه ولم يُدركوا أنه إنّما يخلِّصهم بقيامته، يقوم فيُقيمهم. لعلّ الشيطان بدأ يتحسَّس خطورة الصليب، فارتعب واشتهى أن ينزل السيِّد عن صليبه، لكن فات الأوان، فأثار المجدّفين ليطلبوا منه: "إن كنت ابن الله فاِنزل عن الصليب". ازداد تخوُّفه فأثار أيضًا رؤساء الكهنة مع الكتبة والشيوخ ليسألوه إن كان يقدر أن ينزل عنه، قائلين: "خلَّص آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلِّصها. إن كان هو ملك إسرائيل، فلينزل الآن عن الصليب، فنؤمن به" [42]. لقد ركّز الشيطان في هذه اللحظات على نزوله من الصليب، حتى اللصان أيضًا كانا يعيِّرانه [44] لعلّه ينزل. 8. ظُلمة على الأرض "ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض إلى الساعة التاسعة" [45]. سادت الظلمة على كل الأرض، إعلانًا عن سلطانها الذي ساد على العالم منذ لحظة السقوط، وقد تركه السيِّد يسود إلى حين إذ يقول: "هذه ساعتكم وسلطان الظلمة" (لو 22: 53). ترك السيِّد للظلمة السلطان إلى ساعة لكي إذ تحاول أن تقتنص النور في شباكها يحطِّم - النور - الظلمة ويفسد شباكها. جاءت الساعة قبل تسليم السيِّد روحه، وكأن السيِّد قد أعطى للجحيم فرصته أن يستقبل روحه، وهو لا يدري أنه وحده القادر أن يُحطِّم أبوابه، ليحتضن الذين رقدوا على الرجاء، ويحملهم كغنائم مقدّسة يدخل بهم إلى الفردوس. اهتم الأنبياء بالتنبُّؤ عن ساعة الظلمة هذه، وكما جاء في القدّيس كيرلّس الأورشليمي: [يقول زكريا: "ويكون في ذلك اليوم أنه لا يكون نور..." ثم يقول النبي: "ويكون يوم واحد معروف للرب" (زك 14: 6-7). هل يجهل الرب الأيام الأخرى؟ حاشا... فالأيام كثيرة ولكن "هذا هو اليوم الذي صنعه الرب" (مز 118: 24) بصبره على الآلام. إذن، فماذا عسى أن يكون؟ هذا ما يفسِّره الإنجيل عندما يَروي لنا أنه لم يكن نهارًا عاديًا تشرق فيه الشمس كعادتها من الشرّوق إلى الغروب، ولكن من الساعة السادسة كانت ظلمة في نصف النهار حتى الساعة التاسعة. والظلمة يفسِّرها الله بقوله "والظلمة دعاها الله ليلاً" (تك 1: 5). ولهذا لم يكن نهارًا ولا ليلاً إذ لم يكن نورًا كلّه حتى يسمَّى نهارًا، ولا ليلاً كلّه حتى يسمَّى ليلاً، ولكن الشمس أشرقت بعد الساعة التاسعة. وعن هذا يتنبَّأ النبي أيضًا، قائلاً: "بل يحدث أنه في وقت المساء يكون نور" (زك 14: 7). تأمّل إلى أي مدى بلغت الدقّة وكيف تحقّقت. ويحدّد عاموس النبي اظلام الشمس... ليته يقول هذا لليهود الذي يصُمُّون آذانهم... يقول: "ويكون في ذلك اليوم، يقول السيِّد الرب إني أغيب الشمس في الظهر"، لأن الظلمة كانت من الساعة السادسة...، "وأُقتم الأرض في يوم نور" (عا 8: 9)، كما يحدّد أيضًا الموسم الذي يتمّ فيه ذلك فيقول: "وأحوِّل أعيادكم نوحًا"، لأن المسيح قد صلب في أيام الفطير في عيد الفِصح. وبعد ذلك يقول: "وأجعلها كمناحة الوحيد وآخرها يوم مرّ" (عا 8: 10)، لأنه في عيد الفِصح بكّت النسوة وانتحبْن، والرسل كذلك اِختبأوا وكانوا في مرارة المرّ.] ويقول القدّيس كيرلّس الكبير: [كانت هذه علامة واضحة لليهود أن أذهان صالبيه قد اِلتحفت بالظلمة الروحيّة، إذ حدث عَمى جزئي لإسرائيل (رو 11: 25)، وقد وبّخهم (لعنهم) داود في محبّته لله قائلاً: "لتظلمّ عيونهم فلا ينظروا" (مز 69: 23). نعم، انتحبت الخليقة ذاتها ربّها، إذ أظلمت الشمس وتشقّقت الصخور وبدا الهيكل نفسه كمن قد اكتسى بالحزن، إذ انشقَّ الحجاب من أعلى إلى أسفل. وهذا ما عناه الله على لسان إشعياء: "أُلبس السموات ظلامًا، وأجعل المسح غطاءها" (إش 50: 3).] 9. صراخه وتسليمه الروح "ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم، قائلاً: إيلي إيلي لما شبقتني؟! أي إلهي إلهي لماذا تركتني؟! فقوم من الواقفين هناك لما سمعوا قالوا: إنه ينادي إيليّا. وللوقت ركض واحد منهم، وأخذ إسفنجة وملأها خلاً، وجعلها على قصبة وسقاه. وأما الباقون فقالوا: أتركه، لنرى هل يأتي إيليّا يخلّصه؟! فصرخ يسوع أيضًا بصوت عظيم، وأسلم الروح" [46-50]. إنه كممثّل للبشريّة التي سقطت تحت سلطان الظلمة يصرخ في أنين من ثقلها كمن هو في حالة ترك، قائلاً: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" فإذ أحنَى السيِّد رأسه ليحمل خطايا البشريّة كلها صار كمن قد حجب الآب وجهه عنه، حتى يحكم سلطان الخطيّة بدفع الثمن كاملاً، فيعود بنا إلى وجه الآب الذي كان محتجبًا عنّا. ولعلّه بصرخته هذه أراد أن يوقظ الفكر اليهودي من نومه ليعود إلى المزمور الثاني والعشرين الذي بدأ بهذه الصرخة معلنًا في شيء من التفصيل أحداث الصلب. وكأنه أراد تأكيد أن ما يحدث هو بتدبيره الإلهي السماوي، سبق فأعلن عنه الأنبياء. 10. انشقاق الحجاب إذ أسلم السيِّد المسيح روحه انشقَّ حجاب الهيكل إلى اثنين من فوق إلى أسفل [51]، وكان في ذلك إعلانًا لما سبق فقال "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أُقيمه" (يو 2: 19). ما حدث في الهيكل اليهودي قد تحقّق في جسده المقدّس لكي يقيمه في اليوم الثالث. انشقاق حجاب الهيكل كان فيه إشارة إلى جحود اليهود للمسيّا ورفضهم لعمله الخلاصي فصاروا مرفوضين، وكما يقول القدّيس كيرلّس الأورشليمي: [لم يترك منه جزء إلا وانشقَّ، لأن السيِّد قال: هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا" (مت 23: 38).] انشقاق الحجاب الذي يفصل قدس الأقداس عن القدس يكشف عن عمل السيِّد المسيح الخلاصي، إذ بموته انفتح باب السماوات للمرَّة الأولى لكي بدالة ندخل قدس الأقداس الإلهيّة خلال اتّحادنا بالسيِّد. يقول القدّيس جيروم أن مفارقة نعمة الله للهيكل القديم فتحت الباب للأمم وأقامت الهيكل الجديد، كما يقول: [إن يوسيفوس نفسه الكاتب اليهودي يؤكّد أنه في وقت صلب الرب خرج من الهيكل أصوات قوَّات سمائيَّة تقول: لنرحل من هنا.] انشق حجاب الهيكل اليهودي وتزلزلت الأرض، أي اِنهار الفكر المادي اليهودي في العبادة وتزلزل الفكر الأرضي، لكي لا يعيش المؤمن بعد يطلب الأرضيّات، بل ينطلق نحو السماويات. بموت السيِّد يتزلزل إنساننا العتيق الأرضي داخل مياه المعموديّة، وننعم بالإنسان الجديد المقام من الأموات، لهذا: "القبور تفتَّحت، وقام كثير من أجساد القدّيسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدّسة، وظهروا لكثيرين" [52-53]. ما حدث أثناء الصلب كحقيقة واقعة لمسها الذين كانوا في أورشليم يتحقّق في حياة المؤمن حين يقبل الصليب مع السيِّد المسيح في مياه المعموديّة. إنه يزلزل أرضه الداخليّة ويشقِّق صخوره ويفتح القبر المقدّس لينعم بالقيامة مع السيِّد حاملاً الحياة الجديدة. هذا وقيامة الكثير من أجساد القدّيسين الراقدين إنّما حمل تأكيدًا لقيامتنا ليس فقط روحيًا ولكن أيضًا جسديًا في يوم الرب العظيم. وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [عندما أسلم الروح أظهر أنه مات لأجل قيامتنا إذ عمل في نطاق القيامة.] أما ثمر هذه الأحداث فقد أوضحه الإنجيلي بقوله: "وأما قائد المئة والذين معه يحرسون يسوع فلما رأوا الزلزلة وما كان خافوا جدًا، وقالوا: حقًا كان هذا ابن الله" [54]. لقد كانوا يمثِّلون كنيسة الأمم التي قبلت الإيمان بالمسيح خلال عمل الصليب. 11. دفن السيِّد "ولما كان المساء جاء رجل غني من الرامة اسمه يوسف، وكان هو أيضًا تلميذًا ليسوع. فهذا تقدّم إلى بيلاطس وطلب جسد يسوع، فأمر بيلاطس حينئذ أن يُعطي الجسد، فأخذ يوسف الجسد ولفَّه بكتَّان نقي، ووضعه في قبره الجديد الذي كان قد نحته في الصخرة، ثم دحرج حجرًا كبيرًا على باب القبر ومضى" [57-60]. لم نكن نسمع عن القدّيس يوسف الرامي من قبل، إذ كان تلميذا للسيِّد خِفية لسبب الخوف من اليهود (يو 19: 38)، لكنّه ظهر في لحظات المحنة ومعه نيقوديموس (يو 19: 39)عندما تخلَّى الكل عن المصلوب، فتقدّم الأول بشجاعة لبيلاطس يطلب الجسد المقدّس، فنال هذه الكرامة العظيمة أن يدخل بالجسد المقدّس إلى قبره الجديد الذي صار أقدس موضع على الأرض. في لحظات الضيق والألم يظهر القدّيسون، فبينما تجف الأوراق الصفراء من حرارة الشمس تزداد الأوراق الخضراء حيويّة! شمس التجارب التي تحرق العشب هي بعينها التي تهب الثمار نضوجًا. نحت القدّيس يوسف لنفسه قبرًا في صخرة، ولو فضل نفسه عن سيّده لصار هذا القبر في نظر اليهود يمثّل النجاسة كسائر القبور، من يقترب إليه يبقى دنسًا طول يومه حتى يتطهّر، ولتحوّل القبر إلى موضعٍ يضم عظامًا نتنة وفسادًا، لا يسكنه أحد من الأحياء اللهُم إلا من تسلّطت عليهم الأرواح النجسة أو أُصيبوا بالبرص. لكنّه إذ قدّمه للسيِّد المسيح "الصخرة الحقيقيّة"، صار كنيسة مقدّسة يحج إليها المؤمنون من كل العالم عبر العصور، وموضع شهادة للنصرة على الموت وإعلانًا عن قوّة القيامة وبهجتها. لقد سبق فأعلن الأنبياء عن دفنه أيضًا، فيقول إشعياء النبي: "ضُرب من أجل ذنب شعبي، وجعل مع الأشرار قبره ومع غنى عند موته" (إش 53: 8-9). كما يقول: "انظروا إلى الصخرة الذي منه قُطعتُم" (إش 51: 1)، أمّا عن باب القبر فيقول إرميا النبي: "قرضوا في الجُب حياتي وألقوا عليّ حجارة" (مرا 3: 53). v فتأمّل كيف أن حجر الزاوية المختار الكريم يرقد قليلاً خلف الحجارة، وهو حجر العثرة لليهود وصخر الخلاص للمؤمنين. لقد زُرعت شجرة الحياة في الأرض، حتى أن الأرض التي لُعنت تتمتّع بالبركة وقيامة الأموات. القدّيس كيرلّس الأورشليمي v لم يُدبّر هذا الأمر جزافًا، وإنما وُضع الجسد في قبر جديد لم يكن قد وضع فيه أحد، حتى لا يظن أن القيامة قد صارت لآخر موضوع معه. وحتى يتمكن تلاميذه من أن يجيئوا بأيسر طريقة ويعاينوا ما سيحدث، ولكي يكون لدفنه شهود، ليس لهؤلاء فقط ولكن للأعداء أيضًا معه، بوضعهم الأختام على قبره وإقامة جنود يحرسونه كشهود لدفنه. القدّيس يوحنا الذهبي الفم v كان يوسف ونيقوديموس قد أحضرا حنوطًا كثيرة لكثرة محبّتهما للمسيح. في هذا أيضًا أسرار إلهيّة، حتى إذا قام المسيح وخرج من هذه الحنوط مع شدة التصاقه بالأكفان تكون تلك آية عظيمة. وحقًا إنه لأمر عظيم أن الأكفان وُجدت بمفردها وكذلك المنديل، وذلك حتى لا يقول الخصوم أن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه فإن من يأتي ليسرقه لا يُمهله الوقت والخوف حتى يفصل المسروق من هذه الحنوط، ولا أن يجعل الأكفان بمفردها، والمنديل منفردًا، مع أن التصاقهما بالحنوط مانع له في مثل ذلك الوقت. القدّيس بطرس السدمنتي v لما كان السيِّد قد وُلد من مستودع جديد طاهر لم يتقدّمه فيه غيره، حسن دفنه في قبر جديد لم يوضع فيه غيره. v أمّا كونه في بستان، فهو رمز إلى خلاص آدم الذي مات موت الخطيئة في بستان، فدُفن السيِّد في مثيله ليُزيل تبعة الجناية عنه، ويردّه إليه ثانية. ولمعنى آخر حتى يصير مؤكِّدًا أنه الذي قام لا غيره، لا سيما أن البستان لم يكن مقبرة، وإنما تقدّم يوسف فنحت هذا القبر بالإلهام في الموضع الذي لم يكن مشهورًا بالدفن. القدّيس بطرس السدمنتي 12. ختم القبر اجتمع رؤساء الكهنة والفرّيسيّون مع بيلاطس، قائلين له: "يا سيّد، قد تذكّرنا أن ذلك المضلّ قال وهو حيّ إني بعد ثلاثة أيام أقوم، فمُر بضبط القبر إلى اليوم الثالث لئلا يأتي تلاميذه ليلاً ويسرقوه ويقولوا للشعب أنه قام من الأموات، فتكون الضلالة الأخيرة أشرّ من الأولى" [63-64]. كان التصرّف بما يحمله من روح الحسد والكراهيّة نحو شخص السيِّد المسيح يقدّم شهادة حيّة من الأعداء أمام المسئولين الغرباء بأنه سبق فتحدّث عن القيامة. وكأن قيامة السيِّد ليست أمرًا غير متوقِّع بل سبق فأعلنه الرب كتهيئة للأذهان. بهذا التصرّف أشاعوا بالأكثر أمر قيامة السيِّد، وجعلوا منها حقيقة لا يُشك فيها، فقد حوصر القبر باليهود والأمم، بالحرَّاس كما بالختم. v لو كان الجند وحدهم هم الذين ختموا القبر لأمكنهم القول بأن الجند سمحوا بسرقة الجسد وأن التلاميذ اختلقوا فكرة القيامة ودبَّروها. القدّيس يوحنا الذهبي الفم 1 و لما كان الصباح تشاور جميع رؤساء الكهنة و شيوخ الشعب على يسوع حتى يقتلوه 2 فاوثقوه و مضوا به و دفعوه الى بيلاطس البنطي الوالي 3 حينئذ لما راى يهوذا الذي اسلمه انه قد دين ندم و رد الثلاثين من الفضة الى رؤساء الكهنة و الشيوخ 4 قائلا قد اخطات اذ سلمت دما بريئا فقالوا ماذا علينا انت ابصر 5 فطرح الفضة في الهيكل و انصرف ثم مضى و خنق نفسه 6 فاخذ رؤساء الكهنة الفضة و قالوا لا يحل ان نلقيها في الخزانة لانها ثمن دم 7 فتشاوروا و اشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء 8 لهذا سمي ذلك الحقل حقل الدم الى هذا اليوم 9 حينئذ تم ما قيل بارميا النبي القائل و اخذوا الثلاثين من الفضة ثمن المثمن الذي ثمنوه من بني اسرائيل 10 و اعطوها عن حقل الفخاري كما امرني الرب 11 فوقف يسوع امام الوالي فساله الوالي قائلا اانت ملك اليهود فقال له يسوع انت تقول 12 و بينما كان رؤساء الكهنة و الشيوخ يشتكون عليه لم يجب بشيء 13 فقال له بيلاطس اما تسمع كم يشهدون عليك 14 فلم يجبه و لا عن كلمة واحدة حتى تعجب الوالي جدا 15 و كان الوالي معتادا في العيد ان يطلق للجمع اسيرا واحدا من ارادوه 16 و كان لهم حينئذ اسير مشهور يسمى باراباس 17 ففيما هم مجتمعون قال لهم بيلاطس من تريدون ان اطلق لكم باراباس ام يسوع الذي يدعى المسيح 18 لانه علم انهم اسلموه حسدا 19 و اذ كان جالسا على كرسي الولاية ارسلت اليه امراته قائلة اياك و ذلك البار لاني تالمت اليوم كثيرا في حلم من اجله 20 و لكن رؤساء الكهنة و الشيوخ حرضوا الجموع على ان يطلبوا باراباس و يهلكوا يسوع 21 فاجاب الوالي و قال لهم من من الاثنين تريدون ان اطلق لكم فقالوا باراباس 22 قال لهم بيلاطس فماذا افعل بيسوع الذي يدعى المسيح قال له الجميع ليصلب 23 فقال الوالي و اي شر عمل فكانوا يزدادون صراخا قائلين ليصلب 24 فلما راى بيلاطس انه لا ينفع شيئا بل بالحري يحدث شغب اخذ ماء و غسل يديه قدام الجمع قائلا اني بريء من دم هذا البار ابصروا انتم 25 فاجاب جميع الشعب و قالوا دمه علينا و على اولادنا 26 حينئذ اطلق لهم باراباس و اما يسوع فجلده و اسلمه ليصلب 27 فاخذ عسكر الوالي يسوع الى دار الولاية و جمعوا عليه كل الكتيبة 28 فعروه و البسوه رداء قرمزيا 29 و ضفروا اكليلا من شوك و وضعوه على راسه و قصبة في يمينه و كانوا يجثون قدامه و يستهزئون به قائلين السلام يا ملك اليهود 30 و بصقوا عليه و اخذوا القصبة و ضربوه على راسه 31 و بعدما استهزاوا به نزعوا عنه الرداء و البسوه ثيابه و مضوا به للصلب 32 و فيما هم خارجون وجدوا انسانا قيروانيا اسمه سمعان فسخروه ليحمل صليبه 33 و لما اتوا الى موضع يقال له جلجثة و هو المسمى موضع الجمجمة 34 اعطوه خلا ممزوجا بمرارة ليشرب و لما ذاق لم يرد ان يشرب 35 و لما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها لكي يتم ما قيل بالنبي اقتسموا ثيابي بينهم و على لباسي القوا قرعة 36 ثم جلسوا يحرسونه هناك 37 و جعلوا فوق راسه علته مكتوبة هذا هو يسوع ملك اليهود 38 حينئذ صلب معه لصان واحد عن اليمين و واحد عن اليسار 39 و كان المجتازون يجدفون عليه و هم يهزون رؤوسهم 40 قائلين يا ناقض الهيكل و بانيه في ثلاثة ايام خلص نفسك ان كنت ابن الله فانزل عن الصليب 41 و كذلك رؤساء الكهنة ايضا و هم يستهزئون مع الكتبة و الشيوخ قالوا 42 خلص اخرين و اما نفسه فما يقدر ان يخلصها ان كان هو ملك اسرائيل فلينزل الان عن الصليب فنؤمن به 43 قد اتكل على الله فلينقذه الان ان اراده لانه قال انا ابن الله 44 و بذلك ايضا كان اللصان اللذان صلبا معه يعيرانه 45 و من الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الارض الى الساعة التاسعة 46 و نحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا ايلي ايلي لما شبقتني اي الهي الهي لماذا تركتني 47 فقوم من الواقفين هناك لما سمعوا قالوا انه ينادي ايليا 48 و للوقت ركض واحد منهم و اخذ اسفنجة و ملاها خلا و جعلها على قصبة و سقاه 49 و اما الباقون فقالوا اترك لنرى هل ياتي ايليا يخلصه 50 فصرخ يسوع ايضا بصوت عظيم و اسلم الروح 51 و اذا حجاب الهيكل قد انشق الى اثنين من فوق الى اسفل و الارض تزلزلت و الصخور تشققت 52 و القبور تفتحت و قام كثير من اجساد القديسين الراقدين 53 و خرجوا من القبور بعد قيامته و دخلوا المدينة المقدسة و ظهروا لكثيرين 54 و اما قائد المئة و الذين معه يحرسون يسوع فلما راوا الزلزلة و ما كان خافوا جدا و قالوا حقا كان هذا ابن الله 55 و كانت هناك نساء كثيرات ينظرن من بعيد و هن كن قد تبعن يسوع من الجليل يخدمنه 56 و بينهن مريم المجدلية و مريم ام يعقوب و يوسي و ام ابني زبدي 57 و لما كان المساء جاء رجل غني من الرامة اسمه يوسف و كان هو ايضا تلميذا ليسوع 58 فهذا تقدم الى بيلاطس و طلب جسد يسوع فامر بيلاطس حينئذ ان يعطى الجسد 59 فاخذ يوسف الجسد و لفه بكتان نقي 60 و وضعه في قبره الجديد الذي كان قد نحته في الصخرة ثم دحرج حجرا كبيرا على باب القبر و مضى 61 و كانت هناك مريم المجدلية و مريم الاخرى جالستين تجاه القبر 62 و في الغد الذي بعد الاستعداد اجتمع رؤساء الكهنة و الفريسيون الى بيلاطس 63 قائلين يا سيد قد تذكرنا ان ذلك المضل قال و هو حي اني بعد ثلاثة ايام اقوم 64 فمر بضبط القبر الى اليوم الثالث لئلا ياتي تلاميذه ليلا و يسرقوه و يقولوا للشعب انه قام من الاموات فتكون الضلالة الاخيرة اشر من الاولى 65 فقال لهم بيلاطس عندكم حراس اذهبوا و اضبطوه كما تعلمون 66 فمضوا و ضبطوا القبر بالحراس و ختموا الحجر |
||||
17 - 07 - 2012, 07:26 AM | رقم المشاركة : ( 28 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير كامل لانجيل متى لابونا تادرس يعقوب ملطي
الاصحاح الثامن والعشرون الملكوت حَياة مقَامة يختم القدّيس متّى إنجيله بالحديث عن قيامة السيِّد المسيح بكونها سرّ الملكوت: 1. القبر الفارغ 1 ـ 10. 2. رشوة الجند 11 ـ 15. 3. لقاء في الجليل 16 ـ 20. 1. القبر الفارغ "وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدليّة ومريم الأخرى لتنظرا القبر" [1]. ما أن انتهى السبت حتى انطلقت مريم المجدليّة ومريم الأخرى التي هي زوجة كلوبا لتنظرا القبر. لقد جذبهما الحب إلى القبر ليلتقيا بالسيِّد المسيح المصلوب. لقد قدَّما ما أمكن لهما فعله، هذا من جانبهما، أمّا من جانب الله نفسه فقد قدّم لهما "الحياة المُقامة" في شخص السيِّد المسيح القائم من الأموات. من أجلهما كممثّلين لكنيسة الأمم واليهود، أرسل الله ملاكه، فحدثت زلزلة ودحرج الحجر ليجلس، يرعب الحراس ويستقبل المرأتين. حينما يقدّم الإنسان عملاً بسيطًا من القلب كزيارة المرأتين للقبر يجد الله قد عمل أمورًا فائقة. لقد تمّت القيامة بعد السبت، في فجر الأحد، ولم ينتظر السيِّد حتى ينتهي الأحد (اليوم الثالث)، وذلك كما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لو أنه قام عقب انصراف الحراس بعد اليوم الثالث كان لهم ما يقولون وما يقاومون به ويعاندون. لذلك بادر وسبق فقام، لأنه كان يلزم أن يقوم وهم بعد يحرسون.] "وإذا زلزلة عظيمة حدثت، لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء، ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه، وكان منظره كالبرق ولِباسه أبيض كالثلج. فمن خوفه ارتعد الحراس وصاروا كأموات" [2-4]. تمّت القيامة بقوة سلطانه، هذا الذي في طاعة أسلم أمره في يد أبيه ليقبل الموت ويقبل القيامة، مع أنه قال "لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضًا" (يو 10: 18). بسلطان قام والحجر قائم كما هو مختوم، وكما يقول الأنبا بولس البوشي: [قام الرب والحجر مختوم على باب القبر، كما وُلد من البتول وهي عذراء كنبوّة حزقيال... أمّا دحرجة الملاك للحجر عن باب القبر، فلكي تُعلَن القيامة جيدًا، إذ بقيَ الحجر يُظن أن جسده في القبر.] لقد حدثت زلزلة ونزل ملاك الرب ليدحرج لنا الحجر من الباب ويجلس عليه. هكذا حدثت القيامة في حياتنا الداخليّة، فهدمت إنساننا القديم وقدّمت لنا - خلال مياه المعموديّة - الحياة المقامة، أو الإنسان الجديد على صورة خالقه. بالقيامة نزل السمائيّون إلينا يدحرجون الحجر الذي أغلق باب قبورنا، فنلتقي معهم في شركة حب وأخوة خلال المسيح القائم من الأموات. v كما أنه عند تسليمه الروح زلزل الأرض، هكذا عند قيامته زلزلها أيضًا ليُعلن أن الذي مات هو الذي قام. الأنبا بولس البوشي v الملائكة التي قدّمت الأخبار السارّة لرعاة بيت لحم الآن تُخبر بقيامته. السماء بكل خدمتها تخبر عنه، طغمات الأرواح العلويّة تُعلن عن الابن أنه الله حتى وهو في الجسد. القدّيس كيرلّس الكبير نزل الملاك يكرز بالبشارة بقيامة السيِّد، يُرهب الحراس ويرعدهم حتى صاروا كالأموات، ويُبهج قلب الكنيسة في شخص المرأتين، إذ قال لهما: "لا تخافا أنتما، فإني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب! ليس هو ههنا لأنه قام كما قال. هلمّا انظرا الموضع الذي كان الرب مضطجعًا فيه" [5-6]. لقد قدّم لهما عطيّة إلهيّة: "لا تخافا". أمّا سرّ عدم خوفهما، أي تمتّعهما بالسلام، فهو أن يسوع المسيح المصلوب قد قام! ما كان يمكن أن يبقى في القبر، فلا يستطيع الموت أن يحبسه ولا الفساد أن يلحق به. من يتّحد به لا يمكن للموت أن يقترب إلى نفسه، فلا مجال للخوف، إنّما تحل به بهجة القيامة بلا توقف. يقول القدّيس كيرلّس الأورشليمي على لسان الملاك: [لا أقول للحراس لا تخافوا، بل أقول لكما أنتما. أمّا هم فليخافوا حتى يلمسوا بأنفسهم، وعندئذ يشهدون، قائلين: "بالحقيقة كان هذا ابن الله" (مت 27: 54). أمّا أنتما فلا تخافوا لأن "المحبّة تطرح الخوف خارجًا" (1يو4: 18).] يدعو الملاك السيِّد المسيح بيسوع المصلوب مع أنه قام، فإن الصلب قد صار سِمة خاصة بالسيِّد كعمل خلاصي يعبّر فوق كل حدود الزمن، إنه يبقى المسيّا المصلوب القائم من الأموات. فالقيامة لم تنزع عن السيِّد سِمة الصلب بل أكَّدتها وكشفت مفهومها. v لم يقل الملاك: إني أعلم أنكما تطلبان سيدي، بل في مجاهرة قال: "إني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب"، لأن الصليب تاج لا عار! القدّيس كيرلّس الأورشليمي قدّم الملاك لهما رسالة للكرازة بالقيامة بين التلاميذ: "اذهبا سريعًا، قولا لتلاميذه أنه قد قام من الأموات، ها هو يسبقكم إلى الجليل، هناك ترونه" [7]. بهذه الرسالة السماويّة اِستعادت المرأة كرامتها، فبعد أن كرزت لآدم قديمًا برسالة الهلاك في الفردوس، ها هي تكرز ببشارة القيامة للتلاميذ! v هذه التي كانت قبلاً خادمة للموت قد تحرّرت الآن من جريمتها بخدمة صوت الملائكة القدّيسين، وبكونها أول كارز بالأخبار الخاصة بسرّ القيامة المبهج. القدّيس كيرلّس الكبير العجيب أنهما إذ انطلقتا للكرازة بفرحٍ عظيمٍ مع مخافة التقتا بالسيِّد المسيح يعطيهما السلام ويسمح لهما أن تمسَّكا بقدميه وتسجدا له، وكأنه إذ ينطلق الإنسان للخدمة والكرازة بفرحٍ حقيقيٍ يتجلّى الله في داخله ويقدّم له ذاته لكي يتلامس معه، ويتعبّد له، ويسنده في الكرازة. "خرجتا سريعًا من القبر بخوف وفرح عظيم راكضتين لتُخبرا تلاميذه، وفيما هما منطلقتان لتُخبرا تلاميذه إذا يسوع لاقاهما، وقال: سلام لكما. فتقدّمتا وأمسكتا بقدميه وسجدتا له. فقال لهما يسوع: لا تخافا، اذهبا قولا لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل هناك يرونني" [8-10]. 2.رشوة الجند "وفيما هما ذاهبتان إذ قوم من الحراس جاءوا إلى المدينة، وأخبروا رؤساء الكهنة بكل ما كان. فاجتمعوا مع الشيوخ، وتشاوروا وأعطوا العسكر فضّة كثيرة، قائلين: قولوا أن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه ونحن نيام. وإذ سُمع ذلك عند الوالي فنحن نستعطفه ونجعلكم مطمئنّين. فأخذوا الفضّة وفعلوا كما أعلموهم. فشاع هذا القول عند اليهود إلى هذا اليوم" [11-15]. يا للعجب ذهب رؤساء الكهنة والفرّيسيّون إلى بيلاطس الأممي يقولون عن السيِّد أنه المُضل قد سبق فأعلن عن قيامته (مت 27: 63). عِوض كرازة اليهود للأمم بالمسيّا تقدّموا لهم يكرزون بالعصيان والجحود. كأنهم قد أغلقوا على أنفسهم باب الإيمان لينفتح للأمم. الآن إذ قام السيِّد جاء الجند الرومان يشهدون للقيامة لدى قادة اليهود، وللأسف لم يقبلوا شهادتهم، بل قدّموا رشوة ليشتركوا معهم في التضليل وإنكار القيامة. ما فعله هؤلاء كان بالأكثر يؤكّد القيامة، إذ شاع الخبر أن الجسد ليس في القبر، أمّا أمر السرقة فهو غير مقبول. إذ كيف عرف الجند أن الرسل قد سرقوه؟! ولماذا سرقوه يوم السبت الذي لا يجوز فيه العمل؟! وهل يستطيع الرسل العُزل أن يسرقوه من الجند؟ وما الحاجة إلى ذلك؟! 3. لقاء في الجليل "وأما الأحد عشر تلميذًا فانطلقوا إلى الجليل حيث أمرهم يسوع، ولما رأوه سجدوا له، ولكن بعضهم شكوا. فتقدّم يسوع وكلّمهم قائلاً: دُفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيْتكم به. وها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر. آمين" [16-20]. التقى السيِّد بالأحد عشر تلميذًا في الجليل ليقدّم لهم بعد قيامته سلطان الكرازة، التلمذة على مستوى كل الأمم والتعميد، مؤكِّدًا لهم وجوده في وسطهم إلى انقضاء الدهر. كان موضع اللقاء هو "الجليل" أي "الإعلان"، إذ لا يمكن للخادم أن يكرز أو يُتلمذ للرب أو يُعمدّ ما لم يُعلن الرب ذاته في داخله، فيذوق ويختبر، فيقدّم ليس من عنديَّاته وإنما ما يعلنه الرب له. v بعد قيامته رُؤي يسوع على الجبل في الجليل، هناك سجدوا له، ولكن بعضهم شكُّوا، وشكِّهم هذا زوَّد إيماننا. القدّيس جيروم ولعلّ اختيار الجليل كموضع لقاء للتلاميذ مع السيِّد المسيح القائم يعني تجديد العهد، ففي الجليل اختار السيِّد غالبيّة تلاميذه وبعثهم للعمل الكرازي، وإذ ضعفوا أثناء أحداث الصليب ردَّهم إلى ذات الموضع يهبهم قوّة قيامته ليبدأوا من جديد، حاملين إمكانيّات جديدة. إذ جاء السيِّد إلينا كنائبٍ عنّا، تمتّع بكل سلطانٍ لحسابنا، قائلاً: "دُفع إليّ كل سلطان، في السماء وعلى الأرض"، وكأنه يوَد أن يقدّم كل ما لديه لرسله، فيحملون سلطانه خلال عملهم في كرْمة كوُكلاء عنه! لقد وهبهم السلطان الإلهي بروحه القدّوس الناري، وكما يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [نعم، انظروا، فإن النار المقدّسة الإلهيّة قد انتشرت في كل الأمم بواسطة كارزين قدّيسين.ٍ] لقد ركّز على عطيّة العماد مع الكرازة والتلمذة، وكما يقول القدّيس جيروم: [بعد قيامته أيضًا إذ أرسلهم للأمم أوصاهم أن يعمّدوهم في سرّ الثالوث.] إذ سلَّم التلاميذ رسالة الكرازة والتلمذة والتعميد، قدّم ذاته حاضرًا في وسط الكنيسة يعمل بنفسه خلالهم: v إذ وضع على عاتقهم عملاً عظيمًا هكذا... قال "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر"، وكأنه يقول: لا تقولوا أن العمل المُلقى عليكم صعب، فإنّني أنا الذي أستطيع كل شيء بسهولة معكم. لم يقل أنه يوَد أن يكون معهم وحدهم بل ومع المؤمنين الذين يأتون بعدهم، لأن الرسل لا يعيشون حتى انقضاء الدهر، لكنّه يكلِّم كل الذين سيؤمنون به كمن هم جسد واحد. القدّيس يوحنا الذهبي الفم v حُمل جسده إلى السماء، لكنّه لا يسحب عظمته عن العالم. لا يستطيع ملاك ولا رئيس ملائكة أن يغفر الخطيّة، إنّما الرب نفسه هو وحده القادر أن يقول "أنا معكم"، إن أخطأ أحد لا يغفر له إلا إذا تاب. القدّيس أمبروسيوس v أنت معنا يا سيّدي كل الأيام، ليس لنا يوم بدونك، فبدون حضرتك بجوارنا لا نستطيع أن نعيش. أنت معنا خاصة في سرّ جسدك ودمك. الأب يوحنا من كرونستادت ملحوظة هامة يمكن الرجوع للكثير من أقوال الآباء بخصوص دخول السيِّد المسيح أورشليم حتى قيامته في كتابنا "الحب الإلهي" منعًا للتكرار. 1 و بعد السبت عند فجر اول الاسبوع جاءت مريم المجدلية و مريم الاخرى لتنظرا القبر 2 و اذا زلزلة عظيمة حدثت لان ملاك الرب نزل من السماء و جاء و دحرج الحجر عن الباب و جلس عليه 3 و كان منظره كالبرق و لباسه ابيض كالثلج 4 فمن خوفه ارتعد الحراس و صاروا كاموات 5 فاجاب الملاك و قال للمراتين لا تخافا انتما فاني اعلم انكما تطلبان يسوع المصلوب 6 ليس هو ههنا لانه قام كما قال هلما انظرا الموضع الذي كان الرب مضطجعا فيه 7 و اذهبا سريعا قولا لتلاميذه انه قد قام من الاموات ها هو يسبقكم الى الجليل هناك ترونه ها انا قد قلت لكما 8 فخرجتا سريعا من القبر بخوف و فرح عظيم راكضتين لتخبرا تلاميذه 9 و فيما هما منطلقتان لتخبرا تلاميذه اذا يسوع لاقاهما و قال سلام لكما فتقدمتا و امسكتا بقدميه و سجدتا له 10 فقال لهما يسوع لا تخافا اذهبا قولا لاخوتي ان يذهبوا الى الجليل و هناك يرونني 11 و فيما هما ذاهبتان اذا قوم من الحراس جاءوا الى المدينة و اخبروا رؤساء الكهنة بكل ما كان 12 فاجتمعوا مع الشيوخ و تشاوروا و اعطوا العسكر فضة كثيرة 13 قائلين قولوا ان تلاميذه اتوا ليلا و سرقوه و نحن نيام 14 و اذا سمع ذلك عند الوالي فنحن نستعطفه و نجعلكم مطمئنين 15 فاخذوا الفضة و فعلوا كما علموهم فشاع هذا القول عند اليهود الى هذا اليوم 16 و اما الاحد عشر تلميذا فانطلقوا الى الجليل الى الجبل حيث امرهم يسوع 17 و لما راوه سجدوا له و لكن بعضهم شكوا 18 فتقدم يسوع و كلمهم قائلا دفع الي كل سلطان في السماء و على الارض 19 فاذهبوا و تلمذوا جميع الامم و عمدوهم باسم الاب و الابن و الروح القدس 20 و علموهم ان يحفظوا جميع ما اوصيتكم به و ها انا معكم كل الايام الى انقضاء الدهر امين |
||||
31 - 08 - 2012, 04:22 PM | رقم المشاركة : ( 29 ) | ||||
..::| العضوية الذهبية |::..
|
رد: تفسير كامل لانجيل متى لابونا تادرس يعقوب ملطي
مجهود رائـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــع
|
||||
|