|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
19 - 05 - 2014, 03:30 PM | رقم المشاركة : ( 21 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
النظريات التربوية عند الآباء
لم يكتُب أي من الآباء الأوَّلين كتابًا خاصًا عن النظريات والتساؤلات التربوية، لكن أفكارِهِم التربوية مُتناثرة في صفحات الأدب المسيحي الغزير ولذلك من الضروري أن نبحث عن هذه الأفكار والنظريات في كِتابات آباء الكنيسة الأوَّلين ونُحلِّلها ونصيغها منهجيًا حتّى نحصُل على صورة كاملة لنظامهم ومنهجهم ونظرياتهم في التربية. وفي سعينا لتحقيق ذلك، سوف نتناول النِقاط التالية: 1) الوراثة والبيئة. 2) النِعمة الإلهية. 3) إمكانية التربية. 4) هدف التربية الرهبانية. 5) الحياة النُّسكية كوسيلة للتربية الرهبانية. |
||||
19 - 05 - 2014, 03:32 PM | رقم المشاركة : ( 22 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
الوراثة والبيئة بكلمة ”وراثة“ نعني انتقال بعض العناصر واستمراريتها من جيل لجيل، وهذا المُصطلح لم يكُن معروفًا للآباء بل بدلًا منه كانوا يستخدمون كلمة ”طبيعة – فيزيس Φυsιs - nature“ للإشارة إلى نفس المعنى والمضمون الذي لكلمة ”وراثة“. أمَّا المُصطلح الثاني ”البيئة“ فواسع للغاية وليس تعريفه بالأمر السهل، لكننا نستخدمه هنا في هذه الدراسة ليدُل على كلّ ما هو خارج الفرد، أي الأشخاص الآخرين، المُجتمع ببنيته ومُؤسساته، النباتات، الحيوانات، إلخ... ورغم أنَّ الآباء لم يستخدموا هذا المُصطلح بمعناه الواسع، إلاَّ أنهم استخدموا مُصطلحات أخرى تُشير إلى أجزاء من هذا المُصطلح الواسع مثل ”التدريب“ ”الإرشاد“ ”التربية“ ”التفاعُل الاجتماعي“ إلخ... وهم يُشيرون إلى البيئة الاجتماعية أكثر مِمّا للبيئة المادية. وكان آباء الكنيسة على وعي وإدراك تام بأنَّ للوراثة والبيئة دورهما الهام للغاية في النمو الشخصي لكلّ فرد، وبحسب الآباء، يرِث الإنسان الضعفات وأيضًا الاستعدادات، وقد كتب القديس يوحنَّا الدَّرجي مُعلِّم النفوس الشهير، مُعبِّرًا عن هذا الفِكْر بوضوح في كِتابه ”السُّلَمْ“ فيقول: ”إنَّ البعض – لا أعرف لماذا – هم بالطبيعة، إن جاز أن أقول، ميّالون إلى ضبط النَّفْس أو الصمت أو النقاوة أو الاتضاع أو الوداعة أو الحُزن، بينما هناك آخرون يغصِبون على أنفسهم بأقصى قُدرتهم (لاقتناء هذه الفضائِل) رغم أنَّ طبيعتهم عينها تُقاومهم في ذلك“. (1) وهذا القول يُدهِشنا تمامًا، لأنه يشرح بوضوح أنَّ الإنسان يرِث الاستعدادات والميول الصَّالِحة، وهي فكرة نادرًا ما نجدها في أعمال الآباء، فالأدب الآبائي في تعليمه عن الخطية، يُؤكِد دومًا على الجانب السلبي للوراثة، أي أننا نرِث الضعفات والميول الرديئة والتي تُعتبر نتائج لـ ”الخطية الأصلية“ أو خطية آدم، أي الاختيار المُتعدي والخاطئ الذي صنعه الإنسان الأوَّل آدم، عندما أكل من الثمرة المُحرَّمة، وهكذا بعصيانه وتعديه، حُرِم من الشَرِكَة مع الله وفسدت طبيعته، وصار هذا الفساد ينتقِل من جيل إلى جيل وساد في الطبيعة البشرية بجُملتها، النَّفْس والجسد، ويقول القديس أبو مقار الكبير أنَّ هذا الفساد موجود في سائر البشر (2) ويدفعهم نحو الخطية، وهو يُمثِّل ”الناموس الآخر“ ”ناموس الخطية“ الذي في أعضائنا كما كتب القديس بولس الرَّسول (رو 7: 23) والذي يُحارب ”ناموس العقل“، ولذلك الإنسان ”مُستعد وميَّال لأن يشترِك في الشر“ (3) أكثر مِمّا في الخير، وتختلف درجة هذا الميل الشِّرِّير من شخص لآخر، وطبيعته ليست إجبارية بقدر ما هي تعرض وتُقدِّم، وقد عبَّر القديس مقاريوس عن هذا الفِكْر عندما قال في إحدى عِظاته الشهيرة: ”إنَّ طبيعتنا قادرة على قبول الخير والشر، وقُوَّة الشر تغوي وتعرِض ولا تُكره أو تُجبِر“. (4) كذلك يشرح الأدب الآبائي أنَّ الإنسان حُر في قبول ”الشهوات“ أو رفضها، وهذه حقيقة تجعل الإنسان مسئولًا عن أعماله (5)، وحياة الراهب ليست أكثر من جهاد مُستمر ليغلِب هذا الميل الشِّرِّير، أمَّا التعليم والتربية الرهبانية فتهدِف – من ناحية – إلى وضع هذا الجهاد في إطار منهجي مُنظم، ومن الناحية الأخرى إلى إنماء الميول والاستعدادات الصَّالِحة والتي يرثها الإنسان أيضًا من آبائِهِ وأجداده، وبعض هذه الاستعدادات هي ”الذكاء“ و”الفضائِل“ (6)، ويقول القديس باسيليوس: ”إنَّ الفضائِل توجد فينا أيضًا بالطبيعة، والنَّفْس تنجذِب لها ليس بالتربية بل بالطبيعة نفسها“. (7) ومُصطلح ”بالطبيعة“ هنا إنما هو مُرادف لمُصطلح ”بالميلاد“، وفي القرن الرَّابِع شرح الأنبا بفنوتيوس بوضوح أنَّ بعض الناس لهم ميول فِكرية، بينما هناك آخرون لهم ميول أخلاقية (8)، لكن الفضائِل لا توجد في درجتها العالية المُتقدمة، بل كبذرة وكـ ”ميل“ و”استعداد“، ويتضح هذا الفِكْر أيضًا في كِتابات كلِمنضُس السكندري: ”وفوق كلّ شيء، يجب أن يعرفوا أننا بالطبيعة نميل إلى الفضيلة، وليس معنى هذا أننا نملُكها بالميلاد، بل أننا مُستعدون ولائقون لكي ننالها“. (9) وتعتمد درجة تقدُّم الإنسان في الفضيلة على التدريب الذي يتلقاه وعلى جهاده الشخصي، وقد كتب القديس مقاريوس قائلًا: ”لقد وضعت النِعمة الإلهية تدبيرًا يجعل كلّ أحد يُشارِك في التقدُّم والنمو الروحي بحسب رأيه الشخصي وإرادته هو، وبحسب عمله وجهاده هو“. (10) والاستعدادات الموروثة، والضعفات والسِمات الأخرى الموروثة أيضًا، هي ما يُميِّز الإنسان عن الآخر ويجعل كلّ إنسان فريدًا، وقد وضعت قوانين الكنيسة هذه الفرادة في اعتبارها، عند تحديدها للسِنْ الذي يصير فيه الطفل مسئولًا عن أعماله، وهكذا نجد البابا تيموثاوس السكندري في إجاباته القانونية Canonical Answers يقول أنَّ الطفل يُصبِح مسئولًا عن أعماله عندما يبلُغ نضوجًا مُعيَّنًا، عادة نحو سِنْ 10 أو 11 عامًا... فلم يُحدِّد البابا تيموثاوس سِنًا مُعيَّنة لأنَّ هذا يتوقف على طبيعة الطفل. (11) أمَّا فيما يختص بالبيئة، فنجد أنَّ العديد من النصوص النُّسكية تُوضِح أنَّ آباء الكنيسة كانوا ينظرون إلى ”البيئة environment“ كعامِل مُؤثِر وهام في تطور ونمو الشخصية، ويُلاحظ القديس يوحنَّا الدَّرجي مُندهشًا أنَّ المُعاشرات الاجتماعية – والتي هي جزء من بيئة الشخص – قوية للغاية لدرجة أنها تُؤثِر على الإنسان وتسحبه بعيدًا عن توجهاته الطبيعية بسرعة فائقة، ولعلّ كاتِب ”السُّلَمْ إلى الله“ – لأسباب تعليمية – أكَّد بشدة على الدور القوي الذي تلعبه البيئة في تشكيل الشخصية، ولم يكُن يُعبِّر عن الرؤية العامة لهذا الموضوع، ورغم أنَّ الآباء لم يشرحوا إلى أي مدى تُؤثِر البيئة على تطور ونمو الإنسان، إلاَّ إنه يتضح لنا أنهم لم يعتبروه عاملًا فائق القُدرة في تشكيل الشخصية (12)، بل وحتّى القديس يوحنَّا الدَّرجي نفسه في موضِع آخر من كِتابه ”السُّلَمْ“ يقول أنَّ الوراثة تُشكِّل الإطار الذي فيه تُقدِّم البيئة تأثيرها وصياغتها للشخصية، وعلى أيَّة حال، رأى الآباء أنَّ البيئة الصَّالِحة يُمكن أن تكون نافعة للغاية للإنسان، وأنَّ البيئة الرديئة يُمكن أن تكون مُدمرة للإنسان، وفي ”الأقوال Apophthegmata“ نقرأ: ”إنَّ من يذهب إلى محل العطور، حتّى ولو لم يشتري شيئًا، يشترك في الرائحة العَطِرة“. (13) لذلك أخذ آباء البريَّة خُطوات جادَّة نحو خلق بيئة ومناخ صالح ونافع في أديُرتهم، وشجَّعوا تكوين العلاقات الحميمة بين المُبتدئين والرُّهبان المُتقدمين الذين هم ”محل عُطور“ بالنسبة للراهب، وكان على الرُّهبان أن يجاهدوا لأجل إقامة مثل هذه العلاقات، ولأجل أن يتفادوا أي مُعاشرة مع ”الأُخوة الكذبة“ (14).. وهذه البيئة كانت أيضًا نتيجة للبنية العامة للحياة الرهبانية. |
||||
19 - 05 - 2014, 03:33 PM | رقم المشاركة : ( 23 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
النعمة الإلهية رأى الآباء أنَّ للنمو الإنساني أبعاد ثلاثة، الأوَّل هو الوراثة والثَّاني هو البيئة، وهذين قد ناقشناهُما، أمَّا البُعد الثَّالِث فهو النِعمة الإلهية، وفي اللاهوت المسيحي، مُصطلح ”النِعمة الإلهية“ يعني محبة الله المجانية كما تُستعلن في خلاص الخُطاة ومنح البركات، وتعمل النِعمة أساسًا في هؤلاء الذين لهم ارتباط عضوي بالكنيسة والذين يُجاهدون ليعيشوا بحسب تعاليمها، لكن النِعمة تعمل أيضًا خارج الكنيسة في هؤلاء الذين غالبًا ما يتجاهلونها ولا يبذلون أي جهد لاقتنائها. وقد اعتبر الآباء أنَّ النِعمة الإلهية أهم العوامل التي تُؤثِر على تطور ونمو الشخص، بل وبجانب أنَّ لها تأثيرها المُباشِر على الإنسان، فهي كذلك تحكُم العاملين الأخرين (الوراثة والبيئة)، وهكذا كان هناك أمور كثيرة رأى الآباء أنها نتيجة وثمرة للنِعمة بينما رأى الدارسون والباحثون المُحدِثون أنها نتيجة لعاملي البيئة والوراثة، وفي الأدب الآبائي، نجد وثيقة رهبانية مُبكِرة للغاية تُؤكِد بجلاء على أهمية وأولوية النِعمة الإلهية، تلك هي ”سيرِة القديس باخوميوس Vita Prima of St. Pachomius“ فنقرأ فيها كلمات تلاميذه المملوءة بالإعجاب والدهشة: ”اعتدنا أن نعتقِد أنَّ كلّ القديسين كانوا بتدبير الله قديسين منذ أن كانوا في رَحِم أُمهم ولا يُمكن أن يتغيَّروا، وليسوا قديسين بإرادتهم الحُرَّة وأنَّ الخُطاة لا يُمكن أن يعيشوا بسيرة صالحة لأنهم خُلِقوا هكذا، لكننا الآن نرى صلاح الله واضحًا في حالة أبونا هذا إذ وهو من والدين وثنيين صار خائفًا لله للغاية، وهو مُلتحِف بجميع وصايا الرب... فلنمُت ولنحيا مع هذا الإنسان لأنه يقودنا بالصواب إلى الله“. (15) ونجد هذا القول عينه أيضًا في كتاب ”الأقوال“... وبحسب الآباء، كانت النِعمة الإلهية هي القُوَّة التي تقود عاملي البيئة والوراثة، وهي التي تُعطي الجهود التربوية والتعليمية إمكانية النجاح، وكانت كلمات السيِّد المسيح ”بدوني لا تقدِروا أن تفعلوا شيئًا“ (يو 15: 5) دومًا في أذهانِهِم. ولكي نلخص هذا الفِكْر الآبائي، يُمكننا أن نقول أنَّ آباء الكنيسة رأوا أنَّ نمو الإنسان وصياغة شخصيته كان نتيجة لعوامل ثلاثة: الوراثة – البيئة - النِعمة الإلهية... ولذلك كتب القديس مقاريوس الكبير قائلًا: ”لا يستطيع الإنسان أن يتقدَّم بالقُوَّة والنِعمة الإلهية فقط دون تعاونه وإرادته الحُرَّة، وكذلك لا يُمكنه بقُوَّته وجهاده فقط، دون معونة الروح القدس أن يُتمِّم إرادة الله الكاملة ويصل إلى مِلء الحُرية والنقاوة“. (16) ورغم أنَّ النصوص الآبائية لا تُوضح لنا إلى أي مدى يسهم كلّ عنصر من هذه العناصر المُؤثِرة في نمو الإنسان وشخصيته، إلاَّ أنَّ الآباء أكَّدوا بشدَّة على دور النِعمة الإلهية، واضعين إياها فوق العاملين الآخرين. والآن عندما نُقارِن بين تعليم الآباء وبين نظريات العِلْم الحديث، نجد أنه في موضوع الوراثة والبيئة ودورِهِما التشكيلي والتكويني للشخصية، تتفق أفكار وتعاليم الآباء مع العِلْم الحديث، ومن الآراء العِلمية الحديثة المقبولة في هذا الصدد، القول بأنَّ ”الشخص، أي شخص، وكلّ سِماته الجسمية والعقلية والثقافية، هو نِتاج تفاعُل الطبيعة والتنشِئة، الوراثة والبيئة“ (17)، أمَّا بالنسبة للنِعمة الإلهية فمن الجلي أنَّ العُلماء لا يقبلونها كعامِل مُؤثِر في صياغة الإنسان وشخصيته. |
||||
19 - 05 - 2014, 03:35 PM | رقم المشاركة : ( 24 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
إمكانية التربية إنَّ كون الإنسان يتصِف منذ ولادتِهِ ببعض الميول الطبيعية الرديئة والصَّالِحة، من ناحية، وإمكانية تغييره وتطويره عن طريق بيئته واتصالاته مع الأخرين، من ناحية أخرى، يُؤكدان على إمكانية التربية وأيضًا على ضرورتها، ويُسلِّم الأدب الآبائي بأنَّ للتربية تأثيرها الكبير على شخصية الإنسان، ويقول كلِمنضُس السكندري أنَّ التربية السليمة تقود إلى السماء، وكتاب ”الأقوال“ يذكُر أنَّ الكلمة الصَّالِحة لها من القُوَّة ما يجعل من الشِّرِّير بارًا، والكلمة الشِّرِّيرة تستطيع أن تجعل البار شريرًا (18)، كذلك كان آباء البرية يُؤمنون أنَّ التربية تعني بالجسد وأيضًا بالنَّفْس كليهِما، وأنَّ لها تأثيرها القوي على الحياة بجُملتها، ويُؤكد أبو مقار الكبير أنَّ بالتدريب السليم، يُمكننا أن نقتني الفضيلة، ويقول القديس يوحنَّا الدَّرجي أنه بالتدريب الحَسَنْ يُمكننا أن نحِد حتّى من احتياجاتنا الطبيعية، مثل الأكل والنوم إلخ (19)... لكن الآباء يُنبهون إلى أنَّ مهمة التربية صعبة للغاية، وأنها تتطلّب وقتًا ولابد أن تتم بصبر وبالتدريج وبرفِق. (20) وفي تناولهم لموضوع السِنْ، رأى الآباء أنَّ التربية تأتي بنتائِج أفضل عندما تتم في السنوات الأولى من حياة الطفل، إذ أنَّ كلّ ما يُطبع على النَّفْس في تلك المرحلة المُبكِرة، عندما يكون من السهل تشكيل النَّفْس وتكون لينة وطيِّعة مثل الشمع، يُصبح من الصعب محوه فيما بعد. وهكذا يجب أن تبدأ تربية الشخص في سِنْ مُبكِر، عندما – كما يقول القديس باسيليوس – تكون طبيعة الطفل طيِّعة للغاية وسهلة التشكيل (21)، ويُردِّد القديس يوحنَّا الدَّرجي نفس هذا التعليم ويذكُر أنَّ التربية التي تلقاها وهو طفل كان لها تأثير حاسِم، سواء إيجابي أو سلبي، على نموه في الحياة الرهبانية (22)، وأخيرًا في كِتابه ”عن المجد الباطِل والطريقة الصحيحة للوالدين لتربية أطفالهم“ يتناول فم الذَّهب نفس هذا الموضوع مُوضحًا السبب الذي يجعل السنوات الأولى أكثر أهمية من أي سِنْ آخر، فيقول أنه في ذلك السِنْ تكون ”النَّفْس رقيقة“ وعندما يُطبع التعليم الصَّالِح على مثل هذه النَّفْس، لا يستطيع أحد أن يمحوه، إذ من الصعب محوه، تمامًا كما أنه من الصعب محو الأختام، وبالمثل السنوات الأولى في حياة المُبتدئ في الرهبنة أساسية جدًا لأجل نموه فيما بعد، وهكذا كان يُنظر إلى فترة البداية في النذر الرهباني كمرحلة حاسمة، ولذلك لابد أن تُعطى اهتمامًا فائقًا من الأب ومن التلميذ. |
||||
19 - 05 - 2014, 03:36 PM | رقم المشاركة : ( 25 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
هدف التربية الرهبانية من الأهمية بمكان أن نُميِز بوضوح بين هدف التربية الرَّهبانية وبين هدف الرهبنة، ويُمكن أن نفهم الأوَّل أفضل عندما نفهم الثَّاني. هدف أو غاية الرهبنة هو نفس هدف المسيحية، ذلك أن تُشكِّل في الناس شخصيات مسيحية ليكونوا لائقين ومُستعدين لدخول ملكوت السموات، وللرهبنة وسائلها لبلوغ هذه الغاية، وبالرغم من أنَّ آباء البرية شرحوا أهدافهم بطُرُق مُختلفة، إلاَّ أنه في التحليل النهائي لأهداف وغايات كلٍّ من الرهبنة والمسيحية، نجد أنها أهداف مُتماثلة. St-Takla.org Image: Jesus Christ in contemplation فبالنسبة للنُّسَاك الأوَّلين، كانت الغاية النهائية من نذرِهِم وتكريسهم هي استعادة حالة آدم قبل السقوط (23)، وفي سيرة العظيم الأنبا أنطونيوس بقلم البابا أثناسيوس نقرأ أنَّ القديس أنطونيوس أمر الحيوانات ألاّ تُزعِج سلامه أو تُفسِد حديقته، وهكذا ترسم أمامنا صورة للعلاقة بين أنطونيوس الكبير والحيوانات، والتي تدُل على استعادته لحالة آدم قبل السقوط. كذلك شرح آباء آخرون أنَّ غاية الرهبنة هي الوصول إلى حالة الهيزيخيا Hyschia أي السكينة، أو حالة الأباثيا (24) والتي تعني اللاهوى أي ضبط الإنسان الكامل لشهواته وأهوائه، وإذا بلغ الراهب حالة الأباثيا Apatheia، يُمكنه أن يكرَّس نفسه لحياة الثيؤريا Theoria أي التأمُّل. وبالإضافة إلى هذا وذاك، علَّم بعض الآباء أنَّ هدف الحياة الرهبانية هو أن ينال الراهب عطايا الروح القدس، وهذا الرأي ردَّده القديس سيرافيم ساروفسكي النَّاسِك الروسي في القرن التاسِع عشر. وبجانب ذلك، كان آباء البريَّة يُؤمنون أنَّ هدف التربية الرَّهبانية هو أن تُساعد المُبتدئ على الوصول لأهدافه بأقصى سُرعة مُمكنة، ولذلك استخدموا كلّ الطُرُق والوسائل المُناسبة المُتاحة لهم في سعيهم لمُساعدة تلاميذهم في مُهمتهم الصعبة. وسوف نُناقِش بدقة أكثر – في فصل آخر – المناهج والطُرُق العديدة التي استخدموها، أمَّا الآن فسوف نتناول أهم هذه الوسائل وهو ”النُّسْك Ascesis“ من زاوية نظرية. |
||||
19 - 05 - 2014, 03:37 PM | رقم المشاركة : ( 26 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
الحياة النسكية كوسيلة للتربية الرهبانية
إنَّ تعبير ”الحياة النُّسكية ascetical life“ يعني المنهج النُّسكي في الحياة والذي يتضمن ضبط النَّفْس في الأكل، السهر، الصمت، عدم الرَّاحة، الطاعة، التلمذة، إلخ... وأساس هذه الحياة النُّسكية مُتأصِل في العهدين القديم والجديد، وتظهر عناصر الحياة النُّسكية في كِتابات الآباء الرَّسوليين بالترتيب التالي: 1) تحديد أيام مُعيَّنة للصوم. 2) تحديد ساعات مُعيَّنة للصلاة. (25) 3) عدو الزواج، وخاصَّة الزيجة الثَّانية. (26) 4) جحد العالم، أي العالم المادي. وهذا التعريف يُردِّد بوضوح صدى أفكار النُّسَاك الأوائِل، كما عبَّر عنها أنبا زكريا حينما قال أنَّ الراهب هو الذي يغصِب نفسه في كلّ شيء (30)، وهكذا يُمكننا أن نرى كيف كان للنُّسْك دورًا أساسيًا وجوهريًا في الحياة الرَّهبانية. وكانت أتعاب الجسد وجهاداته هي الثمن الذي يدفعه الراهب لأجل نوال عطايا الروح القدس، ولذلك تُوضح ”الأقوال“: ”اعطِ دمًا وخُذ روحًا“ (31) فهذه الأتعاب هي وسائل نوال الفضيلة، أو بالأحرى هي وسيلة للبلوغ إلى هدف الرهبنة، لأنها تُنقي القلب والذهن وتجذِب النِعمة الإلهية. (32) لكن الحياة النُّسكية لم تكُن قط هدفًا في ذاتها، فالنُّسْك ببساطة هو مُساهمة من الجسد في جهاد النَّفْس وسعيها لبلوغ غايتها وهدفها، كما شرحه القديس إيسيذروس الفرمي (انظُر كتابنا ”إيسيذروس الفرمي“ – الذي سننشره هنا في موقع الأنبا تكلا من سلسلة آباء الكنيسة - إخثوس ΙΧΘΥΣ ) في إحدى رسائله، وإذ كان بعض الرُّهبان يتخذون من النُّسْك هدفًا في ذاته، كان الأدب النُّسْكي يُحذِّرهم دومًا مُوضِحًا أنَّ قيمة النُّسْك نسبية فقط (33)، وعلى سبيل المثال، عندما وجد الأنبا ثيؤدوروس أحد الأخوة يتفاخر في المجمع بأصوامه الشديدة قال له: ”خير لك أن تأكُل لحمًا في قلايتك، من أن تتفاخر هكذا وسط الأخوة“. ويُميِّز الأدب الرَّهباني بوضوح بين النُّسْك الإلهي والنُّسْك الشيطاني، فالأوَّل يتصِف بالتعقُّل والاعتدال، بينما الثَّاني نُسْك بلا تفكير ولا تعقُّل ومُغالى فيه، ولذلك لا يقود إلى نقاوة القلب بل إلى الذاتية الشيطانية، وكان القانون الذهبي للرُّهبان أن يتحاشوا كلّ التطرُّفات المُغالى فيها (34)، فمن الضروري أن يتلازم النُّسْك مع التمييز والإفراز الذي يُسميه نيلوس ”مصدر وأصل ورأس كلّ فضيلة“ والذي يُسميه صفرونيوس الأورشليمي (تنيَّح عام 638 م) ”مَلِكة الفضائِل“، إذ أنَّ هدف النُّسْك هو إماتة الأهواء الشهوات وليس قتل الجسد، كما قال الأنبا بيمن ذات مرَّة للأنبا إسحق ”لقد تعلَّمنا ألاَّ نكون قَتَلَة للجسد بل قَتَلَة للشهوات“. (35) وعلى أيَّة حال، كانت المزية الكُبرى للحياة النُّسْكية أنها تسمح للراهب أن يحيا في شَرِكَة دائمة غير مُنقطِعة مع الله وذلك بتكريس دائم مُستمر لحياة الصلاة. ولابد أن نوضح أنَّ العقل الرَّهباني، بخلاف فِكْر الغنوصيين أو المانيين، لم يُعتبر قط المادة شرًا في ذاتها، لأنَّ الله هو خالق كلَّ الأشياء، والثُّنائية اليونانية ”الخير - الشر“ لم تصِر قط إيمانًا في المسيحية الأُرثوذُكسية، فليس هناك شيء ردئ، لأنَّ الله لم يكُن ليخلِق شرًا (36)، لذلك يجب ألاَّ يترُك الإنسان المُقتنيات لأنها ببساطة شر في ذاتها، بل يجب أن يوزعها بتعقُّل وبلياقة لأنها يُمكن أن تكون أدوات للخطية. كذلك لم يرفض الرُّهبان إمكانية الخلاص خارج إطار النُّسْك الرَّهباني، وكثيرًا ما كانت الملائكة تتراءى للرُّهبان لتُخبرهم أنَّ بالرغم من أنهم يعيشون حياة نُسكية لسنوات طويلة في البريَّة، إلاَّ أنهم لم يبلُغوا بعد القامة الروحية التي لبعض المؤمنين العاديين الذين يعيشون في العالم. (37) لقد كان النُّسْك تربية جسدية سلبية، تهدِف إلى إضعاف الجسد الفاسد بالخطية وتنقيته وإعداده للقيامة، وكان الرُّهبان يُؤمنون أنه ”بقدر ما يضعُف الجسد، بقدر ما تزهر النَّفْس“. ومن الناحية الأخرى، أكَّد القديس باسيليوس أنَّ الرَّاهب يجب أن يحتفظ بجسده في حالة صحية جيدة وإلاَّ لن تستطيع النَّفْس أن تُعايِن الإلهي. وهكذا... رغم أنَّ أحدًا من آباء البريَّة لم يفرِد كِتابًا خاصًا عن التربية، إلاَّ أنه من البيِّن أنهم كانوا واعيين تمامًا بالمفاهيم التربوية، وكان لهم أفكارهم ورؤيتهم الخاصَّة لها، وهذه الآراء والأفكار تتماثل في مناح عديدة مع آرائنا وأفكارنا، وعلى أيَّة حال، قدَّموا عاملًا جديدًا في تشكيل الشخصية الإنسانية ألا وهو النِعمة الإلهية. |
||||
19 - 05 - 2014, 03:38 PM | رقم المشاركة : ( 27 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
مراجع الجزء السابق 1) John Climacus, The Ladder of Divine Ascent, tr. Moore, London, 1959, p. 206. 2) Macarius the Egyptian, Homily LXXV, V.H.P., XLII, 93. 3) Gregory of Nazianzus, Oration II,2,P.N.F. VII, 207. 4) Macarius the Egyptian, Homily XXVII, 10, V.H.P., XLI, 286. 5) John Climacus, Ladder. XXV, p. 188, See also Macarius the Egyptian, Homily XV, V.H.P., XLI, 230, And Irenaeus, Against Heretics, XXXVIII. A.N.F., I, 519. 6) Palladius, Historia Lausiaca, XCV, P.G.34,1201. John Climacus, Ladder, XXV, p.180. 7) Basil, Hexaemeron, Homily IX. 4, N.P.F., VIII, 103. 8) Macarius the Egyptian, Homily LIV, V.H.P. XLII, 42. 9) Clement of Alexandria, Stromata, VI, I I and 12, V.H.P., VIII, p.213-4. 10) Macarius the Egyptian, Letter, V.H.P., XLII, p.146. 11) G. Ralles, Syntagma Hieron Kanonon, Athens, 1825-1859,IV, p.341. 12) John Climacus, Ladder. XXVIII, p.189 and 206. 13) Apophthegmata, V.H.P., XLII, 256. 14) Ibid. P.G.LXV, 77, 116, 361. 15) Vita Parima Pachomii, quote., in Chitty`s The Desert A City, Oxford, 1966, p.21. 16) Macarius the Egyptian, Letter, V.H.P., XLII, p.146. 17) Dobzhansky, Th., Heredity and Nature of Man, New York, 1964, p.4. 18) Apophthegmata, P.G.65, 281. 19) Clement of Alexandria, Instructor , I, 12, A.N.F., II, 235. See also: Macarius the Egyptian, Ascetic Homily, V.H.P., XLII, p.188, and John Climacus, Klimax, I I , p.78. 20) Varsanuphius and John, Question XIII, P.OR. XXXI, Fsc 3, 469. 21) Basil, Reg. Fus., XV, P.G. 31, 956A. 22) John Climacus, Klimax, XXVI, Athens, 1970, p.148. 23) Chrysostom, Homilia, LXVIII, 3 IN Mt., P.G. 58, 643 D. 24) Diadochus of Photices, (451 A.D.), On Spiritual Perfection, 54. See also: Palladius, Historia Lausiaca. P.G. 34, 1003. 25) Didache VIII, V.H.P., II, p.217-18. 26) Ignatius, Letter To Polycarpus. II, ed. K. Bihlmeyer, Die Apostolischen Vater, Tubingen, 1924, p.112. 27) Basil, Constitutions, P.G. 31,1388 A. 28) Athanasius, Vita Antonii, P.G. 26,632A, and 889A. 29) John Climacus, Ladder I, p.50. 30) Apophthegmata, V.H.P.,XLII, 269. 31) Ibid., P.G.65, 257. 32) Ammonas, Peri Psyches, V.H.P., XL, 272 and 4th Letter, V.H.P., XL. P.54. 33) Apophthegmata, P.G.65, 204A. 34) Ibid., 425C. 35) Ibid., 368A. 36) Basil, Reg. Brev., 92, P.G. 31, 1145. Reg. Fus. P.G.31, 965B. 37) Apophthegmata, P.G.65, 168 and 156. |
||||
19 - 05 - 2014, 03:39 PM | رقم المشاركة : ( 28 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
الأب والتلميذ
تبرُز في الرهبنة المُبكِرة والحديثة أيضًا رُتباتان رهبانيتان أساسيتان هما: الأب Elder والتلميذ Disciple بالإضافة إلى ذلك، استخدم الأدب الرَّهباني كلمتي ”هيغومينوس Hegoumenous“ و”آباس Abbas“ وهذه الثَّانية كلمة سريانية من أصل سامي كانت تتداول في الأوساط الرهبانية بمعنى ”أب روحي“ حتّى عام 330 م كما يتضح من ورودها الكثير في شكلها القبطي في مُراسلات عديدة (1)، وهي ترِد مرارًا في العديد من المصادر الرَّهبانية المُبكِرة ولا تزال مُستخدمة حتّى الآن كما هو الحال مع جميع المُصطلحات التي أسلفناها (2). والمُصطلح الآخر ”هيغومينوس Hegoumenous“ يعني ”رئيس دير“، وقد بدأ استخدامه عندما تحوَّلت الرهبنة من طابِع الوحدة إلى حياة الشَرِكَة، وقد استخدم باخوميوس هذا المُصطلح في قانونه (3)، وأيضًا نيلوس النَّاسِك ويوحنَّا الدَّرجي وأخرون كثيرون. وأخيرًا، كان هناك مُصطلحان آخران يُستخدمان في الإشارة إلى رئيس الشَرِكَة (4)، أحدهما هو ”أرشمندريت Archimandrite“ ويعني ”أن ترأس قطيع“ كما كانت الأديُرة تُسمَّى في سوريا والميصة، وهذا يدُل على أنَّ اللقب قد خرج في الغالب من سوريا، وقد وَرَدْ مرّتين في التاريخ اللوزياكي لبالاديوس، كما وَرَدْ في كِتابات باسيليوس وفي كتاب ”خزانة الدواء أو البناريون Panarion“ للقديس إبيفانيوس أسقف سلاميس وفي نصوص أخرى قديمة، وفي بعض الأحيان، كان الأرشمندريت رئيسًا لمجموعة من الأديُرة، وذلك بصفة خاصَّة في فلسطين (5). أمَّا المُصطلح الثَّاني فهو ”برويستوس Proestos“ ويعني ”أن تكون رأسًا لـ...“ وصار يُستخدم بمعنى رئيس دير (6). نأتي الآن إلى التلميذ، فنجد أنَّ مُصطلح ”أركاريوس Archarios“ كان يُطلق عليه وهو يعني ”مُبتدئ“ وفيما بعد عندما تأسَّست حياة الشَرِكَة وكان يُنظر إلى فضيلة الطاعة كأهم فضيلة لازمة للراهب، خاصَّة المُبتدئ، بدأ استخدام لقب ”هيبوتاكتيكوس Hypotaktikos“ والذي يعني ”الشخص الذي يطيع“ أو ”تحت الطاعة“ للدلالة على أنَّ عمل التلميذ الأوَّل هو أن يطيع أباه الروحي، وأخيرًا كان مُصطلح ”ماثيتيس Mathetes“ والذي يعني ”الشخص الذي يتعلَّم“ أو ”تلميذ“ يُستخدم هو الآخر باتساع (7). والألقاب القبطية الرَّهبانية للأب هي: ”هيللو Hello“ وتعني ”شيخ“ ولقب ”ناج Nag“ ويعني ”عظيم“ وبدلًا من كلمة ”آباس“ استُخدِم لقب ”آبا“. والإصطلاحات السريانية نافعة أيضًا، فالمُصطلح السرياني لكلمة ”هيغومينوس“ هو ”ميشاب لاڤا meshab lava“ ويعني ”قائد“ وكلمة ”ريش ديرا resh daira“ وتعني ”رئيس دير أو أرشمندريت“. والمُبتدئ يُسمَّى ”تلميدا Talmida“ أي ”تلميذ أو شخص يتعلَّم“ والرُّهبان بصفة عامة يُدعون ”ديرارا dairara“ أي ”ساكن دير“. وفي هذا الفصل سندرس أولًا مكانة الأب في الرهبنة ودوره ومُقوماته ثم سنتناول التلميذ وشخصيته والدوافع وراء خروجه إلى البريَّة وحاجته إلى الأب وأخيرًا فرادته الشخصية. |
||||
19 - 05 - 2014, 03:40 PM | رقم المشاركة : ( 29 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
الأب | المُعَلِّم
دلالة ودور الأب لقد أدرك الرواد الأوائِل للرهبنة مثل الأنبا أنطونيوس والأنبا باخوميوس وغيرهم، حاجتهم إلى مُرشد روحي، إذ عرفوا مدى صعوبة حياة الرَّاهب وأنه من المُستحيل تقريبًا أن يتعلَّم المرء هذه الحياة بدون إرشاد أب مُعلِّم، ومن هناك أكَّد التقليد والأدب الرَّهباني بقوة عظيمة على ضرورة أن يكون للإنسان أب مُرشِد، والقديس مقاريوس الكبير يقول في إحدى عِظاته أنَّ تلاميذ ملكوت السموات يحتاجون دومًا إلى مُرشِد (8)، وإلاَّ سيكون تعبهم باطلًا، ومن الأمثال الرَّهبانية الشهيرة، ذلك المَثَلْ الذي سجَّله لنا بالاديوس والقائِل ”الذين بلا مُرشِد يسقطون كأوراق الشجر“، كذلك القديس يوحنا كاسيان، والذي يعكِس أفكار آباء براري مصر، يقول أنه من الحماقة أن يظُن الإنسان أنه ليس من الضروري أن يكون له مُعلِّم في جهاده ونذره الروحي لأنَّ كلّ مهنة في العالم تحتاج إلى مُعلِّم، والقديس يوحنَّا الدَّرجي المشهور بتشبيهاته يكتُب بحرارة في سُلَّمه قائلًا: ”نحن الراغبين في الخروج من مصر هربًا من وجه فرعون نحتاج حتمًا إلى موسى آخر يتوسط لنا عند الله فيقف بين العمل والتأمُّل ويرفع يديه من أجلنا إلى أن نعبُر بإرشاده بحر خطايانا ونهزم عماليق أهوائنا، فالذين يتكلون على أنفُسهم ويتوهمون أنهم لا يحتاجون إلى مُرشِد يُرشدهم هم مخدُوعون“. (9) وليس فقط المُبتدئون بل وأيضًا الرُّهبان المُختبِرون، كان عليهم أن يُطيعوا ويخضعوا للإرشاد، وألاَّ يُعطوا هم القوانين لأنفسهم، فالأب – والمُعتبر أداة في يد الله – هو الوسيلة الوحيدة التي بها يُمكن أن يبلُغ الإنسان إلى درجة السكينة (الهيزيخيا) والتي هي مرحلة مُتقدمة للغاية في الحياة الروحية. وبثقة التلميذ في أبوه الروحي يجد السلام في طاعة قوانينه (10)، ولا يُمكن الاستعاضة عن الأب الروحي بالكُتُب لأنَّ دوره ليس فقط أن يُلقي عِظات، بل أن يعرف ويُحلِّل الأفكار والأعمال الباطنية التي يُفكِر فيها التلميذ أو يفعلها، وكذلك يُدبر حياة التلميذ بالطريقة التي يراها مُثلى، ومن الواضح أنَّ هذا العمل الهام جل صعب وملئ بالمسئولية، وكما يُلاحظ القديس إغريغوريوس النزينزي، هذا العمل أصعب من مُجرَّد أن يتعلَّم الإنسان كيف يخضع نفسه لقانون (11)، وقد شرح القديس نيلوس سبب ذلك فذكر أنَّ هذه الصعوبة تنتُج من ”تنوُّع العادات الإنسانية“ ومن ”خِداع أفكارنا“ وكذلك برصنوفيوس (من القرن السَّادِس) في إحدى رسائله المُوجَّهة لتلميذه يوحنَّا يصِف دور الأب مُوضحًا مدى صعوبته وتعبه. في المرحلة الأولى من رهبنة الوحدة، كان الراهب يُعطى لقب وسُلطان الأب بحسب تقدُّمه في حياته الروحية، أمَّا في رهبنة الشَرِكَة الأولى، فعندما كانت تحين لحظة نِياح رؤساء الأديُرة، كانوا في العادة يقترحون أو يُعيِّنون خُلفائِهِم، كما يتضح من سيرة الأنبا باخوميوس، أمَّا في ”المؤسسات“ للقديس يوحنا كاسيان (12)، وفي فترة لاحقة، نجد أنَّ رئيس الدير – والذي كانت له مكانة مُعادلة لمكانة الأب – كان يُنتخب من قِبَلْ الإخوة الكِبار في المجمع وأيضًا يختاره الآباء الروحيون من الأديُرة الأخرى، كما يُوصي بذلك القديس باسيليوس مُشرِّع الرهبنة الشرقية، وكان رئيس الدير ”أبًا روحيًا“ للشَرِكَة وعلى عاتقه تقع المسئولية ليس فقط عن المتاعب الروحية بل وأيضًا المادية مثل التمويل والتنظيم والإدارة، وتستمر رئاسته مدى الحياة، هذا إلى جانب أنَّ أخًا ثانيًا كان يُنتخب نائبًا عنه ليحل محله إذا كان مريضًا أو غائبًا. وإذا حدث وأخطأ رئيس الدير، ينصحه الأُخوة الكِبار في الدير ويُعالجونه، وأي خطأ صغير يقع فيه الرئيس لا يُعطي للأُخوة حق تغييره، لكن إذا سقط في هرطقة أو بدعة، كانوا يعزلونه بحسب القانون السَّابِع لمجمع أفسس عام 431 م، والذي يأمر بأنَّ الأساقفة والإكليروس يجب أن يُعزلوا من مناصِبهم إذا قبلوا إيمانًا مُختلفًا. (13) مُقوماته لمَّا كان تأثير الأب على التلميذ حاسمًا، لذلك يُقدِّم لنا الأدب النُّسكي وصفًا دقيقًا لِمَا يجب أن يكون عليه الأب، وأوِّل مُقوماته هي أن يكون مُفعمًا بالحُب تجاه تلاميذه لدرجة أن يكون مُستعدًا ومُشتاقًا أن يُحرق ويُسحق لأجلهم (14)، ويجب كذلك أن يكون توَّاقًا إلى العمل باجتهاد عظيم كـ ”أب رحيم“ وكَوَصي صالح على منفعة التلاميذ الذين يعتبرهم ”أبناء الملك“ أي أبناء الله، وفي الوقت عينه لابد أن يتمتَّع الأب بمعرفة عميقة، نظرية واختبارية في كلّ ما يخُص الأمور الروحية (15)، ولذلك كان من اللازم أن يكون للأب خبرة ومُمارسة عملية في مجال خدمته هذه، وهي المُتطلبات الأساسية في أي مُعلِّم. فمُجرَّد معرفة عوائد ومُمارسات الحياة النُّسكية أي متى وكيف نُصلي، نظام الطعام، إلخ، لم تكُن بالتأكيد كافية لأن يصير الراهب أبًا مُرشدًا، وكان مطلوبًا منه باستمرار أن يعمل ذهنه وأن يدرس بنفسه ويتأمَّل، ولا يضطلِع بأي مسئولية تربوية قبل أن يجد في نفسه الاستعداد اللائق لحل المشاكل والأتعاب التي تُواجه الرُّهبان في حياتهم النُّسكية (16)، لأنَّ الجهل خطأ لا يُغتفر للمُربي إذ يقول الدَّرجي ”من يفعل عن جهل ما يستوجِب العقاب، سوف يُعاقب على عدم إقباله على المعرفة (أي لأنه لم يتعلَّم)“. (17) وبالتالي، كان على الأب أن يحصُل على خبرة طويلة في البريَّة ويعرف أسرارها، وأيضًا يجب أن يقتني بقداسته مواهب نِعموية تُعينه على إرشاد المُبتدئين بل وحتّى الرُّهبان المُختبرين – الذين لم يبلُغوا بعد كمال الحياة الرهبانية – كيف يجتازون الصِعاب والمتاعِب التي تعترضهم. وكي يقتني الراهب هذه المُقومات التي ذكرناها، حتّى يستطيع أن يقوم بتعليم وقيادة الأخرين، يجب أن يكون مُتقدمًا في الأيام شيخًا، ويكون قد تمرَّس في مُعترك الحياة النُّسكية عشرات السنين، وفي سيرة أنبا باخوميوس نقرأ قصة تُوضِح الرأي الرَّهباني المُبكِر فيما يخُص سِنْ المُعلِّم، فقد حدث أنه بينما اجتمع جميع رُهبان دير أنبا باخوميوس كعادتهم ليستمعوا لعِظته، طلب باخوميوس من أحد الرُّهبان ويُدعى تادرس – والذي صار خليفته فيما بعد – أن يعِظ الأُخوة، وعندما سمع بعض الأُخوة الكِبار ذلك قرَّروا أن يغادروا المجمع قائلين في أنفسهم ”لأنه مُبتدئ ويُعلِّمنا لن نستمع له“ (18) لكن نفس هذه القصة عينها تُخبِرنا أنَّ تادرس كان يعيش في الدير منذ عشرين عامًا، ومع ذلك كانوا لا يزالوا ينظرون إليه كمُبتدئ بعد عشرين عامًا في الحياة الرَّهبانية!! والعناصر المذكورة عاليه تُمثِّل الخلفية والسِمات والمُقومات الواجب توافُرها في الأب المُرشِد، فلابد أن يكون رقيقًا، صبورًا، مُحتمِلًا لضعفات وأخطاء الأخرين، ولا يليق بالأب أبدًا أن يغضب لأنَّ مثل هذا الراعي ”يُزعِج ويُهلِك النفوس العاقلة“ (19) بحسب قول القديس يوحنَّا الدَّرجي، وبرصنوفيوس يتساءل ”إذا كُنت أنا لك أبًا ومُعلِّمًا، فلماذا أكون أيضًا غضوبًا؟“. (20) كذلك يجب أن يكون الأب رؤوفًا ولا يمتحن كلّ موقف بسيط وإلاَّ فلن يكون مُقتديًا بالله، وبجانب ذلك، لابد أن يكون الأب أيقونة حيَّة لكلّ الفضائِل كما يطلُب منه القديس نيلوس النَّاسِك، فيجب أن يُعلِّم بحياته الفاضلة وليس بكلماته، وبصفة خاصَّة لابد أن يكون قُدوة لتلاميذه في الاتضاع التام، ولا يكون قط أنانيًا أو ساخرًا. (21) ويجب ألاَّ تصدُر التوبيخات والتأديبات عن رغبة خفيَّة في السيطرة على تلاميذه لأجل أغراضه وأهدافه هو الشخصية، بل بدافع اهتمامه بهم وبمنفعتهم، وسلطاته الأوتوقراطية المُطلقة يجب ألاَّ تجعل منه شخصًا مُستبدًا، ولذلك يقول القديس باسيليوس ”يجب ألاَّ يرتفع الرئيس بمنصبه العالي لئلاَّ يفشل في نوال البركة التي وُعِد بها المُتضِع، ولا يرتفع بكبريائه لئلاَّ يسقُط في دينونة الشيطان“. (22) ويُقدِّم لنا التقليد الرَّهباني مثالًا رائعًا لرئيس الدير المُتضِع في شخص القديس باخوميوس الذي اعتاد أن يقول: ”تمامًا كما أنَّ الميِّت لا يقول (شيئًا) للموتى الآخرين، كذلك أنا قائدكم لم أعتبِر نفسي قط أبًا للأُخوة، بل (أعتبِر) أنَّ الله وحده هو نفسه (أبوهم)“. (23) وإذ وضع آباء البريَّة في أذهانِهِم الصعوبات السالفة الذِكر الخاصَّة بالعمل التربوي والمُقومات والسِمات الشخصية المُتطلبة فيه من ناحية، ومن الناحية الأخرى حقيقة أنَّ الأب سيُعطى حسابًا أمام الله عن كلّ واحد من تلاميذه، رفضوا بشدة وتصميم أن يقبلوا القيام بدور الأب، واعتبروا أنفسهم غير قادرين ولا مُستحقين بدرجة كافية لتتميم مثل هذا العمل الهام، وأفضل مثال على ذلك هو الإجابة التي قالها أحد الرُّهبان عندما طُلِب منه أن يتولى رئاسة الدير: ”اغفروا لي يا آبائي لكي أحزن على خطاياي، لأني لستُ شخصًا مُناسبًا لأهتم بالنفوس فهذا العمل للآباء العِظام أمثال الأنبا أنطونيوس“ (24) وكتب برصنوفيوس أيضًا: ”لا أريد أن أصير رئيسًا على أحد ولا مُعلِّمًا لأحد، اغفروا لي يا إخوتي وصلُّوا لأجلي“. (25) وهكذا كان من المُفترض أنَّ ”الكاملين“ فقط هم الذين يصيرون مُعلِّمين للصِغار، ولم يكُن أحد يعتبِر نفسه راهبًا كاملًا، ويروي لنا أيضًا هذا التقليد النُّسكي أنَّ بعض رُؤساء الأديُرة تركوا أديُرتهم سِرًا ومضوا إلى أديُرة أخرى دون أن يكشِفوا عن هويتهم الحقيقية وطلبوا أن يُقبلوا كرُهبان مُبتدئين، ولم يكُن دافعهم وراء ذلك مُجرّد رغبتهم القوية في أن يعيشوا حياة الاتضاع، بل وأيضًا المسئولية الجسيمة التي شعروا بها أمام الله عن كلّ واحد من تلاميذهم، وهكذا نجد باسيليوس الكبير، وهو يعكِس فِكْر رهبنة القرن الرَّابِع في هذا المنحى، يخُط في أحد قوانينه: ”ذاك الذي أُوكلتُ إليه مسئولية الجميع لابد أن يتذكّر أنه سيُعطي حسابًا عن كلّ أحد، فإذا سقط أحد الإخوة في خطية، ولم يُخبِره الرئيس بدينونة الله، أو إذا أصر على خطئه ولم يُعلِّمه الرئيس طريق التوبة والتكفير عن هذه الخطية، فسوف يطلُب دمه منه (من الرئيس)“. (26) ومن هنا كان جهاد الأب مزدوجًا: ليُخلِّص نفسه هو وأيضًا ليُخلِّص نِفوس تلاميذه. وأخيرًا، من الجدير بالذِكر أنَّ آباء البريَّة كانوا يُدعون ”مُعلمين ومُربيين“ كما يتضح من تكرار هذين اللقبين في ”الأقوال“ وفي سيرة القديس ألكسندروس التي تروي أنه ”صار مُربيًا ومُعلِّمًا لكلّ أحد“ (27)، وهذه الإشارات جميعها تُثبِت أنَّ هؤلاء الآباء كانوا واعيين بدورِهِم كمُربيين وأنَّ مُعاصريهم أيضًا أدركوا أنهم مُربيون، وسوف نتناول نظرياتهم التربوية ومنهجهم في تطبيقها في فصل آخر. |
||||
19 - 05 - 2014, 03:41 PM | رقم المشاركة : ( 30 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب التربية عند آباء البرية | آباء الكنيسة كمربين القمص أثناسيوس فهمي جورج
التلميذ
لقد كان هؤلاء الذين خرجوا من مُدُنِهِم ودخلوا البريَّة مسيحيين غيورين من سائر الطبقات الاجتماعية، كانوا رِجالًا ونساءً من جميع الأعمار ومن كلّ مُستويات التعليم، وبالنظر إلى الدوافِع وراء تركِهِم العالم وخروجِهِم للبريَّة، نجد أنَّ أوَّل هذه الدوافِع هو اشتياقِهِم العميق والقوي لأن يلتقوا مع الله الذي قاد خطواتِهِم إلى البريَّة. أمَّا النُّسَاك اليونان أو الذين كانت لهم رؤية يونانية للحياة، فقد عبَّروا عن سبب خروجِهِم للبريَّة بطريقة أكثر عُمقًا وبلاغة إذ قالوا أنهم يسعون للبلوغ إلى حالة الثيؤريا Theoria أي التأمُّل كما يشرح القديس إيڤاجريوس البُنطي في عمله عن الصلاة وفي أعماله الأخرى، ونفس هذا المُصطلح ”ثيؤريا“ يُستخدم في ”الأقوال“ في سيرة الأنبا أرسانيوس: ”عندما كان الأنبا أرسانيوس في القصر صلَّى إلى الله قائلًا: يارب إرشدني كيف أحيا، فأتاه صوت قائلًا: أرسانيوس اهرب من الناس وأنت تحيا، وعندما كان أرسانيوس يعيش الحياة النُّسكية في الدير، صلَّى إلى الله نفس الصلاة، وأيضًا سمع ثانية صوت يقول له: أرسانيوس اهرب، اصمُت، وعِش حياة التأمُّل الصامِت السَّاكِن“. (28) وترِد كلمة ”تأمُّل“ كثيرًا في كِتابات الإخوة الكبَّادوك باسيليوس وإغريغوريوس، وأيضًا في كِتابات بطرُس الدمشقي Damascene (القرن الثَّامِن) وفيما بعد في كِتابات إغريغوريوس السينائي (من القرن الثَّالِث عشر)، لكنها لا ترِد كثيرًا في ”الأقوال“ لأنَّ هذا الكتاب يتناول بالأكثر الرُّهبان الأقباط، والذين بالتأكيد لم يكُن لهم نفس تعليم اليونانيين هذا، بل استخدموا كلمة أخرى هي ”هيزيخيا Hesychia“ وتعني ”السَّكينة“ وهي مفهوم أبسط يفترِض مُسبقًا التكريس الكامل لله وأخيرًا جحد العالم والخروج منه، وبجانب ترك العالم، كي يبلُغ الراهب حالة السَّكينة، عليه أن يجحد ذاته ويصير ”إنسانًا مائِتًا“ أي إنسان بدون شهوات أرضية، ونقرأ في ”الأقوال“ قصة عن راهب طُلِب منه أن يُعطي كلمات قليلة لينصح بها بعض الناس، فأجاب ”ليس لديَّ ما أقوله، لأني مُتُ، والميِّت لا يتكلَّم“ (29)، وعندما سألوا راهب آخر أن يذهب لقريته ويرِث ثروة أبيه لأنَّ أباه كان يحتضِر، أجاب: ”أنا نفسي مُتُ قبله عن العالم والإنسان الميِّت لا يرِث من إنسانٍ حي“ (30). أمَّا عن الكلمات والمُفردات التي استخدموها ليُعبِّروا عن خروجِهِم من العالم، فنجد أنهم استخدموا مُصطلحات مُتنوعة، وأكثرها شيوعًا ”يهرب - هروب“ وهذه إشارة إلى الهروب الذي قاموا به ليُخلِّصوا أنفسهم مِنْ أخطار ومهالِك هذا العالم، وفي سيرة القديس الأنبا أنطونيوس نقرأ عبارة ”اخرُج من خاصتي“ (32) وقد ردَّدها أيضًا القديس مارِأفرآم السُرياني، واستخدم القديس أثناسيوس الرسولي كلمة apostassein والتي تعني ”أن يجحد“ وهي ترِد أيضًا في رسائل القديس باسيليوس وكِتابات القديس فم الذَّهب وفي التاريخ اللوزياكي لبالاديوس، كما استُخدِمت بالمثل كلمة aparneisthai وهي تعني ”أن ترفُض أو تُنكِر شيئًا“ وتُلازمها دومًا كلمة ”العالم“ أو ”نفس“. وأخيرًا، أكثر الألفاظ التي استخدمها النُّسَاك شيوعًا كانت كلمة anachorein وكلمة anachoresis، الأولى تعني ”أن ينسحِب، أن يتوحد، أن يهرب“ أمَّا الثَّانية فتعني ”انسحاب أو هروب“ ونجد هاتين الكلمتين في سيرة الأنبا أنطونيوس وفي كتاب ”بُرهان الإنجيل“ للعلاَّمة يوسابيوس القيصري، وفي رسائِل القديس إيسيذروس الفرمي، وفي كتاب ”الأقوال“ وفي كِتاب بالاديوس ”حياة فم الذَّهب“ وفي رسائِل نيلوس، وفي العديد من المصادر المُبكرة، كما استخدمه القديس باسيليوس الذي شرح أنَّ ”التوحُّد“ لا يتضمن فقط التغيير المكاني للإقامة بل بالأكثر تغييرًا تامًا في طريقة حياة الإنسان بجُملتها (33). البحث عن أب The Search for an Elder كانت المزية التي يتمتَّع بها المُبتدئ في الحياة الرَّهبانية، وهي في الوقت عينه الواجب الموضوع عليه، أن يقرع أبواب رجال الله القديسين ويطلُب نصائحهم، وقد جعل القديس باسيليوس المُشرِّع الرَّهباني العظيم ذلك واجبًا على كلّ مَنْ يدخُل الحياة الرَّهبانية، أي أن يبحث عن أب مُرشِد ويلتصِق به: ”اطلُب باهتمام كثير وتفكير إنسانًا يكون مُرشِدًا آمنًا لك في طريقة حياتك، (إنسانًا) يعرِف جيدًا كيف يقود هؤلاء المُسافرين نحو الله، غني في الفضائِل... وحكيم في الأسفار المُقدسة“ (34). وكان الراهب يقوم برحلات طويلة على الأقدام، سواء وحده أو مع مجموعة من الإخوة، كي يجد أبًا مشهورًا معروفًا، وكان هؤلاء الرَّحالة يقولون دومًا للأب ”لقد أسرعنا لنأتي إليك لأننا وجدنا في كلماتك أشياء كثيرة لم ترِد قبلًا حتّى على أذهاننا“ (35)، ثم يضعون أنفسهم تحت إرشاد الأب وكلَّهم ثقة عظيمة في أنَّ هذا الأب الروحي يملُك ”كلمات الحياة“ ويُحِب الناس. وكان لابد من اهتمام وتدقيق جل عظيم في اختيار الأب الروحي، حتّى يستطيع الراهب أن يختار الأب المُناسِب الذي يستطيع أن يعينه ليتغلَّب على أخطائه وضعفاته، ولذلك يكتُب القديس يوحنَّا الدَّرجي: ”لنفحص طبيعة أهوائنا وطاعتنا... ثم نختار أبونا الروحي بحسبِهِما“ (36) وكان مسموحًا بفترة تجريبية قبل الاختيار، وبعد ذلك، ليس للراهب أي حق أن يحكُم على منهج الأب على الإطلاق حتّى وإن بدا غريبًا، وإذا لم تكُن أوامر الأب مُخالِفة بوضوح لكلمة الله، فإنَّ على المُبتدئ أن يطيعها حتّى إلى الموت (37)، وكذلك لم يكُن مسموحًا بتغيير الأب بعد الاختيار بل يجب أن يظل الراهب تحت إرشاد نفس الأب مدى الحياة، ويقول يوحنَّا الدَّرجي: ”الراهب الذي وحَّده يسوع المسيح مع رئيسه (أي أبيه) برباطات الإيمان والمحبة، يجب أن يحفظ هذا الاتحاد حتّى لو كان الثمن دمه“ رغم أنه يبدو في موضِع آخر أكثر مرونة (38). وعلى أيَّة حال، كان من المُمكن أن يرفُض الأب قبول المُبتدئ تلميذًا له، والأدب النُّسكي ملئ بهذه الأمثلة، ومن القصص المُميزة في هذا المِضمار سيرة القديس الأنبا بولا البسيط الذي ظلَّ بدون أكل لمُدة أربعة أيام خارج قلاية الأنبا أنطونيوس لأنه رفض قبوله تلميذًا له، وشبيهة بذلك هي أيضًا قصة القديس باخوميوس عندما قرع على باب النَّاسِك الأنبا بلامون: ”يا أبتي أشتاق أن تسمح لي أن أصير راهبًا معك“ فلم يُرحِب الشيخ به بأيدي مفتوحة، بل على النقيض تمامًا حدَّثه حديثًا مُثبطًا عن الدعوة الرَّهبانية وصعوبتها ”لا تستطيع أن تصير راهبًا لأنه ليس أمرًا هينًا أن تقتني الحياة الرَّهبانية“ (39) ومضى بلامون قُدُمًا ليقول أنَّ آخرين كثيرين من الذين جاءوه لنفس الهدف لم يستطيعوا الثبات فيه ورجعوا مخزيين عندما وصف لهم باختصار هدف وطريقة الدعوة الرَّهبانية: ”قوانين الرهبنة التي سلَّمها لنا الآباء الأوائِل الذين سبقونا في هذا الطريق تتضمن السهر الدائم إلى مُنتصف الليل وأحيانًا كثيرة الليل كلّه حتّى الصباح، وقراءة كلمة الله على الدوام، بالإضافة إلى عمل اليدين مثل غزل الصوف أو صُنْع القُفَفْ، حتّى لا ننام وحتّى نُوفي حاجات الجسد، وما يزيد عن حاجتنا نتصدَّق به على الفُقراء... فالآن بعد أن أخبرتك بقانون النُّسْك، اذهب وامتحِن نفسك أولًا في كلّ ما قُلته لك“. (40) ويوحنا الدمشقي أيضًا من (القرن التَّاسِع) واجه نفس الصعوبات عندما قرَّر أن يستبدِل مكتب الوزير بالقلاية الرَّهبانية. ولم يكُن هذا الرفض نابعًا من عدم رغبة الأب في مُساعدة المُبتدئ، بل – كما قُلنا في الصفحات السابقة – كان بسبب وعي آباء البريَّة بأنَّ عمل الأب صعب للغاية، وبسبب اقتناعهم المُخلِص الصَّادِق بعدم قُدرتهم على تحمُّل مسئولية هذا العمل من ناحية، ومن الناحية الأخرى إنطلاقًا من إيمانهم بأنَّ اقتناء الإنسان للحياة الرَّهبانية ليس بالأمر الهيِّن، وكان هذا الرفض في الوقت عينه اختبارًا لرغبة طالِب الرهبنة وصِدق دعوته، فإذا كان حماسه بسيطًا مُؤقتًا فسوف يتلاشى ويخمِد أمام أُولى الصعوبات التي سيُواجهها، ولكن أيضًا هذه الصعوبات تُقوِّي وتُلهِب اشتياق ورغبة هؤلاء الذين يُريدون حقًا أن يترهبوا، ومن هذا المُنطلق، كان ذلك إعدادًا رائعًا للنذر الرَّهباني. وفي أعمال يوحنَّا كاسيان مُؤسِس رهبنة الغرب نقرأ أنَّ: ”طالِب الرهبنة لابد أولًا أن يكون خارج الباب لمُدة عشرة أيام“ وأنَّ ”كلّ واحد (من الرُّهبان) يُنادي طالِب الرهبنة " ذاكَ الذي جحد العالم "“. والخطوة التالية هي اختبار المُتقدِّم للرهبنة إذا كان قد ترك كلّ ثروته وأُسرته أم لا، وبعد ذلك يُعلِّمونه قوانين الدير ويُلبِسونه الزي الرَّهباني الذي كان يتكوَّن من جلاَّبية ومنطقة (41)، ثم يُوضع المُبتدئ تحت إرشاد أحد الآباء دون أن يُسمح له بالاختلاط بالرهبان، وكان عليه أن يخدم الزوار في بيت الضِيافة لمُدة عام، رغم أنَّ المرء يتوقع أن يقرأ أنَّ المُبتدئ لم يكُن له أي اتصال بالمُؤمنين الذين يعيشون في العالم، ولعلَّ ذلك كان أيضًا لاختبار قرار المُبتدئ أن يترهب ومدى ثباته فيه، ولا تزال هذه العادة قائمة في أديُرتنا حتّى الآن. وفي قوانينه القصيرة، يصِف القديس باسيليوس ضرورة أن يُقرِّر سائِر أعضاء الشَرِكَة الرَّهبانية قبول الطالِب أو رفضه، ولابد أن يكونوا حاضرين عند قبول الراهب المُبتدئ، وهكذا لم يكُن لرئيس الدير القُدرة على قبول راهب جديد بدون معرفة الإخوة، وكان القبول في العضوية الكاملة في مجمع الإخوة يأخذ وقتًا لأنَّ الإجراءات كانت مُتدرِجة، وكان لابد للمُبتدئ أن يقضي فترة الاختبار كي يعتاد على حياة الدير ومعناها وهدفها، وأيضًا لكي يُعطي رئيسه الفرصة لمُلاحظته، ويُحدِّد قانون القديس باخوميوس فترة الاختبار هذه بأنها لابد أن تكون ثلاث سنوات. وبعدما يختار المُبتدئ أباه الروحي في حالة الرهبنة التوحُدية، أو يضعه رئيس الدير تحت إرشاد أحد الآباء في حالة رهبنة الشَرِكَة، كان عليه أن يعتبره – بحسب التقليد الرَّهباني – شخصًا سرائريًا تقريبًا وأن يطيعه ”ليس بسبب رِئاسته أو حِكمته أو فضيلته، بل كرمز لربنا نفسه“ (42). كان التلاميذ واعيين ومُدركين تمامًا أنَّ أباهم الروحي يُحِب إخوته كما تُحِب الأُم أطفالها، ولذلك كان المُبتدئ يفتح قلبه لأبيه المُرشِد ويضع نفسه بين يديه تمامًا مثل المادَّة المرنة (العجينة) في يد الفنان، وتُحذِّر ”الأقوال“ التلميذ من إساءة استخدام محبة أبيه أو فُقدان احترامه أو طاعته له، ويقول الأنبا إيسيذروس أنَّ المُبتدئ يجب أن يُحِب مُعلِّمه كأب ويخافه كحاكم. لكن إذا كان هناك أيَّة كلمة تُعبِّر بوضوح ودقة عن علاقة التلميذ بأبيه، فهي كلمة ”طاعة“ فالطاعة هي أحد النذور الرَّهبانية الثَّلاثة، وبحسب يوحنَّا الدَّرجي، كانت الطاعة بين الأمور الأولى التي يجب على الراهب المُبتدئ أن يتعلَّمها بعد جحده للعالم، ويُعرِّفها الدَّرجي بأنها: ”هي الجحد التام المُطلق للنَّفْس، ونُعبِّر عنه بوضوح في أعمالنا الجسدية...“ (43) والطاعة في الفِكْر والمنظور الرَّهباني لا تلغي الحُرية، بل تقود إلى تنقية الذِهن والقلب وهذه هي الحُرية الحقيقية كما يُعرِّفها القديس كلِمنضُس السكندري ”الحُرية هي أن نضبِط شهواتنا“ (44). فطاعة هؤلاء الآباء لم تكُن طاعة عمياء أو سلبية أو غير عاقلة، بل كانت طاعة ثقة في أنَّ أباهم يُعلن إرادة الله ويعرِف الطريق الحقيقي المُؤدي للسلام ونقاوة الذهن والقلب، وهذه بدورها كانت هي الحُرية الحقيقية بالنسبة لهم. ومن الأمثلة المُميزة عن الطاعة، ما أورده يوحنَّا كاسيان في كِتابه الرَّهباني ”المُؤسسات“. ”نسمع عن أخ يُدعى يوحنَّا القصير، عندما أمره أبوه أن يسقي خشبة من حطب النار، قضى عامًا بأكمله في هذا العمل، وهو يحمل الماء لمسافة ميلين، كما لو كان ذلك وصية إلهية“. (45) ويدع يوحنَّا كاسيان الأنبا يوحنَّا القصير يُقدِّم تفسيرًا كِتابيًا لطاعته هذه قائلًا: ”يجب ألاَّ أُفكِر قط في الحُزن (بسبب الطاعة)، إذ في إخضاعي لنفسي تمامًا لرئيس الدير، أقتدي لدرجة ما بذاك الذي قيلَ عنه " وضع نفسه وأطاع حتّى الموت " (فل 2: 8) وهكذا أستطيع باتضاع أن أستخدِم كلماته " لأني قد أتيت ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني " (يو 6: 38)“. (46) ويشرح التعليم اللاهوتي الخاص بالطاعة – والذي تطور فيما بعد – أنه إذ سقط آدم بسبب عِصيانه وعدم طاعته لوصية الله، لذلك يجب علينا نحن أن نسلُك الطريق المُضاد، أي طريق الطاعة لنصل إلى حالة آدم قبل السقوط، والتي كانت – كما رأينا – هدف وغاية الرهبنة (47). وفي بعض الحالات كان يُطلب من المُتقدم للرهبنة أن يُقدِّم طلبًا مكتوبًا للقبول في مجمع الرُّهبان وكان لابد أن يُعلِن في هذا الطلب أنه سيسلُك في حياة الطاعة كما يتضح من إحدى المخطوطات القبطية. (48) |
||||
|