![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 200921 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() نوري وحده يكفيكم فينير لكم الطريق |
||||
|
|||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 200922 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() القديسين قزمان ودميان واخوتهما انتيموس ولاونديوس وأبرابيوس وأمهم ثاؤذوتي ![]() |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 200923 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() وعندما يعاقبهم الله سيرتعب الأشرار رعبا لأن الله يقف مع الصالحين (مز 14 : 5) ![]() |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 200924 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() يسوع في كل وقت منجينا ![]() |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 200925 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() إحصاء الشعب: 1 وَعَادَ فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ، فَأَهَاجَ عَلَيْهِمْ دَاوُدَ قَائِلًا: «امْضِ وَأَحْصِ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا». 2 فَقَالَ الْمَلِكُ لِيُوآبَ رَئِيسِ الْجَيْشِ الَّذِي عِنْدَهُ: «طُفْ فِي جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ مِنْ دَانَ إِلَى بِئْرِ سَبْعٍ وَعُدُّوا الشَّعْبَ، فَأَعْلَمَ عَدَدَ الشَّعْبِ». 3 فَقَالَ يُوآبُ لِلْمَلِكِ: «لِيَزِدِ الرَّبُّ إِلهُكَ الشَّعْبَ أَمْثَالَهُمْ مِئَةَ ضِعْفٍ، وَعَيْنَا سَيِّدِي الْمَلِكِ نَاظِرَتَانِ. وَلكِنْ لِمَاذَا يُسَرُّ سَيِّدِي الْمَلِكُ بِهذَا الأَمْرِ؟» 4 فَاشْتَدَّ كَلاَمُ الْمَلِكِ عَلَى يُوآبَ وَعَلَى رُؤَسَاءِ الْجَيْشِ، فَخَرَجَ يُوآبُ وَرُؤَسَاءُ الْجَيْشِ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ لِيَعُدُّوا الْشَعْبَ، أَيْ إِسْرَائِيلَ. 5 فَعَبَرُوا الأُرْدُنَّ وَنَزَلُوا فِي عَرُوعِيرَ عَنْ يَمِينِ الْمَدِينَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ وَادِي جَادَ وَتُجَاهَ يَعْزِيرَ. 6 وَأَتَوْا إِلَى جِلْعَادَ وَإِلَى أَرْضِ تَحْتِيمَ إِلَى حُدْشِي، ثُمَّ أَتَوْا إِلَى دَانِ يَعَنَ، وَاسْتَدَارُوا إِلَى صِيْدُونَ. 7 ثُمَّ أَتَوْا إِلَى حِصْنِ صُورٍ وَجَمِيعِ مُدُنِ الْحِوِّيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى جَنُوبِيِّ يَهُوذَا، إِلَى بِئْرِ سَبْعٍ. 8 وَطَافُوا كُلَّ الأَرْضِ، وَجَاءُوا فِي نِهَايَةِ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا إِلَى أُورُشَلِيمَ. 9 فَدَفَعَ يُوآبُ جُمْلَةَ عَدَدِ الشَّعْبِ إِلَى الْمَلِكِ، فَكَانَ إِسْرَائِيلُ ثَمَانَ مِئَةِ أَلْفِ رَجُل ذِي بَأْسٍ مُسْتَلِّ السَّيْفِ، وَرِجَالُ يَهُوذَا خَمْسَ مِئَةِ أَلْفِ رَجُل. غضب الرب على داود ليس لأجل قيامه بالإحصاء في حد ذاته، فقد سبق أن أحصاهم موسى ثلاث مرات أو أكثر (خر 38: 26؛ عد 1: 2-3؛ عد 26)، إلهنا إله نظام لا تشويش. إنما غضب الرب للأسباب التالية أو بعضها: أ. لم يستشر الرب كعادته. ب. بدأ داود يعتمد على عدد رجاله وإمكانياته مع أنه لو تطلع إلى حياته كلها منذ صبوته لوجد نفسه قد انطلق من رعاية الغنيمات القليلة التي لأبيه إلى استلام المملكة كلها بقوة إلهية، وليس بذراعه أو ذراع بشر. وفي مواقف كثيرة سواء لمقاومة الأعداء له أو المنشقين عليه كان الله يتدخل من حيث لا يدري أحد. وقد عبَّر داود النبي كثيرًا عن هذه الخبرة الطويلة. ج. ربما قصد داود بهذا الإحصاء إثارة حروب جديدة لتوسيع مملكته وازدياد مجده. د. لعله أراد تسخير الشعب بوضع جزية مالية ثقيلة لحسابه الخاص أو حساب الخزانة وليس لحساب خيمة الاجتماع. ه. يبدو أن الدافع الرئيسي هو الإعلان عن عظمته وقدراته وإمكانياته، كما كان يفعل ملوك الأمم حوله ليرعب الأمم المجاورة، وقد شاركه الشعب هذه الروح، لذلك كانت الخطية على الجميع وليس على داود وحده. لقد حاول داود في حبه أن ينسبها لنفسه ولبيت أبيه لكي يُصب التأديب كله عليه دون الشعب! و. كان الشعب محتاجًا إلى تأديب، فالله يسمح أحيانًا بخطأ الراعي لتأديب الرعية، لأنها مستحقة للتأديب، إذ يقول الكتاب: "وعاد فحمي غضب الرب على إسرائيل فأهاج عليهم داود قائلًا امض وأحص ...". ز. يرى البعض أن خطأ داود ينصب في إصداره أمرًا ليوآب أن يحصي الشعب بما في ذلك هم أقل من 20 عامًا ما دامت هيئتهم وطاقاتهم تناسب الحرب؛ هذا التصرف ضد الشريعة والناموس (1 أي 27: 23-24). ح. كما انصب الخطأ على عدم طلب نصف الشاقل الذي كان يجب دفعه للخيمة متى أُحصى الشعب كفدية عن نفوسهم (خر 30: 12). لقد أدرك يوآب خطأ داود فحاول تنبيهه إلى ذلك لكن داود أصر. قال له يوآب: "ليزد الرب إلهك الشعب أمثالهم مئة ضعف وعينا سيدي الملك ناظرتان. ولكن لماذا يُسر سيدي الملك بهذا الأمر؟" [3]؛ فاشتد كلام الملك على يوآب وعلى رؤساء الجيش، فخضعوا لأمره. |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 200926 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() 11 وَلَمَّا قَامَ دَاوُدُ صَبَاحًا، كَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى جَادٍ النَّبِيِّ رَائِي دَاوُدَ قَائِلًا: 12 «اِذْهَبْ وَقُلْ لِدَاوُدَ: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: ثَلاَثَةً أَنَا عَارِضٌ عَلَيْكَ، فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ وَاحِدًا مِنْهَا فَأَفْعَلَهُ بِكَ». 13 فَأَتَى جَادُ إِلَى دَاوُدَ وَأَخبَرهُ وَقَالَ لَهُ: «أَتَأْتِي عَلَيْكَ سَبْعُ سِنِي جُوعٍ فِي أَرْضِكَ، أَمْ تَهْرُبُ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ أَمَامَ أَعْدَائِكَ وَهُمْ يَتْبَعُونَكَ، أَمْ يَكُونُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَبَأٌ فِي أَرْضِكَ؟ فَالآنَ اعْرِفْ وَانْظُرْ مَاذَا أَرُدُّ جَوَابًا عَلَى مُرْسِلِي». 14 فَقَالَ دَاوُدُ لِجَادٍ: «قَدْ ضَاقَ بِيَ الأَمْرُ جِدًّا. فَلْنَسْقُطْ فِي يَدِ الرَّبِّ، لأَنَّ مَرَاحِمَهُ كَثِيرَةٌ وَلاَ أَسْقُطْ فِي يَدِ إِنْسَانٍ». دفع يوآب جملة عدد الشعب إلى الملك [9]، وعوض أن يفكر داود في الرقم وغايته من التعرف عليه إذا بقلبه يضربه في داخله [10]، وبقى الليل كله في مرارة يترقب ثمار الخطأ الذي ارتكبه. في الصباح جاءه جاد النبي يعرض عليه حق اختيار العصا التي يُضرب بها من قبل الله للتأديب: [سبع سنوات جوع، هروب ثلاثة شهور أمام أعدائه وهم يتبعونه، ثلاثة أيام وباء في أرضه]. عندما ترك الرب لداود النبي أمر اختيار التأديب الذي يسقط تحته ضاقت نفسه، ولكنه قال: لقد "ضاق بي الأمر جدًا، فلنسقط في يد الرب لأن مراحمه كثيرة ولا أسقط في يد إنسان" [14]. فجعل الرب وباء في إسرائيل من الصباح إلى المساء، فمات من الشعب من دان إلى بئر سبع 70000 رجل. بسط الملاك يده ليهلك أورشليم، لكن الرب ندم وقال للملاك "كفى الآن رد يدك". يرى البعض أن الملاك كان على ذات جبل المريا الذي قدم فيه إبراهيم وإسحق ذبيحة... وكأن توقف الهلاك كان من خلال ذبيحة الابن الحبيب! |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 200927 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() 15 فَجَعَلَ الرَّبُّ وَبَأً فِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الْمِيعَادِ، فَمَاتَ مِنَ الشَّعْبِ مِنْ دَانٍ إِلَى بِئْرِ سَبْعٍ سَبْعُونَ أَلْفَ رَجُل. 16 وَبَسَطَ الْمَلاَكُ يَدَهُ عَلَى أُورُشَلِيمَ لِيُهْلِكَهَا، فَنَدِمَ الرَّبُّ عَنِ الشَّرِّ، وَقَالَ لِلْمَلاَكِ الْمُهْلِكِ الشَّعْبَ: «كَفَى! الآنَ رُدَّ يَدَكَ». وَكَانَ مَلاَكُ الرَّبِّ عِنْدَ بَيْدَرِ أَرُونَةَ الْيَبُوسِيِّ. 17 فَكَلَّمَ دَاوُدُ الرَّبَّ عِنْدَمَا رَأَى الْمَلاَكَ الضَّارِبَ الشَّعْبَ وَقَالَ: «هَا أَنَا أَخْطَأْتُ، وَأَنَا أَذْنَبْتُ، وَأَمَّا هؤُلاَءِ الْخِرَافُ فَمَاذَا فَعَلُوا؟ فَلْتَكُنْ يَدُكَ عَلَيَّ وَعَلَى بَيْتِ أَبِي». وسط التأديب القاسي المرّ كشف الكتاب المقدس عن حب داود الفائق لشعبه، فإنه إذ رأى شعبه تحت الضيق صرخ طالبًا أن تحل الضيقة به وببيت أبيه لا بالشعب. إنه مستعد كسيده (رب المجد يسوع) أن يتقدم الرعية ليحتمل المخاطر عنهم، لا أن يختبئ في وسطهم طالبًا عنايتهم به. * في اختيار العقوبات لم يختر المجاعة ولا الهروب أمام الأعداء بل الوباء المرسل من قبل الله؛ لقد ترجى أن يكون الجميع في سلام ويحتمل هو العقوبة دون غيره. وإذ لم يحدث هذا ناح وقال: "لتكن يدك عليّ"، وإن كان هذا لا يكفي "وعلى بيت أبي". يقول أيضًا: "أنا الراعي أخطأت" (الترجمة السبعينية). كأنه يقول: حتى إن كانوا هم قد أخطأوا فأنا هو الشخص الذي يجب أن يحتمل العقوبة لأنني لم أُصلحهم. إنها خطيتي أنا أيضًا لذا أستوجب العقوبة. ولكي يزيد من جريمته استخدم لقب "الراعي"... عظيمة هي قوة الاعتراف. * يقول: "أنا الراعي أخطأت". لقد أذنبت، أما هذا القطيع فماذا فعل؟ لتكن يدك عليّ وعلى بيت أبي. إبراهيم (أيضًا) لم يطلب ما لنفعه الخاص بل ما هو لنفع الكثيرين، لهذا عرض نفسه للمخاطر، وسأل الله من أجل الذين لا ينتمون له (أهل سدوم وعمورة). * ليتنا نطلب العقوبة لأنفسنا متى أخطأنا ضد ذاك الذي ينبغي ألا نخطئ في حقه... إن كنا نحب المسيح كما ينبغي يلزمنا أن نُعاقب أنفسنا عندما نخطئ. القديس يوحنا الذهبي الفم |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 200928 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() * في اختيار العقوبات لم يختر المجاعة ولا الهروب أمام الأعداء بل الوباء المرسل من قبل الله؛ لقد ترجى أن يكون الجميع في سلام ويحتمل هو العقوبة دون غيره. وإذ لم يحدث هذا ناح وقال: "لتكن يدك عليّ"، وإن كان هذا لا يكفي "وعلى بيت أبي". يقول أيضًا: "أنا الراعي أخطأت" (الترجمة السبعينية). كأنه يقول: حتى إن كانوا هم قد أخطأوا فأنا هو الشخص الذي يجب أن يحتمل العقوبة لأنني لم أُصلحهم. إنها خطيتي أنا أيضًا لذا أستوجب العقوبة. ولكي يزيد من جريمته استخدم لقب "الراعي"... عظيمة هي قوة الاعتراف.
* يقول: "أنا الراعي أخطأت". لقد أذنبت، أما هذا القطيع فماذا فعل؟ لتكن يدك عليّ وعلى بيت أبي. إبراهيم (أيضًا) لم يطلب ما لنفعه الخاص بل ما هو لنفع الكثيرين، لهذا عرض نفسه للمخاطر، وسأل الله من أجل الذين لا ينتمون له (أهل سدوم وعمورة). * ليتنا نطلب العقوبة لأنفسنا متى أخطأنا ضد ذاك الذي ينبغي ألا نخطئ في حقه... إن كنا نحب المسيح كما ينبغي يلزمنا أن نُعاقب أنفسنا عندما نخطئ. القديس يوحنا الذهبي الفم |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 200929 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() 18 فَجَاءَ جَادُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ إِلَى دَاوُدَ وَقَالَ لَهُ: «اصْعَدْ وَأَقِمْ لِلرَّبِّ مَذْبَحًا فِي بَيْدَرِ أَرُونَةَ الْيَبُوسِيِّ». 19 فَصَعِدَ دَاوُدُ حَسَبَ كَلاَمِ جَادَ كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ. 20 فَتَطَلَّعَ أَرُونَةُ وَرَأَى الْمَلِكَ وَعَبِيدَهُ يُقْبِلُونَ إِلَيْهِ، فَخَرَجَ أَرُونَةُ وَسَجَدَ لِلْمَلِكِ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ. 21 وَقَالَ أَرُونَةُ: «لِمَاذَا جَاءَ سَيِّدِي الْمَلِكُ إِلَى عَبْدِهِ؟» فَقَالَ دَاوُدُ: «لأَشْتَرِيَ مِنْكَ الْبَيْدَرَ لِكَيْ أَبْنِيَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ فَتَكُفَّ الضَّرْبَةُ عَنِ الشَّعْبِ». 22 فَقَالَ أَرُونَةُ لِدَاوُدَ: «فَلْيَأْخُذْهُ سَيِّدِي الْمَلِكُ وَيُصْعِدْ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ. اُنْظُرْ. اَلْبَقَرُ لِلْمُحْرَقَةِ، وَالنَّوَارِجُ وَأَدَوَاتُ الْبَقَرِ حَطَبًا». 23 اَلْكُلُّ دَفَعَهُ أَرُونَةُ الْمَالِكُ إِلَى الْمَلِكِ. وَقَالَ أَرُونَةُ لِلْمَلِكِ: «الرَّبُّ إِلهُكَ يَرْضَى عَنْكَ». 24 فَقَالَ الْمَلِكُ لأَرُونَةَ: «لاَ، بَلْ أَشْتَرِي مِنْكَ بِثَمَنٍ، وَلاَ أُصْعِدُ لِلرَّبِّ إِلهِي مُحْرَقَاتٍ مَجَّانِيَّةً». فَاشْتَرَى دَاوُدُ الْبَيْدَرَ وَالْبَقَرَ بِخَمْسِينَ شَاقِلًا مِنَ الْفِضَّةِ. 25 وَبَنَى دَاوُدُ هُنَاكَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ، وَاسْتَجَابَ الرَّبُّ مِنْ أَجْلِ الأَرْضِ، فَكَفَّتِ الضَّرْبَةُ عَنْ إِسْرَائِيلَ. سمع الله لصرخات داود المملوءة حبًا تجاه شعب الله واستجاب له، فقد أرسل إليه جاد النبي ليقيم مذبحًا في الموضع الذي ظهر له فيه الملاك، في بيدر أرونة اليبوسي، مؤكدًا له الآتي: أ. قد تم التصالح بين الله وداود، لأن إقامة مذبح وتقديم ذبيحة وقبولها من جانب الله يعني تحقيق المصالحة. ب. أن المصالحة تتم خلال الذبيحة، رمز ذبيحة المسيح الكفارية. رأى أرونة وهو رجل أجنبي يبوسي الملاك، ثم عاد فرأى الملك قادمًا فارتبك جدًا وتحير، لذا سجد أمام داود الملك على وجهه إلى الأرض، وسأله عن سر مجيئه. طلب منه أن يشتري منه البيدر ليقيم المذبح فيه فتكف الضربة عن الشعب. أراد أرونة أن يقدم البيدر مجانًا لبناء المذبح وبقره محرقات ونوارجه وأدوات البقر حطبًا للمحرقات؛ لكن داود رفض أن يقدم تقدمات مجانية للرب وأصر أن يدفع الثمن 50 شاقلًا من الفضة. رقم 50 يشير إلى الحرية التي يتمتع بها الإنسان داخليًا بالروح (اليوبيل، عيد العنصرة)، هكذا يرتبط المذبح والذبيحة بعمل الروح القدس واهب الحرية. على ذات الموضع أقيم فيما بعد هيكل سليمان. كان أرونة أمميًا، لكنه تمتع برؤية الملاك، اتسم بالاتضاع والحب مع البذل والعطاء، لذا أقيم الهيكل في أرضه... ليت إنساننا الداخلي يكون كأرونة فيقيم الرب هيكله فينا. |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 200930 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() إن كان سفر يشوع هو سفر الخلاص المجاني، فيه يتسلم يشوع قيادة الشعب ليدخل بهم إلى أرض الموعد، يغلب الأمم الوثنية ويملك ويقَّسم، فإن سفر القضاة يكشف عن حال الإنسان في أرض الموعد، وقد استهان بعطية الله العظمى، وتَراخى في المطالبة بمواعيده الإلهية المجانية، إذ فترت غيرة الشعب وانصرف غالبيته إلى مشاركة الأمم الوثنية التي تركوها في وسطهم في عبادتهم والتلذذ معهم بالخطية. لكن الله لا يترك أولاده في الرجاسات إنما يؤدب مستخدمًا الأمم ذاتها كعصا قاسية للتأديب، حتى متى رجع الشعب يرسل لهم الله خلاصًا وينقذهم. نستطيع أن نقول بأن هذا السفر هو سفر حياة كل مؤمن ذاق عذوبة الحياة الجديدة في المسيح يسوع بكونها الأرض الروحية التي تفيض لبننًا وعسلًا، لكن عوض الانطلاق فيها من قوة إلى قوة يتراخَى مستهينًا بفيض نعمة الله، فيرتد إلى الحياة الجسدانية والفكر الأرضي القاتل، الأمر الله يدفع الله إلى تأديبه بالضيقات والآلام حتى يرده إليه ابنًا مقدسًا في الحق. اسم هذا السفر في العبرية "شوفطيم" جمع "شوفط"، إي (قاضٍ)؛ وإن كانت كلمة "قاضٍ" لا تعبر تعبيرًا دقيقًا عن الأصل العبري، المأخوذ في الغالب عن الكنعانية (عا 2: 3)، والتي تعني "قائد" أو (رئيس). فإن القضاة المذكورين في هذا السفر ليسوا قضاة بالمفهوم العام لنا، فلم يكن عملهم القضاء وإصدار أحكام حسب شريعة مكتوبة أو تقليد شفوي. بمعنى آخر لم تكن رسالتهم تحقيق العدل بتطبيق القانون، وإنما رد البر وإعادته في حياة الجماعة، والدفاع عن حقوق هذه الجماعة وتخليصها من الضيق الذي تسقط فيه. هؤلاء القضاة الذين ظهروا في الفترة ما بين موت يشوع وبدء عصر الملوك (شاول)، كانوا ذوي سلطة لكن ليس كالملوك. فكان الحاكم إلهيًا. بمعنى أن الله هو الملك الحق للشعب، يعمل خلال رئيس الكهنة كمُبلغ للمقاصد الإلهية. وكان كل سبط يدبر أموره الخاصة به بواسطة رئيس السبط، أما الأمور الكبرى التي تمس الجماعة على مستوى جميع الأسباط أو بعضها معًا كمحاربة الأعداء والتخلص من نيرهم فيرجع إلى القاضي الذي ليس له أن يسن الشرائع ولا أن يضع أثقالًا على الشعب وإنما يحكم ويؤدب خاصة المنحرفين إلى العبادة الوثنية ويقود المعارك ضد الأمم. كان الله هو الذي يُقيم القاضي، وأحيانًا الشعب يختارهم؛ وكان غالبيته لا يحمل السلطة على مستوى الاثني عشر سبطًا بل على مستوى محلي. غالبًا ما كان يُنظر للقاضي كمخلص، ينقذ الشعب من سطوة الوثنيين خلال التوبة والرجوع إلى الله مع الجهاد. كاتب هذا السفر على ما يُظن هو صموئيل النبي كما جاء في التقليد اليهودي وقبله كثير من آباء الكنيسة. وقد أكدّ هذا شهادة السفر الداخلية، إذ يظهر أنه كُتب بعد تأسيس النظام الملوكي (قض 19: 1؛ 21: 15)، وقبل سبي أورشليم (قض 1: 21)، وضمها إلى مدن اليهود في زمن داود الملك (2 صم 5: 6-8) وبذلك يكون قد كُتب في أيام شاول الملك أو بداية عهد داود الملك، وكان نبي ذلك الزمان هو صموئيل. ذهب البعض إلى أن كاتب السفر هو حزقيا، ونادى فريق آخر أن عزرا قد جمعه مما كتبه القضاة كل في زمان قضائه. ويعتمد هذا الفريق على العبارة "إِلَى يَوْمِ سَبْيِ الأَرْضِ" (قض 18: 30) حاسبين أن السفر كُتب بعد السبي البابلي، لكن يظهر مما جاء في (1 صم 4: 11؛ مز 78: 6، 61) إن السبي هنا يعني ما حدث حين أخذ الفلسطينيون التابوت. هذا وقد جاء السفر خاليًا من الألفاظ الكلدانية مما يؤكد كتابته قبل السبي البابلي. حاول بعض النقاد تمزيق وحدة السفر إلى ثلاث وحدات بكون كاتب صلب السفر (قض 3-16) غير كاتب المقدمة (قض 1، 2) وغير كاتب الملحق له (قض 17-21)، إذ يرون أن كاتب الملحق في عصر متأخر جدًا. وقد أكد رتشارد فرنش Richard Valpy French وحدة السفر خلال دراسته له من الناحية اللغوية إذ وجد كلمات عبرية كثيرة مشتركة بين صلب السفر والملحق، وبين مقدمة السفر والملحق، وبين المقدمة وصلب السفر. غاية السفر: يمكننا القول بأن الفترة التي عاصرها القضاة هي فترة ارتداد فيها انشغل الشعب عن متابعة الجهاد لامتلاك أرض الموعد وانهمكوا في العبادة الوثنية ومشاركة الأمم رجاساتهم. لكنه وُجدت قلة من المؤمنين عبدوا الله، كما يشهد بذلك وجود خيمة الاجتماع في شيلوه (قض 18: 31)، والاحتفال بالعيد السنوي (قض 21: 19) ووجود رئيس الكهنة والاهتمام بتابوت العهد (قض 20: 27-28)، وتقديم ذبائح لله (قض 13: 15-16، 20-25؛ 21: 4)، وممارسة الختان (قض 14: 3؛ 15: 18)، وتقديم نذور للرب (قض 11: 30؛ 13: 5). جاء هذا السفر لا ليعرض تاريخ هذه الحقبة وإنما ليعالج مشكلة الارتداد، كيف يُفقد الجماعة المقدسة قدسيتها ووحدتها، ويحطمها أمام العدو ويذلها. هذا كله ثمرة الارتداد وبسماح إلهي حتى ترجع الجماعة إلى الرب بتوبة جماعية مشتركة وتنفتح قلوب الكل لله فيرسل عونًا وخلاصًا. يعالج هذا السفر فترة ما بين قرنين وثلاثة قرون أعقبت دخول شعب إسرائيل كنعان على يديّ يشوع، تبدأ بموت يشوع وتنتهي بموت شمشون أو قُبيل بداية صموئيل النبي وانطلاق عهد الملوك على يديه (شاول ثم داود). يصعب جدًا تحديد مدة هذه الفترة من خلال السفر نفسه، لأنه لو جمعنا الفترات التي حكم فيها القضاء مع فترات الضيق أو العبودية للأمم حيث لم يكن يوجد قضاة لوجدناها 410 عامًا، غير الفترة الحقيقية التي لا تصل إلى هذا الرقم، لأن خلافة القضاة لم تكن متتالية بل عاصر بعضهم الآخر، إذ كان نفوذ البعض على مستوى محلي وليس على مستوى الشعب كله(6). هذا وقد تأخر البعض عن البعض الآخر فلم يكن القضاة يمثلون حلقة متصلة كالملوك. وفيما يلي جدول عام للتواريخ الخاصة بالقضاة (مع مراعاة تداخل الفترات فيما بينها). الشاهد السنوات (قض 3: 8)العبودية لكوشان رشعتايم 8 (قض 3: 11) فترة قضاء عثنيئيل 40 (قض 3: 14) العبودية لعجلون 18 (قض 3: 30) سلام في أيام أهود وشمجر 80 (قض 4: 3) مضايقة يابين لهم 20 (قض 5: 31) فترة قضاء دبورة وباراق 40 (قض 6: 1) الاستعباد لمديان 7 (قض 8: 28) فترة قضاء جدعون 40 (قض 9: 22) حكم أبيمالك (ليس قاضيًا) 3 (قض 10: 2) فترة قضاء تولع 23 (قض 10: 3) فترة قضاء بائير 22 (قض 10: 8) مضايقة العمونيين لهم 18 (قض 12: 7) فترة قضاء يفتاح 6 (قض 12: 9) فترة قضاء إبصان 7 (قض 12: 11) فترة قضاء إيلون 10 (قض 12: 14) فترة قضاء عبدون 8 (قض 13: 1) الاستعباد للفلسطينيين 40 (قض 15: 20) (قض 16: 31) فترة قضاء شمشون 20 410 إن كان سفر القضاة يمثل أحد العصور المظلمة لشعب بني إسرائيل بسبب تهاونهم في التمتع بكمال مواعيد الله وانحرافهم نحو العبادة الوثنية بعد استقرارهم في أرض الموعد، فإن الله لم يترك شعبه بل كان يرسل لهم مخلصًا أو قاضيًا يدفعهم إلى حياة التوبة ويخلصهم من العدو الذي أسلمهم له الله للتأديب، بل بالحري سلمتهم له خطاياهم ليذوقوا ثمرتها المرّة. وقد جاءت شخصيات هؤلاء القضاة تكشف بعض جوانب المخلص الحقيقي يسوع المسيح، كما جاءت الأحداث التي ارتبطت بهم تعلن الكثير عن خدمة العهد الجديد التي تمس حياتنا الروحية. هذا هو المنهج الذي أود أن أتبعه في تفسير هذا السفر، في شيء من البساطة، معتمدًا على فكر بعض آباء الكنيسة الأولى وفي نظرتهم لأحداث وأشخاص هذا السفر. سفر القضاة وروح القوة: إن كان سفر القضاة يعلن عن شخص السيد المسيح خلال حياة القضاة وتصرفاتهم، فإنه إذ هو سفر الغلبة ضد العدو خلال هؤلاء القضاة يكشف عن "الروح القدس" كروح القوة الذي به ننتصر في جهادنا الروحي. وما فعله القضاة من أعمال مجيدة فائقة كانت بروح الرب وليس بعمل بشري، تقدم لنا إمكانية في حياتنا الروحية وجهادنا ضد إبليس وأعماله الشريرة لا بقوتنا الذاتية وإنما بعمل الروح فينا. في حديث القديس كيرلس الأورشليمي عن الروح القدس يقول: [تظهر قدرة هذا الروح في سفر القضاة، فبه حكم عثنيئيل (قض 3: 10)، وبه اعتزت قوة جدعون (قض 6: 34)، وانتصر يفتاح (قض 11: 29)، وأقامت دبورة كامرأة حربًا، وقام شمشون في فترة سلوكه بالبرّ بأعمال تفوق القدرة الإنسانية]. يحوي هذا السفر مقدمتين، في الأولى (قض 1) يقدم لنا إمكانية الإنسان أو الجماعة في أرض الموعد (الحياة الجديدة) إن يغلب ويملك بلا انقطاع، وفي الثانية (قض 2) يقدم ملخصًا للاهوت هذا السفر كله في إيجاز(10). كما يضم السفر ملحقين هما عبارة عن حادثتين تمتا في عصر القضاة تكشفان عن مدى ما وصل إليه الشعب من انحطاط أخلاقي وفساد (قض 17؛ 21). 1. حال الشعب بعد يشوع (مقدمة السفر) [قض 1 -2]. 2. عصر القضاة [قض 6 -13]. 3. حادثتان أثناء عصر القضاة [قض 17 -21]. حال الشعب بعد يشوع (مقدمة السفر) الاستيلاء على بقية كنعان [قض 1]. مقدمة في لاهوتيات السفر [قض 2]. يُعتبر الأصحاحان الأولان مقدمة لسفر القضاة تكشف عن غاية السفر ولاهوتياته. فإن كان السفر يكشف عن فترة ارتداد عاشتها الغالبية العظمى من الجماعة في وسط أرض الموعد، ففي الأصحاح الأول أبرز الروح القدس إمكانية الإنسان في أرض الموعد أن يغلب أدوني بازق (إبليس) ويقتلع الكنعانيين (أعماله الشريرة)، وكأن ما وصل إليه الإنسان من ارتداد حدث بلا عذر، إنما بسبب تهاونه مع الخطية بالرغم من الإمكانيات الجديدة المقدمة له لينعم بمواعيد الله الصادقة. وجاء الأصحاح الثاني يعرض لنا المفهوم اللاهوتي للسفر كله، ألاَّ وهو أن "الارتداد" (أو الانحراف عن الله) وكسر وصيته هما السبب في الضيق أو المرارة التي حلت بالإنسان. فإن كان السفر يعلن عما حل بالشعب من سلسلة من المتاعب والمضايقات التي حلت بهم بواسطة الأمم، إنما هي صورة مبسطة للمذلة التي هوى إليها الإنسان بإرادته خلال بعده عن الله الحيّ. في هذا الأصحاح نرى ملاك الرب وقد صعد من الجلجال حيث ذكرى [دحرجة عار مصر (العبودية) عنهم]، إذ "جلجال" تعني (دحرجة) (يش 5: 9)، منطقًا إلى "بوكيم" التي تعني "البكاء"... وكأنه أراد أن يدخل بهم إلى الدموع حتى في أرض الموعد ما داموا قد سقطوا في الشر. وباختصار نجد أن هذا السفر هو سلسلة لا تنقطع من الانحراف، فالمذلة، فالصراخ، فالتوبة ثم الخلاص! هذا هو الخط الرئيسي للسفر كله معلنًا في هذا الأصحاح. إن كان السفر السابق يعلن ميراثنا أرض الموعد بيشوع الحقيقي، فإن سفر القضاة يكشف عن الالتزام بدوام الجهاد مادمنا في الجسد حتى نستولي على كنعان كلها، أي ننعم بكمال الوعد. ففي هذا الأصحاح نرى غلبة الإنسان على أدوني بازق رمز الشيطان، ليفقد الأخير سلطانه وينسحق تحت قدمي المؤمن، الذي يملك على أورشليم السماوية عوض إبليس الساقط منها. 1. سقوط أدوني بازق: 1 وَكَانَ بَعْدَ مَوْتِ يَشُوعَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلُوا الرَّبَّ قَائِلِينَ: «مَنْ مِنَّا يَصْعَدُ إِلَى الْكَنْعَانِيِّينَ أَوَّلًا لِمُحَارَبَتِهِمْ؟» 2 فَقَالَ الرَّبُّ: «يَهُوذَا يَصْعَدُ. هُوَذَا قَدْ دَفَعْتُ الأَرْضَ لِيَدِهِ». 3 فَقَالَ يَهُوذَا لِشِمْعُونَ أَخِيهِ: «اِصْعَدْ مَعِي فِي قُرْعَتِي لِكَيْ نُحَارِبَ الْكَنْعَانِيِّينَ، فَأَصْعَدَ أَنَا أَيْضًا مَعَكَ فِي قُرْعَتِكَ». فَذَهَبَ شِمْعُونُ مَعَهُ. 4 فَصَعِدَ يَهُوذَا، وَدَفَعَ الرَّبُّ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ بِيَدِهِمْ، فَضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي بَازَقَ عَشَرَةَ آلاَفِ رَجُل. 5 وَوَجَدُوا أَدُونِيَ بَازَقَ فِي بَازَقَ، فَحَارَبُوهُ وَضَرَبُوا الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ. 6 فَهَرَبَ أَدُونِي بَازَقَ، فَتَبِعُوهُ وَأَمْسَكُوهُ وَقَطَعُوا أَبَاهِمَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. 7 فَقَالَ أَدُونِي بَازَقَ: «سَبْعُونَ مَلِكًا مَقْطُوعَةٌ أَبَاهِمُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ كَانُوا يَلْتَقِطُونَ تَحْتَ مَائِدَتِي. كَمَا فَعَلْتُ كَذلِكَ جَازَانِيَ اللهُ». وَأَتَوْا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ فَمَاتَ هُنَاكَ. "وكان بعد موت يشوع أن بني إسرائيل سألوا الرب قائلين: من منا يصعد إلى الكنعانيين أولًا لمحاربتهم؟ فقال الرب: يهوذا يصعد قد دفعت الأرض ليده؛ فقال يهوذا لشمعون أخيه: اصعد معي في قرعتي... فأصعد أنا أيضًا في قرعتك، فذهب شمعون معه" [1- 3]. إذ مات يشوع بعد أن عبر بهم الأردن ودخل بهم إلى أرض كنعان التزم بنو إسرائيل أن يحاربو الكنعانيين لكي يرثوا الأرض بعد طرد الوثنيين. لقد مات "يسوع" رب المجد على الصليب بعد أن عبر بنا مياه المعمودية وصارت لنا إمكانية إلهية لكي نجاهد في أرض الموعد، إي خلال الحياة الجديدة التي لنا في المسيح يسوع. لكي نطرد الكنعانيين أي أعمال إبليس ونرث في الرب، بمعنى آخر أن موت ربنا يسوع وعبورنا مياه المعمودية ليس نهاية الطريق بل هو بدايته، لكي نجاهد قانونيًّا بالروح القدس لكي نغلب ونرث، لا إلى حين، وإنما ننطلق من جهاد روحي إلى جهاد آخر، ومن نصرة إلى نصرة، وننعم بالانطلاق من مجد إلى مجد خلال جهادنا الروحي. وكما يقول القديس غريغوريوس النيصي: [مَن يتقبل حميم التجديد يشبه جنديًا صغيرًا أُعِطَي له مكان بين المصارعين لكنه لم يبرهن بعد على استحقاقه للجندية]. إذ سأل بنو إسرائيل الرب عمن يصعد أولًا لمحاربة الكنعانيين، جاءت الإجابة "يهوذا" وقد طلب يهوذا من أخيه شمعون أن يصعد معه في قرعته ليحارب. من هو يهوذا الذي يبدأ بالحرب الروحية سوى ربنا يسوع المسيح "الخارج من سبط يهوذا"، هذا الذي يقود بنفسه الموكب ليغلب وينتصر لحسابنا، هذا الذي رآه القديس يوحنا للاهوتي: "خرج غالبًا ولكي يغلب" (رؤ 6: 2). فإن كان "شمعون" تعني (المستمع)(12) ويشير إلى المؤمن الذي يصغي لسيده ويسمع صوته في طاعة، فإن يهوذا أي ربنا يسوع في صراعه ضد العدو إبليس يطلب من شمعون أي من المؤمن المستمع لوصيته أن يشاركه الحرب الروحية. إذن فالمحارب هو السيد المسيح الذي يدعونا أن نختفي فيه لكي به نجاهد، وبه ننتصر ونكلل! وكما يقول القديس أغسطينوس: [يسوع قائدنا سمح لنفسه بالتجربة حتى يعلم أولاده كيف يحاربون]. إن كان "يهوذا" يعني "اعتراف" أو "إيمان"، فإن ربنا يسوع المسيح يطالبنا في محاربتنا للكنعانيين الوثنيين أي للخطايا التي ملكت في القلب أن ننطلق للجهاد خلال الإيمان أو الاعتراف بالإيمان "يهوذا"، لكن ليس بدون "شمعون" أخيه، أي ليس بدون العمل أو الاستماع للوصية. كأن انطلاق يهوذا مع شمعون للمعركة الأولى ضد الكنعانيين إنما يعلن الجهاد الروحي خلال الإيمان الحيّ غير المنفصل عن العمل، فإنهما أخوان متلازمان. بمعنى آخر لا انفصال بين نعمة الله المجانية والجهاد العملي وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يطلب الله منا حجة صغيرة لكي يقوم هو بكل العمل(14)]. كما يقول: [النعمة دائمًا مستعدة! إنها تطلب الذين يقبلونها بكل ترحيب. هكذا إذ يرى سيدنا نفسًا ساهرة وملتهبة حبًا، يسكب عليها غناه بفيض وغزارة تفوق كل طلبته]. انطلق يهوذا وفي صحبته شمعون ليحاربا أدوني بازق، هذا الذي سبق فأذل سبعين ملكًا بقطع أباهمَ أيديهم وأرجلهم وكانوا يلتقطون الفتات الساقط من مائدته كالحيوانات، فإذا به يسقط أسيرًا وتُقطع أباهمُ يديه ورجليه ويبقى تحت المائدة ذليلًا... وكما قال: "كما فعلت كذلك جازاني الله" [7]. كلمة "أدوني" تعني "سيد" أو "مالك" أو "رب"(16)، وكلمة "بازق" تعني "مبرق"(17). والكلمتان تمثلان سمتي إبليس، فقد أقام نفسه "أدونيًا" أي سيدًا وربًا ومالكًا على حياة الإنسان الخاضع لمشورته، و"مبرقًا" بخداعاته الكاذبة. وقد أعلن الكتاب المقدس هاتين السمتين، فقيل عنه: "رئيس هذا العالم قد دين" (يو 16: 11)، "لأن الشيطان نفسه يغير شكله إلى شبه ملاك نور" (2 كو 11: 14). إذن أدوني بازق يشير إلى الشيطان الذي أقام نفسه رئيسًا على محبي العالم، مبرقًا عليهم بنور مخادع على شبه ملاك ليقتنصهم وبالفعل أذل البشرية التي كانت تمثل سبعين ملكًا، فقد قطع أباهم أيديهم وأرجلهم، لكن جاء يهوذا ليقطع بالصليب أباهم يدي إبليس ورجليه ويحني عنقه بالمذلة تحت قدمي الإنسان. فقد رأى السيد المسيح "الشَّيْطَانَ سَاقِطًا مِثْلَ الْبَرْقِ مِنَ السَّمَاءِ" (لو 10: 18) عندئذ قال لرسله: [ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء، ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كتبت في السموات] (لو 10: 19-20). هذا هو أدوني بازق الذي سقط من قلوبنا كما من السماء وصار مدوسًا تحت أقدامنا لا يقدر أن يضرنا في شيء. والآن ماذا يُعنَى بقطع أباهم الأيدي والأرجل؟ يرى كثير من الآباء أن "إصبع الله" يرمز للروح القدس، فإذ قيل "لَوْحَيْ حَجَرٍ مَكْتُوبَيْنِ بِإِصْبعِ اللهِ" (خر 31: 18) إنما يشير إلى كلمة الله التي تنقش فينا بالروح القدس. فإن كان الأصبع يشير إلى الروح فقطع أدوني بازق أباهم أيدي وأرجل الملوك السبعين إنما يعني نزعه روحهم وإفقاد البشرية التي كان يجب أن تملك في الرب كل قوتها وحياتها؛ قطع أباهم اليد يشير إلى توقف العمل تمامًا لحساب مملكة الله وقطع أباهم الأرجل يشير إلى توقف الحركة أو الانطلاق في الطريق الملوكي. هكذا أذل الشيطان البشرية ونزع عنها عملها الملوكي وحركتها السماوية، وجعلها أسيرة قصره تأكل من الفتات الساقط من مائدته في التراب، تسلك كحيوانات بلا كرامة ولا سلطان روحي! لكن الله لم يترك أدوني بازق يذل خليقته أبديًا، وإنما على الصليب "إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه" (كو 2: 15). وكأنه قطع أباهم يديه ورجليه وجعله تحت قدمي المؤمنين بلا سلطان! صار موضع إبليس الجديد ليس في القلب كي يملك وإنما تحت المائدة يُداس بالأقدام، فاقدًا القدرة على العمل أو الحركة. نال إبليس جزاء عمله، وارتد فعله إليه كما قيل لأهل أدوم: "عملك يرتد على رأسك" (عو 15). هذا القانون يخضع له الجميع، كقول الرب نفسه: "بالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم" (مت 7: 2). أخيرًا يقول لكتاب: "وأتوا به إلى أورشليم فمات هناك" [7]. فإن كانت "أورشليم" تعني "رؤية السلام"، فلا يمكن أن يحل السلام في القلب ولا أن تعاينه النفس ما لم يمت أولًا أدوني بازق، أي يضع نهاية لعدو الخير إبليس. يموت إبليس فتحيا النفس في سلام مع خالقها مع إخوتها وبقية الخليقة بل وحتى مع نفسها، إذ تمتلئ بالسلام الروحي الداخلي. أورشليم التي هي رمز لسلام النفس مع الله وتمتعها بالحياة، هي بعينها موت لإبليس وهلاك للخطية. لقد أتوا بالعدو من بازق إلى أورشليم، أي من "المبرق" أو من خداعاته التي تجعله يبرق كملاك من نور ليموت في المدينة التي يحل الرب فيها بسلامه. هذا وإن "بازق" هي "خربة بزقة"، وهي مدينة في وسط فلسطين، تبعد حوالي 13 ميلًا شرقي شكيم. 8 وَحَارَبَ بَنُو يَهُوذَا أُورُشَلِيمَ وَأَخَذُوهَا وَضَرَبُوهَا بِحَدِّ السَّيْفِ، وَأَشْعَلُوا الْمَدِينَةَ بِالنَّارِ. 9 وَبَعْدَ ذلِكَ نَزَلَ بَنُو يَهُوذَا لِمُحَارَبَةِ الْكَنْعَانِيِّينَ سُكَّانِ الْجَبَلِ وَالْجَنُوبِ وَالسَّهْلِ. 10 وَسَارَ يَهُوذَا عَلَى الْكَنْعَانِيِّينَ السَّاكِنِينَ فِي حَبْرُونَ، وَكَانَ اسْمُ حَبْرُونَ قَبْلًا قَرْيَةَ أَرْبَعَ. وَضَرَبُوا شِيشَايَ وَأَخِيمَانَ وَتَلْمَايَ. 11 وَسَارَ مِنْ هُنَاكَ عَلَى سُكَّانِ دَبِيرَ، وَاسْمُ دَبِيرَ قَبْلًا قَرْيَةُ سَفَرٍ. 12 فَقَالَ كَالَبُ: «الَّذِي يَضْرِبُ قَرْيَةَ سَفَرٍ وَيَأْخُذُهَا، أُعْطِيهِ عَكْسَةَ ابْنَتِي امْرَأَةً». 13 فَأَخَذَهَا عُثْنِيئِيلُ بْنُ قَنَازَ، أَخُو كَالَبَ الأَصْغَرُ مِنْهُ. فَأَعْطَاهُ عَكْسَةَ ابْنَتَهُ امْرَأَةً. 14 وَكَانَ عِنْدَ دُخُولِهَا أَنَّهَا غَرَّتْهُ بِطَلَبِ حَقْل مِنْ أَبِيهَا. فَنَزَلَتْ عَنِ الْحِمَارِ، فَقَالَ لَهَا كَالَبُ: «مَا لَكِ؟» 15 فَقَالَتْ لَهُ: «أَعْطِنِي بَرَكَةً. لأَنَّكَ أَعْطَيْتَنِي أَرْضَ الْجَنُوبِ، فَأَعْطِنِي يَنَابِيعَ مَاءٍ». فَأَعْطَاهَا كَالَبُ الْيَنَابِيعَ الْعُلْيَا وَالْيَنَابِيعَ السُّفْلَى. 16 وَبَنُو الْقَيْنِيِّ حَمِي مُوسَى صَعِدُوا مِنْ مَدِينَةِ النَّخْلِ مَعَ بَنِي يَهُوذَا إِلَى بَرِّيَّةِ يَهُوذَا الَّتِي فِي جَنُوبِيِّ عَرَادَ، وَذَهَبُوا وَسَكَنُوا مَعَ الشَّعْبِ. 17 وَذَهَبَ يَهُوذَا مَعَ شِمْعُونَ أَخِيهِ وَضَرَبُوا الْكَنْعَانِيِّينَ سُكَّانَ صَفَاةَ وَحَرَّمُوهَا، وَدَعَوْا اسْمَ الْمَدِينَةِ «حُرْمَةَ». 18 وَأَخَذَ يَهُوذَا غَزَّةَ وَتُخُومَهَا، وَأَشْقَلُونَ وَتُخُومَهَا، وَعَقْرُونَ وَتُخُومَهَا. 19 وَكَانَ الرَّبُّ مَعَ يَهُوذَا فَمَلَكَ الْجَبَلَ، وَلكِنْ لَمْ يُطْرَدْ سُكَّانُ الْوَادِي لأَنَّ لَهُمْ مَرْكَبَاتِ حَدِيدٍ. 20 وَأَعْطَوْا لِكَالَبَ حَبْرُونَ كَمَا تَكَلَّمَ مُوسَى. فَطَرَدَ مِنْ هُنَاكَ بَنِي عَنَاقَ الثَّلاَثَةَ. 21 وَبَنُو بَنْيَامِينَ لَمْ يَطْرُدُوا الْيَبُوسِيِّينَ سُكَّانَ أُورُشَلِيمَ، فَسَكَنَ الْيَبُوسِيُّونَ مَعَ بَنِي بَنْيَامِينَ فِي أُورُشَلِيمَ إِلَى هذَا الْيَوْمِ. إذ قيل: [أَتَوْا بأدوني بازق إِلَى أُورُشَلِيمَ] [7] قدم بيانًا تفصيليًا عن محاربة يهوذا للاستيلاء على أورشليم وقرية أربع (حبرون) وقرية دبير... الأمر الذي سبق لنا الحديث عنه في مفهومه الروحي بشيء من التفصيل، عند دراستنا لسفر يشوع (الأصحاح الخامس عشر)... لذا أرجو الرجوع إليه، مكتفيًا هنا ببعض الإيضاحات الإضافية. من جهة أورشليم فقد حاربوا أهلها واستولوا عليها، ودخلوا بأدوني بازق فيها كأسير يموت هناك. غير أن الإستيلاء الكامل أو الدائم لهذه المدينة لم يتحقق إلاَّ في عهد داود النبي الملك (2 صم 5: 6-7). إذ يُقال أن اليبوسيين، سكان أورشليم (يبوس) الأصليين رجعوا إلى حصنهم جبل صهيون ونزعوا المدينة عن يهوذا حتى استولى إسرائيل عليها من جديد في أيام داود. ويرى البعض أن يهوذا أخذ المدينة ولم يأخذ الحصن الذي بقى في يد اليبوسيين حتى أيام داود الملك. "وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوها بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار" [8]. جاء في العبرية "ضربوها بفم السيف" كناية عن شدة الحرب إذ كان السيف يلتهمهم كفم يبتلع الفريسة فلا توجد. أما إشعال المدينة بالنار فلا يعني حرقها تمامًا وإنما حرق جزء منها، كالقول بأن الثوب احترق، بالرغم من أن الجزء المحترق صغير. والدليل على ذلك أن المدينة بقيت يسكنها اليبوسيين مع يهوذا وبني بنيامين (قض 1: 21؛ يش 15: 63). إن كانت [أورشليم الأرضية هذه إنما هي ظل أورشليم السماوية)] كما يقول القديس أغسطينوس، فإنها تصير مسكنًا ليهوذا إن ضُرب اليبوسيين (الُمُداسون بالأقدام) بفم السيف، أي حُطم في القلب كل ما يستحق أن يُداس بالقدمين، وأن أُشعلت المدينة بنار الروح القدس الذي ينزع عنها البرود الروحي ويلهبها بنيران الحب التي لا تنطفئ. إذ تمتع يهوذا بأورشليم الملتهبة بنار الروح القدس لا يتوقف عن الجهاد الروحي بل ينزل "لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل والجنوب والسهل" [9]. هكذا ينزل من أورشليم المدينة المرتفعة حوالي 2593 قدمًا ليحارب "الكنعانيين" التي تعني "الهياج"، فلا يستطيع من يملك أورشليم أن تكون له "رؤية سلام" أو أن يحتمل الهياج الداخلي للقلب خلال الخطية بل يحاربه حتى يكون له السلام الفائق في المسيح يسوع. أما المناطق التي يحاربها فهي: أولًا: سكان الجبل، وقد دعيت هكذا لأن الأرض جبلية، تقع جنوبي أورشليم وتضم بيت لحم وحبرون. ثانيا: الجنوب، تترجم عن العبرية هكذا "الجنوب"، لكنها تعرف بالنجب. كلمة نجب في العربية تعني لحاء الشجر بعد جفافه، أو قشرة ساقه الجافة. وقد دعيت المنطقة بالنجب بسبب اتسامها بالجفاف والقحط، تمتد 70 ميلًا جنوب حبرون حتى تصل إلى التية أو القفر، يحدها شرقًا بحر لوط وغربًا سواحل البحر. ثالثا: السهل وتترجم "هشفلة"، عبارة عن منطقة منخفضة تحت سفح التلال تمتد بين الساحل المنبسط وسلسلة جبال يهوذا، وتتميز بخصوبة أرضها وكثرة أشجارها ونباتاتها على عكس منطقة النجب في عصر القضاة كان الفلسطينيون يشغلون الساحل المنبسط وبنو إسرائيل يشغلون جبال يهوذا، وكانت المعارك تدور بينهما في السهل (هشفلة). لقد حارب بنو يهوذا الكنعانيين في هذه الماطق الثلاث: الجبل والنجب (الجفاف) والسهل، وكأن بني يهوذا الحقيقي - يسوع المسيح - يتعقبون الخطية بالروح القدس لكي يحطموها منطلقين إلى الجبل عاليًا بلا خوف من سكانه، وإلى النجب وسط القفار بلا ارتباك، وفي السهل دون إغراء لخضرتها وثمارها. إنهم يجاهدون في كل المواقع: الجبال والقفار والأراضي الخصبة، لا يحطمهم عنف الخطية وقسوتها ولا تجتذبهم إغراءاتها. أما بخصوص قرية أربع أو حبرون [10] فقد رأينا كيف طالبَ كالب بن يفنة حقه في امتلاكها، وقد طرد بني عناق الثلاثة وقتلهم... وقد حملت أسماء المدينة وبنو عناق معانٍ رمزية سبق الحديث عنها. اهتم كالب بامتلاك هذه المدينة بكونها مدينة حصينة يصعب الاستيلاء عليها، لهذا يبدو أن داود جعلها عاصمة لمملكته قبل استيلائه على أورشليم. وكان لهذه المدينة قدسيتها عند اليهود، ودعيت بالخليل تذكارًا لإبراهيم خليل الله الذي ضرب خيامه فيها، وفيها دفن مع سارة امرأته (تك 25: 7-11)، وقد صارت من مدن الملجأ (يش 21: 11- 13). أما دعوتها "قرية الربع"، فيرى بعض معلمي اليهود أنها دعيت هكذا لأن فيها دُفِنَ أربعة آباء: آدم وإبراهيم وإسحق ويعقوب مع زوجاتهم (تك 23: 19؛ 25: 9؛ 49: 30-33)، كما سكن فيها أربعة المشاهير: إبراهيم وعابر وأشكول وممرا. لكن الكتاب المقدس ينسب اسمها إلى "أربع الرجل الأعظم في العناقيين" (يش 14: 15)، وقد دعي "أربع" أبي عناق (يش 15: 13). بعد الاستيلاء على حبرون أو قرية أربع وقتل بني عناق انطلق يهوذا إلى دبير أو قرية سفر، حيث أعلن كالب بن يفنة أن من يضربها يعطيه عكسة ابنته امرأة... هذه التي تمتعت بالينابيع العليا والينابيع السفلى كهبة من أبيها بعد أن تزوجت بعثنيئيل فاتح قرية سفر أو دبير. "دبير" من أصل عبري يعني "يقرأ"، أما دعوتها "قرية سفر" أو "كتاب"، أو "قرية سّنة" (يش 15: 49) أي ما يحويه الكتاب من شريعة أو سنن، فيُظهر أنها كانت مركزًا للعلم والدين عند الكنعانيين. ظن كثيرون أن مكانها الآن قرية الظهرية التي تبعد حوالي 13 ميلًا جنوب غربي حبرون، لكن الآن يرجح أن مكانها تل أبيب مرسيم التي تبعد غربًا نحو 13 ميلًا جنوب غربي حبرون وعلى بعد ثلاثة أميال شمال غربي شامير. رأينا أن كلمة "عثنيئيل" تعني (استجابة الرب)، فلا يستطيع أحد أن يغتصب قرية الكتاب المقدس إلاّ من يوهب له من قِبل الله أو يُستجاب لطلبته، عندئذ يتزوج عكسة ابنة كالب أي يلتصق بالحياة المقدسة ويتعرف على أسرارها لا كقرية يسكنها وإنما كعروس يتزوج بها، أما نزول عكسة عن الحمار لتطلب من أبيها الينابيع العيا والينابيع السفلى كهبة منه لابنته، إنما يُشير إلى النفس التي تنزل عن اهتمامات الجسد الحيواني (الحمار) لتطلب من أبيها السماوي ينابيع المياه الحية، أي ثمار الروح على مستوى سماوي عالٍ، كما تنعم بالثمر الذي تعيش به هنا على الأرض (الينابيع السفلى). يتحدث بعد ذلك عن التصاق بني القيني (وفي الترجمة السبعينية بنو حوباب القيني)، أي أبناء إخوة زوجة موسى، ببني يهوذا إذ صعدوا من مدينة النخل أي أريحا التي خربت ولعنت لذا لم يذكر هنا اسمها، وانطلقوا إلى برية يهوذا إذ كانوا لا يحبون سكنى المدن كسائر أهل البدو (إر 35: 6-7)، في جنوبي عراد (تبعد 17 ميلًا جنوبي حبرون) وسكنوا مع شعب هذا الموضع أي عماليق! وهكذا اختطلت الحنطة بالزوان! اشترك السبطان يهوذا وشمعون في ضرب "صفاة" ودعوها "حرمة"، والتي هي في الغالب "تل السبع". كلمة "حرمة" تحمل معنيين: "موضع مقدس، خراب"؛ فقد حطموها تمامًا وضربوها بسبب ما قاسوه فيها من مرارة في حرب العمالقة (عد 14: 45). أما المدن "غزة... وأشقلون... وعقرون" [18]، من عواصم الفلسطينيين الخمس، فقد أخذها الفلسطينيون لكنهم لم يبقوا فيها زمانًا طويلًا، لذلك جاءت الترجمة السبعينية (لم يأخذها يهوذا أي لم يرثها).. "لم يُطرد سكان الوادي لأن لهم مركبات من حديد" [19]، كان ذلك مع بدء ظهور العصر الحديدي، وقد احتكر الفلسطينيون صناعته حتى لا ينتفع به الإسرائيليون (1 صم 13: 19-22)، ولكن نصرة داود على الفلسطينيين كانت بداية لاستخدام الحديد كسلعة عامة في إسرائيل. وسط هذه الانتصارات المتتالية أعلن الكتاب تهاون هذا الشعب: "وبنو بنيامين لم يطردوا اليبوسيين سكان أورشليم، فسكن اليبوسيون مع بني بنيامين في أورشليم إلى هذا اليوم" [21]. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [إذ نسمع في الإنجيل بأن الحنطة تنمو مع الزوان، بنفس الطريقة يوجد في أورشليم أي الكنيسة اليبوسيون الذي يسلكون بحياة رديئة، هؤلاء الفاسدون في إيمانهم كما في أعمالهم وكل طريقة حياتهم. من المستحيل تتنقى الكنيسة بالكلية طالما هي على الأرض]. 22 وَصَعِدَ بَيْتُ يُوسُفَ أَيْضًا إِلَى بَيْتِ إِيلَ وَالرَّبُّ مَعَهُمْ. 23 وَاسْتَكْشَفَ بَيْتُ يُوسُفَ عَنْ بَيْتِ إِيلَ، وَكَانَ اسْمُ الْمَدِينَةِ قَبْلًا لُوزَ. 24 فَرَأَى الْمُرَاقِبُونَ رَجُلًا خَارِجًا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا لَهُ: «أَرِنَا مَدْخَلَ الْمَدِينَةِ فَنَعْمَلَ مَعَكَ مَعْرُوفًا». 25 فَأَرَاهُمْ مَدْخَلَ الْمَدِينَةِ، فَضَرَبُوا الْمَدِينَةَ بِحَدِّ السَّيْفِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ وَكُلُّ عَشِيرَتِهِ فَأَطْلَقُوهُمْ. 26 فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ إِلَى أَرْضِ الْحِثِّيِّينَ وَبَنَى مَدِينَةً وَدَعَا اسْمَهَا «لُوزَ» وَهُوَ اسْمُهَا إِلَى هذَا الْيَوْمِ. إن كان يهوذا قد جاء متقدمًا كل الأسباط، إذ كانت قرعته هي الأولى في الهجوم بكونه يمثل السيد المسيح نفسه الخارج من سبط يهوذا، فقد جاء بعده في القرعة "بيت يوسف" إي سبطا إفرايم ومنسى. "يوسف" يعني "نمو"، و"إفرايم" يعني "ثمر متكاثر"، "منسى" أي "ينسى"، فإن كنا في المرحلة الأولى قد رأينا يهوذا يطلب من أخيه شمعون أن يخرجا معًا كأخوين متلازمين علامة إتحاد الإيمان بالاستماع للوصية أي بالعمل، ففي هذه المرحلة ينطلق يوسف أي النمو الروحي خلال عمل إفرايم مع منسى أي التمتع بثمر الروح مع نسيان محبة العالم. يهوذا اقتنى أورشليم أي رؤية السلام، وبيت يوسف أخذ مدينة بيت إيل أي بيت الله؛ فبالإيمان (يهوذا) ننعم برؤية السلام الإلهي الفائق داخلنا، وبالنمو الروحي (يوسف) نصير نحن أنفسنا بيت إيل أي مسكنًا مقدسًا لله. ليست هناك مدينة تحدث عنها الكتاب المقدس بعد أورشليم مثل بيت أيل، التي كانت تُدعى مدينة لوز؛ أول ما قدم إبراهيم أرض الموعد نصب خيمته في الأراضي المرتفعة قرب بيت إيل (تك 12: 8؛ 13: 3)، ولما هرب يعقوب من وجه عيسو متجهًا إلى ما بين النهرين بات في مكان قرب مدينة لوز، حيث شاهد السلم السماوي ودعا المدينة بيت إيل (تك 28: 11-19؛ 31: 13)، وللأسف عند انقسام المملكة أقام يربعام العجلين الذهبيين في بيت أيل (1 مل 12: 28-33) لذلك دعاها هوشع النبي "بيت آون" أي بيت الأصنام (هو 10: 5، 8)، فعوض تابوت العهد (القضاة 20: 27) الذي بارك المدينة وقدسها صارت مركزًا رئيسيًا للعبادة الوثنية في إسرائيل (عا 4: 4؛ 5: 5). أما كيف استولى بيت يوسف على بيت إيل فيقول الكتاب: "صعد بيت يوسف أيضًا إلى بيت إيل والرب معهم" [22]. لقد دخلوها خلال معية الله! لا نستطيع اقتحام بيت إيل أي بيت الله إلاّ بالله نفسه الذي يحملنا فيه إلى بيته، ويكشف لنا أسراره، ويمتعنا بحياته السماوية. ويروي لنا الكتاب المقدس طريقة الدخول إلى بيت إيل بقوله: أولًا: "واستكشف بيت يوسف عن بيت إيل" [23]، أي أرسل بيت يوسف مراقبين أو جواسيس يستكشفون أمرها، كما سبق فأرسل يشوع جاسوسين لمعرفة أسرار أريحا (يش 2: 1). إن كان يوسف يمثل السيد المسيح في جوانب كثيرة فإن بيت يوسف يمثل الكنيسة التي ترسل مراقبين أي خدامًا للكلمة يشهدون للحق ويفتتحون كل قلب لحساب مملكة الله، لتجعل منه بيت إيل الحقيقي. إن كانت النفس البشرية هي بيت يوسف الحقيقي، يليق بها ألاّ تكف عن استخدام كل طاقاتها وإمكانياتها كمراقبين عملهم تقديس الأعماق بالروح القدس، لكي يظهر القلب كبيت إيل، متحققًا فيه قول السيد المسيح: "ها ملكوت الله داخلكم" (لو 17: 21). وقول الرسول: "أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وأنكم لستم لأنفسكم؟!" (1 كو 6: 19). ثانيًا: ينطلق المراقبون إلى مدينة "لوز"، إذ قيل: "وكان اسم المدينة قبلًا لوز" [23]. لم يذكر اسم المدينة بلا هدف، فإن اللوز إنما يُشير إلى كلمة الله كقول الرب نفسه لأرميا (أر 1: 11-12). وكما يقول العلامة أوريجانوس: [إن اللوز يحمل قشرة خارجية تجف وتسقط، وله غلاف صلب يكسر، في داخله اللوز نفسه يؤكل. هكذا يرى أن كلمة الله أو الكتاب المقدس إذ فُسر حرفيًا يكون الإنسان قد أكل الغلاف المرّ الجاف، وإذا توقف عند التفسير السلوكي أو الأخلاقي يكون كمن اهتم بالغلاف الصلب، أما من يدخل إلى التفسير الروحي العميق فينعم باللوزة نفسها الشهية والنافعة]. أرسل بيت يوسف المراقبين ليتعرفوا على لوز ويدخلوا إليها فينعموا ببيت إيل، هكذا لا تستطيع النفس أن تصير بيتًا لله ما لم ترسل المراقبين إلى كلمة الله (لوز) وتتعرف على أسرار الكتاب المقدس لتنطلق بالروح القدس المراقب الحقيقي، القادر أن يدخل بها إلى أعماق مفاهيم أسراره الروحية. لقد انطلق داود النبي بالروح إلى لوز حين قال "ابتهج أنا بكلامك كمن وجد غنيمة وافرة" (مز 119: 162). ثالثًا: "فرأى المراقبون رجلًا خارجًا من المدينة، فقالوا له أرنا مدخل المدينة فنعمل معك معروفًا" [24]. من هو هذا الرجل الذي يعرف مدخل المدينة والذي قاد المراقبين إليها إلاّ جماعة اليهود الذين أؤتمنوا على كلمة الله وصارت إليهم النبوة، فقد دخلوا بالعالم إلى معرفة السيد المسيح وكشفوا للأمم "بيت إيل" ومداخلها لحقيقية، أما هم فذهبوا إلى أرض الحيثيين [26] وأقاموا لأنفسهم مدينة لوز حسب أهوائهم. إنهم كعمال فلك نوح الذي صنعوا الفلك لنوح وعائلته أما هم فلم يخلصوا. لقد عمل بيت يوسف معروفًا مع الرجل وعشيرته وأطلقوهم [25]، لكن عوض أن يدخلوا معهم المدينة ويشتركوا معهم في الميراث انطلقوا للحياة مع الحيثيين يشاركونهم جحودهم وعدم إيمانهم! ما صنعه الرجل مع بيت يوسف يفعله الكثيرون حتى اليوم، يقودون الآخرين إلى معرفة الحق وأما هم فلا يدخلون. هذا ما خشاه الرسول بولس لئلا يسقط فيه عندما قال: "أقمع جسدي وأستعبده حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1 كو 9: 27). وما خشاه القديس يوحنا الذهبي الفم على نفسه، إذ قال: [إني أسكب الدموع عندما أرى نفسي في كرسي فوق كراسي الآخرين، وعندما يُقدم ليّ احترام أكثر من غيري]. 27 وَلَمْ يَطْرُدْ مَنَسَّى أَهْلَ بَيْتِ شَانَ وَقُرَاهَا، وَلاَ أَهْلَ تَعْنَكَ وَقُرَاهَا، وَلاَ سُكَّانَ دُورَ وَقُرَاهَا، وَلاَ سُكَّانَ يِبْلَعَامَ وَقُرَاهَا، وَلاَ سُكَّانَ مَجِدُّو وَقُرَاهَا. فَعَزَمَ الْكَنْعَانِيُّونَ عَلَى السَّكَنِ فِي تِلْكَ الأَرْضِ. 28 وَكَانَ لَمَّا تَشَدَّدَ إِسْرَائِيلُ أَنَّهُ وَضَعَ الْكَنْعَانِيِّينَ تَحْتَ الْجِزْيَةِ وَلَمْ يَطْرُدْهُمْ طَرْدًا. 29 وَأَفْرَايِمُ لَمْ يَطْرُدِ الْكَنْعَانِيِّينَ السَّاكِنِينَ فِي جَازَرَ، فَسَكَنَ الْكَنْعَانِيُّونَ فِي وَسَطِهِ فِي جَازَرَ. 30 زَبُولُونُ لَمْ يَطْرُدْ سُكَّانَ قِطْرُونَ، وَلاَ سُكَّانَ نَهْلُولَ، فَسَكَنَ الْكَنْعَانِيُّونَ فِي وَسَطِهِ وَكَانُوا تَحْتَ الْجِزْيَةِ. 31 وَلَمْ يَطْرُدْ أَشِيرُ سُكَّانَ عَكُّو، وَلاَ سُكَّانَ صَيْدُونَ وَأَحْلَبَ وَأَكْزِيبَ وَحَلْبَةَ وَأَفِيقَ وَرَحُوبَ. 32 فَسَكَنَ الأَشِيرِيُّونَ فِي وَسَطِ الْكَنْعَانِيِّينَ سُكَّانِ الأَرْضِ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَطْرُدُوهُمْ. 33 وَنَفْتَالِي لَمْ يَطْرُدْ سُكَّانَ بَيْتِ شَمْسٍ، وَلاَ سُكَّانَ بَيْتِ عَنَاةَ، بَلْ سَكَنَ فِي وَسَطِ الْكَنْعَانِيِّينَ سُكَّانِ الأَرْضِ. فَكَانَ سُكَّانُ بَيْتِ شَمْسٍ وَبَيْتِ عَنَاةَ تَحْتَ الْجِزْيَةِ لَهُمْ. 34 وَحَصَرَ الأَمُورِيُّونَ بَنِي دَانَ فِي الْجَبَلِ لأَنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوهُمْ يَنْزِلُونَ إِلَى الْوَادِي. 35 فَعَزَمَ الأَمُورِيُّونَ عَلَى السَّكَنِ فِي جَبَلِ حَارَسَ فِي أَيَّلُونَ وَفِي شَعَلُبِّيمَ. وَقَوِيَتْ يَدُ بَيْتِ يُوسُفَ فَكَانُوا تَحْتَ الْجِزْيَةِ. 36 وَكَانَ تُخْمُ الأَمُورِيِّينَ مِنْ عَقَبَةِ عَقْرِبِّيمَ مِنْ سَالَعَ فَصَاعِدًا. قلنا أن كلمة "الكنعانيين" تعني "هياجًا"، لذا فاستبقاء الكنعانيين وسطهم من أجل الجزية وعدم طردهم [28-30، 33، إلخ.] إنما يُشير إلى انحراف القلب إلى محبة المال. فقد أعطانا الرب سلطانًا أن نطرد عنا كل هياج وكل تشويش روحي، لكن من أجل الجزية أي محبة العالم لا نطرده بل نستبقيه لنفعنا الزمني... الأمر الذي يحطم النفس هنا ويفقدها أبديتها هناك. مقدمة في لاهوتيات السفر إن كان صُلب السفر كله يحمل نغمة الذل والضيق فقد افتتح الوحيّ السفر بروح الغلبة والنصرة، على أدوني بازق والكنعانيين ليبث فينا روح الرجاء المفرح، والآن إذ تهاون الشعب في طاعة الرب انتقل ملاك الرب إلى بوكيم لينطلق بهم إلى البكاء بروح التوبة حتى إذ يضيق بهم الأمر جدًا يرسل لهم من ينقذهم خلال روح التوبة. 1. ملاك الرب في بوكيم: "1 وَصَعِدَ مَلاَكُ الرَّبِّ مِنَ الْجِلْجَالِ إِلَى بُوكِيمَ وَقَالَ: «قَدْ أَصْعَدْتُكُمْ مِنْ مِصْرَ وَأَتَيْتُ بِكُمْ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَقْسَمْتُ لآبَائِكُمْ، وَقُلْتُ: لاَ أَنْكُثُ عَهْدِي مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ. 2 وَأَنْتُمْ فَلاَ تَقْطَعُوا عَهْدًا مَعَ سُكَّانِ هذِهِ الأَرْضِ. اهْدِمُوا مَذَابِحَهُمْ. وَلَمْ تَسْمَعُوا لِصَوْتِي. فَمَاذَا عَمِلْتُمْ؟ 3 فَقُلْتُ أَيْضًا: لاَ أَطْرُدُهُمْ مِنْ أَمَامِكُمْ، بَلْ يَكُونُونَ لَكُمْ مُضَايِقِينَ، وَتَكُونُ آلِهَتُهُمْ لَكُمْ شَرَكًا». 4 وَكَانَ لَمَّا تَكَلَّمَ مَلاَكُ الرَّبِّ بِهذَا الْكَلاَمِ إِلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنَّ الشَّعْبَ رَفَعُوا صَوْتَهُمْ وَبَكَوْا. 5 فَدَعَوْا اسْمَ ذلِكَ الْمَكَانِ «بُوكِيمَ». وَذَبَحُوا هُنَاكَ لِلرَّبِّ." [1-5]. تقدم لنا هذه العبارات ملخصًا دقيقًا للاهوتيات السفر كله، وخطًا واضحًا لغايته. ويلاحظ في هذه العبارات الآتي: أولًاً: ملاك الرب المذكور هنا غالبًا ما يعني ظهورًا إلهيًا لكلمة الله كما يرى غالبية الدارسين. فكلمة الله الحيّ هو الذي قاد الشعب إلى الجلجال وهو الذي صعد بهم إلى بوكيم، بكونه واهب التوبة وقابلها. ثانيًا: صعود ملاك الرب من الجلجال إلى بوكيم يحمل مفهومًا لاهوتيًا عميقًا، فالجلجال كما رأينا في دراستنا لسفر يشوع هو أول معسكر للشعب بعد عبوره الأردن ودخوله كنعان، والاسم يعني "متدحرج" أو "دائرة"، جاء ليعلن عن دحرجه عار العبودية القديم (يش 5: 9)، وكأن عار العبودية لا يُنزع عنا إلاّ بدخولنا "دائرة الأبدية". وكان الجلجال مركزًا لعمليات يشوع، وفيه اختتن الشعب ثانية (يش 5: 9)، وظهر كموضع مقدس حتى أيام صموئيل النبي (1 صم 7: 16) وغالبًا ما كان به هيكل، كما صار مركزًا لعمليات شاول الحربية ضد عماليق إلخ... بمعنى آخر الجلجال إنما يعني مقدس القلب الداخلي الذي فيه يدير ربنا يسوع (يشوع) العمل الروحي، وفيه تتجلى الحياة السماوية (الختان الروحي الثاني)، وفيه تقدم ذبيحة شكر لله، وخلاله نصارع مع الشيطان (عماليق)... هذا المقدس يفارقه ملاك الرب معلنًا عصياننا وكسرنا للعهد المبرم مع الله، وينطلق بنا إلى بوكيم، فيتحول قلبنا إلى الندامة والبكاء حتى إذ نرجع إلى الله في أعماقنا نقدم ذبيحة روحية للرب [5]. ثالثًا: لخص ملاك الرب خطايانا في إعلانه أنه لن ينكث العهد معنا إلى الأبد وإذا بنا نتجاهل العهد الإلهي لنقيم عهدًا مع سكان هذه الأرض، أي مع الخطايا. فإن كان الله إلهًا غيورًا، إنما يريدنا في إتحاد معه على مستوى الإتحاد الزواجي، فكل إتحاد مع غيره (الخطايا) يُحسب زنى، بسببه ينحل عقد اتحادنا الزواجي معه. رابعًا: الله يقدس الحرية الإنسانية جدًا، فإذ نقيم العهد مع سكان هذه الأرض (الخطايا) يهبنا سؤال قلبنا فلا يطردهم من أمامنا... فيكونون مضايقين لنا، وهكذا جعل الله من تصرفاتنا الشريرة فرصة للتأديب. إنه لا يلزمنا بالتوبة، لكن ثمار خطايانا المرّة تضيق علينا فنرفع قلوبنا بكامل حريتنا لنرى الأذرع الأبدية مفتوحة لنا. على أي الأحوال فإن صعود ملاك الرب من الجلجال إلى بوكيم وحديثه معهم هو بمثابة إعلان عن العلاج قبل استعراض مرارة المرض. هكذا يتعامل الله معنا، إذ يفتح أمامنا أبواب الرجاء مقدمًا حتى متى سقطنا نذكر رحمته وننطلق بالروح القدس إلى بوكيم لنقدم ذبائح التوبة للرب في استحقاقات الدم الثمين. والآن إذ قدم العلاج بدأ يكشف عن ظهور المرض فتحدث عن عصر يشوع والشيوخ المرافقين له حيث شهد الكل أعمال الله العجيبة فلم ينحرفوا عن الإيمان، لكن الجيل التالي "لم يعرف الرب ولا العمل الذي عمل لإسرائيل" [10]. 6 وَصَرَفَ يَشُوعُ الشَّعْبَ، فَذَهَبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مُلْكِهِ لأَجْلِ امْتِلاَكِ الأَرْضِ. 7 وَعَبَدَ الشَّعْبُ الرَّبَّ كُلَّ أَيَّامِ يَشُوعَ، وَكُلَّ أَيَّامِ الشُّيُوخِ الَّذِينَ طَالَتْ أَيَّامُهُمْ بَعْدَ يَشُوعَ الَّذِينَ رَأَوْا كُلَّ عَمَلِ الرَّبِّ الْعَظِيمِ الَّذِي عَمِلَ لإِسْرَائِيلَ. 8 وَمَاتَ يَشُوعُ بْنُ نُونَ عَبْدُ الرَّبِّ ابْنَ مِئَةٍ وَعَشْرَ سِنِينَ. 9 فَدَفَنُوهُ فِي تُخْمِ مُلْكِهِ فِي تِمْنَةَ حَارَسَ فِي جَبَلِ أَفْرَايِمَ، شِمَالِيَّ جَبَلِ جَاعَشَ. 10 وَكُلُّ ذلِكَ الْجِيلِ أَيْضًا انْضَمَّ إِلَى آبَائِهِ، وَقَامَ بَعْدَهُمْ جِيلٌ آخَرُ لَمْ يَعْرِفِ الرَّبَّ، وَلاَ الْعَمَلَ الَّذِي عَمِلَ لإِسْرَائِيلَ. إذ سمع يشوع كلمات ملاك الرب في بوكيم ورأى الشعب يرفع صوته ويبكي لأنه عرف ما سيحل به أو بالأجيال المقبلة كثمرة لتهاونهم مع الأمم الوثنية، ذُبحت ذبائح للرب [5]، ثم صرف يشوع الشعب... "كل واحد إلى ملكه لأجل امتلاك الأرض" [6]، إي ذهب كل سبط ليملك ما قد تمتع به كنصيب له. يا لها من صورة حيَّة للكنيسة الحقيقية، إذ تجتمع معًا مع يشوع لتمارس التوبة الجماعية في بوكيم، وتقدم ذبيحة الرب بروح واحد جماعي، لكن كل واحد يملك نصيبه! كأن الحياة الكنسية هي حياة جماعية تمثل جسدًا واحدًا، لكن لكل عضو عمله وشركته الخاصة. بمعنى آخر لا تعني الحياة الجماعية تجاهل العمل الشخصي أو العلاقة الشخصية السرية التي تربط النفس بالله، كما أن العمل الشخصي لا يوقف الحياة الجماعية، بل هما متلازمان ومتكاملان غير منفصلين. إني أعرف الرب إلهي كرأس خاص بيّ "حبيبي ليّ وأنا له" (نش 2: 16)، ألتقي معه سريًا على مستوى شخصي، لكن كعضو في الجماعة المقدسة، فهو رأس الكنيسة (أف 1: 22) التي أنا عضو فيها. تحدث عن حال الشعب في عهد يشوع، قائلًا: "وعبد الشعب الرب كل أيام يشوع وكل أيام الشيوخ الذين طالت أيامهم بعد يشوع الذين رأوا كل عمل الرب العظيم الذي عُمل لإسرائيل" [7]. متى كان يشوع الحقيقي، يسوع المسيح، هو القائد للكنيسة والمحرك لها روحيًا يعبد الشعب الرب في حرارة الروح؛ ومتى تسلم الكنيسة شيوخ أي رعاة رأوا كل عمل الرب العظيم وتلامسوا مع صليبه تبقى الكنيسة ملتهبة بالروح، أما إن تسلمها رعاة ليس لهم شركة مع يشوع الحقيقي فينحرف الشعب عن عبادة الله الحقة. أخيرًا "مات يشوع بن نون عبد الرب ابن مئة وعشر سنين فدفنوه في تخم ملكه في تمنة حارس في جبل أفرايم شمالي جبل جاعش" [8-9]. إعلان موت يشوع والاهتمام بدفنه في تخم نصيبه إنما يكشف للشعب عن الإيمان بقيامة الجسد، الأمر الذي لم يكن يستطيع اليهود في ذلك الحين إدراكه تمامًا. دفن في المنطقة الجرداء التي اختارها لنفسه بعد التوزيع للأسباط إذ كان زاهدًا لا يطلب ما لنفسه بل ما هو للآخرين. إنه يدفن في أرض جرداء لينعم بالأرض الجديدة، أي الحياة الأبدية حيث فيض الغنى السماوي. دفن في "تمنة حارس" أو كما جاء في سفر يشوع "تمنة سارح" (يش 24: 30)، وقد اشتهرت المدينة بالاسمين، الأول تمنة حارس الذي يعني "نصيب الشمس"، والثاني تمنة سارح الذي يعني "نصيب مزدوج". ويرى الربانيون أنها دُعيت تمنة حارس بسبب وقوف الشمس في عهد يشوع، لذلك رسمت صورة الشمس على قبره. على أي الأحوال دفن يشوع في هذه المدينة ليكون نصيبه شمس البر، يسوع المسيح، أي مات على رجاء التمتع به، وبتمتعه بيسوع يحسب نفسه قد نال نصيبًا مزدوجًا أو وفيرًا. كانت هذه المدينة في جبل أفرايم شمالي جبل جاعش أي جبل الزلزلة، الذي يذكرنا بالزلزلة التي حدثت عند قيامة يشوع الحقيقي، كأن يشوع قد مات منتظرًا أن يكون "شمس البر" نفسه هو نصيبه المزدوج، به ينعم بالزلزلة للحياة القديمة ليتمتع بحياته المقامة من الأموات. 11 وَفَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ وَعَبَدُوا الْبَعْلِيمَ. 12 وَتَرَكُوا الرَّبَّ إِلهَ آبَائِهِمِ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَسَارُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى مِنْ آلِهَةِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ حَوْلَهُمْ، وَسَجَدُوا لَهَا وَأَغَاظُوا الرَّبَّ. 13 تَرَكُوا الرَّبَّ وَعَبَدُوا الْبَعْلَ وَعَشْتَارُوثَ. 14 فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ، فَدَفَعَهُمْ بِأَيْدِي نَاهِبِينَ نَهَبُوهُمْ، وَبَاعَهُمْ بِيَدِ أَعْدَائِهِمْ حَوْلَهُمْ، وَلَمْ يَقْدِرُوا بَعْدُ عَلَى الْوُقُوفِ أَمَامَ أَعْدَائِهِمْ. 15 حَيْثُمَا خَرَجُوا كَانَتْ يَدُ الرَّبِّ عَلَيْهِمْ لِلشَّرِّ، كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ وَكَمَا أَقْسَمَ الرَّبُّ لَهُمْ. فَضَاقَ بِهِمُ الأَمْرُ جِدًّا. 16 وَأَقَامَ الرَّبُّ قُضَاةً فَخَلَّصُوهُمْ مِنْ يَدِ نَاهِبِيهِمْ. 17 وَلِقُضَاتِهِمْ أَيْضًا لَمْ يَسْمَعُوا، بَلْ زَنَوْا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى وَسَجَدُوا لَهَا. حَادُوا سَرِيعًا عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي سَارَ بِهَا آبَاؤُهُمْ لِسَمْعِ وَصَايَا الرَّبِّ، لَمْ يَفْعَلُوا هكَذَا. 18 وَحِينَمَا أَقَامَ الرَّبُّ لَهُمْ قُضَاةً، كَانَ الرَّبُّ مَعَ الْقَاضِي، وَخَلَّصَهُمْ مِنْ يَدِ أَعْدَائِهِمْ كُلَّ أَيَّامِ الْقَاضِي، لأَنَّ الرَّبَّ نَدِمَ مِنْ أَجْلِ أَنِينِهِمْ بِسَبَبِ مُضَايِقِيهِمْ وَزَاحِمِيهِمْ. 19 وَعِنْدَ مَوْتِ الْقَاضِي كَانُوا يَرْجِعُونَ وَيَفْسُدُونَ أَكْثَرَ مِنْ آبَائِهِمْ، بِالذَّهَابِ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لِيَعْبُدُوهَا وَيَسْجُدُوا لَهَا. لَمْ يَكُفُّوا عَنْ أَفْعَالِهِمْ وَطَرِيقِهِمْ الْقَاسِيَةِ. 20 فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَقَالَ: «مِنْ أَجْلِ أَنَّ هذَا الشَّعْبَ قَدْ تَعَدَّوْا عَهْدِيَ الَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ آبَاءَهُمْ وَلَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِي، 21 فَأَنَا أَيْضًا لاَ أَعُودُ أَطْرُدُ إِنْسَانًا مِنْ أَمَامِهِمْ مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ تَرَكَهُمْ يَشُوعُ عِنْدَ مَوْتِهِ 22 لِكَيْ أَمْتَحِنَ بِهِمْ إِسْرَائِيلَ: أَيَحْفَظُونَ طَرِيقَ الرَّبِّ لِيَسْلُكُوا بِهَا كَمَا حَفِظَهَا آبَاؤُهُمْ، أَمْ لاَ». 23 فَتَرَكَ الرَّبُّ أُولئِكَ الأُمَمَ وَلَمْ يَطْرُدْهُمْ سَرِيعًا وَلَمْ يَدْفَعْهُمْ بِيَدِ يَشُوعَ. الآن إذ أُعلن موت يشوع على رجاء القيامة ومات الجيل الذي عاين أعمال الرب العظيمة "قام بعدهم جيل آخر لم يعرف الرب" [10]... وفي عبارات قليلة كشف بقية الأصحاح عن جوهر أحداث سفر القضاة ومعاملات الله مع الشعب في ذلك الحين، إذ قال: "وتركوا الرب إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر وساروا وراء آلهة أخرى من آلهة الشعوب الذين حولهم وسجدوا لها وأغاظوا الرب" [12]. لقد نسى الجيل الجديد أعمال الله محب البشر مع آبائهم وانسحب قلبهم إلى العبادات الوثنية من أجل ما تحمله من رجاسات وملذات جسديه طريقها سهل، فتركوا إله آبائهم ونقضوا عهده [20] وعبدوا البعليم والعشتاروت [13] فأغاظوا الرب الذي حمى غضبه عليهم [20]. ماذا تعني إغاظة الرب وما معنى حمو غضبه عليهم؟ الله ليس فيه انفعالات مثلنا لكنه حب مطلق، وفي حبه يضمنا إليه كعروس له، يغير علينا. يودنا أحباء وأبناء نسكن في حضنه، ويسكب حبه بلا حدود فينا. فإغاظته إنما تعني تهاوننا نحن في قبول حبه واستهتارنا بصداقته، أما غضبه فإشارة إلى سقوطنا تحت عدله الإلهي نجتني ثمر خطايانا... فيبدو الله كغاضب. إذ تركوا الله مصدر حياتهم وانطلقوا إلى العبادات الباطلة سقطوا في الباطل واجتنوا منها ثمر عملهم، وحرموا أنفسهم بأنفسهم من الرحمة الإلهية، ومع هذا فهو يسمح لهم بذلك حتى يضيق بهم الأمر جدًا [15]، عندئذ كان يقيم لهم قضاة يُخلصونهم من يد ناهبيهم [16]. وللأسف "عند موت القاضي كانوا يرجعون يفسدون أكثر من آبائهم..." [19]. هذه هي قصة سفر القضاة كله، بل هي قصة حياة الكثيرين منا، سرعان ما ننسى معاملات الله معنا لنسلك حسب أهوائنا وإذ نخضع لثمر شرنا نصرخ فيُنجي، لنعود مرة أخرى فننسى الرب ونتعدى عهده! أما عبادة البعل فكانت تُقدم للإله الكنعاني "بعل" وجمعه "بعليم"، ومعناه "سيد" أو "رب" أو "زوج". وكانت زوجته الإلهة عشتاروت. هو إله الخصب ورب المزارع والمهتم بالحيوانات إله الشمس، وهي إلهة القمر. لذا كانت النساء يعجن لها فطيرًا (أر 7: 18) يُرسم عليه صورة القمر. وكان المتعبدون لها يحسبون البعل أبًا لهم وعشتاروت أمًا، وكانوا يُقدمون لهما من أطفالهم ذبائح ومحرقات. إذ كانت بعض الأصنام تصنع من النحاس مجوفة، يوقدون تحتها النيران ومتى احمرت جدًا وتوهجت تلقي الأم رضيعها على يديه المتوهجتين وتُضرب الطبول حتى لا تُسمع صرخات الرضيع وهو يحترق! وكان للبعل كهنة كثيرون يخدعون الناس بسحرهم وشعوذتهم، كما وُجدت أحيانًا كاهنات هن نساء وبنات يقدمن أنفسهن للزنى والرجاسات كجزء من العبادة وطقسٍ من طقوسها (هو 4: 14). هذا وقد انتشرت عبادة البعليم في الشرق بصورة متسعة حتى صار لبعض البلاد بعل خاصٍ بها مثل بعل فغور، وبعل زبوب إلخ.. عثنيئيل بن قناز بعد المقدمة السابقة [قض 1، 2] بدأ بصُلب السفر يعلن انحراف الشعب المتكرر وسقوطهم تحت الضيق وإرسال الله قضاة لإنقاذهم: 1. انحراف الشعب: 1 فَهؤُلاَءِ هُمُ الأُمَمُ الَّذِينَ تَرَكَهُمُ الرَّبُّ لِيَمْتَحِنَ بِهِمْ إِسْرَائِيلَ، كُلَّ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا جَمِيعَ حُرُوبِ كَنْعَانَ 2 إِنَّمَا لِمَعْرِفَةِ أَجْيَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِتَعْلِيمِهِمْ الْحَرْبَ. الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوهَا قَبْلُ فَقَطْ: 3 أَقْطَابُ الْفِلِسْطِينِيِّينَ الْخَمْسَةُ، وَجَمِيعُ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالصِّيْدُونِيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ سُكَّانِ جَبَلِ لُبْنَانَ، مِنْ جَبَلِ بَعْلِ حَرْمُونَ إِلَى مَدْخَلِ حَمَاةَ. 4 كَانُوا لامْتِحَانِ إِسْرَائِيلَ بِهِمْ، لِكَيْ يُعْلَمَ هَلْ يَسْمَعُونَ وَصَايَا الرَّبِّ الَّتِي أَوْصَى بِهَا آبَاءَهُمْ عَنْ يَدِ مُوسَى. 5 فَسَكَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، 6 وَاتَّخَذُوا بَنَاتِهِمْ لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً، وَأَعْطُوا بَنَاتِهِمْ لِبَنِيهِمْ وَعَبَدُوا آلِهَتَهُمْ. 7 فَعَمِلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَنَسُوا الرَّبَّ إِلهَهُمْ وَعَبَدُوا الْبَعْلِيمَ وَالسَّوَارِيَ. "فهؤلاء هم الأمم الذين تركهم الرب ليمتحن بهم إسرائيل كل الذين لم يعرفوا جميع حروب كنعان، إنما لمعرفة أجيال بني إسرائيل لتعليمهم الحرب" [1-2] يبدأ صُلب السفر بتقديم بيان عن الأمم الذين تركهم الرب لامتحان إسرائيل، حتى تتدرب الأجيال الجديدة كيف تحارب، وهنا نلاحظ أن الإسرائيليون قد تهاونوا في طرد الأمم، فسمح الله ببقائهم في وسطهم، ليكونوا أداة لتدريب الأجيال على الحرب، لا بالمفهوم العام للتدريب العسكري، إنما ليختبروا كيف يغلبون وينتصرون خلال الحياة التقوية والاتكال على الرب، فيرون أعماله معهم لنصرتهم، هكذا يخرج الله حتى من ضعفاتنا خيرًا! يعلق الأب دانيال على هذه العبارة، قائلًا: [ترك الأمم لا لينزع سلام الشعب ولا ليصيبهم ضرر، إنما لعلمه أن في هذا خيرهم. فإذ يضايقهم الأمم بالهجوم يشعرون باحتياجهم إلى العناية الإلهية. لهذا يستمرون متطلعين إلى الله، طالبين معونته، ولا يتهاونون في كسل ولا يفقدون فضيلة الاحتمال والعمل، مجاهدين في الفضيلة]. قدم بيانًا بأسماء هؤلاء الأمم: أولًا: أقطاب (أمراء) الفلسطينيين الخمسة، وهم حكام المدن الفلسطينية الرئيسية الخمس: جت وأشدود وغزة وأشقلون وعقرون. كان الفلسطينيون في ذلك الحين شعبًا عظيمًا ذا بأس، ومدنهم حصينة، احتكروا صناعة الآلات والأسلحة الحديدية (1 صم 13: 19-21). بعد موت يشوع أخذ يهوذا غزة وأشقلون وعقرون (قض 1: 18)، وضرب شمجر 600 رجلًا منهم بمنساس البقر (قض 3: 31)، إلاّ أن الفلسطينيين استردوا هذه البلاد وسقط العبرانيون في قبضتهم (قض 10: 6-7)... وصارت هناك عداوة مستمرة بين بني إسرائيل والفلسطينيين. ثانيًا: جمع الكنعانيين، والصيدونيين، والحويين سكان جبل لبنان والحيثيين، والأموريين والفرزيين واليبوسيين (سكان أورشليم أو يبوس). أما علامة الانحراف فهي: "اتخذوا بناتهم لأنفسهم نساءً وأعطوا بناتهم لبنيهم وعبدوا آلهتهم" [6]. هذه هي العلامة المزدوجة: الارتباط بغير المؤمنين خلال العلاقة الزوجية، وعبادة الآلهة الغريبة، والعجيب أنه يبدأ بذكر الزواج بغير المؤمنين قبل عبادة الآلهة الأخرى، لأن الأولى هي العلة والسبب والثانية هي ثمرة طبيعية للإنسان الشهواني الذي يقبل الزواج خارج دائرة الإيمان، لهذا يحذرنا الرسول، قائلًا: "لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنه أية خلطة للبر والإثم؟! وأية شركة للنور مع الظلمة؟! وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟! وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن؟!" (2 كو 6: 14-15). 8 فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ، فَبَاعَهُمْ بِيَدِ كُوشَانَ رِشَعْتَايِمَ مَلِكِ أَرَامِ النَّهْرَيْنِ. فَعَبَدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ كُوشَانَ رِشَعْتَايِمَ ثَمَانِيَ سِنِينَ. إذ ارتبطوا مع الأمم خلال علاقات زوجية سقطوا معهم في عبادتهم للبعليم والسواري (أعمدة تقام كتماثيل للآلهة)، ولهذا باعهم الرب لكوشان رشعتايم ملك آرام النهرين، لمدة ثمان سنوات [8]. "كوشان" اسم سامي يعني "يختص بكوش"، و"رشعتايم" تعني "ذي الشرين"، فإن كان الشعب قد ارتكب شرًا مزدوجًا: الزواج بأُمميات، وعبادة الأوثان؛ لهذا أسلمهم للملك (ذي الشرين) ليكون علة تأديبهم لمدة ثمان سنوات بالكيل الذي به يكيلون يُكال لهم! 9 وَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ، فَأَقَامَ الرَّبُّ مُخَلِّصًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَخَلَّصَهُمْ، عُثْنِيئِيلَ بْنَ قَنَازَ أَخَا كَالِبَ الأَصْغَرَ. 10 فَكَانَ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، وَقَضَى لإِسْرَائِيلَ. وَخَرَجَ لِلْحَرْبِ فَدَفَعَ الرَّبُّ لِيَدِهِ كُوشَانَ رِشَعْتَايِمَ مَلِكَ أَرَامَ، وَاعْتَزَّتْ يَدُهُ عَلَى كُوشَانِ رِشَعْتَايِمَ. 11 وَاسْتَرَاحَتِ الأَرْضُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَمَاتَ عُثْنِيئِيلُ بْنُ قَنَازَ. "وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب، فأقام الرب مخلصًا لبني إسرائيل فخلصهم: عثنيئيل بن قناز أخو كالب الأصغر. فكان عليه روح الرب وقضى لإسرائيل، وخرج للحرب فدفع الرب ليده كوشان رشعتايم ملك آرام واعتزت يده على كوشان رشعتايم، واستراحت الأرض أربعين سنة" [9-11]. اختيار عثنيئيل قاضيًا لم يأتِ جُزافًا، فقد أراد الله أن يكون أول القضاة ليعلن أن سرّ الغلبة والخلاص يكمن في الله نفسه، إذ كلمة عثنيئيل تعني "استجابة الله" أو "قوة الله". فما يتحقق من خلاص لا يتم بقوة بشرية إنما هو إستجابة الرب الذي يسمع صرخات أولاده ويعمل فيهم بقوته الإلهية. عثنيئيل هذا استولى على قرية سفر (كتاب) وتزوج بعكسة أبنة كالب أخيه (يش 15: 15-19؛ قض 1: 13-15). فهو يمثل الإنسان الروحي الذي ملك قرية الكتاب أي تعرّف على إسرار كلمة الله بطريقة روحية في حياة تقوية، فتأهل لخدمة الرب، وأمكنه أن يغلب كوشان رشعتايم أي يغلب الشر المزدوج الذي استعبد البشرية، وبه تستريح الأرض أربعين سنة. بمعنى آخر التمتع بكلمة الله هو طريق الغلبة على الشر وتحطيم سلطانه واستعباده كما هو طريق الراحة الحقة بنزع العار والذل. في هذا يقول المرتل: "دحرج عني العار والإهانة لأني حفظت شهاداتك" (مز 119: 22). ويؤكد الكتاب المقدس أن سرّ القوة في عثنيئيل: "كان عليه روح الرب" [10]، معلنًا أن فضل القوة لروح الرب الحالّ عليه وليس في ذاته. إذن في أول القضاة أعلن الله قوته واستجابته لصلوات شعبه خلال اسمه "عثنيئيل" وأظهر أنه رجل الكتاب خلال تصرفاته "استولى على قرية سفر" وأكد أن روح الرب حالّ عليه ويقوده ويرشده. ما أحوج الكنيسة في كل عصر إلى مثل عثنيئيل الذي يأتي مدعوًا من الله، يحمل قوته وروحه، مفصلًا كلمة الحق باستقامة! به استراحت الأرض أربعين سنة [11]؛ فإن كانت الأرض تُشير إلى الجسد ورقم 40 يُشير إلى الحياة الزمنية المطوّبة، فانه إذ حملنا في داخلنا نفسًا تسلك كهذا القاضي بروح الرب وتنعم بكلمة الله يستريح جسدنا في الرب ويكون مقدسًا في عينيه كل أيام زماننا. ليكن عثنيئيل قائدًا في داخلنا فنستريح ونمتلئ سلامًا فائقًا! 4. إقامة إهود قاضيًا: 12 وَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، فَشَدَّدَ الرَّبُّ عِجْلُونَ مَلِكَ مُوآبَ عَلَى إِسْرَائِيلَ، لأَنَّهُمْ عَمِلُوا الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ. 13 فَجَمَعَ إِلَيْهِ بَنِي عَمُّونَ وَعَمَالِيقَ، وَسَارَ وَضَرَبَ إِسْرَائِيلَ، وَامْتَلَكُوا مَدِينَةَ النَّخْلِ. 14 فَعَبَدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عِجْلُونَ مَلِكَ مُوآبَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. 15 وَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ، فَأَقَامَ لَهُمُ الرَّبُّ مُخَلِّصًا إِهُودَ بْنَ جِيرَا الْبَنْيَامِينِيَّ، رَجُلًا أَعْسَرَ. فَأَرْسَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِيَدِهِ هَدِيَّةً لِعِجْلُونَ مَلِكِ مُوآبَ. 16 فَعَمِلَ إِهُودُ لِنَفْسِهِ سَيْفًا، ذَا حَدَّيْنِ طُولُهُ ذِرَاعٌ، وَتَقَلَّدَهُ تَحْتَ ثِيَابِهِ عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى. 17 وَقَدَمَّ الْهَدِيَّةَ لِعِجْلُونَ مَلِكِ مُوآبَ. وَكَانَ عِجْلُونُ رَجُلًا سَمِينًا جِدًّا. 18 وَكَانَ لَمَّا انْتَهَى مِنْ تَقْدِيمِ الْهَدِيَّةِ، صَرَفَ الْقَوْمَ حَامِلِي الْهَدِيَّةِ، 19 وَأَمَّا هُوَ فَرَجَعَ مِنْ عِنْدِ الْمَنْحُوتَاتِ الَّتِي لَدَى الْجِلْجَالِ وَقَالَ: «لِي كَلاَمُ سِرّ إِلَيْكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ». فَقَالَ: «صَهْ». وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ جَمِيعُ الْوَاقِفِينَ لَدَيْهِ. 20 فَدَخَلَ إِلَيْهِ إِهُودُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي عُلِّيَّةِ بُرُودٍ كَانَتْ لَهُ وَحْدَهُ. وَقَالَ إِهُودُ: «عِنْدِي كَلاَمُ اللهِ إِلَيْكَ». فَقَامَ عَنِ الْكُرْسِيِّ. 21 فَمَدَّ إِهُودُ يَدَهُ الْيُسْرَى وَأَخَذَ السَّيْفَ عَنْ فَخْذِهِ الْيُمْنَى وَضَرَبَهُ فِي بَطْنِهِ. 22 فَدَخَلَ الْقَائِمُ أَيْضًا وَرَاءَ النَّصْلِ، وَطَبَقَ الشَّحْمُ وَرَاءَ النَّصْلِ لأَنَّهُ لَمْ يَجْذُبِ السَّيْفَ مِنْ بَطْنِهِ. وَخَرَجَ مِنَ الْحِتَارِ. 23 فَخَرَجَ إِهُودُ مِنَ الرِّوَاقِ وَأَغْلَقَ أَبْوَابَ الْعِلِّيَّةِ وَرَاءَهُ وَأَقْفَلَهَا. 24 وَلَمَّا خَرَجَ، جَاءَ عَبِيدُهُ وَنَظَرُوا وَإِذَا أَبْوَابُ الْعِلِّيَّةِ مُقْفَلَةٌ، فَقَالُوا: «إِنَّهُ مُغَطّ رِجْلَيْهِ فِي مُخْدَعِ الْبُرُودِ». 25 فَلَبِثُوا حَتَّى خَجِلُوا وَإِذَا هُوَ لاَ يَفْتَحُ أَبْوَابَ الْعِلِّيَّةِ. فَأَخَذُوا الْمِفْتَاحَ وَفَتَحُوا وَإِذَا سَيِّدُهُمْ سَاقِطٌ عَلَى الأَرْضِ مَيْتًا. 26 وَأَمَّا إِهُودُ فَنَجَا، إِذْ هُمْ مَبْهُوتُونَ، وَعَبَرَ الْمَنْحُوتَاتِ وَنَجَا إِلَى سِعِيرَةَ. 27 وَكَانَ عِنْدَ مَجِيئِهِ أَنَّهُ ضَرَبَ بِالْبُوقِ فِي جَبَلِ أَفْرَايِمَ، فَنَزَلَ مَعْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنِ الْجَبَلِ وَهُوَ قُدَّامَهُمْ. 28 وَقَالَ لَهُمُ: «اتْبَعُونِي لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ دَفَعَ أَعْدَاءَكُمُ الْمُوآبِيِّينَ لِيَدِكُمْ». فَنَزَلُوا وَرَاءَهُ وَأَخَذُوا مَخَاوِضَ الأُرْدُنِّ إِلَى مُوآبَ، وَلَمْ يَدَعُوا أَحَدًا يَعْبُرُ. 29 فَضَرَبُوا مِنْ مُوآبَ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ نَحْوَ عَشَرَةِ آلاَفِ رَجُل، كُلَّ نَشِيطٍ، وَكُلَّ ذِي بَأْسٍ، وَلَمْ يَنْجُ أَحَدٌ. 30 فَذَلَّ الْمُوآبِيُّونَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ تَحْتَ يَدِ إِسْرَائِيلَ. وَاسْتَرَاحَتِ الأَرْضُ ثَمَانِينَ سَنَةً. في المرة الأولى باعهم الرب لكوشان رشعتايم ملك أرام لمدة ثمان سنوات، أما الآن إذ رجعوا إلى الشر فسلمهم لعجلون ملك موآب لمدة ثماني عشر سنة حتى يتأدبوا بالأكثر... إننا إذ نكرر السقوط لا يقسو الرب علينا وإنما كطبيب يقدم دواءً أكثر فاعلية حتى وإن بدا أكثر مرارة لشفائنا. "عجلون" تعني (عجل سمين) أو (مثل العجل)، كناية عن قوته وغضبه الوحشي، هذا بجانب أنه كان رجلًا سمينا جدًا [17]. "شدد الرب عجلون" [12]، لا بمعنى أنه ألقى القسوة في قلبه، إنما رفع يده الإلهية التي كانت تعوقه عن طبيعته الوحشية نحو اليهود، فتشدد للحرب مستعينًا ببني عمون، إذ كان بنو موآب وبنو عمون متجاورين، أرض موآب شرقي القسم الجنوبي من بحر لوط وبنو عمون إلى جهة الشرق منهم؛ كما تحالف أيضًا مع عماليق وهم قبائل بدوية متوحشة حملوا عداوة لإسرائيل ظهرت أثناء عبور الأخير في البرية (خر 17: 8؛ عد 13: 29؛ 14: 25). تحالف الثلاثة معًا وضربوا إسرائيل بالسيف وامتلكوا أريحا "مدينة النخل" [13]. إن كان "الصديق كالنخلة يزهو" (مز 92: 12)، فالكنيسة هي مدينة النخل، إن تركت إلهها وانحرفت إلى العالم تسايره في حياته وأفكاره يسمح الله بتأديبها بموآب وعمون والعمالقة ولكن إلى حين حتى تتأدب وترجع إليه. وما أقوله عن الكنيسة هنا أقصد الكنيسة على مستوى القلب (المؤمن) أو على مستوى كنيسة البيت أو العائلة أو جماعة المؤمنين في بلد أو آخر إلخ... إن العدو لا يقدر أن يقترب إلى مدينة النخيل ما دام ليس له موضع فيها، لكن إن حملت مدينة النخيل سمات الأمم الوثنية تنحني بالعبودية لهم وتنكسر أمامهم، ويسلمها الرب لهم حتى تصرخ لتتقدس به وتنزع الآلهة الغريبة عنها، بمعنى آخر لا يستطيع عجلون وحلفاؤه أن يدخلوا إلى حياتك ويسيطروا على قلبك وفكرك ما دام ليس لهم موضع فيك، لكن إن قبلت أفكارهم أو مارست عباداتهم أو سلكت حسب هواهم تتفتح أبواب قلبك أمامهم ليدخلوا ويملكوا عوض الرب! إذ صرخ إسرائيل بعد ثمان عشرة سنة: "أقام لهم الرب مخلصًا أهود بن جيرا البنياميني رجلًا أعسر" [15]. يرى البعض أن كلمة أهود اختصار لكلمة "أبيهود" التي تعني (أبي مجد أو جلال) بينما يرى آخرون أن أهود تعني (متحد). فإن كان القاضي الأول يُدعى "إستجابة الله أو قوته"، بكونه ثمرة الصراخ والطلبة لله القدير، فإننا هنا نجد القاضي يعني (أبي المجد أو جلال)، وكأنه ثمرة أبينا السماوي الذي يغير على مجده وجلاله فينا فيرسل لنا خلاصًا من عندياته؛ أو يعني (متحد) إذ ننعم بالخلاص خلال إتحادنا مع الله في ابنه يسوع المخلص الحقيقي. كان أهود رجلًا أعسرًا أي يعمل بيده اليسرى، وقد جاء الأصل العبري بمعنى أنه (رجل مغلق اليد اليمنى) أما الترجمات الأخرى فتعني أنه يعمل بيده اليسرى بمنزلة اليمنى. يقول المؤرخ يوسيفوس أن أهود كان ماهرًا في استعمال يده اليسرى تكمن فيها كل قوته. وفي مناظرات القديس يوحنا كاسيان قدم لنا الأب تادرس مفهوما روحيًا لاستخدام اليد اليسرى، إذ يقول: [(الرجل الكامل) يشبه في الكتاب المقدس بالأشول... يستخدم يده اليسرى كما لو كانت اليمنى. ويمكننا أن ننال هذه القوة باستخدامنا الأشياء السارة استخدامًا سليمًا ومفيدًا، هذه التي هي لليمين، واستخدامنا الأشياء المؤلمة التي هي لليسار استخدامًا حسنًا "سلاحًا للبر" كقول الرسول: الإنسان الداخلي له جانبان، أو بمعنى آخر "يدان"، فلا يستطيع أي قديس أن يعمل من غير أن يستعمل يده اليسرى وبهذا يظهر كمال الفضيلة. فالإنسان الماهر يقدر أن يحوّل كل يد له إلى "يد يمينية"... أستطيع أيضًا أن أقول بأن يوسف كان رجلًا أشولًا، ففي أفراحه كان عزيزًا جدًا عند والديه، محبًا لإخوته، مقبولًا لدى الله؛ وفي ضيقاته كان عفيفًا، مؤمنا بالله، وفي سجنه كان أكثر شفقة على المسجونين، متسامحًا مع المخطئين، صافحًا عن أعدائه... إن هؤلاء الرجال (أيوب ويوسف وغيرهما) وأمثالهم بحق يُدعى كل منهم رجلًا أشول، إذ يقدرون أن يستخدموا كل يد لهم كأيدٍ يمينية، قائلين بحق: "بسلاح البر لليمين ولليسار، بمجد وهوان، بصيت رديء وصيت حسن..." (2 كو 6: 7-8). ويتحدث سليمان في سفر نشيد الأنشاد عن اليد اليمنى واليد اليسرى في شخص العروس، قائلًا: "شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني" (نش 2: 6). وبينما يظهر أن كليهما مفيد إلاَّ أنها تضع إحداهما تحت الرأس لأنه ينبغي أن تخضع الضيقات لمراقبة القلب فتصير نافعة لأنها تهذبنا إلى حين، وتؤدبنا لأجل خلاصنا، وتهبنا الكمال في الصبر. أما اليمينية فتأمل أن تلتصق بها لكي ما تلاطفها فتنال المعانقة المباركة التي للعريس، وفي النهاية تضمها إليه. وهكذا يُحسب كل منا "أشول" عندما لا يؤثر فينا الرجاء ولا العوز. فلا يغوينا الرخاء ولا يدفع بنا نحو الإهمال الخطير، كذلك لا يجذبنا العوز إلى اليأس والشكوى (التذمر) بل نقدم الشكر الله في كل شيء] نعود إلى هذا القاضي لنجده يحمل سيفًا ذا حدين تقلده تحت ثيابه على فخذه اليمنى ليقتل به عجلون ملك موآب بعد أن يقدم له هدية يحملها كثير من الرجال؛ يقتله بعد أن يصرف الرجال حاملي الهدية ويتصرف معهم، ليعود ويلتقي مع الملك على إنفراد في علية برود، وهي علية خاصة بعجلون في أعلى القصر يجلس فيها كمظلة صيفية ليتبرد من الحرّ. قتله أهود بالسيف في عقر داره ومكان أمانه بعد أن قام عجلون عن كرسيه ليعود فيسقط على الأرض في دمائه ولا يجلس على كرسيه بعد. ترك أهود السيف في بطن عجلون ولم يسحبه وانطلق من الرواق وأغلق أبواب العلية على القتيل. وإذ خرج العبيد ورأوا الأبواب مغلقة قالوا: إنه مغطٍ رجليه في مخدع البرود، وهو تعبير متأدب عن دخوله إلى المرحاض... وإذ طال انتظارهم خجلوا، فأخذوا المفتاح وفتحوا ليجدوه قتيلًا على الأرض. وإذ هرب أهود جمع بني إسرائيل في جبل أفرايم وأعلن أن الرب دفع إليهم أعداءهم، فنزلوا وراءه وأخذوا مخاوض الأردن إلى موآب وتمكنوا من قتل نحو عشرة آلاف رجل كل نشيط وكل ذي بأس ولم ينج أحد. هذه القصة كما عرضتها في اختصار شديد تحمل صورة رمزية رائعة لعمل المخلص الحقيقي يسوع المسيح خلال الصليب، إذ نرى فيها الآتي: أولًا: اسم المخلص أو القاضي "أهود" وقلنا أنه يعني (أبي مجد أو جلال)، كما تعني (متحد)، ففي المسيح يسوع المخلص الحقيقي تمجد الآب كقول السيد في ليلة آلامه: "مجّد ابنك ليمجدك ابنك أيضًا... أنا مجدتك على الأرض" (يو17: 1، 4). كيف مجّد الابن الآب؟ يقول القديس أغسطينوس: [إذ تمجد الابن خلال قيامته بواسطة الآب، مجّد هو الآب بالكرازة بقيامته]، وكما يقول: [تحقق هذا بإنجيل المسيح بمعنى أن الآب صار معروفًا للأمم خلال الابن وبهذا مجّد الابن الآب]، [يمجدك الابن، بمعنى إنك تصير معروفًا لكل جسد أنت أعطيته إياه]. هكذا خلال الصليب مات الابن بالجسد فمجده الآب بقيامته، ومجّد الابن الآب خلال الكرازة بالقيامة وسحب قلب الأمم إلى خبرة معرفة الآب. إما المعنى الثاني لكلمة أهود أي (المتحد)، فإن هذا الاسم ينطبق على السيد المسيح بطريقة فريدة إذ هو واحد مع أبيه. وقد جاء إلى الصليب لكي يجعلنا نحن أيضًا متحدين معًا فيه، ففي صلاته الوداعية يقول: "أيها الآب القدوس إحفطهم في اسمك، الذين أعطيتني ليكونوا واحدًا كما نحن... ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا" (يو 17: 11، 21). ثانيًا: يظهر أهود حاملًا سيفًا ذا حدين تقلده على فخذه اليمنى ليقتل به عجلون، وكأنه بالسيد المسيح الذي قيل عنه: "تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار جلالك وبهاءك" (مز 45: 3). وكما يقول القديس أغسطينوس: [ماذا يعني بقوله "سيفك" إلاَّ "كلمتك"؟! فهذا السيف بدد أعداءه، وبهذا السيف انقسم الابن ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنّة ضد حماتها. نسمع في الإنجيل: "ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا" (مت 10: 34)... إن أراد أحد الشبان أن يكرس حياته لخدمة الله فيقاومه أبوه يصيران منقسمين ضد بعضهما البعض. فالواحد يعد بالميراث الأرضي والآخر يحب السماوي؛ واحد يعد بشيء والآخر يطلب شيئًا آخر. لا يظن الأب أنه مخطئ مع أنه يجب أن يُفضَل الله عنه]. هكذا تقدم السيد المسيح بسيفه أي وصيته على فخذه أي على جسده، إذ جاءنا متجسدًا يتحدث معنا وجهًا لوجه. يصف سفر القضاة سيف أهود بأنه ذو حدين، وكما يحدثنا الرسول بولس عن كلمة الله أنها كسيف ذي حدين (عب 4: 12)، بالحد الأول يعمل في قلب الكارز وبالثاني في قلوب المستمعين، إذ كلمة الله تعمل في الرعاة والرعية كسيف يبتر الشر ويعزله حتى يُقدَم القلب نقيًا للرب. ثالثًا: أخذ أهود لعجلون هدية يحملها قوم من عنده، وكأنه السيد المسيح الذي قبل الصليب فرأى الشيطان في ذلك العمل هدية له، عملًا مفرحًا به يتخلص من السيد. وقد حمل سمعان القيرواني مع السيد صليبه، وكأنه كان حاملًا معه للهدية. عند قتل عجلون كان أهود وحده، إذ اجتاز السيد المسيح المعصرة وحده ولم يكن معه أحد من الشعوب كما قيل بإشعياء النبي (إش 63: 3). رابعًا: كان عجلون في علية برود كمن يستجم من الحرّ، وهكذا التقى السيد المسيح مع عدو الخير خلال الصليب حين ظن العدو أنه كمن يستجم من نيران كرازة المسيح وحرارة أعماله الفائقة، فبينما كان يظن في نفسه أن يستريح إذا به يُقتل. خامسًا: قتل أهود عجلون بعد أن قام من كرسيه الملكي، فسقط على الأرض قتيلًا، وكأنه إبليس الذي فقد سلطانه (كو 2: 15) وسقط من السماء كالبرق (لو 10: 18). سادسًا: أغلق أهود على عجلون القتيل الباب حتى لا يفتحه إلاَّ خدامه أو عبيده، وهكذا إذ نزع الرب عن إبليس بالصليب سلطانه جعله كقتيل ليس من يلتقي به إلاّ من أراد أن يكون له خادمًا وعبدًا. رجوع الإنسان إلى مملكة إبليس إنما يتحقق بمحض إرادة الإنسان، إذ لا يحمل إبليس سلطانًا عليه يلزمه بالخضوع له. هذا ما أكده القديس يوحنا الذهبي الفم في كثير من مقالاته. سابعًا: بعد قتل عجلون على يدّي أهود، قتل الشعب عشرة آلاف جبار بأس من الموآبيين، فإن كان إبليس قد تحطم تمامًا على يدي السيد المسيح على الصليب، فإن عمل الكنيسة، شعب المسيح، ألاَّ تبقي شيئًا من أعمال إبليس داخل قلبنا. السيد المسيح غلب لحسابنا وخلص البشرية، لكي لا يتوقف المؤمنون به عن الجهاد الروحي ضد الخطية -أعمال إبليس وجنوده- حتى النهاية. 31 وَكَانَ بَعْدَهُ شَمْجَرُ بْنُ عَنَاةَ، فَضَرَبَ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ سِتَّ مِئَةِ رَجُل بِمِنْسَاسِ الْبَقَرِ. وَهُوَ أَيْضًا خَلَّصَ إِسْرَائِيلَ. قام شمجر بعد أهود، ولا يعني هذا أن أهود قد مات، إذ يرى البعض أن شمجر حارب في أيام أهود وكان عمله محليًا. ربما لم يجد شمجر آله للحرب فاستخدم منساس بقر، وهي أشبه بعصا في طرفها حديدة حادة تستخدم في رعاية البقر. على أي الأحوال الله يعمل بالقليل كما بالكثير. إنه يستخدمنا للعمل الروحي حتى وإن كنا لا نملك من المواهب والطاقات إلاّ منساس بقر. في كل عصر يبرز الرب دور النساء الإيجابي حتى لا يعشن في حياة سلبية بل يقمن بدورهن وسط الجماعة، وقد فاقت دبورة النبية والقاضية الكثير من القضاة أنفسهم. 1. سقوط إسرائيل في الشر: 1 وَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ بَعْدَ مَوْتِ إِهُودَ، 2 فَبَاعَهُمُ الرَّبُّ بِيَدِ يَابِينَ مَلِكِ كَنْعَانَ الَّذِي مَلَكَ فِي حَاصُورَ. وَرَئِيسُ جَيْشِهِ سِيسَرَا، وَهُوَ سَاكِنٌ فِي حَرُوشَةِ الأُمَمِ. 3 فَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ، لأَنَّهُ كَانَ لَهُ تِسْعُ مِئَةِ مَرْكَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَهُوَ ضَايَقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِشِدَّةٍ، عِشْرِينَ سَنَةً. عاد إسرائيل يعمل الشر في عيني الرب فباعهم بيد يابين ملك كنعان الذي ملك في عاصمة الكنعانيين "حاصور" وكان رئيس جيشه سيسرا ساكنًا في حروشة الأمم، وبقي إسرائيل في ضيق شديد لمدة عشرين عامًا. كلمة "حاصور" تعني (حظيرة) كما تعني (محاط بسور) إذ كانت بمثابة حصن، تقع قرب بحيرة ميروم، المعروفة الآن ببحيرة الحولة (يش 11: 1-5). مدينة حاصور تعرف اليوم بتل القدح وربما حضيرة أو خربة صرة. أما "يابين" فغالبًا ما كان لقبًا لملوك كنعان كفرعون لملوك مصر؛ أما سيسرا رئيس جيشه فيرى القديس أغسطينوسأنه يعني (الخروج من الفرح)(47). إذ تكرر شر إسرائيل باعهم للتأديب بواسطة "سيسرا" أي بفقدان الفرح، وهذا من أقسى درجات التأديب، إذ يفقد الإنسان معية الرب واهب الفرح فيصير في قلق داخلي وكآبة قلب لا ينزعها إلاّ عودة القلب إلى الله ليتقدم كمقدس له أو سماء تحمله في داخله بروح الفرح والتهليل. كان ملك كنعان أو رئيس "الضجيج" وعدم السلام ساكنًا في "حاصور" عاصمته أي كمن في حصن، يرسل سيسرا إلى القلب ليحطم كل فرح فيه. كان سيسرا ساكنًا في "حروشة الأمم" [2]، إي خليط الأمم أو لفيف من الأمم، وهو موضع في شمال فلسطين دعي هكذا نظرًا لاختلاف أجناس سكانه، أو لأن مجموعة مختلفة من الجنسيات قد اختلطت معًا في هذه المنطقة وأنشأت دولة مستقلة دعيت بحروش الأمم. كان سيسرا أي (الخروج عن الفرح) يقطن وسط الخليط من الأمم، بمعنى أن الإنسان يفقد فرحه الروحي حينما يتحول قلبه إلى حروشة الأمم الوثنية أي خليط من الخطايا والرجاسات. 4 وَدَبُورَةُ امْرَأَةٌ نَبِيَّةٌ زَوْجَةُ لَفِيدُوتَ، هِيَ قَاضِيَةُ إِسْرَائِيلَ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ. 5 وَهِيَ جَالِسَةٌ تَحْتَ نَخْلَةِ دَبُورَةَ بَيْنَ الرَّامَةِ وَبَيْتِ إِيلَ فِي جَبَلِ أَفْرَايِمَ. وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَصْعَدُونَ إِلَيْهَا لِلْقَضَاءِ. 6 فَأَرْسَلَتْ وَدَعَتْ بَارَاقَ بْنَ أَبِينُوعَمَ مِنْ قَادَشِ نَفْتَالِي، وَقَالَتْ لَهُ: «أَلَمْ يَأْمُرِ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: اِذْهَبْ وَازْحَفْ إِلَى جَبَلِ تَابُورَ، وَخُذْ مَعَكَ عَشْرَةَ آلاَفِ رَجُل مِنْ بَنِي نَفْتَالِي وَمِنْ بَنِي زَبُولُونَ، 7 فَأَجْذُبَ إِلَيْكَ، إِلَى نَهْرِ قِيشُونَ سِيسَرَا رَئِيسَ جَيْشِ يَابِينَ بِمَرْكَبَاتِهِ وَجُمْهُورِهِ وَأَدْفَعَهُ لِيَدِكَ؟» 8 فَقَالَ لَهَا بَارَاقُ: «إِنْ ذَهَبْتِ مَعِي أَذْهَبْ، وَإِنْ لَمْ تَذْهَبِي مَعِي فَلاَ أَذْهَبُ». 9 فَقَالَتْ: «إِنِّي أَذْهَبُ مَعَكَ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ لَكَ فَخْرٌ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي أَنْتَ سَائِرٌ فِيهَا. لأَنَّ الرَّبَّ يَبِيعُ سِيسَرَا بِيَدِ امْرَأَةٍ». فَقَامَتْ دَبُورَةُ وَذَهَبَتْ مَعَ بَارَاقَ إِلَى قَادَشَ. لقد عمل الله بأهود الرجل الأشول، كما استخدم شمجر الذي لا يملك إلاّ منساس بقر يحارب به، والآن يعمل بامرأة أو كما يقول القديس أمبروسيوس بأرملة، حتى يسند الكل رجالًا ونساءً، المتزوجين والأرامل والعذارى، فيكون لكل دوره الروحي في حياة الجماعة المقدسة. في هذا يقول القديس أمبروسيوس: [أظهرت (دبورة) أن الأرملة ليست غير محتاجة إلى معونة الرجل ما دامت غير معوقة بجنسها واضعة على عاتقها أن تحقق التزامات الرجل، فقد عملت أكثر مما تعهدت. فعندما كان القضاة يحكمون اليهود، إذ لم يستطيعوا أن يجدوا من يحكمونهم ببر رجولي أو يدافعون عنهم بقوة رجولية والتهبت الحروب من كل جانب اختاروا دبورة لتحكم عليهم. هكذا حكمت أرملة الآلاف من الرجال في وقت السلام ودافعت عنهم ضد العدو (وقت الحرب). لقد وُجد في إسرائيل قضاة كثيرون من قبلها لكن لم توجد قبلها قاضية... وإنني أعتقد أن عملها كقاضية قد سُجل، وأفعالها قد وُصفت حتى لا تتوقف النساء عن العمل الشجاع بسبب ضعف جنسهن. أرملة حكمت الشعب، أرملة قادت الجيوش، أرملة اختارت القواد، أرملة صممت على الحرب ونالت نصرات... ليس الجنس هو الذي يصنع القوة بل الشجاعة]. ويختم حديثه عن دبورة القاضية بقوله: [أيتها النساء ليس لكن عذر بسبب طبيعتكن؛ أيتها الأرامل ليس لكن حجة بضعف جنسكن. لا تنسبن تغيركن إلى فقدانكن عون الزوج، فلكل إنسان حماية كافية إن كانت نفسه لا تعوزها الشجاعة]. إن كنا نرى في القضاة صورًا متباينة لشخص السيد المسيح وعمله الخلاصي، فإن دبورة تحمل صورة حيَّة لكنيسة المسيح في جوانب كثيرة منها: أولًا: من جهة الاسم " دبورة" أي (نحلة)، وقد قيل عن الكنيسة كنحلة: "شفتاك يا عروس تقطران شهدًا، تحت لسانك عسل ولبن" (نش 4: 11)، كما قيل عنها: [النحلة ضئيلة بين الطير وشهدها أعذب ما يستساغ من الطعام] (سي 11: 3). ويقول القديس غريغوريوس النيصي: [النحلة محبوبة من كل أحد، ويقدرها الجميع، فبالرغم من ضعف قوتها لكنها تحمل حكمة علوية وتسعى دومًا لبلوغ حياة الكمال... هكذا يليق بنا (كالنحلة) أن نطير على مروج التعاليم الموحى بها، ونجمع من كل منها مخازننا التي للحكمة. هكذا يتكون العسل في داخلنا وكأنه ذلك المحصول الحلو الذي يخزن في قلوبنا كما في خلية نحل، وبواسطة التعاليم المتنوعة تتشكل في ذاكرتنا مخازن على مثال الخلايا الشمعية التي لا تهلك. يلزمنا أن نكون كالنحلة فإن عسلها حلو ولدغتها لا تؤذي، ننشغل في عمل الفضيلة الهام. إنها تنهمك بالحق في تحويل أتعاب هذه الحياة إلى بركات أبدية، وتقديم جهادها لصحة ملوك وشعوب. هكذا أيضًا النفس تجتذب العريس، ويعجب بها الملائكة، الذين يكملون قوتها في الضعف خلال الحكمة المكرمة]. ثانيًا: اسم رجلها "لفيدوث" وهو جمع مؤنث للكمة "لفيد" أو "لبيد" وتعني (مشرق أو مصباح أو مشعل)(51). أما عريس الكنيسة فهو ذاك الذي قال: "أنا نور العالم" (يو 8: 12؛ 9: 5). إنه يشرق في كنيسته لكي تستنير به (مت 5: 14) وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم على لسان السيد المسيح: [حقًا أنا الذي أوقد النور، أما استمرار أيقاده فيتحقق خلال جهادكم أنتم... بالتأكيد لا تقدر المصائب أن تعطل بهاءكم إن كنتم لا تزالون تسلكون الحياة الدقيقة، فتكونون سببًا في تغيير العالم كله. إذن، فلتُظهروا حياة تليق بنعمته حتى إذ تكرزون في أي موضع يصاحبكم هذا النور]. ثالثًا: كانت دبورة "جالسة تحت نخلة دبورة بين الرامة وبيت إيل في جبل افرايم" [5]. ما هذه النخلة التي دعيت باسمها، وكانت تجلس تحتها ليصعد إليها رجال للقضاء، إلاّ خشبة الصليب التي تحدثت عنها الكنيسة العروس، قائلة: [تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة في حلقي] (نش 2: 3). كانت دبورة تجلس تحت شجرة الصليب بين "الرامة" التي تعني (مرتفعات)، وبيت إيل التي هي (بيت الله)، في جبل أفرايم أي جبل الثمر المتكاثر. وكأن جلوسها تحت الصليب قد وهبها ثمرًا متكاثرًا، إذ كانت تجلس على المرتفعات (الرامة) فوق هموم العالم وإغراءاته، عند بيت إيل إي في بيت الرب لتنعم بمعيته على الدوام. ما أحوجنا أن نكون كدبورة نعمل بغير انقطاع في دائرة الصليب، مرتفعة قلوبنا إلى السمويات ومنطلقة إلى بيت الله الأبدي فننعم بثمر الروح المتكاثر. يصف القديس أمبروسيوسحال دبورة كقاضية قبل انطلاقها للحرب، قائلًا: [في وقت السلم لا نجد شكوى ولا خطأ في هذه الامرأة، بينما كان غالبية القضاة علة لخطايا ارتكبها الشعب ليس بصغيرة]. رابعًا: تُشير دبورة إلى الكنيسة في حث أولادها على الجهاد الروحي ضد إبليس وأعماله الشريرة، أي الرجاسات والخطايا، فقد أرسلت دبورة إلى باراق بن أبينوعم من قادش نفتالي تطالبه بالزحف على جبل تابور ومعه عشرة آلاف رجل من بني نفتالي ومن بني زبولون لمحاربة سيسرا رئيس جيش يابين. يرى القديس أمبروسيوسأن باراق هو ابنها، بينما يرى بعض الحاخامات اليهود أن باراق نفسه هو لفيدوت زوجها، إذ أن لفيدوت كما قلنا يعني برق أو مشعل. والمعنى يقترب من كلمة باراق التي تعني برق أو بارق. وقد دُعي هكذا بسبب نشاطه وسرعة حركته خاصة في الحروب، يتحرك كالبرق الخاطف. يرى القديس أمبروسيوسأندبورة نجحت في عملها كقاضية خلال نجاحها في حياتها العائلية، إذ قدمت ابنها باراق رجلًا ناجحًا، وسلمته لقيادة الجيش بالرغم من المخاطر التي قد تلاحقه. يقول القديس: [هذه المرأة، قبل كل شيء هيأت كل التدابير الخاصة بالحرب، مظهرة أن احتياجات العائلة لا تعتمد على المصادر العامة وإنما الالتزامات العامة تقوم خلال تدبير الحياة العائلية، فقدمت ابنها قائدًا للجيش لنعرف أن أرملة استطاعت أن تدرب مصارعًا، علمته كأم، وأمرته كقاضية؛ بشجاعتها دربته وكنبية قدمته للنصرة] كما يقول: [يا لعظمة عزيمة أرملة لم تحتجز ابنها عن المخاطر خلال عاطفة الأمومة بل بالحري في غيرة الأم حثت ابنها أن يذهب ليغلب، وكانت نقطة قرار النصرة في يد امرأة]. لقد حثت دبورة باراق -أيًا كانت قرابته لها- لا لينطلق وحده وإنما ليأخذ معه عشرة آلاف رجل من بني نفتالي ومن بني زبولون لمحاربة سيسرا المنجذب إلى نهر قيشون، فيدفعه الرب ليديه. فإن كان باراق يشير إلى الحياة المستنيرة في الرب كالبرق، سريعة الحركة، فإنه يليق بالمؤمن في جهاد الروحي أن يكون كباراق، أما العشرة آلاف رجل فيشيرون إلى الإنسان الحافظ للناموس (رقم 10) بطريقة روحية سماوية (× 1000) أو بطريقة إلهية، لأن يومًا عند الرب كألف سنة، أما كونهم رجالًا فإنه يليق بالمؤمن ألاَّ يحمل في داخله تدليل النساء ولا عجز الأطفال، بل نضوج الرجال وجديتهم. هؤلاء الرجال يقدمون من بني نفتالي تعني (متسع) وبني زبولون تعني (مسكن) أي يكون لهم القلب المتسع كمسكن الله نفسه. إن انطلق المؤمن كباراق برجاله أي يقدم كالبرق الخاطف ومعه الفكر الروحي للوصية كفكر يعيشه ويختبره، فيه نضوج الروح، وله القلب المتسع كمسكن الله وكل البشرية عندئذ يجتذب الله سيسرا من قيشون التي تعني (منحنى) ليسلمه في يده، أي يخضع حركات العدو الشرير الملتوية المنحنية تحت قدميه. نهر قيشون يسقي مرج ابن عامر، تجري إليه المياه من جبل تابور وتلال الناصرة وجبل حرمون الصغير وجلبوع، وهو يجري في وسط سهل ابن عامر بمجرى ملتوٍ ومعوج متجهًا نحو الشمال الغربي فيدخل سهل عكا ويصب بالقرب من حيفا من جهة الشمال، ويسميه العرب "نهر المقطع". أغلب مجراه يجف في الصيف. على شاطئه قتل إيليا النبي كهنة البعل (1 مل 18: 40). 10 وَدَعَا بَارَاقُ زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيَ إِلَى قَادَشَ، وَصَعِدَ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلاَفِ رَجُل. وَصَعِدَتْ دَبُورَةُ مَعَهُ. 11 وَحَابِرُ الْقَيْنِيُّ انْفَرَدَ مِنْ قَايِنَ، مِنْ بَنِي حُوبَابَ حَمِي مُوسَى، وَخَيَّمَ حَتَّى إِلَى بَلُّوطَةٍ فِي صَعَنَايِمَ الَّتِي عِنْدَ قَادَشَ. 12 وَأَخْبَرُوا سِيسَرَا بِأَنَّهُ قَدْ صَعِدَ بَارَاقُ بْنُ أَبِينُوعَمَ إِلَى جَبَلِ تَابُورَ. 13 فَدَعَا سِيسَرَا جَمِيعَ مَرْكَبَاتِهِ، تِسْعَ مِئَةِ مَرْكَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَجَمِيعَ الشَّعْبِ الَّذِي مَعَهُ مِنْ حَرُوشَةِ الأُمَمِ إِلَى نَهْرِ قِيشُونَ. 14 فَقَالَتْ دَبُورَةُ لِبَارَاقَ: «قُمْ، لأَنَّ هذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي دَفَعَ فِيهِ الرَّبُّ سِيسَرَا لِيَدِكَ. أَلَمْ يَخْرُجِ الرَّبُّ قُدَّامَكَ؟» فَنَزَلَ بَارَاقُ مِنْ جَبَلِ تَابُورَ وَوَرَاءَهُ عَشْرَةُ آلاَفِ رَجُل. 15 فَأَزْعَجَ الرَّبُّ سِيسَرَا وَكُلَّ الْمَرْكَبَاتِ وَكُلَّ الْجَيْشِ بِحَدِّ السَّيْفِ أَمَامَ بَارَاقَ. فَنَزَلَ سِيسَرَا عَنِ الْمَرْكَبَةِ وَهَرَبَ عَلَى رِجْلَيْهِ. 16 وَتَبعَ بَارَاقُ الْمَرْكَبَاتِ وَالْجَيْشَ إِلَى حَرُوشَةِ الأُمَمِ. وَسَقَطَ كُلُّ جَيْشِ سِيسَرَا بِحَدِّ السَّيْفِ. لَمْ يَبْقَ وَلاَ وَاحِدٌ. 17 وَأَمَّا سِيسَرَا فَهَرَبَ عَلَى رِجْلَيْهِ إِلَى خَيْمَةِ يَاعِيلَ امْرَأَةِ حَابِرَ الْقَيْنِيِّ، لأَنَّهُ كَانَ صُلْحٌ بَيْنَ يَابِينَ مَلِكِ حَاصُورَ وَبَيْتِ حَابِرَ الْقَيْنِيِّ. 18 فَخَرَجَتْ يَاعِيلُ لاسْتِقْبَالِ سِيسَرَا وَقَالَتْ لَهُ: «مِلْ يَا سَيِّدِي، مِلْ إِلَيَّ. لاَ تَخَفْ». فَمَالَ إِلَيْهَا إِلَى الْخَيْمَةِ وَغَطَّتْهُ بِاللِّحَافِ. 19 فَقَالَ لَهَا: «اسْقِينِي قَلِيلَ مَاءٍ لأَنِّي قَدْ عَطِشْتُ». فَفَتَحَتْ وَطَبَ اللَّبَنِ وَأَسْقَتْهُ ثُمَّ غَطَّتْهُ. 20 فَقَالَ لَهَا: «قِفِي بِبَابِ الْخَيْمَةِ، وَيَكُونُ إِذَا جَاءَ أَحَدٌ وَسَأَلَكِ: أَهُنَا رَجُلٌ؟ أَنَّكِ تَقُولِينَ لاَ». 21 فَأَخَذَتْ يَاعِيلُ امْرَأَةُ حَابِرَ وَتَدَ الْخَيْمَةِ وَجَعَلَتِ الْمِيتَدَةَ فِي يَدِهَا، وَقَارَتْ إِلَيْهِ وَضَرَبَتِ الْوَتَدَ فِي صُدْغِهِ فَنَفَذَ إِلَى الأَرْضِ، وَهُوَ مُتَثَقِّلٌ فِي النَّوْمِ وَمُتْعَبٌ، فَمَاتَ. 22 وَإِذَا بِبَارَاقَ يُطَارِدُ سِيسَرَا، فَخَرَجَتْ يَاعِيلُ لاسْتِقْبَالِهِ وَقَالَتْ لَهُ: «تَعَالَ فَأُرِيَكَ الرَّجُلَ الَّذِي أَنْتَ طَالِبُهُ». فَجَاءَ إِلَيْهَا وَإِذَا سِيسَرَا سَاقِطٌ مَيْتًا وَالْوَتَدُ فِي صُدْغِهِ. 23 فَأَذَلَّ اللهُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَابِينَ مَلِكَ كَنْعَانَ أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. 24 وَأَخَذَتْ يَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَتَزَايَدُ وَتَقْسُو عَلَى يَابِينَ مَلِكِ كَنْعَانَ حَتَّى قَرَضُوا يَابِينَ مَلِكَ كَنْعَانَ. طلب باراق من دبورة أن تذهب معه، فقالت له "إني أذهب معك غير أنه لا يكون لك فخر في الطريق التي أنت سائر فيها، لأن الرب يبيع سيسرا بيد امرأة" [9]. أرادت دبورة أن تحث باراق للخروج للحرب لكنه إذ أصر على خروجها معه قبلت، وبروح النبوة قالت: "لأن الرب يبيع سيسرا بيد امرأة"، فقد ظن باراق أن دبورة تتحدث عن نفسها، غير أنها في الواقع غالبًا ما كانت تقصد ياعيل امرأة حابر القيني التي قتلت سيسرا في خيمتها بالوتد. يرى القديس أمبروسيوسفي باراق الذي قاد المعركة رمزًا لليهود الذين خرجوا يحاربون بتعاليم الأنبياء عن الخلاص، لكن المنتصر ليس باراق بل امرأة أممية هي ياعيل، بكونها رمزًا لكنيسة التي جاء أعضاؤها من الأمم. يقول القديس أمبروسيوس: [هكذا تنبأت دبورة عما حدث في المعركة. إذ أُمر باراق قاد الجيش لكن ياعيل هي التي حملت النصرة. لقد أعلنت نبوة دبورة سرًا عن إقامة الكنيسة من بين الأمم، هذه التي نالت الغلبة على سيسرا، أي على القوات المضادة لها. لأجلنا حاربت تعاليم الأنبياء "باراق"... ولم ينل الشعب اليهودي النصرة على العدو بل كان يجب محاربته خلال فضيلة الإيمان. وبخطئهم جاء الخلاص للأمم، بغباوتهم صارت لنا الغلبة]. كما يقول: [حطمت ياعيل سيسرا، هذا الذي كان يجب على اليهود المحنكين أن يحاربوه بقيادة قائدهم (المبرق)، لأن كلمة "باراق" تعني (مبرقا)، إذ غالبًا ما كانت تجلب القراءة في أقوال الأنبياء وأعمالهم عونًا سمائيًا (يبرق) على الآباء... فالنصرة ابتدأت من الآباء (اليهود) وانتهت بالكنيسة]. يروي لنا الكتاب المقدس قصة نصرة ياعيل (كنيسة الأمم) على سيسرا هكذا: أولًا: "دعا باراق زبولون ونفتالي إلى قادش وصعد ومعه عشرة آلاف رجل، وصعدت دبورة معه" [10]. لم نسمع في بداية الانطلاق عن دور قامت به ياعيل (الأمم)، إنما قام باراق الذي يمثل آباء اليهود الذين أبرقت فيهم نبوات العهد القديم، وانطلق معه دبورة (روح النبوة)... وكان بدء الانطلاق مع زبولون ونفتالي (أي القلب المتسع كمسكن لله)، من قادش التي تعني (قداسة). وكأن هذه البداية تمثل جهاد رجال العهد القديم خلال روح النبوة لينطلقوا للحرب خلال الحياة التقوية المقدسة. ثانيًا: يأتي الكتاب بعبارة اعتراضية تهيئ الذهن للتعرف على ياعيل زوجة حابر القيني، إذ يقول: "وحابر القيني إنفرد من قايين من بني حوباب حمي موسى وخيم حتى إلى بلوطة في صعنايم التي عند قادش" [11]. "حابر" يعني (محالفة)، قد انفرد من العشيرة المنسوبة إلى قايين، أي اعتزل القينيين، لكنه لم يتمتع بالميراث في أرض الموعد رغم إيمانه بإله إسرائيل، لذلك خيّم في منطقة بلوطة صعنايم ليكون على حدود الكنعانيين وإسرائيل، فتحالف مع ملك الكنعانيين بكونه أمميًا وارتبط بصداقة مع بني إسرائيل كدخيل. لعل حابر هذا يمثل بعضًا من الأمم الذين بحسب الناموس الطبيعي عرفوا الرب، لكنهم لم يتخلصوا من التحالف مع الكنعانيين إذ كانوا يسلكون في الرجاسات، حتى انطلقت منهم "ياعيل" أي كنيسة الأمم تقتل إبليس "سيسرا" وترفض رجاساته وعباداته الوثنية. ثالثًا: "قالت دبورة لباراق: قم، لأن هذا هو اليوم الذي دفع فيه الرب سيسرا ليدك. ألم يخرج الرب قدامك؟!" [14]. كشفت دبورة عن سرّ النصرة لباراق ألاّ وهو التمتع بالقيامة مع الرب القائم من الأموات، محطم إبليس وجنوده، إذ قالت له "قم". ما أحوجنا أن نسمع صوت الكنيسة "دبورة"، لننعم بالقيامة فلا يكون لسيسرا قوة علينا لأن الرب القائم من الأموات "يخرج قدامنا" كبكر الراقدين، يدفع سيسرا ليدنا. رابعًا: "فنزل باراق من جبل تابور ووراءه عشرة آلاف رجل" (عد 14). كان باراق على جبل تابور كمن هو في حصنه ومأمنه، وكأنه كان مع التلاميذ الذين رأوا الرب متجليًا هناك فقالوا على لسان بطرس: [جَيِّدٌ يَا رَبُّ، أَنْ نَكُونَ ههُنَا]. وقد أمرهم الرب بالنزول ليحمل الصليب ويحملونه معه، فيعلن بقيامته نصرته على سيسرا، واهبًا الغلبة لتلاميذه فيه. خامسًا: "فأزعج الرب سيسرا وكل المركبات وكل الجيش بحد السيف أمام باراق، فنزل سيسرا عن المركبة وهرب على رجليه" [15]. إن كان باراق قد نزل من جبل تابور ومعه عشرة آلاف رجل، فإنه لم يكن يملك مركبات، فكان بالنسبة لجيش سيسرا أقل بكثير في العدد الذي يقدره يوسيفوس بـ300 ألفًا من الرجال، وبعشرة آلاف فارس، وأيضًا أقل في الإمكانيات إذ يقدر عدد مركباته بثلاثة آلاف منها تسعمائة من حديد. لكن الله كعادته لا يخلص بالإمكانيات البشرية الجبارة وإنما إذ تقدم صفوف شعبه أزعج العدو. ويُقال أن العدو إذ رأى الجيش ينزل عليه بغتة اضطرب وصار في حيرة فهربوا فكانت المركبات تصطدم معًا فاضطروا إلى تركها والسير على الأقدام، خاصة وأن يوسيفوس يقول بأن مطرًا غزيرًا تساقط وبردًا عظيمًا أفقدهم التدبر في الأمر، فكان الإسرائيليون يلاحقونهم، وكأنهم يترنمون مع المرتل قائلين: "هؤُلاَءِ بِالْمَرْكَبَاتِ وَهؤُلاَءِ بِالْخَيْلِ، أَمَّا نَحْنُ فَاسْمَ... إِلهِنَا نَذْكُرُ" (مز 20: 7). أدرك سيسرا أن العدو اقترب منه جدًا فنزل من مركبته بكونها موضع تركيز العدو، خاصة وأنها أوشكت على الانكسار، كما أدرك أنه من السهل أن يجد لنفسه مخبأ عن أن يختفي هو ومركبته معًا. هكذا غلب باراق ورجاله سيسرا وجيشه لا بكثرة العدد أو الإمكانيات وإنما باسم رب الجنود. يقول القديس أمبروسيوس: [لا تغلب الكنيسة قوات العدو بأسلحة هذا العالم، بل بأسلحة روحية "قادرة بالله على هدم حصون، هادمين ظنونًا" (2 كو 10: 4-5). إن عطش سيسرا قد أطفئ بإناء من اللبن إذ غُلب بالحكمة، فما هو صحي بالنسبة لنا كطعام، فإنه بالنسبة للعدو يُضعف قوته ويقتله. أسلحة الكنيسة هي الإيمان، أسلحتها هي الصلاة التي تغلب العدو]. سادسًا: "خرجت ياعيل لاستقبال سيسرا وقالت له: مل يا سيدي، مل إليَّ، لا تخف، فمال إليها إلى الخيمة وغطته باللحاف" [18]. كلمة "ياعيل" تعني (وعل) أي نوع من الماعز الجبلي، فياعيل كما قلنا تمثل كنيسة الأمم، كانت قبلًا جبلية تسكن القفار، هي وزوجها في تحالف مع سيسرا (إبليس). الآن إذ انطلق سيسرا إلى خيمتها دون خيمة زوجها لإدراكه أنه لا يستطيع أحد أن يدخل هذه الخيمة إن أنكرت وجود أحد في ضيافتها لكونها امرأة. والعجيب أنه وجدها خارجة لاستقباله بكلمات تبدو لطيفة للغاية، وإن كانت قد خدعته بالكذب وقتلته الأمر الذي يتنافى مع واجبات الضيافة. لعل ياعيل فعلت هذا ليس من ذاتها وإنما خلال إعلان بطريقة أو بأخرى لأن سيسرا حليف رجلها، وكانت في هذا تمثل الكنيسة التي خرجت من خيمتها القديمة أو إنسانها القديم لكي تبدو كمن يستقبل سيسرا فتقتل إبليس من حياتها وتصير خيمتها قبرًا للعدو ومقدسًا للرب. بمعنى آخر إن كانت الخيمة تمثل الجسد الذي استضاف بشهواته إبليس، فخلال النعمة الإلهية يعلن الإنسان جحده لعدو الخير وكل أعماله فيتقدس الجسد القاتل للشهوات والحامل لروح الرب فيه. طلب سيسرا قليلًا من الماء حتى يبدو أنه لا يطمع في شيء ويكفي استضافتها له وإنقاذها حياته فأعطته لبنًا من الطوب وهو غالبًا من الجلد يوضع فيه اللبن فيختمر... وكأنها قد أسكرته حتى يغط مع التعب الشديد والإرهاق في نعاس ثقيل فتحقق خطتها. ما هو هذا اللبن إلاّ تعاليم الإيمان التي تروي نفس المؤمن وتسكرها بحب الله، لكنه يكون قاتلًا لإبليس ومهلكًا له. في القديم مال إبليس إلى حواء يتسلل إليها خلال الحية ويخدعها بثمر التفاح ليدخل خيمتها فيقتلها مع رجلها ونسلهما إلى الأبد، والآن حواء (ياعيل) تخرج إليه لتبدو كمن تستضيفه وتقدم له طعامًا لتقتله فتنقذ الكل منه، فلا يكون له بعد موضع في خيمتها أو خيمة رجلها أو خيام نسلهما من بعدهما. ليمت سيسرا بيد امرأة بالميتدة (الوتد) الخشبي الذي في يدها حيث قارت إليه (تمشت نحوه على أطراف أصابعها)، لتضربه بالوتد في صدغه لينفذ في الأرض وهو مثقل نومًا فيموت [12]. بمعنى آخر لتمت شهوات إبليس فينا بيد الكنيسة عروس المسيح الحاملة للصليب (الوتد)، في خفة وبسرعة تضرب إبليس في رأسه أي في بداية أفكاره وهو بعد مثقل نومًا قبل أن يدخل بأفكاره إلى الأعماق لتصحو وتملك. لنضرب بالصليب في صدغه أي نرفض أفكاره ونصلبها فتتنقى أعماقنا لحساب الرب. |
||||