25 - 06 - 2014, 10:56 AM | رقم المشاركة : ( 11 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
الفصل الثاني: رواق المسيحيين
في المساءِ ذهب إليوس إلى بلينوس الذي كان يترقّب مقدمه، وابتدره قائلاً: كيف حالك يا إليوس. أتمنّى أن تكون قد وُفّقت في مهمّتك. - نعم يا مُعلِّم. لقد جئتَ لك بالكثير من التفاصيل والكثير من التساؤلات أيضًا!! - هات ما عندك.. لقد ذهبت باكرًا إلى رواق المسيحيّين في الجزء الغربي من المدينة أمام باب القمر، حيث أرشدني بعض قاطنو الحي إلى بناية بسيطة يجتمع فيها المسيحيّون للصلاة والتسبيح. كانت البنايةُ مخزنًا للغلال قديمًا، ولكنّها تحوّلت إلى كنيسةٍ. تُضيئها مسارجٌ جانبيّةٌ تُلقي بظلاًّ خافتًا على الوجوه. أُوقدت المباخر فأطلقت من بواطنها روائح البخور العطِر الذي عبّق المكان. كان يحضر الصلاة عشراتٌ من الرجال والنساء يجلسون في ورعٍ وهدوءٍ وسكينةٍ، بينما يخطب فيهم شخصٌ يقف قبالتهم، عرفت بعدها أنّه الكاهن المسؤول عن إجراء مراسم العبادة الأسبوعيّة. لم تكن للمسيحيّين ملابسَ خاصة؛ فمنهم من ارتدى التوغا اليونانيّة ومنهم من ارتدى الجلباب المصري الداكن.. جلست في الخلف وأرسلت أذنيّ إلى الكاهن.. كان الكاهن في الخمسينات من عمره، معتدل القوام، يرتدي رداءً من الكتّان الأبيض الفضفاض فوق ملابسه، يتحدّث من رقٍّ وضعه أمامه على طاولةٍ مرتفعة عن الأرض قليلاً. - ماذا كان يقول؟ - لقد دوّنت كلّ كلمة قالها، لئلا أنسى شيئًا، هاك ما قاله.. |
||||
25 - 06 - 2014, 11:06 AM | رقم المشاركة : ( 12 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
أحبّائي.. إنّ القديس بولس يؤكّد إنّ الله أعلن عن ذاته للبشر بمختلف الطرق، والتي تشير إلى إله حي حقيقي مُدبِّر للكون والخليقة، يرعَى النفوس حتّى أصغرها وأحقرها، ويتعهّد روح الإنسان بالرعاية الإلهيّة ليُصيّره من أبناء الفردوس، إلّا أنّ البشر رفضوا الإشارات الإلهيّة عن الله وحوّلوها إلى آلهة، فعبدوا المخلوقات المحدودة العاجزة غير العاقلة ونسجوا حولها القصص والأساطير، وبينما يزعمون الحكمة سقطوا في فخ الجهل بالله وبالكون وبطبيعة الأشياء المخلوقة. لقد استبدلوا المجد الإلهي غير الفاني بشبه صورٍ لبشرٍ فانين، واستعبدوا أنفسهم لدوابٍ وطيورٍ وزحّافاتٍ يتطلّعون إليها ويخاطبونها ويُقدّمون لها الأضاحي والتقدمات، ولكنّها لا تُرسِل جوابًا، فأقاموا كهنتهم لتلقّي أجوبة الآلهة، وخدعوا قلوب البسطاء، وأصبح الكهنة لسان الآلهة العجماء..
ولم يكتفْ البشر بهذا ولكنّهم غرقوا في مستنقع الفجور والإثم وبدّلوا العلاقة الطبيعيّة بين الرجل والمرأة بالتي على خلاف الطبيعة؟؟!! هدأ صوت الكاهن قليلاً، وبعد تنهدٍ عميقٍ، قال: نعم يا أحبّائي، فالشهوة بئرٌ بلا قرار، ومياهٌ لا تروي، وبحارٌ لا تجف.. لقد امتلأ قلب الإنسان من الإثم والزنا والشرّ والطمع والخبث والحسد والاقتتال والخصام والمكر والبُغضة والكبرياء والقسوة.. هذا هو حال الإنسان البعيد عن عبادة الله الحقيقي.. البعيد عن فداء الربّ يسوع المسيح الذي تجسّد ليُحيي المائت ويرفع الساقط ويقبل التائه ويدفع الخائر ويُعزّي من لفّه الحزن والأسَى.. بدت ابتسامة على وجه الكاهن وكأنّه قد رأى مشهدًا سماويًّا وقال: إنّ الخلاص فقط بيسوع المسيح.. الابن الوحيد للآب.. مَنْ يَقبْله له حياة أبديّة، ومَنْ يرفضه سيحيا في العدم والقلق والحيرة إلى ملء الدهور. كانت كلمات الكاهن ناريّة.. صادمة.. وكأنها معولٌ من صوّان يهوي على فكري المُنبسط. لم أكن أتوقّع أنّ أسمع تلك الكلمات التي بها رائحة التقوى. لقد ذهبت إلى هناك وفكري مُحمَّل بممارسات لا أخلاقيّة وطبائع وحشيّة وسفك دماء.. ولكني في المقابل سمعتُ عن الخلاص والتحرُّر من الفساد والخطيئة.. سمعت عن إلهٍ حانٍ يعبأ، بل ويُحبّ البشر.. |
||||
25 - 06 - 2014, 11:09 AM | رقم المشاركة : ( 13 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
- ليت سيرابيس يسمع هذا الكلام ويتعلّم من إله المسيحيّين.. أكمل..
بعد كلمات الكاهن نادى أحدهم على الذين لم يعتمدوا بعد!! أنْ يخرجوا، ولكنّي لم أخرج وقتها، لأرصد ما يحدث. خرج بعضهم ثمّ أُغلقت الأبواب.. - وقف الجميع في الكنيسة بعدما أنهى الكاهن كلماته، الذي حوّل وجهه للشرق وهو يواجه مائدة عليها قطعة مستديرة من الخبز وكأسًا.. كان الصمت يملأ المكان، وكنت أتلفّت حولي لأُطالع ملامح الوجوه فإذ بها مستغرقة في الصلاة.. - ألهذا الحدّ!! - نعم.. الكلّ في حالة تضرُّع.. الرجال والنساء.. الشيوخ والشباب.. الفقراء والأغنياء.. العبيد والسادة.. الكلّ يتجاور.. الكلّ يُصلي.. - أو تريد أن تُقنعني أنّ السادة يجاورون العبيد، والفقراء يُكاتفون الأغنياء؟؟ - نعم. - إنّ تلك لمعجزةٍ في مدينةٍ كالإسكندريّة!! - وقتها ارتفع صوت الكاهن وهو يمسك بيديه قطعة الخبز ويرفعها إلى أعلى، بينما وقف الجميع، وهو يقول: لأنّ ربّنا يسوع المسيح في اللّيلة التي أُسلِمَ فيها، أخذ خبزًا على يديه المقدّستين وشكر، وباركه، وقدّسه، وقسّمه وأعطاه لتلاميذه ورسله قائلاً: خذوا كلوا منه كلّكم، هذا هو جسدي الذي يُبذل عنكم لمغفرة الخطايا. ثم وضع قطعة الخبز على طاولة مربّعة يسمّونها المذبح وتناول بيده اليمنى الكأس وهو يرفعها إلى أعلى، ويقول: وهكذا أيضًا بعد العشاء أخذ الكأس، وبارك وشرب منها، وأعطاها لهم قائلاً: خذوا اشربوا منها كلّكم، هذا هو دمي المسفوك عنكم لمغفرة الخطايا. كلّ مرّة تأكلون من هذا الخبز وتشربون من هذه الكأس، تُبشّرون بموتي، وتعترفون بقيامتي، وتذكرونني. وأجاب الجمع في صوتٍ واحدٍ: آمين. بموتك يا ربّ نُبشّر وبقيامتك نعترف ودعى الشخص الواقف إلى جوار الكاهن، والذي يُساعِده، الجميع إلى السجود والإنصات، عرفت بعدها أنّه يُدعَى الدياكون وهو المسؤول عن معاونة الكاهن في أداء مراسم العبادة عندهم. وفجأة علا صوت الكاهن وهو يقول: هذا الخبز يجعله جسدًا مقدّسًا للمسيح وهكذا الكأس أيضًا، دمًا كريمًا للعهد الجديد الذي له وكانت جموع المُصلّين تُردّد بصوتٍ واحدٍ: آمين. وبعدها قدّموا بعض الصلوات من أجل الجميع؛ من أجل كنيستهم، ومن أجل الشعب، ومن أجل رئيسهم، ومن أجل الإمبراطورية ومن أجل الملك ومن أجل السلام.. - هل يدعون على الإمبراطور؟ - لا، يُصلّون من أجله. - يا للعجب، لقد لحقهم من أباطرتنا ما يشيب له الأبدان. - وهذا ما حيّرني أنا أيضًا. - وماذا حدث بعد ذلك؟ - توافدوا على الكاهن الذي كان يناولهم قطعةً من خبزٍ ورشفةً من الكأسِ، يدعونهما جسد ودم المسيح. - هل يدعون الخبز والخمر جسد ودم؟ - نعم. - إذًا ليس ثمّة ذبائح بشريّة. - لا، لم أرى شيئًا من هذا. - وبعد الانتهاء وقفوا يُرتّلون، قائلين: |
||||
25 - 06 - 2014, 11:09 AM | رقم المشاركة : ( 14 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
هَلِّلُويَا.ثم صرفهم الكاهن مُحمّلين بالسلام. |
||||
25 - 06 - 2014, 11:10 AM | رقم المشاركة : ( 15 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
بعدها فوجئت بأنّهم يُقدّمون إلى الكاهن رجلاً محمومًا ويُعاني من آلامٍ مبرحةٍ، فما كان من الكاهن إلاّ أن استدعى البعض، وبدأوا يُصلّون معًا، وفي نهاية الصلاة أخذ نقطة من زيتٍ موضوع في قارورةٍ خاصةٍ ودهنَ بها جبهته، وهو يقول: ليكن لك كإيمانك..
وفي الحال فارقته الحُمَّى، وقام الرجلُ ليُقدِّم الشكر للكاهن، فما كان منه إلاّ أنْ طالبه بأنْ يتقدَّم بالشكر لله الذي من خلال الإيمان بابنه أعطاه مثل هذا السلطان، ووقفوا جميعًا عِدّة دقائق يُسبِّحون الله ثم انصرفوا. - وهل حاولت إقامة حوار مع أحد المسيحيّين؟ - بالطبع، فبعد انتهاء الصلاة، لفتَ نظري شخصٌ وقورٌ بدت عليه إمارات العِلم، له لحية مُعتدلة، قد جلس وبدأ يكتب على رقٍّ، فدفعني الفضول إليه. فبادرته بالسلام، وأجاب بمثله مع ابتسامة رائقة هادئة. - هل لي في مقاطعتك عِدّة دقائق؟ - إنّ الوقت بعد صلاة الإفخارستيا (الشكر) مُخصّص للتأمُّل والشكر على عطيّة الله. - هل أعود بعض قليل؟ - لا.. لا بأس، فحوارنا قد يصبح تمجيدًا وسُبحًا لله أكثر من أفكارنا الذاتيّة. - أراك تُدوِّن شيئًا؟ - نعم إنّها بعضُ التأمُّلات عن الغنوسيّة (المعرفة) الحقّ القائمة على الإيمان والاختبار الحياتي، مع بعض الخواطر التي لاحقتني مؤخّرًا عن بعض العبارات الأفلاطونيّة والتي لها اكتمالات مسيحيّة بالإيمان بالمسيح يسوع. - وهل قرأت لأفلاطون؟ - بالطبع، فلقد درسته دراسة مستفيضة بعد أن مررت على خيام الرواقيين وقضيت عندهم وقتًا ليس بقليل. - وكيف بعد هذا العِلم صرت مسيحيًّا؟ - عذرًا؟ - أقصد أولم تشبع من تلك الفلسفات العميقة لتصير ابنًا لأحد مذاهبها وتعمل على نشره!! - لقد آمنت بالمُعلِّم الأعظم، المسيح يسوع، الإله القدّوس، اللُّوغوس، مُرشد كلّ البشر، الإله المُحبّ.. لذا لن أتركه إلى مجلسٍ آخر ما حييت.. - وماذا عن أفلاطون؟ - وماذا عنه؟ - هل ستتخلّى عنه بتلك البساطة؟ - عزيزي، أفلاطون يُمثّل أحد المراحل الفلسفيّة في الوصول إلى الحقيقة، وقد كان مُلهِمًا في دفع الجموع خطوة نحو الحقّ، ولكن الحقّ لم يكن مكتملاً عنده، فأمام الماورائيّات كانت نظرياته فكرًا مُجرّدًا لا يستند على حقائق. أفلاطون حلقة من حلقات إعلان الحقّ قبل المسيح. ولكن في المسيح، أُعلِن الله للعالم، ليخلُص به العالم. جاء ليفتدي البشر ويعبر بهم إلى الخلود في الملكوت الأبدي. - إني لمتعجّب، إذ أسمع دائمًا أنّ المسيحيّين رافضين للفلاسفة بل ويعملون على دحض آرائهم -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- فكيف تتآلف مع الفكر الأفلاطوني وتراه حلقة إيمانيّة على عكس الجميع؟؟ - إنّ ما ترفضه المسيحيّة هو المذهبيّة الوثنيّة المناقضة للعقل من خلال عبادة أكوام من الحجارة المهذّبة بأيدي البشر، بينما الفلسفة من حيث كونها تأمُّل في الكون وبحث عن الحقّ واتّباع الفضيلة فهي محمودة بل وفي صميم الإيمان المسيحي.. ولكن قل لي: ألست مسيحيًّا؟ - لا - فماذا أنت؟ - أنا أتعبّد لسيرابيس آلهة البلاد العظيمة، وأدرس الفلك في الموسيون على يد بسكينوس، وقد دار بيننا حوار حول إحدى فقرات أفلاطون، فأرشدني إلى أحد أساتذة الفكر الأفلاطوني في الموسيون وهو بلينوس والذي بدوره طالبني أن آتي إلى ههنا لأستوضح له بعض الأمور عن المسيحيين. - أتقصد تلك الدعاوى المُضحكة بأنّنا نمارس علاقات أوديبيّة (مُحرّمة) وأننا نشترك في ولائم ثيستينيّة (من لحوم البشر)؟؟ - نعم. - وماذا رأيت؟ - لم أرى سوى التقوى والفرح على وجوه الجميع. - اذهب إذًا واخبر مُعلِّمك بما رأيت وادعوه ليأت ويرى بنفسه.. عذرًا يجب عليّ الذهاب الآن. - هل أطمع في لقاءٍ آخر؟ - على الرحب والسعة، يمكنك المجيء للمشاركة في حلقة الدراسة لمبتدئي الإيمان والتي نشرح فيها أساسيّات إيماننا المسيحي. يمكنك الانضمام إن أردت؟ - بالتأكيد، ومتى يكون اللقاء؟ - بعد الغد، في الصباح الباكر، إذ نقضي بعض الوقت في التأمُّل قبل أن نخوض في الشروحات الإيمانيّة. - وهل تأذن لي بمعرفة اسمك؟ - ردّ عليه بصوت خفيض وكأنّه صدى يتناثر في الآفاق: كليمندس.. كليمندس السكندري فرك بلينوس جبهته وهو يقول: إنّ هذا الاسم يتردّد الآن في المدينة.. يا ترى مَنْ هو كليمندس هذا؟؟ __________________ |
||||
25 - 06 - 2014, 11:11 AM | رقم المشاركة : ( 16 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
الفصل الثالث: أبشالوم جلس أمام الفرن المشتعل وأدخل الزجاج المصهور بعد أنْ قام بنفخه عِدّة مرّات من خلال قضيبٍ من الحديد عند الطرف. كان يُخرِج الزجاج الذائب المُتوهّج ويبدأ في إدارته يمينًا ويسارًا بسرعة شديدة من خلال قضيب الحديد المُتّصل به، بينما كان يمسك بيده اليسرى قضيبًا آخر مثني ذو طرفين يعلوه مقبض خشبي على الناحيتين، كان يستخدمه لإضفاء أطوالاً للزجاج الذائب. كان يضيف إلى الزجاج المصهور أكسيد النحاس لإكسابه ألوانًا برّاقة، الأمر الذي جعله يشتهر في المدينة. إنّه أبشالوم الشاب اليهودي. كان في النصف الثاني من العشرينات، إلاّ أنّ الوَخَطَ (أوّل الشيب) قد عرف السبيل إلى رأسه ولحيته الصغيرة. يعمل في صناعة الزجاج مع والده إليعازر أحد رجالات المجمع اليهودي. امتلك إليعازر حانوتًا كبيرًا لبيع الأواني والزهريّات الزجاجيّة التي كان يُصنِّعها على اختلاف أشكالها وأنواعها. كان إليعازر من أثرياء اليهود السكندريين وكان يُعوَّل عليه كثيرًا في سدّ نفقات الاجتماعات والدراسات التي تجري في بيت المِدْرَاش (بيت الدراسة) المُلحَق بالمجمع، كما كانت له أيادٍ بيضاء على المجمع الكبير لتوفير احتياجاته لإعادته إلى سابق عهده قبل التخريب الذي أصابه إبّان الفتنة الكبرى عام 116 م. كان الحي اليهودي هو الحي الرابع، حي دلتا (Δ)، إذ كانت الأحياء السكندريّة الخمسة تُسمّى بالحروف الأولى من الأبجديّة اليونانيّة، ويقع الحي اليهودي في الجهة الشماليّة الشرقيّة من المدينة. كان المجمع الكبير يقع في ليونتوبوليس في إحدى ضواحي الإسكندريّة. والمجمع كان بناية ضخمة حتّى إنّ المجتمعين في السبوت لم يستطيعوا سماع القراءات والصلوات فكانت تُستخدم الأعلام حتّى يردّ الجميع بالـ“آمين” عقب البركات، هكذا كان المجمع قبل ما يناله خراب الرومان.. وبالطبع كان أبشالوم ممّن تربّوا على التقليد اليهودي وحلَّق في الخيال مع قصص الأجَّداه (الأمثال والحِكَم والقصص اليهوديّة) وتتلمذ على الرابيين ذوي المكانة المرموقة في المجتمع اليهودي نتيجة لتحفُّظهم في تطبيق الوصايا. وعلى الرغم من كون الإسكندريّة لوحة تحمل الكثير من الأعراق والأجناس والأفكار والثقافات إلاّ أنّ التشاحن كان يطفو أحيانًا على السطح ليقود لمعاركٍ شرسةٍ بين الفرقِ. كثيرًا ما كان يشهد الأجورا (السوق) الصراعات والتلاسنات، وخاصةً مع اليهود الذين يبدو عليهم وكأنّهم يأنفون من معاملةِ غيرهم، وهم يشعرونَ بأنّهم عِرقٌ نقيٌّ خاصٌ بالإله؛ يهوه. وفي المقابلِ كان اليونانيون والرومانيون يرون أنّهم أسياد المدينةِ فكريًّا وسياسيًّا وأصحاب الحقوق الكاملة والمناصب الرفيعة، فهم لا يدفعون ضريبة الرأس، بينما كان السكندريون من الأصول المصريّة يرون أنّهم أصل الشجرة الوارفة الظلال وأنّ الفرقتين السابقتين دخيلتان عليهم. وهو الأمر الذي يؤدّي إلى التطاحنِ وقد يصلُ الأمرَ إلى إراقةِ الدماء. |
||||
25 - 06 - 2014, 11:11 AM | رقم المشاركة : ( 17 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
لم يكن أبشالوم يَسْلَم من مضايقاتِ شباب اليونانيين. ففي صباح اليوم أثناء ارتياده للأجورا لشراء مستلزمات حِرَفيّة، وقف أحد الشباب مقابله، إذ عرف أنّه يهوديٌ من التيفلّلين (عصائب جلديّة تحتوي على فقرات من التوراة) الذي لفّ به رأسه، مُتعمِّدًا السخرية من اسم يهوه وهو يقول لرفقته في وسط الأجورا: إنّ يهوه استيقظ اليوم من راحته وسُباته بالأمس؛ السبت.. ليته يتلقّن من سيرابيس كيف يقف يقظًا ساهرًا طوال اليوم.. ويتضاحك الجميع وهم يتمايلون.. يرد آخر: لعلّ يهوه كان يجمع الأموال ليدفع الضريبة لجوبيتر(1)!! الأمر الذي يدفع أبشالوم إلى العراك معه، ساخرًا من سيرابيس في المقابل، قائلاً: إنّ سيرابيس يقف منتظرًا مَنْ يذهب به ليغتسل من أتربة الإسكندريّة وعواصفها.. ويتحوّل طيش الشباب إلى تطاحنٍ دينيٍّ يلتئم أتباعه في التوِّ لينتصرَ كلُّ منهم لإلهه.. لم ينس اليونانيون لليهود خيانتهم للإسكندريّة حينما كان يوليوس قيصر مُحاصَرًا في الإسكندريّة، ووصلت حملة رومانيّة لنجدته يتزعّمها مثراداتيس البرجامي، وكان في إمكان حامية ليونتوبوليس اليهوديّة أنْ تقف في وجهها وتردعها بمنتهى السهولة، إلاّ أنّهم ساعدوا الجيش الروماني في الوصولِ إلى قيصر بناءً على توجيهات من أنتيباتر في اليهوديّة. كما كانت موالاة اليهود لأوكتافيوس على حساب كليوباترا دافعًا لتأجيج مشاعر مواطنو الإسكندريّة ضِدّ اليهود الذين كان يبحثون عن مصالح خاصة على حساب مدينة الإسكندريّة. في المقابل، لم ينس اليهود قرار فلاخوس الوالي في الماضي بإعلان اليهود أجانب وغرباء عن المدينة، وتحديد إقامتهم في الحي الرابع، بل إنّ الحامية الرومانيّة جالت في الحي ودمَّرت المساكن ونهبت المتاجر، وكذلك أوغر الرومان السكندريون صدر الإمبراطور من جهة اليهود إذ راسلوه قائلين: إنّ اليهود يرفضون وضع أيقوناته والتعبُّد لها.. ممّا أدّى إلى قتل الكثيرين في 31 أغسطس المشؤوم من عام 38 م.. كما لم يغفر اليهود ما حدث عام 66 في عهد نيرون، إذ أطلق تبيريوس يوليوس اسكندر الحاكم المصري، فرق جنود الرومان الذين عملوا النهب والسلب والقتل، وقتلوا في ذلك اليوم خمسون ألفًا ولم ينج منهم شيخًا ولا طفل.. كان يعقوب تيودوروس مارًّا من المكان، وحينما رأى العراك، تدخّل وسحب أبشالوم إلى الخارج، وابتعد به عن بؤرة الأحداث قبل أن تتفاقم الأمور ويتدخّل الجند الرومان. يعقوب تيودوروس من اليهود المُتهللّنين المُتحرّرين، وهو اسم مُركَّب كعادة بعض اليهود في إضفاء صبغة يونانيّة على الاسم ليستطيع التعامل بحريّة في المجتمع التجاري السكندري. كان يعقوب من الذين اندمجوا في الثقافة السكندريّة متخطيًّا حاجز العرق اليهودي، وكان ممّن يتبعون منهج فيلو الذي جمع بين الإيمان اليهودي والثقافة الإغريقيّة وكأنّه يحاول الخروج بطرفي النزاع في المجتمع إلى برّ الأمان والسلام. |
||||
25 - 06 - 2014, 11:12 AM | رقم المشاركة : ( 18 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
- ما الذي زجّ بك في هذا العراك؟ سأل يعقوب - هؤلاء الأوغاد يسخرون من أدوناي - دعهم يقولون ما يشاءون، فأدوناي قادرٌ على حماية اسمه بين الأمم - أو لا نغير على إيماننا وإلهنا!! - إنّ المدينةَ الآن في قبضتهم، وهم يتحيّنون الفرصة لكيما يصبُّوا علينا جام غضبهم ليخرجونا من الإسكندريّة، يجب أنْ نحتاط لهذا الأمر. - إنّي أفضّل الموت عن الصمت أمام بذاءاتهم.. - يا صديقي، الحكمة تقتضي الصمت إلى أن نسترد عافيتنا وقوّتنا في المدينة.. على أيّة حال، أنا يعقوب تيودوروس، وأنت؟ - أبشالوم بن إليعازر - سعدت بلقائك، وأتمنّى أنْ أراك قريبًا ولكن ليس في مشاجرةٍ ابتسم أبشالوم وهو يقول: بالطبع.. - تبادلا السلام وذهب كلٌّ منها في طريقه. |
||||
25 - 06 - 2014, 11:12 AM | رقم المشاركة : ( 19 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
كان أبشالوم يلقى الدعم والتشجيع من الرابيين الذين يثنون على حميته على اسم الربِّ الذي يجب الدفاع عنه ضدّ الأمم الأنجاس عابدي الأوثان. فلقد تلقّن من المُعلّمين منذ أن كان في بيت ها سِفِرْ (بيت الكتاب، وهو المكان الذي يتعلّم فيه الصبي، التوراة، في المرحلة الأولى من عمره) أنْ يغير على الربّ واسمه بين الأمم وهو الذي كان يدفعه إلى الدخول في شجاراتٍ دائمةٍ مع اليونانيين والرومان من أهل المدينة. كان يتذكّر كلمات يوسيفوس عن أولئك الذين سُجنوا وتحمّلوا مختلف الآلامات بل والموت على مسارح الاقتتال من أجل صمتهم وعدم تلفُّظهم بكلمةٍ في حقّ الناموس والنصوص المُقدّسة. إلاّ أنّ ما يلقاه من إطراء على غيرته البدنيّة جعله يُفكّر: ألا يستطيع أدوناي أنْ يبيد الأمم بنفخة فمه، ويعيد المجد والسيادة لشعب الربّ؟؟ ولكنه كان ينفض غبار التساؤل سريعًا، ويرجع ويقول لنفسه: إنّ ما نلقاه من مضايقات لهو تأديبٌ من أدوناي للشعب بسبب مخالطته للأمم وحيده عن الوصايا. آه.. متى يأتي المسيّا ليُخلّصنا من هؤلاء الغوغاء وتصير الأرض كلّها لأدوناي ولمسيحه؟؟ سؤال كان يراوده ليل نهار.. كان أبشالوم على موعد مع الرابي موشى الذي كان يلقاه ليُفسِّر له بعض الأمور الغامضة في التَنَخْ (النصوص الكتابيّة). فقد كان الطفل اليهودي يتعلّم منذ نعومة أظافره أقوال الحاخامات القُدامَى عن أهميّة تعلُّم الناموس. ولعلّ كلمات الرابي هِلِّل كانت أكثرها ترديدّا على فم الرابي موشى إذ اعتاد أن يقول: الرجل الجاهل لا يمكن له أنْ يكون تقيًّا بالحقّ.. ومَنْ يُكثِّر من تعلُّم الناموس تزداد له الحياة، وكلّما ازدادت مدارس تعليم الناموس، ازدادت الحكمة وازداد التعقُّل. إنّ مَنْ يقتني له معرفةً بالناموس يقتني له حياةً في الدهر الآتي. لم ينس أبشالوم تلك الرحلة التي صحبه فيها الرابي موشى لرؤية رابي يهودا هالنّاسي وهناك رأى العمل العظيم الذي كان يقوم به من تجميع أقوال المُعلّمين وأقوالهم في المُجلّد ذو الثلاثة والستّون فصلاً والذي أسماه المشناه. وهناك سمع منه كلمات ضربت بجذورها في عقله، حينما قال: افتكر بثلاثة أمور فلا تقع في الخطأ؛ أنّ فوقك عينًا ترى وأذنًا تسمع وأنّ أعمالك كلّها مُدوّنة في كتابٍ.. دخل أبشالوم على الرابي مُلقيًا بالتحيّة: شالوم رابي.. - شالوم أبشالوم.. ماذا حدث، يبدو عليك الإنهاك، وما سبب هذا التورُّم الذي في وجهك، هل تعاركت مع أحدٍ؟؟ - نعم يا مُعلّم، فلقد سَخَرَ أحد اليونانيين الحمقَى أتباع سيرابيس من أدوناي متلفّظًا بالاسم المُقدّس بل ومستبيحًا الحديث عن سبت الربّ.. - إنّ الجوييم (الأمم) دائمًا يتربّصون بنا ويحاولون استفذاذنا، إنّهم يريدوننا أنْ نتحوّل عن ديانة آبائنا، وننقض العهد الذي قطعه الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب مع أدوناي، لذا يجب ألاّ نصمت أمام سخافاتهم، بل علينا أنْ نلقنهم درسًا ونُريهم قوّة جند الربّ.. - هذا ما فعلته.. - حسنًا فعلت، وإنك لأشبه بإيليا الذي غار غيرةً للربّ -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- وأغار على كهنة البعل وأوثانه النجسة. - ومَنْ أنا لأتشبّه بإيليا العظيم.. - مَنْ غار غيرةً للربّ فقد صار من زمرة الغيورين الذين لهم نصيبًا كبيرًا وعظيمًا في مملكة القدّوس القادمة.. على أيّة حال دعنا نترك أمر الأمم لندخل إلى الشاكيناه (المجد الإلهي الذي كان يُظلّل الجبل عند نزول الربّ على الخيمة) ونفتح النصّ المُقدّس لنتعرّف على إلهنا ووصاياه.. فتح أبشالوم الرقّ وهمّ بالقراءة فاستوقفه الرابي قائلاً: دعنا نتلو البركة أولاً. - عذرًا فقد نسيت. رفع الرابي موشى يديه في مستوى صدره ملاصقًا اليدين من خلال تماس الإبهامين، وأغمض عينيه وقال: امنحنا يا أبانا نعمة المعرفة التي هي منك، وأيضًا الفهم والتمييز من ناموسك. ردّ أبشالوم وهو مُطامِن الرأس قائلاً: مبارك أنت أيها الربُّ، يا مَنْ تمنحنا نعمة المعرفة. |
||||
25 - 06 - 2014, 11:12 AM | رقم المشاركة : ( 20 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
بدأ الرابي بقراءة نصٍّ من سفر الخروج، وهو يتمايل إلى الأمام والخلف في حركة منتظمة كبندول الساعة. توقّف عن الحركة والقراءة وسأل أبشالوم: قل لي يا أبشالوم، في رأيك هل هناك ما يعوق دراسة الشريعة؟ أجاب أبشالوم بنبرة متردِّدة بعد لحظة تفكير جابت فيه عيناه سقف الغرفة: الفقر!! أمال الرابي رأسه إلى أسفل رافعًا عينيه إلى أعلى وهو يقول: عندما تقف النفوس قبالة كرسيّ الحكم الذي لله. يبدأ في سؤال الفقراء والأغنياء والشهوانيين عن عُذرهم في عدم دراسة الشريعة. إن تعلَّل الفقير بفقره يتم تذكيره بهلِّل، فبالرغم من أنّ دخله المالي كان قليلاً إلاّ أنّه كان ينفق نصفه ليدفع رسم الدخول إلى مدرسة الشريعة.. وإنّ اعتذر الغني مُتعلِّلاً بشؤون تجارته وثروته يُجاب بأنّ الرابي أليعزر كان يملك ألف حُرج وألف سفينة، ومع ذلك تخلَّى عن مُتع الثروة كلّها، وراح يرتحل من مدينة إلى أخرى بحثًا عن مسالك الشريعة وتفاسيرها.. وإن احتجّ الشهواني بأنّ الشهوة أغوته وحرفته عن جادّة الصواب صوب الرذيلة، يسأله الله هل تعرَّض لغوايةٍ أكثر ممّا تعرض له يوسف.. وقتها سيستدّ فم الكسالى أمام الله.. بدت عينا أبشالوم ساهمة، فبادره الرابي قائلاً: ما لك اليوم يا أبشالوم؟؟ - في الحقيقة يا مُعلّم، عندي بعض التساؤلات التي تستولي على عقلي؟ - عن ماذا أردت أنْ تسأل؟ - لقد دار حوارٌ بيني وبين أحد أتباع يسوع المصلوب والذي قرأ لي نصّ المزمور الثاني والعشرين. هل لي بقراءة فقرة منه الآن؟ - تفضَّل.. - لأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَارِ اكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ. أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ. يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ. لقد أخذ يشرح أنّه يتحدّث عن المسيّا، وطبّق هذا المزمور على يسوع الناصري مُدّعيًا أنّه هو هو المسيّا.. وأنّ ثقب اليد والرجل هو الصلب، والعظام التي أحُصيت إشارةً إلى عدم كسر عظامه كما كانت العادة مع المصلوبين، وأنّ اقتسام الثياب وإلقاء القرعة عليها هو نفس ما جرى من الجند الرومان على الجلجثة.. |
||||
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
يا قليلي الإيمان الراهب سارافيم البرموسي |
سماؤنا الراهب سارافيم البرموسي |
وجهٌ من نور الراهب سارافيم البرموسي |
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي |
ميلاديات أبونا الراهب سارافيم البرموسي |