تواضع الله
أكلمكم اليوم عن أعظم مثل للتواضع، أو هو المثل الحقيقي للتواضع. وأعني به تواضع الله تبارك اسمه. وكيف ذلك؟
إن الله هو الوحيد الذي يمكن أن يتواضع بحق.
لأنه هو الوحيد العالي جدًا، الذي يتنازل من علوه..
أما الإنسان الذي هو تراب ورماد (تك18: 27)، والذي كان عدمًا قبل أن يكون ترابًا. الإنسان الذي كله خطية وإثم، ما هو معنى التواضع بالنسبة إليه؟ ليس هو في علو لكي ينزل منه، وليس في كمال حتى يخفيه.. إنما التواضع بالنسبة إليه، هو أن يعرف أصله ويعرف ضعفه، ويعرف خطيته. وكما قال أحد الآباء:
تواضع الإنسان هو أن يعرف نفسه..
أما الله فهو الكامل في عظمته، الكامل في قداسته وفي قدرته، غير المحدود في كماله.. فهو الوحيد الذي تليق به صفة التواضع. فكيف إذن ظهر تواضع الله، على قدر ما نفهم تواضعه؟ ونقصد تواضع الله بصفة عامة، وتواضع كل أقنوم على حده:
* كان الله متواضعًا في خلقه للكائنات. فلم يشأ أن ينفرد وحده بصفة الوجود، فمنح الوجود لغيره..
كان وحده منذ الأزل.. ولم يرد -في تواضعه- أن يظل وحده. فأشرك معه في الوجود ما لم يكن..
كثير من الناس -إن وُجد أحد منهم في عظمة أو في منصب- يجمع كل السلطة في يده، ولا يُشرك معه أحدًا في عمل أو تصرف..! أما الله، فلم يفعل هكذا، ولم يشأ أن ينفرد. ومنح العدم وجودًا. ومنح البعض منه حياة، بل أيضًا منحه قوة وسلطة!!
* ومنح البعض من مخلوقاته طبيعة سامية جدًا.
مثال ذلك الملائكة "المقتدرون قوة" كما وصفهم المرتل في المزمور (مز 103: 20). بل أن واحدًا منهم -سطانائيل- الذي صار شيطانًا فيما بعد، قال عنه الرب في سفر حزقيال النبي" أنت خاتم الكمال. ملآن حكمة، وكامل الجمال.. أنت الكاروب المنبسط المظلل.. أنت كامل في طرقك، من يوم خُلقت حتى وُجد فيك إثم" (حز28: 12- 15).
* ومن تواضع الله أن الكائنات التي تمردت عليه، لا يزال يبقيها حتى الآن، ويسمح أن يكون لها سلطان وقدرة!!
خذوا مثالًا ذلك الشيطان: تمرد على الله، وأراد أن يصير مثل العليّ (أش14:14). وأسقط معه عددًا كبيرًا من القوات السمائية، قيل إنهم ملائكته (رؤ12: 7). وكان بإمكان الله أن يفنيه. ولكن من تواضع الله أنه لم يقض على هذا العدو المقاوم، بل استبقاه. وترك له سلطانًا، كما قيل عن الأشرار "هذه ساعتكم وسلطان الظلام" (لو22: 53). والأكثر من هذا إنه صارت له قوة أن يصنع آيات وعجائب، كما قيل عن ضد المسيح في أيام الارتداد الأخير إن "مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة، وبكل خديعة الإثم في الهالكين" (2 تس2: 9، 10).
وكلما أتأمل كيف أن في العالم أناسًا يشتمون الله، ويجدفون عليه ليل نهار، وأناسًا ينكرون وجود الله، ولا يعترفون به، وأناسًا يعصون الله ويحرضون على عصيانه.. ومع ذلك يحتمل الله كل هذا السبّ والتجديف والعصيان، دون أن يفني مقاوميه.. أدرك في أعماقي مقدار التواضع العجيب الذي يتصف به الله..
* ومن تواضع الله، أنه يبعد عن مظاهر العظمة التي تجلب المديح وتبهر الناس. مثال ذلك ندرة استخدامه للمعجزات!
بإمكان الله أن يبهر الناس كل يوم وكل ساعة وكل لحظة بالمعجزات والآيات والعجائب، وبالرؤى والاستعلانات والظهورات المقدسة.. فيجعلهم يلهجون بمجده، ويسجدون أمام قدرته، وعلى الأقل يعترفون بوجوده. ولكنه مع ذلك لم يفعل! ويقتصر إجراء المعجزات على الضرورات النادرة..! إنه يريد أن يجذب الناس إليه بالحب والاقتناع وليس بالعجائب والمعجزات والعظمة..
* الله أيضًا في تواضعه، يسمح لأقل الناس أن يخاطبه!
عجيب أن يجد "التراب والرماد" فرصته ليتحدث مع الله، الله الذي تقف أمامه الملائكة ورؤساء الملائكة والشاروبيم والساروفيم، وكل الجمع غير المحصى الذي للقوات السمائية، بكل توقير وخشية..
قد يجد الإنسان صعوبة في كثير من الأحيان، أن يتحدث مع تراب مثله، إن كان ذلك التراب له منصب عالٍ أو مركز كبير! أما الله فيمكنك أن تكلمه وأن تتفاهم معه. بل من الجائز أن تكلمه، وقد كسرت وصاياه منذ دقائق أو لحظات!
وفي تواضع الله، سمح أن يتحدث حتى مع أشر الخطاة!
تنازل وتكلم مع قايين، أول قاتل على وجه الأرض. ولما قال له قايين"إنك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض.. فيكون كل من وجدني يقتلني"، أجابه في عدل وعطف "كل من قتل قايين، فسبعة أضعاف ينتقم منه" (تك4: 14، 15).
وتنازل الله، فأرسل ملاكًا يتكلم مع بلعام.. وذلك الإنسان المضل الذي أعثر الشعب وألقى معثرة أمامه وجعله يخطئ (رؤ2: 14).، .سمح الله بتواضعه أن ينطلق الروح القدس على فمه بنبوءات تُعد من أشهر النبوءات عن التجسد (عد24: 17).. حتى أن هذا المضل قال عن نفسه "وحي بلعام بن بعور، وحي الرجل المفتوح العينين، وحي الذي يسمع أقوال الله، الذي يرى رؤى الله، مطروحًا وهو مكشوف العينين" (عد24: 3، 4) وقال إنه "يعرف معرفة العلي" (عد 24: 16)!
والله في تواضعه، يأخذ موقف من يستشير أنبيائه:
فعندما رأى أن "صراخ سادوم وعمورة قد كثر، وخطيئتهم قد عظمت جدًا" (تك 18: 20)، وأراد أن يهلكهم، قال "هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟!" (تك18: 17). ومن هو إبراهيم هذا الذي تريد أن تخبره قبل أن تُجري مشيئتك؟ أليس هو حفنة من تراب ورماد؟ كلا، يقول الرب، بل "إبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية، وتتبارك به جميع أمم الأرض" (تك18: 18).
ويعرض الرب على إبراهيم، ويعطيه الفرصة والحرية أن يجادله، وأن يقول له "عسى أن يكون خمسون بارًا في المدينة.. حاشا لك أن تفعل هذا الأمر، أن تبيد البار مع الأثيم، فيكون البار كالأثيم! حاشا لك. أديان الأرض كلها لا يصنع عدلًا؟!" (تك18: 24- 25). وتستمر المناقشة، ويقبل الرب الحوار، بل يقبل بتواضعه الجرأة في الحوار!
ويتكرر الأمر مع موسى النبي عندما أراد الرب أن يفني ذلك الشعب، الذي صنع عجلًا من ذهب وعبده (خر 32).
كان الرب قد قرر إفناء ذلك الشعب الخائن. ولكنه نادى موسى أولًا. وقال له فسد شعبك الذي أصعدته من أرض مصر. زاغوا سريعًا عن الطريق الذي أوصيتهم به. صنعوا عجلًا مسبوكًا وسجدوا له، وذبحوا له، وقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.. فالآن اتركني ليحمى غضبي عليهم وأفنيهم.." (خر 32: 7- 10).
عجيب هو تواضع الرب في قوله لعبده موسى "أتركني..".
من هو هذا موسى يا رب الذي تطلب إليه أن يتركك لتنفذ مشيئتك؟! على أن موسى هذا لم يتركه ليغضب ويُفنى. بل قال له "والآن إن غفرت خطيتهم. وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت" (خر32: 32)!! وسمع الرب لموسى، ولم يفنهم.
يذكرني هذا الموقف بقصة الرب مع يعقوب وهو يصارعه: إذ قال الرب ليعقوب "أطلقني، فإنه قد طلع الفجر" فقال يعقوب "لا أطلقك حتى تباركني" (تك32: 26).
ونلاحظ في تواضع الرب مع إبراهيم وموسى نقطة هامة وهي:
* إن الله سمح لهما في حوارهما معه بألفاظ تبدو شديدة.
إبراهيم يقول للرب "حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر.. أديان الأرض كلها لا يصنع عدلًا؟! (تك 18). وموسى يقول للرب "ارجع يا رب عن حمو غضبك واندم على الشر" لماذا يتكلم المصريون قائلين: أخرجهم بخبث، ليقتلهم في الجبال، ويفنيهم عن وجه الأرض!" (خر32: 12).
* إن الرب في تواضعه يسمح لنا أن نناقشه، بل يطلب منا ذلك بقوله: "هلم نتحاجج، يقول الرب" (أش1: 18).
هناك أناس لا يقبلون أن يناقشهم أحد فيما يصدرونه من أوامر ومن قرارات. يعتبرون ذلك كبرياء ممن يناقشهم، وتجاوزًا لحدوده. وإقلالًا من كرامتهم وهيبتهم. أما الله فإنه في تواضعه يقبل الحوار والنقاش:
أيوب الصديق يقول للرب "لا تستذنبني. فهمني لماذا تخاصمني؟ أحسن عندك أن تظلم، أن ترذل عمل يديك؟!" (أي10: 2، 3).
وإرميا النبي يقول له "أبرّ أنت يا رب من أن أخاصمك، . ولكني أكلمك من جهة أحكامك: لماذا تنجح طريق الأشرار؟ اطمأن كل الغادرين غدرًا!" (أر12: 1).
وداود النبي يعاتبه قائلًا "لماذا يا رب تقف بعيدًا؟ لماذا تختفي في أزمنة الضيق؟!" (مز10: 1).
والرب يسمع كل هذا، بتواضعه وسعة صدر، ولا يغضب.
* ومن تواضع الرب إنه يرفع شأن أولاده. وقد يعطيهم ألقابه.
يقول لعبده موسى "أنظر. قد جعلتك إلهًا لفرعون (أي سيدًا له). وهرون أخوك يكون نبيك" (خر7: 1). ولما اعتذر موسى عن إرساليته، بحجة أنه ثقيل الفم واللسان، منحه هرون أخاه، وقال له "تكلّمه وتضع الكلمات في فمه، وأنا أكون مع فمك ومع فمه.. هو يكلم الشعب عنك، وهو يكون لك فمًا، وأنت تكون له إلهًا (أي توحي إليه) [خر4: 15-17].
وعندما أراد الله أن يكون لموسى سبعون شيخًا يساعدونه، قال له: "اجمع إليّ سبعين رجلًا من شيوخ إسرائيل الذين تعلم أنهم شيوخ الشعب وعرفاؤه.. فأنزل أنا وأتكلم معك.. وآخذ من الروح الذي عليك، وأضع عليهم" (عد11: 16، 17).. وفعل الله هكذا (عد11: 25). كان يمكنه أن يمنحهم الروح مباشرة. ولكنه أخذ من الروح الذي على موسى ووضع على السبعين. فلما حلّ عليهم الروح تنبأوا (عد 11: 25). من تواضع الله، أراد أن يشعر أولئك الشيوخ أنهم من أتباع موسى، قد أخذوا من الروح الذي عليه..
وبنفس الوضع رفع الرب من شأن يوسف الصديق، وجعله أبًا لفرعون، وسيدًا لكل بيته، (تك45: 8).
* والشريعة التي هي شريعة الله، تسمى شريعة موسى.
وهكذا فإن داود الملك قال قبل وفاته لابنه سليمان، "أحفظ شعائر الرب إلهك.. كما هو مكتوب في شريعة موسى، لكي تفلح في كل ما تفعل.." (1مل2: 3). وسميت أيضًا "شريعة موسى" في سفر نحميا (نح8: 1). وفي سفر دانيال النبي (دا9: 11). إنها شريعة الله. ولكن من تواضعه سميت شريعة موسى.
وأسفار الأنبياء أيضًا سميت بأسمائهم، مع أنها كتب الله.
ولكن الله -من تواضعه- سمح أن تُطلق عليها أسماؤهم. فيقال سفر صموئيل النبي، وسفر إشعياء، وإرميا، وحزقيال، ودانيال، وملاخي.
وربنا يسوع المسيح يقول للكتبة والفريسيين "إن موسى -من أجل قساوة قلوبكم- أذن لكم بالطلاق" (مت19: 8).. مع أن الإذن صدر من الله.. ولكن لا مانع أن يُنسب إلى موسى، تواضعًا من الله، ورغبة منه في أن يرفع من شأن أولاده..
وبعد، يعوزنا في الحديث عن تواضع الله، أن نتحدث عن تواضع أقنوم الابن، وأقنوم الروح القدس.