30 - 12 - 2013, 05:45 PM | رقم المشاركة : ( 11 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب الوسائط الروحية لقداسة البابا شنوده الثالث
قراءة سير القديسين قراءة سير القديسين Hagiography من أهم الوسائط الروحية التي تستخدمها النعمة لتنمية علاقتنا مع الله، إشعال محبتنا له وملكوته. وهى تقدم لنا التنفيذ العملي للمبادئ الروحية. ربما تبدو لنا كثير من الوصايا والتعاليم وكأنها مبادئ نظرية. ولكننا نراها في سير القديسين في الواقع العملي، منفذة بصورة واضحة وفي ظروف مناسبة لها. وهكذا ترينا سير القديسين أن وصايا الرب سهلة وممكنة، وليست مثاليات نظرية. فكثيرًا ما يقول البعض في استغراب: من يستطيع أن ينفذ هذه المثاليات؟! هل حقًا يمكن لإنسان أن يحول الخد الآخر لمن يلطمه على خده؟! (مت 5: 39). هل يمكن أن يصلى إنسان كل حين ولا يمل (لو 18: 1)؟! وأن يصلى بلا انقطاع! (1تس 5: 17). وهل يمكن أن يعطى الإنسان كل ماله للفقراء؟! (مت 19: 21). هذه الأسئلة مع الكثير من أمثالها، نراها جميعًا مجابة وممثلة في سير القديسين. ولقد سمح الله أن يقدم لنا هؤلاء القديسون أمثلة عالية في كل فضيلة من الفضائل بلا استثناء وبطريقة مذهلة حقًا، تدعو إلى الإعجاب الشديد بروحانية أولئك الأبرار، حتى وكأنهم كانوا ملائكة أرضيين، ارتفعوا فوق مستوى المادة والجسد، وعاشوا بالروح مع الرب، في حياة نصرة كاملة على كل حروب العدو. أو نقول أنهم عادوا إلى الصورة الإلهية التي خلق بها الإنسان منذ البدء.. فحياتهم تشجع كل إنسان أن يسير في النهج الروحي، بلا خوف، وبلا تردد. بحيث نقول في ثقة حينما نقرأ عنهم: الله قادر أن يعيننا كما أعانهم.. حياة البر إذن ممكنة وسهلة ومتاحة، لكل من يطلبها. ونعمة الله مستعدة أن تعمل في كل قلب، وترفعه إلى أسمى درجة، مهما كانت حالته الأولى.. فروح الله الذي كان يعمل، ويقود النفوس نحو الله، ويمنحهم كل الإمكانيات والمواهب. فما عمله القديسون، هو ما عمله روح الله معهم. أترانا نقرأ عنه أم عنهم في هذه السير؟ أما القصص التي وردت في سير القديسين، إنما تحكى "عن شركة الروح القدس" (2كو 13: 14) أو هى قصة (الله مع الناس). عمل الله معهم، أو عملهم معه. يبدأ الله فيستجيب الناس، أو يتجه الناس نحو الله، يجذبهم إلى أحضانه بكل قوة. أو هى صورة لتلك العبارة في سفر النشيد "اجذبني وراءك فنجرى" (نش 1: 4). لقد كان لسير القديسين تأثير عميق في الجميع على مدى الأجيال. فقصة حياة القديس الأنبا أنطونيوس التي كتبها القديس أثناسيوس الرسولي، كان لها تأثير عجيب في أهل رومه، حتى كانت سببًا في انتشار الرهبنة هناك. ولما قرأها القديس آوغسطينوس تأثر بها جدًا، وقادته إلى التوبة. كذلك فإن تأثير سير الرهبان في برية شيهيت، جذب إليهم السواح من كافة البلاد، ليروا هؤلاء الذين عاشوا على الأرض وكأنهم في السماء.. فجاءوا إليهم، ليسمعوا من أفواههم كلمة منفعة، وكتبوا قصصهم أو بعضًا منهم، فحفظها التاريخ. إن هؤلاء القديسين لم يكتبوا أي كتاب عن حياتهم. ولكن حياتهم كانت هى أشهى كتاب. كانت التاريخ الحي الذي قرأه جيلهم، وعاش به ونقله إلى باقى الأجيال. والوحي الإلهي نفسه نقل إلينا سير كثير من الأنبياء والرسل، حتى تسمت بأسمائهم بعض الأسفار المقدسة، التي شرحت لنا عمل الله فيهم، ورسالتهم التي كلفهم الله بها، وسيرتهم المقدسة. وقد اهتمت الكنيسة جدًا بسير القديسين. فوضعتها في كتاب اسمه السنكسار Synaxarium، لكي تقرأ منه في كل قداس إلهي، سيرة واحد منهم أو أكثر، لتعزيتنا وتعليمنا. وتقرأ أيضًا على المؤمنين جزءًا آخر من سير آبائنا الرسل الأطهار من (الأبركسيس)، أي سفر " أعمال الرسل ". وما أكثر ما تقيم الكنيسة أعيادًا لأولئك القديسين، تحتفل فيها بذكراهم، وتعيد على الآذان والأذهان سيرهم وفضائلهم. وكذلك أيقوناتهم في الكنائس، وما يوضع أمامها من شموع، إنما تعيد إلى الذاكرة سير أولئك القديسين، لتكون غذاء للروح ومجالًا لتأمل فضائلهم. وما أجمل قول ماراسحق: " شهية هى أخبار القديسين، مثل الماء للغروس الجدد". كانت التاريخ الحي الذي قرأه جيلهم، وعاش به ونقله إلى باقي الأجيال. والوحي الإلهي نفسه نقل إلينا سير كثير من الأنبياء والرسل، حتى تسمت بأسمائهم بعض الأسفار المقدسة، التي شرحت لنا عمل الله فيهم، ورسالتهم التي كلفهم الله بها، وسيرتهم المقدسة. إنها غذاء روحي لا يستغنى عنه أحد، يجلب لنا الشعور بمحبة الله، ومحبة طرقه التي تؤدى إلى الملكوت.. وتجعلنا أيضًا نحب الفضيلة، ونحب أولئك الأبرار، ونتخذهم لنا آباء وشفعاء، ونحرص أن نعمق علاقتنا بهم، وكأنهم أحياء يعيشون معنا على الأرض، نتحدث إليهم ونطلبهم. ومن محبتنا لهم ولسيرتهم، نتسمى بأسمائهم. ونشكر الله أنه في أيامنا هذه، كثر التسمي بأسماء القديسين التي نسمى بها أطفالنا، لينشأوا محبين للقديسين، وأيضًا اعترافًا منا بمحبتنا لهم وإعجابنا بسيرتهم.. ونفس الوضع حينما يدخل أحد في حياة التكريس، راهبًا أو كاهنًا، يتسمى باسم أحد هؤلاء القديسين، اعترافًا منا بالسيرة المقدسة التي لهذا الاسم الحسن. وأود في هذا المقال أن أسجل بعضًا من التأثير الروحي لسير القديسين: 1- التأثير الأول هو القدوة: وهذا ما قاله القديس بولس الرسول " اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله. انظروا إلى نهاية سيرتهم، فتمثلوا بإيمانهم" (عب 13: 7). وهنا نجد أمامنا منهجًا واسعًا جدًا. فكل فضيلة يريد إنسان أن يقتنيها، نجد مجموعة من القديسين يرشدونهم بحياتهم إلى كيفية السلوك فيها، ويقدمون لنا مثالًا عمليًا، وحافزًا يجذبه إليها.. على أنني أحب هنا أن أضع ملاحظة هامة وهى: علينا أن نقتدي بالقديسين فيما هو ممكن لنا. فمثلًا قد لا تكون حياة الاستشهاد متاحة. ولكننا نقتدي بالشهداء في قوة إيمانهم، فى شجاعتهم، في احتمالهم للإيمان، وفي الاستعداد للأبدية، وعدم محبة العالم ولا التمسك به.. وكل هذا ممكن لنا. وقد لا نستطيع الصلاة الدائمة، كما كان يفعل القديس أرسانيوس الكبير، أو القديس مقاريوس الإسكندارني.. ولكن على الأقل ليكن لنا محبة الصلاة والاستمرار فيها على قدر قامتنا الروحية. ولنعلم أن حياة قديسى البرية غير حياتنا في العالم. فلا نقلدهم في طيّ الأيام صومًا، الأمر الذي أتقنوه بعد سنوات طويلة من التدريب الروحي، وساعدتهم عليه حياة السكون.. إنما ليكن اقتداؤنا بهم في تلك الفضائل العالية تحت إرشاد روحي، وبتدرج حكيم. وهناك فضائل أخرى متاحة للجميع، مثل الاتضاع، والوداعة، والهدوء، وخدمة الآخرين واحتمالهم، وعدم الغضب، وما يشبه ذلك. أما الصمت الكامل، فلا يناسبك، إنما تأخذ منه: الكلام عند الضرورة، والكلام بقدر، واختبار الكلمة المناسبة، والكلمة البناءة النافعة.. فلا تقلد الفضيلة تقليدًا كاملًا لا يناسبك ولا تقدر عليه. ولا ترفضها بالتمام في يأس. وإنما خذ منها بقدر، وبحكمة، وبتدرج، وتحت إرشاد.. خذ الفضيلة في روحها، لا في شكلها: فحينما تقرأ مثلًا عن قديسى التوبة، حاول أن تكون مثلهم في حرارة توبتهم، وفي عدم عودتهم مطلقًا إلى الوراء. وتمثل بهم في إنسحاق قلوبهم وفي دموعهم. ولكن لا تقلد تقليدًا حرفياَ الذين قادتهم التوبة إلى الرهبنة مباشرة مثل بيلاجية ومريم القبطية وموسى الأسود، وأوغسطينوس.. خذ محبة التائب لله، وعودته إليه، وعميق ندمه، واشمئزازه من الخطية.. ولكن عش في حدود شخصيتك وإمكانياتك، وما أعطيته من النعمة.. 2- التأثير الثاني لسير القديسين هو تقوية الإيمان: سواء ما تقدمه سير الشهداء والمعترفين من التمسك بالإيمان، إلى حد الموت من أجله، أو قبول كل صنوف التعذيب، برضى وفرح وصبر.. أو ما تقدمه سير أبطال الإيمان الذين دافعوا عن العقيدة، بكل قوة وكل فهم، محتملين في سبيلها السجن والنفي والتشريد وكافة ألوان الاضطهاد، كالقديس أثناسيوس الرسولي مثلًا: الذي نفى عن كرسيه أربع مرات، واتهموه اتهامات شنيعة، وصدرت ضده أحكام، وقيل له "العالم كله ضدك يا أثناسيوس".. نقرأ عن ذلك فيتبكت هذا الجيل، الذي لا يبالى بالخلاف في المذهب أو العقيدة، وينسى ما تحمله القديسون من آلام في سبيل ذلك!! كانت المجامع المحلية والمسكونية تقام بسبب نقطة خلاف واحدة. ويبذل القديسون كل جهدهم في الدفاع عن الإيمان وفي إثبات العقيدة السليمة. والآن من أجل زواج أو طلاق، يمكن أن يغير إنسان مذهبه، بكل سهولة وبلا مبالاة، أو بجهل!! أو يختلف شخص مع أحد رجال الكهنوت، فيترك الكنيسة كلها، بكل إيمانها وعقيدتها. ولا يبالى بكل جهاد القديسين في سبيل ذلك الايمان. لذلك نحن محتاجون إلى قراءة سير القديسين أبطال الإيمان، لتغرس في نفوس الجميع أهمية الإيمان والثبات فيه، ونبذ ما يسمى بـ"اللاطائفية"!! إن الكنيسة ليست طائفة، ولا هى مجموعة طوائف، ولكنها جماعة المؤمنين بإيمان سليم في كل تفاصيله.. هذا الإيمان الذي استشهد من أجله قديسون في جميع الأجيال، والذين تألم بسببه وتعذب عدد كبير من القديسين. ومن بينهم رهبان عاشوا في البرية الجوانية. ولكن عاشوا في الأيمان. وما أجمل الرمز الذي يحويه تكفين الأنبا بولا السائح في رداء البابا أثناسيوس بطل الإيمان.. 3- التأثير الثالث لسير القديسين هو غرس مشاعر الاتضاع و الانسحاق: فكلما نقرأ عن هذه القمم العالية، وما وصلوا إليه، تتضع نفوسنا في الداخل، ونشعر أننا لا شيء إلى جوارهم.. حينما نقرأ عن القديس الأنبا ابرام في العطاء، ألا تنسحق نفوسنا؟ هذا الذي كان يعطى كل شيء. ولا يبقى لنفسه شيئًا. حتى أن البعض أعطاه مرة قطعة قماش أسود ليفصلها ثوبًا له بدلًا من جلبابه البالي، فوهب قطعة القماش هذه لأرملة زارته.. أو ماذا نقول عن الأنبا يوحنا الرحوم الذي باع كل ما كان له وأعطاه للفقراء، ولما لم يجد شيئًا يملكه، باع نفسه عبدًا، وتبرع بثمن نفسه للفقراء..!! ألا تتضع نفوسنا، حينما نقارن عطاءنا بعطاء هؤلاء؟! حقًا إن سير القديسين تطرد من نفوسنا كل محاربات الكبرياء والمجد الباطل، إن حاربنا العدو بها. إن حاربتنا أفكار من جهة خدمتنا، وقارنا أنفسنا بسيرة بولس الرسول الذي تعب أكثر من جميع الرسل (1كو 15: 10). وبشر في أورشليم، وفي إنطاكية، وآسيا الصغرى، واليونان، وفى رومه، ووصل إلى أسبانيا. وأسس كنائس لا حصر لها، وذاق متاعب لا توصف (2كو11)0 وكان يكتب رسائل، حتى وهو في السجن (أف 4: 1).. ألا تنسحق أنفسنا بهذه المقارنة وأشباهها؟! ومهما انسحقنا لن نصل إلى اتضاع القديسين. هؤلاء الذين على الرغم من كل فضائلهم، قيل إنهم كانوا يبكون على خطاياهم!! القديس مقاريوس الكبير بكى وأبكى كل المجمع معه. القديس موسى الأسود، القديس بيشوي، القديس باخوميوس الكبير.. ماذا كان يبكى كل هؤلاء؟ القديس أرسانيوس الذي كان يقف ليصلى وقت الغروب، والشمس خلفه، ويظل واقفًا في الصلاة حتى تشرق مرة أخرى من أمامه، يقال إنه سقطت رموش عينيه من كثرة البكاء. وكان يبلل خوصه بالدموع!! فأين هو اتضاعنا نحن مهما اتضعنا؟! القديس مكاريوس الكبير مؤسس الرهبنة بالإسقيط سألوه بعد رؤيته لسائحين في البرية الجوانية، فقال "أنا لست راهبًا ولكني رأيت رهبانًا"..!! القصص أمامنا لا تنتهي فلعلنا نكتفي بهذه.. إننا نحارب بالكبرياء، حينما نقارن أنفسنا بأمثلة حية، نظن أننا أعلى منها!! أما حينما نقرأ سير القديسين، فحينئذ يستد كل فم، وندرك أننا لا شيء.. التأثير الرابع لسير القديسين أنها تعطينا روح الحكمة والإفراز تعلمنا الطريق الصحيح الذي نسلك فيه.. ما أجمل ما نقرؤه عن داود الملك، حينما أراد أن يشترى مكانًا لبناء الهيكل ووافق أرونه اليبوسى أن يهبه كل شيء بلا مقابل، حينئذ رفض داود وقال " لا، بل أشترى منك بثمن. ولا أصعد للرب إلهي محرقات مجانية" (2صم 24: 24). إننا نتعلم الحكمة أيضًا من أبيجايل: كيف أنها تمكنت من توبيخ داود النبي بطريقة ربحته بها (1صم 25: 23 – 35) نتعلم الحكمة من سير آباء البرية، حتى من الشباب. الذين فيهم أمثال القديسين الأنبا يوحنا القصير الذي قيل إن الإسقيط كله كان معلقا بإصبعه. ومثل تادرس تلميذ باخوميوس ومن حكمة الشيوخ مثل الأنبا أغاثون والأنبا ايسيذورس وغيرهم.. إن حكمة الآباء كنز لمن يتعلم.. الدرس الخامس الذي نتعلمه من سير القديسين هو دوام النمو إنه صعود إلى فوق بغير حدود.. مثال ذلك بولس الرسول بكل مواهبه وخدمته وصعوده إلى السماء الثالثة. ومع ذلك يقول " ليس أنى نلت أو صرت كاملًا، ولكنى أسعى لعلى أدرك. أنسى ما هو وراء، امتد إلى ما هو قدام. اسعى نحو الغرض" (فى 3: 12 – 14). الدرجات العليا التي وصل إليها القديسون في كل فضيلة، تحثنا على أن نمتد إلى قدام، ولا نكتفى مهما وصلنا. فالطريق أمامنا طويل طويل.. والنعمة مستعده أن تأخذ بأيدينا لنقطع فراسخ أولًا.. على آثار هؤلاء القديسين، إذ تعطينا سيرهم حرارة لا تخمد ولا تنطفئ.. أمور أخرى كثيرة نتعلمها من تأثير سير القديسين فينا. نتعلم كيف تكون اعترافاتنا أكثر دقة، إذ نكتشف تقصيرات عديدة في حياتنا، بالمقارنة بسيرهم.. نتعلم أيضًا أسلوب التخاطب مع الله في الصلاة، عندما نقرأ صلواتهم، وما فيها من دالة، وما فيها من اتضاع، ومن حب وحرارة.. نتعلم أيضًا أسلوبهم في التعامل مع الناس، وطريقتهم في مواجهة الحروب الروحية، وأسلوب الانتصار عليها. إن الذي يقرأ سير القديسين، يصير على الدوام في تغير مستمر، إلى أفضل: أسلوبه يتغير كلامه يتغير، معاملاته تتغير، محاولًا أن يصل إلى تلك الصورة عينها.. وبعد، أنا لست أدعى مطلقًا أنني وفيت هذا الموضوع حقه، فهو يحتاج إلى كتاب أو كتب. وكل ما ذكرته هو مجرد أمثلة. وأترك لك أيها القارئ العزيز هذا الخضم الواسع من التأمل في فوائد سير القديسين. فلا شك أن هذا الموضوع قد يشمل الحياة الروحية كلها.. |
||||
30 - 12 - 2013, 05:47 PM | رقم المشاركة : ( 12 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب الوسائط الروحية لقداسة البابا شنوده الثالث
التأمل ما معنى التأمل؟ يتأمل إنسان شيئًا يعني أنه يمعن النظر فيه، يدقق، يفحص، يحلله، يرى ما أعماقه. التأمل إذن هو الدخول إلى العمق، سواء في عمل الفكر، أو عمل الروح. هو الوصول إلى لون من المعرفة، فوق المعرفة العادية بكثير، معرفة فوق الحس، معرفة جديدة عليك، ومُبهِجة لروحك. تجد فيها غذاء ومتعة روحية. أو التأمل هو تفتُّح العقل والقلب والروح لاستقبال المعرفة الإلهية من فوق، أو من داخل الإنسان، من روح الله الساكن فيه.. والتأمل يناسبه السكون والهدوء، والبُعد عن الضوضاء التي تُشغِل الحواس، وبالتالي تشغل القلب وتبعده عن عمل الروح فيه. ويزداد التأمل عمقًا، كلما تتحرَّر الحواس من الشغب الخارجي، ويتحرر الإنسان من سيطرة فكره الخاص، لكي يستقبل ما تعطيه الروح. ويساعد على التأمل: الرغبة في الفهم، والتركيز في الإلهيات.. وللتأمل مجالات كثيرة، نود أن نتناولها بالتفصيل.. فهناك تأمل في الكتاب المقدس، أو في الصلاة والتراتيل والألحان. أو التأمل في الخليقة والطبيعة، أو في السماء والملائكة. وفي الموت والدينونة وما بعدها. وهناك تأمل في الأحداث، وفي سير القديسين، وفي الفضيلة عمومًا وتفصيلًا، وفي وصايا الله. ونوع آخر وأسمى هو التأمل في صفات الله الجميلة.. ومنها التأمل في المطلق، وفي الحق، وفي الخير.. على أن موضوعات هذا التأمل قد تكون أكثر من أن نحصيها، بحيث يتأمل الإنسان الروحي في كل شيء، حتى الماديات: يحاول أن يستخرج منها روحيّات تفيده.. |
||||
30 - 12 - 2013, 05:50 PM | رقم المشاركة : ( 13 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب الوسائط الروحية لقداسة البابا شنوده الثالث
التأمل في الكتاب المقدس إن كلمات الوحي الإلهي، عبارة عن روح متجسدة في ألفاظ. وليس الجسد (أي اللفظ) هو الذي ينفعك، بل الروح الذي فيه هو الذي يُحيي (2 كو 3: 6). لهذا قال السيد الرب: "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة" (يو 6: 63). الكلمات هي مجرد غلاف، يغلف معاني داخلها، كالصَّدَفَة التي تحوي داخلها اللؤلؤ. واللؤلؤ هو روح الكلمات. لا تكتفِ بالصَّدَف، بل اكشفه وخُذ ما يحويه من لآلئ. وهذا الأمر يحدث بتوسط الروح القدس، بالصلاة، إذ تقول مع المرتل: "اكشف يا رب عن عينيَّ، لأرى عجائب من ناموسك" (مز 199). أو كما صلّى إليشع النبي عن تلميذه جيحزي، لكي يفتح الرب عينيَّ الغلام ليرى (2 مل 6: 17). التأمل إذن هو استنارة العقل بالروح القدس. لكي نفهم معاني الكتب المقدسة، ونتعمَّق فيها، وننزع القشرة الخارجية للوصول إلى اللُّب. وهكذا يكون التأمل في الكتاب المقدس، هو محاولة اكتشاف الأسرار الإلهية الموجودة في الوحي الإلهي. أو كما قيل عن عمل السيد المسيح مع تلاميذه بعد القيامة "حينئذٍ فتح ذهنهم، ليفهموا الكتب" (لو 24: 45). حقًا يا رب، بنورك نُعاين النور. نريد إذن نورًا من روحك القدوس، يُنير عقولنا وقلوبنا وأفهامنا، لندرك ما يقوله الروح للكنائس (رؤ2). أما المجهود الذي تقوم به أفكارنا وقلوبنا وأرواحنا. فأننا نحسبه كمجرد طلب نرجو به من النعمة أن تفتح عقولنا، لتستقبل ما يسكبه فيها الروح.. عملنا هو أن نقدم عقولنا إلى الله، ليملأها بالفهم الذي من عنده، وما أعمقه.. نفتح له الباب ليدخل ونتعشى معه (رؤ 3: 20) نعم نتعشى بخبز الحياة النازل من السماء (يو 6: 33، 35)، ونحيا به، بكل كلمة تخرج من فم الله (مت 4: 4) إذن الخطوة التي يقوم بها الذهن في التأمل، هى فتح الباب للروح. ومن هنا فإن بعض الآباء يجعلون التأمل في عمقه خارجًا عن المجهود البشرى. باعتباره هبة من الروح القدس. وكما يقول المرتل في المزمور " فتحت فمي واقتبلت لي روحًا" (مز 119). أو التأمل هو تلمذة على الروح القدس. هو تدرب كيف تأخذ من الروح ما يريد أن يعطيك. وليس هو مجرد كد للذهن ليفهم، ولا هو مجرد اعتماد على ذكائنا وقدراتنا، فقد قال الكتاب " وعلى فهمك لا تعتمد" (أم 3: 5) إن التفكير العقلي المحض، الخالي من عمل الروح، لا ينتج تأملًا.. إنه قد ينتج علمًا أو فلسفة، وليس تأملًا وهنا نفرق بين العالم والعابد، بين الدارس والمتأمل، بين الباحث في الكتب والمستقبل من الروح إن التأمل ليس هو مجرد فكر، إنما هو خلط الفكر بالقلب، وترك العقل كمجرد أداة في يد الروح. ثم تبتهل الروح لتأخذ من روح الله. وما تأخذه، تعطيه للعقل عن طريق القلب. وحينئذ ندرك قوة الكلمة، لأنها تأخذ من الروح قوة.. فلا تقف يا أخي عند مستوى العقل، بل اتخذ العقل وسيلة توصلك إلى الروح. والروح توصلك إلى الله، الذي عنده كل كنوز المعرفة فيعطيك.. القارئ السطحي قد يقرأ كثيرًا ولا يتأمل. أما القارئ الروحي، فالقليل من قراءته يكون له نبع تأملات لا ينضب. أنه لا يركز على كثرة القراءة، إنما على ما فيها من تأملات.. وقد تستوقفه كلمة أو عبارة، فيغوص في أعماقها، ويظل سابحًا في تلك الأعماق. وهو يقول مع المرتل " لكل كمال رأيت منتهى. أما وصاياك فواسعة جدًا" (مز 119).. قد يفتح الله قلبه، فيرى في الكلمة الواحدة كنزًا عظيمًا مهما اغترف منه لا ينتهى، كما قال داود النبي في صلواته " فرحت بكلامك كمن وجد غنائم كثيرة"... ليتكم كتدريب روحي، تأخذون كل يوم آية للتأمل. آية من الكتاب، تكون قد تركت في نفسك تأثيرًا أثناء القراءة (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). ولكن لا تقف عند حد التأثير، إنما احفظ هذه الآية، وخذها مجالًا لتفكيرك وتأملك، ومعطيًا فرصة لروح الله أن يمنحك من خلالها شيئًا.. أو اتخذ قصة معينة من الكتاب مجالًا لتأملك. إن معاملات الله مع الناس مجال واسع جدًا للتأمل.. سواء معاملة الله لقديسيه الذين أحبهم أو أحبوه، وكانت بينه وبينهم دالة.. أو حتى معاملة الله للخطاة، الذين انتفعوا من طول أناة الله وغنى لطفه فتابوا، أو الذين عاندوا وتقسَّت قلوبهم.. شخصيات الكتاب أيضًا تصلح مجالًا للتأمل.. وما أكثر الكتب التي وضعت في هذا المجال.. يساعدك على التأمل أيضًا ما تكون قد حفطته من آيات كثيرة من الكتاب المقدس. تجد نفسك كلما بدأت التأمل، تأتيك تلك الآيات مرتبه متناسقة، يكمل بعضها بعضًا. وكل آية تقدم لك معنى خاصًا. وكلها معًا تقدم لك باقة جميلة من التأملات ونتذكر في تناسقها معًا قول الرسول: "قارنين الروحيات بالروحيات" (1كو 2: 13). وبهذا تشغل نفسك أثناء النهار بفكر روحي.. ويظل هذا الفكر يتعمق فيك. والفكر يلد فكرًا من نوعه، ويلد أيضًا الكثير من المشاعر والعواطف والتأملات. ويصبح قلبك نقيًا تعم فيه كلمة الله، تنتشر فيه التأملات الروحية.. كما تصحبك أيضا هذه التأملات أثناء الصلاة. بل تطرأ على ذهنك كذلك أثناء حديثك مع الناس. ويلمح المستمعون إليك عمقًا لا يقف عند المستوى السطحي في أي شيء. وهكذا ينفعك التأمل في تعميق حياتك الروحية. ولا يقتصر على مجرد الفكر أو الإحساس الروحي، أو الشعب الداخلي بكل ذلك، أو اللذة بالمعرفة.. إنما يتطور ليكون له تأثيره على الحياة العملية.. لذلك إن قرأت، لا تقف عند حدود القراءة والتأمل فيما تقرؤه في الكتاب من الوصايا أو سير الأنبياء والآباء، ما تقرؤه، اخلطه بفكرك وروحك وقلبك.. وطبق تأملاتك على حياتك، واستخرج منها منهجًا تسير عليه، ويدخل في علاقتك مع الله والناس.. ولتكن قراءتك مصحوبة بالصلاة.. كما قال داود النبي في المزمور الكبير "اكشف عن عيني لأرى عجائب من ناموسك".. وهناك نرى أن التأمل يحتاج إلى كشف إلهي.. وكثيرًا ما يقف الإنسان في حالة انبهار أمام ما يكشفه الله له.. وقد يقرأ فصلًا من الكتاب يكون قد قرأه من قبل. ولكن تنكشف له معان عديدة لم تخطر على ذهنه مطلقًا في قراءته السابقة.. وقد يحدث له هذا أيضًا، أثناء قراءة أو صلاة المزامير. فتنكشف له معاني جديدة. ويتكرر الأمر إذ يصلى نفس المزمور بعد أيام، فيدرك منه معاني أخرى لم يدركها من قبل.. وهكذا يفتح له الله طاقات من نور تشرق على ذهنه. لا يعزو ذلك إلى ذكائه أو معرفته، إنما هى موهبة من الله يسكبها عليه أثناء الصلاة أو القراءة أو التأمل، وتكون الصلاة مصدرًا للتأمل، أو مصحوبة بالتأمل. كما يكون التأمل مصحوبًا بالصلاة.. وتتسع أمامه معاني الآيات، حتى ما يجد لها حدودًا. إنما في كل حين يختبر لها أعماقًا.. إن لم تكن لك موهبة التأمل، اقرأ تأملات الآباء القديسين. قديس عظيم مثل القديس يوحنا ذهبي الفم، له كتاب في تفسير إنجيل متى، وآخر في تفسير انجيل يوحنا وكتب أخرى في تفسير أعمال الرسل ورسائل بولس الأربع عشرة.. هذه الكتب مملوءة بالشرح وبالتأملات. وتتبعه في أسلوب شرحه وتأمله، وتعلم.. قديس عظيم آخر هو القديس آوغسطينوس، عميق جدًا في تأملاته، وفي رقة أسلوبه. له كتاب تأملات في الرسالة الأولى للقديس يوحنا الرسول، وله كتاب تأملات في المزامير، وعظات على فصول كثيرة من الأناجيل. وغالبية كتاباته حافلة بالتأملات. اقرأ له، وتعلم.. وهكذا مع باقي القديسين في كتاباتهم، وبخاصة الذين اشتهروا بالتأمل، وليس فقط بعمق التعليم.. مثل القديس مارافرام السريانى، والقديس يعقوب السروجى والقديس ديديموس الضرير وغيرهم. اقرأ لهم، وانتفع بتأملاتهم، واتخذهم مدرسة في التأمل.. بل تدرب أيضًا على الآباء الذين اشتهروا بالتفسير الرمزى للكتاب.. ستجد عمقًا كبيرًا في كتابات هؤلاء الآباء لأنهم لا يقتصرون على المعنى الحرفي لآيات الكتاب، إنما يدخلون إلى العمق، وإلى ما تحمله الآيات من إشارات بعيدة لأمور أخرى.. وبهذا أيضًا يمكن فهم أسفار النبوات، وسفرًا مثل نشيد الأناشيد.. ويمكننا أن نفهم ما ورد في الكتاب عن الذبائح والتقدمات والأعياد، والشرائع الخاصة بالنجاسات والتطهير، وشرائع أخرى قال عنها بولس الرسول إنها كانت " ظلًا للأمور العتيدة" (كو 2: 17). ادخل في تدريب التأمل، لأنه يشغل ذهنك بشيء صالح، بدلًا من أن تترك الفكر يسرح في أمور خاطئة. أو يسرح في أمور زائلة.. لا نفع فيها.. وتأكد أن ذهنك لن يكف عن التأمل. إنما يتوقف تأمله على نوع المادة المقدمة إليه، خيرًا كانت أم شرًا. سواء قدمتها أنت له من داخل قلبك وفكرك، أو قدمتها لك البيئة المحيطة بك.. والأفضل أن تقود تفكيرك في تأملاته.. واعرف أن موهبة التأمل هى للكل، وليست للقديسين فقط، بل حتى للخطاة.. أولئك قد تكون لهم قدرة عجيبة على التأمل، وإنما في مجال الخطية. فالخاطئ الذي يحب خطية معينة، ما أسهل أن يسرح فيها ويتأملها بعمق، وتملك على فكره وقلبه ومشاعره، ويؤلف فيها قصصًا وأفكارًا. كما كان يفعل بعض الأدباء والشعراء ومؤلفو الروايات. إنه لون من التأمل، ولكنهم استخدموه في الخطية. أما القديسون فتأملاتهم تكون في موضوعات روحية. كذلك فإن الخطاة الذين يتمتعون بموهبة التأمل، إذا تابوا، وأداروا موهبة تأملهم في مسار روحي، حينئذ يظهر عمقهم وتأثيرهم الطيب ونذكر كمثال لذلك القديس أوغسطينوس في حياة التوبة والنمو الروحي، وحتى في كتاب اعترافاته وما فيه من عمق.. والقراءة إحدى الوسائل التي توجد التأملات.. |
||||
30 - 12 - 2013, 05:54 PM | رقم المشاركة : ( 14 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب الوسائط الروحية لقداسة البابا شنوده الثالث
التأمل في الطبيعة أول آية وردت في الكتاب المقدس عن التأمل، هى ما قيل عن أبينا اسحق بن إبراهيم إنه "خرج اسحق ليتأمل في الحق عند إقبال المساء" (تك 24: 63). ولعل هذا يقدم لونًا من التأمل في الطبيعة. ليس مجرد التأمل في جمال الطبيعة، إنما بالأكثر فيما تقدمه من روحيات، حسب قول المرتل في المزمور: السماوات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه (مز 19: 1). وهنا نتدرج من الطبيعة إلى عظمة الله خالقها، أو إلى حنو الله المهتم بها. استمع إلى الشاعر وهو ينشد: هذى الطبيعة قف بنا يا ساري حتى أريك بديع صنع الباري لقد كانوا يدرسون الفلك قديمًا في الكليات اللاهوتية. لأن النظام العجيب الدقيق الذي فيه، يثبت وجود خالق كلى القدرة استطاع أن يوجده. حتى أن أحد الفلاسفة لقبة بالمهندس الأعظم.. فإن كانت السماء المادية مجالًا عظيمًا للتأمل، فكم السماء التي هى عرش الله (مت 5: 34). وهنا ما أجمل ما رآه يوحنا الحبيب في سفر الرؤيا، وبخاصة حينما قال "أبصرت وإذا باب مفتوح في السماء" (رؤ 4: 1). يضاف إلى هذا ما شرحه عن أورشليم السمائية، مسكن الله مع الناس (رؤ 21).. إن التأمل في السماء والسماويات، لا شك يرفع عقل الإنسان وقلبه إلى فوق، يسمو به كثيرًا عن مستوى المادة والجسدانيات.. ويرتبط بالتأمل في السماء، تأمل آخر في الملائكة.. وفي كل القوات السمائية: السارافيم، والأرباب والعروش، ورؤساء الملائكة، وتلك الألوف والربوات التي أمام العرش الإلهى، وكذلك الملائكة "المرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص" (عب 1: 14). ما طبيعة الملائكة؟ وما هى روحيتهم وقدسيتهم ومحبتهم وطاعتهم (مز 103) (مز 104)؟ وما هى خدمتهم لله وللناس؟ وماذا ستكون علاقتهم بنا في الأبدية؟ بل ما هى قصصهم التي وردت في الكتاب وفى سير القديسين.. وهنا يسبح الفكر في العالم الروحي.. فإن كان هذا التأمل عميقًا علينا.. لنتأمل في أرواح القديسين الذين انتقلوا.. كما حكى لنا الرب عن أبينا ابراهيم، ولعازر المسكين في حضنه. سواء في ذلك تأملنا في القديسين الذين مع الرب في الفردوس (لو 23: 43)، أو الذين يرسلهم الرب في خدمات في الأرض مثل العذراء ومارجرجس وغيرها. ودرجات كل هؤلاء، وكيف أن نجمًا يفوق نجمًا في المجد (1كو 15: 41).. ثم ماذا عن القيامة والأجساد الروحانية النورانية السماوية (1كو 15: 42-50)؟ وماذا عن الأبدية والمجد العتيد، والملكوت، ومراتب القديسين وعلاقاتهم، والملك المعد لنا في النعيم الأبدي. فإن لم نستطع تأمل كل هذا لنهبط إلى الأرض، نتأمل في الخليقة المحيطة بنا، كما قال الرب: تأملوا زنابق الحقل.. وطيور السماء (مت 6: 28، 26). ولم يقصد الرب التأمل الحسي في زنابق الحقل، من حيث جمالها، وتعدد أنواعها وألوانها وعطرها وتناسقها.. ولكن الارتفاع فوق الحس إلى الله الذي خلقها هكذا، بحيث ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها.. وهنا يقود التأمل إلى عناية الله العجيبة بكل مخلوقاته، كما يقودنا أيضًا إلى الإيمان بعناية الله وإلى الاتكال عليه في غير قلق. ولو تأملنا الفارق الكبير بين الزهور الطبيعية وغيرها من الزهور الصناعية، التي مهما تفنن الإنسان في صنعها، تبقى بلا حياة، بلا رائحة، بلا نمو. بل لا يمكن أن تصل في ألوانها إلى تلك الطبيعة، مما يدل على قدرة الله العجيبة. ونفس الوضع بالنسبة إلى طيور السماء في تعدد أنواعها وأشكالها ونغمات أصواتها، وطباعها ورحلاتها، وقناعتها.. وتضع إلى جوارها قول المزمور "نجت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين. الفخ انكسر ونحن نجونا (مز124). حقًا ما أحن الله: المعطى البهائم طعامها، وفراخ الغربان التي تدعوه (147: 9). بل يقول الرب "تأملوا الغربان: إنها لا تزرع ولا تحصد، والله يقيتها" (لو 12: 24). نعم، الغربان السوداء اللون، التي يتشاءم البعض منها.. يهتم بها الله هذا الاهتمام، بل يعهد إليها بمهمات: غربان كانت تعول إيليا النبي في زمن المجاعة يرسلها إلى قديسيه، فتطيع وتعرف وتنفذ مشيئة الله من جهته.. وهنا تخطو خطوات في تفكيرك، أعمق من الفكر السطحي أثناء القراءة.. إن علاقة الله بالحيوانات والطيور موضوع طويل ليس الآن مجال الحديث فيه. والتأمل فيه موضوع أطول.. على أنه حتى الحشرات الضئيلة، وهبنا الله مجالًا للتأمل فيها، فقال الكتاب: "اذهب إلى النملة أيها الكسلان. تأمل طرقها، وكن حكيمًا" (أم 6: 6). حقًا، إنني لم أر في حياتي كلها نملة واحدة واقفة بلا عمل.. إنها دائمة الحركة، دائمة العمل، لا تهدأ. كما أن جماعات النمل درس عجيب في التعاون، لمن يتأمل عملها الجماعي، في حمل أشياء توازى عشرات حجمها. وهى درس أيضًا في النظام، إذ تسير في طابور طويل، متجهة نحو هدف ثابت. وباتصالات عجيبة بين بعضها البعض. وما نأخذه من دروس في تأمل النمل، نأخذ مثله أيضًا في تأمل النحل. هذا النحل الذي أنشد فيه أحمد شوقي قصيدته: مملكة مدبرة – بامرأة مؤمرة تحمل في العمال والصناع عبء السيطرة أعجب لعمال يولون عليهم قيصرة إن النظام المذهل الذي تعيشه مملكة النحل، هو مجال لتأمل عميق.. كيف خلقها الله بهذا الإمكانيات والقدرات.. وكيف تستطيع أن تجمع الرحيق وتصنعه شهدًا وكيف تصنع غذاء الملكات! وكيف تبنى خلاياها بهندسة متقنه عجيبة. وكيف تطير رحلات بعيدة بحثًا عن الزهور والرحيق! ما أعجبها! وما أعجب خالقها!! إن الإنسان الروحى يستطيع أن يتخذ كل شيء مجالًا للتأمل. ويستطيع أن يستخرج من الماديات ما تحمله من دروس روحية. أتذكر أننى في إحدى المرات، نشرت لكم في كتاب (كلمة منفعة) تأملًا عن الدروس الروحية التي يمكن أن نأخذها من (نهر النيل). ومن نقطة الماء الهينة اللينة التي إن سقطت بمداومة على صخر، تحفر فيه طريقًا.. وأيضًا عن شاطئ النهر اللذين لا يحدان حريته، إنما يحفظانه من الانسكاب. وهكذا وصايا الله وإرشاد الآباء، لا يحدان حرية الإنسان، إنما يحفظانه من الخطأ. كذلك جسم الإنسان – وهو مادة – إلا أنه مجال واسع جدًا للتأمل، يدل على عظمة الخالق. يكفى أن تتأمل قدرات كل عضو فيه، وعلم وظائف الأعضاء. المخ مثلًا وما فيه من مراكز عجيبة، للنظر والسمع والحركة والكلام.. بحيث إذا لم يصل الدم إلى أي مراكز، يبطل عمله، ويصير صاحبه معوقًا.. كذلك القلب – وهو كقبضة اليد – ولكنه جهاز دقيق جدًا، تتوقف عليه حياة الإنسان، كما على المخ أيضًا. ويعوزنا الوقت إن تحدثنا عن كل أجهزة الجسم البشرى، وكيف تعمل متناسقة في اتزان عجيب. وبعض هذه الأجهزة إذا تلف، لا يقدر كل التقدم العلمي على إرجاعه إلى وضعه الطبيعي.. و هكذا في كليات اللاهوت قديمًا، كما كانوا يدرسون علم الفلك، كانوا يدرسون علم الطب أيضًا، لأنه يعمق الإيمان بقدرة الله الخالق إن كانت قدرات الجسد هكذا، حسبما خلقه الكلى القدرة، فماذا تكون تأملات في قدرات الروح؟ على أنني أود أن أترك هذه النقطة الآن، لأتحدث في موضوع آخر وهو: التأمل في الأحداث. |
||||
30 - 12 - 2013, 05:55 PM | رقم المشاركة : ( 15 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب الوسائط الروحية لقداسة البابا شنوده الثالث
التأمل في الأحداث أعنى ما تمر بنا من أحداث يومية ، وما تدل عليه من حكمة الله وتدبيره، وتدخله وعنايته.. سواء في عالمنا الحاضر، أو يد الله في التاريخ.. إنه أمر يدعو إلى عميق من التأمل. وليس من صالحنا روحيًا أن نمر مرورًا عابرًا على أحداث التاريخ، دون وقفات من التأمل. يد الله فيما حدث لآريوس وديوقلديانوس ونيرون. يد الله التي كانت مع القديس أثناسيوس الذي وقف العالم كله ضده. يد الله مع يوستيناوكبريانوس الساحر.. يد الله التي كانت مع الآباء السواح في وحدتهم، والتي أرشدت بعض القديسين إلى معرفة أماكنهم، وكتابة سيرة كل منهم قبل انتقاله.. يد الله في التاريخ الكنسي، وفي التاريخ المدني، وفي التقائهما، وفي تدبير كل شيء للخير.. هل التاريخ هو مجرد علم وأحداث، أم فيه أيضًا عبر ولاهوت؟ أعنى العمل الإلهي فيه. وهذا يحتاج إلى تأمل. أليست يد الله مع قسطنطين الملك تدعو إلى التأمل، وكيف قادته إلى إصدار مرسوم ميلان سنة 313 م. الذي كفل به الحرية الدينية، وصار نقطة تحول خطيرة في تاريخ المسيحية وفي تاريخ الاضطهاد الديني. هل نستطيع أن ننكر يد الله في الأحداث التي غيرت مصير روسيا والاتحاد السوفيتي، وأثر ذلك في القضاء على إلحاد استمر أكثر من سبعين عامًا، وانتهى بسرعة عجيبة غير متوقعة، مما يدل على تدخل يد الله فيه..! وهل يمكن أن يمر هذا الحدث علينا، بدون وقفة تأمل تقوى الإيمان بالله، وبتدخله.. هو صانع العجائب وحده |
||||
30 - 12 - 2013, 05:57 PM | رقم المشاركة : ( 16 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب الوسائط الروحية لقداسة البابا شنوده الثالث
التأمل في الصلاة سواء في الصلوات الخاصة، أو صلاة القداس الإلهي، أو صلاة المزامير، أو في الترانيموالتسبحة وكلما كان للمصلى تأمل سابق في المزامير وقطع الصلاة، على هذا القدر تكون صلاته أعمق وبفهم.. وأتذكر أنني أصدرت لكم كتابًا عن التأمل في المزمور الثالث (من صلاة باكر) " يا رب لماذا؟!".. وكتاب آخر عن المزمور 19 (أول مزامير الساعة الثالثة) " يستجيب لك الرب في يوم شدتك".. وكتابًا آخر عن تأملات في بعض مزامير الغروب.. كما أصدرت لكم كتابًا عن التأملات في صلاة الشكروالمزمور الخمسين. وأرجو أن نتخذ باقي المزامير مجالًا لتأملاتنا، وتصدر لكم فيها كتب أخرى.. ما كان الآباء يتلون عبارات الصلوات بطريقة سطحية سريعة، بل كما قال ماراسحق عن صلواتهم: "من حلاوة الكلمة في أفواههم، ما كانوا يستطيعون بسهولة أن يتركوها إلى كلمة أخرى". كانوا يصلون بفهم، يغوصون إلى أعماق المعاني في تأمل، يعطى صلواتهم روحًا وحرارة وعمقًا. وفي هذا تختلط مشاعرهم بعبارات الصلاة، فتصدر الكلمات من قلوبهم. ولا يهتمون بطول الصلوات أو بكثرتها، وإنما بما فيها من تأمل وعمق. وهكذا قال ماراسحق لمن يريد أن يسرع في صلواته ليتلو أكبر عدد من المزامير: إذا حوربت بهذا، فقل: أنا ما وقفت أمام الله لكي أعد ألفاظًا.. نفس الكلام نقوله أيضًا عن الترتيل والتسبحة.. وبخاصة التراتيل التي لها روح الصلاة.. مثل ترتيلة "مراحمك يا إلهي كثيرة جدًا".. ومثل تسبحة "يا ربى يسوع المسيح، مخلصي الصالح".. حقًا إن الذين يسرعون في صلواتهم وتسابيحهم، إنما يفقدون عمقها وتأملاتها. وتتحول من كونها صلاة، لتصبح مجرد تلاوة... إن لم تكن لك موهبة التأمل في الصلاة، أنصحك أن تقرأ تأملات الآباء في الصلوات والمزامير. وما أكثرها.. |
||||
30 - 12 - 2013, 05:58 PM | رقم المشاركة : ( 17 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب الوسائط الروحية لقداسة البابا شنوده الثالث
التأمل في الموت والدينونة و هذا ما تعلمنا الكنيسة إياه في صلاة النوم، إذ يقول المصلى "هوذا أنا عتيد أن أقف أمام الديان العادل مرعوبًا من أجل كثرة خطاياي"، "لو كان العمر دائمًا، وهذا العالم مؤبدًا، لكان لك يا نفسي حجة واضحة. لكن إذا انكشفت أعمال كالرديئة وشرورك القبيحة أمام الديان العادل، فأي جواب تجيبين، وأنت على سرير الخطايا منطرحة، وفي إخضاع الجسد متهاونة؟!".. وفي صلاة نصف الليل، توجهنا الكنيسة إلى التأمل في نهاية العالم، ومجئ المسيح الثانى، ومصير كل من العذارى الحكيمات والجاهلات.. وإلى وجوب السهر الروحي.. |
||||
30 - 12 - 2013, 06:00 PM | رقم المشاركة : ( 18 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب الوسائط الروحية لقداسة البابا شنوده الثالث
التأمل في صفات الله إن صفات الله – تبارك اسمه – موضوع عميق للتأمل، يقدمها لنا القداس الغريغورى، والطلبة الأخيرة في ختام كل صلاة " ارحمنا يا الله ثم ارحمنا " حيث نتأمل " إلهنا الصالح، الطويل الروح، الكثير الرحمة، الجزيل التحنن، الذي يحب الصديقين ويرحم الخطاة".. كذلك نجد هذا التأمل في تسبحة الثلاثة تقديسات، حيث نقول "قدوس قدوس قدوس. السماء والأرض مملوءتان من مجدك الأقدس" (أش 6). و تأملاتنا في صفات الله تشمل نوعين: صفاته من جهة علاقتنا به، وصفاته الخاصة به وحده كإله.. مثل الأزلي، الذي لا يُحَد، الخالق القادر على كل شيء، الموجود في كل مكان.. وكلها مجال عميق للتأمل.. |
||||
30 - 12 - 2013, 06:02 PM | رقم المشاركة : ( 19 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب الوسائط الروحية لقداسة البابا شنوده الثالث
التأمل في سير القديسين *يمكن التأمل في إحدى الفضائل: كأن تتأمل مثلًا في الحكمة والإفراز، أو في فضيلة الرحمة أو المحبة أو الاحتمال. أو في الصلاة والصلة بالله. تتأمل عمق الفضيلة وأسبابها داخل النفس، ونوعية التعبير عنها.. وما يتعلق بذلك كله من آيات الكتاب المقدس وقصصه. *يمكن أن تتأمل في أسرار الكنيسة: مثل سر المعمودية، وما يحدث فيه من نعم خفية شرحتها آيات الكتاب المقدس.. أو سر المسحة المقدسة وعمل الروح فيه وفينا.. وهكذا مع باقي الأسرار. وما يكمن في وضع اليد من عمل إلهي. *يمكن التأمل في إرادة الله وحسن تدبيره: أو في عجائب الله (أى 37: 14) ويده القوية. وفي طرق الرب وأسلوب تعامله مع الخطاة ومع القديسين. وكما يقول داود النبي للرب " بصنائع يديك أتأمل" (مز 143: 5) * التأمل في سير القديسين: إنه موضوع جميل ونافع جدًا. وتأمل سير القديسينHagiography غذاء شهى للنفس، لست أريد أن أمر عليه في عجالة، بل أحب أن أخصص له موضوعًا قائمًا بذاته، إن شاء الرب وعشنا |
||||
30 - 12 - 2013, 06:05 PM | رقم المشاركة : ( 20 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب الوسائط الروحية لقداسة البابا شنوده الثالث
فوائد التداريب الروحية ليس الدين معلومات، ولا مجرد امتلاء من المعرفة الدينية. فالمعرفة وحدها لا تكفى. ماذا يستفيد الإنسان إن كان يعرف كل المعلومات عن الفضيلة دون أن يسلك فيها؟! إننا نقرأ الكثير، ونستمع إلى الكثير. والمهم ماذا نفعل؟ فى كل قداس، نستمع إلى فصل من الإنجيل، وقراءات من رسائل بولس الرسول، ومن الرسائل الجامعة، ومن سفر أعمال الرسل. ونستمع أيضًا إلى سير القديسين في السنكسار، ونستمع إلى عظة. وإن حضرنا رفع بخور باكر، ورفع بخور عشية، نستمع إلى فصول أخرى من الكتاب، بالإضافة إلى ما نقرؤه في بيوتنا وفي الاجتماعات الروحية.. ولكن ما تأثير كل ذلك على حياتنا العملية؟ هل اكتفينا بالمعرفة؟ أم اهتممنا بأن نحول تلك المعرفة إلى حياة، حسب قول السيد المسيح له المجد "الكلام الذي أقوله لكم هو روح وحياة "" (يو6: 63)0 كيف يكون ذلك التحويل: بالتداريب الروحية، تتحول المعرفة إلى ممارسة. وتتحول المعلومات إلى عمل. كذلك نلاحظ أن كثيرين يترددون على الكنيسة، ويعترفون ويتناولون، وربما يخدمون أيضًا. ولكنهم مع ذلك لهم ضعفات ثابتة، تكاد تصل إلى مستوى الطباع، مستمرة معهم على مدى سنوات طويلة!! فلماذا؟... لعل السبب في ذلك أنهم لم يضعوا تلك الضعفات موضع الاهتمام الخاص، بأن يدربوا أنفسهم على تركها، ويلاحظوا مدى تنفيذ التدريب.. وبنفس الأسلوب نقول إن هناك كثيرين لهم خطايا يكررونها في كل اعتراف. اكتشفوها، وعرفوها، واعترفوا بها. ومع ذلك استمروا فيها. ذلك لأنهم لم يدربوا أنفسهم عمليًا على تركها. ومن هنا كانت أهمية التداريب الروحية: يدخل بها الإنسان في مواجهة عملية مع نفسه: إما لترك خطاياه، أو لاكتساب فضائل، أو للنمو روحيًا.. يحول بها المعرفة الروحية إلى حياة. وكذلك أيضًا يحول بها الاشتياقات الروحية إلى حياة روحية. وفي التدريب العملي: يعرف حقيقة نفسه، ومن أين يأتيه الخطأ، أسبابه ومصادره. ويدخل في طريق المقاومة. ويعرف العقبات وأسلوب الانتصار عليها. ولا يقف عند حد المعرفة، ولا حتى عند حد العاطفة الدينية الداخلية. وفي التداريب يجاهد مع نفسه، ومع الله.. يستمع إلى توبيخ الرسول وهو يقول " لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية" (عب 12: 4). فيقاوم نفسه ويصارع. وفي ذات الوقت لا يعتمد على ذراعه البشرى، إنما يمزج التداريب بالصلاة طالبًا معونة من فوق، حسب قول الرب لنا " بدوني لا تقدرون أن تعملوا شيئًا" (يو 15: 5). وفي ذلك كله يضع نفسه وتداريبه تحت إشراف روحي من مرشد حكيم مختبر، لأن الكتاب يقول " وعلى فهمك لا تعتمد" (أم 3: 5) والكتاب المقدس يقدم لنا أمثلة من التداريب. هوذا القديس بولس الرسول يقول "تدربت أن أشبع وأن أجوع. أن أستفضِل وأن أنقص" (فى 4: 12). وقال أيضًا "قد صارت لنا الحواس مدربة" (عب 5: 14)0 * الله درب قديسيه: *قيل عن موسى النبي "وكان موسى حليمًا جدًا، أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض" (عد 12: 3). فهل تظنون أنه ولد هكذا؟! كلا، بل إنه بدأ حياته في الخدمة شديدًا عنيفًا، حينما قتل الرجل المصري وطمره في الرمل (خر2: 12). ولكن الله أخذه على البرية، ودربه في عمل الرعي على اللطف والهدوء والوداعة، على مدى أربعين عامًا، حتى وصل إلى ما وصل إليه.. *هل تظنوا أن يوحنا الحبيب بدأ حياته هكذا بما عرف عنه من حب، حتى أنه قال " الله محبة. من يثبت في المحبة، يثبت في الله والله فيه" (1يو4: 16). كلا. بل كان هو وأخوة يعقوب شديدين، تربيا في مدرسة يوحنا المعمدان الشديد، الذي كان يوبخ في عنف (مت 3: 7-11). وقد لقبها الرب "بوانرجس" أي "أبنى الرعد" (مر 3: 17). وهما اللذان لما رفضت إحدى قرى السامريين أن تقبل الرب، لأن وجهه كان متجهًا نحو أورشليم، قالا له "أتريد يا رب أن تقول أن تنزل نار من السماء فتفنيهم كما فعل إيليا أيضًا؟". فانتهرهما الرب وقال لهما "لستما تعلمان من أي روح أنتما. لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس، بل ليخلص" (لو 9: 52-56) ولكن الرب أخذ يدرب ابن الرعد، حتى تحول إلى شعلة من حب. وبدايته لم تكن هكذا. كذلك القديسون لم يصلوا إلى درجاتهم العالية دفعة واحدة، بل تدربوا حتى وصلوا. تدربوا بجهاد وتعب، وعلى مدى زمني. فلا يجوز أن نأخذ ما كتب عن قممهم الروحية كأنه نقط بدء!! ولا نبدأ نحن بما وصلوا إليه في نهاية جهادهم، بل نتدرج. *أرسانيوس العظيم، في بدء رهبنته، كان يخطئ في طريقة تنقية الفول التي يعرفها ذلك المصري الأمي، حتى أخذ درسًا وقال "هذا القلم على خدك يا ارسانى" وبالتدريب والمدى الزمني، وصل إلى ما وصل إليه من قداسة. *وموسى الأسود الذي شاهده أحد الآباء في رؤياه، والملائكة يطعمونه شهد العسل، لم يصل إلى حياة المحبة والخدمة والوداعة وإضافة الغرباء دفعة واحدة، بل حينما بدأ كان منظره مخيفًا. وظل القديس إيسيذورس يدربه، حتى وصل إلى ما وصل إليه من قداسة واحتمال. حتى في مجال الخدمة، درب الرب تلاميذه أيضًا.. أرسلهم في تدريب عملي. ورجعوا إليه فعرضوا نتائج خدمتهم. وكانوا فرحين لأن الشياطين تخضع لهم باسمه!! فصحح لهم هذا الخطأ، قال لهم "لا تفرحوا بهذا.. بل افرحوا بالحرى أن أسماءكم قد كتبت في السموات" (لو 10: 17-20). كذلك دربهم على أمر آخر، وهو عدم الاهتمام بمن يكون الأول فيهم. وقال لهم "لا يكون هكذا فيكم. بل مَنْ أراد أن يكون فيكم عظيمًا، فليكن لكم خادمًا. ومَنْ أراد أن يكون فيكم أولًا، فليكن لكم عبدًا. كما أن ابن الإنسان لم يأت ليخدم، بل ليخدم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مت 20: 26 – 28). * نصائح في التدريب: لهذا كله، ينبغي علينا ألا نكتفي بالمعرفة الدينية، بل نهتم بالأكثر بالعمل، مدربين أنفسنا على تنفيذ الوصايا. إن الرب بعد أن ألقى العظة على الجبل، ختمها بقوله: " كل من يسمع أقوالى هذه ويعمل بها، أشبهه برجل عاقل بنى بيته على الصخر.. وكل من يسمع أقوالى هذه ولا يعمل بها، يشبه برجل جاهل بنى بيته على الرمل" (مت 7: 24 – 26). وهكذا ركز الأهمية على العمل بما نسمع. وأكد هذا بقوله أيضًا " وليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات، بل الذي يعمل إرادة أبى الذي في السموات" (مت 7: 21). وهكذا يصلى الكاهن في أوشية الإنجيل " اجعلنا مستحقين كلنا يا سيدنا أن نسمع ونعمل بأناجيلك المقدسة بطلبات قديسيك". إذن فلنتدرب لكي نعمل بوصاياه وتعليم الإنجيل. * دلائل التداريب: التداريب الروحية تدل على أن صاحبها سهران على خلاص نفسه. يكتشف أخطاءه ونقائصه، ويتدرب على تفاديها. لابد إذن أن تكتشف أخطاءك، أو الأخطاء التي يكشفها لك غيرك. لأنه بدون اكتشاف أخطائك، لا يمكنك أن تدرب نفسك على تركها، إذ "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى" (مت 9: 12). فلا تتضايق إذن ممن يظهر لك عيبًا فيك استفد من هذا الكشف لكي تتدرب على التخلص من ذلك العيب.. بل أنت نفسك حاول أن تفحص نفسك جيدًا في ضوء وصايا الله لتكشف عيوبك. وأحذر من تبرير النفس والتماس الأعذار لأخطائك. فالذي يبرر نفسه، يبقى دائمًا حيث هو، لا يصلح من ذاته شيئًا، لأن ذاته جميلة في عينيه بلا عيب!! أما الذي يحاسب نفسه بدقة، ولا يعذر نفسه مطلقًا مهما كانت الظروف، فهذا هو الشخص الذي يمكنه أن يتخلص من عيوبه، معترفًا أمام ذاته بنقائصه. إن كنت تستحي من أن يكشف لك الغير خطأ فيك، فلاشك أنك لا تستحي من نفسك بنفس القدر!! فاجلس إلى ذاتك، وكن صريحًا مع نفسك إلى أبعد الحدود وحاول أن تطرق نقط الضعف التي فيك، والتي تكشفها لك القراءة الروحية، أو تدركها من سماعك لبعض العظات التي تشعر أنها تمس حياتك. ولو أنك دربت نفسك كل أسبوع، أو حتى كل شهر على مقاومة نقطة ضعف واحدة، لأمكنك في عام واحد أن تتخلص من 12 نقطة ضعف. وثق أن الخطايا يرتبط بعضها بالبعض الآخر. بحيث أن تخلصك من خطية معينة، قد يخلصك من خطايا أخرى عديدة. كما أن تدربك على فضيلة معينة، وبخاصة لو كانت من الفضائل الأمهات، ستقودك إلى فضائل أخرى ما كنت قد وضعتها في تدريبك. فالفضائل أيضًا مرتبطة ببعضها البعض، كحلقات في سلسلة واحدة. وسأعطيك مثالًا هنا لارتباط الفضائل. لنفرض أنك دربت نفسك يومًا على الخلوة، ستجد نفسك محتاجًا أن تشغل نفسك أثناء الخلوة حتى لا تمل. وهكذا ستلجأ إلى القراءة حينًا، وإلى الصلاة حينا آخر، أو إلى الترتيل، أو الحفظ: حفظ مزامير أو قطع من الأجبية أو آيات من الإنجيل. وربما يدعوك هذا إلى التأمل في هذه الآيات.. وهكذا تجد أن تدريبًا على الخلوة جر وراءه فضائل عديدة.. أو مثلًا دربت نفسك يومًا على الصمت، ستجد نفسك محتاجًا بالضرورة إلى أن تشغل ذهنك بشيء نافع، حتى لا تسرح فيما لا يليق. وهكذا سيقودك الصمت إلى الصلاة أو التأمل، أو تشغل نفسك بالقراءة.. تدريب واحد يجر وراءه تداريب عديدة. |
||||
|