صورة: قبلة الخيانة، خيانة يهوذا الإسخريوطي، ويظهر في الصورة بطرس استل سيفه من غمده، وضرب عبد رئيس الكهنة ملخس، وقطع أذنه
← اللغة الإنجليزية: Judas Iscariot - اللغة العبرية: יהודה איש־קריות - اللغة اليونانية: Ιούδας Ισκαριώτης - اللغة القبطية: Ioudac - اللغة السريانية: ܝܗܘܕܐ ܣܟܪܝܘܛܐ.
هو ابن سمعان الإسخريوطي (يو12:4)، وهو الوحيد بين التلاميذ الاثني عشر الذي كان من منطقة اليهودية، في حين كان باقي التلاميذ كلهم من منطقة الجليل. وقد حرص أصحاب البشائر على تلقيبه بالإسخريوطي Judas Iscariot تمييزًا له عن التلميذ الآخر المسمى يهوذا والذي كان اسمه لبّاوس ولقبه تدّاوس. وقد حرص أصحاب البشائر كذلك على أن يذكروا اسمه في نهاية قائمة التلاميذ الاثني عشر موصوفًا بأنه "الذي خانه" (مت 10: 4؛ 3: 19؛ لو 6: 16؛ يو 12: 4). كان يهوذا ملازمًا للسيد المسيح مع بقية التلاميذ ملازمة كاملة، فلم تذكر أية بشارة من البشائر أنه خالفه في يوم من الأيام أو أبدى نحوه أية صورة من صور التمرد أو العصيان، بل سمع كل تعاليمه ورأى كل معجزاته وتلامس مع شخصيته الإلهية الفريدة، وغَمَره بثقته الغالية، إذ جعله أمينًا على الصندوق الذي تنفق منه جماعته على ضروريات الحياة. (ستجد المزيد عن هؤلاء القديسين هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام السير والسنكسار والتاريخ وأقوال الآباء). وفي الوقت الذي كان أعداء المسيح يتآمرون سرًا عليه لكي يمسكوه بعيدًا عن أعين الشعب تسلل إليهم يهوذا خفية يسألهم عما يعطونه في مقابل تسليم المسيح إليهم. ومع أن السيد المسيح نبّهه أنه يعلم بمؤامرته (مت21:16-25) إلا أن الخائن لم يتراجع واستمر في خطته لتسليمه لرؤساء اليهود. لا يسع الإنسان إلا أن يتساءل عن السرّ في هذا الانقلاب العجيب المفاجئ الذي طرأ على يهوذا، فدفع به إلى ارتكاب هذه الجريمة النكراء في حق سيده ومعلمه. وقد يقال أن الطمع في المال هو الذي دفعه لذلك، إذ كان يستولي لنفسه خلسة على ما في الصندوق الذي عهد به إليه السيد المسيح (يو 6: 12). بعد القبض على السيد المسيح عاد يهوذا وندم على فعلته، وفي يأسه مضى وشنق نفسه، فأخذ رؤساء الكهنة قطع الفضة وتشاوروا ثم اشتروا بها حقل الفخاري ليكون مقبرة للغرباء (مت3:27-8). وهكذا صار يهوذا مثلًا للخيانة بين الناس في كل مكان وزمان.
يُدعى أيضًا تداوس ولباوس ويهوذا أخا الرب تمييزًا له عن يهوذا الإسخريوطي الذي أسلم الرب. يؤكد التقليد القديم أنه أخو يعقوب كما ذكر القديس لوقا في إنجيله وفي سفر الأعمال. وهو أحد الأربعة المذكورين في كتاب العهد الجديد إخوة الرب، حيث كان أبناء الخال أو الخالة أو العم أو العمة يُحسبون إخوة. لا يذكر الإنجيل متى دُعي هذا الرسول للرسولية، لكن تذكره الأناجيل وسفر الأعمال ضمن جداول الرسل الاثني عشر. لا يذكره الإنجيل إلا في موضع واحد، فحينما كان الرب يتكلم عقب العشاء الخير قال: "الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني. والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي" قال يهوذا للرب: "يا سيد ماذا حدث حتى أنك مزمع أن تظهر ذاتك لنا وليس للعالم؟" (يو 14: 21-22).
كرازته:
يذكر التقليد أنه بشّر في بلاد ما بين النهرين وبلاد العرب وبلاد فارس، ويبدو أنه أنهى حياته شهيدًا في إحدى مدن بلاد فارس.
رسالة يهوذا:
تُنسَب إلى هذا الرسول الرسالة التي تحمل اسمه بين الرسائل الجامعة، وهي رسالة قصيرة ويذكر في مقدمتها أنه: "عبد يسوع المسيح وأخو يعقوب". كُتبت للمسيحيين بوجه عام، حوالي عام 68 م.، مشيرًا إلى النبوة الواردة في رسالة بطرس الثانية؛ كُتبت قبل خراب أورشليم وإلا كان قد ذكره. أما غايتها فهو التحذير من المعلمين المزيفين الذين اتسموا بالآتي: فساد الإيمان المُسلم مرة للقديسين، وإنكارهم للآب وللرب يسوع، والافتراء على الملائكة، وأنهم متعجرفون ليس فيهم روح الخضوع للكنيسة وكانوا إباحيين يطلبون ملذاتهم، وأنانيين. وجاءت نغمة الرسالة هي: حفظ الإيمان.
الشفيع الأول لمدينة أنكونا Ancona، ويقول تقليد المدينة أن القديس يهوذا قرياقوص كان يهوديًا، وهو الذي كشف للملكة هيلانة مكان اختفاء خشبة الصليب المجيد، ثم تعمّد وصار أسقفًا على أورشليم. في زمن الإمبراطور يوليانوس الجاحد، حاكم الإمبراطور القديس وعذبه، وأخيرًا أمر بقتله فنال إكليل الشهادة. وفي وقت لاحق تم إحضار رفات الشهيد من أورشليم إلى أنكونا حيث وضع في كنيسة بنيت لهذا الغرض. العيد يوم 4 مايو.
بعد نياحة البابا أثناسيوس الثاني اتجهت الأنظار إلى راهبٍ من دير الأنبا مقار اسمه يوأنس، قضى السنين الطوال في الجهاد الروحي فعطر الوادي بسيرته، ومن ثَمَّ قصد وفد من الأساقفة والأراخنة إلى برية شيهيت لمقابلته والإعراب عن رغبتهم في انتخابه. امتنع في أول الأمر ولكن لما وجد إصرار الذين جاءوا إليه قال في نفسه: "مَنْ يدريني إن كان إلحاح هؤلاء الرجال وحيًا من الروح القدس؟ فيجب عليَّ أن أحذر لئلا أكون معاندًا لله، كما يجب أن أقبل هذه المسئولية العظمى بكل تواضع وبغير تردد". ولما أعلن هذا الفكر لمن جاءوا إليه مؤكدًا عدم استحقاقه للكرامة ولكنه يقبلها من أجل الضرورة الموضوعة عليه، فرح مندوبو الشعب حين سمعوا هذه الكلمات واستصحبوا الناسك يوأنس معهم إلى الإسكندرية حيث تمت رسامته باسم يوأنس الأول في سنة 497 م.
معاصروه:
عاصر هذا البابا القديس ساويرس الإنطاكي، نابغة عصره في التقوى والعلم. وعاصر من القياصرة زينون وأنسطاسيوس البار الذي رأى أن مكدونيوس بطريرك القسطنطينية قد قطع علاقته مع كنيسة الإسكندرية وتحزب لمجمع خلقيدونية، وأخذ يكاتب أسقف روما. أخذ القيصر يقنع مكدونيوس أن يحرم المجمع الرابع فأبى. انعقد مجمع في القسطنطينية عام 511 م. فيه أُستبعد مكدونيوس عن كرسيه ونفي، وأُقيم عِوضًا عنه رجل فاضل يُدعى تيموثاوس. وحال سيامته عقد مجمعًا أيّد فيه الإيمان الأرثوذكسي وحرّم مكدونيوس وبعث إليه بالحرم.
إعادة تسبحة الثلاث تقديسات كاملة:
كان مكدونيوس قد أبطل في القسطنطينية استخدام تسبحة الثلاث تقديسات: قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الحيّ الذي لا يموت، الذي صلب عنا ارحمنا..." فقد ظن البعض أن هذه التسبحة تنسب الصلب للثالوث القدوس. باستبعاد مكدونيوس أُعيد استخدامها في القسطنطينية، وهي تسبحة قديمة ترجع إلى عصر الرسل. قيل أنه نظمها يوسف الرامي ونيقوديموس عند تطييب جسد السيد المسيح إذ ظهر لهما ملاك يسبح المصلوب عند دفنه.
أما الدعوى بأن بطرس القصّار السابق للقديس ساويرس هو الذي أضاف "الذي صلب عنا" على التريساجيون (الثلاث تقديسات) فهذا أخطأ، إنما هو اعتمد عليها في دحض تعاليم نسطور وذوي الطبيعتين لتأكيد أن السيد المسيح هو القدوس الذي بتجسده مات الخ. فالتسبحة بكاملها قديمة وهي تُوجه للثالوث القدوس بكونه القدوس، أما الميلاد والصلب والقيامة فموجهة لأقنوم الكلمة المتجسد وحده.
ازدهار كنيسة الإسكندرية:
أول ما قام به البابا بعد تسلم مقاليد الرياسة كان يوجّه الشعب إلى وجوب التمسك بالإيمان القويم. وكان السلام مستتبًا لأن الإمبراطور أناسطاسيوس كان هو أيضًا وفيًا لأصدقائه المصريين ومسالمًا، فازدهرت كنيسة الإسكندرية في عهد البابا يوأنس وعاد نورها إلى بهائه الأول. لم يكدّر صفو باباويته غير الوباء الذي انتشر في الإسكندرية وقضى على الكثيرين من أبنائه. ولقد دأب هذا البابا اليقظ على تفقد شعبه أثناء تفشي الوباء ليواسي المتألمين ويعزي الحزانى. وفي الرابع من بشنس سنة 234ش الموافق سنة 507 م. انضم إلى آبائه بعد أن رعى شعبه بحكمة وعدل حوالي تسع سنوات.
يُدعى الراهب يوأنس النقادي، وقُدِّم بطريركًا في 28 سبتمبر سنة 1320 م. وفي أول عهد رئاسته جرت على النصارى شدائد كثيرة فقُتِل منهم من قُتِل وحُرِق من حُرِق وأسلم منهم الكثيرون وأشهروهم على الجمال وألبسوهم العمائم الزرقاء وهدموا الكنائس ونهبوها. قد أجمع المقريزي هذه الحوادث في جملة واحدة حيث قال: "في يوم الجمعة 19 من ربيع الآخر سنة 721هـ هُدَّمت كنائس مصر في ساعة واحدة". بالإضافة إلى الهجوم على الكنائس في الوجهين القبلي والبحري، حدث حريق كبير في القاهرة بدأ من القلعة، فانزعج أهل القلعة وأهل القاهرة وحسبوا أن القلعة جميعها قد أُحرِقت. اُتهم بعض الرهبان باشعال النار فثار المسلمون طالبين إبادة المسيحيين. استدعى القاضى البابا ليلًا واستفسر منه عن الحريق وأدرك بطلان الاتهام، فأعاده مع الحرس ليلًا بكل إكرام. لكن سرعان ما اجتمع الغوغاء وملأوا الشوارع وكادوا أن يقتلوه في الطريق، لولا تدخل الجنود. وأخيرًا بعد أن ذاق البابا يوأنس من هذه الشدائد والكروب تنيّح في 29 مارس سنة 1327 م.، ودٌفِن في دير النسطور في أيام السلطان محمد بن قلاوون.
بعد نياحة البابا أغاثون سنة 673 م. اتفقت كلمة الشعب والإكليروس على اختيار يوأنس سكرتير البابا الراحل ليخلفه، إذ أحبوه لخدمته إيّاهم، وبذلك تحقق حلم كان قد رآه البابا الراحل أن يصبح سكرتيره الخليفة الأربعين لمار مرقس.
رؤيا سماوية:
كان من سمنود إحدى بلاد الغربية، ترهب في دير القديس مقاريوس في برية الإسقيط. أُصيب بمرض شديد حتى قطع الرهبان الرجاء من شفائه. وفي أثناء ذلك ظهر له السيد المسيح في رؤيا وحوله جماعة. تقدم أحدهم بزي رئيس كهنة وقال له: "أنا مرقس رسول المسيح، أتعدني أن تخدم وظيفتي إذا توسّلت إلى سيدي أن يشفيك؟" فأجابه بالإيجاب. فالتفت المخاطب له إلى السيد المسيح وصار يتوسل إليه ويطلب أن يشفيه. وبينما كان الراهب يوحنا يرى ذلك ويسمع توسلات المخاطب استفاق من غيبته، وبدأ يتعافى. انطلق مع تلميذين له إلى مكان في الفيوم ليتعبد فيه، حتى أمره أسقف المنطقة أن يذهب إلى الإسكندرية عند البابا. كانت معظم الكنائس الأرثوذكسية في الإسكندرية حينئذ في يد الملكانيين منذ وضع ثيؤدوسيوس الخلقيدوني اليد عليها، وكان لقلة عددهم لم يستخدموا الكنائس بل أغلقوها بالشمع حتى لا يصلي فيها الأرثوذكس غير الخلقيدونيين. وحدث في الوقت عينه أن آلت الخلافة إلى مروان الذي عيَّن ابنه عبد العزيز واليًا على مصر، كان عبد العزيز يميل بوجه عام إلى الاعتدال، فعيَّن كاتبين مسيحيين أرثوذكسيين، أحدهما أثناسيوس من الرُها، والثاني اسحق من شبرا من القطر المصري في ديوانه، وكانا معروفين بإخلاصهما التام للأنبا يوأنس. فرأى هذا البابا الجليل أن ينتهز الفرصة التي هيأتها له العناية الإلهية بأن كتب لهما يستنهض همتهما في أمر الكنائس التي لا تزال تعلوها الأختام، فجاءه الرد مباشرة وبه الأمر بفض الأختام عن جميع الكنائس وتسليمها كاملة إلى خليفة مار مرقس وإطلاق الحرية للأقباط لأداء شعائرهم الدينية فيها.
وشاية لدى عبد العزيز:
امتاز الأنبا يوأنس بدرجة عظمى من القداسة حتى أن النعمة الإلهية سطعت كالهالة على جبينه، كما سطعت قديمًا على وجه موسى. ولفرط قداسته وعلو مكانته العلمية كان أمراء القسطنطينية يكاتبونه ويبعثون إليه بالهدايا. وقع حادث أدى إلى سوء العلاقة بين البابا وعبد العزيز في السنة الأولى من ولاية هذا الأمير، ذلك أن عبد العزيز ذهب إلى الإسكندرية ليجمع الجزية المفروضة على هذه المدينة دون أن يسبقه رسله اليها، فلم يكن البابا على علم بمجيئه وبالتالي لم يخرج لملاقاته. ووجد الخلقيدونيين، وفي مقدمتهم ثاوفانيس زوج أخت ثيؤدوسيوس الخلقيدوني، في هذا التغيب فرصة للوقيعة بينهما، فادعوا لدى الوالي بأن البابا تعمد إلا يخرج مع المستقبلين لانه يزعم أنه سليل الفراعنة والحاكم الشرعي للبلاد، فجازت وشايتهم على عبد العزيز وأرسل في طلب البابا. وحالما دخل عليه الأنبا يوأنس آخذه على تصرفه، فأجاب البابا في هدوء مؤكدًا عدم علمه بقدومه، إلا أن الوالي لم يصدقه وأمر باعتقاله وعدم الإفراج عنه حتى يدفع مائة ألف دينار، وتصادف أن كان يوم اعتقال البابا الثلاثاء من أسبوع الآلام. كان ممن استلموه رجل يُدعى سعيد قاسي القلب لا يعرف الرحمة، فأخذه إلى بيته ليُعذبه حتى يقدم المال. وقف البابا أمام الذي قال له: "أريد منك المائة ألف دينارًا التي أمر الوالي أن تقوم بها". فأجابه البابا: "أتطلب منى مائة ألف دينارًا وأنا لا أملك ألف درهم، لأن إلهي في شريعتي أمرني أن لا أقتني المال، لانه أصل كل الشرور. فكل ما تشاء أفعل، جسدي بين يديك، ونفسي بيد الله". اغتاظ المسئول وأمر بإحضار وعاء نحاسي مملوء جمرًا، وأوقف البابا عليه حتى يقدم المال، فاحترقت قدميه من قوة النار دون أن يتحرك البابا أو يلفظ بكلمة استغاثة، وكأنه كان واقفًا على فراشٍ وثير. أوقع الله ضيقًا على زوجة الوالي فبعثت رسولًا يقول له: "احذر أن تفعل سوءً بالبطريرك رجل الله، لأني بُليت الليلة بسببه". فأمر الوالي إلا يمس أحد البطريرك بسوء بل يجتهد أن يأخذ منه ما يقدر عليه بلطفٍ. مع هذا أحضر سعيد ثياب يهودي وأقسم أنه إن لم يدفع ما هو مقرر عليه يلبسه إيّاها ويلطّخ وجهه بالرماد ويطوف به في المدينة. أما البابا فكان يجاوبه بكل شجاعة قائلًا: "لا تستطيع أن تمد يدك إليّ بسوء بغير أمر الله". صار يساومه أن يدفع نصف المبلغ، فأجابه البابا: "إن كل ما يملكه هي ثيابه التي على جسده"، وانتهى بأن طالبه بعشرة آلاف دينار، فأفهمه أنه لا يقوى على دفعها.
إذ سمع الكتّاب الأقباط بذلك أوعزوا إليه سرًا أن يقبل ذلك وسيقومون بجمعها حتى لا يحل الاضطهاد بالكنيسة. وحين سمع الأقباط بنبأ القبض على الأنبا يوأنس سارعوا إلى عبد العزيز وأعلنوا أمامه استعدادهم لجمع المبلغ المفروض وتقديمه إليه على أن يأمر بالإفراج عن البابا فورًا. أمر الوالي بإحضار البابا أمامه وما أن قابله وتأمل وجهه حتى أُخِذ بالنور الساطع من وجهه، فأمر أن يجلس بجواره ثم قال له: "ألا تعرف أيها البابا أن السلطان لا يُعانَد؟" أجاب الأنبا يوأنس: "إنني أعلم أن السلطان يجب أن يطاع، ولكني أعلم أيضًا أن طاعة الله أوجب من طاعة السلطان". قال عبد العزيز: "هذا حق ولكن إلا تعلم أن الله يحب الحق؟" أجابه البابا: "لا يحب الله الحق فحسب بل هو الحق بعينه، ولا يجد إليه الباطل سبيلًا". فأعجب الوالي بهذه الإجابة وقال: "أرى أنك صادق فيما تقول، لذلك أكتفي بأي مبلغ يقدر شعبك على أدائه، ومنذ هذه اللحظة أطلق لك الحرية وأدع لك التصرف في شئون كنيستك بما ترى فيه خير شعبك". جرى هذا الحديث يوم خميس العهد، وحالما غادر الأنبا يوأنس دار الولاية تجمع الشعب حوله في موكبٍ عظيمٍ حتى وصلوا إلى كنيسة مار مرقس واحتفلوا بصلوات العيد. أما ثاوفانيس رئيس مريوط الذي اشتكى البابا، فغضب عليه الأمير لاشتهار فضائحه وسلّمه إلى أحد كتّابه ليُلقيه في السجن، ثم أرسل من يقتله بعد أن عذّبه عذابًا شديدًا.
تكريم الوالي له:
أظهر الوالي التبجيل للبابا حتى بعث برسالة دورية إلى جميع جهات القطر يأمر فيها كل الولاة والحكام ورجال الأمن والإدارة إلا يخاطبوا الأنبا يوأنس إلا بكل احترام وإجلال، وأن يلاقوه أينما حلّ بما يليق بمقامه السامي من ترحيب وحفاوة. امتلأت نفس البابا هدوء وغبطة فانصرف إلى تجديد كنيسة مار مرقس وزخرفتها، كما بنى عددًا من المنازل وقفها على الكنيسة ثم ابتاع طاحونة للقمح ومعصرة للزيت. أصيبت البلاد بالقحط لمدة ثلاث سنوات وبدى شبح المجاعة في كل ركن، فأمر البابا بأن تدار الطاحونة ليل نهار كما أمر بطحن كل ما في مخازن البطريركية من غلال وكان يوزع الدقيق على المحتاجين من قبط ومسلمين مرتين في كل أسبوع، فخفف بذلك العمل من حدة المجاعة إلى أن انتهت.
الوالي في دير أبي سيفين بطموه:
ظلت صلات المودة قائمة بين الأنبا يوأنس وعبد العزيز حتى أنه عندما أشار الأطباء على هذا الوالي بأن يقيم في حلوان للاستشفاء آثر الإقامة في دير أبي سيفين بطموه، ومنح الرهبان عشرين ألف دينارًا في تلك الزيارة. وقد شاءت العناية الإلهية أن يبرأ عبد العزيز من دائه بسرعة لم يكن يتوقعها، فازداد إعزازه للرهبان وإجلاله لباباهم. ويذكر أن العملة الأولى لمصر في العهد الإسلامي قد سكها عبد العزيز وهو مقيم في الدير.
نياحته:
في تلك الآونة استفحل المرض بالأنبا يوأنس، ولما علم عبد العزيز أنه يريد السفر للإسكندرية أمر رجاله بأن يعدوا له سفينة ويجهزوها بكل ما يلزم ليسافر عليها البابا المريض، الذي ما أن وصل إلي عاصمة كرسيه حتى أعرب عن رغبته للأساقفة المصاحبين والمستقبلين في الذهاب إلى كنيسة مار مرقس. هناك استطاع بقوة الروح أن يقف للصلاة، فصلى صلاة الشكر من أولها لآخرها، ولكنه ما كاد ينتهي منها حتى أصيب بإغماء، فحملوه إلى غرفته حيث أفاق للحظات قصيرة نصح في أثنائها المحيطين به أن يحافظوا على المحبة التي هي رباط الكمال وان ينتخبوا إيسآك سكرتيره خليفة له، ثم استودع روحه يديَّ الآب السماوي في 10 كيهك سنة 392ش الموافق 686 م.، ودُفن في مقبرة كان قد أعدها هو لنفسه في كنيسة مار مرقس. بعد نياحته أصدر عبد العزيز أمرًا يقضي فيه على الأقباط بأن لا ينتخبوا بطريركهم إلا في بابيلون، وكانوا قبلًا ينتخبونه في الإسكندرية. ومن ذلك الحين حتى القرن الحادي عشر كان البطاركة يُنتخبون ببابيلون وتتم رسامتهم في كنيسة الملائكة بالإسكندرية، كما كان البابا المنتخب يلتزم بدفع مبلغ من المال لكنائس الإسكندرية لأجل تعميرها وحفظها من الزوال.
بعد نياحة البابا يوأنس الأول اجتمع الإكليروس والشعب للتشاور معًا كالمعتاد، فوقع اختيارهم على يوأنس الراهب المتوحد الذي نشأ منذ نعومة أظافره على الفضائل المسيحية وتشبعت روحه بتعاليمها مما دفعه إلى أن يهجر العالم ليعيش في صومعة نائية طلبًا للكمال المسيحي. قضى عدة سنوات مقيمًا في دير الغار الذي كان على مقربة من بلبيس بمديرية الشرقية، وكان يُلقب بالحبيس. وقد ذاع صيته حتى بلغ المدن الآهلة بالسكان واجتذبت شهرته العدد الوفير من الناس الذين سارعوا إليه لينالوا بركته وليجدوا عنده العزاء الروحي. لما انتقل البابا يوأنس قصد إليه مندوبو الشعب ليعرضوا عليه كرامة الرياسة العليا في الكرازة المرقسية، وكان يوأنس كسلفه شغوفًا بالعزلة زاهدًا في المظاهر العالمية، إلا أن إجماع الإكليروس والشعب أرغمه على قبول هذه الكرامة العظمى، وبذلك أصبح البابا السكندري الثلاثين وذلك في سنة 507 م.
رسالة الشركة إلى أخوته الأساقفة الشرقيين:
وكان أول ما قام به البابا الجديد بعد رسامته هو كتابة رسالة الشركة إلى أخوته الأساقفة الشرقيين الذين اصطلح معهم سلفاؤه بعد القطيعة التي نجمت عن مجمع خلقيدونية، وكان الأنبا تيموثاوس بطريرك القسطنطينية والأنبا ساويرس أسقف إنطاكية ضمن هؤلاء الأساقفة الذين كتب لهم وجاءه ردهما. عقب جلوسه على الكرسي المرقسي تلقي رسائل عديدة من رؤساء الأساقفة الأرثوذكس يهنّئوه ويؤيدون الاعتراف بالإيمان الصحيح ويرفضون كل هرطقة، خاصة هرطقات نسطور وأوطيخا وأبوليناريوس، معترفين بوحدة طبيعة السيد المسيح الكلمة المتجسد. من مميزات البابا يوأنس سهره على رعيته، فلم يتوان عن كتابة الرسائل التي توضّح الإيمان وعلى الأخص الرسائل الفصحية التي كان يعين فيها موعد عيد القيامة المجيدة لبقية الأساقفة، عملًا بقرار مجمع نيقية وجريًا على تقاليد أسلافه. على أن الكتابة والتعليم والإرشاد لم تكن بالعمل الوحيد الذي انصرف إليه هذا البابا الجليل، لانه وجه عنايته الخاصة إلى إعادة بناء الكنائس، التي كان أنصار خلقيدونية قد هدموها أو أصابوها بتصدع وإلى تزويدها بالأواني والملابس الكهنوتية، فازداد تعلق الشعب براعيه الأول حين رأى منه كل هذه العناية ببناء النفوس وبناء بيوت العبادة. بعد أن قضى الأنبا يوأنس الثاني حوالي إحدى عشر سنة في قيادة الكنيسة دخل إلى فرح سيده بسلام في 12 بشنس سنة 241ش الموافق سنة 517 م.
مقتطفات من رسالة تيموثاوس بطريرك القسطنطينية إليه:
[أما نحن فلا نأتي بإيمان جديد، بل نتأدب في كل شيء بحفظ الإيمان الجليل الذي سلّمه لنا آباؤنا الأطهار... نعترف بابن واحد، سيدنا يسوع من قبل أن يتجسد ومن بعد أن تجسد. هذا الغير متغير ولا مستحيل لم يأتِ بجسده معه من السماء ولا من شيء آخر كخيالٍ، بل صار جسدًا، أي أنه تجسد وصار إنسانًا من غير استحالة.
الإله الكلمة الغير ذي جسد قبِلَ جسدًا من جوهرنا الواحد، من مريم والدة الإله العذراء القديسة في كل زمان بنفسٍ ناطقة عاقلة، صيّره واحدًا معه في أحشائها كالأقنوم... هو شخص واحد من اثنين لاهوت وناسوت كقول الحق، فنعترف بعمانوئيل أنه الوحيد رب واحد، مسيح واحد، الله الكلمة صار جسدًا. هذا هو الواحد فقط، هو الذي قال الأصوات اللائقة باللاهوت وهو أيضًا الذي تكلم بتواضع كتدبير الناسوت الذي اتخذه، فلا نقسّم أفعاله إلى طبيعتين أو شكلين كمن يقسّم المسيح الواحد طبيعتين.]
بعد نياحة البابا ميخائيل سعى الراهب يوأنس بن كدران من أجل رئاسة الكهنوت، ولكن اتجهت الأنظار إلى الراهب يوأنس بن أبي الفتح من دير أنبا يحنس القصير، فذهبوا إليه ورسموه قمصًا قبل إحضاره إلى القاهرة. ومع أن بن كدران قصد الخليفة الظاهر إلا أنه لم ينصفه إذ أن هذه الأمور في يد رجال الكنيسة لا الدولة، وسافر الجمع إلى الإسكندرية حيث رسموا يوأنس بن أبي الفتح بطريركًا في أغسطس سنة 1146 م.
من مظاهر محبة هذا البابا الجديد لشعبه وسعيه على راحتهم أنه استدعى الراهب بن كدران وعرض عليه أن يكون أسقفا لسمنود، ولكنه عاد إلى صوابه وإلى ديره واعتذر شاكرًا له عطفه. نقل مقر إقامته إلى دير أبي سيفين وقد اهتم هذا البابا الذي نقل مقر إقامته إلى دير أبي سيفين لتشجيع نسخ الكتب والمخطوطات تشجيعًا للقراءة والإطلاع على كنوز الأقدمين، خصوصًا إبان الحروب الصليبية التي اجتاحت الشرق وقضت على الأخضر واليابس.
سجنه:
ولأن الكنيسة القبطية مسئولة عن أختها كنيسة أثيوبيا، فقد اغتصب العرش الأثيوبي مغتصب ولما وبّخه المطران على سوء فعلته طلب إلى حاكم مصر - العادل - والبطريرك تعيين آخر محله، ولما رفض البطريرك المصري ألقاه العادل في السجن ولم يخرج إلا بعد مقتل العادل.
هدم الكنائس:
وقد عانت مصر في فترة هذا البابا اضطرابات سياسية قُتل فيها الظافر، وخلال الاضطرابات والقلق تهدمت كنائس وسرقت الأواني، لولا تواجد أحد الأقباط الغيورين في ديوان الخليفة واسمه الأسعد صليب، أعاد بناء ما تهدّم من الكنائس وترميم البعض وشراء احتياجاتها. تألم البابا كثيرًا ولشدة حساسيته حزن على ما يحدث وفضل تسليم حياته في يد معطيها، فلم يؤجل الله له طلبًا ونقله إلى الأمجاد سنة 1166 م.، ودفنه المؤمنون في كنيسة أبي سيفين بجوار سلفه الصالح أنبا غبريال إلى أن نقل البابا مرقس الثالث جسديهما إلى برية شيهيت.
الجسد المُحيي:
حدث أن أضاف رهبان سمنود كلمة "المُحيى" بعد "هذا الجسد" وذلك في الاعتراف بالقداس الإلهي، فاعترض الأنبا مكاريوس أسقفهم على ذلك وطلب منهم عدم ذكرها، وإذ أصرّوا رفع الأنبا مكاريوس الأمر إلى البابا، فعقد مجمعًا وبعد البحث أقر المجمع هذه الزيادة، وأصدر البابا منشورًا لجميع الكنائس بقبولها. ثار رهبان دير أبي مقار واحتجّوا على المجمع، وللأسف طعنوا فيه أمام الوالى الذي طرد الفريقين. غير أن الرهبان لبثوا يقاومون البابا طالبين حذف الكلمة، وأخيرًا خضعوا.
انقضت خمسة عشر شهرًا بعد نياحة البابا مينا الأول قبل أن يجتمع الأساقفة معًا في الإسكندرية لاختيار من يخلف البابا الراحل. ولما اجتمعوا رأوا أن يصوموا ويصلوا استلهامًا للروح القدس، وبينما هم يصلون قام شماس شيخ واقترح اسم راهب مشهود له بالتقوى ورخامة الصوت اسمه يوأنس، وكان يعيش في دير الأنبا مقاريوس الكبير. ومع ما امتاز به هذا الراهب من فضائل فقد رأى بعض الأساقفة أن يلجأوا إلى القرعة الهيكلية في الانتخاب، وعلى ذلك اختاروا راهبين آخرين وكتبوا الأسماء الثلاثة، كلًا على ورقة، ووضعوا معها ورقة بيضاء، ثم اشتركوا معًا في إقامة ثلاثة قداسات. وكانوا كلما انتهوا من إقامة صلوات القداس يطلبون إلى ولدٍ صغيرٍ أن يسحب ورقة من الأربع ورقات الموضوعة على المذبح، وفي المرات الثلاثة كانت الورقة تحمل اسم الراهب يوأنس. فلم يسع الأساقفة والأراخنة إلا أن يختاروا الراهب يوأنس، وتمت رسامته سنة 776 م.، وذلك في عهد خلافة محمد المهدي.
أعماله الرعوية:
كان أول عمل أتاه البابا أن بعث برسالة الشركة إلى الأب المغبوط جرجس بطريرك إنطاكية يجدد له فيها اتحاده معه في الإيمان الأرثوذكسي. وكان الأب جرجس البطريرك قد أُلقي في السجن وجلس عوضًا عنه ابن خادمة الخليفة الذي لم يخاطب الكرسي الإسكندري قط حتى مات هذا البطريرك الدخيل. عاد الأب جرجس بعد عشرة سنوات إلى كرسيه وإذ وجد الرسالة التي كان قد بعث بها البابا يوحنا فرح بها جدًا وردّ عليها بمثلها؛ جمع الأساقفة والشعب وتلاها عليهم. وإذ كان السلام مستتبًا في أنحاء البلاد نتيجة وجود والٍ منصف يحكمها، وجه البابا عنايته لبناء كنيسة فخمة وبجوارها أنشأ دارًا لسكناه في الإسكندرية، كما انصرف إلى تجديد الكنائس وتزيينها بالأيقونات والنقوش والزخارف. ثم قام البابا برحلة رعوية عمل خلالها على تثبيت قلوب المؤمنين على العقيدة الأرثوذكسية.
متاعب يوليانوس البطريرك الملكي:
عانى البابا من البطريرك الملكي بالإسكندرية يوليانوس، والذي كان طبيبًا ماهرًا مشهورًا يحترمه الملوك المسلمين لأجل مهنتته. دُعي إلى دار الخلافة في بغداد وعالج بعض أقرباء الأسرة المالكة، وفي مقابل ذلك حصل على أمر بتسليمه جميع كنائس الإسكندرية، فثار الشعب الأرثوذكسي عن بكرة أبيه ومنعه، ولم يستطع نوالها. اِدّعى البطريرك الملكي أن البابا قد أقام كنيسة الملاك ميخائيل والتي دعاها كنيسة التوبة على أرض حكومية، ولكن البابا أكد ملكية الأرض وانها ليست ملك الحكومة، ومع ذلك اضطر البابا إلى دفع غرامة ضخمة. قد حدثت في عهده مجاعة نتيجة نقص الحصاد، فكان البابا، بالإضافة إلى الصوم والصلاة في حرارة واستعطاف، يفتح مخازن الكنيسة للمحتاجين من الشعب وتوزيع ما فيها على الجميع من مسلمين ومسيحيين، كما أخذ يحث الأغنياء من شعبه على المسارعة إلى مد يد العون لاخوتهم، وبهذا استطاع البابا أن يخفف من حدة المجاعة.
هدم الكنائس:
حدث أن تولى ولاية مصر والٍ جديد حسب أن الدين الإسلامي يأمر بهدم الكنائس، فأمر بهدم عدد كبير منها رغم أنه أحسن معاملة الأقباط، وأدى توهمه هذا إلى قيام بعض المتعصبين بهدم عدد آخر من الكنائس. ولما علم البابا بأخبار التخريب ترك الإسكندرية وذهب إلى الفسطاط وغيرها من المدن ليقف بنفسه على ما جرى لكنائسها، وأقام القداس في كنيسة تهدم سقفها وكانت دموعه تنساب على خديه طيلة مدة الصلاة. وظهر له ملاك الرب عن يمين المذبح وعزاه وأعلمه أن صلواته أُستجيبت، وأن البابا الذي سيخلفه سيجدد كل الكنائس المتهدمة. فرح الأنبا يوأنس وامتلأ قلبه سلامًا واطمأن إلى حال الكنيسة. مع هدوئه النفسي الكامل أحس بوعكة أدرك معها أن ساعته قد حانت، فاستقر رأيه على السفر إلى الإسكندرية، وهناك أوصى الأساقفة برسامة مرقس سكرتيره وابنه الروحي خلفًا له حسب ما أشار عليه ملاك الرب، ثم تنيّح بسلام في سنة 799 م.
مرقس تلميذه:
اشتهر مرقس الذي كان قيّمًا في كنيسة أبي مينا بالإسكندرية بتقواه وعلمه وإجادة القراءة والتسبيح، فكان كثيرون يأتون إلى الكنيسة باكرًا حتى لا يفوتهم تسبيح مرقس وقراءته. كان بروح الرب يرفع قلوبهم كما إلى السماء. تنيّح أنبا جرجس أسقف إيبارشية مصر (القاهرة) فكتبت رعيته إلى البابا الأنبا يوأنس يلتمسون منه إقامة شماسه مرقس عِوضًا عنه. استدعاه البابا وسامه قسًا بغير إرادته لكي يقيمه أسقفا على إيبارشية مصر، لكن القس مرقس رفض تمامًا وهرب. اضطر البابا إلى سيامة آخر وهو القس ميخائيل. تضايق البابا مما فعله القس مرقس فكتب إلى شيخ قديس بالبرلس يخبره بأن هذا القس قد عصاه، وانه لن يُقبل بعد لسيامته أسقفًا. فأرسل الشيخ جرجس إلى البابا يقول له إن عدم قبوله الأسقفية هو من الله الذي سيجعله بطريركًا بعده. فتعجب البابا جدًا واستدعى القس مرقس وأعاده تلميذًا له وكان يحبه ويجلّه.
من رسالة البابا يوأنس الرابع إلى قرياقوس بطريرك أنطاكية الـ46:
[نؤمن بالآب والابن والروح القدس الثالوث المساوي في الجوهر، الذي تسبحه القوات العلوية بلا فتور، ويبشر به ذوو العيون النيّرة... يجب علينا نحن أيضًا أن نفتح عيون قلوبنا بالتقديس ثلاث مرّات مثل دانيال، إذ فتح كُوى بيته الشرقية للثلاث صلوات (اليومية)، لكي ننال نور مجد لاهوت الحق، قائلين كبولس الثلاث فضائل المقدسة، وهي الإيمان بالآب والرجاء بالابن والمحبة بالروح القدس التي هي كمال الناموس، لأن ثمرة المحبة للروح القدس هي الإيمان. فنحن نؤمن بالآب والابن ونؤمن أيضًا بالروح القدس ونحبه مع الآب والابن فنكمل الاعتراف بالمحبة الحقيقية. والثلاثة هم لاهوت واحد، ولو كانت الأقانيم متميزة الأسماء والمعاني كما علّم القديس ساويرس... من المعلوم أن الأفعال تدلّ على الأسماء، وأفعال الثلاثة أقانيم الواضحة في الكتاب لا يشك من له أقل معرفة في انها تدل على وحدة طبيعة الآب والابن والروح القدس. لكن هذه الطبيعة الواحدة (للثالوث القدوس) والأسماء المختلفة المعاني غير وحدتها واختلاف أقانيمها عن بعض في عقولنا، لأنه من المستحيل أن نتصور تمييزها عن خارج طبيعتها الواحدة، ولا يجوز أن نقول أنها عبارة عن قوى الطبيعة الإلهية مثل قوى النفس البشرية، لأن كل أقنوم له الطبيعة بلا نقص وهي متحدة ببعضها اتحادًا جوهريًا، وعلى ذلك يكون الآب موجودًا في الابن والروح، كما أن الابن والروح موجودان في الآب ومع بعضهما. وقد علمنا هذا التعليم اللسان الناطق بالإلهيات، أعني غريغوريوس في كتاب المعمودية حيث قال: لأن اللاهوت واحد في الثلاثة، والثلاثة واحد في اللاهوت، وأما الزيادة والنقصان فلندرْ عنهما، ولا نجعل الوحدانية والتمايز (الافتراق) غريبين، لنبق عنهما. فانه بهذا الخلط سقط سابيليوس الذي جمع اللاهوت في أقنوم واحد، وبهذا الافتراق تهوّر أريوس الذي بعدَ الأقانيم عن بعض، فإن هذين الأمرين مفسدان للنفوس ومتساويان في الكفر، ونحن نرذلهما ونحرمهما. نحن نرذل معكم أيها المغبوطون ونعزل قطعيًا الذين يقولون أن الأقانيم لا تتميز عن بعض مثل تمييز الأبوة عن النبوة وبالعكس الانبثاق. إننا نؤمن بابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور الأزلي مع الآب، والروح القدس... الذي لما أراد أن يرحم خليقته من اللعنة والهلاك بسبب سقوط آدم بذلته والقضاء الذي قضى به عليه، طأطأ السماء ونزل، بحيث لم يفارق كرسي مملكته الإلهية، وصار في بطن العذراء البتول مريم القديسة الطاهرة وتجسد من الروح القدس ومنها من دمها البتول، جاعلًا ناسوته معه واحدًا في الأقنومية، ذلك الناسوت الذي هو ذات نفس عاقلة عالمة... صار طبيعة واحدة مركّبة وأقنومًا واحدًا وبروسبًا واحدًا ومسيحًا واحدًا ابنًا واحدًا وربًا واحدًا... وكما أن الكنيسة تنفر من القول بالافتراق تنفر أيضًا من القول بالامتزاج والاختلاط والتغيير كما أسلفنا، كما تنفر من القول بالخيال، وممن يقول بأن جسد الرب من السماء أو من هيولي آخر غير دم العذراء، أو أنه لم يكن قابلًا الآلام والموت نظير كل واحد من البشر ماعدا الخطيئة...].