منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 27 - 07 - 2017, 02:42 PM   رقم المشاركة : ( 18651 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,352,450

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

المسيح يعلّم عن العظمة الحقيقية

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
"فِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَقَدَّمَ التَّلَامِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ: "فَمَنْ هُوَ أَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ؟" فَدَعَا يَسُوعُ إِلَيْهِ وَلَداً وَأَقَامَهُ فِي وَسَطِهِمْ وَقَالَ: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ الْأَوْلَادِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. فَمَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ مِثْلَ هذَا الْوَلَدِ فَهُوَ الْأَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَمَنْ قَبِلَ وَلَداً وَاحِداً مِثْلَ هذَا بِاسْمِي فَقَدْ قَبِلَنِي" (متى 18:1-5).
تحدث بعض التلاميذ عند رجوعهم من جبل التجلي، على غير مسمع من المسيح، في من هو الأعظم بينهم. ومن الطبيعي أن التلاميذ الذين لم يدَّعوا لأنفسهم الأولية، كانوا ينتصرون للذين يريدون لأنفسهم الكرامة الممتازة، فأوصلهم الحسد إلى الاحتجاج الذي ربما بنوه على بعض الامتيازات الشخصية في معاملات المسيح وكلامه. فما أشد هذه الضربة على قلب المسيح الرقيق المحب بوقوع هذه المشاحنة الصبيانية، بين الذين قد اصطفاهم من بين كل البشر رسلاً له، ويا له من هبوط عظيم في الآمال التي تعلَّقت عليهم!
وفاتح المسيح بعض تلاميذه في ما عسى أن يكون موضوع جدالهم الحماسي الذي لن يسمعه، فسكتوا. كان يجب عليهم أن يعترفوا ويصلحوا زلتهم، فقد قال إمام الحكماء سليمان: "مَنْ يَكْتُمُ خَطَايَاهُ لَا يَنْجَحُ، وَمَنْ يُقِرُّ بِهَا وَيَتْرُكُهَا يُرْحَمُ" (أمثال 28:13). وقال نبي الله داود: "لَمَّا سَكَتُّ بَلِيَتْ عِظَامِي مِنْ زَفِيرِي الْيَوْمَ كُلَّه.. قُلْتُ: "أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِذَنْبِي" وَأَنْتَ رَفَعْتَ أَثَامَ خَطِيَّتِي" (مزمور 32:3 و5) لكن بعد سكوتهم تقدموا وطلبوا إليه أن يفيدهم عن أساس العظمة في ملكوت السماوات ومن هو الأعظم فيه، فجمع الاثنى عشر جميعاً، ثم دعا ولداً إليه وأوقفه في الوسط ليراه الجميع، وكأنه يقول إن العظمة في ملكوته لا تكون إلا للذي لا يطلبها، وأن لا أحد يدخل هذا الملكوت إلا من يرجع إليه ويصير مثل ولد.
من أوصاف الولد بساطة التواضع بدلاً من ادعاء العظمة، وعدم المبالاة برفعة المقام، وسهولة الانقياد والطاعة دون تردد أو اعتراض، وسرعة المسامحة على الأذية بدلاً من التشبُّث بالانتقام والحقد طويلاً، والتطلُّع للأمام برجاء والنظر إلى المستقبل بسرور بدلاً من القنوط واليأس، والاكتفاء بالخير القليل بدلاً من الطمع، وتصديق ما يسمعه بدلاً من الشكوك والظنون السيئة.
لذلك قال المسيح: "الأصغر فيكم جميعاً هو يكون عظيماً". وقد مرَّت تسعة عشر قرناً على البشر ولا يزال هذا التعليم مجهولاً من الكثيرين، ولم يفهم في التواضع إلا عدد قليل.. حتى تلاميذ المسيح أنفسهم لم يستفيدوا في ذلك الوقت إلا قليلاً من هذا التعليم، لأنهم جددوا هذه المجادلة فيما بعد. وفي هذا الوقت طلبوا أن يعرفوا مَن منهم يكون الأعظم في ملكوت السماوات. لذلك كانوا في خطر، ليس أن يفقدوا الامتياز فقط، بل أن يفقدوا الدخول إلى ذلك الملكوت. وما دام الذي يطلب العظمة لنفسه ولا يرجع ويصير مثل الأولاد لن يدخل ملكوت السماوات، فإن عليهم أن يتركوا السؤال عن العظمة، ويهتموا بالسؤال عن دخول الملكوت.
ثم علّمهم المسيح شيئاً عن كرامة اسمه، حتى أن كل ما يصنعه أحد باسمه يُحسب إكراماً له. ومن يكرم صغيراً باسمه يكون قد أكرمه. ومن يكرمه يكون قد أكرم الآب الذي أرسله. فما أجمل هذه الرابطة التي تربط الآب بالابن، ثم الابن بأصغر المؤمنين باسمه.
"وَقَالَ يُوحَنَّا: "يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِداً يُخْرِجُ شَيَاطِينَ بِاسْمِكَ وَهُوَ لَيْسَ يَتْبَعُنَا، فَمَنَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُنَا". فَقَالَ يَسُوعُ: "لَا تَمْنَعُوهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَصْنَعُ قُوَّةً بِاسْمِي وَيَسْتَطِيعُ سَرِيعاً أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ شَرّاً. لِأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا. لِأَنَّ مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِاسْمِي لِأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَهُ" (مرقس 9:38-41).
على أثر هذا الكلام، أخبره يوحنا عما جرى معه ومع بعض رفقائه، لما التقوا بإنسان يخرج شياطين باسم المسيح، وهو ليس من تابعيه ظاهراً، ظناً منهم أن لا حقَّ لغيرهم في هذا الامتياز الذي منحه المسيح لهم. لكن طالما لا يقدر إلا المسيح أن يعطي هذا السلطان، فلا مانع من أن يكون قد أخذه من المسيح على غير علمهم. وأن المسيح أجاز له أن يعمل باسمه دون أن يرافقه، ودون أن يعرِّف التلاميذ به. وقد خطّأ المسيح يوحنا، وأظهر أن من ليس عليه فهو معه. أي أن لا حياد بالنسبة لملكوت البر. فلا يصحُّ أن يُقال مطلقاً في الدين: "لا معنا ولا علينا". والواجب على يوحنا أن يعرف أن كل إنسان صالح يسمِّي اسم المسيح سنداً لعمله، يسنده المسيح، لأن عمله يكون عزيزاً لدى المسيح. وحامل هذا الاسم باستحقاق يكون تحت حماية المسيح، وكل من يؤذيه يجازيه الملك، ويكافئ كل من يقدم خدمة باسمه.
تحذير من العثرات

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
"وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ هؤُلَاءِ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي فَخَيْرٌ لَهُ أَنْ يُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ حَجَرُ الرَّحَى وَيُغْرَقَ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ. وَيْلٌ لِلْعَالَمِ مِنَ الْعَثَرَاتِ. فَلَا بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الْإِنْسَانِ الَّذِي بِهِ تَأْتِي الْعَثْرَةُ. فَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي النَّارِ الْأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلَانِ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّمَ النَّارِ وَلَكَ عَيْنَانِ" (متى 18:6-9).
ثم تطرَّق المسيح إلى موضوع آخر مهم جداً، وهو العثرات. وكان قد تكلم عنه في وعظه على الجبل، وكرره الآن كتعليم خاص للتلاميذ وحدهم. لقد أعطاهم نفسه قدوة لما جنَّبهم العثرة ودفع الجزية، ووبّخهم على غلطهم لما أعثروا التلميذ المجهول الذي كان يُخرج شياطين باسمه. ثم قال المسيح إن غرق الإنسان مثقلاً بحجر الرحى في لجة البحر، أفضل له من أن "يعثر أحد هؤلاء الصغار". ولا بد من أنه قصد بالإعثار أولاً أن يقود الإنسان غيره إلى الخطيئة، وقصد أيضاً الإهانة والتكدير في غير محله. فمن يفعل ذلك لأحد تلاميذه الحقيقيين ينال جزاءً مخيفاً، يجعله يتمنّى أن يبدل العقاب - لو أمكن - بالغرق في قعر البحر.
ولكي لا يولِّد كلام المسيح آمالاً فارغة في تلاميذه، فيظنون أنهم يستطيعون إزالة العثرات من العالم تماماً، قال: "لا بد أن تأتي العثرات". فهل هناك عذر لمن يُعثر غيره لأن العثرات لا بد أن تأتي؟ أسرع المسيح وتلافى هذا الوهم فقال: "لكن ويل لذلك الإنسان الذي به تأتي العثرة".
ثم نصح المسيح أن من تعثره يده فليقطعها، ومن تعثره عينه فيقلعها. وهذا بالطبع كلام مجازي، لأن قطع اليد أو قطع العين الحرفي لا يزيل الإثم الذي مركزه القلب، فقَطْع أعضاء الجسد لا يصلحها. يمكن أن يرتكب الإنسان جميع الخطايا في فكره وقلبه ولو قلع ليس العين اليمنى فقط، بل واليسرى أيضاً، وقطع يده اليمنى واليسرى أيضاً. فالإله الروح، الذي له وحده الحكم في أمر الخطيئة والهلاك، ينظر إلى ما في القلب وليس إلى ما في الأعضاء. والمقصود من هذا الكلام هو أن كل من يجرُّ الإنسان إلى الخطيئة يجب إبعاده ولو كان عزيزاً عند الإنسان، كعينه اليمنى أو يده اليمنى.
قصد الخالق أن تكون أعضاء الجسد بركة وآلة للخير في نفع الناس، لذلك يسمِّي الرسول بولس الأجساد هياكل للروح القدس (1 كورنثوس 6:19) فالذي يشوهها يُهين الهيكل وصانعه. إنه لا يطلب قلعاً لأعضاء الجسد، بل يطلب صيانتها وتكريسها لخدمته. وهذه الخدمة تتعذر على من يتلف هذه الأعضاء.
ثم قال المسيح إن كل من يعثر غيره يتعرَّض لجهنم النار، حيث دودهم لا يموت والنار لا تُطفأ. وليس في هذا الكلام رائحة تهديد، بل هو تحذير وإنذار مقدَّم ممن أتى من السماء ليخلصنا من هذه الأبدية المرعبة. ولا يمكن أن محباً نظيره يبالغ في وصف المخاوف التي يخشى من أن تصيب الذين يحبهم.
تحذير من تعثير الصغار

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
"لَا تَحْتَقِرُوا أَحَدَ هؤُلَاءِ الصِّغَارِ، لِأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مَلَائِكَتَهُمْ فِي السَّمَاوَاتِ كُلَّ حِينٍ يَنْظُرُونَ وَجْهَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. لِأَنَّ ابْنَ الْإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ. مَاذَا تَظُنُّونَ؟ إِنْ كَانَ لِإِنْسَانٍ مِئَةُ خَرُوفٍ، وَضَلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا، أَفَلَا يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ عَلَى الْجِبَالِ وَيَذْهَبُ يَطْلُبُ الضَّالَّ؟ وَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ يَجِدَهُ، فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَفْرَحُ بِهِ أَكْثَرَ مِنَ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ الَّتِي لَمْ تَضِلَّ. هكَذَا لَيْسَتْ مَشِيئَةً أَمَامَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ هؤُلَاءِ الصِّغَارِ" (متى 18:10-14).
ثم حذر المسيح تلاميذه من احتقار الصغار، لأن الله يعتني بهم، حتى أنه يقدم لهم خدمة ملائكية خصوصية. قال إن ملائكتهم ينظرون كل حين وجه الآب السماوي. فأيُّ حقٍ للناس أن يحتقروهم؟ ليس المقصود بهذا القول صغار السن وحدهم، بل يشمل أيضاً صغار النفوس، وعلى الأخص المؤمنين الواقعين تحت نيران الاضطهاد، أو الغرقى في بحر الاحتقار. ثم أوضح المسيح أن خلاصه يعمُّ جميع الأطفال، عندما قال: "ليست مشيئة أمام أبيكم الذي في السماوات أن يهلك أحد هؤلاء الصغار".
وأردف بهذا القول كلاماً جميلاً من غاية مجيئه من السماء، بيّن فيه تمسُّكه بلقب ابن الإنسان. وهو "لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك". ومثَّل عمله بتفتيش إنسان عن خروف أضاعه، فترك على الجبال التسعة والتسعين التي لم تضل لكي يفتش عن الضال. ومتى وجده يفرح به أكثر من التسعة والتسعين. حقاً إن اهتمام الله وفرحه بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة، يفوق إدراك البشر، وأن أفكاره ليست كأفكارهم.
إن أخطأ إليك أخوك

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
"وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا. إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ، فَخُذْ مَعَكَ أَيْضاً وَاحِداً أَوِ اثْنَيْنِ، لِكَيْ تَقُومَ كُلُّ كَلِمَةٍ عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ فَقُلْ لِلْكَنِيسَةِ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْكَنِيسَةِ فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ كَالْوَثَنِيِّ وَالْعَشَّارِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الْأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي السَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الْأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاءِ. وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً: إِنِ اتَّفَقَ اثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى الْأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ" (متى 18:15-20).
ثم تكلم المسيح عن عثرة أخرى لا بد من وقوعها بين أهل الإيمان ضمن الكنيسة. فكيف يتصرف المؤمن متى تعدى عليه أخٌ؟ أولاً: لا يجب أن يدخل معه في منازعة، بل عليه أن يحفظ نفسه من الغيظ. ثم عليه أن يراعي المحبة الأخوية، فلا يُفشي الأمر خشية تضخُّمه فيصعب إصلاحه. وعليه أن يعاتب المعتدي حبياً وعلى انفراد، أملاً برجوعه عن خطئه في الحال، ويمنعه من تكرار زلته. لأنه يُرجَّح أن المعتدي متى رأى عدوه في روح الحب والمسالمة، يخجل ويندم ويتوقف عن تكرار الاعتداء ويُصلِح ما فعل. ولهذا السبب قال المسيح: "إن سمع منك فقد ربحت أخاك".
أما إنْ قسّى المعتدي قلبه فالواسطة الثانية لتخجيله وإقناعه هي الاستعانة بلجنة صغيرة تسعى في إصلاح ذات البيْن، وتكون شاهداً على المعتدي إن لم يمتثل للحق، وللمعتدَى عليه ببرائته من الذنب. لكن إنْ أصرَّ على رفض هذه الوسائط الحبية، تُرفع القضية إلى المجلس الرسمي، أي الكنيسة، لتنظر في الأمر، وتسعى في إصلاح المذنب. وهذا الاستشناف مفيد، لأن من شأنه أن يجعل المعتدي يخضع للجنة، لئلا يزيد تخجيله وتُخفَض كرامته بسبب تقديم الشكوى عليه للكنيسة. فإنْ لم يخضع لحكم الكنيسة يحق للشاكي إن يجتنبه ولا يعتبره كأخ، لأنه قد برهن أن ليس فيه الشروط الجوهرية للأخوية المسيحية.
"حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بُطْرُسُ وَقَالَ: "يَا رَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟" قَالَ لَهُ يَسُوعُ: "لَا أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ" (متى 18:21-22).
كانت الشريعة اليهودية تقضي بأن يغفر الإنسان لمن يسيء إليه، ثلاث مرات. وإنْ تكررت الإساءة لا يُكلَّف بتكرار المغفرة. وشعر بطرس أن شريعة المسيح الجديدة أوسع من القديمة، فسأل المسيح: "يا رب، كم مرة يخطئ إليَّ أخي وأنا أغفر له؟ هل إلى سبع مرات؟" ظن أن سبع مرات هي أكثر ما يُطلب منه، فيكون قد تكرم بقوله "إلى سبع مرات". فكم كان خجله لما أجابه المسيح: "لا أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع مرات". يعني إلى ما لا نهاية له.
ما أصعب هذا الأمر على الإنسان، فإن الطبيعة البشرية لا تحتمله دون نعمة إلهية. لكن الروح الذي يقود إلى مسامحة مسيحية قلبية في المرة الأولى، يقود أيضاً في الثانية، وإلى ما لا نهاية له. ولا سيما إنه إذا غفر مرة يتقوى في هذه الروح، فيسهل تكرار الغفران أكثر من المرة الأولى. والذي ليس له في قلبه أن يسامح في المرة المئة يبرهن أن مسامحته الأولى لم تكن من روح مسيحي حقيقي. فكل من يشعر بفضل الإله الغفور، لا يمكنه أن يحاسب إخوته، مهما عُظمت تعدياتهم عليه.
مَثَل الملك الذي سامح

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
"لِذلِكَ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً أَرَادَ أَنْ يُحَاسِبَ عَبِيدَهُ. فَلَمَّا ابْتَدَأَ فِي الْمُحَاسَبَةِ قُدِّمَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ مَدْيُونٌ بِعَشْرَةِ آلَافِ وَزْنَةٍ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُوفِي أَمَرَ سَيِّدُهُ أَنْ يُبَاعَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَأَوْلَادُهُ وَكُلُّ مَا لَهُ، وَيُوفَى الدَّيْنُ. فَخَرَّ الْعَبْدُ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ. فَتَحَنَّنَ سَيِّدُ ذلِكَ الْعَبْدِ وَأَطْلَقَهُ، وَتَرَكَ لَهُ الدَّيْنَ. وَلَمَّا خَرَجَ ذلِكَ الْعَبْدُ وَجَدَ وَاحِداً مِنَ الْعَبِيدِ رُفَقَائِهِ، كَانَ مَدْيُوناً لَهُ بِمِئَةِ دِينَارٍ، فَأَمْسَكَهُ وَأَخَذَ بِعُنُقِهِ قَائِلاً: أَوْفِنِي مَا لِي عَلَيْكَ. فَخَرَّ الْعَبْدُ رَفِيقُهُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ قَائِلاً: تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ. فَلَمْ يُرِدْ بَلْ مَضَى وَأَلْقَاهُ فِي سِجْنٍ حَتَّى يُوفِيَ الدَّيْنَ. فَلَمَّا رَأَى الْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُ مَا كَانَ، حَزِنُوا جِدّاً. وَأَتَوْا وَقَصُّوا عَلَى سَيِّدِهِمْ كُلَّ مَا جَرَى. فَدَعَاهُ حِينَئِذٍ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ، كُلُّ ذلِكَ الدَّيْنِ تَرَكْتُهُ لَكَ لِأَنَّكَ طَلَبْتَ إِلَيَّ. أَفَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّكَ أَنْتَ أَيْضاً تَرْحَمُ الْعَبْدَ رَفِيقَكَ كَمَا رَحِمْتُكَ أَنَا؟. وَغَضِبَ سَيِّدُهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُعَذِّبِينَ حَتَّى يُوفِيَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ. فَهكَذَا أَبِي السَّمَاوِيُّ يَفْعَلُ بِكُمْ إِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مِنْ قُلُوبِكُمْ كُلُّ وَاحِدٍ لِأَخِيهِ زَلَّاتِهِ" (متى 18:23-35).
لما كان ضرورياً أن يبيّن المسيح أساس هذا القانون الصعب ليقنع تلاميذه بصوابه، أوضح لهم ذلك بواسطة مثل العبد الظالم، الذي بعد أن ترك سيده الملك ديناً عظيماً للغاية، لا يمكنه أن يوفيه مطلقاً، قبض ذلك العبد على أحد رفقائه العبيد بسبب ديْن زهيد كان عليه، وزَجَّه في السجن، رغم كل الاستراحامات والمواعيد وإحسان مولاه إليه، بتركه له هذا الدين العظيم. لم يلن قلبه ليصبر على رفيقه، بل أخذه بعنقه وألقاه في السجن حتى يوفي الدين. فلما أبلغ العبيد رفقاؤه مولاهم الملك بهذا الأمر، اغتاظ الملك جداً، وأحضر هذا العبد الظالم وأنّبه، وسلّمه إلى المعذِّبين حتى يوفي كل ما كان له عليه. فإن كان مفلساً قبل سجنه، فأي أمل له أن يفي الملايين وهو سجين؟ فلا مناص من بقائه إلى الأبد بين أيدي المعذِّبين!
في هذا المثل شبَّه المسيح الله بالملك، وشبَّه الخطاة بالعبيد المديونين. ولما كان الدَّين الذي على الخاطئ لله عظيماً، يستحيل على الخاطئ أن يوفيه. لكن الله برحمته، وبناءً على عمل الفداء، يغفر لأعظم الخطاة متى اعترف له وطلب منه الرحمة وتعهَّد أن يصلح أمره فيما بعد. أما دَيْن الخاطئ لرفيقه البشري فزهيد بالنسبة إلى دَيْن الرفيق لربه. فمتى حصل إنسان على الغفران الإلهي، لا حقَّ له أن يمسك عن رفيقه المغفرة على زلاته، مهما تكاثرت وتكررت. ولا يحق لإنسان أن يدين أخاه قبل مقابلته واستماع عذره. لعله أخطأ سهواً، أو ظلمه واشٍ. فما أرهب العبارة التي ختم بها المسيح جوابه على سؤال بطرس بقوله: "فهكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته".
ولنا في الصلاة الربانية برهان أهمية وجوب ترك الحقد، لما نصلي: "اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا". لا ينتظر البريء أن يأتيه المذنب ليستغفر منه، بل يسبقه، إتماماً للقول: "اذهب وعاتبه بينك وبينه". تمثُّلاً بالمسيح الذي لم ينتظر الخاطئ إلى أن يتوب ويأتي إليه، بل قد أتى من السماء ليطلب ويخلص ما قد هلك.
المسيح يغفر للزانية

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
"وَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِناً. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي الْوَسَطِ قَالُوا لَهُ: "يَا مُعَلِّمُ، هذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ، وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟" قَالُوا هذَا لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى الْأَرْضِ. وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ، انْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلَا خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَّوَلاً بِحَجَرٍ!" ثُمَّ انْحَنَى أَيْضاً إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى الْأَرْضِ. وَأَمَّا هُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ، خَرَجُوا وَاحِداً فَوَاحِداً، مُبْتَدِئِينَ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى الْآخِرِينَ. وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ وَالْمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي الْوَسَطِ. فَلَمَّا انْتَصَبَ يَسُوعُ وَلَمْ يَنْظُرْ أَحَداً سِوَى الْمَرْأَةِ، قَالَ لَهَا: "يَا امْرَأَةُ، أَيْنَ هُمْ أُولئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟" فَقَالَتْ: "لَا أَحَدَ يَا سَيِّدُ". فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: "وَلَا أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلَا تُخْطِئِي أَيْضاً" (يوحنا 8:3-11).
ذهب المسيح إلى أورشليم، ودخل الهيكل. وأخذ يعلّم ويشرح للجمهور أمور ملكوته الروحي. وبعد قليل حصلت ضجة بين الحاضرين، لأن جماعة من علماء الدين طلبوا أن يفسح لهم الجمع الطريق ليصلوا إلى المسيح، وهم يجرُّون امرأة تعيسة أُمسكت في زنى. وتظاهروا في ريائهم المعهود بغيرة كاذبة على شريعة العفة، وباحترام كاذب للمسيح، إذ طلبوا حكمة في أمر يتعلق بشريعتهم الدينية المقدسة، ولقبوه بأكرم ألقابهم أي "معلم في الدين" وأوقفوا المذنبة في الوسط أمام الجمهور، وطلبوا منه أن يحكم: "هل تُعامل بمقتضى شريعة موسى فيرجمونها؟".
كانت الحكومة الرومانية قد منعت المحاكم الدينية اليهودية من الحكم بالإعدام. فإن حكم المسيح برجم هذه الخاطئة يخالف النظام السياسي الحاكم، ويغيظ كثيرين من الشعب الذي تعوَّدوا التساهل في الأحكام. وإن حكم بعدم رجمها، يفتح لهم باباً واسعاً لينتقدوه أمام الشعب كمخالفٍ لشريعتهم المقدسة. وبما أنهم يعلمون كيف تصرَّف أمامهم قبلاً بشريعة السبت، حاسباً ذاته أعظم من موسى، وغير مقيَّد بشريعته، كانوا يأملون أن يتصرف بذات الطريقة في شريعة الزنى أيضاً، فيهيّجون عليه كل من تهمُّه المحافظة على العفة والآداب الصحيحة. فقالوا له: "موسى يقول كذا وكذا. فماذا تقول أنت؟" كأنهم يعترفون له بحق مخالفة أحكام موسى، لو شاء.
وانصرفت أفكار المسيح من هذه المذنبة إلى طالبي رجمها، وهم أعظم منها إثماً، لأنه لم يكن يقبل أن يتساهل مع الظالم والخبيث. فكان جوابه الأول أنه انحنى وصار يكتب بإصبعه على الأرض، ليعطي سائليه فترة للتفكير. ولما تابعوا السؤال أجابهم قانونياً ما معناه: حسب شريعتكم متى ثبت جُرم الزنى على امرأة، فالشهود هم الذين يجب أن يبدأوا أولاً برجمها، وأنتم الشهود. ثم أن العدل يقضي بأن الذي يخطئ أولاً يُجازى أولاً. فالذي منكم خالف شريعة العفة قبل هذه المرأة، لا يحق له أن يطلب قصاصها قبله، فليبتدئ برجمها البريء منكم لا غيره.
ثم انحنى ثانية وصار يكتب بإصبعه على الأرض، فانسحبوا خجلين منكسرين، وخرجوا بالترتيب الذي دخلوا به حسب رتبهم: الشيوخ أولاً ثم الآخرون، حتى لم يبق منهم أحد، فإن الضمير يصيِّرنا جميعاً جبناء.
يُرجَّح أن التلاميذ والجمهور لم ينصرفوا مع الشاكين، بل انتظروا النتيجة في أمر المرأة التي بقيت واقفة في الوسط. واتّجه فكر المسيح الآن إليها، لأنه أتى ليطلب ويخلِّص ما قد هلك. "أين أولئك؟ أما دانك أحد؟" وأجابت: "لا أحد يا سيد". قال لها: "ولا أنا أدينك. إذهبي ولا تخطئي أيضاً".
بقوله: "ولا أنا أدينك" تصرف قانونياً، لأن هروب المدَّعين والشهود قبل استجوابهم يُسقط الدعوى، فليس في قوله هذا أقل تساهل مع الخطيئة التي اتُّهمت بها. ولما كان المسيح يكره الخطيئة ويحب الخاطئ، كان يسهل للخطاة أن يتركوا خطاياهم.
"ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً قَائِلاً: "أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلَا يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ". فَقَالَ لَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ: "أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً". أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: "وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ، لِأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَا تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي وَلَا إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. أَنْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ تَدِينُونَ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَداً. وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَقٌّ، لِأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي، بَلْ أَنَا وَالْآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي. وَأَيْضاً فِي نَامُوسِكُمْ مَكْتُوبٌ: أَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حَقٌّ. أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي، وَيَشْهَدُ لِي الْآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي". فَقَالُوا لَهُ: "أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟" أَجَابَ يَسُوعُ: "لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلَا أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً".
هذَا الْكَلَامُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي الْخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ. وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ، لِأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ.
قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: "أَنَا أَمْضِي وَسَتَطْلُبُونَنِي، وَتَمُوتُونَ فِي خَطِيَّتِكُمْ. حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لَا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا" فَقَالَ الْيَهُودُ: "أَلَعَلَّهُ يَقْتُلُ نَفْسَهُ حَتَّى يَقُولُ: حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لَا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا؟" فَقَالَ لَهُمْ: " أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هذَا الْعَالَمِ. فَقُلْتُ لَكُمْ إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ، لِأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ". فَقَالُوا لَهُ: "مَنْ أَنْتَ؟" فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: "أَنَا مِنَ الْبَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِهِ. إِنَّ لِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَتَكَلَّمُ وَأَحْكُمُ بِهَا مِنْ نَحْوِكُمْ، لكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ. وَأَنَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَهذَا أَقُولُهُ لِلْعَالَمِ". وَلَمْ يَفْهَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ عَنِ الْآبِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: "مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الْإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ، وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي، بَلْ أَتَكَلَّمُ بِهذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي. وَالَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي، وَلَمْ يَتْرُكْنِي الْآبُ وَحْدِي، لِأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ" (يوحنا 8:12-29).
استأنف المسيح تعليمه للناس بعد المقاطعة التي سبَّبها حادث المرأة، فشبَّه ذاته وعمله بالنور، فإن من أشرف ألقابه "نور العالم". فاعترض الفريسيون على كلامه بحُجَّة أن شهادة الإنسان لنفسه لا تثبت، فأجابهم بما معناه أن هذا الحكم ولو صحَّ في الخطاة الذين تخدعهم الأنانية، أو يخدعون الآخرين عمداً، فلا يصح في المسيح الكامل الذي هو في حضن الآب. هذا فضلاً عن شهادة الآب غير القابلة للشك أو الاعتراض. فلما سألوه: "أين أبوك؟" أجاب بما لا يحقُّ لبشر أن يقوله، إذ قال: "لستم تعرفونني أنا ولا أبي. لو عرفتموني لعرفتم أبي ايضاً". ولما كرر كلامه السابق أنهم لا يقدرون أن يتبعوه إلى حيث يذهب بعد قليل، قالوا تهكُّماً: "ألعله يقتل نفسه حتى يقول هذا القول؟". فأجابهم بكلام آخر لا يسوغ لبشر أن يقوله. قال: "أنا لست من هذا العالم. أنا من فوق. إن لم تؤمنوا أني أنا هو، تموتون في خطاياكم. ولم يتركني الآب وحدي لأني في كل حيث أفعل ما يرضيه".
"وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهذَا آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ. ‚فَقَالَ يَسُوعُ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ: "إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كَلَامِي فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تَلَامِيذِي، وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ". أَجَابُوهُ: "إِنَّنَا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ نُسْتَعْبَدْ لِأَحَدٍ قَطُّ. كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: إِنَّكُمْ تَصِيرُونَ أَحْرَاراً؟" أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ. وَالْعَبْدُ لَا يَبْقَى فِي الْبَيْتِ إِلَى الْأَبَدِ، أَمَّا الِابْنُ فَيَبْقَى إِلَى الْأَبَدِ. فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الِابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً. أَنَا عَالِمٌ أَنَّكُمْ ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ. لكِنَّكُمْ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي لِأَنَّ كَلَامِي لَا مَوْضِعَ لَهُ فِيكُمْ. أَنَا أَتَكَلَّمُ بِمَا رَأَيْتُ عِنْدَ أَبِي، وَأَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَا رَأَيْتُمْ عِنْدَ أَبِيكُمْ". أَجَابُوا: "أَبُونَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ". قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: "لَوْ كُنْتُمْ أَوْلَادَ إِبْرَاهِيمَ لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ! وَلكِنَّكُمُ الْآنَ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي، وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللّهِ. هذَا لَمْ يَعْمَلْهُ إِبْرَاهِيمُ. أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ أَبِيكُمْ". فَقَالُوا لَهُ: "إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِناً. لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللّهُ". فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: "لَوْ كَانَ اللّهُ أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي، لِأَنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ اللّهِ وَأَتَيْتُ. لِأَنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي، بَلْ ذَاكَ أَرْسَلَنِي. لِمَاذَا لَا تَفْهَمُونَ كَلَامِي؟ لِأَنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي. أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لِأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ. وَأَمَّا أَنَا فَلِأَنِّي أَقُولُ الْحَقَّ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي. مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ فَإِنْ كُنْتُ أَقُولُ الْحَقَّ، فَلِمَاذَا لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي؟ اَلَّذِي مِنَ اللّهِ يَسْمَعُ كَلَامَ اللّهِ. لِذلِكَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَسْمَعُونَ، لِأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ اللّهِ" (يوحنا 8:30-47).
بعد أن تحدث المسيح عن نفسه أنه نور العالم، آمن به كثيرون. فصرح بأن الحق يحرر من يعرف الحق، وإن حررهم الابن فبالحقيقة يكونون أحراراً. وقال المسيح للذين اعترضوا على كلامه، بحجة أنهم لا يحتاجون إلى التحرير، إن العبودية الحقيقة هي الاستعباد للخطيئة، وإن كل من يفعلها هو عبد لها، والعبد لا يرث ولا يدوم في البيت. وقال للذين يُضمرون في قلوبهم قتله: "تطلبون أن تقتلوني لأن كلامي لا موضع له فيكم". أعلن لهم أن الإستعباد للخطيئة يعني البنوَّة لإبليس. فادّعاؤهم البنوَّة لإبراهيم ادّعاء بغير حق، لأنهم لا يعملون أعمال إبراهيم بل أعمال إبليس. فإبراهيم لم يطلب أن يقتل إنساناً لمجرد أنه تكلم بالحق. وكل من يفكر في قتل البريء، يعمل عمل إبليس لا عمل إبراهيم. ومثله الكذب الذي تعوَّدوه، لأن "إبليس كذاب وأبو الكذاب".
ثم قال قولاً آخر، لا يجوز لمجرد بشر أن ينطق به. قال: "من منكم يبكّتني على خطيئة؟" اعترف سائر الأنبياء بخطاياهم بتذلل وأسف وحزن، فمن هذا الذي يقول هذا القول عن نفسه؟ لو كان بشراً فقط لحقَّ لنا أن نحسبه دون أولئك الذي أقرُّوا بأنهم خطاة. ثم قال أيضاً: "الحق الحق أقول لكم إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت إلى الأبد". وهذا القول أيضاً لا يحقُّ لبشر.. إنه كلام ابن الله.
فَأَجَابَ الْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: "أَلَسْنَا نَقُولُ حَسَناً إِنَّكَ سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟" أَجَابَ يَسُوعُ: "أَنَا لَيْسَ بِي شَيْطَانٌ، لكِنِّي أُكْرِمُ أَبِي وَأَنْتُمْ تُهِينُونَنِي. أَنَا لَسْتُ أَطْلُبُ مَجْدِي. يُوجَدُ مَنْ يَطْلُبُ وَيَدِينُ. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كَلَامِي فَلَنْ يَرَى الْمَوْتَ إِلَى الْأَبَدِ". فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: "الْآنَ عَلِمْنَا أَنَّ بِكَ شَيْطَاناً. قَدْ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَالْأَنْبِيَاءُ، وَأَنْتَ تَقُولُ: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كَلَامِي فَلَنْ يَذُوقَ الْمَوْتَ إِلَى الْأَبَدِ". أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي مَاتَ. وَالْأَنْبِيَاءُ مَاتُوا. مَنْ تَجْعَلُ نَفْسَكَ؟" أَجَابَ يَسُوعُ: "إِنْ كُنْتُ أُمَجِّدُ نَفْسِي فَلَيْسَ مَجْدِي شَيْئاً. أَبِي هُوَ الَّذِي يُمَجِّدُنِي، الَّذِي تَقُولُونَ أَنْتُمْ إِنَّهُ إِلهُكُمْ، وَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. وَأَمَّا أَنَا فَأَعْرِفُهُ. وَإِنْ قُلْتُ إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُهُ أَكُونُ مِثْلَكُمْ كَاذِباً، لكِنِّي أَعْرِفُهُ وَأَحْفَظُ قَوْلَهُ. أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ". فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: "لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ، أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟" قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ". فَرَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. أَمَّا يَسُوعُ فَاخْتَفَى وَخَرَجَ مِنَ الْهَيْكَلِ مُجْتَازاً فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى هكَذَا" (يوحنا 8:48-59).
قال المسيح إنه الحق الذي يحرر، فاتَّهمه خصومه أنه "سامري وبه شيطان" وكذَّبوا قوله بأن من يحفظ كلامه لن يرى الموت إلى الأبد، بحجة أن أب الآباء إبراهيم وسائر الآباء والأنبياء ماتوا. فكيف لا يموت كل من يحفظ كلامه؟ وسألوه: "من تجعل نفسك؟" فجواباً على هذا قال القول الشهير الذي يثبت بلا مراجعة إعلانه إنه ليس بشراً فقط، لأن حياته لم تبتدئ كسائر البشر لما وُلد، بل إنه منذ الأزل. قال: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي، فرأى وفرح" فقال له اليهود: "ليس لك خمسون سنة بعد، افرأيت إبراهيم؟" فأجابهم: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ" (يوحنا 8:58). فرفعوا حجارة ليرجموه. لقد أدركوا المعنى الخطير الذي أعلنه بقوله: "قبل إبراهيم أنا كائن" - هذا إعلان لألوهيته، فكيف رآه إبراهيم ما لم يكن صاحب طبيعة أخرى أزلية كانت من البدء (يوحنا 1:1) وقوله: "أنا كائن" هو نفس الاسم الذي أعلن الله نفسه به يوم أرسل موسى لليهود "وَقَالَ: "هكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ (أي أنا كائن) أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ" (خروج 3:14) - لقد فهموا أنه يقول إنه الله، ويدَّعي لنفسه الأزلية، فأرادوا أن يرجموه، لكنه أفلت منهم، لأن ساعته لم تأت بعد، فاختفى وخرج من الهيكل مجتازاً في وسطهم ومضى.
 
قديم 27 - 07 - 2017, 02:48 PM   رقم المشاركة : ( 18652 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,352,450

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

شروط اتباع المسيح

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
"وَحِينَ تَمَّتِ الْأَيَّامُ لِارْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلاً، فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ. فَلَمْ يَقْبَلُوهُ لِأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهاً نَحْوَ أُورُشَلِيمَ. فَلَمَّا رَأَى ذلِكَ تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا، قَالَا: "يَا رَبُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ، كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضاً؟" فَالْتَفَتَ وَانْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: "لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لِأَنَّ ابْنَ الْإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ". فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى" (لوقا 9:51-56).
في رحلة المسيح الأخيرة من الجليل في الشمال إلى اليهودية في الجنوب، قصد أن يمرَّ بالسامرة، وهي الجزء المعروف باسم "عبر الأردن" في كلام النبي إشعياء عن الأراضي التي سوف يبصر شعبها نوراً عظيماً (إشعياء 9:2).
وأرسل المسيح خبراً إلى قرية سامرية قصد أن يبيت فيها مع تلاميذه، فهاج التعصُّب السامري لما سمعوا بقدوم جماعة من اليهود مع هذا المعلم الشهير، متَّجهين إلى أورشليم ليؤدّوا فيها فروض الدين، لأن السامريين يتمسكون بوجوب تأديتها في جبلهم المقدس. ولربما أخذتهم أيضاً غيرة الحسد، فنفروا من المسيح لإِهماله بلادهم، وخدمته لخراف بيت إسرائيل الضالة وحدها في إحساناته العجيبة. ولربما استصعبوا تقديم الضيافة لعدد كهذا من المسافرين. فرفضوا قبوله.
لما عاد المرسَلون بخبر الرفض، استاء التلاميذ جداً من هذه الإِهانة لقائدهم العظيم، ولهم. كنا نتوقع تحمُّس بطرس في مقدمة القوم، لكن سبقه ابنا زبدي: يعقوب ويوحنا، اللذان سمّاهما المسيح "ابني الرعد" وأستأذنا منه أن يُنزِل ناراً من السماء تهلك هؤلاء السامريين. ألم تسقط في هذه المقاطعة قديماً نار من السماء بطلب النبي إيليا، فأهلكت مئة رجل من جنود الملك أخزيا الذين أرسلهم للقبض على النبي؟ (2 ملوك 1:10). أوَلمْ يتعلما أمساً على جبل التجلي أن معلمهما أعظم من إيليا؟ فما دام الغضب الإِلهي حلَّ ناراً على الذين أهانوا إيليا، فكيف لا يُجازَى بمثل ذلك الذين أهانوا سيدهم الذي عرفا واعترفا أنه ابن اللّه ومسيحه؟
لكن في بعض الأمور لا يصلح الاقتداء بالأنبياء. وانتهر المسيح يعقوب ويوحنا، وقال: "لستما تعلمان من أي روح يجب أن تكونا وأنتما في صحبتي. إن ما جرى حتى الآن أمامكما كافٍ لتعلما ما هو روح المحبة الذي فيَّ، والذي يجب أن يكون في تلاميذي أيضاً. فالروح الذي ساقكما إلى هذا الطلب لا يخلو من اندفاع الشباب وانتقام الكبرياء. فهل رأيتما فيَّ شيئاً من هذا؟ قد ساقكما روح التعصب المذهبي الذي نشأتما عليه، فكنتما تحسبان هؤلاء السامريين كلاباً نجسة، فاستصعبتُما احتمال الإِهانة ممَّن تحتقرانهم. فهل رأيتما هذا فيّ؟ لما هاج عليّ جمهور الناصرة وجرُّوني إلى حافة الجبل ليقتلوني - هل عاقبتُ أحداً منهم؟ ولما قاموا عليّ في اليهودية ليرجموني، هل انتقمت من إنسان؟ ولما طردوني من كورة الجدريين، هل قاومتُ أحداً لذلك؟ ألم أقل تكراراً: "أحبوا أعداءكم. أحسنوا إلى مبغضيكم". فكيف تطلبان الآن أن تُفنيا بنار من السماء أهالي هذه القرية؟ ألستما تعلمان بعد كل هذا أني لم أت لأهلك الناس جسداً أو نفساً، بل لأخلصهم؟
رفض المسيح اقتراح تلميذيه بإحراق السامريين الذي رفضوه، وانتقل مع تابعيه إلى قرية أخرى. ويُرجَّح أن موقعها وراء الحدود السامرية، وقدم بذلك مثالاً للطف والحلم والوداعة في احتمال عمل سخيف. كانت أعمال الشفاء في هذه الرحلة أكثر من كافية لتشغل كل أوقاته، لكن البشير يقول: "وكعادته كان أيضاً يعلّمهم" لأن اهتمامه الأول بالتعليم الروحي. وهذا درس لجميع الذين يشتغلون في أعمال الرحمة للأجساد، أن يرافقوها بالتعاليم الروحية لأجل النفوس.
ثلاثة أمثال

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
"وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ فِي الطَّرِيقِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ: "يَا سَيِّدُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي". فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الْإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ". وَقَالَ لِآخَرَ: "اتْبَعْنِي". فَقَالَ: "يَا سَيِّدُ، ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي". فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَاذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ اللّهِ". وَقَالَ آخَرُ أَيْضاً: "أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ، وَلكِنِ ائْذِنْ لِي أَوَّلاً أَنْ أُوَدِّعَ الَّذِينَ فِي بَيْتِي". فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللّهِ" (لوقا 9:57-62).
جاء أحد علماء الدين المعروفين بالكتبة للمسيح. وبعد السلام قال: "يا سيد، أتبعك أينما تمضي". لربما ظن أن المسيح يفتخر بتابع كهذا ويرحب به كثيراً. لكن نستنتج من ردّ المسيح عليه أن في قلب هذا الكاتب مطامع عالمية. فلا نصيب له أو لأمثاله في صحبة المسيح الذي وهو الإِله المتأنِّس تنازل إلى أدنى درجات الفقر الزمني، تعزية لفقراء العالم، لكي لا ييأس أفقر البشر لشدة فقره. كان سريره مستعاراً لا مِلكاً، وقبره كذلك - ومثلهما كل ما استعمله بين المهد واللحد. كانت معيشته من مال المحبِّين. ولم يترك للإاقتسام بعد موته سوى الثياب التي عليه، والأكفان التي تركها في القبر عند قيامته. فكان جوابه لهذا الكاتب: "للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار. وأما ابن الإِنسان فليس له أين يسند رأسه". ثم انطفأ خبر هذا الكاتب.
وقدم المسيح بعد ذلك دعوة لأحد رفقائه المؤمنين ليكون تلميذاً ملازماً، فرضي، على شرط أن يعطيه المسيح مهلة ليذهب أولاً ويدفن أباه. وهو يقصد أن يلازم أباه العجوز إلى أن يموت - وكان هذا واجباً مقدساً، بعده يترك كل شيء ويتبع المسيح. لكن المسيح لم يتساهل معه لأنه لم يضع الواجبات للوالدين بعد الواجبات للّه. فأمره أن يترك للموتى روحياً تدبير أمر الموتى جسدياً، لأنه كحي روحياً بعد إيمانه الجديد يجب أن يلتصق بالأحياء روحياً مثله. لا ريب في تمسُّك المسيح بالوصية التي تأمر بإكرام الوالدين، وقد برهن ذلك في حداثته في الناصرة لما كان خاضعاً لأبويه. ونذكر أنه أنَّب رؤساء اليهود الذين كانوا ينقضون الواجبات للوالدين تحت حجة "قربان" (مرقس 7:10-13) فيكون أن الذي جعله يأمر هذا الرجل أن يترك أباه ويتبعه هو، أنه يطلب لنفسه حقوق العزة الإِلهية. فمتى تضاربت الحقوق الإِلهية مع الواجبات الوالدية، تُقدَّم الحقوق الإلهية على كل شيء.
ثم تقدم رجل ثالث بقصد أن يتبع المسيح. إنما يطلب أن يغيب بعض الوقت ليودع أهل بيته، فلم يسمح المسيح له. يُحتمل أن بيته كان في بلدة بعيدة، أو أن المسيح عرف أن أحوال بيته تعاكس قصده الحسن، فإنْ رجع ليودّع أهله يضغطون عليه ويمنعونه. أو أن المسيح قصد أن يوضح أمام جميع تابعيه أنه لا يجوز تأخير دعوته مطلقاً ولو قليلاً، فأجابه على استئذانه: "ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت اللّه".
الإتِّباع العملي

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
"وَبَعْدَ ذلِكَ عَيَّنَ الرَّبُّ سَبْعِينَ آخَرِينَ أَيْضاً، وَأَرْسَلَهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ أَمَامَ وَجْهِهِ إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ حَيْثُ كَانَ هُوَ مُزْمِعاً أَنْ يَأْتِيَ. فَقَالَ لَهُمْ: "إِنَّ الْحَصَادَ كَثِيرٌ، وَلكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَاطْلُبُوا مِنْ رَبِّ الْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ. اِذْهَبُوا. هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ مِثْلَ حُمْلَانٍ بَيْنَ ذِئَابٍ. لَا تَحْمِلُوا كِيساً وَلَا مِزْوَداً وَلَا أَحْذِيَةً، وَلَا تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي الطَّرِيقِ. وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلَامٌ لِهذَا الْبَيْتِ. فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ ابْنُ السَّلَامِ يَحِلُّ سَلَامُكُمْ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَيَرْجِعُ إِلَيْكُمْ. وَأَقِيمُوا فِي ذلِكَ الْبَيْتِ آكِلِينَ وَشَارِبِينَ مِمَّا عِنْدَهُمْ، لِأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ. لَا تَنْتَقِلُوا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ. وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَقَبِلُوكُمْ، فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ، وَاشْفُوا الْمَرْضَى الَّذِينَ فِيهَا، وَقُولُوا لَهُمْ: قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللّهِ وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ، فَاخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا وَقُولُوا: حَتَّى الْغُبَارُ الَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ. وَلكِنِ اعْلَمُوا هذَا أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللّهِ. وَأَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَكُونُ لِسَدُومَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ" (لوقا 10:1 12).
لا شك أن عدداً كبيراً من الناس كان يتبع المسيح كتلاميذ له، كان من بينهم سبعون رجلاً يصلحون لأن يرسلهم للتبشير في القرى والمدن اثنين اثنين، وكلفهم أن يقدّموا للناس التعليم والشفاء، كما فعل لما أرسل الإثني عشر. وبإرسالهم اثنين اثنين تظهر أهمية العمل أكثر مما لو ذهبوا أفراداً، فيشجع الواحد منهم الآخر ويصلِح أغلاطه، ويتناوبان في الكلام والأعمال. فلو زاد عدد كل فريق عن اثنين يثقلون على مضيفيهم، وتقلّ أماكن تبشيرهم. وبمنحه إياهم قوة الشفاء يكتسبون انتباه الناس وثقتهم ومحبتهم، ويظهِرون اهتمام سيدهم بصالح الجميع، الزمني مع الروحي، ويبشرون بالملكوت الجديد الذي اقترب منهم، وبملك هذا الملكوت الذي أرسلهم أمامه.
وزوّد المسيح السبعين بمثل النصائح والإعلانات التي قدّمها للاثني عشر قبلهم، إلا أنه أضاف عليها وصيته أن لا يسلّموا على أحد في الطريق، لأن الوقت قصير، بالكاد يكفي للتعليم والشفاء. ومن عاداتنا الشرقية أننا نكثر السلامات التي تضيِّع الوقت. وأوصاهم أيضاً أن يأكلوا ما يُقدَّم لهم دون سؤال أو اعتراض، وأن يهملوا الطقوس اليهودية في أمر المأكولات، لئلا تقف حاجزاً بينهم وبين الذين يقبلونهم في بيوتهم، وأردف هذا بقوله: "لأن الفاعل مستحق أجرته".
"فَرَجَعَ السَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ: "يَا رَبُّ، حَتَّى الشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِاسْمِكَ". فَقَالَ لَهُمْ: "رَأَيْتُ الشَّيْطَانَ سَاقِطاً مِثْلَ الْبَرْقِ مِنَ السَّمَاءِ. هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَاناً لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُّوِ، وَلَا يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ. وَلكِنْ لَا تَفْرَحُوا بِهذَا أَنَّ الْأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لَكُمْ، بَلِ افْرَحُوا بِالْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي السَّمَاوَاتِ" (لوقا 10:17-20).
نرجح أن السبعين مبشراً رجعوا تدريجياً، لكنهم رجعوا جميعاً بنغمة الفرح مع شيء من التعجُّب. يظهر أن السلطان الذي منحه المسيح لهم لم يتناول إخراج الشياطين، فلما شرعوا بإخراج الشياطين أيضاً ونجحوا فاض ابتهاجهم، حتى كان خبر هذا النجاح يشغل المحل الأول في تقاريرهم لمرسِلهم. قالوا: "يا رب، حتى الشياطين تخضع لنا باسمك". فلماذا اسم المسيح وليس اسم اللّه؟ وأي فعلٍ لمجرد الاسم، ما لم يكن المسيح معهم روحياً، رغم غيابه عنهم جسدياً؟
في جواب المسيح عليهم نبّههم إلى أن نجاحهم راجع إلى العمل الإِلهي في طرد إبليس من السماء التي سقط منها بسبب كبريائه. كأنه يقول لهم: أنتم رأيتُم فشل بعض الجنود، ولكني رأيت فشل رئيسهم وسقوطه. رأى المسيح بروح النبوَّة سقوط الشيطان التام في المستقبل، فسيأخذ المسيحُ إبليس أسيراً، ذلك الذي طالما أسر البشر لإرادته. لطالما قيَّد إبليسُ البشر بقيودِ الطبيعة المفسدة والعادات الذميمة. من لقبه "رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ" (يوحنا 16:11) تظهر مملكته.. ومن لقبه "سُلْطَانِ الْهَوَاءِ" (أفسس 2:2) يظهر مسكنه.. ومن لقبه "سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ" (كولوسي 1:14) يظهر نوع أعماله.. ومن لقبه "الَّذِي يَعْمَلُ الْآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ" (أفسس 2:2) يظهر مَنْ هُمْ رعاياه.
كان المسيح قد قال: "كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرح لهم: إني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم". أفلا يعلمون أن نجاحهم في إخراج الشياطين محفوف بخطر الكبرياء، لأنه في الظاهر نتيجة عملهم، بينما النجاح الحقيقي الذي هو كتابة اسمائهم في السماوات هو عمل اللّه وهبة من نعمته المجانية؟ هنيئاً لهؤلاء الذين حقق المسيح لهم أن أسماءهم مكتوبة في السماء. لكن هل لمجرد إنسان بشري حق أن يصرح لأناس مخصوصين أن أسماءهم مكتوبة في السماوات؟ ألا يوضح لنا هذا أن المسيح هو ابن الإنسان وابن اللّه معاً؟
فرح المسيح بخدمة أتباعه

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
"وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِالرُّوحِ وَقَالَ: "أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الْآبُ، رَبُّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لِأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلْأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا الْآبُ، لِأَنْ هكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ". وَالْتَفَتَ إِلَى تَلَامِيذِهِ وَقَالَ: "كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ الِابْنُ إِلَّا الْآبُ، وَلَا مَنْ هُوَ الْآبُ إِلَّا الِابْنُ، وَمَنْ أَرَادَ الِابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ". وَالْتَفَتَ إِلَى تَلَامِيذِهِ عَلَى انْفِرَادٍ وَقَالَ: "طُوبَى لِلْعُيُونِ الَّتِي تَنْظُرُ مَا تَنْظُرُونَهُ، لِأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ وَمُلُوكاً أَرَادُوا أَنْ يَنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَلَمْ يَنْظُرُوا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا" (لوقا 10:21-24).
في حياة المسيح كلها لم نقرأ أنه تهلل إلا في هذا الوقت، مع أننا نقرأ ثلاث مرات أنه بكى، وعدة مرات أنه انزعج أو اضطرب بالروح أو حزن.. تهلل لأنه رأى في غلبة تلاميذه على العدو، واستفادة الناس منهم، أعظم نجاح حصل إلى الآن في عمله. وفي تهلُّله اتجهت روحه طبيعياً، ليس نحو الناس، بل نحو الآب السماوي، فحمده بعبارات استعملها سابقاً. ثم قال لهم على انفراد: "إن أنبياء كثيرين وملوكاً أرادوا أن ينظروا ما أنتم تنظرون ولم ينظروا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا".
لا نغفل الفائدة العظيمة التي حصلت لهؤلاء السبعين ولنا نحن أيضاً بواسطة إرساليتهم هذه. فعندما كلّف السبعين بالعمل الذي خصَّ به التلاميذ الاثني عشر سابقاً، علَّمنا أن التبشير ليس محصوراً في رجال الدين القانونيين، بل أن على كل مؤمن أن يكون مبشراً، وأن يخصص قسماً من أوقاته وأمواله للتبشير بالإِنجيل. متى أدرك المسيحيون هذه الحقيقة، وعملوا بموجبها، يفعلون المعجزات الروحية. وقد قال عنها المسيح لتلاميذه: "مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالْأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا، لِأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي" (يوحنا 14:12) والحمد للّه أن الشواهد على صدق هذا القول واضحة في تاريخ الكنيسة قديماً في زمان الرسل والآباء، وحديثاً في تاريخ انتشار الإِنجيل في بلدان كثيرة
 
قديم 27 - 07 - 2017, 02:50 PM   رقم المشاركة : ( 18653 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,352,450

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

اتباع المسيح


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
"وَحِينَ تَمَّتِ الْأَيَّامُ لِارْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلاً، فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ. فَلَمْ يَقْبَلُوهُ لِأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهاً نَحْوَ أُورُشَلِيمَ. فَلَمَّا رَأَى ذلِكَ تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا، قَالَا: "يَا رَبُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ، كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضاً؟" فَالْتَفَتَ وَانْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: "لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لِأَنَّ ابْنَ الْإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ". فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى" (لوقا 9:51-56).
في رحلة المسيح الأخيرة من الجليل في الشمال إلى اليهودية في الجنوب، قصد أن يمرَّ بالسامرة، وهي الجزء المعروف باسم "عبر الأردن" في كلام النبي إشعياء عن الأراضي التي سوف يبصر شعبها نوراً عظيماً (إشعياء 9:2).
وأرسل المسيح خبراً إلى قرية سامرية قصد أن يبيت فيها مع تلاميذه، فهاج التعصُّب السامري لما سمعوا بقدوم جماعة من اليهود مع هذا المعلم الشهير، متَّجهين إلى أورشليم ليؤدّوا فيها فروض الدين، لأن السامريين يتمسكون بوجوب تأديتها في جبلهم المقدس. ولربما أخذتهم أيضاً غيرة الحسد، فنفروا من المسيح لإِهماله بلادهم، وخدمته لخراف بيت إسرائيل الضالة وحدها في إحساناته العجيبة. ولربما استصعبوا تقديم الضيافة لعدد كهذا من المسافرين. فرفضوا قبوله.
لما عاد المرسَلون بخبر الرفض، استاء التلاميذ جداً من هذه الإِهانة لقائدهم العظيم، ولهم. كنا نتوقع تحمُّس بطرس في مقدمة القوم، لكن سبقه ابنا زبدي: يعقوب ويوحنا، اللذان سمّاهما المسيح "ابني الرعد" وأستأذنا منه أن يُنزِل ناراً من السماء تهلك هؤلاء السامريين. ألم تسقط في هذه المقاطعة قديماً نار من السماء بطلب النبي إيليا، فأهلكت مئة رجل من جنود الملك أخزيا الذين أرسلهم للقبض على النبي؟ (2 ملوك 1:10). أوَلمْ يتعلما أمساً على جبل التجلي أن معلمهما أعظم من إيليا؟ فما دام الغضب الإِلهي حلَّ ناراً على الذين أهانوا إيليا، فكيف لا يُجازَى بمثل ذلك الذين أهانوا سيدهم الذي عرفا واعترفا أنه ابن اللّه ومسيحه؟
لكن في بعض الأمور لا يصلح الاقتداء بالأنبياء. وانتهر المسيح يعقوب ويوحنا، وقال: "لستما تعلمان من أي روح يجب أن تكونا وأنتما في صحبتي. إن ما جرى حتى الآن أمامكما كافٍ لتعلما ما هو روح المحبة الذي فيَّ، والذي يجب أن يكون في تلاميذي أيضاً. فالروح الذي ساقكما إلى هذا الطلب لا يخلو من اندفاع الشباب وانتقام الكبرياء. فهل رأيتما فيَّ شيئاً من هذا؟ قد ساقكما روح التعصب المذهبي الذي نشأتما عليه، فكنتما تحسبان هؤلاء السامريين كلاباً نجسة، فاستصعبتُما احتمال الإِهانة ممَّن تحتقرانهم. فهل رأيتما هذا فيّ؟ لما هاج عليّ جمهور الناصرة وجرُّوني إلى حافة الجبل ليقتلوني - هل عاقبتُ أحداً منهم؟ ولما قاموا عليّ في اليهودية ليرجموني، هل انتقمت من إنسان؟ ولما طردوني من كورة الجدريين، هل قاومتُ أحداً لذلك؟ ألم أقل تكراراً: "أحبوا أعداءكم. أحسنوا إلى مبغضيكم". فكيف تطلبان الآن أن تُفنيا بنار من السماء أهالي هذه القرية؟ ألستما تعلمان بعد كل هذا أني لم أت لأهلك الناس جسداً أو نفساً، بل لأخلصهم؟
رفض المسيح اقتراح تلميذيه بإحراق السامريين الذي رفضوه، وانتقل مع تابعيه إلى قرية أخرى. ويُرجَّح أن موقعها وراء الحدود السامرية، وقدم بذلك مثالاً للطف والحلم والوداعة في احتمال عمل سخيف. كانت أعمال الشفاء في هذه الرحلة أكثر من كافية لتشغل كل أوقاته، لكن البشير يقول: "وكعادته كان أيضاً يعلّمهم" لأن اهتمامه الأول بالتعليم الروحي. وهذا درس لجميع الذين يشتغلون في أعمال الرحمة للأجساد، أن يرافقوها بالتعاليم الروحية لأجل النفوس.
 
قديم 27 - 07 - 2017, 02:50 PM   رقم المشاركة : ( 18654 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,352,450

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

ثلاثة أمثال


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
"وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ فِي الطَّرِيقِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ: "يَا سَيِّدُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي". فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الْإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ". وَقَالَ لِآخَرَ: "اتْبَعْنِي". فَقَالَ: "يَا سَيِّدُ، ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي". فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَاذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ اللّهِ". وَقَالَ آخَرُ أَيْضاً: "أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ، وَلكِنِ ائْذِنْ لِي أَوَّلاً أَنْ أُوَدِّعَ الَّذِينَ فِي بَيْتِي". فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللّهِ" (لوقا 9:57-62).
جاء أحد علماء الدين المعروفين بالكتبة للمسيح. وبعد السلام قال: "يا سيد، أتبعك أينما تمضي". لربما ظن أن المسيح يفتخر بتابع كهذا ويرحب به كثيراً. لكن نستنتج من ردّ المسيح عليه أن في قلب هذا الكاتب مطامع عالمية. فلا نصيب له أو لأمثاله في صحبة المسيح الذي وهو الإِله المتأنِّس تنازل إلى أدنى درجات الفقر الزمني، تعزية لفقراء العالم، لكي لا ييأس أفقر البشر لشدة فقره. كان سريره مستعاراً لا مِلكاً، وقبره كذلك - ومثلهما كل ما استعمله بين المهد واللحد. كانت معيشته من مال المحبِّين. ولم يترك للإاقتسام بعد موته سوى الثياب التي عليه، والأكفان التي تركها في القبر عند قيامته. فكان جوابه لهذا الكاتب: "للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار. وأما ابن الإِنسان فليس له أين يسند رأسه". ثم انطفأ خبر هذا الكاتب.
وقدم المسيح بعد ذلك دعوة لأحد رفقائه المؤمنين ليكون تلميذاً ملازماً، فرضي، على شرط أن يعطيه المسيح مهلة ليذهب أولاً ويدفن أباه. وهو يقصد أن يلازم أباه العجوز إلى أن يموت - وكان هذا واجباً مقدساً، بعده يترك كل شيء ويتبع المسيح. لكن المسيح لم يتساهل معه لأنه لم يضع الواجبات للوالدين بعد الواجبات للّه. فأمره أن يترك للموتى روحياً تدبير أمر الموتى جسدياً، لأنه كحي روحياً بعد إيمانه الجديد يجب أن يلتصق بالأحياء روحياً مثله. لا ريب في تمسُّك المسيح بالوصية التي تأمر بإكرام الوالدين، وقد برهن ذلك في حداثته في الناصرة لما كان خاضعاً لأبويه. ونذكر أنه أنَّب رؤساء اليهود الذين كانوا ينقضون الواجبات للوالدين تحت حجة "قربان" (مرقس 7:10-13) فيكون أن الذي جعله يأمر هذا الرجل أن يترك أباه ويتبعه هو، أنه يطلب لنفسه حقوق العزة الإِلهية. فمتى تضاربت الحقوق الإِلهية مع الواجبات الوالدية، تُقدَّم الحقوق الإلهية على كل شيء.
ثم تقدم رجل ثالث بقصد أن يتبع المسيح. إنما يطلب أن يغيب بعض الوقت ليودع أهل بيته، فلم يسمح المسيح له. يُحتمل أن بيته كان في بلدة بعيدة، أو أن المسيح عرف أن أحوال بيته تعاكس قصده الحسن، فإنْ رجع ليودّع أهله يضغطون عليه ويمنعونه. أو أن المسيح قصد أن يوضح أمام جميع تابعيه أنه لا يجوز تأخير دعوته مطلقاً ولو قليلاً، فأجابه على استئذانه: "ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت اللّه".
 
قديم 27 - 07 - 2017, 02:51 PM   رقم المشاركة : ( 18655 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,352,450

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

الإتِّباع العملي


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
"وَبَعْدَ ذلِكَ عَيَّنَ الرَّبُّ سَبْعِينَ آخَرِينَ أَيْضاً، وَأَرْسَلَهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ أَمَامَ وَجْهِهِ إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ حَيْثُ كَانَ هُوَ مُزْمِعاً أَنْ يَأْتِيَ. فَقَالَ لَهُمْ: "إِنَّ الْحَصَادَ كَثِيرٌ، وَلكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَاطْلُبُوا مِنْ رَبِّ الْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ. اِذْهَبُوا. هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ مِثْلَ حُمْلَانٍ بَيْنَ ذِئَابٍ. لَا تَحْمِلُوا كِيساً وَلَا مِزْوَداً وَلَا أَحْذِيَةً، وَلَا تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي الطَّرِيقِ. وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلَامٌ لِهذَا الْبَيْتِ. فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ ابْنُ السَّلَامِ يَحِلُّ سَلَامُكُمْ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَيَرْجِعُ إِلَيْكُمْ. وَأَقِيمُوا فِي ذلِكَ الْبَيْتِ آكِلِينَ وَشَارِبِينَ مِمَّا عِنْدَهُمْ، لِأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ. لَا تَنْتَقِلُوا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ. وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَقَبِلُوكُمْ، فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ، وَاشْفُوا الْمَرْضَى الَّذِينَ فِيهَا، وَقُولُوا لَهُمْ: قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللّهِ وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ، فَاخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا وَقُولُوا: حَتَّى الْغُبَارُ الَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ. وَلكِنِ اعْلَمُوا هذَا أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللّهِ. وَأَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَكُونُ لِسَدُومَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ" (لوقا 10:1 12).
لا شك أن عدداً كبيراً من الناس كان يتبع المسيح كتلاميذ له، كان من بينهم سبعون رجلاً يصلحون لأن يرسلهم للتبشير في القرى والمدن اثنين اثنين، وكلفهم أن يقدّموا للناس التعليم والشفاء، كما فعل لما أرسل الإثني عشر. وبإرسالهم اثنين اثنين تظهر أهمية العمل أكثر مما لو ذهبوا أفراداً، فيشجع الواحد منهم الآخر ويصلِح أغلاطه، ويتناوبان في الكلام والأعمال. فلو زاد عدد كل فريق عن اثنين يثقلون على مضيفيهم، وتقلّ أماكن تبشيرهم. وبمنحه إياهم قوة الشفاء يكتسبون انتباه الناس وثقتهم ومحبتهم، ويظهِرون اهتمام سيدهم بصالح الجميع، الزمني مع الروحي، ويبشرون بالملكوت الجديد الذي اقترب منهم، وبملك هذا الملكوت الذي أرسلهم أمامه.
وزوّد المسيح السبعين بمثل النصائح والإعلانات التي قدّمها للاثني عشر قبلهم، إلا أنه أضاف عليها وصيته أن لا يسلّموا على أحد في الطريق، لأن الوقت قصير، بالكاد يكفي للتعليم والشفاء. ومن عاداتنا الشرقية أننا نكثر السلامات التي تضيِّع الوقت. وأوصاهم أيضاً أن يأكلوا ما يُقدَّم لهم دون سؤال أو اعتراض، وأن يهملوا الطقوس اليهودية في أمر المأكولات، لئلا تقف حاجزاً بينهم وبين الذين يقبلونهم في بيوتهم، وأردف هذا بقوله: "لأن الفاعل مستحق أجرته".
"فَرَجَعَ السَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ: "يَا رَبُّ، حَتَّى الشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِاسْمِكَ". فَقَالَ لَهُمْ: "رَأَيْتُ الشَّيْطَانَ سَاقِطاً مِثْلَ الْبَرْقِ مِنَ السَّمَاءِ. هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَاناً لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُّوِ، وَلَا يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ. وَلكِنْ لَا تَفْرَحُوا بِهذَا أَنَّ الْأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لَكُمْ، بَلِ افْرَحُوا بِالْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي السَّمَاوَاتِ" (لوقا 10:17-20).
نرجح أن السبعين مبشراً رجعوا تدريجياً، لكنهم رجعوا جميعاً بنغمة الفرح مع شيء من التعجُّب. يظهر أن السلطان الذي منحه المسيح لهم لم يتناول إخراج الشياطين، فلما شرعوا بإخراج الشياطين أيضاً ونجحوا فاض ابتهاجهم، حتى كان خبر هذا النجاح يشغل المحل الأول في تقاريرهم لمرسِلهم. قالوا: "يا رب، حتى الشياطين تخضع لنا باسمك". فلماذا اسم المسيح وليس اسم اللّه؟ وأي فعلٍ لمجرد الاسم، ما لم يكن المسيح معهم روحياً، رغم غيابه عنهم جسدياً؟
في جواب المسيح عليهم نبّههم إلى أن نجاحهم راجع إلى العمل الإِلهي في طرد إبليس من السماء التي سقط منها بسبب كبريائه. كأنه يقول لهم: أنتم رأيتُم فشل بعض الجنود، ولكني رأيت فشل رئيسهم وسقوطه. رأى المسيح بروح النبوَّة سقوط الشيطان التام في المستقبل، فسيأخذ المسيحُ إبليس أسيراً، ذلك الذي طالما أسر البشر لإرادته. لطالما قيَّد إبليسُ البشر بقيودِ الطبيعة المفسدة والعادات الذميمة. من لقبه "رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ" (يوحنا 16:11) تظهر مملكته.. ومن لقبه "سُلْطَانِ الْهَوَاءِ" (أفسس 2:2) يظهر مسكنه.. ومن لقبه "سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ" (كولوسي 1:14) يظهر نوع أعماله.. ومن لقبه "الَّذِي يَعْمَلُ الْآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ" (أفسس 2:2) يظهر مَنْ هُمْ رعاياه.
كان المسيح قد قال: "كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرح لهم: إني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم". أفلا يعلمون أن نجاحهم في إخراج الشياطين محفوف بخطر الكبرياء، لأنه في الظاهر نتيجة عملهم، بينما النجاح الحقيقي الذي هو كتابة اسمائهم في السماوات هو عمل اللّه وهبة من نعمته المجانية؟ هنيئاً لهؤلاء الذين حقق المسيح لهم أن أسماءهم مكتوبة في السماء. لكن هل لمجرد إنسان بشري حق أن يصرح لأناس مخصوصين أن أسماءهم مكتوبة في السماوات؟ ألا يوضح لنا هذا أن المسيح هو ابن الإنسان وابن اللّه معاً؟
 
قديم 27 - 07 - 2017, 02:52 PM   رقم المشاركة : ( 18656 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,352,450

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

فرح المسيح بخدمة أتباعه


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
"وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِالرُّوحِ وَقَالَ: "أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الْآبُ، رَبُّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لِأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلْأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا الْآبُ، لِأَنْ هكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ". وَالْتَفَتَ إِلَى تَلَامِيذِهِ وَقَالَ: "كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ الِابْنُ إِلَّا الْآبُ، وَلَا مَنْ هُوَ الْآبُ إِلَّا الِابْنُ، وَمَنْ أَرَادَ الِابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ". وَالْتَفَتَ إِلَى تَلَامِيذِهِ عَلَى انْفِرَادٍ وَقَالَ: "طُوبَى لِلْعُيُونِ الَّتِي تَنْظُرُ مَا تَنْظُرُونَهُ، لِأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ وَمُلُوكاً أَرَادُوا أَنْ يَنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَلَمْ يَنْظُرُوا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا" (لوقا 10:21-24).
في حياة المسيح كلها لم نقرأ أنه تهلل إلا في هذا الوقت، مع أننا نقرأ ثلاث مرات أنه بكى، وعدة مرات أنه انزعج أو اضطرب بالروح أو حزن.. تهلل لأنه رأى في غلبة تلاميذه على العدو، واستفادة الناس منهم، أعظم نجاح حصل إلى الآن في عمله. وفي تهلُّله اتجهت روحه طبيعياً، ليس نحو الناس، بل نحو الآب السماوي، فحمده بعبارات استعملها سابقاً. ثم قال لهم على انفراد: "إن أنبياء كثيرين وملوكاً أرادوا أن ينظروا ما أنتم تنظرون ولم ينظروا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا".
لا نغفل الفائدة العظيمة التي حصلت لهؤلاء السبعين ولنا نحن أيضاً بواسطة إرساليتهم هذه. فعندما كلّف السبعين بالعمل الذي خصَّ به التلاميذ الاثني عشر سابقاً، علَّمنا أن التبشير ليس محصوراً في رجال الدين القانونيين، بل أن على كل مؤمن أن يكون مبشراً، وأن يخصص قسماً من أوقاته وأمواله للتبشير بالإِنجيل. متى أدرك المسيحيون هذه الحقيقة، وعملوا بموجبها، يفعلون المعجزات الروحية. وقد قال عنها المسيح لتلاميذه: "مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالْأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا، لِأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي" (يوحنا 14:12) والحمد للّه أن الشواهد على صدق هذا القول واضحة في تاريخ الكنيسة قديماً في زمان الرسل والآباء، وحديثاً في تاريخ انتشار الإِنجيل في بلدان كثيرة
 
قديم 27 - 07 - 2017, 02:58 PM   رقم المشاركة : ( 18657 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,352,450

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

من هو قريبي؟

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
"وَإِذَا نَامُوسِيٌّ قَامَ يُجَرِّبُهُ قَائِلاً: "يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا أَعْمَلُ لِأَرِثَ الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ؟" فَقَالَ لَهُ: "مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي النَّامُوسِ. كَيْفَ تَقْرَأُ؟" فَأَجَابَ: "تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ". فَقَالَ لَهُ: "بِالصَّوَابِ أَجَبْتَ. اِفْعَلْ هذَا فَتَحْيَا". وَأَمَّا هُوَ فَإِذْ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّرَ نَفْسَهُ، سَأَلَ يَسُوعَ: "وَمَنْ هُوَ قَرِيبِي؟" فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: "إِنْسَانٌ كَانَ نَازِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا، فَوَقَعَ بَيْنَ لُصُوصٍ، فَعَرَّوْهُ وَجَرَّحُوهُ، وَمَضَوْا وَتَرَكُوهُ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيْتٍ. فَعَرَضَ أَنَّ كَاهِناً نَزَلَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ، فَرَآهُ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. وَكَذلِكَ لَاوِيٌّ أَيْضاً، إِذْ صَارَ عِنْدَ الْمَكَانِ جَاءَ وَنَظَرَ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. وَلكِنَّ سَامِرِيّاً مُسَافِراً جَاءَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا رَآهُ تَحَنَّنَ، فَتَقَدَّمَ وَضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ، وَصَبَّ عَلَيْهَا زَيْتاً وَخَمْراً، وَأَرْكَبَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَأَتَى بِهِ إِلَى فُنْدُقٍ وَاعْتَنَى بِهِ. وَفِي الْغَدِ لَمَّا مَضَى أَخْرَجَ دِينَارَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا لِصَاحِبِ الْفُنْدُقِ، وَقَالَ لَهُ: اعْتَنِ بِهِ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ أَكْثَرَ فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ. فَأَيُّ هؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ تَرَى صَارَ قَرِيباً لِلَّذِي وَقَعَ بَيْنَ اللُّصُوصِ؟" فَقَالَ: "الَّذِي صَنَعَ مَعَهُ الرَّحْمَةَ". فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "اذْهَبْ أَنْتَ أَيْضاً وَاصْنَعْ هكَذَا" (لوقا 10:25-37).
بعد رجوع السبعين جاء أحد علماء الشريعة لكي يجرب المسيح فسأله: "يا معلم، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟".
لو كان سؤاله عدائياً لوبَّخه المسيح توبيخاً صارماً، لكنه كان سؤال مماحكة بسيطة، فأخذ جواباً يلائمه، هو ردُّ السؤال إلى السائل، ليجيب هو عليه، مما هو مكتوب في الشريعة. كان جواب هذا الكاتب ممتازاً كسؤاله. فقال: "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل أفكارك، وقريبك مثل نفسك". فقال له المسيح: "بالصواب أجبت. افعل هذا فتحيا". قد أدرك هذا الرجل الشريعة الإِلهية إدراكاً كافياً، لكنه علم جيداً أنه لا يستطيع تماماً أن يحب اللّه وقريبه لهذه الدرجة. وأنه على هذه القاعدة ليس له ولا بغيره حق في الحياة الأبدية. إذاً فالمعرفة وحدها لا تريح الضمير بل تزعجه، ولا تزيل الدينونة بل تزيدها، وحفظ الناموس لا يخوِّل الخلاص ما لم يُحفظ تماماً.
لذلك يطلب اللّه من كل خاطئ أن يعرف ليس الشريعة فقط بل نفسه أيضاً وتقصيرها وعجزها. وكان عالِم الشريعة هذا ناقصاً في معرفة نفسه، فقصد أن يبرّر نفسه وهو ليس باراً. لم يقدر أن يسأل من هو اللّه لأحبه، فسأل: من هو قريبي لأعرف إنْ كنتُ أحبه كنفسي، فأرث الحياة الأبدية؟ وأجاب المسيح مرة أخرى بسؤال، ليجعل السائل نفسه يجيب على ما سأل. ولكي يمهد المسيح لتقديم السؤال الثاني روى مثلاً نعرفه باسم "مثل السامري الصالح".
روى المسيح لعالم الشريعة قصة مسافر يهودي كان ذاهباً من أورشليم إلى أريحا ووقع بين أيدي اللصوص، فسلبوه كل شيء حتى ثيابه، وأشبعوه ضرباً وجرحاً حتى لم يعد يقدر أن يصرخ أو يستجير، وتركوه بين حي وميت. وحدث أن كاهناً نزل في تلك الطريق فرآه.
حسب اصطلاح الناس، وحسب فكر هذا الكاهن، كانت مقابلة هذا الجريح تبدو صدفة، مع أنها من تدابير العناية الإِلهية، شفقة على هذا التعيس. وبصدفة كهذه، يمتحن اللّه كل واحد منّا: هل نلبي الدعوة الإِلهية الخفية التي تنتدبنا لأعمال الرحمة والخير؟
لما رأى الكاهن هذا المسكين "جاز مقابله". ولا بد أنه حاول أن يبرر نفسه بأعذار واهية، لكنه غير معذور في ما فعل. فالمصاب أخوه في الجنسية اليهودية، وهو مكلَّف رسمياً بإغاثة هذا المسكين، لأنه أحد رؤساء الدين، ومسئوليته خدمة الشعب في كل ما يمكن. وقد أُفرز ليكون قدوة للشعب في أعماله. لذلك كان هروبه من المسئولية تقصيراً كبيراً.
بعد الكاهن مرَّ زميل له، وهو لاويّ - أي في المنزلة الثانية من رجال الدين. نراه أفضل من الأول، لأنه إذْ صار عند المكان "جاء ونظر". تحرك فيه بعض الحنان، لكنه لم يترجم شعوره إلى عمل، إذْ هو أيضاً "جاز مقابله".
لا يجهل الكاهن واللاوي الوصية المكررة في الشريعة والتي توجب مساعدة الأخ في ساعة الضيق. فكيف الأمر الآن وخادما دينٍ قد رأيا أخاهما في أسوأ حال، ولم يمدَّا له يد المساعدة؟ هل اعتذرا بأنهما قد عملا واجباتهما للّه وللناس، لأنهما أتمَّا كل الفروض الدينية؟ أو هل حسبا أن هذا الإنسان قارب الموت ولا فائدة من خدمته، بل إنْ مات بين أيديهما يتنجّسان، فيتعطّلان مؤقتاً عن ممارسة الفرائض الدينية؟ كان يجب عليهما أن يذكرا القول الإلهي: "إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لَا ذَبِيحَةً" (هوشع 6:6). هل اعتذرا بمخاطر الطريق التي أثبتها ما حدث للرجل الجريح، فحسبا الابتعاد ضروريا لأجل سلامتيهما؟ أو هل اعتذر الكاهن بأن اللاوي وراءه فترك له هذه الخدمة، واكتفى اللاوي بأن الكاهن الذي سبقه أرفع مقاماً منه في الدين وملزوم أكثر منه، حتى ما لا يُطالَب به الكاهن لا يُطالَب به اللاوي. هل بين أعذارٍ كهذه ما تقبله الشهامة أو ما يقبله اللّه؟
لقد أدان المسيح الكاهن واللاوي، ونجد في هذا برهاناً قوياً على أن الإنسان لا يُدان فقط على ما يفعله من الشر، بل أيضاً على ما يهمله من الخير. فمع أنه لم يُذكَر للكاهن واللاوي سيئة فعلاها، يلومهما الرأي العام، بسبب ما لم يفعلاه لما تغاضيا عن مصيبة أخيهما.
نلتفت الآن من صورة الكاهن واللاوي المحزنة، إلى صورة مبهجة تفاجئنا هي صورة مسافر ثالث غريب الجنس، سامري، يعتبرونه عدواً طبيعياً لليهودي الواقع بين اللصوص. لو كان الجريح في صحته وسلامته لكان يبصق على هذا السامري ويشتمه ويتنجس منه، لأنه أبعد الناس عنه. ولعل هذا السامري عرف أن أخوي هذا الجريح قد مرَّا به ولم يريا لزوماً للالتفات إليه. لكن على رغم هذا كله أطاع الأمر الإِلهي بمحبة القريب والتي أوردتها الأسفار الخمسة لموسى التي يعترف بها السامريون (لاويين 19:15) فصحَّ مرة أخرى قول المسيح في الآخِرين الذين يصيرون أولين، والأولين الذين يصيرون أخِرين.
نزل هذا السامري عن دابته، ومال إلى الجريح وفحصه، ثم صبَّ على جروحه خمراً وزيتاً، وضمّدها. ثم أركبه على دابته ومشى ماسكاً به في هذه الطريق الوعرة إلى أن أوصله إلى الفندق. وهناك لم يستعْفِ من المسئولية والتعب والخسارة، فدفع نفقة إعالة الجريح مالاً يعادل أجرة الفاعل مدة يومين، ووعد أن يسدّد فيما بعد ما ينفقه صاحب الفندق عليه فوق ذلك، إلى أن يُشفى ويواصل سفره.
لما أكمل المسيح هذه القصة سأل عالِم الشريعة: أي الثلاثة الذين مرُّوا بهذا الجريح تصرَّف كقريب يحب قريبه كنفسه. وكانت الإجابة الواجبة هي: "السامري". لكن التعصُّب لم يدعه ينطق باللفظ الصريح أن سامرياً أفضل من كاهن يهودي، فاكتفى بالتلميح وأجاب: "الذي صنع معه الرحمة". اكتفى المسيح بهذا الجواب وقال: "إذهب أنت أيضاً واصنع هكذا". أي: كُنْ أنت قريباً لكل من يحتاج مساعدة منك تستطيعها، ولو كان عدوك.
ذكر المسيح هذا السامري، لا ليكرم السامريين، ولا ليهين الكهنة واللاويين لكن ليعلّم أن الغريب عن الدين الذي يطيع شريعة المحبة خير من خادم الدين الذي يخالفها. سأل عالم الشريعة: "من يستحق أن يُعامَل كقريب؟" وكان الأوجب أن يسأل: "قريب من أنا؟ وهل تصرفي مع الناس هو تصرُّف قريبٍ يحبُّهم كنفسه؟". القريب هو الذي تلتقي طريقي بطريقه، والذي يمكن أن تصل إليه يدي، فمهما ابتعد قلبه عني وعاداني، لا يزال قريبي، ويطلب اللّه مني أن أحبه كنفسي، وأعامله معاملة تدلُّ على أن هذه المحبة حقيقية.
جدَّد المسيح في هذه القصة تعليمه الرئيسي بأن الدين لا يقوم بحفظ الفروض الخارجية والطقوس المذهبية، إذْ أن الشخصين اللذين أكملا هذه الفروض الحقَّة المعيَّنة من الله، وأكملاها في الهيكل المقدس، خالفا أساس الدين المتعلقِّ بمحبة القريب. ومن يخالف وصية محبة القريب لا يمكن أن يكون محباً حقيقياً للّه. إذاً فالكاهن واللاوي لم يحفظا شيئاً من جوهر الدين، بينما قبل اللّه السامري الذي لم يتمم فروض الدين الخارجية، وكان أجنبياً عن شعب اللّه المختار، ولكنه أظهر محبته للّه بمحبته لقريبه.
هدم المسيح بهذه القصة جداراً من الجدران الفاصلة بين المذاهب، وأوضح أن الجوهر في الدين لا يختص بالمذهب بل بالمحبة. يجب أن تربط المذاهب المختلفة رابطة روحية تثبت وحدة الإيمان رغم اختلاف التفسير. وأن لا يخلّ هذا الاختلاف بالمحبة الأخوية. إن الحق الجوهري واحد، والصالح واحد، والاهتداء إلى اللّه هو المقصود في كل فروع الدين.
مريم ومرثا تستقبلان المسيح

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
"وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ دَخَلَ قَرْيَةً، فَقَبِلَتْهُ امْرَأَةٌ اسْمُهَا مَرْثَا فِي بَيْتِهَا. وَكَانَتْ لِهذِهِ أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَمَ، الَّتِي جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلَامَهُ. وَأَمَّا مَرْثَا فَكَانَتْ مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ كَثِيرَةٍ، فَوَقَفَتْ وَقَالَتْ: "يَا رَبُّ، أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدِمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي!" فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: "مَرْثَا مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لِأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَلكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا" (لوقا 10:38-42).
واصل المسيح وتلاميذه سفرهم نحو أورشليم، إلى أن بلغوا بيت عنيا، التي تبعد عن المدينة نحو ثلاثة أرباع ساعة سيراً على الأقدام. وبيت عنيا ذات رائحة ذكية في التاريخ، بسبب عائلة تقية سكنتها، منحها المسيح صداقة شخصية ممتازة، قابلتها بتقديم مكان مريح للمسيح وتلاميذه، يأوون إليه مسرورين كلما شاءوا. وعندما دخل المسيح هذا البيت مع تلاميذه وغيرهم من مرافقيه اجتمع قوم من أهل القرية فأخذ يعلّمهم كعادته. عند ذلك ظهر الفرق بين الأختين المتساويتين في الاهتمام الحبي بإكرام هذا الضيف الشهير وطلب رضاه، فمرثا الأكبر سناً، ومدبرة البيت، اهتمت بالخدمة الجسدية وارتبكت في تجهيز طعام كثير. ولا عجب، لأن عدد الضيوف الذين باغتوها، ومقام معلمهم النبي العظيم صانع المعجزات يستحقان هذا الارتباك.
أما مريم فقد قادتها بصيرتها إلى أن المسيح ليس كغيره من كبار القوم، يفرح بمظاهر الضيافة الكريمة، أو يسأل كثيراً عما قد يُقدَّم له من طعام، بل شعرت أن معظم سروره ينتج عن إصغاء الناس إلى تعاليمه. فقد قال: "طوبى للجياع والعطاش إلى البر" (متى 5:6). فجلست عند قدميه تسمع كلامه. وبهذا مثلت تمثيلاً جميلاً القليلين الذين ليست الدنيا عندهم إلا تابعة للدّين وخاضعة له. ليس أنهم يقصدون ترك الدنيا وشرورها، بل يضعون الدين قبلها. هؤلاء هم الذين أسماؤهم مكتوبة في سفر الحياة، لأن اللّه قد اختارهم للحياة الأبدية، وعلى جبينهم علامة اختياره لهم.
كان خطأ مرثا في هذا الوقت هو تقديم الحسن الدنيوي على الأحسن الديني. وكثيراً ما يمنع الحسن الوصول إلى الأحسن. ولأن الخطأ لا يولّد إلا الخطأ تذمرت في قلبها على أختها، وحسدتها لجلوسها عند قدمي المسيح. ثم أنتج تذمُّرها تذمراً على المعلم ذاته. كان الأولَى بها أن تفرح لحصول أختها على هذه الفرصة الثمينة للاستفادة، أو على الأقل أن تقول لها: اعملي معي أولاً يا أختي، ثم نجلس سوية عند قدمي المعلم. لكنها وقفت وقالت: "يا رب، أما تبالي بأن أختي قد تركتني أخدم وحدي؟ فقُلْ لها أن تعينني".
كان المسيح يعلم جيداً ضرورة الماديات، وكان يخدم ماديات الناس كثيراً مع روحياتهم. لكنه لم يغفل أن يشرح أنها إنْ كانت تقصد إرضاءه، فهو يسرُّ بمن يحب أن يسمع تعليمه أكثر ممن يقدم له خدمة جسدية.
فقال لها: "مرثا مرثا، أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة". كأنه يقول لها إن انهماكها في الأمور العالمية يحرمها الهدوء والسلام والسرور الناتجة عن طلب ملكوت اللّه، أي الخير الروحي، أولاً. ليس ضرورياً للإِنسان إلا أمر واحد وهو النصيب الصالح الذي اختارته مريم، وهو الذي سيبقى معها دائماً.
 
قديم 27 - 07 - 2017, 02:58 PM   رقم المشاركة : ( 18658 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,352,450

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

من هو قريبي؟


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
"وَإِذَا نَامُوسِيٌّ قَامَ يُجَرِّبُهُ قَائِلاً: "يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا أَعْمَلُ لِأَرِثَ الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ؟" فَقَالَ لَهُ: "مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي النَّامُوسِ. كَيْفَ تَقْرَأُ؟" فَأَجَابَ: "تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ". فَقَالَ لَهُ: "بِالصَّوَابِ أَجَبْتَ. اِفْعَلْ هذَا فَتَحْيَا". وَأَمَّا هُوَ فَإِذْ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّرَ نَفْسَهُ، سَأَلَ يَسُوعَ: "وَمَنْ هُوَ قَرِيبِي؟" فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: "إِنْسَانٌ كَانَ نَازِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا، فَوَقَعَ بَيْنَ لُصُوصٍ، فَعَرَّوْهُ وَجَرَّحُوهُ، وَمَضَوْا وَتَرَكُوهُ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيْتٍ. فَعَرَضَ أَنَّ كَاهِناً نَزَلَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ، فَرَآهُ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. وَكَذلِكَ لَاوِيٌّ أَيْضاً، إِذْ صَارَ عِنْدَ الْمَكَانِ جَاءَ وَنَظَرَ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. وَلكِنَّ سَامِرِيّاً مُسَافِراً جَاءَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا رَآهُ تَحَنَّنَ، فَتَقَدَّمَ وَضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ، وَصَبَّ عَلَيْهَا زَيْتاً وَخَمْراً، وَأَرْكَبَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَأَتَى بِهِ إِلَى فُنْدُقٍ وَاعْتَنَى بِهِ. وَفِي الْغَدِ لَمَّا مَضَى أَخْرَجَ دِينَارَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا لِصَاحِبِ الْفُنْدُقِ، وَقَالَ لَهُ: اعْتَنِ بِهِ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ أَكْثَرَ فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ. فَأَيُّ هؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ تَرَى صَارَ قَرِيباً لِلَّذِي وَقَعَ بَيْنَ اللُّصُوصِ؟" فَقَالَ: "الَّذِي صَنَعَ مَعَهُ الرَّحْمَةَ". فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "اذْهَبْ أَنْتَ أَيْضاً وَاصْنَعْ هكَذَا" (لوقا 10:25-37).
بعد رجوع السبعين جاء أحد علماء الشريعة لكي يجرب المسيح فسأله: "يا معلم، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟".
لو كان سؤاله عدائياً لوبَّخه المسيح توبيخاً صارماً، لكنه كان سؤال مماحكة بسيطة، فأخذ جواباً يلائمه، هو ردُّ السؤال إلى السائل، ليجيب هو عليه، مما هو مكتوب في الشريعة. كان جواب هذا الكاتب ممتازاً كسؤاله. فقال: "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل أفكارك، وقريبك مثل نفسك". فقال له المسيح: "بالصواب أجبت. افعل هذا فتحيا". قد أدرك هذا الرجل الشريعة الإِلهية إدراكاً كافياً، لكنه علم جيداً أنه لا يستطيع تماماً أن يحب اللّه وقريبه لهذه الدرجة. وأنه على هذه القاعدة ليس له ولا بغيره حق في الحياة الأبدية. إذاً فالمعرفة وحدها لا تريح الضمير بل تزعجه، ولا تزيل الدينونة بل تزيدها، وحفظ الناموس لا يخوِّل الخلاص ما لم يُحفظ تماماً.
لذلك يطلب اللّه من كل خاطئ أن يعرف ليس الشريعة فقط بل نفسه أيضاً وتقصيرها وعجزها. وكان عالِم الشريعة هذا ناقصاً في معرفة نفسه، فقصد أن يبرّر نفسه وهو ليس باراً. لم يقدر أن يسأل من هو اللّه لأحبه، فسأل: من هو قريبي لأعرف إنْ كنتُ أحبه كنفسي، فأرث الحياة الأبدية؟ وأجاب المسيح مرة أخرى بسؤال، ليجعل السائل نفسه يجيب على ما سأل. ولكي يمهد المسيح لتقديم السؤال الثاني روى مثلاً نعرفه باسم "مثل السامري الصالح".
روى المسيح لعالم الشريعة قصة مسافر يهودي كان ذاهباً من أورشليم إلى أريحا ووقع بين أيدي اللصوص، فسلبوه كل شيء حتى ثيابه، وأشبعوه ضرباً وجرحاً حتى لم يعد يقدر أن يصرخ أو يستجير، وتركوه بين حي وميت. وحدث أن كاهناً نزل في تلك الطريق فرآه.
حسب اصطلاح الناس، وحسب فكر هذا الكاهن، كانت مقابلة هذا الجريح تبدو صدفة، مع أنها من تدابير العناية الإِلهية، شفقة على هذا التعيس. وبصدفة كهذه، يمتحن اللّه كل واحد منّا: هل نلبي الدعوة الإِلهية الخفية التي تنتدبنا لأعمال الرحمة والخير؟
لما رأى الكاهن هذا المسكين "جاز مقابله". ولا بد أنه حاول أن يبرر نفسه بأعذار واهية، لكنه غير معذور في ما فعل. فالمصاب أخوه في الجنسية اليهودية، وهو مكلَّف رسمياً بإغاثة هذا المسكين، لأنه أحد رؤساء الدين، ومسئوليته خدمة الشعب في كل ما يمكن. وقد أُفرز ليكون قدوة للشعب في أعماله. لذلك كان هروبه من المسئولية تقصيراً كبيراً.
بعد الكاهن مرَّ زميل له، وهو لاويّ - أي في المنزلة الثانية من رجال الدين. نراه أفضل من الأول، لأنه إذْ صار عند المكان "جاء ونظر". تحرك فيه بعض الحنان، لكنه لم يترجم شعوره إلى عمل، إذْ هو أيضاً "جاز مقابله".
لا يجهل الكاهن واللاوي الوصية المكررة في الشريعة والتي توجب مساعدة الأخ في ساعة الضيق. فكيف الأمر الآن وخادما دينٍ قد رأيا أخاهما في أسوأ حال، ولم يمدَّا له يد المساعدة؟ هل اعتذرا بأنهما قد عملا واجباتهما للّه وللناس، لأنهما أتمَّا كل الفروض الدينية؟ أو هل حسبا أن هذا الإنسان قارب الموت ولا فائدة من خدمته، بل إنْ مات بين أيديهما يتنجّسان، فيتعطّلان مؤقتاً عن ممارسة الفرائض الدينية؟ كان يجب عليهما أن يذكرا القول الإلهي: "إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لَا ذَبِيحَةً" (هوشع 6:6). هل اعتذرا بمخاطر الطريق التي أثبتها ما حدث للرجل الجريح، فحسبا الابتعاد ضروريا لأجل سلامتيهما؟ أو هل اعتذر الكاهن بأن اللاوي وراءه فترك له هذه الخدمة، واكتفى اللاوي بأن الكاهن الذي سبقه أرفع مقاماً منه في الدين وملزوم أكثر منه، حتى ما لا يُطالَب به الكاهن لا يُطالَب به اللاوي. هل بين أعذارٍ كهذه ما تقبله الشهامة أو ما يقبله اللّه؟
لقد أدان المسيح الكاهن واللاوي، ونجد في هذا برهاناً قوياً على أن الإنسان لا يُدان فقط على ما يفعله من الشر، بل أيضاً على ما يهمله من الخير. فمع أنه لم يُذكَر للكاهن واللاوي سيئة فعلاها، يلومهما الرأي العام، بسبب ما لم يفعلاه لما تغاضيا عن مصيبة أخيهما.
نلتفت الآن من صورة الكاهن واللاوي المحزنة، إلى صورة مبهجة تفاجئنا هي صورة مسافر ثالث غريب الجنس، سامري، يعتبرونه عدواً طبيعياً لليهودي الواقع بين اللصوص. لو كان الجريح في صحته وسلامته لكان يبصق على هذا السامري ويشتمه ويتنجس منه، لأنه أبعد الناس عنه. ولعل هذا السامري عرف أن أخوي هذا الجريح قد مرَّا به ولم يريا لزوماً للالتفات إليه. لكن على رغم هذا كله أطاع الأمر الإِلهي بمحبة القريب والتي أوردتها الأسفار الخمسة لموسى التي يعترف بها السامريون (لاويين 19:15) فصحَّ مرة أخرى قول المسيح في الآخِرين الذين يصيرون أولين، والأولين الذين يصيرون أخِرين.
نزل هذا السامري عن دابته، ومال إلى الجريح وفحصه، ثم صبَّ على جروحه خمراً وزيتاً، وضمّدها. ثم أركبه على دابته ومشى ماسكاً به في هذه الطريق الوعرة إلى أن أوصله إلى الفندق. وهناك لم يستعْفِ من المسئولية والتعب والخسارة، فدفع نفقة إعالة الجريح مالاً يعادل أجرة الفاعل مدة يومين، ووعد أن يسدّد فيما بعد ما ينفقه صاحب الفندق عليه فوق ذلك، إلى أن يُشفى ويواصل سفره.
لما أكمل المسيح هذه القصة سأل عالِم الشريعة: أي الثلاثة الذين مرُّوا بهذا الجريح تصرَّف كقريب يحب قريبه كنفسه. وكانت الإجابة الواجبة هي: "السامري". لكن التعصُّب لم يدعه ينطق باللفظ الصريح أن سامرياً أفضل من كاهن يهودي، فاكتفى بالتلميح وأجاب: "الذي صنع معه الرحمة". اكتفى المسيح بهذا الجواب وقال: "إذهب أنت أيضاً واصنع هكذا". أي: كُنْ أنت قريباً لكل من يحتاج مساعدة منك تستطيعها، ولو كان عدوك.
ذكر المسيح هذا السامري، لا ليكرم السامريين، ولا ليهين الكهنة واللاويين لكن ليعلّم أن الغريب عن الدين الذي يطيع شريعة المحبة خير من خادم الدين الذي يخالفها. سأل عالم الشريعة: "من يستحق أن يُعامَل كقريب؟" وكان الأوجب أن يسأل: "قريب من أنا؟ وهل تصرفي مع الناس هو تصرُّف قريبٍ يحبُّهم كنفسه؟". القريب هو الذي تلتقي طريقي بطريقه، والذي يمكن أن تصل إليه يدي، فمهما ابتعد قلبه عني وعاداني، لا يزال قريبي، ويطلب اللّه مني أن أحبه كنفسي، وأعامله معاملة تدلُّ على أن هذه المحبة حقيقية.
جدَّد المسيح في هذه القصة تعليمه الرئيسي بأن الدين لا يقوم بحفظ الفروض الخارجية والطقوس المذهبية، إذْ أن الشخصين اللذين أكملا هذه الفروض الحقَّة المعيَّنة من الله، وأكملاها في الهيكل المقدس، خالفا أساس الدين المتعلقِّ بمحبة القريب. ومن يخالف وصية محبة القريب لا يمكن أن يكون محباً حقيقياً للّه. إذاً فالكاهن واللاوي لم يحفظا شيئاً من جوهر الدين، بينما قبل اللّه السامري الذي لم يتمم فروض الدين الخارجية، وكان أجنبياً عن شعب اللّه المختار، ولكنه أظهر محبته للّه بمحبته لقريبه.
هدم المسيح بهذه القصة جداراً من الجدران الفاصلة بين المذاهب، وأوضح أن الجوهر في الدين لا يختص بالمذهب بل بالمحبة. يجب أن تربط المذاهب المختلفة رابطة روحية تثبت وحدة الإيمان رغم اختلاف التفسير. وأن لا يخلّ هذا الاختلاف بالمحبة الأخوية. إن الحق الجوهري واحد، والصالح واحد، والاهتداء إلى اللّه هو المقصود في كل فروع الدين.
 
قديم 27 - 07 - 2017, 02:59 PM   رقم المشاركة : ( 18659 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,352,450

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

مريم ومرثا تستقبلان المسيح


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
"وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ دَخَلَ قَرْيَةً، فَقَبِلَتْهُ امْرَأَةٌ اسْمُهَا مَرْثَا فِي بَيْتِهَا. وَكَانَتْ لِهذِهِ أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَمَ، الَّتِي جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلَامَهُ. وَأَمَّا مَرْثَا فَكَانَتْ مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ كَثِيرَةٍ، فَوَقَفَتْ وَقَالَتْ: "يَا رَبُّ، أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدِمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي!" فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: "مَرْثَا مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لِأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَلكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا" (لوقا 10:38-42).
واصل المسيح وتلاميذه سفرهم نحو أورشليم، إلى أن بلغوا بيت عنيا، التي تبعد عن المدينة نحو ثلاثة أرباع ساعة سيراً على الأقدام. وبيت عنيا ذات رائحة ذكية في التاريخ، بسبب عائلة تقية سكنتها، منحها المسيح صداقة شخصية ممتازة، قابلتها بتقديم مكان مريح للمسيح وتلاميذه، يأوون إليه مسرورين كلما شاءوا. وعندما دخل المسيح هذا البيت مع تلاميذه وغيرهم من مرافقيه اجتمع قوم من أهل القرية فأخذ يعلّمهم كعادته. عند ذلك ظهر الفرق بين الأختين المتساويتين في الاهتمام الحبي بإكرام هذا الضيف الشهير وطلب رضاه، فمرثا الأكبر سناً، ومدبرة البيت، اهتمت بالخدمة الجسدية وارتبكت في تجهيز طعام كثير. ولا عجب، لأن عدد الضيوف الذين باغتوها، ومقام معلمهم النبي العظيم صانع المعجزات يستحقان هذا الارتباك.
أما مريم فقد قادتها بصيرتها إلى أن المسيح ليس كغيره من كبار القوم، يفرح بمظاهر الضيافة الكريمة، أو يسأل كثيراً عما قد يُقدَّم له من طعام، بل شعرت أن معظم سروره ينتج عن إصغاء الناس إلى تعاليمه. فقد قال: "طوبى للجياع والعطاش إلى البر" (متى 5:6). فجلست عند قدميه تسمع كلامه. وبهذا مثلت تمثيلاً جميلاً القليلين الذين ليست الدنيا عندهم إلا تابعة للدّين وخاضعة له. ليس أنهم يقصدون ترك الدنيا وشرورها، بل يضعون الدين قبلها. هؤلاء هم الذين أسماؤهم مكتوبة في سفر الحياة، لأن اللّه قد اختارهم للحياة الأبدية، وعلى جبينهم علامة اختياره لهم.
كان خطأ مرثا في هذا الوقت هو تقديم الحسن الدنيوي على الأحسن الديني. وكثيراً ما يمنع الحسن الوصول إلى الأحسن. ولأن الخطأ لا يولّد إلا الخطأ تذمرت في قلبها على أختها، وحسدتها لجلوسها عند قدمي المسيح. ثم أنتج تذمُّرها تذمراً على المعلم ذاته. كان الأولَى بها أن تفرح لحصول أختها على هذه الفرصة الثمينة للاستفادة، أو على الأقل أن تقول لها: اعملي معي أولاً يا أختي، ثم نجلس سوية عند قدمي المعلم. لكنها وقفت وقالت: "يا رب، أما تبالي بأن أختي قد تركتني أخدم وحدي؟ فقُلْ لها أن تعينني".
كان المسيح يعلم جيداً ضرورة الماديات، وكان يخدم ماديات الناس كثيراً مع روحياتهم. لكنه لم يغفل أن يشرح أنها إنْ كانت تقصد إرضاءه، فهو يسرُّ بمن يحب أن يسمع تعليمه أكثر ممن يقدم له خدمة جسدية.
فقال لها: "مرثا مرثا، أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة". كأنه يقول لها إن انهماكها في الأمور العالمية يحرمها الهدوء والسلام والسرور الناتجة عن طلب ملكوت اللّه، أي الخير الروحي، أولاً. ليس ضرورياً للإِنسان إلا أمر واحد وهو النصيب الصالح الذي اختارته مريم، وهو الذي سيبقى معها دائماً.
 
قديم 27 - 07 - 2017, 03:01 PM   رقم المشاركة : ( 18660 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,352,450

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

المسيح يفتح عيني مولود أعمى

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
"وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ وِلَادَتِهِ، فَسَأَلَهُ تَلَامِيذُهُ قَائِلِينَ: "يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟" أَجَابَ يَسُوعُ: "لَا هذَا أَخْطَأَ وَلَا أَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللّهِ فِيهِ. يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ. مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ". قَالَ هذَا وَتَفَلَ عَلَى الْأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ التُّفْلِ طِيناً وَطَلَى بِالطِّينِ عَيْنَيِ الْأَعْمَى. وَقَالَ لَهُ: "اذْهَبِ اغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ". الَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ. فَمَضَى وَاغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً" (يوحنا 9:1-7).
مرَّ المسيح في مدينة أورشليم برجل وُلد أعمى، فسأله تلاميذه: "من أخطأ، هذا أم أبواه، حتى وُلد أعمى؟". أجابهم المسيح بما معناه أن هذه المصيبة العظيمة لم تأتِ هذا الرجل نتيجة خطيئة ارتكبها هو أو والداه، إنما سمحت العناية الإِلهية بهذه الضربة لتظهر أعمال اللّه في المُصاب.
ما أعظم الفرق بين هذا الكلام المعزي من المسيح، وكلام التأنيب الموجِب لليأس الذي كان يسمعه ذلك الأعمى كل حياته من الجميع عن أسباب مصيبته. ها هو يسمع لأول مرة أن مصيبته هذه لا تدل على أنه مغضوب عليه من اللّه ومرفوض، بل بالعكس، أن للّه في مصيبته مقاصد صالحة، فنقله هذا الكلام من عالم اليأس إلى عالم الرجاء. سأل عن اسم من يكلِّمه، وعرف أن اسمه "يسوع". يا لمصيبة عماه! إنه لا يستطيع أن يرى هذا الذي انتصر له. لو قدم له المسيح في هذه الساعة ليس الدنانير النحاسية التي تعوَّدها، بل الذهبية أيضاً، لما أحسن إليه بمقدار إحسانه بهذا الجواب، حتى لو تركه وشأنه حالاً.
لكن هذه اللفتة كانت بداية عمل المسيح الصالح معه. نبَّه المسيح سامعيه أولاً إلى قِصَر الفرصة الباقية له للعمل. قال: "ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار. يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل". ثم أشار إلى وظيفته كالنور الحقيقي الآتي إلى العالم الذي ينير كل إنسان، وقال: "ما دمتُ في هذا العالم فأنا نور العالم". أي أن الظلمة الجسدية والروحية التي أعثرت هذا الضرير هي ضدي وأنا ضدها، فسأزيلها. ثم فعل المسيح ما قاله. تفل على الأرض وصنع طيناً، وطلى بالطين عيني الأعمى، وأمره أن يذهب ويغتسل في بركة سلوام، فمضى واغتسل وأتى بصيراً.
ظهرت القوة الإلهية في هذا العمل بواسطة الفرق العظيم بين طريقة الشفاء ونتيجته. إن الطين يُعمي العين السليمة، لكن الطلي بالطين كان مهماً لأجل تحقيق العلاقة بين الفاعل وفعله، ولأجل إحياء الإيمان في قلب هذا الأعمى. كان مهماً أيضاً إيضاح ضرورة الطاعة التي هي ثمر الإيمان. فعلى الأعمى أن يطيع وإلا فلا يستفيد من عمل المسيح. ليست النتيجة العجيبة التي حدثت ثمر عمل الأعمى، لكنها توقفت على ذلك الفعل. ولو لم يؤمن لما أطاع. لو لم يطع بعد إيمانه لما جاز أن يُقال إنه آمن. جاءه الشفاء لأنه آمن إيماناً يثمر بالطاعة. وهذه على الدوام قاعدة الخلاص والإيمان والأعمال. من يؤمن يخلص، ومن يؤمن لا بد له أن يعمل. فإن لم يعمل حسب الفرصة المُعطاه له يحكم أنه لم يؤمن، فيهلك، ليس لأنه لم يعمل بل لأنه لم يؤمن إيماناً صحيحاً.
نرى هذا الأعمى يسير بين الجمهور، بعد أن طلى المسيح عينيه بالطين، وقَبْل أن يغسلهما في بركة سلوام، ووجهه ملطخ بالطين، وسيْره جديٌّ فوق العادة، مما ينبّه الناظرين ويثير عليه الاستهزاء. لكن الاستهزاء لم يُثْنه عن طاعته، ولا نصائح العقلاء له أن لا ينقاد لكلام المسيح المكروه من قادة الدين، وان لا يعرض نفسه لغيظ الرؤساء، لأنه يعمل في السبت ضداً لتعاليمهم. كل هذه لم تطفئ فتيلة إيمانه المدخنة، ولم تردَّه عن الذهاب إلى حيث أمره المسيح. ولما نال البصر عاد إلى المكان الذي فارق فيه المسيح ليمتّع بصره الجديد برؤية الذي أنعم عليه بهذه الهبة التي لا تُثمَّن، وليقدم له الشكر اللائق والواجب، ويستمد منه إرشادات جديدة دينية. لكنه لم يجد المسيح هناك، ولم يجد من يهديه إليه.
هذه المعجزة رمز مناسب جداً للخلاص. لأنها منحت هذا المولود أعمى ما لم يكن له سابقاً. كانت مصيبة هذا الرجل الكبرى أنه مولود أعمى بالمعنى الروحي أيضاً، لأنه وُلد في الإِثم والخطيئة كما ذكَّره الرؤساء، فمنحه المسيح مع البصر الجديد الجسدي، ما هو أهم بما لا يُقاس، وهو بصر جديد روحي.
"فَالْجِيرَانُ وَالَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَهُ قَبْلاً أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى، قَالُوا: "أَلَيْسَ هذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ وَيَسْتَعْطِي؟" آخَرُونَ قَالُوا: "هذَا هُوَ". وَآخَرُونَ: "إِنَّهُ يُشْبِهُهُ". وَأَمَّا هُوَ فَقَالَ: "إِنِّي أَنَا هُوَ". فَقَالُوا لَهُ: "كَيْفَ انْفَتَحَتْ عَيْنَاكَ؟" أَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ: "إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ يَسُوعُ صَنَعَ طِيناً وَطَلَى عَيْنَيَّ، وَقَالَ لِي: اذْهَبْ إِلَى بِرْكَةِ سِلْوَامَ وَاغْتَسِلْ. فَمَضَيْتُ وَاغْتَسَلْتُ فَأَبْصَرْتُ". فَقَالُوا لَهُ: "أَيْنَ ذَاكَ؟" قَالَ: "لَا أَعْلَمُ" (يوحنا 9:8-12).
نال المولود أعمى شفاءه في يوم سبت - وهو يوم راحة عند اليهود. وعندما رأى المتعصبون الرجل ماشياً في السبت يطلب الشفاء حنقوا عليه، وأرادوا أن يعاقبوه لأنه خالف شريعة السبت المقدسة. ولم يجسر أحد أن يدافع عمَّا فعله المسيح، ولا عمَّا جرى مع الأعمى، لأن الرؤساء كانوا قد أعلنوا جهاراً أنه إن اعترف أحدٌ بأنه المسيح يُحرَم من امتيازاته الدينية والمدنيّة، ويطردونه من ممارسة العبادة.
لما فشل الأعمى الذي أبصر أن يرى شافيه، رجع إلى بيته ليرى والديه وجيرانه لأول مرة في حياته التي لم تقلّ عن الثلاثين سنة.
ما أعظم التغيير الذي حصل في منظر هذا الرجل بسبب ما جرى له. فقد انفتحت عيناه، وضاء وجهه بالفرح، وتغيّرت لهجته، فلم يعرفه الذين كانوا يعرفونه بعض المعرفة السطحية فقط. لهذا السبب اختلف الرأي بخصوصه. اعتقد البعض أن شفاءه وَهْمٌ وخداع، وأن هذا البصير ليس هو ذاك الضرير بل شخص آخر يشبهه. أما هو فقال: "إني أنا هو". ولما سألوه عما جرى له، ومن شفاه، أجابهم بالواقع. لكن لما سألوه عن شافيه أين هو؟ قال: "لا أعلم". وهو يتمنى لو استطاع أن يهتدي إلى مكان المسيح ليهديهم إليه.
"فَأَتَوْا إِلَى الْفَرِّيسِيِّينَ بِالَّذِي كَانَ قَبْلاً أَعْمَى. وَكَانَ سَبْتٌ حِينَ صَنَعَ يَسُوعُ الطِّينَ وَفَتَحَ عَيْنَيْهِ. فَسَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضاً كَيْفَ أَبْصَرَ، فَقَالَ لَهُمْ: "وَضَعَ طِيناً عَلَى عَيْنَيَّ وَاغْتَسَلْتُ، فَأَنَا أُبْصِرُ". فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ: "هذَا الْإِنْسَانُ لَيْسَ مِنَ اللّهِ، لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ السَّبْتَ". آخَرُونَ قَالُوا: "كَيْفَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ خَاطِئٌ أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ هذِهِ الْآيَاتِ؟" وَكَانَ بَيْنَهُمُ انْشِقَاقٌ. قَالُوا أَيْضاً لِلْأَعْمَى: "مَاذَا تَقُولُ أَنْتَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟" فَقَالَ: "إِنَّهُ نَبِيٌّ". فَلَمْ يُصَدِّقِ الْيَهُودُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى فَأَبْصَرَ حَتَّى دَعَوْا أَبَوَيِ الَّذِي أَبْصَرَ. فَسَأَلُوهُمَا قَائِلِينَ: "أَهذَا ابْنُكُمَا الَّذِي تَقُولَانِ إِنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى؟ فَكَيْفَ يُبْصِرُ الْآنَ؟" أَجَابَهُمْ أَبَوَاهُ وَقَالَا: "نَعْلَمُ أَنَّ هذَا ابْنُنَا وَأَنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى، وَأَمَّا كَيْفَ يُبْصِرُ الْآنَ فَلَا نَعْلَمُ. أَوْ مَنْ فَتَحَ عَيْنَيْهِ فَلَا نَعْلَمُ. هُوَ كَامِلُ السِّنِّ. اسْأَلُوهُ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَنْ نَفْسِهِ". قَالَ أَبَوَاهُ هذَا لِأَنَّهُمَا كَانَا يَخَافَانِ مِنَ الْيَهُودِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا قَدْ تَعَاهَدُوا أَنَّهُ إِنِ اعْتَرَفَ أَحَدٌ بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ يُخْرَجُ مِنَ الْمَجْمَعِ. لِذلِكَ قَالَ أَبَوَاهُ: "إِنَّهُ كَامِلُ السِّنِّ، اسْأَلُوهُ" (يوحنا 9:13-23).
لم يهتدِ المتعصبون إلى الذي سبَّب هذه المخالفة، فجرُّوا الأعمى الذي أبصر إلى مجلسهم ليحاكموه. ولما طلب أعضاء المجلس أن يسمعوا القصة من فمه رأساً قصَّها عليهم. ولما علموا أن المسيح الذي يبغضونه وينوون قتله فعل هذه المعجزة حاروا في أمرهم. إنْ هم حكموا على المسيح بمخالفة السبت يثبتون المعجزة ويشِيعُون خبرها، فيزيد تمسُّك الشعب بالمسيح. ولأنه وقت العيد العظيم لا يُستبعَد أن الشعب يثير حركة سياسية، وينادي بالمسيح ملكاً. وإنْ هم أنكروا حقيقة المعجزة، يخسرون الحُجَّة التي فرحوا لها للحكم عليه بأنه دنَّس السبت. لذلك ترددوا وناقضوا ذواتهم لأنهم أثبتوا المعجزة أولاً، وافتكروا الآن أن يلاشوا تأثيرها بقولهم إن فِعْلها في يوم السبت برهان أن الفاعل ليس من اللّه، بل قد فعلها بقوة الشياطين!
لكن قوماً في المجلس اعترضوا بقولهم: "كيف يقدر إنسان خاطئ أن يعمل مثل هذه المعجزة؟" فحصل انقسام في المجلس، وغيَّروا خطَّتهم وعمدوا إلى حيلة ضد الأولى، إذْ حاولوا إنكار المعجزة لعلهم ينجحون في اتهام المسيح بالاحتيال، وطلبوا أن يجبروا الرجل وأبويه على إنكار المعجزة. ولكنه قال: "أعلم شيئاً واحداً: أني كنتُ أعمى والآن أبصر". هذا القول هو شعار كل من اختبر الخلاص بالمسيح، بواسطة الإيمان الحي به، لأنه يقدم الشهادة عينها.
"فَدَعَوْا ثَانِيَةً الْإِنْسَانَ الَّذِي كَانَ أَعْمَى، وَقَالُوا لَهُ: "أَعْطِ مَجْداً لِلّهِ. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هذَا الْإِنْسَانَ خَاطِئٌ". فَأَجَابَ: "أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَالْآنَ أُبْصِرُ". فَقَالُوا لَهُ أَيْضاً: "مَاذَا صَنَعَ بِكَ؟ كَيْفَ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟" أَجَابَهُمْ: "قَدْ قُلْتُ لَكُمْ وَلَمْ تَسْمَعُوا. لِمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تَسْمَعُوا أَيْضاً؟ أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصِيرُوا لَهُ تَلَامِيذَ؟" فَشَتَمُوهُ وَقَالُوا: "أَنْتَ تِلْمِيذُ ذَاكَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّنَا تَلَامِيذُ مُوسَى. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ اللّهُ، وَأَمَّا هذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ". أَجَابَ الرَّجُلُ وَقَالَ لَهُمْ: "إِنَّ فِي هذَا عَجَباً! إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَقَدْ فَتَحَ عَيْنَيَّ. وَنَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ لَا يَسْمَعُ لِلْخُطَاةِ. وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَتَّقِي اللّهَ وَيَفْعَلُ مَشِيئَتَهُ فَلِهذَا يَسْمَعُ. مُنْذُ الدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَداً فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى. لَوْ لَمْ يَكُنْ هذَا مِنَ اللّهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئاً". أَجَابُوا قَالُوا لَهُ: "فِي الْخَطَايَا وُلِدْتَ أَنْتَ بِجُمْلَتِكَ، وَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا!" فَأَخْرَجُوهُ خَارِجاً" (يوحنا 9:24-34).
ولما وجَّه الرؤساء أسئلتهم للأعمى الذي أبصر قال: "قلت لكم ولم تسمعوا. لماذا تريدون أن تسمعوا أيضاً؟ ألعلكم أنتم تريدون أن تصيروا له تلاميذ؟" فشتموه مفتخرين بأنهم تلاميذ موسى، بينما هو تلميذ هذا الجليلي المجهول الأصل. شتموه بحجة أنه ضلَّ وكفر في تسميته المسيح نبياً. ولامهم الأعمى الذي أبصر لأنهم - وهو معلمو الدين - يجهلون أصل شخص عمل ما يبرهن أنه من اللّه. وختم جوابه بكلام قوي أظهر ذكاءه وشجاعته وإيمانه. إذ قال إن كل تاريخهم منذ نشأة العالم لا يذكر شخصاً واحداً منح البصر لمولود أعمى. ثم قال: "نعلم أن اللّه لا يسمع للخطاة، ولكن إنْ كان أحد يتّقي اللّه ويفعل مشيئته فلهذا يسمع. لو لم يكن هذا من اللّه ما قدر أن يفعل شيئاً".
ويستند قوله هذا على بعض آيات الكتاب، فالخاطئ الوحيد الذي يسمع له اللّه هو الذي يقدم توبة حقيقية صادقة. فاستشاطوا غيظاً وقالوا له: "في الخطايا وُلدت أنت بجملتك وأنت تعلّمنا!". ثم حكموا عليه بالحَرْم الأعظم وأخرجوه من المجمع.
"فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ خَارِجاً، فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ: "أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللّهِ؟" أَجَابَ: "مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لِأُومِنَ بِهِ؟" فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "قَدْ رَأَيْتَهُ، وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ". فَقَالَ: "أُومِنُ يَا سَيِّدُ". وَسَجَدَ لَهُ" (يوحنا 9:35-38).
وما أن خرج الرجل من المجمع مطروداً حتى لاقاه المسيح، فقال له: "أتؤمن بابن اللّه؟". لم يعلن المسيح ذاته كابن اللّه للعلماء في الأمة، لكنه أعلن ذلك لهذا الفقير الميَّال إلى الإيمان، والذي ظهر جوهره لما أجاب: "من هو يا سيد لأومن به؟" فأناره المسيح بقوله: "قد رأيتَه، والذي يتكلم معك هو هو".
ما أصعب هذا الجواب على مسامع يهودي متمسك بالتوحيد. كيف يكون هذا الرجل الذي أمامه ابن اللّه وكل ملامحه بشرية؟ فإنْ كان حقاً ابن اللّه فيجب أن يسجد له حالاً، وإلا فلا يجوز، بل يكون السجود له خطيئة عظيمة. لقد عرف أولاً واعترف أن المسيح نبي ولم يسجد له، وأما الآن فيسجد، لأنه صدَّق أنه ابن اللّه، وهذا يُجيز سجوداً له لا يُعطَى لنبي أو ملك أو ملاك.
في هذه الساعة تمَّ شفاء هذا الرجل من عماه الروحي الذي وُلد فيه، فأبصر جلياً ورأى أمامه بعينه الجسديتين يسوع الناصري ابن مريم، وبعين الإِيمان رأى ابن اللّه الوحيد. أخذ هذا المسكين من رؤسائه الشتيمة والحرم، لكن المسيح عوَّض عليه أضعاف الأضعاف بالبركة والخلاص. أولئك أخرجوه من المجمع وأغلقوا في وجهه باب النظام الديني والحقوق المذهبية، لكن المسيح أدخله إلى ملكوت اللّه وفتح له باب السماء. وبسبب عماه اهتدى إلى الخلاص الأبدي، وربح صداقة هذا الخِلّ السماوي، ونال ذكراً شريفاً أبدياً في التاريخ. ثم أنه خدم المسيح بنشر صيته انتشاراً جديداً بشهادته الصادقة له، وخدم ذوي القلوب السليمة حوله بإعطائهم أسباباً كافية ليلجأوا إلى هذا المخلّص وينالوا به خلاصاً. أفلا يحقُّ لنا أن نتصَّوره بين القديسين في السماء يقدم شكراً وافراً على الدوام، لأنه وُلد أعمى.
 
موضوع مغلق


الانتقال السريع


الساعة الآن 09:09 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025