منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 13 - 01 - 2025, 05:35 PM   رقم المشاركة : ( 183741 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,293,420

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

"لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم، والذي يزيد علمًا يزيد حزنًا" [18].

إن كان الله قد منح الإنسان اشتياقًا لطلب الحكمة وبحث كل يُقدم لنا الجامعة خبرته وهو يسعى وراء الحكمة والعلم والمعرفة، أعظم ما في العالم


هنا لا يُهاجم الحكمة أو العلم إنما يعلن عن عجزهما عن تحقيق السعادة والفرح للإنسان. فبالحكمة والعلم كما سبق فقلنا يكتشف الإنسان حاجته إلى أمور كثيرة يعجز عن بلوغها فيمتلئ حزنًا.

وكما يقول القديس أغسطينوس: [كلما اشتقت إلى الكثير ولا أجده هنا، أما يزداد بالأكثر حزني لأجله حتى يتحقق؟أما أبكي بالأكثر حتى يتم ما أطلبه؟!(51)].
كما يقول: [بنواله هذه المعرفة يقتني حزنًا أيضًا. وذلك لعجزه عن تحقيق الرغبة في بلوغ وطنه اللائق، وخالقه، وإلهه المبارك].
ويقول القديس غريغوريوس النزيانزي: [يقول سليمان: قلت أكون حكيمًا، لكن (الحكمة) كانت بعيدة عني كل البعد. بالحق من يزداد معرفة يزداد غمًا.فإن الفرح الذي ينبع عما نكتشفه ليس بأعظم من الألم بسبب ما (لا نناله بل) يهرب منا؛ إنه ألم أتخيله كذاك الذي يشعر به الذين يُسحبون من المياه وهم ظمأى، أو الذين يعجزون عن بلوغ ما يظنونه ممسكين به، أو كمن يُترك فجأة في ظلمة بسبب انبعاث نور مبرق سريع].
هذا هو عمل الحكمة أعظم ما نقتنيه هنا، فماذا تكون بقية أمور العالم؟ إننا في حاجة إلى "حكمة الله" الذي وحده يقدر أن يشبع النفس، لا إلى الحكمة الزمنية الأرضية.
"نتكلم بحكمة بين الكاملين، ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذين يبطلون، بل نتكلم بحكمة الله في سرّ، الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا" (1 كو 2: 6-7).
"ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله، وبرًا وقداسةً وفداءً" (1 كو 1: 30).
إذن لنقتني مسيحنا في داخلنا، هو الحكمة الحق، وهو وحده القادر أن يُخلص نفوسنا ويشبعها وينميها ويمجّدها!
 
قديم 13 - 01 - 2025, 05:37 PM   رقم المشاركة : ( 183742 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,293,420

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

القديس أغسطينوس



[كلما اشتقت إلى الكثير ولا أجده هنا، أما يزداد بالأكثر
حزني لأجله حتى يتحقق؟أما أبكي بالأكثر حتى يتم ما أطلبه؟!].
كما يقول: [بنواله هذه المعرفة يقتني حزنًا أيضًا. وذلك لعجزه
عن تحقيق الرغبة في بلوغ وطنه اللائق، وخالقه، وإلهه المبارك].
 
قديم 13 - 01 - 2025, 05:38 PM   رقم المشاركة : ( 183743 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,293,420

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

القديس غريغوريوس النزيانزي


[يقول سليمان: قلت أكون حكيمًا، لكن (الحكمة) كانت بعيدة عني كل البعد. بالحق من يزداد معرفة يزداد غمًا.فإن الفرح الذي ينبع عما نكتشفه ليس بأعظم من الألم بسبب ما (لا نناله بل) يهرب منا؛ إنه ألم أتخيله كذاك الذي يشعر به الذين يُسحبون من المياه وهم ظمأى، أو الذين يعجزون عن بلوغ ما يظنونه ممسكين به، أو كمن يُترك فجأة في ظلمة بسبب انبعاث نور مبرق سريع].
هذا هو عمل الحكمة أعظم ما نقتنيه هنا، فماذا تكون بقية أمور العالم؟ إننا في حاجة إلى "حكمة الله" الذي وحده يقدر أن يشبع النفس، لا إلى الحكمة الزمنية الأرضية.
 
قديم 13 - 01 - 2025, 05:59 PM   رقم المشاركة : ( 183744 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,293,420

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

"خبرته الشخصية"

في الأصحاح الأول يوضح الجامعة أنه لا يمكن للإنسان أن يشبع حتى بالمعرفة والحكمة البشرية. الآن يعلن أنه قد اختبر مباهج الحواس فلمْ يحظَ بالسعادة الحقيقية والشعور بالاكتفاء؛ كما وجَّه أيضًا قلبه نحو الغنى والجاه، فإذا به يجدهما: "باطل الأباطيل وانقباض الريح". شعر أن قلبه محتاج إلى التحرر من هذا كله!
1. بطلان السعي وراء الملذات:

1 قُلْتُ أَنَا فِي قَلْبِي: «هَلُمَّ أَمْتَحِنُكَ بِالْفَرَحِ فَتَرَى خَيْرًا». وَإِذَا هذَا أَيْضًا بَاطِلٌ. 2 لِلضَّحْكِ قُلْتُ: «مَجْنُونٌ» وَلِلْفَرَحِ: «مَاذَا يَفْعَلُ؟». 3 اِفْتَكَرْتُ فِي قَلْبِي أَنْ أُعَلِّلَ جَسَدِي بِالْخَمْرِ، وَقَلْبِي يَلْهَجُ بِالْحِكْمَةِ، وَأَنْ آخُذَ بِالْحَمَاقَةِ، حَتَّى أَرَى مَا هُوَ الْخَيْرُ لِبَنِي الْبَشَرِ حَتَّى يَفْعَلُوهُ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ مُدَّةَ أَيَّامِ حَيَاتِهِمْ.

حاول الجامعة "كوهيليث" أن يجد ضالته في اللذة المسعورة أو الإثارة الحسِّية، فانصرف إلى المباهج الجسدانية كمصدر يمكن أن يمنحه الشبع؛ فراح يغترف من ملذات الطعام الحسِّية والتي يُرمز إليها بالخمر، فكانت تعطيه لذة وقتية زائلة، وليس شبعًا دائمًا.
"قلت أنا في قلبي:
هلُمَّ امتحنك بالفرح فترى خيرًا (فتستمتع بالسعادة).
وإذا هذا أيضًا باطل.
للضحك قلت: مجنون!
وللفرح: ماذا ينفع؟!" [1-2].
ناجَى سليمان قلبه عوض أن يناقش الأمر مع الله بروح الصلاة والتقوى، قائلًا: جرِّب الضحك والأكل والشرب (الخمر) واطرد الهم وتمتع بالسعادة؛ وذلك كما قال الغني الغبي: "وأقول لنفسي: يا نفسي لكِ خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة؛ استريحي وكُليِ واشربي وافرحي" (لو 12: 19).
كثيرون يظنون أن السعادة تكمن في حياة اللهو والحفلات والأفراح الزمنية، بما تحويه من أكل وشرب وتسلية وضحك... هؤلاء لا يميزون بين الفرح الداخلي الذي يهب بشاشة دائمة وسلامًا حقيقيًا وبين ضحكات اللهو التي تنبع عن فراغ داخلي. الفرح الداخلي هو غذاء للنفس يقوتها ويُنمّيها فتتسع لتحمل في داخلها ملكوت الله المفرح، أما الفرح الزمني خارج دائرة الله فيُخدِّر الإنسان، ولا يُشبع أعماقه بل يزيده حزنًا... لذا يدعوه الحكيم مجنونًا! كثيرون يلجأون إلى المخدرات وأصدقاء السوء للهروب من مشاكلهم، فإذا بهم يرتمون في مشاكل أخطر تمس كيانهم الداخلي.
قال للضحك: "مجنون"، لأنه لا يقدر أن يحوّل قلبه إلى السعادة الحقيقية، إنما يقدم تغطية مؤقتة للحزن الداخلي والمرارة الخفية. ولعله يدعوه هكذا لأنه يحثه على الابتعاد عن الله الذي هو "الفرح الحقيقي"، إذ قيل: "يحملون الدّف والعود ويطربون بصوت المزمار؛ يقضون أيامهم بالخير، في لحظة يهبطون إلى الهاوية؛ فيقولون لله: ابعد عنا؛ وبمعرفة طرقك لا نُسر" (أي 21: 12-14).
يقول للفرح الظاهري: ماذا ينفع؟ إذ يدرك أن الضحك لا يُصلح القلب ولا ينزع عنه كآبته. لذا قيل: "يغني أغاني لقلب كئيب (مهموم)" (أم 25: 20)... كان يليق به عوض اللهو أن يلجأ إلى دموع التوبة، التي تهب فرحًا داخليًا وبشاشة صادقة، لأن الخطية تُحطم القلب وتملأه كآبة مُرة!
مع الضحك أو اللهو التجأ سليمان إلى شرب الخمر، وقد ظن أنه قادر أن يعلل جسده بالخمر بينما يلهج قلبه بالحكمة [3]، أي يشربها لكي تصير له خبرة ولكي يتحقق إن كان يمكن للخمر أن تُشبع حياته، لكنه وجد في ذلك حماقة، لأن "الخمر مستهزئة، المسكر عجَّاج raging، ومن يترنح بهما فليس بحكيم" (أم 20: 1). إنه بهذا يشبه من أراد أن يعبد الله والمال في آن واحد.
يحدثنا القدِّيس باسيليوس الكبير عن خطورة السعي وراء الملذات، قائلًا: [الحيوانات أرضية تجنح إلى الأرض... رأسها منحنِ نحو الأرض، وهي تنظر إلى بطنها تفتش عن الأشياء التي تلذّ لها. أما أنت أيها الإنسان فرأسك مرتفع نحو السماء، وعيناك تنظران إلى العلى، فإذا كنت تتلطخ بشهوات الجسد، وتتعبد للذَّات الجوف، وللذَّات السفلى، فأنت بهذا تقترب من الحيوانات التي لا تعقل وتتشبه بها. إنيّ أعرض عليك الاهتمام بأمر آخر يليق بك، "اطلبوا ما فوق حيث المسيح" (كو 3: 1). ارتفع فوق أعراض الدنيا الزائلة، وتعلَّم من تكوينك الجسدي، وأجعله قانونًا لحياتك. فمدينتك هي السماء، ووطنك الحقيقي هو أورشليم العليا، ومواطنيك هم الأبكار، الذين كُتبت أسماؤهم في السموات].
مرة أخرى يقول: [حرص الفلاسفة والمفكرون على البحث عن غاية الإنسان على هذه الأرض. لكنهم اختلفوا فيما بينهم في هذا الشأن، وتضاربت آراؤهم وتعددت مذاهبهم. فزعم البعض منهم أن غاية الإنسان هي العلم؛ بينما قال آخرون إنها العمل. قال البعض إن غاية الإنسان هي احتقار الجسد وإخضاعه لسيطرة العقل، وتعزيز الروح واعتبارها القوة العظمى في الإنسان، بينما قال آخرون إن غاية الإنسان في هذه الحياة إنما هي التمتع باللذّات وطيِّبات الحياة. أما نحن فالغاية التي نسعى إليها والتي نصبو للوصول إليها بكل حرص واجتهاد هي الحياة السعيدة مع الله في السماء الخالدة، ولا شيء في الدنيا يوازي هذا السعي الحميد شرفًا وعظمة للخليقة العاقلة].


2. بطلان السعي وراء الثروات:

4 فَعَظَّمْتُ عَمَلِي: بَنَيْتُ لِنَفْسِي بُيُوتًا، غَرَسْتُ لِنَفْسِي كُرُومًا. 5 عَمِلْتُ لِنَفْسِي جَنَّاتٍ وَفَرَادِيسَ، وَغَرَسْتُ فِيهَا أَشْجَارًا مِنْ كُلِّ نَوْعِ ثَمَرٍ. 6 عَمِلْتُ لِنَفْسِي بِرَكَ مِيَاهٍ لِتُسْقَى بِهَا الْمَغَارِسُ الْمُنْبِتَةُ الشَّجَرَ. 7 قَنَيْتُ عَبِيدًا وَجَوَارِيَ، وَكَانَ لِي وُلْدَانُ الْبَيْتِ. وَكَانَتْ لِي أَيْضًا قِنْيَةُ بَقَرٍ وَغَنَمٍ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ كَانُوا فِي أُورُشَلِيمَ قَبْلِي. 8 جَمَعْتُ لِنَفْسِي أَيْضًا فِضَّةً وَذَهَبًا وَخُصُوصِيَّاتِ الْمُلُوكِ وَالْبُلْدَانِ. اتَّخَذْتُ لِنَفْسِي مُغَنِّينَ وَمُغَنِّيَاتٍ وَتَنَعُّمَاتِ بَنِي الْبَشَرِ، سَيِّدَةً وَسَيِّدَاتٍ. 9 فَعَظُمْتُ وَازْدَدْتُ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلِي فِي أُورُشَلِيمَ، وَبَقِيَتْ أَيْضًا حِكْمَتِي مَعِي. 10 وَمَهْمَا اشْتَهَتْهُ عَيْنَايَ لَمْ أُمْسِكْهُ عَنْهُمَا. لَمْ أَمْنَعْ قَلْبِي مِنْ كُلِّ فَرَحٍ، لأَنَّ قَلْبِي فَرِحَ بِكُلِّ تَعَبِي. وَهذَا كَانَ نَصِيبِي مِنْ كُلِّ تَعَبِي. 11 ثُمَّ الْتَفَتُّ أَنَا إِلَى كُلِّ أَعْمَالِي الَّتِي عَمِلَتْهَا يَدَايَ، وَإِلَى التَّعَبِ الَّذِي تَعِبْتُهُ فِي عَمَلِهِ، فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ، وَلاَ مَنْفَعَةَ تَحْتَ الشَّمْسِ.

زَوَّد الجامعة نفسه بالمباهج العالمية والمباني الفخمة والعبيد والفضة والذهب والأمور الخاصة بالملوك دون سواهم، لكن لم يكن ذلك من قِبَلْ النكوص إلى الطفولة غير الملتزمة أو الهروب إليها، كما كان يفعل اليونانيون منغمسين في الملذات والانشغال بالمظاهر هربًا من المسئولية. وكما جاء في سفر الحكمة: "لأنهم قالوا في أنفسهم مفتكرين افتكارًا غير مستقيم، إن عمرنا هو يسير محزن... فهلم إذًا نتمتع بالخيرات الموجودة، ونستعمل الملذات في البرية ما دام زمان شيبوبة، فنمتلئ من الخمر الفائقة والطيوب ولا يفوتنا نسيم زهر الربيع..." (حك 2: 1، 6، 7).
وإنما كانت هكذا عادة اليهود للتعبير عن القوة وذلك بإقامة ولائم ومباني فاخرة، وباختصار أن يصير سيدًا للفنون.
أ. اِنغمس كثيرًا في التشييد والبناء، في المدن كما في القرى، إذ يقول: "بنيت لنفسي بيوتًا" [4]. قيل عنه: "وهذا هو سبب التسخير الذي جعله الملك سليمان لبناء بيت الرب وبيته والقلعة وسور أورشليم، وحاصور ومجدو وجازر... وجميع مدن المخازن التي كانت لسليمان ومُدن المركبات ومدن الفرسان، ومرغوب سليمان الذي رغب أن يبنيه في أورشليم وفي لبنان وفي كل أرض سلطته" (1 مل 9: 15-19). لقد شيَّد مبانٍ كثيرة لكنه بدأ ببناء بين الرب، وليس كأولئك الذين قيل لهم: "هل الوقت لكم أنتم أن تسكنوا في بيوتكم المغشاة وهذا البيت خراب؟!" (حج 1: 3)... هذا وقد وظّف أيضًا العديد من فقراء العاملين لنفعهم. هذا هو الجانب الطيب من ناحية سليمان في اهتمامه بالتشييد والبناء، لكن ربما ما أفسده عمله إلى حين ظنه بأن هذه المشاريع تقدر أن تُشبع نفسه وتروي رغبته في المجد الزمني، إذ يقول: " فعظمتُ عملي" [4].
بناء البيوت ليس خطية، لكن الخطية هي أن ننشغل ببناء بيوت لراحة أجسادنا دون أن نقدم بيتًا للرب في أعماقنا. ليستريح الرب في قلوبنا فيعطي راحة لأجسادنا أيضًا، ويلهب قلوبنا بنار الحب فتشتاق أن نرحل لنسكن معه ونستريح في أحضانه الإلهية عوض الانشغال بالعظمة الزمنية والمجد الباطل. ليسكن الرب في قلبنا كبيت خاص به، فنسكن نحن في سمواته كبيتنا الأبدي الخاص بنا، ولا يستطيع العالم كله أن يجتذبنا إليه.
* من يهرب من المجد الباطل بمعرفةٍ، يتذوق في نفسه (رجاء) الدهر الآتي.
* ما أن يختار الإنسان التحرر من القنية حتى ينشغل فكره بالرحيل عن العالم؛ فيجعل حياة ما بعد القيامة لهجِهِ الدائم، ويسعى نحو الاستعداد الدائم (للرحيل)، الأمر الذي هو نافع له، يبدأ يحتقر كل ما يجلب كرامة (زمنية) أو راحة جسدية، ويتغلغل هذا في أفكاره، وينتعش ذهنه دائمًا بالتفكير في احتقار العالم.
مار إسحق السرياني
يحثنا الآباء على بناء بيت الرب الداخلي وهيكله ومذبحه في قلوبنا:
* أهلني يا ربي يسوع المسيح أن أُساهم في بناء بيتك...!
أما مسكن الرب الذي يُريدنا أن نقيمه فهو القداسة... بهذا يقدر كل إنسان أن يقيم لله خيمة داخل قلبه.
* ليكن للنفس مذبح في وسط القلب، عليه تُقدم ذبائح الصلاة ومحرقاب الرحمة، فتُذبح فوقه ثيران الكبرياء بسكين الوداعة، وتُقتل عليه كباش الغضب وماعز التنعم والشهوات...
لتعرف النفس كيف تُقيم داخل قدس أقداس قلبها منارة تضيء بغير انقطاع!
العلامة أوريجينوس
ب. اهتم بزراعة بساتين: "غرست لنفسي كرومًا، عملت لنفسي جنات وفراديس، وغرست فيها أشجارًا من كل نوع ثمر" [4-5].
قدم الله للإنسان الأول جنة عدن يعمل فيها، تحوي أشجارًا من كل ثمر، وتضم أيضًا شجرة الحياة... هكذا يود الله أن يشبع الجسد بكل ثمر زمني ويشبع النفس بشجرة الحياة الخالدة، لكن الإنسان اهتم بما يشبع جسده دون نفسه. لذا جاء السيِّد المسيح إلى أرضنا، وعُلق جسده على الشجرة، لعلنا نمد أيدينا ونقتطف منها ثمر الحياة. ليغرس الصليب في نفوسنا ونجني ثمر الروح القدس فينا فتتقدس نظرتنا إلى كل ثمر، ويشبع الإنسان بجسده وروحه.
يغرس مسيحنا صليبه في قلوبنا فيقيم منه فردوسًا مفرحًا، يحمل ثمر الروح القدس المبهج للسمائيين والأرضيين!
ج. أنشأ قنوات كثيرة للسقي: "عملت لنفسي برك مياه لتسقي بها المغارس المنبتة الشجر" [6].
نحن نحتاج إلى ينبوع المياه الحيَّة، أي إلى روح الله القدُّوس، الذي يسقي برِّيتنا الداخلية ويقيم منها جنة مقدسة.
د. اقتنى عبيدًا وجواري اَنجبن له ولدان بيت لخدمته [7].
ه. اقتنى بقرًا وفضة وذهبًا وخصوصيات الملوك [7-8]. صار واسع الثراء، فقد قيل عنه: "وجعل الملك الفضة في أورشليم مثل الحجارة، وجعل الأرز مثل الجميز الذي في السهل في الكثرة" (1 مل 10: 27).
ماذا تعني "خصوصيات الملك"؟ ما يخص الملوك أو ما ينفرد به الملوك عن سائر الأشراف والعظماء من ممتلكات أو قنية معينة.
تعبير "خصوصيات peculiar treasure" في العبرية s’qulia يعني أساسًا "قنية property"، لكنه صار مستخدمًا عمومًا للدلالة على القنية ذات القيمة العالية. دُعي شعب الله "شعب اقتناء" (خر 19: 5)، بكونه شعبًا اختاره الله ليكون نصيبه، وهو ثمين في عينيه للغاية.
اقتنى سليمان ما يخص الملوك كأمر ثمين... أما أنت فيُقدّم لك ملك الملوك ذاته لكي تقتنيه وهو يقتنيك، تصير نصيبه وهو نصيبك، فتقول: "أنا لحبيبي وحبيبي ليّ". هذا ما يشبع أعماقك الداخلية التي خلقها الله على صورته، فلا يشبعها أحد غيره!
هذا وقد أوضح الجامعة في أكثر من موضع أن الغنى والمقتنيات ليست بالأمر الشرير، إنما يكمن الشر في فساد إرادتنا وسوء نظرتنا لها، وأيضًا انحراف هدفنا:
* كن يقظًا في استعمال ثرواتك لئلاَّ تبقى عطية الله لك بلا فائدة بين يديك.
هل عندك ذهب وفضة؟ إن أحسنت التصرف بهما كانا لك خيرًا. وإن كنت شريرًا فستُسيء التصرف بهما.
الذهب والفضة هما شرّ للأشرار، وخير للأبرار، لا لأن الذهب والفضة يجعلان الناس أبرارًا، بل، لأن الناس الأبرار يستعملونهما للخير...
أي نفع لك مما في حوزتك، حين لا تملك ذاك الذي أعطاك كل شيء؟!...
أتريد أن تحتفظ بثروتك؟ دبرها كما تُريد، إن وجدت لها حارسًا أفضل من المسيح فسلِّمه إيَّاها...
المسيح هو معك لكي يأخذ مالك ويحفظه لك؛ لن يخونك، بل سيحمل كنزك بأمانة.
القديس أغسطينوس
في القرن الثاني كتب القديس إكليمنضس الإسكندري كتابًا تحت عنوان: "من هو الغني الذي يخلص؟" يوضح فيه نظرة المسيحية إلى الغنى؛ جاء فيه:
[لا نلقي بالغني أرضًا، هذا الذي يُفيد إخوتنا...
لا يبدد الإنسان غناه،
بل بالحري يليق به أن يُحطم شهواته الداخلية التي تتعارض مع الاستخدام الصالح للغنى. فإذ يصير الإنسان فاضلًا وصالحًا يمكنه أن يستخدم هذا الغنى بطريقة صالحة.
إذن لنفهم ترك ممتلكاتنا (مر 10: 17-31) وبيعها أنه ترك وبيع لشهوات نفوسنا].
و. قدم لنفسه دون جدوى كل جوٍ إباحي من مغنيين ومغنيات وسيدة وسيدات [8]... لم يحرم جسده أو قلبه من الملذات المادية أو غير المادية.
مع ما تمتع به من ثروات وملذات نال مجدًا زمنيًا وبقيت معه حكمته البشرية، إذ يقول: "فعظمت وازددت أكثر من جميع الذين كانوا قبلي في أورشليم وبقيت أيضًا حكمتي معي" [9].
أما الخبرة التي نالها من هذا كله فهي: "مهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما، لم أمنع قلبي من كل فرح... ثم التفتُّ أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداي وإلى التعب الذي تعبته في عمله، فإذا الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس" [10-11].
الله يُريد راحتنا وفرحنا، لكن إنهماكنا بملذات العالم وغناه كثيرًا ما يسحب قلبنا عن الراحة التي في المسيح يسوع، وتنعم شركة الأمجاد السماوية.
* عقل الإنسان الذي يهرب من راحة هذا الدهر يمعن النظر في الدهر الآتي. من تأسره القنية هو عبد لها.
* طوبى للإنسان الذي يُصم أذنيه عن كل المباهج التي تفصله عن خالقه، لأنه يأكل فقط طعامًا شهيًا واحدًا من مائدة العليّ، ذاك الذي تقتات منه قوات السمائيين.
طوبى لمن اتخذ من الخبز الحيّ النازل من السماء طعامًا له، ذلك الخبز الذي يُنير العالم، الذي يسند عصور العالم الجديد.
طوبى لمن كان في شرابه يرى نبع الحياة المروي، يتدفق من حضن الآب برحمته؛ فإنه حينما يشرب منه تُثبَّت عيناه عليه، ويفرح قلبه، ويزدهر من جديد، ويمتلئ فرحًا وحبورًا. من يعاين ربه في طعامه يرضى به ويتمتع بالشركة معه وحده، ولا تكون له شركة مع غير المستحقين لئلاَّ يُحرم من بهائه...
الإنسان الذي له أصدقاء بقصد ملء بطنه يشبه ذئبًا يقتات على الجيف!
يا لهول جشعك أيها الأحمق، لأنك تود أن تملأ بطنك بكل شهوة!
هذه التحذيرات كافية بالنسبة للقادرين على السيطرة على بطونهم.
* من ينشغل باهتمامات كثيرة هو عبد لكثيرين،
أما الذي يهجرها جميعًا ويهتم فقط بنفسه، فهو صديق لله!
* يا رب، احسبني مستحقًا أن أبغض حياتي (الزمنية) لأجل الحياة التي فيك!
مار إسحق السرياني
يُقدم لنا آباء الكنيسة خبرتهم الروحية بخصوص التمتع بالملذات الجسدية تتلخص في ضرورة الالتزام بالطريق الوسط أو المعتدل، ويسمونه الطريق الملوكي.
* لا تملأ بطنك كثيرًا لئلاَّ يعذبك الزنا،
ولا تضعف جسدك لئلاَّ يفرح بك مبغضوك.
امسك رتبة معتدلة، وها أنت تسلك الطريق الملوكي، وبغير خوف يكون سيرك.
القديس يوحنا سابا
يُلخص الجامعة خبرته مع الملذات العالمية، قائلًا: "فإذا الكل باطل وقبض الريح، ولا منفعة تحت الشمس" [11].
* يقول الجامعة: "باطل الأباطيل، الكل باطل". لكن إن كانت الخليقة كلها صالحة بكونها من صنع يدي الخالق الصالح، فكيف يمكن أن يكون الكل باطلًا؟ إن كانت الأرض باطلة، فهل السموات أيضًا باطلة...؟ وأيضًا الملائكة والعروش والسلاطين والقوات وباقي الطغمات؟ كلاَّ! إن كانت الأشياء التي هي صالحة في ذاتها بكونها خليقة الخالق الصالح قد دُعيت باطلة، إنما بمقارنتها بما هو أسمى منها وأعظم. فمثلًا إذا قورن السراج بالمصباح حُسب أقل منه، أما إذا قورن المصباح بالنجم فلا يعطي ضوءًا على الإطلاق. وإذا سطع نجم فإنه أمام القمر يبهت، والقمر أمام الشمس يبدو غير ساطع، وإذا قورنت الشمس بالمسيح حُسبت ظلامًا. هكذا يقول الله: "أهيه (أنا هو) الذي أهيه"، إذا قورنت كل المخلوقات به حسبت غير موجودة.
القديس جيروم
يختم الكاتب حديثه عن الملذات الحسِّية بقوله: "ولا منفعة تحت الشمس" [11]. كأنه يقول: من يحملني إلى ما فوق الشمس؟ من يرفعني إلى ما فوق الزمن؟ إنيّ محتاج إلى السيِّد المسيح، شمس البر، وحكمة الله.
بهذا ينتقل من الملذات الحسِّية غير المشبعة إلى الحديث عن الحكمة الزمنية التي وإن كانت أفضل من الجهالة أو الحماقة، لكنها لا تقدر أن تُشبع النفس كحكمة الله!
3. بطلان السعي وراء الحكمة البشرية:

12 ثُمَّ الْتَفَتُّ لأَنْظُرَ الْحِكْمَةَ وَالْحَمَاقَةَ وَالْجَهْلَ. فَمَا الإِنْسَانُ الَّذِي يَأْتِي وَرَاءَ الْمَلِكِ الَّذِي قَدْ نَصَبُوهُ مُنْذُ زَمَانٍ؟ 13 فَرَأَيْتُ أَنَّ لِلْحِكْمَةِ مَنْفَعَةً أَكْثَرَ مِنَ الْجَهْلِ، كَمَا أَنَّ لِلنُّورِ مَنْفَعَةً أَكْثَرَ مِنَ الظُّلْمَةِ. 14 اَلْحَكِيمُ عَيْنَاهُ فِي رَأْسِهِ، أَمَّا الْجَاهِلُ فَيَسْلُكُ فِي الظَّلاَمِ. وَعَرَفْتُ أَنَا أَيْضًا أَنَّ حَادِثَةً وَاحِدَةً تَحْدُثُ لِكِلَيْهِمَا. 15 فَقُلْتُ فِي قَلْبِي: «كَمَا يَحْدُثُ لِلْجَاهِلِ كَذلِكَ يَحْدُثُ أَيْضًا لِي أَنَا. وَإِذْ ذَاكَ، فَلِمَاذَا أَنَا أَوْفَرُ حِكْمَةً؟» فَقُلْتُ فِي قَلْبِي: «هذَا أَيْضًا بَاطِلٌ». 16 لأَنَّهُ لَيْسَ ذِكْرٌ لِلْحَكِيمِ وَلاَ لِلْجَاهِلِ إِلَى الأَبَدِ. كَمَا مُنْذُ زَمَانٍ كَذَا الأَيَّامُ الآتِيَةُ: الْكُلُّ يُنْسَى. وَكَيْفَ يَمُوتُ الْحَكِيمُ كَالْجَاهِلِ! 17 فَكَرِهْتُ الْحَيَاةَ، لأَنَّهُ رَدِيءٌ عِنْدِي، الْعَمَلُ الَّذِي عُمِلَ تَحْتَ الشَّمْسِ، لأَنَّ الْكُلَّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ. 18 فَكَرِهْتُ كُلَّ تَعَبِي الَّذِي تَعِبْتُ فِيهِ تَحْتَ الشَّمْسِ حَيْثُ أَتْرُكُهُ لِلإِنْسَانِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدِي. 19 وَمَنْ يَعْلَمُ، هَلْ يَكُونُ حَكِيمًا أَوْ جَاهِلًا، وَيَسْتَوْلِي عَلَى كُلِّ تَعَبِي الَّذِي تَعِبْتُ فِيهِ وَأَظْهَرْتُ فِيهِ حِكْمَتِي تَحْتَ الشَّمْسِ؟ هذَا أَيْضًا بَاطِلٌ.

يعقد الكاتب مقارنة بين الحكمة والجهل، مقدمًا خبرته التالية:
أ. "رأيت أن للحكمة منفعة أكثر من الجهل، كما أن للنور منفعة أكثر من الظلمة" [13]. لا يتجاهل الجامعة الحكمة الطبيعية ولا الحكمة الصادرة عن الخبرات البشرية، مشبهًا الحكمة بالنور والجهل بالظلمة. الحكمة نافعة لكنها غير مشبعة، أما السيِّد المسيح فهو حكمة الله السماوي نافع ومشبع، أنه النور الذي يُضيء لكل إنسان آت إلى العالم، مبددًا ظلمة فسادنا، ومقدمًا نفسه لنا حكمة وبرًا وقداسة وفداءً (1 كو 1: 30).
يرى القديس يوحنا الذهبي الفمأن الحكمة نافعة حتى بالنسبة للإنسان الفقير، لأنها تهبه النور فلا يعيش في الظلام، أما الجهالة فتحطم الغني الذي بطمعه وحبه للمال يعيش في الظلمة التي لا تسمح له برؤية الأمور كما ينبغي. من يقف في مكان مظلم لا يرى ما حوله، حتى وإن كان وعاءً من الذهب أو حجرًا كريمًا أو ثيابًا غالية... إنما يُحسب هذه كلها كلا شيء، لا يُقدّر قيمتها، ولا ينظر جمالها، هكذا لا يدرك الطماع قيمة الأمور الجديرة باهتمامنا.
لننعم بالسيِّد المسيح "الحكمة" الحقَّة فنستنير بروحه القدُّوس واهب الحب والفرح والسلام... ولنترك الجهالة لئلاَّ نهتم بالتراب ولا نبالي بالسماء! الجهالة ظلمة تُفسد نظرتنا نحو الله وملكوته بل ونحو أنفسها وإخوتنا كما نحو العالم وكل ما فيه!
* شتّان ما يفصل بين الحكمة والحماقة؛ إنهما يختلفان كاختلاف النهار والليل.
الذي يختار الفضيلة يشبه من يرى الأمور كلها بمنتهى الوضوح، كمن ينظر إلى فوق، ويسلك سبله في سطوع النور. أما ذاك الذي من جهة أخرى قد انخرط في الشر فيشبه شخصًا يتجوّل بلا هدف في ليلة غير قمرية، يسلك كأعمى، محروم من رؤية الأشياء، كمن هو في الظلام. وحينما أتأمل في نهاية تلك النماذج من الحياة لا أجد نفعًا في الأخير. وإذ أرافق الأحمق، أتلقى أجرة الحماقة، لأنه ما هو نفع تلك الأفكار، وما فائدة هذا الكم من الكلمات التي ينطق بها الأحمق، فإنها - إن جاز التعبير - نابعة عن فيض الحماقة؟!
أيضًا لا يوجد شيء مشترك بين الحكيم والأحمق، لا فيما يخص ذكرى الإنسان أو مجازاة الله لهما... الحكيم لا يُشارك الأحمق نهايته مطلقًا. لهذا كرهت حياتي كلها، تلك التي استهلكتها الأباطيل، والتي قضيتها بذهن مثقل بالهموم الأرضية.
القدِّيس غريغوريوس صانع العجائب
يحدثنا القدِّيس باسيليوس الكبير عن أهمية الحكمة البشرية والفلسفة والعلوم دون مبالغة أو تجاهل للحكمة الإلهية:
* في ظني أن كل إنسان عاقل يفكر بأن العلم هو الأمر الرئيسي بين كل ما هو حسن وفي منال عقولنا. ولا أقول بأن علومنا هي وحدها عالية ونبيلة، لأنها تحتقر أناقة الخارج لتتعلق بجمال الأفكار، وإنما أيضًا العلم الذي من الخارج، الذي يرفضه كثير من المسيحيين القليلي التقدير ويعتبرونه خادعًا وخطرًا يبعدنا عن الله... فمن هذا علينا أن نحتفظ بما يمكنه أن يُساعدنا على التأمل في الحق، متجنبين كل ما يؤدي إلى الشر والخطأ والهلاك.
* علينا أن نبتدئ بقراءة الفكر الدنيوي لنرتفع بعده إلى المقدسات وأسرار الإيمان... فإذا كان هناك من موافقة بين هذه الثقافة وعقائدنا، كانت معرفتها من الإفادة بمكان كبير، وإلاَّ فالمقارنة في الحالة العكسية من شأنها أن تثبت اعتقاداتنا الصحيحة.
* يهمنا جدًا ألاَّ ننكب بجهل على العلوم، وإنما أن نعرف ما هو الأفيد منها... وخوفًا من أن نتعلق بها وننسى علم الله منغمسين في أبحاث باطلة، يبين ضرورة التمييز في التربية بطريقة نختار فيها العلم المفيد ونتجنب كل ما هو ضار وشؤم.
القدِّيس باسيليوس الكبير
ب. يربط الجامعة بين الحكمة والبر، وبين الجهالة والشر، إذ يقول: "الحكيم عيناه في رأسه، أما الجاهل فيسلك في الظلام" [14].

الإنسان الروحي هو الحكيم الذي يركز عينيه على السيِّد المسيح بكونه رأس الكنيسة، يتطلع إليه في كل أموره الزمنية والروحية، لأن العينين تُشيران إلى التطلع إلى الحياة الزمنية (العين اليسرى) والأبدية (العين اليمنى). يرى الإنسان الروحي الحكيم أن السيِّد المسيح هو مركز حياته الحاضرة والأبدية، أما الجاهل فيسلك في الظلمة، أي في دائرة الخطية خارج المسيح شمس البر.
* "الحكيم عيناه في رأسه"؛ في أي رأس؟ كل إنسان - حتى البليد والأحمق - عيناه في رأسه الجسدية، أما الحكيم فله عينان (هاتان اللتان تحدثت عنهما توًا، واللتان استنارتا بوصايا الرب) في رأسه، أي في المسيح، لأن "المسيح رأس الرجل" كما يقول الرسول.
المسيح هو العامل في فكرنا.
العلامة أوريجينوس
الحكيم عيناه في رأسه، أي في السيِّد المسيح السماوي، لهذا يرتفع قلبه أيضًا إلى السماء ويبلغ القمة، ولا يبقى في وحل هذا العالم وترابه. يقول القديس أمبروسيوس: [يكون القلب بالأكثر فوق القمة، لأن عينيّ الحكيم في رأسه].
ويرى مار إسحق السرياني أن هذا يتحقق بالتمتع بالحكمة المكنوزة في كلمات الكتاب المقدس، فإنه إذ يكون الحكيم دائم التطلع في المسيح الرأس، أي في الكلمة السماوي، يرتفع قلبه إلى معاينة السمويات.
* حينما تنغمس أفكار إنسان ما بالكامل في بهجة السعي وراء الحكمة المكنوزة في كلمات الكتاب المقدس بإرادته التي تُكتسب خلال الاستنارة منها، يضع العالم خلف ظهره وينسى كل ما فيه، ويمحو من نفسه كل ذكريات تجسّم له العالم. بل أنه كثيرًا ما يبدأ في تناسي الأفكار العادية النابعة عن خواطر الطبيعة البشرية، وتبقى نفسه في حالة دهش (رؤيا إلهية ecstasy) بسبب ما تتفاعل فيه من خواطر جديدة تنشأ عن بحر أسرار الكتاب المقدس.
مار إسحق السرياني
ج. بالنسبة للحكمة البشرية فإنها عاجزة عن أن ترفع الإنسان إلى التمتع بالحياة الأبدية، أو تجدد طبيعته الفاسدة، فمع نفعها لا تختلف عن الجهالة، وذلك للأسباب التالية:
أولًا: لا تحملنا الحكمة الزمنية إلى ما فوق الزمن، لذلك كما يخضع الجاهل للموت هكذا تنتهي حياة الحكيم بالموت.
"وعرفت أنا أيضًا أن حادثة واحدة تحدث لكليهما؛
فقلت في قلبي:
كما يحدث للجاهل كذلك يحدث ليّ أنا.
فلماذا أنا أوفر حكمة؟
فقلت في قلبي:
هذا أيضًا باطل...
كيف يموت الحكيم كالجاهل؟!" [14-16].
إن كانت الحكمة الزمنية نافعة كالنور لكنها عاجزة، لا تقدر أن تواجه الموت أو تتحداه! بالحكمة البشرية والعلم تقدم الإنسان وأشبع الكثير من احتياجاته وإن كان قد ازداد عطشه بالأكثر إلى تطلعات جديدة، أما ما يعجز عنه العلم فهو الغلبة على الموت. بالمسيح يسوع وحده، حكمة الله، أستطيع مواجهة الموت، مترنمًا:
"آخر عدو يبطل هو الموت...
أُبتلع الموت إلى غلبة.
أين شوكتك يا موت؟
أين غلبتك ياهاوية...؟
شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح!" (1 كو 15: 26، 54-57).
ب. تعطي الحكمة الزمنية للإنسان مجدًا زمنيًا وشهرة قد تبلغ أقاصي الأرض، فيظن الإنسان نفسه مخلدًا على الأرض، أو أن اسمه لن يُمحى من بين بني البشر... لكن تعبر الأيام ويُنسى الحكيم كالجاهل تمامًا. "لأنه ليس ذِكر للحكيم ولا للجاهل إلى الأبد. كما منذ زمان كذا الأيام الآتية الكل يُنسى" [16]. نتطلع إلى الزمان الماضي كأمر قد انتهى، وها هي الأيام القادمة ستتطلع إلى عصرنا كزمان قديم قد نُسيَ!
من يربط نفسه بعجلة الزمن الذي يدور معها إلى أعلى وإلى أسفل، ويبقى في تغير مستمر، ثم ينتهي ذكره مع الزمن، أما من يربط حياته بحياة المسيح الأبدي فتصير حياته مصاعد دائمة، وينعم بقوة فوق قوة، ونعمة عوضًا عن نعمة، وتزيده الأيام بهاءً، ويتجلى مجده في يوم الرب العظيم، ولا يُنسى قط!
ج. ربما لا يُبالي الحكيم بحياته ولا بذكراه، حاسبًا أن ما يجمعه بخبرته ومهارته وحكمته يبقى لورثته... لكنه لا يعرف ماذا يفعلون بما اقتناه هو بجهاده وتعبه. لذا يقول: "فكرهت كل تعبي الذي تعبت فيه تحت الشمس حيث اتركه للإنسان الذي يكون بعدى. ومن يعلم هل يكون حكيمًا أم جاهلًا؟! ويستولى على كل تعبي الذي تعبت فيه، وأظهرت فيه حكمتي تحت الشمس. هذا أيضًا باطل: [18-19].
لا يعلم الحكيم ماذا يفعل ورثته بما اقتناه، أما من يرتبط بالحكمة السماوية فهو يورثهم البركة التي لا تضيع. ماذا ورَّث زكريا الكاهن وأليصابات القدِّيس يوحنا المعمدان؟ صلواتهما الدائمة المقدسة وبرِّهما في الرب... فكانت حياتهما سندًا له وهو في البرية محروم من رعايتهما المنظورة!
قدمت لنا الأجيال السابقة وديعة التقليد الحيّ، أي الإيمان العملي بالثالوث القدُّوس، وخبرة الحياة الإنجيلية الصادقة ميراثًا لنا نعيشه تحت كل الظروف، كنزًا لا يُقدر بثمن! ونحن أيضًا يلزمنا أن نعيش ذات التقليد الحيّ الإنجيلي لنسلمه ميراثًا للأجيال القادمة، سرّ بركة للكثيرين! قد تضيع مشاريع الكنيسة أو ممتلكاتها الزمنية لكن إيمانها هو رصيدها الحيّ، الميراث العملي الذي تتلقَّفه الأجيال ميراثًا لها!
إذ لا يعرف الإنسان ما سيحل به في المستقبل أو ما سيفعله ورثته بتعبه، يعيش أيامه في غم وأحزان، وفي الليل لا يستريح قلبه [23]، أما من انشغل باللؤلؤة الكثيرة الثمن، بالسيِّد المسيح نفسه، فلا يخشى المستقبل كأنه مجهول! الأول يدخل لا شعوريًا إلى حالة من اليأس فيقول: "فكرهت الحياة... فكرهت كل تعب" [17-18]، أما الثاني فبرجاء مفرح يقول: "ليّ الحياة هي المسيح والموت هو ربح".
4. بطلان السعي وراء التعب:

20 فَتَحَوَّلْتُ لِكَيْ أَجْعَلَ قَلْبِي يَيْئَسُ مِنْ كُلِّ التَّعَبِ الَّذِي تَعِبْتُ فِيهِ تَحْتَ الشَّمْسِ. 21 لأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ إِنْسَانٌ تَعَبُهُ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَبِالْفَلاَحِ، فَيَتْرُكُهُ نَصِيبًا لإِنْسَانٍ لَمْ يَتْعَبْ فِيهِ. هذَا أَيْضًا بَاطِلٌ وَشَرٌّ عَظِيمٌ. 22 لأَنَّهُ مَاذَا لِلإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ تَعَبِهِ، وَمِنِ اجْتِهَادِ قَلْبِهِ الَّذِي تَعِبَ فِيهِ تَحْتَ الشَّمْسِ؟ 23 لأَنَّ كُلَّ أَيَّامِهِ أَحْزَانٌ، وَعَمَلَهُ غَمٌّ. أَيْضًا بِاللَّيْلِ لاَ يَسْتَرِيحُ قَلْبُهُ. هذَا أَيْضًا بَاطِلٌ هُوَ.

يكره الحكيم الحياة بل ويكره التعب [17-18]، إذ يراه بلا قيمة... يتعب ليجمع ثمارًا تقع في قبضة آخر، ربما يكون أحمقًا ولا مبالٍ أو في يد إنسان لا يفعل ما يستحق أن ينال تلك الثروة...
"فانثنيت على قلبي يائسًا من كل التعب الذي تعبت فيه تحت الشمس" [20].
من يرتبط بالحكمة الزمنية يُعاني من اليأس والبؤس، أما من يرتبط بالحكمة الإلهية فينعم بالرجاء السماوي المفرح.
* الإنسان الصالح الذي ينال حكمة من الله يتمتع أيضًا بفرح سماوي، ومن جهة أخرى فإن الإنسان الشرير المضروب بالأمراض التي يسمح بها الله له، والمنغمس في مرض الشهوة، هذا الذي يتعب لأجل المزيد، سرعان ما يخزيه من كرَّمه الله... إذ يفضل الشرير العطايا غير النافعة ويسعى وراء الخداع والبُطل بنفسه البائسة.
القدِّيس غريغوريوس صانع العجائب
الإنسان الحكيم لا ينشغل بما يحيط بنفسه (اهتمامات الجسد) ولا بما يخصه من صحة وجمال ولذة، إنما يهتم بنفسه ذاتها فهي أفضل من كل شيء.
يقول القدِّيس باسيليوس الكبير: [انتبه لنفسك (تث 15: 9) فهي الكنز الثمين والخير الأعظم، وهي تستحق أن توليها أشدّ الاهتمام... فلا تهتم بالجسد ولا بما هو مرتبط بالجسد كالصحة والجمال، واللذة والعمر المديد. وكذلك لا تُعير اهتمامًا كبيرًا بالغنى والمجد والسلطان، وكل ما هو مرتبط بالحياة الأرضية. لكن اهتم بنفسك فوق كل شيء... زيّنها بالفضائل، نَقّها من الخطية، وجمّلها بزينة الفضيلة التي هي أجمل زينة].
5. تمتع بملذات الحياة العادية المعطاة من الله:

24 لَيْسَ لِلإِنْسَانِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ وَيُرِيَ نَفْسَهُ خَيْرًا فِي تَعَبِهِ. رَأَيْتُ هذَا أَيْضًا أَنَّهُ مِنْ يَدِ اللهِ. 25 لأَنَّهُ مَنْ يَأْكُلُ وَمَنْ يَلْتَذُّ غَيْرِي؟ 26 لأَنَّهُ يُؤْتِي الإِنْسَانَ الصَّالِحَ قُدَّامَهُ حِكْمَةً وَمَعْرِفَةً وَفَرَحًا، أَمَّا الْخَاطِئُ فَيُعْطِيهِ شُغْلَ الْجَمْعِ وَالتَّكْوِيمِ، لِيُعْطِيَ لِلصَّالِحِ قُدَّامَ اللهِ. هذَا أَيْضًا بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ.

لئلاَّ يُظن أن الكاتب يدفعنا نحو اليأس أو يشوّه صورة العالم والجسد اللذين خلقهما الله من أجلنا، إنه يُقدم لنا نصيحة عملية وهي أن نقبل الظروف التي نعيش فيها وأن نتمتع بالحياة قدر المستطاع، متطلعين إلى كل شيء حتى الأكل والشرب والقدرة على العمل والتعب كعطية إلهية، بكون الله قد وهبنا هذه الحياة وهو الذي خطط لها كما هي عليه.
"ليس للإنسان خير من أن يأكل ويشرب ويُرى (يذيق) نفسه خيرًا في تعبه
ورأيت هذا أيضًا أنه من يدّ الله" [24].
إنه لا يقول لنأكل ونشرب فإننا غدًا نموت كما قال الرواقيون محبو اللذات، وإنما لنأكل ونشرب ونعمل شاكرين الله الذي يهبنا كل شيء حتى إمكانية الأكل والشرب والعمل.
إنه لا يدفعنا إلى "التهرب escapism"، أي الهروب من المسئوليات ومن المتاعب الواقعية بالاستغراق في الملذات وحياة اللهو والخيال كإدمان المخدرات، وإنما يحثنا على ممارسة الحياة الواقعية شاكرين الله.
يرى القديس أغسطينوس أن الجامعة يدعونا إلى شركة مائدة الأفخارستيا التي أسسها السيِّد المسيح بجسده ودمه المبذولين، بكونه وسيط العهد الجديد والكاهن على رتبة ملكي صادق، فنأكل ونشرب بروح الشكر.
يمكننا القول بأن الجامعة في هذا الأصحاح وهو يؤكد بطلان الملذات الزمنية يدعونا إلى الخروج من العالم، لا خروجًا بالجسد، وإنما بالقلب، لكي لا نرتبك بهمومه ولا نُمتص بملذاته، إنما نرحل إلى الدهر الآتي بشكر وفرح.
* ما من أحد يقترب إلى الله، سوى الذي فصل نفسه عن العالم، لكنني لا أقصد بالانفصال الرحيل عن الجسد بل الرحيل عن (الارتباك) بشئون العالم.
* مبارك الذي لم يفقد سيرته في هذا العالم الباطل، وعلى هذا البحر العظيم!
طوبى للإنسان الذي لم تتحطم سفينته، والذي بلغ الميناء بفرح.
مار إسحق السرياني
دعوته لنا بالتمتع بالمسرات الخاصة بالحياة العادية المعطاة من الله تؤكد نظرة الجامعة إلى الخليقة أنها صالحة، وإنبطلانها يتوقف على سوء نظرتنا أو سوء استخدامنا لها.
* الثروة الجامدة لا تفيد، ولكنها تصبح خصبة ومثمرة إذا ما نُظِّم استعمالها.
* الخلائق ليست رديئة من طبعها، فلو كانت رديئة لما خلقها الله، إذ أن كل خليقة الله حسنة كما قال الرسول بولس (1 تي 4: 4)، ثم أن وصيته لا تأمر بأن نرذل الخيرات ونهرب منها، بل أن نحسن تدبيرها، ولا يُدان أحد لامتلاكه أموالًا، بل لافتخاره بها، أو لأجل سوء استعماله لها.
القدِّيس باسيليوس الكبير
حديث الجامعة هنا بمثابة دعوة إلى حياة العمل بفرح، إذ يقول:
"ليس للإنسان خير من أن... يرى نفسه خيرًا في تعبه؛
رأيت هذا أيضًا أنه من يد الله" [24].
إن كنا نشكر الله على ما وهبنا من طعام وشراب، فإننا نشكره لأنه وهبنا أن نتعب عاملين بلذة وفرح، نعمل ليس فقط في الحياة التعبدية، وإنما في حياتنا اليومية العادية. وللقدِّيس باسيليوس الكبير أحاديث شيِّقة عن "العمل" حتى بالنسبة للرهبان.
* بما أن ربنا يسوع المسيح قال: "الفاعل مستحق أجرته" (مت 10: 10)؛ وليس كل واحدٍ على الاطلاق وكيفما اتفق، وأمر الرسول أن نتعب ونعمل بأيدينا ما هو صالح لكي يكون لنا ما نُشرك به المحتاج (أف 4: 28)، فيتضح من ثمّ أنه يجب علينا أن نعمل باجتهاد، لأنه لا يسوغ لنا أن نتّخذ العبادة حجة للبطالة والهرب من النَّصَب...
وبما أن البعض يستنكف من العمل بحجة الصلوات وترنم المزامير، فعلى مثل هؤلاء أن يعلموا أن لكل شيء وقتًا خاصًا به كما قال الجامعة: "لكل أمر أوان" (جا 3: 1).
* إن النهي عن الاهتمام الزائد بحاجات جسدنا لا ينفي الاهتمام والعمل مطلقًا. فقد بقي علينا "أن نعمل لنفُسنا لا للطعام الفاني بل للطعام الباقي للحياة الأبدية" (يو 6: 27). وسيقول لنا الرب في يوم الدين: "جُعت فأطعمتموني وعطشت فسقيتموني" (مت 25: 35...) وبعكس ذلك سيُعاقب الذين لم يعملوا ولم يتعبوا ليساعدوا الضعفاء وليخدموا القريب (أع 20: 4)، ويرسلهم إلى العذاب (مت 25: 21). فالعمل إذن انطلاقًا من هذا المفهوم ينظِّم بأحسن طريقة العلاقات المجتمعية، ويضفي عليها جوًا من التعاضد والانسجام.
* يلزم على كل أحد أن ينتبه لعمله الخصوصي ويهتم به برغبة ويتممه من دون ملامة بغيرة ونشاط وعناية وسهر لئلاَّ يستحق اللعنة، إذ قيل: "ملعون من عمِل عمل الرب باسترخاء" (إر 48: 10)...
خير لنا أن نباشر عملًا واحدًا بضبط وإحكام من أن نقوم بأعمال كثيرة بدون إتقان. لأن التشتت بين أشغال كثيرة والتنقّل بين الأمور بحيث لا يُقضى منها شيء دليل على خفة متأصّلة في الطبع أو مدعاةً لتولّد تلك الخفة.
القدِّيس باسيليوس الكبير

شهادة العالم

قدم لنا الجامعة البراهين على بطلان العالم بشهادة الطبيعة نفسها (1: 3-11)، وبطلان الحكمة البشرية (1: 12-18)، وأيضًا بطلان الملذات الحسِّية والغنى والجاه (2)، الآن يُقدم برهانًا آخر وهو شهادة العالم نفسه على بطلانه بتوضيحه أن "لكل شيء زمان". لا يوجد شيء ما صالح بطريقة مطلقة، إنما إن قُدم في وقت مناسب وفي حدود معينة. ولما كان لكل شيء زمانه، أي يخضع للزمن، فإنه إذ ينحل الزمن، ولا يكون هناك وقت، ينتهي كل شيء وينحل مع الزمن.
1. لكل شيء زمان:

1 لِكُلِّ شَيْءٍ زَمَانٌ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ وَقْتٌ: 2 لِلْوِلاَدَةِ وَقْتٌ وَلِلْمَوْتِ وَقْتٌ. لِلْغَرْسِ وَقْتٌ وَلِقَلْعِ الْمَغْرُوسِ وَقْتٌ. 3 لِلْقَتْلِ وَقْتٌ وَلِلشِّفَاءِ وَقْتٌ. لِلْهَدْمِ وَقْتٌ وَلِلْبِنَاءِ وَقْتٌ. 4 لِلْبُكَاءِ وَقْتٌ وَلِلضَّحْكِ وَقْتٌ. لِلنَّوْحِ وَقْتٌ وَلِلرَّقْصِ وَقْتٌ. 5 لِتَفْرِيقِ الْحِجَارَةِ وَقْتٌ وَلِجَمْعِ الْحِجَارَةِ وَقْتٌ. لِلْمُعَانَقَةِ وَقْتٌ وَلِلانْفِصَالِ عَنِ الْمُعَانَقَةِ وَقْتٌ. 6 لِلْكَسْبِ وَقْتٌ وَلِلْخَسَارَةِ وَقْتٌ. لِلصِّيَانَةِ وَقْتٌ وَلِلطَّرْحِ وَقْتٌ. 7 لِلتَّمْزِيقِ وَقْتٌ وَلِلتَّخْيِيطِ وَقْتٌ. لِلسُّكُوتِ وَقْتٌ وَلِلتَّكَلُّمِ وَقْتٌ. 8 لِلْحُبِّ وَقْتٌ وَلِلْبُغْضَةِ وَقْتٌ. لِلْحَرْبِ وَقْتٌ وَلِلصُّلْحِ وَقْتٌ. 9 فَأَيُّ مَنْفَعَةٍ لِمَنْ يَتْعَبُ مِمَّا يَتْعَبُ بِهِ؟ 10 قَدْ رَأَيْتُ الشُّغْلَ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ بَنِي الْبَشَرِ لِيَشْتَغِلُوا بِهِ.

"لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السموات وقت" [1].
حياتنا بكل ظروفها وأوضاعها تسير حسب جدول منظم، يحقق مقاصد الله في الوقت المناسب. وعلينا أن نؤدي واجباتنا بأمانة، وإن نتهيأ للمستقبل، لنرى خطة الله من جهتنا. بخطة إلهية خلق الله العالم من أجلنا، وفي الوقت المناسب أرسل الآباء والأنبياء وأعطانا الناموس، وفي الزمن المحدد تحقق الخلاص بالصليب، وبحكمة سماوية يهتم الله بكل صغيرة وكبيرة في حياتك، حتى عدد شعر رأسك لا يفلت من رعايته.
بمعنى آخر تاريخ العالم كله وتاريخ حياتك أنت على وجه الخصوص بكل دقائقها هي حلقات من الأحداث التي يُنسقها الله... عليك أن تعيش بروح الأمانة، تعمل بكل طاقاتك، وتحيا بفرح وسرور واثقًا في الله مدبّر حياتك، فإنك بذاتك لا تقدر أن تفعل شيئًا مهما كانت رغبتك ومهما تكن إمكانياتك... فإن "لكل أمر أوان، ولكل غرض تحت السماء وقت" [1].


أ. يوضح العلامة أوريجينوس كيف أن للناموس وقت ولعهد النعمة وقت، قائلًا:
["لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السموات وقت". يوجد وقت لجمع اللآلئ الحسنة، ووقت آخر بعد جمعها لاكتشاف اللؤلؤة الكبيرة الثمن، حين يليق بالإنسان أن يذهب ليبيع كل ما يملك ليشتري تلك اللؤلؤة. لأنه كما أن إنسانًا يُريد أن يصير حكيمًا بكلمات الحق يلزمه أولًا أن يتعلم المبادئ ثم يعبر بعد ذلك خلال التعليم الابتدائي الذي يقدّره كل التقدير لكن لا يظل قابعًا عند هذا الحد، إنما يوقّره في مستهل الأمر ثم يطلب الكمال. إنه يقر بالجميل من نحو ما تلقنه في بادئ الأمر، لأنه أفاده كثيرًا! هكذا يفهم الناموس والأنبياء بإتقان كامل أنه تعليم ابتدائي لإدراك الإنجيل كاملًا وإدراك معنى كل كلمات المسيح وأعماله.
العلامة أوريجينوس
ب. هُوجِم القديس غريغوريوس النزينزيلأنه طلب أن يكون الحديث عن الله مع الغير بحكمة وبطريقة مناسبة وفي الوقت المناسب. وقد دافع عن نفسه، قائلًا: [إنني لا أمنع تذكر الله الدائم وإنما فقط الحديث عن الله، ليس لأن هذا فيه خطأ في ذاته، ولكن حينما يُقدم بطريقة غير معقولة؛ وإنني لا أمنع كل تعليم بل أطلب الاعتدال فيه. وذلك مثل العسل، إذا ما أكثر المرء من تناوله بنهم يسبب قيئًا مع أنه عسل. يقول سليمان: "لكل شيء زمان"، وفي اعتقادي أن ما هو صالح لا يعود صالحًا إن أُستخدم بطريقة غير صالحة. وذلك كمن يقطف زهرة في غير فصل الشتاء، وكما أن ثوب الرجل لا يصلح لامرأة والعكس أيضًا صحيح. كما لا تليق الألعاب الرياضية في موضع نوح، ولا الدموع في موضع طرب، فإننا جميعًا لا نقبل الشيء في غير زمانه، بينما نوقّره إن اُستخدم في الوقت المناسب. أليس الأمر هكذا يا أصدقائي وإخوتي؟].
ج. دافع القدِّيس غريغوريوسعن البابا أثناسيوس الرسولي الذي اختفى وقت الضيق، حين حاول الأريوسيون قتله، وظهر في الوقت المناسب، قائلًا: [استحسن مشورة سليمان الحكيمة أن لكل شيء زمان. لهذا اختفى فترة، هاربًا في زمن الحرب، ليظهر في زمن السلم الذي سرعان ما حلّ بعد ذلك].
كما دافع عن هروبه هو حيث أُتهم بالهزيمة إذ يقول: [لكل شيء زمان: هناك وقت للهزيمة (للهروب)، وكما أظن لكل غرض أوان. من الأفضل أن نُهزم بكرامة من أن نكسب ونغلب بنصر خطير غير قانوني].
يُقدم سليمان الحكيم عده أمثلة لتأكيد أن لكل شيء زمان:
أ. "للولادة وقت وللموت وقت" [2]: الله في محبته لنا حدد موعد ولادتنا وأيضًا وقت رحيلنا من هذا العالم؛ هذا لا يعني أننا لا نهتم بحياتنا الجسدية بحجة أن الله قد عيَّن ساعة رحيلنا، وإن اهتمامنا لن يُجدي شيئًا. فقد طلب السيِّد المسيح من تلاميذه أن يهربوا متى اضطهدوا، ليس خوفًا من الموت، وإنما لأجل سلامهم.
وقد هاجم الأريوسيون البابا أثناسيوسبسبب هروبه منهم حينما حاولوا قتله. وفي دفاعه قال: [لقد قال الأب إسحق لابنه عيسو: " إنني قد شخت ولست أعرف يوم وفاتي" (تك 27: 2). أما ربنا فبكونه الله كلمة الآب، عرف الوقت الذي يعينه هو للجميع، وكان عالمًا بزمان آلامه الذي حدده هو شخصيًا لجسده، ومع هذا فلأنه صار إنسانًا لأجلنا اختفي حينما طلبوا (قتله) قبل حلول الزمن المحدد، وذلك كما نفعل نحن. وحينما كان يُضطهد كان يهرب متجنبًا مخططات أعدائه، وكان يجتاز في وسطهم].
إن كان الرب قد حدد موعد ميلادنا وموعد موتنا، مع هذا يضع على عاتقنا مسئولية الاهتمام بحياتنا الزمنية وصحة جسدنا وسلامته، فإنه أيضًا يُحدد موعد موت إنساننا العتيق وميلاد إنساننا الجديد حيث يتم الأمران معًا في وقت واحد في المعمودية (رؤ 6: 4-6)، ونحن أيضًا ملتزمون بالعمل بروح الله، مجتهدين ألاَّ نعيش حسب أعمال الإنسان العتيق بل حسب الإنسان الجديد.
* في اللحظة عينها قد مُتم ووُلدتم؛ وقد صار ماء الخلاص هذا في الحال هو قبركم وأُمكم، وما تحدث عنه سليمان بالنسبة للآخرين صار يُناسبكم أنتم أيضًا؛ إذ يقول: "للحَبَل وقت وللموت وقت". أما بالنسبة لكم فيحدث غير ذلك، إذ يكون للوت وقت يعقبه زمن للولادة، ويحدث الاثنان معًا إذ يسير ميلادكم (الروحي) جنبًا إلى جنب مع موتكم.
القديس كيرلس الأورشليمي
ما دام للميلاد وقت فلنستعد للرحيل، لأننا لا نعرف الوقت الذي يُحدده لنا الله هكذا نعيش في عالم لا استقرار فيه، لا نضمن حياتنا ولو إلى لحظة واحدة قادمة.
* أنت مولود ولهذا تموت: إن هربت من الموت أو تحاشيته أو دفعته عنك فلا يسعك أن ترجئه أو تمنعه عنك. إنه لآت حتمًا، ولو أبيت؛ وفي ساعة لا تعلمها...
طالما أنك لا تستطيع ها هنا أن تتمنى عدم الموت، فاخترْ أن تكون مع الأحياء لئلاَّ تموت إلى الأبد...
يا من تعمل ما بوسعك لترجئ الموت قليلًا، أعمل شيئًا لئلاَّ تموت إلى الأبد...
القديس أغسطينوس
ب. "للغرس وقت ولقلع المغروس وقت" [2]: لغرس الأشجار وقت معين ولاقتلاعها وقت خاص؛ هكذا أيضًا يغرس الله أممًا معينة ويسمح لها بالسلطة والقوة، ويسمح أيضًا باقتلاعها. فقد قامت أممٌ لم يكن ممكنًا أن يظن أحد أنها تنحدر، لكن في لحظات سمح الله بانهيارها، حتى يدرك الإنسان بطلان العالم كله.
يدرك المؤمن أن لغرس الأفكار المقدَّسة وقت ولاقتلاع الأفكار الشريرة غير اللائقة وقت، حيث يتعلم حياة الصلاة الدائمة والطلبة والمثابرة والاتكال على نعمة الله المجانية منتظرًا تقديس أفكاره وتنقيتها بروح الله القدُّوس.
لنُغرس كزيتونة في بيت الرب ولنقتلع من حقل هذا العالم الزائل!
ج. "للقتل وقت وللشفاء وقت" [3]: ربما عَنَى بذلك قتل الإنسان العتيق وشفاء الإنسان الجديد، الأمر الذي يتحقق في مياه المعمودية (رو 6: 4-6).
ولعله يقصد أن الحاجة تستلزم أحيانًا الحزم الشديد في القضاء، حيث يصدر أحيانًا الحكم بالإعدام لبُنيان الجامعة وإنقاذها ممن يمثلون خطرًا شديدًا عليها، وقد يحتاج الأمر إلى العفو والترفق.
يلاحظ هنا أنه يبدأ بالقتل ثم يليه الشفاء ليُظهر أن الحزم لا يحمل روح الانتقام والغيظ، وإنما لأجل البنيان والشفاء.
لا نخف من بطلان العالم فإننا وإن كنا نراه قتلًا لحياتنا الزمنية لكنه يحمل شفاء لحياتنا الأبدية. لنمت كي نحيا في الرب إلى الأبد!
د. "للهدم وقت وللبناء وقت" [3]: يلزم ألاَّ نقف عند الجانب السلبي: هدم الإنسان العتيق بأعماله وأفكاره، وإنما نمتد إلى الجانب الإيجابي وهو بناء الإنسان الجديد الداخلي وفضائله. فلا يكفي مثلًا هدم الكراهية وإنما يلزم قيام المحبة.
يبدأ بالهدم لأننا لا نستطيع إقامة بناء شامخ ما لم نحفر الأساسات
وكما يقول القديس أغسطينوس إننا بالاتضاع نهدم كبرياء تشامخنا، ونقيم أساسات بناء الروح الذي يرتفع إلى السموات!
يقول أيضًا: [دواء مرضك تواضع المسيح... لا ترتفع بل اتضع إذا شئت أن تُشفي. وإذا شئت أن تبلغ إلى سمو الله فابحث عنه أولًا في تواضعه... حين تأخذ تواضعه فترتفع معه... اُنظر إلى الشجرة كيف يبدأ النمو من أسفلها ثم ترتفع في الجو. جذورها في الأرض وفروعها إلى السماء. وهل تستطيع الشجرة أن ترتفع في الجو إذا لم تعتمد على جذورها في الأرض؟ إن شئت أن تبلغ السموات، بمعزل عن التواضع والمحبة، فلا أصل لك. حينذاك تطلب الهلاك لا النمو...].
لقد حان وقت الهدم، لأن خالق العالم كله يعلن: السماء والأرض تزولان (مت 5: 8)، ويحل وقت البناء حيث توجد سماء جديدة وأرض جديدة (رؤ 21: 1) ومدينة جديدة (رؤ 21: 2).
ه. "للبكاء وقت وللضحك وقت. للنوح وقت وللرقص وقت" [4]: إذ نمارس البكاء على نفوسنا بصلبنا مع ربنا يسوع المسيح، والنوح على خطايانا، نتمتع بفرح القيامة وبهجة (ضحك) السمائيين، ورقصات النفس، متهللين بعمل المسيح القائم من الأموات فينا. يقول المرتل: "في المساء يحل البكاء، وفي الصباح السرور (الترنم)" (مز 30: 5).
للبكاء وقت، فإننا مادمنا في هذا العالم - وادي الدموع - يليق بنا أن نقدم توبة دائمة عن خطايانا وضعفاتنا اليومية، حتى متى جاء يوم الرب لا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع (رؤ 21: 4).
* إذا بكيت هنا تنال راحة مع كل تعزية، وهناك إذا بكيت تذهب إلى العذاب...
* إِبكِ هنا قليلًا، لئلاَّ تبكي هناك الدهر في الظلمة الخارجية...
* إبكِ إذا صليت، لتجد نياحًا...
* بالدموع، حنة أخذت من الله صموئيل النبي...
مار إفرام السرياني
* طوبى للباكين من أجل الحق، لأنه من خلال دموعهم يرون باستمرار وجه الله.
* من يرى نفسه ميتًا بالخطايا، لا يحتاج أن يتعلم كيف يبكي.
* توجد دموع تحرق وتلهب، وأخرى تبهج وتزهر...
مار إسحق السرياني
و. "لتفريق الحجارة وقت ولجمع الحجارة وقت" [5]: تفريق الحجارة أو دحرجتها على الأرض (حسب الترجمة السبعينية) تُشير إلى قبول الأمم الوثنية
وكما يقول القديس جيروم: [أقام الله من حجارة الأمم الصلدة أولادًا لإبراهيم، فصاروا حجارة مقدسة تدور على الأرض (زك 9: 16) LXX]. إن كان الوقت قد حان لقبول الأمم الوثنية الإيمان والشهادة للسيِّد المسيح على الأرض... فسيأتي الوقت التي تتجمع كل الحجارة الحيَّة ليُعلن هيكل الله السماوي الذي قيل عنه: "مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية، الذي فيه كل البناء مُركَّبًا معًا، ينمو هيكلًا مقدسًا في الرب" (أف 2: 20-21). "من يغلب فسأجعله عمودًا في هيكل إلهي" (رؤ 3: 12). بالإيمان بدأ البناء الروحي لهيكل الرب بحجارة حيَّة لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح" (1 بط 2: 5)، ويتحقق كمال البناء بإعلانه في يوم الرب بناءً سماويًا باقيًا إلى الأبد.
بمعنى آخر لينهدم العالم فإنه بهدمه لا ينهدم بناؤنا الداخلي بل يُعلن في أعظم قوة بمجيء الرب على السحاب ودخولنا إلى مجده السماوي.
يُشير تفريق الحجارة وتجميعها إلى هدم مبنى قديم وإحلاله بآخر جديد... فإن كان العالم ببطلانه ينهار، لا نضطرب فإننا ننعم بعالم جديد، المدينة الباقية التي لها الأساسات التي صانعها وباركها الله (عب 11: 1).
تفريق الحجارة أيضًا يُشير إلى ردم الحقول بإلقاء الحجارة فيها تطمرها (2 مل 3: 19، 25)، وجمعها يُشير إلى إصلاح الحقول وجعلها صالحة للزراعة.
ربما يعني هنا هدم مبنى العهد القديم ليحل محله كنيسة العهد الجديد، وهدم حقل الشعب القديم ليقوم حقل العهد الجديد الممتد إلى أقاصي المسكونة... لكن لن تبقى الكنيسة محصورة بهذا العالم الزمني إنما تترقب انهيار العالم المادي وزوال ما هو منظور لننعم بما هو سماوي ونتمتع بالله غير المنظور... عندئذ نراه وجهًا لوجه.
تُجمع الحجارة أيضًا لعمل نصب تذكاري إشارة إلى إقامة عهدٍ بين فريقين، أو كتذكار لأحداث جسام، كالعمود الذي نصبه يعقوب (تك 28: 18؛ 31: 52)، وأكوام الحجارة فوق عخان وأبشالوم، أو لإقامة أقواس نصر علامة الغلبة، وتفريق الحجارة يُشير إلى نقض العهد أو إزالة أقواس نصر تذكارية.
إن كانت بالخطية تتفرق حجارة عهدنا مع الله وتنهدم أقواس النصر ضد عدو الخير، فلنسرع ونجمع الحجارة بروح الله ونجدد العهد في استحقاقات الدم، ونقيم أقواس النصر سريعًا، لأن الوقت مُقصّر والأيام شريرة، والعالم ينتهي ويزول.
ز. "للمعانقة وقت وللانفصال عن المعانقة وقت" [5]. في الأمثلة السابقة غالبًا ما يبدأ بالحديث المؤلم يليه الحديث المفرح، يبدأ بالولادة يليها الموت (بكون يوم الرحيل أعذب من يوم الولادة)، يبدأ بالقتل ويليه بالشفاء؛ الهدم يليه البناء، البكاء يليه الضحك، النوح يليه الرقص، تفريق الحجارة يليه جمعها، فلماذا يبدأ هنا بالمعانقة يليها الانفصال؟ هل الانفصال أفضل وأعذب؟ يرى بعض الآباء هنا إشارة إلى سمو الحياة البتولية، فقد قدّس العهد القديم الزواج وحث عليه كمعانقة حب... وكان الكل يترقب مجيء المسيَّا مولود المرأة لعله يأتي من نسله حسب الجسد؛ وقد جاء العهد الجديد الذي وإن قدّس الزواج لكنه يحث بالأكثر على البتولية بكونها انفصال عن المعانقة ليكرس المؤمن كل طاقاته للعبادة وللشهادة لملكوت الله المفرح. إنها دعوة ليست للجميع، وإنما من يقبل فليقبل. يقول الرسول بولس: "لأنيّ أُريد أن يكون جميع الناس كما أنا؛ لكن كل واحد له موهبته الخاصة من الله؛ الواحد هكذا والآخر هكذا... فأُريد أن تكونوا بلا هم؛ غير المتزوج يهتم فيما للرب كيف يرضي الرب، وأما المتزوج فيهتم فيما للعالم كيف يُرضي امرأته" (1 كو 7: 7، 32).
* كيف أشرح الاستحقاق العظيم والكرامة العالية التي للمؤمنين والبتولية المقدسة في نظر الله؛ فقد حان الوقت للإمساك عن المعانقة. حين يوجد حشد عظيم من كل الأمم يملأ عدد القدِّيسين، هل توجد حاجة لممارسة متعة الجسد الأرضية لإعطاء نسل؟!.
* قديمًا كان وقت للعناق، وأخيرًا فإنه وقت للإمساك عن العناق.
* بالنسبة لمسيحيّ عصرنا وقد تحرروا من رباط الزواج، إذ توفرت لديهم قوة الامتناع عن أية علاقات جسدية يرون أنه قد جاء الوقت الذي كتب عنه "للإمساك عن العناق وقت" وأنه ليس زمن المعانقة، ألا يختارون بالحري أن يحافظوا على بتوليتهم أو ترملهم؟!.
القديس أغسطينوس
هذا عن المفهوم الرمزي أما التفسير الحرفي فيعني أن الذين يتعانقون، أي أن المتزوجين ستنحل حياتهم الزوجية حتمًا في هذا العالم بوفاة أحد الطرفين، فيصير من تزوج كمن لم يتزوج... هذه طبيعة العالم الباطل، كما يقول الرسول إن الذين يستعملونه كمن لا يستعملونه، والذي يتزوجون كمن لم يتزوجوا.
ح. "للكسب (للبحث) وقت وللخسارة وقت" [6]: إن نال إنسان ما بركات زمنية يشكر، وإن فقدها يبارك الله الذي أعطى وأخذ، قائلًا مع أيوب البار: "الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركًا" (أي 1: 21).
ربما يُشير الكسب إلى العهد القديم حيث الوعود بالبركات الزمنية الكثيرة (تث 28)، والخسارة إلى العهد الجديد حيث يتهلل المؤمنون بالصليب ويفرحون بالتخلي بإرادتهم عما لديهم، حاسبين كل شيء نفاية لكي يربحوا المسيح (في 3: 8).
إن كان مجيئنا إلى العالم هو مكسب كعطية إلهية، فإن خروجنا منه خسارة لنربح ما هو أعظم: السماء الجديدة والأرض الجديدة (رؤ 21: 1)!
ط. "للصيانة وقت وللطرح وقت" [6]: يوجد وقت يُحتفظ بالشيء ويحاول الإنسان صيانته، لكن متى شعر أن إصلاحه يكلفه الكثير يطرحه ويتخلص منه ليقتني ما هو أحدث منه. هكذا نقتني نحن حياتنا الزمنية ونصونها بروح الله القدُّوس الذي يجددها ويقدسها، لكنه في الوقت المناسب تُطرح حياتنا الزمنية لنقتني حياة أسمى وأبقى!
هكذا أيضًا عاش الإنسان قديمًا تحت ظلال الناموس ورموزه، يحفظه حرفيًا كمن يصون لآلئ، أما وقد جاء السيِّد المسيح اللؤلؤة الكثيرة الثمن فإنه يطرح حرفية الناموس ويترك الظلال ليحيا في كمال الحق، مقتنيًا الحياة الجديدة في المسيح يسوع ربنا.
ك. "للتمزيق وقت وللتخييط وقت" [7]: ربما يُشير التمزيق إلى شدة الحزن، حيث اعتاد القدماء تمزيق ثيابهم عند حدوث كوارث قاسية، كما فعل رأوبين حينما رجع ولم يجد يوسف في البئر (تك 37: 29). وكما فعل أيوب عندما اشتدت به التجربة (أي 1: 20). ويُشير التخييط إلى الفرح وعودة السلام، ففي الأفراح يهتم كل أعضاء الأسرة بتخييط ملابس جديدة تليق بالفرح.
يُشير التمزيق أيضًا إلى انفصالنا عن العادات الشريرة، والتخييط إلى ارتباطنا بالحياة الفاضلة المقدسة في الرب.
يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [اعتقد أن معنى القول: "للتمزيق وقت وللخياطة وقت" أنه ينبغي أن ننفصل تمامًا عن كل ما ارتبطنا به في شرورنا وإن نلتصق بما هو خير].
ربما يُشير التمزيق إلى اعتزالنا الأشرار المعثرين، والخياطة إلى شركة السمائيين والقدِّيسين في المسيح يسوع رأس الجميع.
ل. "للسكوت (الصمت) وقت وللتكلم وقت" [7]: يبدأ بالسكوت حيث لا يليق النطق بكلمة إلاَّ بعد الصمت والتفكير الجاد.
يُشير السكوت إلى حياة التأمل الخفية، ويُشير التكلم إلى الشهادة للمخلص أمام الغير وخدمتهم، فإنه لا يكفي الصمت المقدس إنما يلزم التكلم أيضًا بكلمة الرب البنَّاءة.
* يذكر الجامعة أولًا الوقت اللازم للصمت، ثم يسمح بعد ذلك بوقت للكلام.
فمتى وما هي الموضوعات التي يكون فيها الصمت أفضل؟
يقول المهتمون بالسلوكيات إن الصمت دائمًا هو أفضل من الكلام. ويميز بولس الأوقات اللازمة للكلام وتلك اللازمة للصمت. أحيانًا يوصي بالصمت وأحيانًا أخرى بالكلام.
إذ يأتي وقت الكلام يقول: "لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم" (أف 4: 29).
ويوصي بالصمت قائلًا: "لتصمت نساؤكم في الكنائس... ولكن إن كُنَّ يردن أن يتعلَّمن شيئًا فليسألن رجالهن في البيت" (1كو 14: 34-35).
يكشف لنا عن الوقت الملائم للكلام، قائلًا: "لا تكذبوا بعضكم على بعض" (كو 3: 9...) "تكلموا بالصدق كل واحِد مع قريبه" (أف 4: 25).
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
* حينما يتطرق العقل إلى أمور تفوقه يكون وقت للصمت العميق، إذ بالأحرى يلزمه أن يحتفظ بالإعجاب أو الدهشة بتلك القوة غير المدركة ولا مفحوصة في أعماق ضمائرنا. وإذ يدرك أن هؤلاء الرجال العظماء يتحدثون لا عن (طبيعة) الله بل عن أعماله يقول: "من يتكلم بجبروت الرب؟!"، "أُحدِّث بجميع عجائبك"، "دور إلى دور يسبح أعمالك" (مز 106: 2؛ 9: 1؛ 145: 4)... هكذا يكون الحديث عن (أعمال) الله؛ أما عن التطرق إلى جوهره فيكون وقت للصمت.
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
يلزمنا أن نصمت لنتأمل في الله وننعم بإشراقاته علينا، عندئذ ننطلق بكلمات النعمة، ونشهد لعمله في حياتنا ونعمته الغنيَّة وانفتاح باب ملكوته لكل بشر. هذا ويليق بنا ألا نتحدث كثيرًا فيما يفوق العقل من أمور إلهية لا يُعبَّر عنها.
يوصينا الآباء خلال الفكر الإنجيلي أن نحفظ السكون ونهرب من كثرة الكلام الباطل، الذي يُفقد النفس هدوءها وشركتها مع الله.
كما يُحذرنا الآباء من الكلام الباطل المفسد لسلام النفس. هكذا يحذوننا من الصمت الباطل أيضًا، الذي لا يصاحبه صلاة وشركة مع الله وسهر من أجل الملكوت.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم بأنه يوجد كلام صالح وكلام بطّال، كما يوجد صمت صالح وصمت بطال... يلزمنا أن نعرف متى نصمت ومتى نتكلم، وكيف نصمت وبماذا نتكلم.
* كلما أكثر الإنسان من الهرب من الثرثرة بلسانه استنار ذهنه بالأكثر، فيستطيع أن يفرز الأفكار العميقة ويُقيِّمها، لأن العقل يرتبك بالثرثرة.
مار إسحق السرياني
* إن كنا سنعطي حسابًا عن كل كلمة بطَّالة، فلنتوخَّ الحذر لكي لا ننطق بها، أيضًا لنحذر الصمت البطال!
لكن يوجد صمت فعَّال، كصمت سوسنة التي فعلت بصمتها أكثر مما لو تكلمت. لأن بصمتها أمام الناس، تكلمت مع الله، ولم تجد دليلًا على عفتها أقوى من الصمت. نطق ضميرها عندما لم تجد كلمة تتفوه بها، ولم تطلب حكمًا من الناس، إذ كان لها شهادة الرب. لهذا اشتاقت أن يُبرِّأها الله نفسه، وهي تعلم أنه لا يمكن أن يُخدع بأية وسيلة.
كان الرب نفسه أيضًا يعمل في صمت ليتمم خلاص البشر.
سأل داود ألاَّ تنشغل نفسه بالصمت الجامد بل بالسهر والتدقيق.
القديس أمبروسيوس
* مع ذلك يوجد وقت للكلام عن تلك الأمور التي بها نتقدم في الفضيلة في حياتنا.
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
م. "للحب وقت وللبغضة وقت" [8]: في وداعة الحب كانت القدِّيسة دميانة تخضع لوالدها مرقس والي البرلس، وإذ أنكر الإيمان ففي حزم أشبه بالبغضة قالت له أنه إن لم يرجع إلى الإيمان بالتوبة لن تحسبه والدها، ولا هي ابنته.
لنُحب الكل في الرب، ولنكن حازمين فنبدو كمبغِضين لأجل خلاصنا وخلاصهم.
ن. "للحرب وقت وللصلح وقت" [8]؛ يحتاج الأمر أحيانًا إلى الحزم الذي يُشبه حربًا، عندئذ يلزمنا أن نعرف كيف نُصالح ونضمد الجراحات، لهذا ذَكر الصلح بعد الحرب، حتى لا نتوقف عند الحزم والشدة ما استطعنا. حتى إن أدبت الكنيسة الهراطقة فهي تترقب بشوق رجوعهم إلى الحق ومصالحتهم.
لعل أروع مثل في هذا هو القديس كيرلس الكبيرالذي للأسف يُهاجمه بعض الدارسين كقائد عنيف ضد نسطور؛ نقرأ في إحدى رسائله لنسطور أنه لا يوجد من يحبه مثله.
2. خطة الله الأبدية (فوق الزمن):

11 صَنَعَ الْكُلَّ حَسَنًا فِي وَقْتِهِ، وَأَيْضًا جَعَلَ الأَبَدِيَّةَ فِي قَلْبِهِمِ، الَّتِي بِلاَهَا لاَ يُدْرِكُ الإِنْسَانُ الْعَمَلَ الَّذِي يَعْمَلُهُ اللهُ مِنَ الْبِدَايَةِ إِلَى النِّهَايَةِ. 12 عَرَفْتُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ خَيْرٌ، إِلاَّ أَنْ يَفْرَحُوا وَيَفْعَلُوا خَيْرًا فِي حَيَاتِهِمْ. 13 وَأَيْضًا أَنْ يَأْكُلَ كُلُّ إِنْسَانٍ وَيَشْرَبَ وَيَرَى خَيْرًا مِنْ كُلِّ تَعَبِهِ، فَهُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. 14 قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ كُلَّ مَا يَعْمَلُهُ اللهُ أَنَّهُ يَكُونُ إِلَى الأَبَدِ. لاَ شَيْءَ يُزَادُ عَلَيْهِ، وَلاَ شَيْءَ يُنْقَصُ مِنْهُ، وَأَنَّ اللهَ عَمِلَهُ حَتَّى يَخَافُوا أَمَامَهُ. 15 مَا كَانَ فَمِنَ الْقِدَمِ هُوَ، وَمَا يَكُونُ فَمِنَ الْقِدَمِ قَدْ كَانَ. وَاللهُ يَطْلُبُ مَا قَدْ مَضَى.

واضح من الأمثلة السابقة الآتي:
أ. إن لكل شيء زمان... وكأنه ليس شيء صالحًا بذاته، إنما حسب استخدامنا له بالقدر اللائق وفي الوقت اللائق به.
* الأمور التي نستخدمها في ظروف معينة وأوقات مناسبة فتقدسنا... هي أمور ليست صالحة ولا شريرة، وذلك مثل الزواج والزراعة والثروة والاعتزال في الصحراء والأسهار وقراءة الكتاب المقدس والتأمل فيه والصوم... فإن هذه الأمور أو بعضها أمرنا أسلافنا أن ننفذها بتبصر، وإن نهتم بالدافع لها ومكان التنفيذ والوسيلة والزمن. لأننا متى نفذناها بطريقة مناسبة تصير صالحة وملائمة، وإن استخدمناها بانحراف تصير شريرة ومؤذية... فالصوم يعتبر شرًا بالنسبة للذين يترقبون به مديح الناس...
الأب ثيوناس
ب. إن لكل شيء زمان... فليس شيء ما يبقى أبديًا!
ج. إن لكل شيء زمان، يعجز الإنسان عن إدراك مقاصد الله وتدابيره الفائقة وتغييرها.
د. تُشير الأمثلة السابقة إلى عمل الله معنا، فقد جاء الزمن الجديد الذي فيه انتقلنا من عهد الناموس إلى عهد النعمة، من مرحلة الطفولة الروحية إلى النضوج، من الظل والحرف إلى الحق والروح، من وقت المكاسب الزمنية إلى الخسارة المفرحة من أجل من قدَّم حياته مبذولة لأجلنا، من أوان الخصومة والعداوة مع الله إلى المصالحة معه كأهل بيته!‍
ه. الله الذي خلق الزمن ولا يخضع له، من أجل تدبير خلاصنا خضع بإرادته للزمن، إذ أخذ طبيعتنا وقبل الموت في جسده عنا.
و. إن كان الله كخالق محب للبشر "صنع الكل حسنًا في وقته" [11]. وكل ما خلقه صالح وبتدبير حسن، إلاَّ أنه يرفعنا إلى ما فوق الزمن... خضع للزمن لكي يرفعنا نحن إلى ما فوق الزمن، فقد "جعل الأبدية في قلبهم التي بلاها لا يُدرك الإنسان العمل الذي يعمله الله من البداية إلى النهاية" [11].
لفظة "الأبدية" هنا هي من أكثر الكلمات التي ثار حولها جدل في سفر الجامعة. اقترح البعض أنها "الكون" والبعض "سرّ" أو "نسيان"، والبعض حسبها مشتقة عن الأصل الأوجاريتي Ugaritie "glm" تعني "يصير مظلمًا"، قائلين بأن الله صنع كل شيء جميلًا وملائمًا لكن الإنسان عاجز عن إدراك أسرار خطة الله وحكمته لأن الظلام قد خيَّم على فكره وفي قلبه.
ز. لئلاَّ يظن أحد أن ارتفاع القلب إلى السموات أو إلى الأبدية يدفعنا إلى الغم أو الاستهتار بالحياة الزمنية، يعود فيؤكد أن كل ما نناله أو نمارسه بحكمة إنما هو هبة إلهية: "عرفت أنه ليس لهم خير إلاَّ أن يفرحوا ويفعلوا خيرًا في حياتهم؛ وأيضًا أن يأكل كل إنسان ويشرب ويرى خيرًا من تعبه فهو عطية الله" [12-13].
لا يمكن اتهام الجامعة بأية اتجاهات مادية أو مُتَعيَّة hedonistic، أي أن المتعة أو اللذة هي الخير الأوحد في الحياة الدنيا، إنما كما سبق فقلنا يحمل اتجاهًا تسبيحيًا خلاله يشعر المؤمن أن كل ما بين يديه هو هبة الله، حتى الأكل والشرب، فيجد متعة في الحياة لأنها تحمل بصمات حب الله الفائق. يشعر أن الظروف التي يعيشها والإمكانيات التي بين يديه هي أفضل ما تناسبه في هذه الحياة كتهيئة للحياة الأبدية، فيمارس حياته بروح التسبيح والفرح.
ح. "لكل شيء زمان" كان الله يتعامل مع رجال العهد القديم كأطفال في الإيمان يحثهم على القداسة بالبركات الزمنية، بينما مع رجال العهد الجديد يحثهم كرجال على القداسة بحمل الصليب وشركة الآلام معه؛ مع هذا ففي معاملاته وعهوده وحبه لم يتغير. نحن نتغير ونُغير وضعنا بالنسبة له، لذا قيل: "قد عرفت أن كل ما يعمله الله أنه يكون إلى الأبد؛ لا شيء يُزاد عليه ولا شيء يُنقص منه" [14].
ولئلاَّ يظن أن معاملات الله مع كنيسة العهد الجديد هي على حساب رجال العهد القديم يقول: "الله يطلب ما قد مضى" [15].
3. ظلم الإنسان يُفسد العالم:

16 وَأَيْضًا رَأَيْتُ تَحْتَ الشَّمْسِ: مَوْضِعَ الْحَقِّ هُنَاكَ الظُّلْمُ، وَمَوْضِعَ الْعَدْلِ هُنَاكَ الْجَوْرُ! 17 فَقُلْتُ فِي قَلْبِي: «اللهُ يَدِينُ الصِّدِّيقَ وَالشِّرِّيرَ، لأَنَّ لِكُلِّ أَمْرٍ وَلِكُلِّ عَمَل وَقْتًا هُنَاكَ». 18 قُلْتُ فِي قَلْبِي: «مِنْ جِهَةِ أُمُورِ بَنِي الْبَشَرِ، إِنَّ اللهَ يَمْتَحِنُهُمْ لِيُرِيَهُمْ أَنَّهُ كَمَا الْبَهِيمَةِ هكَذَا هُمْ». 19 لأَنَّ مَا يَحْدُثُ لِبَنِي الْبَشَرِ يَحْدُثُ لِلْبَهِيمَةِ، وَحَادِثَةٌ وَاحِدَةٌ لَهُمْ. مَوْتُ هذَا كَمَوْتِ ذَاكَ، وَنَسَمَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْكُلِّ. فَلَيْسَ لِلإِنْسَانِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْبَهِيمَةِ، لأَنَّ كِلَيْهِمَا بَاطِلٌ. 20 يَذْهَبُ كِلاَهُمَا إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ. كَانَ كِلاَهُمَا مِنَ التُّرَابِ، وَإِلَى التُّرَابِ يَعُودُ كِلاَهُمَا. 21 مَنْ يَعْلَمُ رُوحَ بَنِي الْبَشَرِ هَلْ هِيَ تَصْعَدُ إِلَى فَوْق؟ وَرُوحَ الْبَهِيمَةِ هَلْ هِيَ تَنْزِلُ إِلَى أَسْفَلَ، إِلَى الأَرْضِ؟ 22 فَرَأَيْتُ أَنَّهُ لاَ شَيْءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَفْرَحَ الإِنْسَانُ بِأَعْمَالِهِ، لأَنَّ ذلِكَ نَصِيبَهُ. لأَنَّهُ مَنْ يَأْتِي بِهِ لِيَرَى مَا سَيَكُونُ بَعْدَهُ؟

إن كان لكل شيء زمان [1]، وإن الله الصالح قد صنع كل شيء حسنًا أو جميلًا في وقته [11]، فإن ما حلَّ بالعالم من فساد ليس هو عن طبيعة العالم ذاته، وإنما خلال ظلم الإنسان وجوره لأخيه الإنسان.
أية شهادة عن بطلان العالم مثل احتلال الظلم موضع الحق، والجور موضع العدل [16]؟ ينتشر الفساد في عمق ساحات العدل! لكن الجامعة يؤمن بقضاء الله العادل. فساد العالم لا يعني أن الأمور تسير بطريقة اعتباطية بلا ضابط، إنما ينتظر الله الوقت المناسب ليدين الصدِّيق والشرير [17]. "لأن لكل أمرٍ ولكل عملٍ وقتًا هناك" [17]. بمعنى آخر إن كان الإنسان بفساده أساء إلى العالم إذ لم يضع كل شيء في زمانه المناسب وفي نصابه، فاحتل الظلم موضع العدل... مع هذا فإن الله يتدخل ليُصلح الموقف، لكن أيضًا في حينه.
يظن الإنسان الطبيعي أن الإنسان كالبهيمة يخضعان للموت بلا تمييز بينهما، فهل تصعد روح الإنسان إلى فوق وتنزل روح البهيمة إلى أسفل تحت الأرض؟
إن كان الموت يحل بالصدِّيق والشرير، بالإنسان والحيوان، لكن البار وقد التصق بخالقه لا يخشى الموت الذي هو آخر باب يفصله عن إلهه.

 
قديم 13 - 01 - 2025, 06:00 PM   رقم المشاركة : ( 183745 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,293,420

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة


بطلان السعي وراء الملذات:

1 قُلْتُ أَنَا فِي قَلْبِي: «هَلُمَّ أَمْتَحِنُكَ بِالْفَرَحِ فَتَرَى خَيْرًا». وَإِذَا هذَا أَيْضًا بَاطِلٌ. 2 لِلضَّحْكِ قُلْتُ: «مَجْنُونٌ» وَلِلْفَرَحِ: «مَاذَا يَفْعَلُ؟». 3 اِفْتَكَرْتُ فِي قَلْبِي أَنْ أُعَلِّلَ جَسَدِي بِالْخَمْرِ، وَقَلْبِي يَلْهَجُ بِالْحِكْمَةِ، وَأَنْ آخُذَ بِالْحَمَاقَةِ، حَتَّى أَرَى مَا هُوَ الْخَيْرُ لِبَنِي الْبَشَرِ حَتَّى يَفْعَلُوهُ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ مُدَّةَ أَيَّامِ حَيَاتِهِمْ.

حاول الجامعة "كوهيليث" أن يجد ضالته في اللذة المسعورة أو الإثارة الحسِّية، فانصرف إلى المباهج الجسدانية كمصدر يمكن أن يمنحه الشبع؛ فراح يغترف من ملذات الطعام الحسِّية والتي يُرمز إليها بالخمر، فكانت تعطيه لذة وقتية زائلة، وليس شبعًا دائمًا.
 
قديم 13 - 01 - 2025, 06:01 PM   رقم المشاركة : ( 183746 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,293,420

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة


"قلت أنا في قلبي:
هلُمَّ امتحنك بالفرح فترى خيرًا (فتستمتع بالسعادة).
وإذا هذا أيضًا باطل.
للضحك قلت: مجنون!
وللفرح: ماذا ينفع؟!" [1-2].
ناجَى سليمان قلبه عوض أن يناقش الأمر مع الله بروح الصلاة والتقوى، قائلًا: جرِّب الضحك والأكل والشرب (الخمر) واطرد الهم وتمتع بالسعادة؛ وذلك كما قال الغني الغبي: "وأقول لنفسي: يا نفسي لكِ خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة؛ استريحي وكُليِ واشربي وافرحي" (لو 12: 19).
كثيرون يظنون أن السعادة تكمن في حياة اللهو والحفلات والأفراح الزمنية، بما تحويه من أكل وشرب وتسلية وضحك... هؤلاء لا يميزون بين الفرح الداخلي الذي يهب بشاشة دائمة وسلامًا حقيقيًا وبين ضحكات اللهو التي تنبع عن فراغ داخلي. الفرح الداخلي هو غذاء للنفس يقوتها ويُنمّيها فتتسع لتحمل في داخلها ملكوت الله المفرح، أما الفرح الزمني خارج دائرة الله فيُخدِّر الإنسان، ولا يُشبع أعماقه بل يزيده حزنًا... لذا يدعوه الحكيم مجنونًا! كثيرون يلجأون إلى المخدرات وأصدقاء السوء للهروب من مشاكلهم، فإذا بهم يرتمون في مشاكل أخطر تمس كيانهم الداخلي.
قال للضحك: "مجنون"، لأنه لا يقدر أن يحوّل قلبه إلى السعادة الحقيقية، إنما يقدم تغطية مؤقتة للحزن الداخلي والمرارة الخفية. ولعله يدعوه هكذا لأنه يحثه على الابتعاد عن الله الذي هو "الفرح الحقيقي"، إذ قيل: "يحملون الدّف والعود ويطربون بصوت المزمار؛ يقضون أيامهم بالخير، في لحظة يهبطون إلى الهاوية؛ فيقولون لله: ابعد عنا؛ وبمعرفة طرقك لا نُسر" (أي 21: 12-14).
يقول للفرح الظاهري: ماذا ينفع؟ إذ يدرك أن الضحك لا يُصلح القلب ولا ينزع عنه كآبته. لذا قيل: "يغني أغاني لقلب كئيب (مهموم)" (أم 25: 20)... كان يليق به عوض اللهو أن يلجأ إلى دموع التوبة، التي تهب فرحًا داخليًا وبشاشة صادقة، لأن الخطية تُحطم القلب وتملأه كآبة مُرة!
مع الضحك أو اللهو التجأ سليمان إلى شرب الخمر، وقد ظن أنه قادر أن يعلل جسده بالخمر بينما يلهج قلبه بالحكمة [3]، أي يشربها لكي تصير له خبرة ولكي يتحقق إن كان يمكن للخمر أن تُشبع حياته، لكنه وجد في ذلك حماقة، لأن "الخمر مستهزئة، المسكر عجَّاج raging، ومن يترنح بهما فليس بحكيم" (أم 20: 1). إنه بهذا يشبه من أراد أن يعبد الله والمال في آن واحد.
يحدثنا القدِّيس باسيليوس الكبير عن خطورة السعي وراء الملذات، قائلًا: [الحيوانات أرضية تجنح إلى الأرض... رأسها منحنِ نحو الأرض، وهي تنظر إلى بطنها تفتش عن الأشياء التي تلذّ لها. أما أنت أيها الإنسان فرأسك مرتفع نحو السماء، وعيناك تنظران إلى العلى، فإذا كنت تتلطخ بشهوات الجسد، وتتعبد للذَّات الجوف، وللذَّات السفلى، فأنت بهذا تقترب من الحيوانات التي لا تعقل وتتشبه بها. إنيّ أعرض عليك الاهتمام بأمر آخر يليق بك، "اطلبوا ما فوق حيث المسيح" (كو 3: 1). ارتفع فوق أعراض الدنيا الزائلة، وتعلَّم من تكوينك الجسدي، وأجعله قانونًا لحياتك. فمدينتك هي السماء، ووطنك الحقيقي هو أورشليم العليا، ومواطنيك هم الأبكار، الذين كُتبت أسماؤهم في السموات].
مرة أخرى يقول: [حرص الفلاسفة والمفكرون على البحث عن غاية الإنسان على هذه الأرض. لكنهم اختلفوا فيما بينهم في هذا الشأن، وتضاربت آراؤهم وتعددت مذاهبهم. فزعم البعض منهم أن غاية الإنسان هي العلم؛ بينما قال آخرون إنها العمل. قال البعض إن غاية الإنسان هي احتقار الجسد وإخضاعه لسيطرة العقل، وتعزيز الروح واعتبارها القوة العظمى في الإنسان، بينما قال آخرون إن غاية الإنسان في هذه الحياة إنما هي التمتع باللذّات وطيِّبات الحياة. أما نحن فالغاية التي نسعى إليها والتي نصبو للوصول إليها بكل حرص واجتهاد هي الحياة السعيدة مع الله في السماء الخالدة، ولا شيء في الدنيا يوازي هذا السعي الحميد شرفًا وعظمة للخليقة العاقلة].
 
قديم 13 - 01 - 2025, 06:03 PM   رقم المشاركة : ( 183747 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,293,420

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

يحدثنا القدِّيس باسيليوس الكبير عن خطورة السعي وراء الملذات، قائلًا: [الحيوانات أرضية تجنح إلى الأرض... رأسها منحنِ نحو الأرض، وهي تنظر إلى بطنها تفتش عن الأشياء التي تلذّ لها. أما أنت أيها الإنسان فرأسك مرتفع نحو السماء، وعيناك تنظران إلى العلى، فإذا كنت تتلطخ بشهوات الجسد، وتتعبد للذَّات الجوف، وللذَّات السفلى، فأنت بهذا تقترب من الحيوانات التي لا تعقل وتتشبه بها. إنيّ أعرض عليك الاهتمام بأمر آخر يليق بك، "اطلبوا ما فوق حيث المسيح" (كو 3: 1). ارتفع فوق أعراض الدنيا الزائلة، وتعلَّم من تكوينك الجسدي، وأجعله قانونًا لحياتك. فمدينتك هي السماء، ووطنك الحقيقي هو أورشليم العليا، ومواطنيك هم الأبكار، الذين كُتبت أسماؤهم في السموات].
مرة أخرى يقول: [حرص الفلاسفة والمفكرون على البحث عن غاية الإنسان على هذه الأرض. لكنهم اختلفوا فيما بينهم في هذا الشأن، وتضاربت آراؤهم وتعددت مذاهبهم. فزعم البعض منهم أن غاية الإنسان هي العلم؛ بينما قال آخرون إنها العمل. قال البعض إن غاية الإنسان هي احتقار الجسد وإخضاعه لسيطرة العقل، وتعزيز الروح واعتبارها القوة العظمى في الإنسان، بينما قال آخرون إن غاية الإنسان في هذه الحياة إنما هي التمتع باللذّات وطيِّبات الحياة. أما نحن فالغاية التي نسعى إليها والتي نصبو للوصول إليها بكل حرص واجتهاد هي الحياة السعيدة مع الله في السماء الخالدة، ولا شيء في الدنيا يوازي هذا السعي الحميد شرفًا وعظمة للخليقة العاقلة].
 
قديم 13 - 01 - 2025, 06:04 PM   رقم المشاركة : ( 183748 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,293,420

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة


بطلان السعي وراء الثروات:

4 فَعَظَّمْتُ عَمَلِي: بَنَيْتُ لِنَفْسِي بُيُوتًا، غَرَسْتُ لِنَفْسِي كُرُومًا. 5 عَمِلْتُ لِنَفْسِي جَنَّاتٍ وَفَرَادِيسَ، وَغَرَسْتُ فِيهَا أَشْجَارًا مِنْ كُلِّ نَوْعِ ثَمَرٍ. 6 عَمِلْتُ لِنَفْسِي بِرَكَ مِيَاهٍ لِتُسْقَى بِهَا الْمَغَارِسُ الْمُنْبِتَةُ الشَّجَرَ. 7 قَنَيْتُ عَبِيدًا وَجَوَارِيَ، وَكَانَ لِي وُلْدَانُ الْبَيْتِ. وَكَانَتْ لِي أَيْضًا قِنْيَةُ بَقَرٍ وَغَنَمٍ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ كَانُوا فِي أُورُشَلِيمَ قَبْلِي. 8 جَمَعْتُ لِنَفْسِي أَيْضًا فِضَّةً وَذَهَبًا وَخُصُوصِيَّاتِ الْمُلُوكِ وَالْبُلْدَانِ. اتَّخَذْتُ لِنَفْسِي مُغَنِّينَ وَمُغَنِّيَاتٍ وَتَنَعُّمَاتِ بَنِي الْبَشَرِ، سَيِّدَةً وَسَيِّدَاتٍ. 9 فَعَظُمْتُ وَازْدَدْتُ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلِي فِي أُورُشَلِيمَ، وَبَقِيَتْ أَيْضًا حِكْمَتِي مَعِي. 10 وَمَهْمَا اشْتَهَتْهُ عَيْنَايَ لَمْ أُمْسِكْهُ عَنْهُمَا. لَمْ أَمْنَعْ قَلْبِي مِنْ كُلِّ فَرَحٍ، لأَنَّ قَلْبِي فَرِحَ بِكُلِّ تَعَبِي. وَهذَا كَانَ نَصِيبِي مِنْ كُلِّ تَعَبِي. 11 ثُمَّ الْتَفَتُّ أَنَا إِلَى كُلِّ أَعْمَالِي الَّتِي عَمِلَتْهَا يَدَايَ، وَإِلَى التَّعَبِ الَّذِي تَعِبْتُهُ فِي عَمَلِهِ، فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ، وَلاَ مَنْفَعَةَ تَحْتَ الشَّمْسِ.

زَوَّد الجامعة نفسه بالمباهج العالمية والمباني الفخمة والعبيد والفضة والذهب والأمور الخاصة بالملوك دون سواهم، لكن لم يكن ذلك من قِبَلْ النكوص إلى الطفولة غير الملتزمة أو الهروب إليها، كما كان يفعل اليونانيون منغمسين في الملذات والانشغال بالمظاهر هربًا من المسئولية. وكما جاء في سفر الحكمة: "لأنهم قالوا في أنفسهم مفتكرين افتكارًا غير مستقيم، إن عمرنا هو يسير محزن... فهلم إذًا نتمتع بالخيرات الموجودة، ونستعمل الملذات في البرية ما دام زمان شيبوبة، فنمتلئ من الخمر الفائقة والطيوب ولا يفوتنا نسيم زهر الربيع..." (حك 2: 1، 6، 7).
وإنما كانت هكذا عادة اليهود للتعبير عن القوة وذلك بإقامة ولائم ومباني فاخرة، وباختصار أن يصير سيدًا للفنون.
 
قديم 13 - 01 - 2025, 06:05 PM   رقم المشاركة : ( 183749 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,293,420

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة


اِنغمس كثيرًا في التشييد والبناء، في المدن كما في القرى، إذ يقول:
"بنيت لنفسي بيوتًا" [4].

قيل عنه: "وهذا هو سبب التسخير الذي جعله الملك سليمان لبناء بيت الرب وبيته والقلعة وسور أورشليم، وحاصور ومجدو وجازر... وجميع مدن المخازن التي كانت لسليمان ومُدن المركبات ومدن الفرسان، ومرغوب سليمان الذي رغب أن يبنيه في أورشليم وفي لبنان وفي كل أرض سلطته" (1 مل 9: 15-19). لقد شيَّد مبانٍ كثيرة لكنه بدأ ببناء بين الرب، وليس كأولئك الذين قيل لهم: "هل الوقت لكم أنتم أن تسكنوا في بيوتكم المغشاة وهذا البيت خراب؟!" (حج 1: 3)... هذا وقد وظّف أيضًا العديد من فقراء العاملين لنفعهم. هذا هو الجانب الطيب من ناحية سليمان في اهتمامه بالتشييد والبناء، لكن ربما ما أفسده عمله إلى حين ظنه بأن هذه المشاريع تقدر أن تُشبع نفسه وتروي رغبته في المجد الزمني، إذ يقول: " فعظمتُ عملي" [4].
بناء البيوت ليس خطية، لكن الخطية هي أن ننشغل ببناء بيوت لراحة أجسادنا دون أن نقدم بيتًا للرب في أعماقنا. ليستريح الرب في قلوبنا فيعطي راحة لأجسادنا أيضًا، ويلهب قلوبنا بنار الحب فتشتاق أن نرحل لنسكن معه ونستريح في أحضانه الإلهية عوض الانشغال بالعظمة الزمنية والمجد الباطل. ليسكن الرب في قلبنا كبيت خاص به، فنسكن نحن في سمواته كبيتنا الأبدي الخاص بنا، ولا يستطيع العالم كله أن يجتذبنا إليه.
* من يهرب من المجد الباطل بمعرفةٍ، يتذوق في نفسه (رجاء) الدهر الآتي.
* ما أن يختار الإنسان التحرر من القنية حتى ينشغل فكره بالرحيل عن العالم؛ فيجعل حياة ما بعد القيامة لهجِهِ الدائم، ويسعى نحو الاستعداد الدائم (للرحيل)، الأمر الذي هو نافع له، يبدأ يحتقر كل ما يجلب كرامة (زمنية) أو راحة جسدية، ويتغلغل هذا في أفكاره، وينتعش ذهنه دائمًا بالتفكير في احتقار العالم.
مار إسحق السرياني
يحثنا الآباء على بناء بيت الرب الداخلي وهيكله ومذبحه في قلوبنا:
* أهلني يا ربي يسوع المسيح أن أُساهم في بناء بيتك...!
أما مسكن الرب الذي يُريدنا أن نقيمه فهو القداسة... بهذا يقدر كل إنسان أن يقيم لله خيمة داخل قلبه.
* ليكن للنفس مذبح في وسط القلب، عليه تُقدم ذبائح الصلاة ومحرقاب الرحمة، فتُذبح فوقه ثيران الكبرياء بسكين الوداعة، وتُقتل عليه كباش الغضب وماعز التنعم والشهوات...
لتعرف النفس كيف تُقيم داخل قدس أقداس قلبها منارة تضيء بغير انقطاع!
العلامة أوريجينوس
 
قديم 13 - 01 - 2025, 06:06 PM   رقم المشاركة : ( 183750 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,293,420

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

* من يهرب من المجد الباطل بمعرفةٍ، يتذوق في نفسه (رجاء) الدهر الآتي.
* ما أن يختار الإنسان التحرر من القنية حتى ينشغل فكره بالرحيل عن العالم؛ فيجعل حياة ما بعد القيامة لهجِهِ الدائم، ويسعى نحو الاستعداد الدائم (للرحيل)، الأمر الذي هو نافع له، يبدأ يحتقر كل ما يجلب كرامة (زمنية) أو راحة جسدية، ويتغلغل هذا في أفكاره، وينتعش ذهنه دائمًا بالتفكير في احتقار العالم.

مار إسحق السرياني
 
موضوع مغلق


الانتقال السريع


الساعة الآن 08:04 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025