منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 22 - 07 - 2014, 08:05 PM   رقم المشاركة : ( 171 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,563

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 147 (146، 147 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير
التسبيح وأورشليم الجديدة!



في الترجمة السبعينية ينقسم المزمور 147 حسب النص العبري إلى مزمورين، الأول المزمور 146 ويضم الآيات 1 إلى 11، والثاني المزمور 147 ويضم الآيات من 12 حتى نهاية المزمور.
جاء هذا المزمور في العبرية كما في الكلدانية والفولجاتا بدون عنوان، ونُسب في ترجمات أخرى لحجَّي وزكريا النبيين.
يرى البعض مثل القديس يوحنا الذهبي الفم[1] أن هذا المزمور كُتب أثناء انشغال اليهود بإعادة بناء مدينة أورشليم بعد العودة من السبي كما يظهر من العددين 2 و13. فقد رجع اليهود تدريجيًا، وعاد تعمير أورشليم. تحقق هذا بالرب نفسه الذي كان يعمل في قلب كورش ملك فارس ومادي لصالح شعبه [2].

1. يسكب التسبيح جمالًا روحيًا ممتعًا على شعب الله [1؛ مز 27: 4؛ 29: 2؛ 149: 4].
2. بالتسبيح يجتذب الرب النفوس البعيدة "منفيّي إسرائيل"، ليبني بهم أورشليم العليا المقدسة فيه، ويوحدهم معًا [2].
3. بالتسبيح يشفي الرب الإنسان الداخلي [3].
4. بالتسبيح يرفع الله النفوس الوديعة كما إلى السماء، أما الأشرار الجاحدون له فيهبطون.
5. بالتسبيح ننعم بحياة الشركة مع القدوس، يقدم لنا مياه نعمته العاملة فينا.
6. التسبيح ينبوع حقيقي للبركات الإلهية [14-20].

1. التسبيح صالح وملذ
1.
2. التسبيح والبناء الكنسي
2.
3. التسبيح شفاء للنفس
3.
4. التسبيح والكواكب السماوية
4.
5. التسبيح والتمتع بالقوة الإلهية
5-11.
6. التسبيح والشركة مع الله
12-18.
7. التسبيح والتمتع بالوصية الإلهية
19-20.
من وحي المزمور 147
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
العنوان

جاء عن الترجمة القبطية والسبعينية مثل عنوان المزمور السابق: "مرسوم بهللويا. لحجَّي وزكريا".
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]1. التسبيح صالح وملذ [/FONT]

سَبِّحُوا الرَّبَّ،
لأَنَّ التَّرَنُّمَ لإِلَهِنَا صَالِحٌ.
لأَنَّهُ مُلِذٌّ.
التَّسْبِيحُ لاَئِقٌ [1].
كم كانت بهجة الكل حين أعيد بناء أورشليم بعد العودة من السبي البابلي! هكذا يليق بالمؤمن وهو يتمتع في أعماقه بعمل روح الله القدوس، الذي يقيم مدينة الله في قلبه أن يختبر الحياة السماوية المتهللة، ويتذوق لذة التسبيح لملك الملوك.
يقول المرتل عن خبرة يومية في كل حياته: "الترنم ملذ"، أي يهب عذوبة داخل النفس، يشبعها بالفرح والبهجة. وفي نفس الوقت يقول: "التسبيح لائق"، إذ يليق بكل كائن عاقل أن يتعرف على خالقه وملِكَه، الرحوم، محب خليقته. "حسن هو الحمد للرب، والترنم لاسمك أيها العلي، أن يخبر برحمتك في الغداة" (مز 92: 1-2).
* قيل لنا: "سبحوا الرب"؛ هذه قيلت لكل الأمم، وليس لنا وحدنا...
كأننا نسأل: لماذا يلزمنا أن نسبح الله؟ قال: "لأن المزمور صالح"...
لسانكم يسبح، ولكن إلى حين، دعوا حياتكم تسبح على الدوام. بهذا يكون المزمور صالحًا.
المزمور هو أغنية، ليس أي نوع من الأغنية، بل أغنية على المزمار Psaltery. المزمار نوع من أدوات الموسيقى أُخترع للموسيقى. لذلك من يغني المزامير، لا يرنم بصوته فقط، إنما يستخدم آلة موسيقية تُدعى مزمارًا، فتصاحب يداه صوته.
أتريد أن ترنم مزمورًا؟ لا تدع صوتك وحده يسبح الله، بل لتكن أعمالك في تناغم مع صوتك...
لكي تُبهج الأذن رنم بصوتك، ولكن لا يكن قلبك صامتًا، وأيضًا هكذا تكون حياتك. لا تحمل في قلبك خداعًا، رتل مزمورًا للرب.
عندما تأكل وتشرب رنم مزمورًا، لا بمزج أصواتٍ عذبةٍ تناسب الأذن، بل وبالأكل والشرب باعتدال بطريقةٍ اقتصادية بغير تطرف. إذ يقول الرسول: "فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئًا، فافعلوا كل شيءٍ لمجد الله" (1 كو 10: 31)...
بعد الأكل والشرب إذ ترقد للنوم على سريرك لا ترتكب أي فسادٍ، ولا تتعدى الحدود المسموح بها حسب شريعة الله. ليكن مضطجع الزواج طاهرًا. لا يكن الإحساس بالشهوة بلا ضابط. كرِّم زوجتك على سريرك، لأنكما عضوان في المسيح، خلقكما أنتما الاثنين، وجددكما بدمه. بهذا العمل تسبح الله، ولا يكون التسبيح صامتًا.
ماذا يحلّ بك عند نومك؟ لا تسمح لضمير شرير أن يثور فيك، لتكن طهارة نومك تسبيحًا لله[2].
القديس أغسطينوس
* المزمور صالح، ويحسن الترنم به للرب، ويلذ به، إن كان يرفع العقل إليه، ويمنع ميل النفس إلى الأرضيات.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* ما معنى "ليكن الترنم مُسرًا لإلهنا"؟ يقول ليكن الترنم مقبولًا؛ بالحري المطلوب أيضًا هو حياة المرتل مع الصلاة والدقة في السلوك[3].
* يظهر هنا أن التسبيح في ذاته صالح، والمزمور يقدم أمورًا صالحة كثيرة. إنه يعزل العقل عن الأرض، ويعطي النفس أجنحة، ويجعل (الأجنحة) خفيفة قادرة على الطيران في الأعالي. لهذا يقول بولس: "مترنمين ومرتلين في قلوبكم للرب" (أف 5: 19)... توجد حاجة للتسبيح من أجل حياة المرتل وصلاته والانسجام[4].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* لم يقل النبي: "المزمور صالح"، بل "الترنم بأغنية مقدسة هو صالح"، إنه ليس ترنم بالصوت بل بالقلب. كم من كثيرين أصحاب أصوات صالحة لكنهم خطاة، فتسبيحهم رديء. من يسبح بالقلب يسبح حسنًا، يغني للمسيح في ضميره!
"التسبيح لائق"، أي نغني له بأغنية مفرحة.
يليق به التسبيح بتسبحة مفرحة، لا بالصوت بل بالضمير الصالح![5]
القديس جيروم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]2. التسبيح والبناء الكنسي[/FONT]

الرَّبُّ يَبْنِي أُورُشَلِيمَ.
يَجْمَعُ مَنْفِيِّي إِسْرَائِيلَ [2].
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن هذه العبارة تُظهر أن المزمور وُضع عند العودة من السبي، حيث يشتهي المرتل بناء مدينة أورشليم، وتجميع الشعب المسبي.
إن كان كورش قد أصدر أمرًا بالسماح للمسبيين أن يرجعوا، لكن هذا العمل هو من قبل الرب نفسه.
إذ أُخذ الشعب اليهودي إلى السبي، صاروا في مذلةٍ. لقد فقدوا أورشليم، مدينة الملك العظيم، وصاروا منفيين في أرض السبي. هذا ما تفعله بنا الخطية، حيث تحرمنا من التمتع بالحياة السماوية، وتذل النفس بالميل إلى الفساد، ولا يمكن بناء أورشليمنا الداخلية في أعماق النفس دون التدخل الإلهي نفسه.
يبدو أن المرتل كان ينعم بمنظر الشعب الراجع من بابل، وقد اجتمعوا معًا لبناء أورشليم. قام نحميا ببناء المدينة أولًا (نح 2: 5)، وبعد ذلك الأسوار حيث كمل العمل (مز 147: 13؛ نح 3: 1؛ 6: 15). لكن الحقيقة أن الذي قام بالبناء هو الله الذي عمل في قلب نحميا وغيره. وكما يقول المرتل: "إذا بنى الرب صهيون يُرى بمجده". (مز 102: 16)
"يجمع متفرقي إسرائيل"، وذلك حسب وعده الإلهي (تث 30: 3؛ إش 11: 12؛ 56: 8)، وبالفعل رد المسبيين من بابل.
ربما يتساءل البعض: مادام المزمور يمثل دعوة للتسبيح، فما ارتباط ذلك بالله كباني لأورشليم وجامع منفيي إسرائيل؟
ليس من طريق للتمتع ببناء أورشليم الداخلية، واختبار عربون أورشليم السماوية، والتحرر من أسر إبليس مثل حياة التسبيح الداخلية الحقيقية.
إذ يقدم المرتل دعوة لكل الأمم أن تسبح الله، لا باللسان فقط، وإنما بالسلوك حتى بأسلوب الأكل والشرب والنوم. الآن يكشف لنا المرتل عن الدافع الرئيسي لهذا التسبيح الدائم، وهو بناء الله لأورشليم، وجمعه الذين سبوا من بني إسرائيل.
ماذا يعني المرتل بأورشليم وبإسرائيل هنا؟
ا. يشعر الشعب في العهد القديم بتنازل الله ومحبته، إذ وهبهم مدينة أورشليم كمسكن له وسط شعبه، مدينة الله المقدسة.
ب. يتطلع المؤمن إلى أعماقه، فيجد قلبه قد صار هيكلًا مقدسًا لله، وصارت أعماقه أورشليم الجديدة.
ج. بنظرة مستقبلية مملوءة رجاء يثَّبت المؤمن عينيه على أورشليم العليا، حيث يشترك مع الطغمات السماوية في تسبيحٍ أبديٍ لا ينقطع.
أما إسرائيل ففي فكر القديس أغسطينوس تعني "رؤية الله"، وكأن المؤمن وهو يرى الله تتهلل نفسه وتسبح الله على الدوام.
* يوجه كلماته، لا إلى المدينة، بل إلى سكانها، كما في كل السفر، هكذا يفعل هنا. إنه يحثهم دومًا وينصحهم أن يقدموا الشكر لله من أجل إحساناته، لا من أجل المباني والمتاريس الآمنة، بل لأجل عنايته الإلهية[6].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* شعب أورشليم هو بعينه شعب إسرائيل. إنها أورشليم الأبدية في السماوات، ومواطنوها هم الملائكة...
يفرح كل مواطني هذه المدينة العظيمة المتسعة السماوية برؤيتهم لله. يركزون أنظارهم على الله نفسه. أما نحن فتائهون عنها. لقد انسحبنا منها بسبب الخطية، ولم نعد بعد مقيمين هناك، إنما انحدرنا بالفساد، ولا نعود إليها.
تطلع الله إلى تجولنا، وقام بإصلاح الموضع الساقط، أي "يبني أورشليم"...
أرسل إلى سبينا ابنه كمخلصٍ. قال له: "خذ حقيبة، وضع فيها ثمن الأسرى". لقد أخذ لنفسه جسدنا المائت وبه الدم الذي بذله لأجل خلاصنا. بهذا الدم "جمع متفرقي إسرائيل"...
إذ يجتمع المتفرقون في يد البنَّاء، يتشكلون في المبنى.
كيف يلزم أن يجتمع هؤلاء الذين بسبب القلق يسقطون من يد لبنَّاء؟
انظروا ذاك الذي نسبحه، انظروا لمن نحن مدينون له أن نسبحه كل حياتنا![7]
القديس أغسطينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]3. التسبيح شفاء للنفس[/FONT]

يَشْفِي الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ،
وَيَجْبُرُ كَسْرَهُمْ [3].
ببناء أورشليم يشفي انكسار قلوب الذين حُملوا إلي السبي بسبب خطاياهم وخطايا آبائهم، وذاقوا مرارة المذلة، وعانوا من الشعور بغضب الله عليهم.
لقد جاء السيد المسيح ليبني بنفسه أورشليمه فينا، ويردنا من سبي الخطية، وينزع عارنا عنا، واهبًا إيانا حرية مجد أولاد الله.
إن كانت الخطية قد مررت حياة الإنسان، وكسرت قلبه بروح القلق والاضطراب، فإن التسبيح السليم يشفي بفرح الروح انكسار القلب، ويرد له سلامه الحقيقي.
* يستعرض (المرتل) الكارثة وطريق الله المعتاد، إذ يهب راحة للمتواضعين. وذلك كما يقول بولس: "الذي يحيي الموتى، ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة" (رو 4: 17). هكذا يقول المرتل: "يشفي المنكسري القلوب" [3]، مظهرًا أنه حتى وإن كنا غير مستحقين، فإننا إذ نحن عمله لا يتركنا. لن ينسى صنعته. هكذا يقول بولس أيضًا: "لكن الله الذي يعزي المتضعين" (2 كو 7: 6)، وأيضًا: "أعطى احتمالًا للخائرين" (راجع إش 57: 15). ويقول المرتل في موضع آخر: "القلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله" (مز 51: 17). فإن أردت التمتع بالتعزية، فلتتواضع ولتكن منسحقًا في عقلك[8].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "يشفي المنكسري القلوب". ها أنتم ترون الآن كيفية إعادة بناء أورشليم. هوذا القلب المنكسر قد أُصلح! القلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله.
"يضمد جراحاتهم". أنت تجرح قلبك، والرب يضمد جراحاته.
السامري الذي كان في طريقه من أورشليم إلى أريحا ضمد الجراحات التي تنزف دمًا وكدمات ذاك الذي كان مُلقى في الطريق. هذا هو الشخص المناسب الذي قدمه الكتاب المقدس: "يضمد جراحاتهم"، لأنه قد شفي قلوبهم المنكسرة، وضمد جراحاتهم[9].
القديس جيروم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]4. التسبيح والكواكب السماوية[/FONT]

يُحْصِي عَدَدَ الْكَوَاكِب.
يَدْعُو كُلَّهَا بِأَسْمَاءٍ [4].
إن كان التسبيح يهب النفس جناحي الحب الله والناس، فتنطلق كما في حرية لتمارس الحياة شبه السماوية، فإنها تجعل من المؤمن أشبه بكوكبٍ منير في سماء الروح، يُسر بها الله نفسه وخدامه السمائيون. يعتز الله بأولاده، ويهبهم روح التحدي ضد ظلمة الضلال.
ينشغل الله بإحصاء عدد الكواكب الجامدة، ويدعو كلًا منها بأسماء، فكم بالأكثر يهتم بالمؤمنين به ككواكب تتلألأ على مستوي أبدي. يعرف عددهم، ولا يُحرم أحد من اهتمامه وعنايته، ما لم يرفض الشخص عمل الله. إنه يدعونا بأسمائنا. "هكذا يقول الرب خالقك يا يعقوب، وجابلك يا إسرائيل: لا تخف لأني فديتك، دعوتك باسمك، أنت لي" (إش 43: 1-2). "لكي تعرف إني أنا الرب الذي يدعوك باسمك" (إش 45 : 3). في عتابٍ مملوء محبة يقول: "دعوتك باسمك، لقبتك، وأنت لست تعرفني" (إش 45: 4). يقول السيد المسيح عن نفسه: "فيدعو خرافه الخاصة بأسماء" (يو 10: 3).
يقول القديس ديديموس الضرير إن معرفة الله لكل شيءٍ ليس بالأمر العجيب، إنما من أجل عنايته يعلن أنه يحصي عدد الكواكب، كما يحصي شعور رؤوسنا[10]. إنه يهتم بما يبدو لنا أنها أمور تستحق الإحصاء كالكواكب، كما يهتم بما يبدو غير مستحق لذلك كعدد شعور رؤوسنا.
يرى بعض الآباء أن "الكواكب" تشير إلى المؤمنين الحقيقيين الذين يضيِئون ببهاء المسيح الساكن فيهم في جلد السماء (تك ٢٢: ١٧). وكما يقول دانيال النبي: "الفاهمون يضيئون كضياء الجلد، والذين ردوا كثيرين إلى البرّ كالكواكب إلى أبد الدهور" (دا ١٢: ٣)؛ هؤلاء محصيون أمام الله ومعروفون بأسمائهم.
إذ يفقد البعض رجاءهم في الخلاص من الخطية وإعادة بناء النفس الداخلية، نتطلع إلى الله ضابط الكل، الذي يعرف الكواكب بأسمائهما، وهو واضع قوانينها وأنظمتها وحركاتها.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله الذي اعتاد أن يحصي الكواكب غير المحصية، ويحركها بنظامٍ معينٍ، يجمع شعبه من كل مكان، بل ويهتم بكل واحدٍ منهم، إذ يعرف كل واحدٍ باسمه.
* الكواكب هي أنوار معينة في الكنيسة تسند ليلنا، وقد تحدث الرسول عنها: "في وسط جيل معوَّج وملتو تضيئون بينهم كأنوارٍ في العالم" (في 2: 15). هذه الكواكب يحصيها الله. هؤلاء جميعًا الذين سيملكون معه، هؤلاء جميعًا يجتمعون في جسد ابنه الوحيد، يحصيهم، ويبقى يحصيهم. أما غير المستحقين فلا يُحصون...
* يُظهر (المرتل) أن التسبيح في ذاته صالح، والمزمور قادر على تقديم بركاتٍ كثيرة. إنه يعزل عقله عن الأرض، ويهب نفسه جناحين، ويهبهما نورًا، ويرتفع بهما.
ليت كل واحدٍ منكم يُحسب أنه يضيء في الظلمة، أو يرفض أن يُضلله إثم العالم المظلم؛ فإن كان لا يضل ولا يُهزم، يصير مثل كوكبٍ أحصاه الله بالفعل[11].
القديس أغسطينوس
* لا يحصي سفر العدد غير الطاهرين وغير المقدسين الذين يهلكون، بل جميع الذين يخلصون.
أتريد الدليل على أن عدد القديسين محصي لدى الله؟ اسمع ما يقوله داود النبي عن كواكب السماء: "يحصي (الله) عدد الكواكب، يدعو كلها بأسماء" (مز 147: 4).
لم يكتفِ المخلص بتحديد عدد التلاميذ الذين اختارهم، وإنما قال أيضًا إن شعورهم محصاة (مت ١٠: ٣٠)... وهو لا يقصد بذلك الشعور التي نقصها بمقصٍ، ونلقي بها في النفاية... إنما قوة النفس وكثرة الأفكار التي تنبع عن قوة الإدراك والفهم[12].
العلامة أوريجينوس
* بعد أن شُفيت جراحاتهم حولهم إلى كواكبٍ، "يحصى عدد الكواكب".
بالحقيقة عددهم كبير. حقًا كثيرون أخطأوا وقد شفاههم.
إنه "يحصي عدد الكواكب"، ولا يحصى عدد الجرحى، بل الذين قد صاروا كواكب.
الرب يحصى الذين يستحقونه، مناديًا كل واحدٍ باسمه.
إنه يعضد المتواضعين، فيحولهم إلى كواكب". يقولدانيال النبي إن الأبرار يضيئون كالكواكب، والأثمة يُطرحون إلى أسفل، وفي الوسط المسرعين إلى الأعالي[13].
القديس جيروم
* العدد الذي به يحصى الله القديسين يتم بنظامٍ معين روحي. لقد قيل: "يحصي عدد الكواكب. يدعو كلها بأسماء" (مز 147: 4)[14].
القديس أوغريس
* توجد حقيقة هامة ذكرها كاتب غير مسيحي (أفلاطون في كتابه "جمهورية أفلاطون" بتصرف)، فقال: "إن الشمس في المحسوسات، مثل الله في المعقولات". فهي تعطي ضوءًا للعين، مثلما يعطي الله نورًا للعقل. والشمس هي أسمى ما يمكن أن نراه، والله هو أسمى ما نعرفه بفكرنا"...
لقد صدق الشعراء في وصف الشمس بأنها لا تضعف، وأنها تجلب الحياة وتلدها، وما إلى ذلك. الشمس التي لا تتوقف عن الحركة في مدارها وعن العطاء.
كيف تجعل الشمس ناحية من الأرض نهارًا والأخرى ليلًا؟ ما الذي يؤسس ويحفظ النظام الثابت لليل والنهار؟ من الذي يسبب بداية فصول السنة وانتهاءها بانتظام؟
لننتقل الآن إلى القمر. هل تعرف طبيعة القمر وأحواله ومقاييس ضوءه ومداره؟
هل تعرف لماذا يسيطر القمر على سماء الليل، كما تسيطر الشمس على سماء النهار؟
ولماذا يعطي القمر الجرأة لحيوانات البرية، بينما تجعل الشمس الإنسان ينهض مستيقظًا للعمل؟
هل تعرف ما الذي يربط مجموعة الثريا معًا، ويحفظ الجوزاء في مكانها؟
نقرأ في الكتاب المقدس: "هل تربط أنت عقد الثريا، أو تفك عقد الجبار؟" (أي 38: 31) الذي يفعل هذا هو الله، الذي "يحصي عدد الكواكب، يدعوها كلها بأسماء" (مز 147: 4)[15].
القديس غريغوريوس النزينزي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]5. التسبيح والتمتع بالقوة الإلهية[/FONT]

عَظِيمٌ هُوَ رَبُّنَا، وَعَظِيمُ الْقُوَّةِ.
لِفَهْمِهِ لاَ إِحْصَاءَ [5].
إذ هو الخالق القدير، ليس فقط خلق تلك الكواكب التي لا تُحصي، وإنما يحصي عددها ويدعوها بأسماء، وكأنه يهتم بكل كوكبٍ.
ربما يتساءل أحد، قائلًا: إنني لن أنكر عظمة الخالق، ولا قدرته الفائقة، لكن أين رعايته لي، وأنا أعاني من ضيقات كثيرة؟ إني اشعر مع أرسطو أنه خلق العالم وأوجد قوانينه الطبيعية، حركه ثم تركه، يبقي في سماواته لا علاقة له بخليقته.
لهذا يجيب المرتل: "لفهمه لا إحصاء". هو يحصي الكواكب ويدعوها بأسماء، أما فهمه فليس من كائنٍ يقدر أن يعرف أسراره وخطته. وكما جاء في إشعياء: "أما عرفت أم لم تسمع. إله الدهر الرب خالق أطراف الأرض لا يكل ولا يعيا، ليس عن فهمه فحص، يعطي المعيي قدرة، ولعديم القوة يكثر شدة... أما منتظرو الرب فيجددون قوة، يرفعون أجنحة النسور، يركضون ولا يتعبون، يمشون ولا يعيون". (إش 40: 28-31)
عظمة الرب وقدرته، ليس فقط أنه عظيم وقدير، وإنما يجعل الملتصقين به عظماء وقديرين، يهبهم ما يبدو مستحيلًا. وكما أن صلاح الله يتجلي في أن يحول حتى ما يبدو شرًا إلي خيرٍ وصلاحٍ، يحولنا من الضعف البشري إلى جبابرة بأس.
بروح الوداعة نثق في وعوده، فننعم بقوة خلاصه. يقول الرسول: "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص، وطرقه عن الاستقصاء، لأنه من عرف فكر الرب أو من صار له مشيرًا؟!" (رو 11: 23-24)
* "عظيم هو ربنا". إذ يمتلئ المرتل بالفرح يفيض بكلماته بقوة، ومع ذلك كان إلى حدٍ ما عاجزًا عن التكلم...
"وعظيمة هي قوته، ولا عدد لفهمه". ذاك الذي يحصى الكواكب هو نفسه لا يُمكن أن يُحصى.
كيف نفسر هذا؟ من يمكنه أن يتأهل حتى لتخَّيل معنى "ولا عدد لفهمه"...؟ مهما احتوى هذا العالم من أمورٍ غير محدودة، فهي غير محدودة بالنسبة للإنسان، لكنها ليست كذلك بالنسبة لله، فهي محصية حتى بالنسبة للملائكة.
فهمه يتعدى كل آلات حاسبة، إنها غير محصية بالنسبة لنا. الأعداد نفسها من يعدها؟ ماذا إذن بالنسبة لله الذي به كان كل شيء؟ وأين صنع كل الأشياء؟ ولمن قيل: "أنت نظَّمت كل الأشياء في مقياسٍ وعددٍ ووزنٍ"؟ (حك 11: 20) أو من الذي يقدر أن يعِّد أو يقيس أو يزن، المقياس والعدد والوزن أنفسها، بينما وضع الله نظامًا لكل الأشياء؟ لهذا "لا عدد لفهمه".
لتخمد الأصوات البشرية، ولتسكن الأفكار الإنسانية، ليتها لا تمتد نحو الأمور التي لا يمكن وصفها كي ما تصفها[16].
القديس أغسطينوس
* لا تسأل كيف (يجمع شعبه) وبأية وسيلة، فعظمته بلا حدود، إذ يقول: "ليس لعظمته حدود" (راجع مز 145: 3). وكما أن عظمته بلا حدود هكذا أيضًا فهمه...
معرفته عجيبة؛ من ثمَّ يقول المرتل أيضًا: "عجيبة هذه المعرفة فوقي، ارتفعت لا أستطيعها". (مز 139: 6) وبالتالي أحكامه لا تُفحص، لذا يقول: "أحكامك لجة عظيمة" (مز 36: 6). مادام هو عظيمًا، وقويًا، ولا يمكن إدراكه، لا تكن فضوليًا تسأل كيف يحدث هذا[17].
* بعد أن تعلم أسرار حكمة الله الخفية، يقول إن هذه الحكمة لا يُمكن بلوغها ولا إدراكها، "عظيم هو ربنا، وعظيم القوة، لحكمته لا حدود" [5]، بمعنى أنه ليس من طريق لإدراكها[18].
القديس يوحنا الذهبي الفم
الرَّبُّ يَرْفَعُ الْوُدَعَاءَ،
وَيَضَعُ الأَشْرَارَ إِلَى الأَرْضِ [6].
مسيحنا الذي جاء ليقيم ملكوت الله في داخلنا، يهبه لنا إن سلكنا بروح الوداعة والتواضع.
"الرب يرفع الودعاء، ويضع الأشرار إلى الأرض". يريد الله أن جميع الناسيخلصون، وإلي معرفة الحق يقبلون (1 تي 2: 4). فمن يعترف بضعفه، ويسلك بروح التواضع يرفعه الرب كما بجناحي حمامة، ويطير كما في السماء. وأما من يُصر على شره، فبثقل الخطية يهبط مع فرعون وجيشه في الأعماق كحجرٍ (خر 15: 5).
حينما يقول المرتل "يضع الأشرار إلي الأرض"، إنما يعني أنه تحت إصرار الأشرار علي شرهم، يسمح الله لهم أن يهبطوا تحت ثقل خطاياهم إلي الأرض، ولا يستطيعوا القيام أو الانطلاق نحو السماوات. وذلك كما أصر فرعون على مقاومته للحق الإلهي، فتركه يمارس قسوة قلبه.
يرى القديس أغسطينوس أن هذه العبارة وردت بعد القول: "لا عدد لفهمه"، وذلك لأنه إذ يشعر الإنسان بعجزه عن فهم الأسرار الإلهية، يليق به أن يكرِّم الكتاب المقدس، كلمة الله، حتى إن بدا له أنه غير واضح، وبروح الوداعة ينتظر ليعطيه الرب فهمًا، دون أن ينتقد غموض الكلمة، أو يتهم الكتاب بوجود متناقضات.
إن كان الله يسمح بوجود غموضٍ، إنما لكي نقرع فيفتح لنا. هذا القرع على الباب الإلهي نافع للإنسان.
* لئلا يقول بعض الأغبياء: ماذا تفيدنا المعرفة الدقيقة للكواكب؟ لهذا يشير المرتل أيضًا إلى العناية التي يقدمها للكائنات البشرية بهذه الطريقة. إنه لا يقول: "الرب يعين الودعاء"، بل ما هو أعظم، "يرفع"، كمن يتحدث عن أبٍ محبٍ.
الآن ماذا تعني "يرفع"؟ الفوز الساحق، والسمو، والمسك باليد.
ألا ترون أيضًا قوته في العمل في كل حالةٍ، برفع المتواضعين والهبوط بالمتشامخين؟[19]
القديس يوحنا الذهبي الفم
* تشير الكلمات: "ليأت إلى (جنته)" (نش 4: 16) إلى إعطاء حرية الاختيار مثل "ليتقدس اسمك" "ولتكن مشيئتك". وكما توضح هاتان الفقرتان حرية الاختيار، فإن صلاة العروس "ليأت إلى" تشير إلى الله مانح ثمار الفضيلة وإلى نزول العريس من أجل حبه للبشرية.
لا يمكن لنا أن نرتفع إلى أعلى السماوات بدون أن ينزل هو إلى الودعاء ويرفعهم (مز 147: 6)، لذلك تنادي النفس التي ترتفع إلى أعلى الله الذي لا حدود له، وتصلي له لكي ينزل من علياء عظمته حتى يتمكن من يعيشون على الأرض أن يقتربوا منه.
وبينما كانت تتكلم، يجيب الرب "هأنذا" (إش 58: 9). سمع الرب ما كان يدور بخلد العروس، ومنحها سؤل قلبها، وأتى إلى جنتها عندما كانت ريح الجنوب تهب، والتقط ثمار أطيابها، واِمتلأ بثمار الفضيلة، وتكلم عن وليمته، قائلًا: "قد دخلْتِ جنتي يا أختي العروس. قطفت مرّي مع طيبي. أكلت شهدي مع عسلي. شربت خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب، اِشربوا واِسكروا أيها الأحباء" (نش 5: 1).
هل ترى الآن كيف تفوق عطية العريس ما تطلبه العروس؟ أرادت العروس ينابيع من الأطياب في حديقتها وأن تهبّ على نباتاتها ريح الجنوب في منتصف النهار، وأن ينال راعي الحديقة الثمار حسب اختياره... جعل العريس الأشجار تُنتج الخبز الذي خلطه بعسله بدلًا من الثمار المختارة[20].
القديس غريغوريوس النيسي
أَجِيبُوا الرَّبَّ بِحَمْدٍ.
رَنِّمُوا لإِلَهِنَا بِعُودٍ [7].
يليق بنا أن نتحدث مع كل شخص بلغته. الله ينبوع الفرح السماوي، فمن يود الحديث معه يلزمه أن يتعلم لغة الشكر أو الحمد، مع الترنيم أو التسبيح. فالقلب الشاكر ينفتح على الله، ويُقال عنه ما قيل عن موسى: "ويكلم الرب موسى وجهًا لوجه، كما يكلم الرجل صاحبه" (خر 33: 11). أما القلب المتذمر، فلن يقدر أن يسمع صوت الله، وإن سمعه لا يفهمه، وبالتالي لا يقدر على الدخول في حوار حب مع خالقه ومخلصه.
* "ابتدئوا للرب بالاعتراف". إن أردت البلوغ إلى فهم واضح للحق، ابتدئ بهذا.
إن أردت العبور من طريق الإيمان إلى بلوغ الحقيقة "ابتدئ بالاعتراف".
أولًا اتهم نفسك، وسبِّح الله... وماذا بعد الاعتراف؟ ليتبع ذلك الأعمال الصالحة.
"رنموا لإلهنا بالقيثارة"... ليس فقط بالصوت، وإنما أيضًا بالأعمال[21].
القديس أغسطينوس
* بعد الإشارة إلى إنجازات الله، يحثهم (المرتل) على التسبيح، قائلًا: "اصرخوا إلى الرب بالاعتراف (الحمد)"، أي بالشكر في غيرة عظيمة[22].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "رنموا لإلهنا بقيثارة". للقيثارة أوتار كثيرة، إذا انكسر أحدها لا يمكن العزف عليها. هكذا الإنسان الصالح، حتى وإن كان قديسًا إن افتقر إلى فضيلةٍ واحدةٍ لا يستطيع أن يشترك في تقديم تسبحته![23]
القديس جيروم
الْكَاسِي السَّمَاوَاتِ سَحَابًا،
الْمُهَيئ لِلأَرْضِ مَطَرًا،
الْمُنْبِتِ الْجِبَالَ عُشْبًا [8].
كثيرًا ما يشير السحاب إلي القديسين، الذين إذ تُغفر خطاياهم، لا تثقل نفوسهم لتهبط إلي الأرض، أو تغوص في الأعماق كحجرٍ، بل تطير كسحابٍ نحو السماء، وترتفع من مجدٍ إلي مجدٍ.
الله في حبه للبشرية يهيئ للأرض مطرًا، فيحول البراري القاحلة إلي جناتٍ مثمرةٍ. ما هو هذا المطر إلا نعمته الإلهية التي تنزل إلى قلوبنا، فتقيم ملكوتًا إلهيًا داخلنا؟
"المنبت الجبال عشبًا"، تكسوها بالجمال، وتجعلها صالحة لرعاية الغنم، ويرتفع عليها الرعاة بقطعانهم بفرحٍ وبهجةٍ. هكذا يعمل الله في حياة أولاده، فيقيم منهم جبالًا مقدسة، تصير مراعٍ خضراء ترعى فيها نفوس كثيرة، حيث تجد فيها كلمة الله طعامًا روحيًا ينعشها.
في العبارات السابقة أوضح القديس أغسطينوس أن ما ورد في الكتاب المقدس يبدو أحيانًا غامضًا حتى نقرع على الباب، فيهبنا الله فهمًا، ونتمتع بخبرات مفرحة. كما أوضح أن الله يرفع الودعاء الذين بروح التواضع يطلبون من الله الفهم، ولا يأخذون موقف النقد بروح الكبرياء والتشامخ.
الآن يقدم المرتل تشبيهًا عمليًا. عندما تمتلئ السماء سحابًا تختفي السماء وتبدو غامضة، وإذ تُمطر السحب تأتي الأرض بثمار كطعامٍ للإنسان والحيوان. هكذا السحب هنا هي غموض النبوات في الكتاب المقدس، لكن متى تحققت يدرك المؤمن الأسرار الإلهية، ويتقبل هذا المطر، أي الفهم المقدم لنا من الأعالي، ليجعل أرضنا مثمرة ومتهللة!
* انظروا إلى حكمته، فقد أشار (المرتل) إلى الأمور الصالحة التي للنفع العام والمقدمة لكل واحدٍ، غالقًا أفواه (الأشرار) بذات الفيض الذي يقدمه الله. بمعنى آخر إن كان هكذا يقدم عناية عظيمة حتى بالنسبة لغير المؤمنين حتى يجمع سحابًا، ويرسل مطرًا للشرب، ويهب حيوية للأرض، كم بالأكثر يعمل لنفعكم يا من تُدعون شعبه الخاص[24].
* لئلا يقول شخص متبلد: بماذا تنفعني السماوات؟ للحال يشير إلى حاجة البشرية، مظهرًا هذه الإضافة لماذا يكسي السماوات بالسحاب. يقول: من أجلكم؛ لكي يمدكم بالمطر، فالمطر هو لأجلكم، حيث يجعل العشب ينمو... إنه يرسل المطر للشرب، ويهب الأرض حيوية وبهجة، وبالأكثر هو لنفعكم أنتم الذين تُدعون شعبه الخاص[25].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "المهيئ للأرض مطرًا". تحتاج الأرض إلى المطر، ينبوع التعاليم الإلهية، لتعطي ثمرًا.
"المنبت الجبال عشبًا". الكتاب المقدس يدعو إبراهيم جبلًا، وإرميا وإسحق والأنبياء جبالًا مقدسة. هذه الجبال تضم محاصيل وعشبًا. فالإنسان يحصل على المحاصيل منهم، والحيوانات تحصل على العشب[26].
القديس جيروم
الْمُعْطِي لِلْبَهَائِمِ طَعَامَهَا،
لِفِرَاخِ الْغِرْبَانِ الَّتِي تَصْرُخُ [9].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "ويعطي البهائم غذاءها، ولفراخ الغربان التي تدعوه".
إن كان الله قد خلق الحيوانات لخدمة البشر، فإنه يعتني بالحيوانات، فيرسل مطرًا على الجبال، لكي تنبت عشبًا كطعامٍ للحيوانات.
وتمتد رعاية الله إلى فراخ الغربان التي تبدو لنا بلا نفع، لكن الله الذي طبيعته الحب والرعاية يسمع صرخاتها، ويرسل لها طعامها. حقًا إن فراخ الغربان لا نفع لها للإنسان، وعاجزة عن حماية نفسها وتدبير أمورها، والله لا يتغاضى عن صرخاتها التي قد لا يسمعها أحد. كم بالأكثر تكون رعاية الله واهتمامه بالبشر، خاصة الذين يسبحونه، وهم من خاصته.
ليس للبهائم القدرة على النطق، لكن الله يعرف ما تسأله داخليًا، وما تحتاج اليه، فيقدم لها طعامها. كما يسمع لصرخات فراخ الغربان الجائعة، فيهبها طعامًا.
يقول القديس أغسطينوس إن هذه العبارة تحمل مفهومًا رمزيًا. فالقطيع الذي يعطيه الله غذاءه يشير إلى قطيع المسيح العاقل الذي يهبه طعامًا روحيًا يشبع أعماقه. أما بالنسبة للغربان فهي تشير إلى الأمم، وإن كانت قد عاشت زمانًا تتعبد للأوثان وتقاوم الحق الإلهي، غير أن فراخ الغربان تدعو الله لكي تخلص، فقد ترك الأمم آباءهم الوثنيين، ودعوا الله، فقدم لهم الإيمان الحي طعامًا لنفوسهم.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[27] فيض عناية الله الفائقة، فإنه إن كان يهتم بالسحاب ليجلب أمطارًا تنبت الجبال عشبًا لتجد الحيوانات طعامها، وذلك لصالح الإنسان، فإنه يهتم حتى بفراخ الغربان التي تبدو كأنها بلا منفعة، أفلا يهتم بالأكثر بالبشر الذين يحسبهم خاصته. "والآن هكذا يقول الرب خالقك يا يعقوب وجابلك يا إسرائيل: لا تخف لأني فديتك، دعوتك باسمك، أنت لي" (إش 43: 1).
* يقول: "انظروا إلى طيور السماء"، ولم يقل: لأنها لا ترتبك بأمور الحياة، ولا تقيم أسواقًا للتجارة، لأنه من البديهي لا يحدث هذا. لكن ماذا قال؟ إنها لا تزرع ولا تحصد.
ورُبّ قائل: ماذا إذن، ألا يجب علينا نحن أن نزرع؟
لم يقل الرب ذلك. ولا يحبنا أن نمتنع عن الزراعة، بل أن نمتنع عن القلق.
وهذا لا يعني أن نكف عن العمل، بل أن يكف المرء عن ضيق الأفق، ولا يربك نفسه بالهموم. لأنه يأمرنا أيضًا أن نأكل، لكن دون أن نقلق.
داود أيضًا منذ القديم يقول بشكل سرِّي: "تفتح يدك، فتُشبع كل حي رضًى" (مز 145: 16). وأيضًا "المُعطي البهائم طعامها، ولفراخ الغربان التي تدعوه" (مز 147: 9)[28].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "المنبت الجبال عشبًا، والمعطي للبهائم طعامًا". إن كنت إنسانًا ستحصل على فهمٍ روحيٍ للأسفار المقدسة. إن كنت بهيمة للحمل، تحصل فقط على الحرف[29].
* "لِفِرَاخِ الْغِرْبَانِ الَّتِي تَصْرُخُ". لم يذكر طائر آخر سوى فراخ الغربان، وليس الغربان ذاتها. الغراب لا يخلص، إنما صغاره يُنقذون. نحن صغار الغربان، لأننا وُلدنا من آباء وثنيين. نحن نقرأ أقوال سليمان الحكيم: "العين التي تسخر من أبيها أو تحتقر حديث أمها تقورها الغربان في الوادي"، يقول الغربان وليس فراخ الغربان. لأن الإنسان الذي يشبه الغربان أو يتسم بصفاته لا يمكن أن يخلص. الغراب المبعوث من الفلك لا يعود إليه. كان في الفلك مع بقية المخلوقات أثناء الطوفان، بعد الطوفان طُرد خارجًا.
نحن إذن فراخ الغربان، نصرخ إليه ونخلص[30].
القديس جيروم
لاَ يُسَرُّ بِقُوَّةِ الْخَيْل.
لاَ يَرْضَى بِسَاقَيِ الرَّجُلِ [10].
يعمل الله بالقليل كما بالكثير، ففي خلاصه لا يحتاج إلى إمدادات عسكرية "قوة الخيل"، ولا موارد بشرية "ساقي الرجل"، إنما يخلص بقدرته الإلهية ومحبته الفائقة للبشرية.
* "لا يُسر بقوة الخيل". قوة الخيل هي الكبرياء. لأن الخيل يبدو كمن يتهيأ ليحمل الإنسان عاليًا...
في الواقع للخيل رقبة ترمز لنوعٍ من التشامخ. ليت البشر لا يتشامخون كمن يستحقون هذا، ويظنون أنهم مرتفعون بامتيازاتهم السامية، كما من فرسٍ جامح[31].
القديس أغسطينوس
* إذ كانوا ضعفاء، وغير مسلحين، ومُجردين من كل شيءٍ، لاحظوا كيف كانوا في حالٍ يجعلهم في رعبٍ، يقدم لهم الله العون في ضعفهم بالكلمات: "لا يُسر بقوة الخيل، ولا يرضى بساقي الرجل[32]."
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "لا يُسر بقوة الخيل". مكتوب في المزامير: "باطل هو الفرس للأمان"، وفي موضع آخر في الكتاب المقدس: "الفرس والمركبة طرحهما في البحر". كانت الوصية ألا يربي ملك إسرائيل خيلًا. لكن سليمان الذي حصل على مركبات من مصر صار ضحية للشهوة.
"لا يرضى بساقي الرجل". يُسر الرب بالذين يتقونه (يخافونه). خوف واحد يطرد مخاوف كثيرة. أليس من الأفضل أن تخاف من واحد، فلا تخاف الكثيرين، من أن تخاف الكثيرين لكن لا تخاف الواحد؟[33]
القديس جيروم
يَرْضَى الرَّبُّ بِأَتْقِيَائِهِ،
بِالرَّاجِينَ رَحْمَتَهُ [11].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "يُسر الرب بخائفيه، وبالذين يتكلون على رحمته".
إنهم لا يتكلون على ما لديهم من قوة عسكرية "قوة الخيل"، ولا ما يتمتعون به من قوة جسمانية "ساقا الرجل"، وإنما ما يحملونه من قوة البنوة لله، فيسلكون في تقوى الأبناء، وينعمون بإمكانيات إلهية من قبل أبيهم السماوي.
الله كأبٍ ليس فقط يهتم باحتياجات مؤمنيه كما يفعل مع الحيوانات والطيور حتى فراخ الغربان الجائعة، وإنما يُسر بهم ويحتضنهم. يكمن سروره بهم في تقواهم ويقوتهم في محبته لهم ورحمته عليهم. هذا هو سرّ جمالهم الداخلي وقوتهم.
يرى القديس أغسطينوس أن المرتل يربط بين مخافة الرب والرجاء في رحمته، فالخوف دون الاتكال على رحمة الله يحطم الإنسان باليأس.
* اللص يُخاف منه، والحيوان المتوحش يُخاف منه، والإنسان الظالم صاحب السلطان يُخاف منه جدًا.
"يُسر الرب بالذين يترجون رحمته". انظروا يهوذا الذي خان ربنا، لقد خاف، لكنه لم يترجَّ رحمته...
حسن جدًا أن تخاف، ولكن فقط إن كنت تثق في رحمة ذاك الذي تخافه. لقد مضى (يهوذا) في يأس وشنق نفسه.
بحكمةٍ لتخف الرب هكذا، بأن تثق في رحمته[34].
القديس أغسطينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]6. التسبيح والشركة مع الله[/FONT]

سَبِّحِي يَا أُورُشَلِيمُ الرَّبَّ.
سَبِّحِي إِلَهَكِ يَا صِهْيَوْنُ [12].
إذ يبدأ هنا في الترجمة السبعينية المزمور 147، نجد عنوانه: "مرسوم بالليلويا، لحجَّي وزكريا".
إذ يتطلع المرتل بروح النبوة إلى العائدين من السبي إلى أورشليم، يدعو أورشليم للقيام بعملها الرئيسي، ألا وهو التسبيح للرب إلههًا.
حقًا بالعودة إلى أورشليم كانت هناك مسئوليات والتزامات على الجميع من قيادات وكهنة ولاويين وشعب، لكن العمل الأول هو التسبيح والشكر لله. يشكرون الله بألسنتهم، كما يشكرونه بأفكارهم وعواطفهم المقدسة، وأيضًا بحبهم لله ولبعضهم البعض.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[35] أن أول الإحسانات وأعظمها جميعًا أن ينسب الله نفسه لهم، فيقول "إلهكِ". هذا التعبير يتضمن فيه كل الإحسانات الإلهية، إذ يحسبهم خاصته وورثته.
* ألا ترون عظم المنافع في شيء من التفصيل؟
أولًا: وفوق الكل قوله: "إلهكِ" [12]. بهذا التعبير يضم كل هذه المزايا معًا، إذ اختاركِ خاصته، وجعلك ميراثًا له، مفضلًا إياك مع أنه سيد عام للكل. هذا هو ذروة الخيرات.
ثانيًا: أن يشيد المدينة في أمان [13].
ثالثًا: يُكثر عددهم [13].
رابعًا:يحررهم من وجود حروب واضطراب، ليس في المدينة فقط، بل وفي كل جنسهم [14]...
يضيف إلى ذلك ميزة أخرى، وهي خصوبة الأرض ووفرة ثمارها [14][36].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* يحتوي هذا المزمور على نبوة عن رجوع العبرانيين من سبيهم، وإعادة بناء أورشليم.
* قول النبي: "سبحي يا أورشليم" لا يقصد المدينة وحوائطها ومبانيها، بل سكانها. هكذا إذ يقول ربنا: "يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليكِ"، لا يقصد المدينة، بل سكانها الذين كانوا في ذلك الحين. وبنفس الطريقة بالنسبة لصهيون.
* قوله هنا يدل على أن أورشليم العليا الحرة التي هي أمنا نحن المؤمنين أجمعين، وعلى صهيون التي هي الكنيسة المقدسة جماعة الأبكار المكتوبين في السماء كقول الرسول الإلهي. أما عوارض أبوابها المُحكمة فهي التعاليم والمعتقدات المستقيمة التي تدخلنا إليها. وأما بركة الرب في كثرة بنيها التي تعم الأرض... وتملأ المؤمنين وتشبعهم بالمواهب الروحية.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* يمكننا القول بأن السلام مثل الحياة الأبدية هو نهاية كل ما نقيمه. لأن مدينة الله التي كرسنا لها هذا الحديث المطوَّل، قد وُجه إليها الحديث في هذا المزمور المقدس: "سبحي يا أورشليم الرب، سبحي إلهك يا صهيون. لأنه قد أسس أبوابك، بارك أبناءك داخلك. الذي جعل تخومك سلامًا..." أعتقد إني لا أثقل على قرائي إن تكلمت بأكثر إمعانًا، لأن السلام هو الهدف الأساسي لهذه المدينة التي أتكلم عنها، السلام له سحره وافتنان عزيز على الجميع.
سلام الجسد هو نظام أعضائه المكونة له، وسلام النفس غير العاقلة هو هدوء شهواتها. وسلام النفس العاقلة هو التوافق المتناغم بين الفكر والسلوك.
السلام بين النفس والجسد، هو الحياة المدبرة والصحة للإنسان الحيّ بكليته.
السلام بين الإنسان المائت والله، هو الطاعة حسب تدبير الناموس الأبدي بالإيمان.
السلام بين الشعب هو الاتفاق بتدبير حسن.
سلام البيت هو التدبير المتوافق في نظام بين الساكنين فيه.
سلام المدينة السماوية، هو التدبير الكامل في تناغمٍ تامٍ للذين في شركة مع الذين ينعمون بالله وقناعتهم فيما بينهم في الله.
سلام هذا كله هو تدبير كل الأمور لوضعها في مكانها اللائق[37].
القديس أغسطينوس
* "سبحي يا أورشليم الرب، سبحي إلهك يا صهيون" [12]. أورشليم هي رؤية السلام؛ فحيث يوجد تأمل في الله سبح الله.
لتمجدي أيتها الكنيسة الرب، لأنكِ بدأتِ أن تؤمني به، وتقتني السلام، وأيضًا بدأتِ أن تنظري السلام، أورشليم رؤية السلام.
إذ أتمتع بالحقيقة بالمعرفة، وأنعم بقلعة التأمل، أقول: سبحي الرب[38].
القديس جيروم
لأَنَّهُ قَدْ شَدَّدَ عَوَارِضَ أَبْوَابِك.
بَارَكَ أَبْنَاءَكِ دَاخِلَكِ [13].
في العبارتين 13 و14 يقدم لنا المرتل أربع بركات تمتعت بها أورشليم بإعادة بنائها، وتتمتع بها نفوسنا بكونها مدينة الله:
1. أمان المدينة [13] بإقامة عوارض قوية لأبوابها ضد أي غزو يمكن أن يهاجمها. هنا إشارة إلى اهتمام المؤمن بتقديس حواسه، سائلًا الله أن يقيم حراسة عليها حتى لا تتسلل الخطية إلى أعماق النفس.
2. السعادة الداخلية [13] لسكان المدينة حيث تحل بركة الرب عليهم.
3. السلام القومي [14].
4. فيض وبركة في المحصولات [14].
إذ تُدعى أورشليم إلى عملها الرئيسي عند عودة المسبيين، ألا وهو التسبيح لله بفرحٍ عظيمٍ، يليق بها أن تشدد عوارض أبوابها، لماذا؟
لكي تغلق الأبواب، كما قيل في مثل العذارى الحكيمات حيث دخلن إلى العرس، وُأغلق الباب، فلا تدخل العذارى الجاهلات.
بغلق الباب لا يُسمح للشر أن يدخل، ومن جانب آخر تبقى العروس مع عريسها كما في حجال الملك.
ليدخل عريسنا السماوي إلى قلوبنا، أورشليمه الجديدة، ولا يسمح لخطية ما أن تتسلل حيث يوجد القدوس.
* لا تسمحوا لأحدٍ أن يخرج، أو لأحدٍ أن يدخل. لا يخرج أحد، فإننا فرحون! لا يدخل أحد، نحن نخاف (الرب)...
عندما تدخلون، سيُقال: أنتم فقط كونوا في عداد العذارى الحاملات الزيت معهن![39]
القديس أغسطينوس
* يقول النبي: يا أيها الساكنون بأورشليم وصهيون امدحوا الرب إلهكم، مسبحين إياه، لأنه قوى صيانتكم وحفظكم، وجعل مدخل مدينتكم منيعًا، حتى لا يستطيع أعداؤكم الدخول إليها. ويكثر بركة بنيكم وشعبكم. أما قوله "فيكِ" (داخلكِ)، فمعناها أن نموهم لا يكون في الشتات والغربة، بل داخل تخومكم وفي أرضكم، وجعل الأمان والطمأنينة في حيازتكم.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* ماذا يعني أنه يشدد العوارض؟ إنه يقيم أمانًا، يقول إنه يجعلهم لا يُقهرون[40].
* إنه يقصد أنه يحقق النمو ليس للمشتتين أو الشعب المبعثر، بل للمجتمعين معًا "داخلك"[41].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "يحب الرب أبواب صهيون أكثر من مساكن يعقوب". تحدثنا عن الأنبياء أنهم أبواب صهيون... لنرى ما هي عوارض الأبواب. الأنبياء بحق هم عوارض الكنيسة، لا نقدر أن ندخل الكنيسة إلا من خلالهم.
رفض مرقيون العهد القديم، لكن بدونه لا يقدر أن يدخل إلى العهد الجديد. من جانب آخر، لتقبلوا الأنبياء، ولتدخلوا من خلالهم...
"كل الذين جاءوا قبلي هم سراق ولصوص". اللهم إلا إذا وهبني الرب امتياز أن أكون عارضة في أبواب صهيون[42].
القديس جيروم
الَّذِي يَجْعَلُ تُخُومَكِ سَلاَمًا،
وَيُشْبِعُكِ مِنْ شَحْمِ الْحِنْطَةِ [14].
الله في محبته ليس فقط يعطي بركات، إنما "يُشبع" ويفيض بأفضل العطايا. بقوله "شحم الحنطة"، يعني أفضل أنواعها.
أما الإحسان الثاني فهو أن يجعل المدينة آمنة.
والثالث أن يزيد من عددهم ويكثرهم.
والرابع أن يحررهم من الحروب والاضطرابات، ليس فقط في المدينة بل على مستوى الشعب كله، لا في مناسبة أو مناسبتين أو ثلاث، وإنما على الدوام.
* كيف يتهلل جميعكم!
أحبوا السلام يا إخوتي!
عندما تصرخ محبة السلام في قلوبكم نبتهج جدًا...!
محبة السلام... يا أبناء الملكوت، يا مواطني أورشليم، ففي أورشليم رؤية السلام!
كل محبي السلام سعداء فيها، يدخلونها عندما تُفتح الأبواب وتغلق وتتقوى عوارضها...
هذا ما تتبعونه وتشتاقون إليه: هذا ما تحبونه في بيوتكم وفي أعمالكم وفي زوجاتكم وفي أبنائكم وفي عبيدكم وفي أصدقائكم وفي أعدائكم...
ما كنتم تصرخون به منذ لحظات عند الإشارة إلى السلام، تصرخون به عن اشتياق. صراخكم كان عن عطشِ (للسلام) وليس عن ملءٍ، فهناك (في السماء) سيكون البرّ الكامل حيث السلام الكامل[43].
القديس أغسطينوس
* النشيط الذي يضاعف غلته، يملأ بيدره، ويساند أيضًا المحتاجين في زمن العوز. تمتلئ أهراؤه من كل الخيرات، وخزائنه الداخلية من الكنوز. وآكلو خبزه يشبعون من الدسم، والشاربون من إنائه لن يعوزهم الفرح، ومن جميع غلاته يتنعمون إلى الأبد[44].
القديس يوحنا الدلياتي
* "يشبعك من أفضل الحنطة". هل لأورشليم أفضل الحنطة؟ أجب أيها اليهودي. إن كان ليس لديها، فالضرورة تقتضيه إلى الالتجاء للتفسير الروحي، في تطلعك إلى بقية المزمور...
الكلمة الإلهية هي غنى متزايد، تحوي في داخلها كل بهجة. كل ما تشتهيه تجده فيها. وذلك كما حدث مع اليهود عندما كانوا يأكلون المن كان كل واحدٍ يتذوق نوع الطعام الذي يشتهيه. كمثال، إن كان جائعًا إلى تفاحة أو كمثرى أو عنب، أو خبز أو لحم يجد طعم المن مطابقًا لاشتياقه. ونحن نتقبل في جسد المسيح، الذي هو كلمة التعليم الإلهي، أو تفسير الأسفار المقدسة المن حسبما نشتهي.
إن كنت قديسًا تجد فيها انتعاشًا، إن كنت شريرًا تجد فيها كربًا[45].
* "يجعل تخومك سلامًا". الإنسان الذي ليس في سلام مع أخيه، ليس في تخوم أورشليم[46].
القديس جيروم
* مرة أخرى يعلمهم هنا ألا ينسبوا كل شيءٍ إلى التربة ونوع الجو، بل إلى العناية الإلهية[47].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* ترمز الساحات المترابطة للدار المحيطة بالخيمة إلى التفاهم والمحبة والسلام بين المؤمنين، ويفسرها داود بهذه الطريقة عندما يقول: "الذي يجعل تخومك سلامًا" (مز 147: 14)[48].
القديس غريغوريوس النيصي
يُرْسِلُ كَلِمَتَهُ فِي الأَرْض.
سَرِيعًا جِدًّا يُجْرِي قَوْلَهُ [15].
إن كان قد سبق فتحدث عن عطاياه لشعبه، فإنه يؤكد أنه محب لكل البشر. "يرسل كلمته في الأرض، سريعًا جدًا يجري قوله" [15]. عنايته تحتضن الأرض كلها بمسرته الفائقة. لهذا يرسل كلمته التي تعني أوامره الخاصة بعنايته ورعايته للعمل سريعًا جدًا في كل العالم.
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أنه عند الخلقة أمر الرب البشر أن يثمروا ويكثروا، وتحقق الأمر سريعًا. أما في إعادة الخلقة حيث أمر الرب التلاميذ أن يمضوا إلى العالم أجمع، ويتلمذوا الأمم، ويعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، فإن هذا القول تحقق عاجلًا وبسرعة أكثر من الأمر الأول. وأن كرازة الإنجيل ملأت المسكونة من المسيحيين أبناء آدم الجديد المولودين في برء من الفساد، ومنحهم الحياة التي لا يتعقبها الموت (الأبدي).
* إنه يتحدث عن الكرازة الإنجيلية التي لتعاليم الرسل، لذلك يكمل فورًا: "سريعًا جدًا يجري قوله".
في كل بقعة سُمعت الكلمة، وفي كل العالم بلغت تعاليم الرسل.
لاحظوا سرعة انتشار الكلمة. إنها لم تكتفِ بالشرق، بل أرادت أن تنتشر في الغرب[49].
القديس جيروم
* بعد قوله: "سبحي إلهكِ" [12]، فلئلا يظن أي غبي أنه إله اليهود وحدهم، أظهر كيف أنه ينتمي إلى العالم كله، وتمتد عنايته الإلهية إلى كل الأرض، فينطلق مما هو خاص إلى ما هو عام، ثم إلى العناية بالمسكونة. لهذا بعد قوله: "يُرسل كلمته إلى الأرض"، أضاف: "سريعًا جدًا يجري قوله". الآن، قال هذا ليُظهر أنه لا يهتم فقط بمدينتنا، بل وبالعالم كله.
"كلمته" هنا تعني أمره، أو عمل رعايته الإلهية[50].
القديس يوحنا الذهبي الفم
الَّذِي يُعْطِي الثَّلْجَ كَالصُّوفِ،
وَيُذَرِّي الصَّقِيعَ كَالرَّمَادِ [16].
إذ نزل كلمة الله إلى الأرض متجسدًا لكي يضم البشر معًا، ويقيم منها جسده، الكنيسة الجامعة، فإنه يجعل منها ثوبًا أبيض كالثلج، كما حدث عند تجليه (مت 17: 2). أقام كنيسته المقدسة المجيدة، التي بلا دنس ولا غضن (أف 5: 27).
في نفس الوقت يقدم للبشرية التي تتقدس فيه نفسه كثوب برٍّ ترتديه.
* بينما كان البشر غير مؤمنين، باردين (في المحبة) كسالى، صنع لهم ثوبًا من هذا الصوف.
فلتُبسط على الصليب، لكي ما تغتسل من الدنس، وتتطهر بالإيمان، ولكي لا يكون بها غضن[51].
القديس أغسطينوس
* تجري كلمة الله بسرعة، وتنتشر كالثلج، والثلج نفسه كالصوف.
لتطرد أيها الرب دنسي، لتنزع كل ما هو دنيء. هب ثلجك، نقاوتك، لأذهان المسيحيين، أي نرتدي ثوبك.
المسيح هو لباسنا. إن أردنا أن نقتنيه كثوبٍ، فلنكن طاهرين كالثلج[52].
القديس جيروم
أما أن يجعل الصقيع كالرماد، فذلك لأن الرماد يرتبط بالتوبة والتواضع. يرى القديس أغسطينوس أن الإنسان الذي يريد أن يتعلم ويلتقي بالله، يكتشف أنه في ظلمة كما في صقيع، ويحتاج إلى التوبة بروح التواضع.
* إذا ما دُعي إنسان ليتعلم عن الله، فليُقال له: "اقبل الحق". وإذ يبدأ في الرغبة لقبول الحق يجد نفسه عاجزًا. يرى نفسه كمن هو في نوعٍ من الظلمة، وبسببها لم يكن يرى...
لا تتجولوا في الصقيع، بل اتبعوا الإيمان.
وإذ أنتم تسعون في أن تروا وأنتم عاجزون، توبوا عن خطاياكم، فإن الصقيع يُذرى كالرماد.
توبوا عن كونكم معاندين لله، توبوا عن إتباعكم طرقكم الشريرة. إنكم تأتون إلى هذه الحالة حيث يصعب عليكم الرؤية للنعيم، وسيكون لكم الصقيع نافعًا لكم حيث يذريه الله كالرماد.
أنتم أنفسكم لازلتم صقيعاً بل مثل الرماد، لأن الذين يتوبون يغلفون أنفسهم في الرماد، ويشهدون يا إخوتي أنهم مثل الرماد، قائلين لله: "أنا رماد". يقول الكتاب: "احتقرت نفسي وتبددت، حسبت نفسي ترابًا ورمادًا". (انظر أي 30: 19 Vulgate)
عندما تحدث إبراهيم مع الله، قال: "أنا تراب ورماد" (تك 18: 27)، هذا هو تواضع التائبين[53].
القديس أغسطينوس
يُلْقِي جَمْدَهُ كَفُتَاتٍ،
قُدَّامَ بَرْدِهِ مَنْ يَقِفُ؟ [17]
بعد أن شبه الكنيسة بثوب المسيح المجيد الذي يصير كالثلج بلا دنس ولا غضن، يشبه المؤمنين بالجليد الشديد الصلابة، والذي لا يُقارن بالثلج.
مع شدة صلابته يصير الجليد كفتات خبز يأكله البعض وينتفعون به. يقدم لنا القديس أغسطينوس الشهيد استفانوس مثالًا لذلك، فقد كان كالجليد الصلد وقف أمام المضطهدين بقوة، واحتمل بفرح رجمه بالحجارة.
* "يرسل بلَّوره (جليده) كفتاتٍ"... ما هو البلور crystal (الجليد)؟ إنه جامد جدًا، إنه متجمد للغاية، لا يذوب بسهولة مثل الثلج.
عندما يصير الثلج جامدًا لمدة سنوات كثيرة، ومع تعاقب الأجيال، يدعى بلورًا (جليدًا). هذا يرسله (الله) مثل فتات الخبز.
ماذا يعني هذا؟ كان جامدًا للغاية، لا يمكن مقارنته بالثلج بل بالبلور؛ لكنهم يصيرون كطعامٍ للآخرين. يصيرون نافعين أيضًا للغير[54].
القديس أغسطينوس
* "قدام برده من يقف؟" مكتوب أنه في الأيام الأخيرة تبرد محبة الكثيرين... ليت الله يهبنا ألا يزحف أي برد إلى قلوبنا. إننا لا نرتكب خطية إلا بعدما تبرد المحبة. لهذا، ماذا يقول الرسول؟ "كونوا حارين في الروح. إلهنا نار آكلة". إن كان الله نارًا، فهو نار لكي ينزع برد الشيطان.
طبيعة الميت أنه بارد، وطبيعة الحيّ أنه دافئ. فإن صار أحد باردًا ومات، يرسل إليه كلمته ويذيب (برده)[55].
القديس جيروم
يُرْسِلُ كَلِمَتَهُ، فَيُذِيبُهَا.
يَهُبُّ بِرِيحِهِ، فَتَسِيلُ الْمِيَاهُ [18].
* "يرسل كلمته فيذيبها" ليت الثلج لا ييأس، ولا الصقيع، ولا الجليد (البلور).
فمن الثلج كما من الصوف يصنع ثوبًا.
ومن الصقيع يجد أمانًا في التوبة...
وأيضًا يدعو حتى الذين إلى فترة طويلة كانوا جليدًا جامدًا، فإنهم لن يكونوا جامدين أمام رحمة الله. إنه "يرسل كلمته فيذيبها"...
إنهم جامدون خلال الكبرياء... لا تيأسوا حتى بالنسبة للجليد.
اسمعوا قولًا من الجليد: "كنت قبلًا مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا" (1 تي 1: 13). لماذا أذاب الله الجليد؟ حتى لا ييأس الثلج من نفسه. إذ يقول: "لكنني لهذا رُحمت، ليُظهر يسوع المسيح فيَّ أنا أولًا كل أناةٍ، مثالًا للعتيد أن يؤمنون به للحياة الأبدية" (1 تي 1: 16). عندئذ دعا الله الأمم: "لتذوبوا يا أيها الجليد. تعالوا أيها الثلج".
"روحه يهب، فتسيل المياه". هوذا الجليد والثلج ذابا، وتحولا إلى مياه. "من كان عطشانًا، فليأتي ويشرب" (راجع يو 7: 17).
كان شاول جليدًا قاسيًا، اضطهد استفانوس حتى الموت. الآن بولس في المياه الحية، يدعو الأمم للينبوع (المسيح)[56].
القديس أغسطينوس
* هنا -في رأيي- يقدم سمة قوة الله غير المُقاومة وغير المحدودة في إنتاج أمورٍ من اللاوجود، ويغير ويشكِّل هذه الأمور لتحقق رغبته.
أحيانًا يغيِّر الأشياء نفسها، وفي أوقات أخرى يحرك الأمور الباقية في طرق عمل أخرى، ويسمح لعملياتها الخاصة أن تتوقف لتقوم بأعمال مناقضة للأولى.
هذا ما فعله أيضًا في حالة الأتون. كانت فيه نار، لكنها لم تحرق، بل على العكس الذين ألقوا فيها تمتعوا بنوعٍ من الندى مُسِرٍ للغاية (دا 3).
وفي حالة اليهود كان يوجد بحر، ولكن عوض المياه التي تُغرِّق، ساروا فيه، وكان في صلابة أكثر من الصخر (خر 14).
كانت هناك أرض في حالة داثان وأبيرام (ومن معهما)، ولكن عوض أن تسند أجسامهم غاصوا فيما هو أصعب من الغرق في بحرٍ (عد 16).
عصا هرون كانت خشبًا جافًا، وأنتجت ثمرًا مسرًا أكثر من النباتات التي كانت في الأرض (عد 17).
في حالة بلعام كانت حماره أكثر غباوة من أي حيوان آخر، وقدمت للرجل الذي كان يضربها دليلًا ليس بأقل مما تقدمه كائنات بشرية عاقلة.
كانت هناك أسود في حالة دانيال أظهرت حنوًا أكثر مما تظهره الأغنام، لم تُلغِ طبيعتها لكن سلوكها قد تغيَّر[57].
القديس يوحنا الذهبي الفم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]7. التسبيح والتمتع بالوصية الإلهية[/FONT]

يُخْبِرُ يَعْقُوبَ بِكَلِمَتِهِ،
وَإِسْرَائِيلَ بِفَرَائِضِهِ وَأَحْكَامِهِ [19].
* ما هو "البرّ"؟ وما هي "الأحكام"؟ فإن ما عانت منه البشرية كما جاء قبلًا حين كانت ثلجًا وصقيعاً وجليدًا، إنما عانته بسب كبريائها وتشامخها على الله.
لنرجع إلى أصل سقوطنا، وننظر إلى ما هو بالحق يُرتل به في المزمور: "قبل أن ُأذلل أنا ضللت" (مز 119: 67). لكن من يقول هذا، يقول أيضًا "خير لي أنك أذللتني، فأتعلم برَّك" (مز 119: 71). هذا البرّ تعلمه يعقوب الذي جعله يصارع مع الله نفسه الذي جاء على هيئة ملاك. لقد أمسك به (بالله)، وبذل جهدًا عنيفًا ليمسك به، وفاز بأن يمسكه. سمح (الله) لنفسه أن يُمسك، في رحمة، وليس في ضعفٍٍ. لذلك صارع يعقوب وغلب. لقد أمسك به وحين بدا كأنه غلب سأله أن يباركه (تك 32: 24 الخ)...
ليت الإنسان يُجاهد لكي يمسك، يمسكه بشدة، إذ يمسكه بعد تعبٍٍ. هذه هي أحكامه التي أعلنها الله ليعقوب وإسرائيل[58].
القديس أغسطينوس
لَمْ يَصْنَعْ هَكَذَا بِإِحْدَى الأُمَمِ،
وَأَحْكَامُهُ لَمْ يَعْرِفُوهَا.
هَلِّلُويَا [20].
يرى القديس أغسطينوس أن ربنا يسوع المسيح أعلن نفسه لشاول الطرسوسي الذي كان قاسيًا كالجليد، وإذ ذاب كرز شاول أو بولس للثلج أي للأمم لكي يذوب الأمم أيضًا.
لاحظ القديس يوحنا الذهبي الفم[59] أن المرتل بدأ مزموره بالحديث عن العطايا الخاصة بشعبه، ثم انتقل إلى رعايته للعالم كله، فهو محب لكل البشرية، يعود الآن فيتحدث عن اهتمامه بشعبه.
يختم القديس يوحنا الذهبي الفم[60] تفسيره لهذا المزمور بتقديم تفسير روحي رمزي، متطلعًا إلى أورشليم كرمزٍ لأورشليم العليا، وصهيون كرمزٍ لكنيسة العهد الجديد.
* لاحظوا كيف ينتقل مرة أخرى من معالجة الأمور العامة إلى الخاصة، متحدثًا عن الامتيازات التي لليهود كي يحثهم على غيرةٍ أعظم. فبعد أن بدأ المزمور بالحديث عن الأمور المادية، وما هو لنفع أجسادهم من أمانٍ وخصوبةٍ وسلامٍ، هنا يرتفع بالمقال إلى الأمور العلوية، فيشير إلى أعطاء الناموس الذي كان امتيازًا خاصًا، حتى يسحبهم عن الشر، ويقودهم إلى الفضيلة، وينير عقولهم.
لهذا قدم أيضًا حديثًا عن كل جانبٍ من هذا، قائلًا: أي شعب مثل هذا؟ هذا الجنس العظيم الذي إلهه قريب منه..." (راجع تث 4: 7)
بالمثل يقول داود: "الرب مجرى الرحمة والقضاء لجميع المظلومين. عرّف موسى طرقه، وبني إسرائيل رغباته". (راجع مز 103: 6-7)[61]
القديس يوحنا الذهبي الفم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي المزمور 147

لأسبح بكل كياني!


* لتملأ حياتي بالفرح السماوي،
فأختبر عذوبة التسبيح!
لساني يهتف لك،
وقلبي وعواطفي وكل إحساسي ترنم لك.
أغني بفمي وشفتي،
وأغني بكل أعضاء جسمي وطاقاتي.
ليسلك كل عضو كما يليق به،
فيشهد لجلالك، ويختبر الشركة معك.
ويتحول كل كياني إلى قيثارة،
يعزف عليها روحك القدوس أنشودة حب!
أرنم لك بالصوت كما بالصمت والعمل!
* يهبني التسبيح جناحين،
فتطير نفسي كما إلى السماء!
بالتسبيح أتمتع بحبك وحب إخوتي.
أختبر عربون السماء والشركة مع السمائيين.
بالترنم تعتزل نفسي محبة الزمنيات،
وتنطلق متحررة لتنعم بالسماويات.
* هب لي حياة التسبيح الداخلي الحقيقي،
فأتأهل لبناء أورشليم في أعماقي!
تقيم ملكوتك في قلبي،
وتنير عيني، فأعاين مجدك.
* بالتسبيح والشكر أستعرض جراحاتي لك.
هي من صنع إرادتي الشريرة،
هي ثمر إهمالي وخطاياي،
أنت هو السامري (الحارس) الصالح.
تضمد جراحات نفسي،
وتجبر كسور عظامي!
* تفرح قلوبنا حين نتطلع إلى الكواكب وسط ظلمة الليل.
وتُسر أنت يا إلهي أن ترى مؤمنيك كواكب منيرة.
هب لنا بالتسبيح أن تتلألأ كما في وسط ليل الضيقات.
لتشتد ظلمة الليل، فيزداد بهاء أولادك.
تحصيهم ككواكبٍ معروفة لديك،
واهبًا لكل منَّا اسمًا تعتز أنت به!
لن تستطع ظلمة الخطية أن تفسد بهاءك المشرق في أعماقنا.
نعمتك تقيم منا كواكب لن يخفيها ظلام الضلال!
* تسبحك نفسي أيها الصالح القدير.
وسط الضيق تطمئن نفسي،
تحول مرارتي إلى عذوبة فائقة.
تصمت أعماقي وتنتظر،
فأنت إله المستحيلات، ليس لعظمتك حدود.
هب لي روح الوداعة فأتكل عليك.
ترفع أعماقي إليك وبفرح تُسر بأعمالك.
أقرع بابك، فتهبني فهمًا لحكمتك وسلامًا لقلبي!
تمسك بيدي، وتحملني على منكبيك.
تنزل إليّ لتحملني إلى سماواتك.
* أنت هو سلاحي الحقيقي.
أنت واهب النصرة في كل معركة.
هب لي ألا أتكل على قوتي البشرية،
ولا أتشامخ بإمكانيات باطلة!
أختفي فيك وسط الضيق،
فأشعر بالأمان وتتهلل نفسي بك.
في أحضانك الإلهية تطمئن نفسي وتسبحك.
أخشاك بروح التقوى وأحبك.
لا أريد أن أحزنك بخطاياي،
وإن سقطت أثق في مراحمك.
لا ينقطع التسبيح من أعماقي،
فإنك لا تُسر بهلاكي، بل برجوعي دائمًا إليك!
* اخترتني بمراحمك لأكون من خاصتك،
تقيم مدينتك في داخلي،
مدينة متهللة بك،
عملها الأول التسبيح لك، ودستورها السلام الحقيقي.
سلام بين النفس والجسد، إذ يقودهما روحك القدوس.
تناغم بين العقل والعاطفة، وبين الفكر والسلوك.
سلام مع الله والناس.
* تقيم من أعماقي أورشليم جديدة، أي رؤية الله.
أراك، فأتأمل في حبك، وأسبحك!
تشتاق بالأكثر نفسي إليك وتعطش.
تمجدك، فتطلب المزيد من التعرَّف عليك.
* حلولك في نفسي المتهللة بك يفيض عليّ بالبركات العجيبة.
أتمتع بالأمان فلا أخشى محاربات العدو.
أنعم بالسلام فلا مجال لصراع داخلي.
أختبر السعادة، فأشعر أني أسعد كائن على الأرض.
تحول أعماقي إلى جنة تحمل ثمار روحك القدوس.
دخولك حوّل أعماقي إلى عرسٍ مفرح.
* لتسكن يا مخلصي في أعماقي.
تنزع عني دنسي،
وتهبني ثوب برِّك ارتديه.
أكتشف بحضورك أنني كنت في ظلمة كصقيع،
أحتاج إلى التوبة بروح التواضع.
أدرك أنني وإن كنت جامدًا كالجليد،
فإن كلمتك قادرة أن تذيبه.
حلولك يفيض في داخلي بمياه نعمتك.
وجودك يحرك كل شيءٍ لبنيان نفسي.
لك التسبيح يا من بالحق تحبني!
  رد مع اقتباس
قديم 22 - 07 - 2014, 08:10 PM   رقم المشاركة : ( 172 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,563

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 148 - تفسير سفر المزامير
خورس الخليقة العجيب!



مقدمة
الطبيعة تسبّح الرب
لا يدرك أحد كيف تسبّح الخلائق ربها
داود يتكلم عن تسبيح الطبائع

أقسام المزمور

تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
للمزامير 148 و149 و150 مكانة خاصة لدى الكنيسة القبطية، تُدم بلحن جميل بكونها الهوس (وتعني التسبيح) الرابع في العشية اليومية وتسبحة نصف الليل.
ليس لهذا المزمور عنوان، ينسب المزمور للنبيين حجَّي وزكريا حسب الترجمات السبعينية والسريانية والأثيوبية. يرى البعض أنه أروع قطعة في سفر المزامير، حيث توجه الدعوة للسمائيين والبشر وكل الخلائق لتسبح الله.
تهتم البشرية بإقامة خوارس أو فرق للأغاني سواء في العالم أو في المجتمعات الدينية. لكننا لم نسمع عن خورس يُدعى للتسبيح كذاك الوارد في هذا المزمور. يضم هذا الخورس الخليقة العاقلة التي تتقي الله، وأيضًا غير العاقلة، بل والجامدة؛ يضم صفوفًا غير محصاة. الكل يشعرون بالدين للخالق المعتني بهم، والكل يعلنون عن إعجابهم وحبهم لهذا الخالق العجيب.
يكشف لنا هذا المزمور التزام الكل بتمجيد الله، كل كائن حسب إمكانياته وقدراته ومواهبه. فالسمائيون والطغمات المسائية يشهدون له بحياتهم السماوية المقدسة المتهللة. والشمس تشهد لله ببهاء أشعتها، كما بحرارتها لخدمة النباتات والحيوانات والإنسان الخ. والقمر بنوره البهي يخدمنا بالليل، والكواكب بجمال منظرها تشهد لعمل الله الفنان الأعظم. هذا من الظاهر، أما ما خفي فهو أعظم.
إذ يتذوق المرتل عذوبة التسبيح، يدعو كل الخليقة السماوية والأرضية للتسبيح:
1. السماوات [1-6] يبدأ بالملائكة، فالأجسام السماوية، ثم السحاب.
  • الأرض [7-10] سواء أعماق البحار والمحيطات أو أعالي الجبال أو الرياح والأشجار المثمرة.
  • البشرية: خُلق البشر على صورة الله -الرجال والنساء- لذا كان يلزمهم أن يسبحوا لله أكثر من الكل!
إذ نتمتع بالخلاص؛ ندرك بالأكثر محبة الله الفائقة لنا، فنسبحه بالأكثر.
*يلزم أن يكون موضوع تأملنا في هذه الحياة الحاضرة تسابيح الله، لأن السمو الدائم لحياتنا العتيدة هو تسبيح له، ولا يستطيع أحد أن يتهيأ للحياة المقبلة إن لم يمارسها بنفسه الآن.
يتسم تسبيحنا بالفرح، وصلواتنا بالتنهد...
بخصوص هذين الأمرين، أحدهما يمارس في التجارب والضيقات التي لهذه الحياة، والآخر خاص بالحياة المقبلة في الراحة الأبدية والسماء[1].
القديس أغسطينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
الطبيعة تسبّح الرب

*لا تنكر الطبيعة أبدًا التسبيح للرب، لأن الخليقة كلها به تتحرك للتسبيح.
من السهل أن تسبّحه الحجارة والأخشاب، لأن رمزه الخفي يحرك الطبائع لتسبحه (دا 3: 51-90).
الخلائق بأشكالها ترتل التسبيح: الناطقة منها، والصامتة على اختلافها (دا 3: 51-90).
الشمس بنورها وبأشعة حرارتها في مسيرة دربها تسبّح كما هي مكونة (مز 148: 3).
والقمر بإشراقه وبتغييرات سرعته يسبّح رب الأزمان الذي لا يتغير (مز 148: 3).
والرقيع بسعته وبالنيرات المنظومة فيه يسبّح مكوَّنَه ليل نهار (مز 148: 3).
والأرض والبحار، بالجبال العالية وبالأمواج، تسبّح بأشكالها كما هي مخلوقة (مز 69: 34).
وكل الغابات والأشجار المثمرة والأرز تسبّح كل يوم بعجبٍ عظيمٍ (مز 148: 9).
والسماء والأرض مملوءتان من مجده كما هو مكتوب (إش 6: 3)، وكل ما هو مكوَّن يرتل التسبيح لمكوِّنه[2].
*هوذا الخلائق على اختلاف أشكالها ترتل تسبيحك، وأنا افتح فمي لتسبيح جبروتك.
هوذا الأيام والليالي في حدودها تفتح وتغلق لتنشر خبرك في الأرض كلها.
الأمسيات والصبحيات توقظ الناس بهجعاتها وأوقاتها لتسبيحك بتمييز.
الصيفيات والشتويات تعلّم الأرض بتغييراتها ومسيراتها بأنك تبدّل أوقاتها.
البرد والحر اللذان يذهبان ويجيئان للتدبير، يخبران كيف أنك ماهر في أعمالك.
ساعات النهار وهجعات الليل الأربع كلها تُصعد التسابيح المتميزة لقدرتك الخالقة.
البحر بسفنه وعواصفه وأمواجه يكرز بعجبٍ كيف أن قدرتك العاملة مخيفة.
الأمواج العاتية ومعها الرياح العزيزة ترتل خبرك (قائلة) كيف أن جبروتك عجيب.
اللجة الكبرى ولوياثان مع التنانين تستند عليك في عمق البحار في تخومها.
كل اليابس والأرض وجبالها مع آكامها تسبحك، وأنت تحملها لئلا تسقط.
هوذا السماوات تخبر بمجدك بطبائعها، ويبين الرقيع (الفضاء أو الغلاف الجوي) عمل يديك: كم أنت جبار!
هوذا الخيمة الكبرى التي نسجتها قدرتك الخالقة وبسطتها ممدودة وقائمة فوق كل الجهات، وهي مليئة بتسبيحك.
الشمس والقمر وأشعتهما واشراقاتهما توقظ العالم بالمسيرة الكبرى لمدحك[3].
القديس مار يعقوب السروجي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]لا يدرك أحد كيف تسبّح الخلائق ربها[/FONT]

*كل خلائقه ترتل التسبيح بألسنتها: كيف؟ وبأي مقدار؟ لا تستطيع أبدًا أن تفقه ذلك.
الحق يشهد بأن كل الطبائع تسبّحه: كيف؟ لا أحد يدرك أو يصف ذلك.
لا يعرف أحد بأي فمٍ، وبأي صوتٍ ترتل الأرض لربها عندما تُطالب بذلك[4].
القديس مار يعقوب السروجي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]داود يتكلم عن تسبيح الطبائع[/FONT]

*يشهد داود بأنها تسبّح عندما كان يطالب أيضًا العناصر بالتسبيح بكنارتها (مز 148).
النار والبرد والجليد والثلج والتنانين واللجج كلها والأرض والجبال والآكام (مز 148: 7-8).
طالب داود هذه بالتسبيح كجزية، ليرتفع التسبيح للعامل من خلائقه.
حثّ الرياح والعواصف على التسبيح، لو كان يعرف بأنها لا تسبّح لما كان يحثها (مز 148: 8).
تحرك داود بالروح القدس، وبدوره حرك العلويين والسفليين على التسبيح.
الشمس والقمر والنيرات الموجودة في الرقيع والأرض والجبال والآكام والأشجار.
قال داود لهذه كلها: سبّحي الرب! وأيقظها، لأنه كان يعرف بأنها تسبّح (مز 148: 1).
كيف؟ أو بأي نوع تسبّح؟ لا تطلب مني، لأنه يصعب عليّ أن أفسر لك.
توجد أسرار خفية بين الله وخلائقه، ويسمعها عندما تسبّح بأشكالها.
عندما تُطالب الحجارة بأن تهتف بتسبيحه، هو وحده يعرف أن يسمع لغاتها.
عندما كان يُزف على الجحش، كانت مستعدة لتسبّح درب تواضعه الجديد.
وبما أن الصبيان أخذوا الأغصان للتسبيح، حينئذ لم يكن لازمًا أن ترتل الحجارة التسبيح.
ولو سكت هناك هؤلاء الذين حملوا الأغصان، لكانت الحجارة تسبّح بخوفٍ الملك الآتي (زك 9: 9؛ مت 21: 5).
وعندما سعى اليهود ليُسكِتوا تسبيح الابن، أجابهم: إن الحجارة ستصرخ له (لو 19: 40).
كانت ستصرخ بالحقيقة كما قال، لأنه لا توجد فرصة ليبطل تسبيحه من قبل الخلائق[5].
القديس مار يعقوب السروجي
1. دعوة السمائيين للتسبيح
1-2.
2. دعوة السماء للتسبيح
3-6.
3. دعوة الأرض وكل ما عليها للتسبيح
7-10.
4. دعوة القادة للتسبيح
11.
5. دعوة الشعب للتسبيح
12.
6. دوافع التسبيح لله
13-14.
أ. اسمه عظيم
13.
ب. مجده يملأ السماء والأرض
13.
ج. رعايته لشعبه
14.
من وحي المزمور 148
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. دعوة السمائيين للتسبيح

هَلِّلُويَا.
سَبِّحُوا الرَّبَّ مِنَ السَّمَاوَاتِ.
سَبِّحُوهُ فِي الأَعَالِي [1].
في الترجمة الكلدانية: "سبحي الرب أيتها الخلائق المقدسة من السماء".
إذ يدعو المرتل الخليقة كلها لتتهلل مسبحة الرب، يبدأ المزمور بالصف الأول من الخورس. يقول: "هللويا. سبحوا الرب من السماوات، سبحوه في الأعالي؛ سبحوه يا جميع ملائكته، سبحوه يا كل جنوده" (مز 1:148-2). يبدأ موكب التسبيح بالساكنين في السماء، الذين في الأعالي. يتغنى الملائكة، أصواتهم عذبة وهادئة[6].
إذ يصير المؤمن سماء، يُقام في داخله ملكوت الله، وتنطلق نفسه بكل طاقاتها نحو الأعالي، تشارك السمائيين تسبيحهم للرب.
*الآن أعرض لكم ظروف الصلاة المختلفة: الطلبة والشكر والتسبيح.
في الطلبة يسأل الشخص الرحمة لأجل خطايانا، وفي الشكر تقدِّم الشكر لأبيك السماوي، وفي صلاة التسبيح تسبِّح الله لأجل أعماله.
عندما تكون في ضيقٍ، قدِّم طِلْبًة لله.
عندما يعطيك الله عطايا صالحة، فلتشكر العاطي.
عندما يتهلَّل ذهنك، قدِّم لله التسبيح.
لذلك قدِّم هذه الصلوات بتمييز إلى الله.
انظر إلى داود عندما كان يقول دائمًا: "في نصف الليل أقوم لأحمدك على أحكام برّك" (مز 119: 62).
وفي مزمور آخر يقول داود: "هلِّلويا، سبِّحوا الرب من السماوات، سبِّحوه في الأعالي" (مز 148: 1).
وفي مزمور آخر: "أبارك الرب في كل حين. دائمًا تسبحته في فمي" (مزمور 34: 1)، لذلك لا تستعمل نوعًا واحدًا من الصلاة، ولكن استخدم كل الأنواع في أوقات متفرِّقة[7].
القدِّيس أفراهاط
*يصير التسبيح لله على ثلاثة وجوه:
أ. الخلائق غير الناطقة وعديمة الحياة (الجامدة) تسبح بظهورها فقط وجمالها، فتحرك الناظرين إليها وتحرضهم على التسبيح لخالقها.
ب. الخلائق الناطقة، يسبحون الله بكلامهم وحُسن أعمالهم الصالحة، فيمجدوا أباهم الذي في السماوات...
ج. في تعديد المخلوقات كلها لم يُذكر الابن والروح القدس لكي يبكموا المجدفين على الابن والروح القدس بأنهما مخلوقان. إنهم يوضحون أن الابن الوحيد والروح القدس ليسا من المخلوقات المسبحة لله، بل هما إله واحد مع الآب.
جاءت كلمة "السماوات" في العبرية بالجمع، وتترجم أحيانًا "سماء السماوات" للتمييز بينها وبين السماء بمعنى الجلد الذي خلقه الله في اليوم الثاني. وأيضًا أحيانًا ندعو الهواء سماءً كالقول: "طيور السماء".
الأب أنسيمُس الأورشليمي
*سبحوا بكل كيانكم؛ بمعنى لا يكن لسانكم وصوتكم وحدهما يسبحان الله، وإنما ضميركم أيضًا وحياتكم وأعمالكم.
الآن إذ نحن مجتمعون معًا في الكنيسة نسبح. عندما نخرج كل واحدٍ إلى عمله، يبدو أننا نكف عن تسبيح الله.
ليت الإنسان لا يكف عن أن يعيش حسنًا، بهذا يسبح الله على الدوام...
يستحيل أن تكون أعمال إنسانٍ شريرة إن كانت أفكاره صالحة. لأن الأعمال تصدر عن الفكر. ولا يستطيع إنسان أن يفعل شيئًا أو يحرك أطرافه لعمل ما لم يسبقه أمر من فِكِرِه.
كما أن كل ما ترونه يتم في الأقاليم إنما يتم حسب ما يأمر به الإمبراطور من داخل قصره إلى كل الإمبراطورية الرومانية. كم من تحركات يسببها أمر واحد يصدر بواسطة الإمبراطور وهو جالس في قصره! مجرد يحرك شفتيه ويتكلم يتحرك كل الإقليم لتنفيذ ما ينطق به. هكذا في حالة الإنسان أيضًا، فإن الإمبراطور في الداخل، كرسيه في القلب [كان يُنظر للقلب كمركز للأفكار، والكلُى كمركز للعواطف]. إن كان القلب صالحًا ويصدر أمورًا صالحة، تُمارس أعمال صالحة.
حينما يجلس المسيح هناك، ماذا يمكن أن يصدر إلا ما هو صالح؟
وإذا كان الشيطان هو المُقيم فيه، ماذا يأمر إلا بالشر؟
ولكن الله يريد أن يكون الأمر حسب اختياركم من الذي يحتل الموضع: الله أم الشيطان.
عندما تعدون المكان سيحكم من هو مقيم فيه.
لهذا أيها الأحباء لا تنصتوا إلى الصوت فقط حين تسبحون الله، سبحوا بكل كيانكم. سبحوا بلسانكم وحياتكم وأعمالكم، كل هذه فلتسبح.
"سبحوا الرب من السماوات" إذ وجد (المرتل) في السماوات من ينعمون بالسلام بتسبيحهم الرب، لذا يحثهم أن يقوموا ويسبحوا...
أولًا يقول: "من السماوات"، وبعد ذلك "من الأرض"، لأن الله الذي نسبحه هو خالق السماوات والأرض. كل الذين في السماوات هم في هدوءٍ وسلامٍ. هناك فرحٍ دائمٍ، ليس موت ولا مرض ولا مصدر إغاظة، هناك الطوباويون يسبحون الله على الدوام. أما نحن فلا نزال أسفل، عندما نفكر كيف أن الله يُسبح هناك، يكون قلبنا هناك، وليس باطلًا نسمع القول: "ارفعوا قلوبكم".
لنرفع قلوبنا إلى فوق، فلا تفسد على الأرض. فإننا نُسر بما يفعله الملائكة هناك. نفعل هذا الآن هنا في رجاء، ونمارسه حقيقة عندما نذهب هناك. عندئذ: "سبحوه في الأعالي"[8].
القديس أغسطينوس
سَبِّحُوهُ يَا جَمِيعَ مَلاَئِكَتِهِ.
سَبِّحُوهُ يَا كُلَّ جُنُودِهِ [2].
لما كان أتباع ماني كغنوسيين يعتقدون بالثنائية، عالم روحي من صنع الكائن الأسمى، وعالم مادي شرير من عمل "الخالق" وهو أدنى من الكائن السامي، لهذا يتحدث القديس الذهبي الفم[9] معلقًا على هذا المزمور بأنه يليق بنا أن ندرك أنه توجد خليقة واحدة، قسم منها يُدرك بالحواس كالمادة، وقسم آخر يدرك بالعقل كالكائنات الروحية أو الطغمات السماوية، لكن الجميع يشتركون معًا كخورسٍ واحدٍ يسبحون الإله الواحد، خالق الكل.
يرى القديس جيروم أن المرتل إذ يبدأ بالطغمات السماوية لتسبح الرب، إنما يُحسب هذا دعوة موجهة إلينا لكي يصير كل إنسانٍ كواحدٍ منهم يسبح الرب، أما من يقاوم الله مثل الشيطان فلا يستطيع أن يسبح.
*من كان ملاكًا فليسبح، ومن كان شيطانًا فلا يقدر أن يسبح[10].
القديس جيروم
*"سبحوه يا جميع ملائكته، سبحوه يا جميع قواته..." [2-5].
وكأنه يُقال له: "لماذا يسبحونه؟ ماذا أنعم به عليهم حتى يسبحوه؟" لهذا أكمل قائلًا: "لأنه هو قال فكانت، وهو أمر فخُلقت".
ليس بالأمر المدهش أن الأعمال تسبح العامل، ليس من دهشة أن الأشياء المصنوعة تسبح صانعها، المخلوقات تسبح خالقها.
في هذا إشارة أيضًا إلى المسيح، وإن بدا أننا لا نسمع اسمه...
بمن خلقوا؟ بالكلمة (يو 1: 1-2). يُظهر في هذا المزمور أن كل شيء صنع بالكلمة. "لأنه هو قال فكانت؛ وهو أمر فخُلقت".
ليس أحد يتكلم، ليس من يأمر إلا بالكلمة[11].
القديس أغسطينوس
*إن أردت أن تعرف شيئًا عن الشاروبيم والسيرافيم اسمع التسبحة السرية التي تخص قداسته: "السماء والأرض مملوءتان من مجده" (إش 6: 3)، إذ يقول داود: "سبحوه يا كل جنوده" (مز 148: 2).
إن سألتم عن القوات العلوية تجدون عملهم الوحيد هو تسبيح الله...
كيف تقدر طبيعة مخلوقة أن تعاين الطبيعة غير المخلوقة؟
إن كنا لا نقدر مطلقًا أن نشاهد أية قوة روحية حتى المخلوقة مثل الملائكة، فكم بالأحرى لا نقدر أن نرى الجوهر الروحي غير المخلوق، لذلك يقول بولس: "الذي لم يره أحد من الناس، ولا يقدر أن يراه" (1 تي 6: 16). هل هذه الخاصية تخص الآب وحده دون الابن؟ حاشا لنا أن نفكر هكذا! إنما تخص الابن أيضًا. لكي تعرف هذا، اسمع بولس الذي يقول عنه ذات الأمر: "صورة الله غير المنظور" (كو 1: 15). فإن كان هو صورة غير المنظور يلزم أن يكون غير منظور، وإلا فلا يكون صورته[12].
*إنه يقدم جوقة واحدة، يقدمون له أغنية واحدة من الجميع، مُلحًّا بإصرار على الالتزام بتقديم التسبيح لله الواحد من الخليقة العلوية والخليقة السفلية، مظهرًا أنه يوجد خالق واحد لكليهما[13].
*في شعورهم العميق بالامتنان يمارس القديسون هذا، إنهم وهم يشكرون الله يدعون الكثيرين ليشتركوا في التسبيح، ويحثونهم على الاجتماع معهم في هذا الطقس الممتع.
هذا أيضًا ما فعله الثلاثة فتية حينما كانوا في الأتون، إذ دعوا كل الخليقة أن يشكروا من أجل الامتياز الذي قُدم لهم، وأن يسبحوا الله.
يفعل واضع هذا المزمور هذا هنا، فيدعو كل من العالم العلوي والعالم السفلي، العالم المادي والعالم العقلي، لفعل هذا.
فعل أيضًا إشعياء نفس الأمر، عندما قال: "ترنمي أيتها السماوات، وابتهجي أيتها الأرض... لأن الرب ترحّم على شعبه" (راجع إش 49: 13).
قال المرتل (واضع المزمور) أيضًا: "عند خروج إسرائيل من مصر، وبيت يعقوب من شعب فظ، الجبال قفزت مثل الكباش، والآكام مثل حملان الغنم" (مز 114: 1، 4). مرة أخرى يقول إشعياء في موضع آخر: "لتمطر السحب برٍّا" (راجع إش 45: 8).
ها أنتم ترون بقدر ما كانوا يشعرون بعجزهم عن التسبيح للرب بما فيه الكفاية، يحثون كل واحدٍ أن يساهم في التسبيح[14].
*"سبحوه يا كل جنوده"، يعني الشاروبيم والسيرافيم والسلاطين والرئاسات والقوات.
هذا علامة الروح الملتهب للغاية، هذا علامة الحب المتقد، الذي يحث كل أحدٍ للتسبيح المحبوب.
هذا علامة العقل الدائم الشبع بالتأمل في الله، المضروب بالدهشة أمام مجده، والمُكرس له[15].
القديس يوحنا الذهبي الفم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. دعوة السماء للتسبيح

سَبِّحِيهِ يَا أَيَّتُهَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ.
سَبِّحِيهِ يَا جَمِيعَ كَوَاكِبِ النُّورِ [3].
بعد أن دعا الصف الأول من الخورس للتسبيح، دعا الصف الثاني وهو السماء المنظورة أو شبه منظورة للإنسان من الشمس والقمر وجميع كواكب النور، والجلد الخ.
تسبح الشمس والقمر والكواكب الرب، بكونها عمل الله، تكشف عن حكمته وقدرته وصلاحه كخالقٍ لها.
*عندما يتحدث الكتاب المقدس عن لاهوت الرب، يقول إنه "ليس إنسانًا"، و"ليس لعظمته استقصاء" (مز 145: 3). وأنه "مهوب على كل الآلهة" (مز 96: 4). ويقول أيضًا: "سبحوه يا جميع ملائكته. سبحوه يا كل جنوده. سبحيه أيتها الشمس والقمر. سبحيه يا جميع كواكب النور" (مز 148: 2-3)[16].
العلامة أوريجينوس
*رأى يوسفُ حُلمًا آخر، أخُبَر به أباه وأَمه: أنَ الشمسَ والقمرَ وأحَدَ عشَر نجمًا كانوا ساجدين له!" (راجع تك 9:37). لهذا وبَّخه أبوه قائلًا: "ما هذا الحُلم الذي حلُمتَ؟ هل نأتي أنا وأمك وإخوتك لنسجد لك إلى الأرض؟" (تك 10:37)
من هو غير يسوع المسيح، الذي سجد أمامَه أبواه وإخوته إلى الأرض؟ فقد سجد يوسف والعذراء مريم أم يسوع مع التلاميذ قدامَّه، واعترفوا بالله الحقيقي في هذا الجسد، الذي كُتب عنه: "سبحَّيه يا أيتها الشمس والقمر، سبحَّيه يا جميع كواكب النور" (مز 3:148).
أيضًا ما معنى انتهار الأب، إلا قسوة شعب إسرائيل، الذي يأتي منهم المسيح بحسب الجسد، لكنهم اليوم لا يؤمنون أنه الله، وليسوا مستعدين أن يسجدوا له بصفته ربهم. لأنهم كانوا يعلمون أنه وِلدَ منهم، وقد سمعوا إجاباته لكنهم لم يفهِموها. وهم أنفسهم قرأوا أن الشمس والقمر يسبحانه، لكنهم رفضوا أن يؤمنوا أن هذا قيل إشارةً إلى المسيح.
لهذا كان يعقوب مخطِئًا بخصوصِ الرمز الذي يشير إلى آخر، لكنه لم يخطئ في الحب الذي ينبع منه. ففيه لم ينحرف الحب الأبوي، لكن كان الاستدلالُ على عاطفةِ شعٍب سيضِّل![17]
القديس أمبروسيوس
سَبِّحِيهِ يَا سَمَاءَ السَّمَاوَاتِ،
وَيَا أَيَّتُهَا الْمِيَاهُ الَّتِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ [4].
لعل من أهم البركات التي كان يتطلع إليها الساكنون في كنعان المطر، الذي يروي الأرض فتأتي بالثمار المطلوبة.
في العصر الحالي نرى صرخات الكثير من البلاد بسبب الجفاف الذي يحلّ بالبلاد بسبب انعدام أو قلة المطر. فيتطلع البشر إلى سحب السماء التي تهب أمطارًا كبركة عظيمة، تدفعنا لتقديم الشكر والتسبيح لله.
*دائمًا تعطي السماوات المطر للأرض. لكن انظروا، الآن تروي الأرض السماوات، حيث تثب دموع البشر إلى فوق السماوات، وتصعد إلى الرب نفسه. بهذا يمكن التسبيح بما يقوله المرتل بخصوص مياه الدموع: "سبحيه يا أيتها المياه التي فوق السماوات"[18].
الأب بطرس خريسولوجوس
*ربما يقول أحد: كيف يمكن لهذه الأشياء أن تسبحه، وهي ليس لها صوت ولا لسان أو روح أو تفكير، أو مخ أو آلة صوتية أو عقل؟
توجد طريقتان للتمجيد، واحدة بالكلمة والأخرى بالنظر، وثالثة مع هاتين بالحياة والعمل.
ها أنتم ترون أن الكائنات البشرية تقدم المجد لله، ليس فقط عندما يتكلمون، بل وعندما يحتفظون بالصمت. وكما قال المسيح: "فليضئ نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذي في السماوات" (مت 5: 16). وأيضًا "أكرم الذين يكرمونني" (1 صم 2: 30).
ويمكن أيضًا تقديم التمجيد باللسان، كما سبح موسى مع مريم بالكلمات: "فلنسبح الرب، لأنه بالمجد قد تمجد".
هذا أيضًا يمكن أن يتم خلال الخليقة ذاتها، إذ يقول المرتل نفسه: "السماوات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه" (مز 119: 1).
تسبحه أيضًا الخليقة بجمالها وحالها وعظمتها وطبيعتها ونفعها وخدمتها ودوامها والمزايا الصادرة عنها. لذلك عندما يقول: "سبحوا الرب يا أيها الملائكة والقوات والسماوات والقمر والشمس والمياه التي فوق السماوات"، يعني هذا أن كل شيء من الخليقة يتأهل لحكمة الخالق ومملوء بالعجب المرهب. وذلك كما قال موسى في البدء في اختصار: "ورأى الله كل ما عمله، فإذا هو حسن جدًا" (تك 1: 31). إنه حسن إذ يمجد الخالق، ويقود الناظرين إليه إلى تسبيح الفنان.
لهذا يدعو جمال المخلوقات تسبحة، حيث تبعث على تسبيح الخالق. هذا أيضًا ما يشير إليه بولس: "لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته" (رو 1: 20)[19].
القديس يوحنا الذهبي الفم
لِتُسَبِّحِ اسْمَ الرَّبِّ،
لأَنَّهُ أَمَرَ فَخُلِقَتْ [5].
تسبح هذه المخلوقات خالقها، لأن مع كل ما فيها من إمكانيات وأنظمة، إلا أنها خُلقت بأمرٍ مجردٍ. لم يكن الله محتاجًا إلي زمن لدراسة خلقة هذه الكائنات، ووضع أنظمة لها، وتحديد أهدافها، والحفاظ عليها.
الله في حبه لخليقته يود أن يثبتها إلى الدهر، وفي نفس الوقت يضع لكل منها حدودًا. فالبحر يعرف حدوده، فلا يغطي الأرض ويفسدها إلا بسماح من الله. والشمس لها حدودها، وإلا أحرقت كل ما على الأرض. من محبة الله ورعايته لخليقته يضع حدودًا، لا ليحطم أو ليظهر سلطانه، وإنما لأجل بنيان الخليقة ونفعها.
في تعليق للقديس جيروم على ما ورد في إنجيل مرقس حين دعا السيد المسيح سمعان وأندراوس، فللحال تركا شباكهما وتبعاه، وأيضًا حين دعا يعقوب بن زبدي ويوحنا أخاه "تركا أباهما زبدي في السفينة مع الأجرى وذهبا وراءه" (مر 1: 20). يرى القديس جيروم ما لكلمات السيد المسيح من سلطان وفاعلية، فهو الذي "أمر فخُلقت" (مز 148: 5)[20].
*صنع المسيح كل الأشياء... لا بمعنى أن الآب تنقصه قوة لخلق أعماله، إنما لأنه أراد أن يحكم الابن على أعماله، فأعطاه الله رسم الأمور المخلوقة، إذ يقول الابن مكرمًا أبيه: "لا يقدر الابن أن يعمل شيئًا إلا ما ينظر الآب يعمل. لأنه مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك" (يو 5: 19). وأيضًا: "أبي يعمل حتى الآن، وأنا أعمل" (يو 5: 17). فلا يوجد تعارض في العمل، إذ يقول الرب في الأناجيل: "كل ما هو لي فهو لك. وما هو لك فهو لي" (يو 17: 10).
هذا نعلمه بالتأكيد من العهدين القديم والجديد، لأن الذي قال: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك 1: 26)، بالتأكيد تكلم مع أقنوم معه.
وأوضح من هذا كلمات المرتل: "هو قال فكانت، وهو أمر فخُلقت" (مز 148: 5). فكما لو أن الآب أمر وتكلم والابن صنع كل شيء كأمر الآب[21].
القديس كيرلس الأورشليمي

*بالحقيقة إنها (مخلوقات) جميلة، وتقدم منظرًا عجيبًا، يظهر الحقيقة أن لها خالق ولم توجد من ذاتها...
من لهم أية شكوك، فليتعلموا مني أن لهم خالق أو صانع يعتني بها ويرعاها[22].
القديس يوحنا الذهبي الفم
*ترنم أيضًا داود القديس: "هو قال فصارت، هو أمر فخُلقت" (مز 23: 9). أما أنه "قال" فليس كما يحدث في حالة البشر عندما يتكلم المرء يستمع خادم ما، وبمجرد علمه برغبة المتكلم يسارع إلى التنفيذ والعمل، لأن هذا يختص بالمخلوقات. أما بالنسبة للكلمة فلا يليق أن يفكر أحد عنه هكذا. لأن كلمة الله خالق وصانع، وهو نفسه مشيئة الآب. من أجل هذا لم يقل الكتاب المقدس بأن المستمع سمع وأجاب فيما يخص الكيفية التي يريد أن تكون عليها المخلوقات، بل قال "ليكن"، ثم أضاف "وكان هكذا" (تك 1: 3، 6، 11، 15)[23].
البابا أثناسيوس الرسولي
*حديث الرب نفسه فعّال، ما قاله حقق غرضه[24].
القديس جيروم
وَثَبَّتَهَا إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ،
وَضَعَ لَهَا حَدًّا، فَلَنْ تَتَعَدَّاهُ [6].
ما خلقه بأمرٍ مجردٍ يبقي آلاف السنوات أو الملايين.
*"ثبتها إلى الدهر والأبد". كل الأشياء في السماوات، كل شيء في الأعالي، توجد مدينة في الأعالي صالحة ومقدسة ومطوَّبة، نحن قد تحولنا عنها وصرنا بائسين. إذ نريد العودة إليها نصير مطوَّبين على رجاء، وعندما نعود إليها نصير مطوّبين واقعيًا.
"وضع لها حدًا لا تتعداه"... أي أمر تظنون يقبله الذين في السماء والملائكة القديسون؟
أي أمر أصدره الله لهم؟ ماذا سوى أن يسبحوه؟ طوبى للذين عملهم هو تسبيح الله!
إنهم لا يحرثون ولا يطبخون، فإن هذه الأعمال تتم عن ضرورة، لا لزوم لها هناك.
إنهم لا يسرقون ولا ينهبون ولا يرتكبون الزنا، فإن هذه من أعمال الإثم، وهناك لا يوجد إثم.
لا يكسرون خبزًا لجائعين، ولا يقدمون كسوة لعريانين، ولا يستضيفون غرباء، ولا يفتقدون مرضى، ولا يطاردون مشاكسين، ولا يدفنون موتى، فإن هذه أعمال رحمة، وهناك لا يوجد بؤس، وليس من حاجة لإظهار أعمال رحمة.
يا لهم من مطوبين! فكروا أننا نحن أيضًا سنصير هكذا! آه! لنئن، ولنتأوه على أنيننا. ماذا نحن عليه الآن، وماذا سيكون حالنا هناك؟ إننا معرضون للموت، متشردون، في مذلةٍ، تراب ورماد! أما الذي يعد فهو القدير[25].
القديس أغسطينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
3. دعوة الأرض وكل ما عليها للتسبيح

أما الصف الثالث فهو صف الخليقة التي تبدو لنا مرعبة بل ومؤذية الإنسان، بعضها يبدو بلا نفع كالتنانين والبَرَدْ والضباب والعواصف. فإن كنا لا ندرك أهميتها أو دورها في حياتنا، لكنها تنضم إلى صفوف المسبحين.
سَبِّحِي الرَّبَّ مِنَ الأَرْضِ،
يَا أَيَّتُهَا التَّنَانِينُ وَكُلَّ اللُّجَجِ [7].
إن كانت السماوات تشهد لمجد الله، فإن الأرض والبحر وكل ما فيهما أو عليهما يشهد لحكمة الله. كل شيءٍ جميل في موقعه وبالطبيعة التي تناسبه.
هنا إذ يطالب الكائنات المخيفة مثل التنانين الضخمة أن تسبح الرب، إنما يدعو الإنسان الذي يسلك كالتنين أن يقدم توبة عما هو عليه، ويرتبط بالله ويسبحه.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[26] أن المرتل قد بدأ بالخليقة التي في الأعالي، التي فوق السماء (الجلد)، ثم نزل إلى السماء، وأخيرًا ينزل إلى الأشياء التي على الأرض.
لم يذكر المرتل الحيوانات، حيث لا يحدث جدل عنها بكونها جميلة ونافعة، لكنه يتحدث عن الخليقة التي يرى البعض أنها ضارة ولا تمجد الله مثل التنانين والرياح العاصفة والنار والبَرَدْ ووحوش البرية والجبال الشامخة، والزواحف. هذه المخلوقات التي قد يرهبها الإنسان، متسائلًا: لماذا خلقها الله محب البشر؟ هي أيضًا تشهد لعناية الله وعظمته. الآن يشهد العلم أن بعض الزواحف والحشرات مثل العقرب نافعة، فسُم العقرب يستخدم في بعض الأدوية للعلاج من بعض الأمراض، والنباتات والأعشاب التي توجد على الجبال وفي البراري لها منافع صحية.
مع كل جيل جديد، بل ومع كل يوم نكتشف بركات ومنافع من مخلوقات كنا نود الخلاص منها.
هذا والنار التي أُلقي فيها الثلاثة فتية القديسين أحرقت العسكر الشامتين، بينما تحولت إلى ندى للقديسين!
*أنتم ترون أي نوع كل هذه (الأشياء الأرضية)، فهي متغيرة، تسبب اضطرابًا، ومخيفة، وقابلة للفساد، ومع ذلك فلها موضعها ودورها الخاص بها، وهي حسب درجاتها تكمل جمال المسكونة، وبهذا تسبح الله.
إنه يتحول إلى هذه الأشياء كمن يحثها هي أيضًا، ويحثنا نحن أن نسبح الرب...
ماذا؟ هل نظن أن التنانين تشَّكل خوارس وتسبح الله؟ حاشا! ولكن عندما نتأمل التنانين تتطلع إلى خالق التنين؛ عندئذ إذ نُعجب من التنين، نقول: "عظيم هو الرب الذي صنع هذه، بهذا تسبح التنانين الله بأصواتنا[27].
القديس أغسطينوس
النَّارُ وَالْبَرَدُ الثَّلْجُ وَالضَّبَابُ،
الرِّيحُ الْعَاصِفَةُ الصَّانِعَةُ كَلِمَتَهُ [8].
كل ما يدور حولنا حتى النيران المشتعلة، والأهوية والعواصف والسحب الخ. وما تقدمه من خدمات ووضع حدود لها تشهد لإبداع الخالق.
العجيب أن المتناقضات أيضًا تشهد لقدرة الله، النار والبرد، الثلج والضباب والعواصف تتحرك كل هذه الظواهر بكلمة الله.
الخليقة الجامدة كالجبال والتلال مع الأشجار سواء المثمرة أو العقيمة بحكمة أوجدها الخالق. وأيضا الحيوانات المتوحشة كما المستأنسة، والطيور، تشهد له مع الإنسان وتسبحه.
أما عن الإنسان، فمع اختلاف العمر والقدرة والسلطة، الكل يقدر أن يسبح الله.
في اختصار يليق بكل كائنٍ أينما وُجد، وأيا كانت مواهبه أن يسبح الله.
يرى القديس جيروم أن وُجد نوع من التضاد بين النار والبَرَدْ، ونوع من المتاعب بسبب الضباب والرياح العاصفة، لكن الله يستخدم هذه جميعها لخدمة الإنسان كأمر الرب، فهي تسبحه إذ تتمم أمره.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[28] الله الخالق كطبيبٍ حكيمٍ، نشكره ونسبحه في كل تصرفاته. فخلال عنايته الإلهية أوجد آدم في جنة عدن، وبذات العناية سمح له بطرده منها عندما أخطأ، حتى يتحقق خلاصنا، وننعم بالفردوس السماوي.
الله في عنايته سمح بوجود الفردوس السماوي، وبذات عنايته سمح بوجود الجحيم حتى نهرب من الشر، ونسترد بنعمة الله صورته فينا.
*"الصانعة كلمته". كثير من الأغبياء يعجزون عن التأمل وتبَّين الخليقة في أماكنها المتعددة ودرجاتها، تحقق بتحركاتها وإيماءاتها أمرًا من الله. هؤلاء يظنون أن الله بالحقيقة يحكم الأمور العلوية، أما السفلية فيستخف بها، ويتركها جنبًا ويهجرها، فلا يهتم بها ولا يقودها ولا يريدها، إنما تسير مصادفة، يحدث لها ما يحدث حسب قدرتها،... كل منها يحدث لها ما يؤثر عليها من الأشياء الأخرى...
"النار والبَرَدْ والثلج والضباب والريح العاصفة الصانعة كلمته"، تبدو كل هذه الأشياء في الطبيعة للأغبياء أنها وليدة المصادفة، لكنها هي "صانعة كلمته"، لأنها لا تتم إلا بأمره[29].
القديس أغسطينوس
*تقول العروس لريح الجنوب: "هبي على جنتي"، لأن عريسها جعلها أمًا للحدائق. ويشمل النص حدائق وينبوع. من أجل هذا يرغب العريس لحديقته، الكنيسة، التي تمتلئ بالأشجار الحيّة، أن تهب عليها هذه الريح، لكي تحمل منها روائح عطورها. ويقول النبي: "الريح العاصفة، الصانعة كلمته" (مز 8:148).
تزينت العروس بزينة الملكة البهية، وغيّرت النهيرات التي تفيض عطرًا إلى شيء أكثر جمالًا، فجعلتها تفيض من أشجار الحدائق بواسطة قوة الروح القدس.
ويمكننا بهذه الصورة أن نتعلم الفرق بين العهدين القديم والجديد: يمتلئ نهر النبوة بالمياه، بينما تمتلئ أنهار الإنجيل بالعطر. كان نهر القديس بولس يحمل رائحة المسيح العطرة، ويفيض من حديقة الكنيسة بواسطة الروح القدس. والأمثلة الأخرى كيوحنا ولوقا ومتى ومرقس وجميع الرسل الآخرين كلهم يرمزون إلى نباتات نبيلة في حديقة العروس، وعندما تهب عليها في منتصف الظهيرة تصيرها ريح الجنوب جميعا ينابيع عطور لرائحة الأناجيل الذكية[30].
القديس غريغوريوس النيسي
الْجِبَالُ وَكُلُّ الآكَامِ،
الشَّجَرُ الْمُثْمِرُ، وَكُلُّ الأَرْز [9].
ما يبدو لنا نافعًا أو غير نافعٍ، الكل يشهد لحكمة الخالق. فالجبال والتلال التي تبدو أحيانا كعوائق للإنسان، أو أشجار البرية غير المثمرة، تبدو بلا نفع. الكل يقدم بركات للإنسان، حيث يستخرج الإنسان المعادن والحجارة الكريمة من الجبال والتلال، ويستخدم أخشاب أشجار البرية العقيمة.
نسبح الله على الجبال الشامخة والآكام التي تبدو بلا نفع لنا، كما نسبحه على الوديان والحقول. نسبحه على الأشجار المثمرة، والأرز الذي بلا ثمر. فإن كانت الأشجار المثمرة تقدم لنا ما نقتات به، فإن الأشجار غير المثمرة تقدم لنا الأخشاب لبناء البيوت وعمل الأثاث وغير ذلك.
*إن كان الله قد أظهر عناية فائقة جدًا بأشياء وضيعة عديمة النفع والقيمة، فكيف لا يهتم بكم أنتم أكثر من كل المخلوقات الأخرى؟
لماذا يخلقها بهذا الجمال؟ أليس ليُظهر مدى حكمته وامتياز قدرته، لنتعلم ونعرف مجده في كل شيءٍ. أو ليست السماوات "تحدث بمجد الله" (مز 19: 1) والأرض أيضًا، وهذا ما أعلنه داود المرتل حين قال: "سبحي الرب... أيها الشجر المثمر وكل الأرز" (مز 148: 9). لأنها ترسل التسبيح إلى الذي صنعها، البعض بثمارها، والبعض الآخر بعظمتها، والبعض بجمالها.
وتلك أيضًا علامة على الامتياز الفائق للحكمة، إنه حتى مع الأشياء التافهة جدًا (وهل هناك ما هو أتفه من شيء يوجد اليوم ويزول غدًا؟) فإن الله يسكب جمالًا باهرًا كهذا. فإن كان قد أعطى العشب ما لا يحتاجه (لأنه ما فائدة الجمال في إشعال النيران؟) كيف لا يعطيكم أنتم ما تحتاجونه؟
إن كان أكثر الأشياء تفاهة قد أضفى الله عليها هذا الرونق الرائع، ولم يفعل ذلك لاحتياج تلك الأشياء لهذا الرونق، بل لسخائه، فكيف بالحري يكرمكم وأنتم أكرم المخلوقات في أموركم الضرورية؟[31]
*البعض بثمارها ترسل تسبيحًا لخالقها، وأخرى بعظمتها، وأخرى بجمالها. هذه علامة على عظمة سمو الحكمة، التي تظهر حتى (في الخليقة) التافهة جدًا، لأنه أية تفاهة أكثر من الكائن الذي يوجد اليوم، ولا يكون له وجود غدًا؟[32]
القديس يوحنا الذهبي الفم
*تحمل الأشجار ثمارًا لكم، لكنكم لا تحملون أنتم ثمارًا لله.
"وكل الأرز"، لتقتدوا بالأرز كمثالٍ، فالأرز تبلغ الأعالي كأنها تسرع نحو السماء. إنها هكذا لكي تقتدوا بالأشجار غير العاقلة[33].
القديس جيروم
الْوُحُوشُ وَكُلُّ الْبَهَائِمِ،
الدَّبَّابَاتُ وَالطُّيُورُ ذَوَاتُ الأَجْنِحَة [10].
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[34] إننا ننتفع بالحيوانات المستأنسة لمنفعة أجسادنا، كما بالوحوش المفترسة لمنفعة أرواحنا حيث نخشاها، ونتذكر خطايانا وخطايا أبوينا في جنة عدن، وتكشف لنا عن ثمار العصيان.
لقد أعطى آدم هذه الحيوانات أسماءها؛ وعندما تحدثت الحية مع حواء لم ترتعب الأخيرة منها، إنما اختلف الأمر بعد العصيان.
*"الوحوش وكل البهائم". إنها لا تغير طبيعتها، كل المخلوقات تحتفظ بنظامها، ماعدا الإنسان الذي وحده تخضع كل الخليقة (الأرضية) له.
"الدَّبابات والطيور ذوات الأجنحة". المخلوقات الأرضية لا تترك الأرض لتبلغ السماء، ولا الكائنات السماوية تترك السماء لأجل الأرض، والكل في خدمتكم...
خلق الله (المخلوقات الأرضية المتنوعة) لتخدمكم. خلقكم أنتم لكي تخدموه.
إنها تطيعكم. افتدوا بها واخدموا الله كما هي تخدمكم. إنها خلال الله تخدمكم وتطيعكم[35].
القديس جيروم
*عندما ترون أسدًا، وعندما تنظرون حية، تذكروا هذه القصص، فإنها تفيدكم ليس بقليلٍ للتفكير السليم.
اذكروا دانيال أيضًا كيف أنه عندما عاد إلى الصورة القديمة، صارت الوحوش المرهبة لا حسبان لها (دانيال 6). بالحقيقة هكذا كان الأمر بالنسبة للأفعى في عيني بولس (أع 28). بهذا تقتنون غيرة ليست بقليلة، واهتمامًا بنفوسكم.
من هذه الأمثلة وغيرها تجد علة للعجب من خطة الله وتدبيره لهذه المخلوقات... لقد عين لها أماكن بعيدة عن المدن، مناطق صحراوية. بينما تحمل رعبًا لا تميل إلى الحياة في المدن، ولا أن تلتقي مع الذين يعيشون فيها، بل على العكس تفضل المناطق الصحراوية وتُغرم بها، فقد خصص الله لها منذ البداية أن تجد المواضع المناسبة والمواقع اللائقة لتعيش فيها[36].
القديس يوحنا الذهبي الفم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
4. دعوة القادة للتسبيح

ترك صفوف البشرية في النهاية، إذ يبدأ بالسمائيين الخليقة العاقلة السماوية، وختم بالخليقة العاقلة الأرضية، وقد دعاها بطبقاتها جميعًا من قادة وأحداث وعذارى وشيوخ وفتيان. تُرك الإنسان في النهاية كتاج الخليقة الأرضية.
مُلُوكُ الأَرْضِ وَكُلُّ الشُّعُوبِ،
الرُّؤَسَاءُ وَكُلُّ قُضَاةِ الأَرْضِ [11].
يليق بالمؤمن أن يسبح الله ويشكره حتى على وجود أنظمة تبدو كأنها من صنع المجتمع، كإقامة ملوك ورؤساء وقضاة الخ.، فإن يد الله تعمل في كل شيءٍ.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[37] إن كنت حاكمًا أو قائدًا، فلتسبح الله المحب، وتشكره من أجل هذه العطية. وإن كنت من العامة، فلتشكر الله الذي يسمح بوجود قيادات. إن كان القادة ظالمين، فلتطلب من الله المعتني بخليقته، فإن قلب الملك في يد الله.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
5. دعوة الشعب للتسبيح

الأَحْدَاثُ وَالْعَذَارَى،
أَيْضًا الشُّيُوخُ مَعَ الْفِتْيَانِ [12].
*لنسرع جميعًا بنعمة الله إلى سباق الطهارة، شبابًا وعذارى، شيوخًا وأطفالًا (مز 148: 12). لنسبح اسم المسيح، بعيدين عن الشراهة، ولا ننكر مجد العفة. إنها إكليل ملائكي، وفضيلة تسمو بالإنسان[38].
القديس كيرلس الأورشليمي

الإنسان، صورة الله، يسبح بحريته، بينما الطبائع الصماء تسبح بدون تمييز.
*يليق بصورتك أن ترتل تسبيحك بتمييزٍ أكثر من هذه (الطبائع) غير الحرة الخائفة منك.
لي وحدي توجد الحرية بين الخلائق التي تسبّحك بمسيرة طبائعها السريعة.
بدون إرادتها الشمس نيرّة، والقمر بهي، وقوة العساكر (الكواكب) تسير بسرعة.
قوتك العظمى تغصبها جميعًا للتسبيح، وليست حريتها التي تميز حتى تسبّح مخافتك.
يجمل بي أنا الحر التسبيح إن كنت أميز، لأن إرادتي صاحبة سلطان لأتوقف أو أتحرك للتسبيح.
لو توقفت أُدان من قبل العدالة، لأنها تطالب الأحرار بأن يسبّحوا بتمييز.
لهذا أسبحك يا ربي وأنا خائف، ولو أني غير مستحق وغير كفؤ هأنذا أتجاسر.
كل الأفواه ملزمة بتسبيحك، من يستحق ومن لا يستحق يرتل التسبيح.
ربي، يليق بكل الخلائق بأشكالها أن تسبحك: ذات الكلمة وذات الصوت والتي هي بلا صوت[39].
القديس مار يعقوب السروجي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
6. دوافع التسبيح لله

أ. اسمه عظيم

لِيُسَبِّحُوا اسْمَ الرَّبِّ،
لأَنَّهُ قَدْ تَعَالَى اسْمُهُ وَحْدَهُ.
دُعي الخورس خلفه بكل صفوفه أن يسبح بروح التناغم والانسجام، يسبح اسم الرب، الاسم الذي فوق كل الأسماء، هذا الذي مجده لا يُعلى عليه.
ب. مجده يملأ السماء والأرض

مَجْدُهُ فَوْقَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ [13].
*ليته لا يطلب أحد تمجيد اسمه. أتريد أن تتمجد؟ اخضع لذاك الذي لا يمكن أن يُذل؟ "اعترافه على الأرض وفي السماء" [14 LXX][40].
*تصرخ السماء إلى الله: "أنت خلقتني؛ أنا لم أخلق نفسي".
والأرض تصرخ: "أنت خلقتني، أنا لم أخلق نفسي".
كيف تصرخان؟ عندما تتطلع إليهما، وتجدهما تصرخان بصوتك، إنهما تصرخان برؤيتك لهما.
تطلع إلى السماء؛ تجدها جميلة! لاحظ الأرض؛ إنها جميلة!
هما معًا جميلتان. إنه صانعهما، يديرهما، وبإيماءة منه تنحنيان. هو يأمر بفصولهما، وهو يجدد تحركاتهما، هو بنفسه يجددهما.
كل هذه الأمور تسبحه، سواء في السكون أو التحرك، سواء من الأرض في الأسفل، أومن السماء في الأعالي، سواء في حالتهما القديمة أو تجديدهما.
عندما ترى كل هذه الأشياء وتفرح، وترتفع نحو الخالق، وتتفرس في المصنوعات المنظورة، فتدرك أموره غير المنظورة (رو 1: 29).
"اعترافه على الأرض وفي السماء" [13]؛ أي أنك تعترف له من الأشياء التي على الأرض، وتعترف له من الأشياء التي في السماء...
إن كانت الأشياء التي صنعها جميلة، كم بالأكثر يكون جمال صانعها[41].
القديس أغسطينوس
ج. رعايته لشعبه

وَيَنْصِبُ قَرْنًا لِشَعْبِهِ،
فَخْرًا لِجَمِيعِ أَتْقِيَائِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ،
الشَّعْبِ الْقَرِيبِ إِلَيْهِ. هَلِّلُويَا [14].
يُختم المزمور بالتسبيح لله من أجل معاملاته مع شعبه، يهبهم قوة ومجدًا ويجعلهم ملتصقين به.
إنه يسند شعبه ويعدَّهم لكي يتمتعوا بالوطن السماوي، حيث السلام الأبدي.
*لذلك، كما ترون فإن لأورشليم السماوية أسوارًا مصنوعة من السلام[42].
الأب قيصريوس من آرل
*"ويرفع قرن شعبه". انظروا ما تنبأ عنه حجيَّ وزكريا. الآن قرن شعبه في مذلة الأحزان والمتاعب والتجارب وقرع الصدر؛ متى يرفع قرن شعبه؟ عندما يأتي الرب، وتشرق شمسنا، ليست الشمس المنظورة بالعين، والتي تشرق على الصالحين والأشرار (مت 5: 45)، بل الشمس التي قيل عنها لكم يا من تسمعون الله: "تشرق شمس البرّ، والشفاء في أجنحتها" (مل 4: 2). والتي يقول عنها المتكبرون والخطاة: "نور البرَّ لا تشرق علينا، وشمس البرّ لا تبزغ علينا...".
"سبحًا لجميع قديسيه" ليتقبل قديسوه تسبحة. لينطق قديسوه بتسبحة، فإن هذا هو ما سينالونه في النهاية: تسبحة أبدية![43]
القديس أغسطينوس
*تحركوا أيها المتميزون للتسبيح بدل الخلائق الجامدة، لأن بكم يليق التسبيح.
من يوفي ابن الله حقه الذي جاء إلى عالمنا لأجلنا، دون أن يتوقف عن تسبيحه؟
صعد ابن الله على الصليب بدل الخطاة، ليعيدهم إلى التوبة، وها هم بطالون.
صوته العالي الذي سحق الصخور، وشق القبور، لم يخفنا، فلنفتش لنتمتع بوجهه بالتوبة[44].
القديس مار يعقوب السروجي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي المزمور 148

هب لي أن أنضم إلى خورس المسبحين!


*لك المجد يا مصدر سعادة كل خليقتك!
بكلمة أوجدتنا من العدم لا لكي نخدمك،
وإنما لكي نُسر بك، وتتهلل نفوسنا بحبك!
لست محتاجًا إلى تسابيحنا،
بل نحن محتاجون أن ننعم بالتهليل بك.
أنت سرّ شبعنا وفرحنا ومجدنا!
*من يتأهل للتسبيح لك سوى السمائيين!
يدركون حبك، ويتعرفون عل حنوك، ويُسرون بإرادتك.
لتقم في قلوبنا، وتجدد نفوسنا،
فنصير متمثلين بملائكتك.
ننضم بفرحٍ إلى صفوفهم،
ويتحرك كل كياننا للتسبيح لك.
وتفيض نفوسنا بالشكر لك.
وتُسحب قلوبنا وعقولنا نحو التأمل فيك.
ندهش لحكمتك وقدرتك وصلاحك!
*الشمس والقمر والكواكب التي خلقتها من أجلنا،
تسبحك بعملها البديع، وخضوعها للناموس الذي وضعته لها.
ليس لها فم ولا لسان لتنطق وتسبح،
لكنها بخضوعها لك لا تكف عن التسبيح لك.
هب لنا أن ننضم حتى مع هذه الخليقة غير العاقلة،
وبروح الطاعة نسبح اسمك القدوس.
هي تسبحك بالعمل في صمتٍ!
هب لنا أن نسبحك عندما تضيء بنورك فينا قدام الناس،
يرون أعمالك فينا فيمجدونك!
لنسبحك بألسنتنا وشفاهنا، ولنسبحك بقلوبنا وعواطفنا،
ونسبحك بصمتنا مع نقاوة قلوبنا!
أنت واهب النقاوة والطهارة والقداسة!
تسبحك الخليقة بجمالها البديع،
فليسبحك إنساننا الداخلي، بملكوتك الذي تقيمه في داخلنا!
إنه عمل روحك القدوس.
*تسبحك السماء بسحبها التي تمطر علينا.
تحول أرضنا الجافة إلى جنة مملوءة ثمارًا.
ولتسبحك أيضًا مياه دموعنا،
إنها لا تسقط من السماء إلى أرضنا، إنما تصعد من قلوبنا إلى سماواتك.
تخترق السحب وترتفع إليك.
تقبلها بفرحٍ وتعتز بها.
تستجيب لها وتغفر لنا ذنوبنا.
تحوَّل قفر قلوبنا إلى جنتك المثمرة.
إنها عطية نعمتك العاملة فينا!
*بكلمة أمرت فخُلقت، وبعنايتك لا تزال وتبقى ترعاها.
خلقتها لأجلنا نحن عبيدك.
وتتعهدها برعايتك لأنك راعينا الصالح.
نسبحك لأجل قدرتك وحكمتك ورعايتك.
فأنت الأب القدير محب البشر!
*يا لصوتك العذب!
تدعونا جميعًا للتسبيح،
ليس لأنك في حاجةٍ إلى تسبيح أو خدمة،
إنما مسرتك أن تحملنا إلى سماواتك،
ننضم إلى صفوف الطغمات السماوية.
نشاركهم تسابيحهم وتهليلهم.
نتمتع معهم بالحياة المطوّبة!
*يا لعظمة حكمة إلهنا.
حتى المخلوقات التي نظنها بلا نفع.
مع كل يوم نكتشف منافع لها،
فنمجد الله الكلي الحب والحكمة.
كل ما يدور حولنا حتى النيران المشتعلة،
بل والتنانين المرعبة والحيوانات المتوحشة،
يمكن أن تخدمنا وتعمل لحسابنا.
لك المجد يا أيها الخالق العجيب!
*إلهي كل الطبيعة تُسبحك،
حتى الأشجار غير المثمرة تقدم لك تسبحة رائعة.
في خجلٍ وعارٍ تقدم لك الأشجار غير المثمرة ثمرة تسبيح،
وأنا في ضعفي لا أمجدك.
لتروني نعمتك، فأحمل ثمرة الروح.
أحمل فرحًا وتهليلًا وينطق كل كياني بتسبحة صادقة!
*بحبك خلقت الأرضيات لخدمتي،
هب لي أنا أيضًا أن أخدمك وأسبحك.
*كل الخليقة غير العاقلة تسبحك.
ألا يليق بي وقد وهبتني عقلًا وحرية أن ُأسبحك؟
أسبح اسمك العظيم يا خالقي!
رعايتك لشعبك عبر الأجيال،
واهتمامك بي كل أيام حياتي،
وانشغالك بخلاصي حتى الآن،
هذا كله يحركني لكي أسبح اسمك القدوس.
  رد مع اقتباس
قديم 22 - 07 - 2014, 08:15 PM   رقم المشاركة : ( 173 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,563

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 149 - تفسير سفر المزامير
دعوة كنيسة العهد الجديد للتسبيح



لم يرد عنوان لهذا المزمور في أية نسخة، ولا ذُكر اسم واضعه. يبدو أنه مزمور نصرة، سُبح به بعد نوال نصرة مجيدة. لهذا يظن البعض أنه يرجع إلي عصر المكابيين، والبعض إلي العودة من بابل وبناء أسوار أورشليم.
جاء في النسخة السريانية أنه نبوة عن نجاح الكرازة بالإنجيل وسط أمم الأرض، وأنه خاص بالهيكل الجديد، وجماعة كنيسة العهد الجديد.
خلق الله كل الكائنات العاقلة سواء كانوا بشرًا أو ملائكة يستعذبون الموسيقى. وهبهم العقل مع القلب أو العاطفة للتفكير في خالقهم والتهليل به في تناغمٍ وتناسقٍ بديعٍ.
فالطغمات السماوية كائنات عاقلة، تنعم على الدوام بالمعرفة المتجددة النامية، وكائنات ملتهبة بنار الحب نحو الله وخليقته. إنها تعيش في عيدٍ سماويٍ دائمٍ، ليس من ازدواجية بين المعرفة والفرح في حياتهم.
أما عدو الخير وملائكته، فقد انحرفوا بعقولهم كما بقلوبهم (إن صح التعبير). عوض التعقل عشقوا الجهالة، وانغمسوا في الغباوة، وحسبوا التعقل والتأمل في الحق (الله) غباوة وخداعًا وأوهامًا. وعوض الحب امتلأوا كراهية وبغضة، يسرون بعذاب الغير وهلاكهم.
أما الإنسان فكان يمكنه أن ينضم كما إلي صفوف الطغمات السماوية، لكن عدو الخير خدعه، ففسدت إرادته، وانحرف بعقله ليقول في جهله "لا إله"، وانحرف بقلبه، ففقد طبيعة الحب والبهجة الحقيقية.
الآن إذ يرى المرتل كلمة الله قادمًا للخلاص، يدعو كنيسة العهد الجديد لتسبح بأغنية جديدة، حيث يتناغم العقل مع القلب، وتصير جماعة خائفي الرب طغمة متهللة ومسبحة، تعزف بآلات موسيقية ليست من الخارج، وإنما يتحول الإنسان نفسه إلي قيثارة روحية يعزف عليها روح الله القدوس.
الآن يقدم لنا المرتل أنشودة رائعة هي دعوة للتسبيح بالذهن كما بالروح والقلب. يخاطب المرتل العقل البشري المقدس بالرب، كما يخاطب القلب والعواطف والأحاسيس. هكذا يليق بنا كشعب الله أن نكون شعبًا مُسبِّحًا.
1. نسبحه في بيت الرب [1-4] لأنه مخلصنا [1] وخالقنا وملكنا [2]. فالتسبيح يرضي الرب، ويعطي لشعبه جمالًا [4؛ مز 147: 1، 11].
2. يلزمنا أن نسبحه في البيت [5]. حتى ونحن نيام، وعند الاستيقاظ، وأثناء المرض.
3. نسبحه في ميدان الحرب الروحية [6-9]. كلمة الله سيْفنا (أف 6: 17؛ عب 4-12). والتسبيح هو سلاح عجيب للنصرة على العدو.

1. دعوة الكنيسة للتسبيح
1-3.
2. الامتيازات العظيمة لشعب الله
4-5.
3. نصرة ومجد للكنيسة
6-9.
من وحي المزمور 149
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. دعوة الكنيسة للتسبيح

يدعو المرتل الكنيسة للتهليل من أجل النعم الإلهية، وهي:
أ. التمتع بتسبحة جديدة [1].
ب. التمتع بالخالق الملك الفريد [2].
ج. التمتع برضا الله ومسرته [3-4].
د. التمتع بالمجد الداخلي [5].
هلِّلُويَا.
غَنُّوا لِلرَّبِّ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً،
تَسْبِيحَتَهُ فِي جَمَاعَةِ الأَتْقِيَاءِ [1].
جاءت هذه الدعوة تحثنا علي الترنم بتسبحة جديدة، لا يتسلل إليها أي ملل أو ضجر، بل مع ممارستها تتجدد علي الدوام، وتلهب كل كيان الإنسان كما الجماعة ليختبروا الحياة الملائكية الدائمة التهليل.
من يتمتع بروح الله يتجدد مثل النسر شبابه، وتتجدد علي الدوام معرفته للحق الإلهي، كما يتجدد قلبه، فيلتهب بنار الحب الإلهي، الذي لا تقدر مياه الزمن أن تطفئها.
كان الشعب في العهد القديم يترقب مجئ المسيا الذي يقدم لهم الخلاص، ويهبهم قلبًا جديدًا، ويدخل معهم في عهدٍ جديدٍ. بالتالي إذ يتمتع الشعب بالتجديد الداخلي يقدمون تسبحة جديدة.
إذ يثق المرتل في وعود الله الصادقة يرتل، قائلًا: "غنوا له أغنية جديدة، أحسنوا العزف بهتافٍ، لأن كلمة الرب مستقيمة، وكل صنعه بالأمانة" (مز 33: 2-3).
لقد سبق فرأى إشعياء بروح النبوة كنيسة العهد الجديد المتهللة بمخلصها، فقال:"غنوا للرب أغنية جديدة، تسبيحه من أقصى الأرض" (إش 42: 10).
إذ تمتع القديس يوحنا برؤية العرش وحوله السمائيون والمؤمنون من كل الأمم يرنمون، قال: "وهم يترنمون ترنيمة جديدة" (رؤ 5: 9). مرة أخرى يقول: "وهم يترنمون كترنيمة جديدة أمام العرش" (رؤ 14: 3).
لا يقدر أحد أن يتهلل بالرب، ويقدم تسبحة جديدة، ما لم يصر قلبه مستقيمًا، عضوًا في الكنيسة المقدسة. "أحمد الرب بكل قلبي في مجلس المستقيمين وجماعتهم" (مز 111: 1).
* الإنسان العتيق لديه تسبحة عتيقة، والإنسان الجديد له تسبحة جديدة.
العهد القديم هو تسبحة قديمة، والعهد الجديد تسبحة جديدة.
في العهد القديم توجد وعود أرضية مؤقتة. من يحب الأرضيات، فليسبح التسبحة القديمة. من يرغب في التسبحة الجديدة، فليحب الأبدية.
الحب نفسه جديد وأبدي، ولهذا فهو دائمًا جديد، لن يشيخ...
في المحبة الجديدة ماذا يوجد؟ سلام، الذي هو رباط الجماعة المقدسة، واتحاد روحي، وبناء حجارة حية.
أين هي المحبة؟ ليس في موضعٍ واحدٍ، بل خلال العالم كله. هذا قيل في مزمور آخر: "رنموا للرب يا كل الأرض" (مز 46: 1). من هذا نفهم أن من لا يرنم مع كل الأرض، يرنم ترنيمة قديمة، أيا كانت الكلمات الخارجة من فمه...
الحب يسبح الله، وعدم الاتفاق يجدف على الرب...
حقل الله هو العالم وليس أفريقيا... إذن كنيسة القديسين هي الكنيسة الكاثوليكية (الجامعة). كنيسة القديسين ليست كنيسة الهراطقة...
تسبحته في "أبناء الملكوت"، أي في "كنيسة القديسين"[1].
القديس أغسطينوس
* "غنوا للرب ترنيمة جديدة". المعنى الروحي هو أن مجيء العهد الجديد هو أغنية جديدة. كل ما حدث كان عهدًا جديدًا. يقول الكتاب: "سأقطع عهدًا جديدًا معكم" (راجع إر 31: 31). كانت خليقة جديدة. يقول الكتاب: "إن كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة" (1 كو 5: 17). وكائن بشري جديد: "إذ خلعتم الإنسان العتيق... ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه" (كو 3: 9-10). فبسبب الحياة الجديدة، صار كل شيءٍ جديدًا، ودُعي "العهد الجديد". ويحثنا كاتب (المزمور) الموحى إليه أن نغني أغنية جديدة تتناسب مع (العهد الجديد)[2].
* "تسبحته في جماعة القديسين". ألا ترون أنه يطلب الشكر في الحياة والعمل، ويسحب هؤلاء الناس إلى خورس الذين يغنون بالتسبحة؟ إنه لا يكفي -كما ترون- أن نشكر بالقول فقط، ما لم ترافقه الفضيلة عمليًا.
"تسبحته في جماعة القديسين". إنه يعلمنا شيئًا آخر هنا؛ إنه يُظهر بأنه يلزمنا أن نقدم تسبيحًا معًا في انسجامٍ تامٍ، فإن كلمة "جماعة" معناها الاجتماع معًا[3].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* من ينزع عنه أعمال الإنسان العتيق، ويلبس الإنسان الجديد الذي يتجدد لمعرفة صورة من خلقه كما قال الرسول، يسبح تسبيحًا جديدًا.
إذًا، يلزمنا نحن أبناء العهد الجديد أن نضمر الموت عن الإنسان الظاهر الترابي، أعني عن شهوات الجسد. لأن هذا الرسول نفسه يقول: إن كان إنساننا الظاهر يبلى، فالإنسان الباطن يتجدد يومًا فيومًا. لهذا يقول النبي بأن التسبحة الجديدة يجب أن تكون في مجمع الأبرار. هذا القول معناه أن التسبيح يكون لا بالقول فقط، بل وبأعمال البرّ أيضًا، وباتفاق المؤمنين الذين دعاهم إسرائيل.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لِيَفْرَحْ إِسْرَائِيلُ بِخَالِقِه.
لِيَبْتَهِجْ بَنُو صِهْيَوْنَ بِمَلِكِهِمْ [2].
من أعظم النعم التي يتمتع بها المؤمن كعضوٍ في جماعة الأتقياء (خائفي الرب) أن يتهلل بالرب خالقه، الذي يقيم مملكته فيه. إن كان الرب قد أوجدنا من العدم، فإنه لا يستخف بخليقته، بل يقيم ملكوته فينا، لذا نبتهج بملكنا الساكن فينا.
إذ يتمتع المؤمن بالميثاق الجديد خلال الصليب، يصير بالحق إسرائيل الجديد المتهلل بخالقه المخلص، ويبتهج بذاك الذي ملك على خشبة، وضمه إلي صهيون السماوية. تتحول حياته إلي عيدٍ لا ينقطع، وتصير لغته هي البهجة والفرح بالله، حيث لا يستطيع أحد أو أمر ما أن ينزع فرحه منه.
لا تكف الكنيسة عن أن تقدم المجد لذاك الخالق واهب الوجود والحياة ومصدر كل بركة، يملك لا ليسيطر، وإنما بمُلكه يهب مؤمنيه الحياة الملوكية، ويفيض عليهم بفرحه الإلهي. تتهلل بخالقها وملكها، الذي يحكم بناموس الحب، ويهبها صلاحه وحكمته وبرَّه، فتنسي ضيقها ومتاعبها. يقول النبي: "لا تخافي لأنك لا تخزين... فإنك تنسين خزي صباكِ، وعار ترملكِ لا تذكرينه بعد، لأن بعلكِ هو صانعكِ، رب الجنود اسمه، ووليكِ قدوس إسرائيل، إله كل الأرض يًُدعى" (إش 54: 4-5).
* سبيل المؤمنين أن يؤلفوا اجتماعًا بائتلاف والتئام عمومي، ويسبحوا الرب بالمحبة وابتهاج وفرح روحي. لذلك كتب الرسول: "غير تاركين اجتماعنا كما لقومٍ عادة، بل واعظين بعضنا بعضًا" (عب 10: 25).
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* ما هو "إسرائيل". "رؤية الله". من يرى الله يفرح به، ذاك الذي خلقه...
قلنا إننا ننتمي لكنيسة القديسين، فهل بالفعل نحن نرى الله؟ وكيف نكون إسرائيل إن كنا لا نراه؟
توجد بصيرة تخص الزمان الحاضر، وستوجد بصيرة أخرى تخص (الحياة) العتيدة. البصيرة التي لنا الآن هي بالإيمان، أما البصيرة التي ستكون فيما بعد فهي في الواقع. إن كنا نؤمن نرى؛ وإن كنا نرى فمن نرى؟ الله! اسألوا يوحنا: "الله محبة" (1 يو 4: 16). لنبارك اسمه القدوس، ونفرح بالله، وذلك بالفرح بالحب.
من له الحب، لماذا نرسله بعيدًا ليرى الله؟ ليتطلع إلى ضميره، ففيه يرى الله!
"ليبتهج بنو صهيون بملكهم". أبناء الكنيسة هم إسرائيل. فإن صهيون بالحقيقة كانت مدينة قد سقطت، وفي وسط خرائبها يسكن قديسون حسب الجسد. أما صهيون الحقيقية، أورشليم الحقيقية (صهيون أو أورشليم هما واحد) هي أبدية في السماويات (2 كو 5: 1)، وهي أمنا (غل 4: 26). هذه التي ولدتنا، كنيسة القديسين، تقوتنا، وهي التي في نصيب من رحلتنا، تجعلنا نسكن في السماء جزئيًا.
جزئيًا، إذ نسكن في السماء التي هي نعيم الملائكة، وجزئيًا، إذ نجول في هذا العالم رجاء الأبرار.
عن الجزء الأول يقال: "المجد لله في الأعالي" وعن الآخر: "وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة" (لو 2: 14).
ليت أولئك الذين في هذه الحياة يتنهدون، ويشتاقون إلى وطنهم، ويجرون إليه بالحب، وليس بأقدامهم الجسدية.
ليتهم لا يبحثون عن سفنٍ، بل عن أجنحة! ليتمسكوا بجناحي الحب. ما هما جناحا الحب؟ محبة الله ومحبة القريب.
الآن نحن رحلّ؛ نئن ونتنهد.
لقد وصلت إلينا رسالة من وطننا، نقرأها إليكم: "ليبتهج بنو صهيون بملكهم". ابن الله الذي خلقنا صار واحدًا منا، وهو يحكمنا بكونه ملكنا، لأنه هو خالقنا الذي جبلنا...
لم يجد في الإنسان شيئًا طاهرًا له ليقدمه عن الإنسان، فقدم نفسه ذبيحة طاهرة، ذبيحة سعيدة، ذبيحة حقيقية، تُقدم بلا عيب.
قدم ليس ما أعطيناه نحن؛ بل بالحري قدم ما أخذه منا، وقدمه طاهرًا. فقد أخذ منا جسدًا، قدمه. أين أخذه؟ في رحم العذراء مريم، ليقدمه طاهرًا عنا نحن غير الطاهرين. إنه ملكنا وكاهننا، فلنفرح به[4].
القديس أغسطينوس
* "ليفرح إسرائيل بخالقه" [2]. إنه يقدم حسابًا عامًا قبل الإشارة إلى الإحسانات الفردية، وكأنه يحث على هذه النقطة بما أضافه: اشكروا الله الذي جاء بكم إلى الوجود حينما لم تكونوا موجودين، ونفخ فيكم نسمة الحياة. هذا أيضًا فوق الكل ليس بالأمر الهين من الإحسان.
هنا يُظهر أمرًا أكثر أهمية، فهو لا يشير فقط إلى الخلقة، إنما يُلقي ضوءًا قويًا على العلاقة به، بالتعبير عما في نفسه هكذا، إنه يأمر بالشكر، ليس لأنه خلقهم فحسب، وإنما جعلهم أيضًا شعبه. ألا ترون كيف أنه بتوحيدهم معًا، وربطهم بالله، يريد منهم لا أن يشكروا فحسب، وإنما يشكروا برضا وفرحٍ، ويريد أن يُلهب عقولهم؛ هذا قد جعله مفهومًا ضمنيًا بالقول: "ليبتهج" [2]...
"ليبتهج بنو صهيون بملكهم" [2]... هنا يضيف "بملكهم"، ليظهر هذا، أنه كان ملكهم، لا على أساس الخلقة فحسب، وإنما على أساس العلاقة (بينهم وبينه) أيضًا[5].
القديس يوحنا الذهبي الفم
لِيُسَبِّحُوا اسْمَهُ بِرَقْصٍ.
بِدُفٍّ وَعُودٍ لِيُرَنِّمُوا لَهُ [3].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "فليسبحوا اسمه القدوس بالمصاف (في خورس)".
الخورس هو اتحاد المرنمين، يرنمون معًا، بروحٍ واحدٍ وهدفٍ واحدٍ، بانسجامٍ وحبٍ صادقٍ.
يرى بعض الدارسين إن كلمة "رقص" لا تعني رقص الجسد بالمعني العام، إنما كما جاءت في الترجمة السبعينية "بالمزمار with the pipe"، وإن كان البعض يرى أن الشعوب كانت تستخدم حركات الجسد (الرقص) أثناء العبادة، كنوعٍ من التعبير عن فرح الإنسان بكل كيانه، وليس فقط بلسانه وفمه.
يرى القديسان جيروم ويوحنا الذهبي الفم أن العود يشبه القيثارة، غير أن الأخيرة تُشد أوتارها إلى أسفل، والعود إلى أعلى، لذا يليق بنا أن نسبح الله وأوتارنا مسحوبة إلى أعلى، أي بالعود لا بالقيثارة.
* يليق بنا ألاَّ نغني أغاني الغرام، بل نقتصر على التسبيح لله. وكما قيل: "ليُسبحوا اسمه برقصٍ، بدفٍ وعودٍ، ليُرنِّموا له" (مز 149: 49)[6].
القدِّيس إكليمنضس السكندري
* "بدفٍ (طبلٍ) وعودٍ ليرنموا له" [3]. أيضًا يشير بعض المفسرين إلى هذه الآلات الموسيقية بمفهوم روحي، فيقولون إن الطبل يتضمن إماتة أجسادنا، بينما يشير العود إلى السماء، فإنه يُعزف على هذه الآلة من فوق، وليس من أسفل مثل القيثارة[7].
* "ليسبحوا اسمه في خورس" [3]. لاحظوا مرة أخرى هذا الانسجام الذي يشرق خلالهم. فإن الخورس (الجوقة) غرضها أن يتناغم كل واحدٍ وهو يقدم التسبيح في اتفاقٍ واحدٍ معًا. هذا أوضحه بولس أيضًا بالكلمات: "غير تاركين اجتماعنا" (عب 10: 25)[8].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* قال القديس يوحنا الذهبي الفم: إن اليهود لضخامة ذهنهم وكثافة عقلهم وغلاظتهم، ولكونهم تركوا عبادة الأوثان من مدة قريبة، يقربون الذبائح لها، ويستعملون آلات الملاهي والمعازف... وأما نحن المسيحيون فيلزمنا أن نميت شهوات جسدنا، ونجعله طبلًا ينشغل بالسماويات، ونجتذب الروح من العلو، ونكون مثل مزمارٍ يجذب الروح من فوق، وليس من أسفل. فعلى قول هذا الجليل يجب على المسيحيين عدم استعمال العزف وآلات الضرب عند تسبيحهم لله.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* إن رنمنا في خورس، فلنرنم بانسجام معًا. إن كان أحد صوته فيه نشاز عن صوت خورس المرنمين، فهو يضايق الأذن، ويجعل الخورس في ارتباكٍ.
إن كان صوت أحدهم يحمل صدى بلا انسجام، فإنه يفسد تناغم المرنمين، كم بالأكثر اختلاف الهراطقة يسبب ارتباكًا لتناغم المرنمين. العالم كله الآن هو خورس المسيح. يعطي خورس المسيح صوتًا منسجمًا من الشرق إلى الغرب (مز 113: 3).
"بدفٍ وعودٍ ليرنموا له"... ليس فقط بالصوت يرنم، وإنما أيضًا بالأعمال. عندما يُستخدم الدف والعود، فإن الأيادي تعمل في تناغمٍ مع الصوتٍ[9].
القديس أغسطينوس
* ليسبحوا اسمه في خورسٍ.
حيث يوجد خورس تمتزج الأصوات معًا في أغنية واحدة... لكن حيث يُوجد نزاع وحسد، لا يُوجد خورس...
لنصلب أجسامنا من أجل المسيح، ونغني لله بدفٍ من هذا النوع... لا يُصنع الدف من الجسد، وإنما من الجلد. فمادمنا جسديين فلسنا دفوفًا.
لا تقدر أن تصنع دفًا، ما لم تنزع كل جسدِ، وتسحب الجلد وتشدِّه.
لا يمكن للدف أن يتقلص، بل يلزم أن يُشدَّ الجلد.
ليته لا تقلصنا الخطية، إنما بالبرِّ نُشدَّ ونتسع[10].
القديس جيروم
* الذين يميزون توافق الروح الواحد عليهم التأمل جيدًا في نصيحة صاحب المزامير عندما يقول: "ليسبحوا اسمه برقصٍ، بدفٍ وعودٍ ليرنموا له" (مز 149: 3).
المعرفة المتعالية تنفخ بعض الناس، وتفصلهم عن الجماعة. وكلما عظمت هذه المعرفة قلت الحكمة، وتأثرت فضيلة التآلف بالروح الواحد. لذلك ليت هؤلاء يسمعون ما يقوله الحق ذاته: "ليكن لكم في أنفسكم ملحٌ، وسالموا بعضكم بعضًا" (مر 9: 50)[11]. إن الملح بلا مسالمة ليس ثمرة للفضيلة، بل يسبب لعنة...
لذلك يقول يعقوب: "ولكن إن كان لكم غيرةٌ مُرَّةٌ وتحزب في قلوبكم، فلا تفتخروا وتكذبوا على الحق. ليست هذه الحكمة نازلةً من فوق، بل هي أرضية نفسانية شيطانية، لأنه حيث الغيرة والتحزب، هناك التشويش وكل أمر رديء. وأما الحكمة التي من فوق، فهي أولا طاهرةً، مسالمةً، مترفعةُ، مذعنةً، مملوءّةٌ رحمةً وأثمارًا صالحة، عديمة الريب والرياء. وثمر البرّ يُزْرَع في السلام من الذين يفعلون السلام" (يع 3: 14-18).
الحكمة طاهرة، لأنها تفكر بنقاء. وهي مسالمة، لأنها لا تصنع شقاقًا مع جماعة الإخوة بسبب الكبرياء[12].
الأب غريغوريوس (الكبير)
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. الامتيازات العظيمة لشعب الله

لأَنَّ الرَّبَّ رَاضٍ عَنْ شَعْبِه.
يُجَمِّلُ الْوُدَعَاءَ بِالْخَلاَصِ [4].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "لأن الرب يُسر بشعبه، ويُعلي الودعاء بالخلاص".
الدافع الآخر للتسبيح هو إدراك المؤمن برضا الله ومسرته بشعبه، وانشغال الله بتجميل الودعاء بالخلاص أو بالمجد الأبدي.
يقف المؤمن مبهورًا أمام الله الكلي القدرة، خالق كل العوالم، ينشغل بالإنسان كأن كل ما قد خلقه الله هو لأجله. ما يشغل الله هو أن يجدد طبيعة الإنسان ويجّملها علي الدوام، لتصير أيقونة حيَّة له. لذا لا يجد المؤمن لغة يعبر بها عن شكره لخالقه وملكه ومخلصه سوى أن يهتز كل كيانه الداخلي مع القديس يوحنا العمدان الذي ركض (رقص) مبتهجًا في أحشاء أمه أليصابات. يسبح الله بدفٍ وعودٍ، أي بجسده وروحه.
يسر الله بشعبه الوديع والمتواضع، فيقدم لهم الخلاص المجاني، ويسكب عليهم من بهائه. وكما قيل: "وجملتِ جدًا جدًا، فصلحتِ لمملكة، وخرج لكِ اسم في الأمم لجمالكِ، لأنه كان كاملًا ببهائي الذي جعلته عليكِ، يقول السيد الرب" (حز 16: 13-14). كما قيل: "أزين بيت جمالي" (إش 60: 7).
سرّ جمال الودعاء هو تمتعهم بخلاص الرب، إذ يحملون أيقونة القائل: "تعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29).
* "لأن الرب يتعامل بلطفٍ بشعبه". أي تعامل بلطفٍ مثل موته من أجل الخطاة؟
أي تعامل بلطف مثل إبطال الصك الذي على الخاطي بالدم البريء؟
أي تعامل بلطفٍ مثل: "إني أنظر لا إلى ما كنتم عليه، بل ما لستم عليه الآن؟
إنه يتعامل بلطفٍ بهدايته ذاك الذي ضل، ومساندة الذي يحارب، وتكليل الذي ينتصر.
"ويُعلي الودعاء بالخلاص". فإن المتكبرين أيضًا يرتفعون، لكن ليس بالخلاص.
يرتفع الودعاء بالخلاص، والمتكبرون بالموت.
بمعنى أن المتكبرين يرفعون أنفسهم والرب يذلهم. والودعاء يتواضعون والرب يرفعهم[13].
القديس أغسطينوس
* الذين بالتواضع والوداعة صاروا لله شعبًا خاصًا، يخلصهم خلاصًا بديعًا، ويمجدهم بهذا الخلاص، ويشرفهم بين الناس، وهم يفتخرون برؤيتهم لمجده الإلهي، كما كتب الرسول بولس: "ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجهٍ مكشوفٍ كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها، من مجدٍ إلى مجدٍ، كما من الرب الروح" (2 كو 3: 18).
الأب أنسيمُس الأورشليمي

* "لأن الرب راضٍ عن شعبه... يحمل (يرفع) الودعاء بالخلاص" [4]. لاحظوا مرة أخرى الطريقة التي يعالج بها الأمور الخاصة بالله، والأمور الخاصة بالكائنات البشرية. فكما طلب منهم قبلًا الشكر، يقدم الأمور الخاصة بالله بالكلمات: "لأن الرب راضٍ عن شعبه". هكذا أيضًا هنا بدوره، إذ يعود إلى وعود الله، يطلب من الكائنات البشرية الكلمات "يحمل الودعاء بالخلاص".
بينما الرفع يخص الله، فلكي يكونوا ودعاء يخص البشر. أقصد أنه لا تتحقق الأمور الخاصة بالله ما لم يسبقها تحقيق ما يخص البشر[14].
القديس يوحنا الذهبي الفم
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على كلمة "يحمل" (يرفع أو يمجد elevate) قائلًا: [إنه ليس فقط يحررهم من المتاعب، وإنما يجعلهم موضع دهشة ومشهورين، ويهبهم مجدًا مع الخلاص. هذا على أي الأوضاع يشرحه بوضوح بإضافته الكلمات: "ليبتهج الأتقياء بمجدٍ".]
لِيَبْتَهِجِ الأَتْقِيَاءُ بِمَجْدٍ.
لِيُرَنِّمُوا عَلَى مَضَاجِعِهِمْ [5].
دافع جديد يبعث فيهم روح البهجة، ألا وهو أن مجدهم لم يعد خارجًا عنهم يكمن في الغنى أو السلطان أو الجمال أو الكرامات الزمنية أو الصحة الجسدية، إنما داخلهم. لهذا تترنم قلوبهم في كل الظروف، وفي كل الأوقات، حتى أثناء نومهم وهم على مضاجعهم.
يعيش المؤمنون الحقيقيون في أمجادٍ فائقةٍ؛ لا تفارقهم البهجة، حيث لا يفارقهم المجد الداخلي، وكما وعد الرب نفسه: "وأكون مجدًا في وسطها" (زك 2: 5). إذ يتأملون في المجد الذي وُهب لهم في داخلهم، تتهلل نفوسهم، وتنطق أفواههم بالتسابيح، مقدمين ذبائح شكر لا تنقطع. يترنمون على الدوام، ولا تصمت ألسنتهم الداخلية عن التسبيح، حتى وهم نائمون: "ليرنموا على مضاجعهم" (مز 149: 5).
اذ يحل الليل، ويحوط الظلام بهم، فإنهم وهم نائمون لا يفارقهم نور شمس البرّ. يدخلون في لقاءات سرية مع الله، وتمتلئ قلوبهم فرحًا، ويلهجون في حبهم لله بالتسابيح السرية.
* "يبتهج القديسون بمجدٍ". أود أن أقول شيئًا عن مجد القديسين. فإنه لا يوجد من لا يحب المجد. لكن مجد الأغبياء مجد شعبي كما يُقال، يحوي شباكًا للخداع، حتى أن الإنسان بالمجد الباطل يريد أن يعيش بشكلٍ ما حسب ما يطلبه البشر، أيا كان حالهم، وأيا كان الطريق...
أما القديسون الذين يبتهجون بالمجد، فلا يحتاجون إلينا كيف يبتهجون. اسمعوا فقط ما قيل بعد ذلك في المزمور: "ويبتهجون على مضاجعهم"، وليس في المسارح أو المدرجات أو الميادين أو مبانٍ باهظة التكلفة أو الأسواق، وإنما "في مضاجعهم"... أي في قلوبهم.
اسمعوا الرسول وهو يبتهج في خلوته: "لأن فخرنا هو هذا شهادة ضميرنا" (2 كو 1: 12).
من جانب آخر يوجد سبب للخوف من أن يُسر أحد بنفسه، ويبدو أنه متكبر ومتشامخ بضميره. إذ يليق بكل أحدٍ أن يبتهج بخوفٍ. بهذا يبتهج بعطية الرب وليس عن استحقاقه. فإن كثيرين يُسرون بأنفسهم، ويظنون في أنفسهم أنهم أبرار.
يوجد أيضًا عبارة أخرى ضد هؤلاء وهي: "من يقول إني زكيت قلبي، تطهرت من خطيتي؟" (أم 20: 9) يمكن القول إنه يوجد حد لتمجيد ضميرنا، أي أن تعرف أن إيمانك صادق، ورجاءك أكيد، وحبك بدون خداع[15].
القديس أغسطينوس
* "ليرنموا (يفرحوا) على مضاجعهم" [5]. إنه يُظهر الأمان الكامل من المشاكل، ويقودهم إلى راحة عظيمة، وفرح عظيم، وشبع فائق. الآن يشير إلى هذه الأمور ليعرفوا أن كل ما حدث ليس بواسطة أسلحتهم أو قوتهم، وإنما بنعمة الله، وإنهم ينتصرون بالتواضع والوداعة[16].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* يقول الكتاب: الروح لم يكن قد ُأعطي، لأن يسوع لم يكن قد تمجد، بمعنى أنه لم يكن قد صُلب (يو 7: 39).
"ليبتهج المؤمنون بمجد"، لماذا أركز على هذه النقطة؟ لأن المرتل يقول: ليبتهج المؤمنون في مجدٍ، وأنا أقول: "ليبتهج المؤمنون في الصليب". "أما أنا فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح" (غل 6: 14)[17].
* "ليرنموا على مضاجعهم" هذا ينطبق على القديسين، على الأبرار.
من منا يرنم بفرحٍ على مضجعه؟ من لا يصارع على سريره مع الجسد؟
عندما أسهر على نفسي وأنا على مضجعي، لا أرتل بفرحٍ، بل أصارع، لا أتنهد على ملكوت السماوات، إنما أصارع مع الجسد. أبلل نار الشهوة بدموعي وأطفئها. لهذا السبب يقول المرتل: "أبلل سريري بدموعي" (مز 6: 7). الدموع تطفئ لهيب فراش الملتهب بالشهوة.
طوبى لأولئك الذين قيل عنهم: "ليرنموا على مضاجعهم"[18].
القديس جيروم
* يقول المرتل عن الأبرار: "ليبتهج القديسون في مجدٍ، ليرنموا على مضاجعهم" (راجع مز 149: 5). لأنهم إذ يهربون من مآسي الأمور الخارجية، يتمجدون في سلام داخلي في أعماق قلوبهم. لكن فرح القلب سوف يكمل عندما تتوقف حرب الجسد من الخارج. إنه كما لو أن حائط البيت قد تزعزع يصير المضجع نفسه مضطربًا[19].
البابا غريغوريوس (الكبير)
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
3. نصرة ومجد للكنيسة

بعد أن عدد دوافع الترنم ببهجةٍ، من تمتع بعهدٍ جديدٍ، وإدراكٍ لعمل الخالق المحب، واهتمامه بنا كملكٍ، مع سروره بنا، وسكناه في داخلنا كمصدر مجدٍ داخلي، الآن يحثنا على الترنم والتهليل من أجل النصرات المستمرة على عدو الخير وكل قوات الظلمة. نحمل فينا كلمة الله كسيفٍ ذي حدين يحطم الشر، وينجذب الوثنيون إلي مخلص العالم ليتمتعوا بإنجيل الحق، ويسقط إبليس كالبرق من السماء، ويصير موضعه تحت الأقدام.
يَدعو المرتل الكنيسة للتهليل من أجل التمتع بنصرات مستمرة:
أ. التسبيح كسلاح للغلبة [6].
ب. قبول الأمم للإيمان [7].
ج. هزيمة إبليس وملائكته [8]
د. كرامة ومجد لخائفي الرب [9].
تَنْوِيهَاتُ اللهِ فِي أَفْوَاهِهِمْ،
وَسَيْفٌ ذُو حَدَّيْنِ فِي يَدِهِمْ [6].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "تعليات الله في حنجرتهم، وسيوف ذات فمين في أياديهم".
يرى بعض الدارسين أن هذه العبارة تكشف عن تاريخ وضع هذا المزمور، فالمرتل يرى الشعب يبني أسوار أورشليم تحت قيادة نحميا. الكل يهتف بتسابيح سماوية بصوتٍ عالٍ، وقد أمسك المؤمن سيفًا بيده الأخرى وهو يبني. "باليد الواحدة يعملون العمل، وبالأحرى يمسكون السلاح، وكان البانون يبنون، وسيف كل واحدٍ مربوط علي جنبه" (نح 4: 17-18).
غالبًا ما كانت السيوف عند الرومان تأخذ هذا الطابع، ذات حدين حتى يمكن استخدامها في الطعن كما في الضرب بالسيف.
الترجمة الحرفية:" سيف ذو فمين"، فهو كالحيوان الوحشي يجول ليفترس بكل وسيلة.
يرى المرتل ربنا يسوع المسيح وقد تقلد سيفه على فخذه كجبارٍ، لكي إذ يقدم إنجيل الحب لشعبه، يهبهم روح القوة. يعطيهم ذاته كسيفٍ ذي حدين يبترون به الشر، فلا يكون له سلطان عليهم. ويتقدمهم على الدوام، يبيد ضد المسيح بنفخة فمه (2 تس 2: 8). أخيرًا يظهر على السحاب "وسيف ماضٍ ذو حدين يخرج من فمه" (رؤ 1: 16)، به يدين المسكونة، ويفصل أبناء الملكوت عن أبناء إبليس. وكما يقول القديس جيروم: [به يضرب الأعداء، وبه يفتح ملكوت السماوات[20].]
"تعليات" هنا تعني ابتهاج بالنصرة، ففرحهم في مخادعهم يقوم لا على استحقاقاتهم الذاتية، وإنما على عمل الله معهم. ما بلغوه هو من قبل نعمته، وإنهم يترجون منه البلوغ إلى الكمال، فقد بدأ وسيكمل معهم.
أما السيوف الحادة من الجانبين والتي في أياديهم، فتحمل معنى رمزيًا. يُفهم منها أنها كلمة الله (عب 4: 12). أما وضعها في صيغة الجمع، فهي لأنها تصدر عن أفواه الكثير من القديسين. أما الحدان أو الفمان، فإشارة إلى أن كلمة الله تعالج حياتنا الزمنية كما تمس تمتعنا بالحياة الأبدية.
* "وسيوف ذات حدين في أياديهم"... لماذا في أياديهم وليست على ألسنتهم...؟
بالقول "بأياديهم" يعني "بسلطان". لقد تسلموا كلمة الله بسلطانٍ، يتكلمون أينما أرادوا ولمن أرادوا، لا يخشون سلطانًا، ولا يحتقرون فقرًا.
فإن في أياديهم سيفًا يلوحون به، ويستعملونه، ويضربون به أينما أرادوا. هذا كله في سلطان الكارزين. لو أن الكلمة ليست في أياديهم، لماذا كُتب: "كانت كلمة الرب عن يد حجيَّ النبي" (حج 1: 1)...؟
أخيرًا يمكننا فهم هذه "الأيادي" بطريقة أخرى أيضًا؟ لأن الذين تكلموا كان لهم كلمة الله في ألسنتهم، هؤلاء الذين كتبوها بأياديهم[21].
القديس أغسطينوس
* "تسابيح الله العالية في حناجرهم". بالتأكيد من يصرخ، لا يصرخ من حنجرته، وإنما بشفتيه. بالطبع أقصد أن الشخص لا ينطق بصوتٍ عالٍ بحنجرته بل بشفتيه. فكيف يقول هنا: "تسابيح الله العالية في حناجرهم"؟ "نصرخ: يا أبّا، الآب!" الصوت الذي يصرخ لله لا يخرج من الشفتين، وإنما من القلب. بالحقيقة قال الرب لموسى: "ما لك تصرخ إليّ؟ بالتأكيد لم ينطق بكلمة...
"وسيوف ذات حدين في أياديهم"... سيوف القديسين ذات حدين... مكتوب عن الرب المخلص: "وسيف ماضٍ ذو حدين يخرج من فمه" (رؤ 1: 16). لاحظوا جيدًا أن هؤلاء القديسين يتقبلون من فم الله السيوف ذات حدين، يمسكون بها في أياديهم. لذلك يعطي الرب سيفًا من فمه إلى تلاميذه، سيفًا ذا حدين، أعني كلمة تعاليمه.
يعطي سيفًا ذا حدين: أي (التفسير) التاريخي والرمزي، الحرف والروح.
سيف ذو حدين، يذبح الأعداء، وفي نفس الوقت يحمي المؤمنين.
السيف ذو الحدين له رأسان: يتحدث عن العالم الحاضر والعالم العتيد. هنا يضرب المقاومين، وفي العلا يفتح ملكوت السماء[22].
القديس جيروم
* أقوال التعليم الحقيقي تشَّبه بسيوفٍ ذوات حدين، لأنها توضح الحق، وتحطم الكذب والباطل، ولأنها تقهر أقوال الإلحاد، وتوبخ الخاطئين من الشعب. هذه الأقوال الحقيقية هي قيود وأغلال من حديد، تقيد الجدال، وتمنع الكذب والطغيان من جريانه نحو الامتداد والتقدم.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* "تسابيح الله العلوية في حنجرتهم، وسيف ذو حدين في أياديهم، ليصنعوا نقمة في الأمم ودينونة للشعوب" [6-7]. هنا يصور الحرب جنبًا إلى جنب مع الموسيقى، موضحًا أنه بالغناء والتسبيح ينتصرون.
إنه يدعو الغناء بالألحان والمزامير والشكر تسابيح علوية[23].
القديس يوحنا الذهبي الفم
لِيَصْنَعُوا نَقْمَةً فِي الأُمَمِ،
وَتَأْدِيبَاتٍ فِي الشُّعُوبِ [7].
في تث 7: 1 الخ. يعد الله شعبه بالنصرة الكاملة على الأعداء المقاومين لهم، وعلي الأمم الوثنية التي لا تكف عن مهاجمة الإيمان الحقيقي. تحققت هذه النصرة ولا تزال تتحقق، لا بهلاك الوثنيين، بل بأسر ملوكهم بقيودٍ، وشرفائهم بكبولٍ من حديد.
من هم هؤلاء الملوك والشرفاء، إلا إبليس وكل قوات الظلمة، الذين يحسبون أنهم رؤساء هذا العالم، أصحاب سلاطين.
* لماذا يحمل القديسون مثل هذه السيوف؟ "ليصنعوا نقمة في الأمم"... لكي يبيدوا كل هرطقة إلى النهاية[24].
القديس جيروم
* الآن يا إخوة ها أنتم ترون القديسين مسلحين: لاحظوا المذبحة، لاحظوا معاركهم المجيدة. لأنه إذ يوجد قائد يلزم وجود جند، وإن وُجد جند توجد معركة، وإن وُجدت معركة توجد نصرة.
ماذا يفعل هؤلاء الذين في أياديهم سيوف محماة من الجانبين؟ "ليصنعوا نقمة في الأمم".
انظروا إن كانت النقمة تتحقق في الأمم. تتم كل يوم، نتممها بالكلام.
لاحظوا كيف أن أمم بابل قد قُتلت. لقد دفعت ضعفين، كما هو مكتوب عنها: "ضاعفوا لها ضعفًا نظير أعمالها" (رؤ 28: 6).
كيف دفعت الضعف...؟ فإن عبادة الأوثان قد انطفأت، والأصنام انكسرت، ولئلا يظنوا أن البشر بالحقيقة يُضربون بالسيف، والدم بالحقيقة يُسفك، الجراحات تتحقق في الجسد، أكمل موضحًا: "وتوبيخات في الشعوب"[25].
القديس أغسطينوس
* "أفراح الرب في حناجرهم، وسيف ذو حدين في أياديهم، ليصنعوا نقمة في الأمم، وتأديبات في الشعب" (راجع مز 149: 6-7) يليق بنا أن نلاحظ جمال هذه التعبيرات المتباينة ونفعها.
قبلًا قال إن القديسين يفرحون في مضاجعهم، والآن يقول إن أفراح الرب قائمة في حناجرهم. المعنى هنا أنهم لن يتوقفوا عن التسبيح، سواء كان في الفكر أو على اللسان. يسبحون ذاك الذي ينالون منه الهبات الأبدية.
يتحرك أيضًا ليشرح القوة التي يستخدمونها ببراعة، بالكلمات: "وسيف ذو حدين في أياديهم".
السيف ذو الحدين هو كلمة الرب المخلص، التي يقول عنها المسيح نفسه في الإنجيل: "ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا". (مت 10: 34)
إنه سيف ذو حدين، لأنه يحوي عهدين[26].
الأب كاسيدورس
لأَسْرِ مُلُوكِهِمْ بِقُيُودٍ،
وَشُرَفَائِهِمْ بِكُبُولٍ مِنْ حَدِيدٍ [8].
يرى القديس جيروم الملوك هنا هم قادة الهرطقات الذين يعلمون الناس ويضللونهم.
* ألا ترون فيض القوة؟ فإنهم ليس فقط يطردون الأعداء ويقصونهم، وإنما يأخذونهم أيضًا أسرى، ويرجعون حاملين شهادة أمام الكل عن قوة الله[27].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* نحن نعلم أن ملوكًا صاروا مسيحيين، وإن شرفاء من الأمم صاروا مسيحيين. صاروا هكذا في هذا اليوم. إنهم صاروا وسيصيرون.
"السيوف ذات الحدين" ليست عاطلة في أيدي القديسين. ماذا إذن نفهم بالقيود والسلاسل من حديدٍ التي يُربطون بها؟
أنتم تعلمون أيها الأحباء والإخوة المتعلمين (أقول متعلمين، لأنكم قد تربيتم في الكنيسة، واعتدتم أن تسمعوا كلمة الله تُقرأ)، أن الله اختار ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء، وجهال العالم ليخزي بهم الحكماء، وغير الموجود ليبطل الموجود (1 كو 1: 27)...
قال الرب: "إن أردت أن تكون كاملًا، أذهب وبع كل ما لك وأعط الفقراء، وتعال اتبعني، فيكون لك كنز في السماء" (مت 19: 21). كثير من الشرفاء فعلوا هذا وكفوا عن أن يكونوا شرفاء الأمم، واختاروا أن يكونوا فقراء في هذا العالم شرفاء في المسيح.
لكن كثيرين بقوا في مراكزهم السابقة كشرفاء، بقوا في سلطانهم الملوكي، ومع ذلك صاروا مسيحيين، هؤلاء صاروا كمن في قيودٍ وسلاسلٍ من حديد. كيف هذا؟
لقد قبلوا قيودًا تحفظهم من الذهاب إلى أشياء غير شرعية، "قيود الحكمة" (سي 6: 25)، قيود كلمة الله. لماذا هي أغلال من حديد، وليست من ذهب؟ إنها من حديد، إذ هم يخافون. فليحبوا، فتصير من ذهب!
لاحظوا أيها الأحباء ما أقول. لقد سمعتم الآن ما يقوله يوحنا: "لا خوف في المحبة، بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج، لأن الخوف له عذاب" (1 يو 4: 18). هذا قيد من حديد. ومع ذلك إن لم يبدأ الإنسان بالخوف يعبد الله، لا ينال الحب. "مخافة الرب بدء الحكمة" (مز 111: 10).
البداية إذن قيود من حديد، والنهاية قلادة من ذهب. فقد قيل عن الحكمة: "قلادة من ذهب حول رقبتك" (سي 6: 24)[28].
القديس أغسطينوس
لِيُجْرُوا بِهِمِ الْحُكْمَ الْمَكْتُوبَ.
كَرَامَةٌ هَذَا لِجَمِيعِ أَتْقِيَائِهِ.
هَلِّلُويَا [9].
يرى القديس جيروم أن الحكم المكتوب هو الكتاب المقدس، فيليق معالجة الهرطقات بروح الكتاب المقدس.
* من له هذا السلاح لا يخشى سلاح العالم... إن كنا لا نخشى الواحد، فإننا نتقبل الآخر. لنشكر (الله) الذي له ذاك السيف ونباركه إلى أبد الأبد، آمين[29].
القديس جيروم
* هكذا ستكون النصرة عظيمة، والنصب التذكاري عجيب وواضح للكل. إنه واضح كما لو كان مكتوبًا (منقوشًا) على عمود، ولن يُمسح[30].
* "كرامة هذا لجميع قديسيه" [9]. أية كرامة؟ النصرة أو بالحري ليست النصرة فقط، وإنما النصرة بطريقةٍ هكذا، خلال مساندة الله، خلال النعمة التي من فوق[31].
القديس يوحنا الذهبي الفم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي المزمور 149

شعب جديد وتسبحة جديدة!


* مراحمك جديدة في كل صباحٍ.
يحملنا روحك القدوس إليك،
فنلمس عنايتك التي لا تشيخ.
تجدد على الدوام مثل النسر شبابنا.
تجدد عهدك معنا باستمرار.
تجعلنا كنيسة جديدة،
تدخل معك في عهدٍ جديدٍ.
حبك لا يشيخ، ونعمتك لا تقدم.
* تهبني تسبيحًا جديدًا، به تتلذذ أعماقي!
بحبك العجيب تقدم لي تسبيحًا جديدًا،
وبتنازلك تقبل هذا التسبيح ذبيحة حب لك!
هذه العطية هي من عندك،
وعندما أقدمها لك تحسبها من عندي.
تشتم فيها رائحتك الذكية،
فتحسبني موضع سرورك!
* أقدم لك التسبحة خفية،
إذ لا يقدر أحد أن يسمع صوت قلبي سواك.
لكن قلبي يجد راحته في الشركة مع قلوب إخوتي.
علي البحر البلوري الذي أمام عرشك،
أجتمع مع كل قديسيك.
ويقف السمائيون في دهشةٍ وعجبٍ.
يرون فريق مغنين،
يتكون من ملايين كثيرة.
الكل يحملون قيثارات الروح،
ويترنمون بروحٍ واحدةٍ!
* نسبحك يا ملك الملوك،
نغني لك بكل آلة موسيقية:
بقلوبنا وأفواهنا وعواطفنا وعقولنا وطاقاتنا.
ليس لنا، ليس لنا،
كل ما نقدمه هو من فيض عطاياك.
تسكب بهاءك علينا،
فنُحسب ملوكًا مملوءين بهاء!
* بأية لغة نسبحك، سوي لغة العلويين!
أفواهنا الداخلية ترنم بتسابيح سماوية.
وأيادينا تمسك بك،
أنت هو سلامنا!
* تسابيحنا لك هي سهام قاتلة لقوات الظلمة.
لسنا أهلًا أن نقدم هذه التسابيح!
إنها تسابيح نصرة الله،
تهبنا بهجة وكرامة.
  رد مع اقتباس
قديم 22 - 07 - 2014, 08:18 PM   رقم المشاركة : ( 174 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,563

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 150 - تفسير سفر المزامير
تسبيح مسكوني!



طبقًا للنص العبري هذا المزمور هو الأخير لسفر المزامير كله. أما في الترجمة السبعينية، فيوجد المزمور المائة والحادي والخمسون.
جاء هذا المزمور بدون عنوان ولا اسم واضعه في النسخة العبرية كما في كل النسخ القديمة. وهو ينتمي إلي كل خورس المرنمين وهم يرتلون معًا، مستخدمين كل أدوات الموسيقى في داخل الهيكل، مسكن الله مع الناس، عند ختام هللويا الكبيرة، كختامٍ للمزامير.
يبدأ سفر المزامير بتطويب الإنسان السالك في الوصية الإلهية والمتجنب للعثرة، خاصة مجالس الأشرار، وذلك للتمتع بمجاري مياه الروح القدس كي يحمل المؤمن ثمار الروح التي لا تنقطع (المزمور الأول). وفي هذا المزمور الأخير (حسب النص العبري) ينتهي السفر بدعوة مسكونية كي تشترك كل البشرية في الحياة السماوية المتهللة.
قلنا في المقدمة على سفر المزامير إن كثيرًا من الدارسين يرون في هذا السفر تطابقًا مع أسفار موسى الخمسة:
تتغنى الكنيسة كما بسفر التكوين (مز 1-41)، حيث يتمتع الإنسان بالخلاص.
وبسفر الخروج (مز 42-72)، حيث يتمتع المؤمن بالعضوية الكنسية كطريق للاتحاد مع المخلص.
وبسفر اللاويين (مز 73-89)، حيث يُبهر المؤمن بالهيكل الجديد المقدس المُقام في أعماقه.
وبسفر العدد (مز 90-106)، حيث يتقدس الجسد ليكون مع النفس في رحلة نحو حضن الآب بالسيد المسيح القدوس.
وأخيرًا بسفر التثنية (مز 107-150)، حيث يجد المؤمن لذته في كلمة الرب الحية العاملة فيه.
جاء ختام الكتاب الخامس من المزامير يركز على كلمة "سبحوا" في المزامير 146 حتى 150. فإن غاية كلمة الرب الدخول بالمؤمن إلى الحياة السماوية المتهللة، وعودة الإنسان إلى أصله قبل السقوط، بل وإلى ما هو أعظم مما كان عليه، حيث يتأهل للشركة مع السمائيين، فيتحول كما إلى قيثارة يعزف عليها الروح القدس بسيمفونية الحب والفرح الذي لا ينقطع. لا نجد في هذه المزامير الخمسة أية نغمة للأنين أو الصراخ، بل نسبح بفرحٍ مجيدٍ لا يُعبر عنه.
هذا المزمور الختامي في النص العبري هو دعوة لتسبيح الرب. استخدمت كلمة "تسبيح" هنا 13 مرة.
1. أين نسبح الله؟ على المستوى المحلي والمسكوني، في الهيكل وفي السماوات [1]، نسبحه أينما وُجدنا مادمنا نود أن ننعم بعربون السماء.
2. لماذا نسبحه؟ من أجل أعماله معنا، ولأجله شخصه. كلما تعرفنا عليه وعلى أعماله نستعذب تسبيحه.
3. كيف نسبحه؟بالصوت (الفم) كما بالآلات الموسيقية التي تشير إلى أعضائنا، بل وإلى كل كياننا الجسدي والروحي.
4. من الذين نسبحه؟ كل كائن يتنسم نسمة [6]، بل وحتى المخلوقات التي لا تتنفس تسبحه (148: 7-9). وبالتالي يلزمنا نحن البشر أن نسبحه. نسمة حياتنا هي من عنده (أع 17: 25)، لذا وجب أن نستخدمها لتسبيح اسمه.
النَفَسْ هو أضعف شيء فينا، لكننا نستطيع أن نكرسه لأعظم عمل نقدمه، وهو التسبيح لله!
فسّر القدّيس إكليمنضس السكندري المزمور 150 الذي تسبحه الكنيسة أثناء التناول من الأسرار المقدسة بطريقة رمزية جميلة، فيها قدّم الكنيسة المقامة بعريسها القائم من الأموات، كأداة موسيقيّة حيّة، يعزف عليها الروح القدس ليخرج تسبحة حب عذبة. يقول:
[في الخدمة الإلهيّة يترنم الروح...
"سبّحوه بصوت البوق"، لأنه بصوت البوق يقيم الأموات.
"سبّحوه بالمزمار"، فإن اللسان هو مزمار الرب.
"سبّحوه بالقيثارة"، هنا يقصد الفم الذي يحرّكه الروح كالوتر.
"سبّحوه بطبول ورقص"، مشيرًا إلى الكنيسة التي تتأمّل القيامة من الأموات، خلال وقع الضرب على الجلود (إشارة إلى الأموات).
"سبّحوه بالأوتار والأرغن"، يدعو جسدنا أرغنًا، وأعصابه الأوتار التي يضرب عليها الروح، فتعطي أصوات بشريّة منسجمة.
"سبّحوه بصنوج حسنة الصوت": يدعو اللسان صنجًا، إذ يعطي الصوت خلال الشفتين.
لذلك يصرخ إلى البشريّة قائلًا: "كل نسمة فلتسبح اسم الرب"، لأنه يعتني بكل مخلوق يتنفّس. حقًا إن الإنسان هو آلة السلام[1].]
في نفس الفصل الرابع من الكتاب الثاني من "المربّي" أوضح القدّيس إكليمنضس السكندري أن الكنيسة لم تستخدم في عصره الآلات الموسيقيّة، معلّلا ذلك بأن هذه الآلات استخدمتها الأمم والشعوب لإثارة الحقد والضنينة في الحروب، فكان شعب Etruria غرب وسط إيطاليا يستخدمون البوق، وشعب أركاديا Arcadia باليونان يستخدمون المزمار، والكرّيتيّون يستخدمون القيثارة، والمصريّون يستخدمون الطبول، والعرب يستخدمون الصنوج في الحرب. "أما آلة السلام الواحدة فهي "الكلمة" الذي به وحده نكرّم الله. هذا هو ما نستخدمه! إنّنا لا نستخدم الآلات القديمة من مزمار وبوق وطبول وصفارة هذه التي يستخدمها المختصّون في الحروب وفي حفلاتهم.

1. أين نسبح الله؟
1.
2. لماذا نسبحه؟
2.
3. كيف نسبحه؟
3-5 (أ).
4. من الذي نسبحه؟
5 (ب).
من وحي المزمور 150
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]1. أين نسبح الله؟[/FONT]

هَلِّلُويَا.
سَبِّحُوا اللهَ فِي قُدْسِهِ.
سَبِّحُوهُ فِي فَلَكِ قُوَّتِهِ [1].
هذه هي المرة الوحيدة التي جاءت فيها كلمة الله "ايل" مع كلمة "سبحوا"، وليس "يهوه". فإذ يجتمع الخورس كاملًا، حاملين كل أدوات الموسيقى، ومرتلين جميعًا بصوتٍ واحدٍ في الهيكل، بروح الفرح مع القوة، يسبحون الله القوي الكائن بذاته، المقيم عهدًا مع بني البشر، الذي يباركهم ويخلصهم للتمتع بالحياة الأبدية[2].
يشعر المرنمون وهم مجتمعون معًا في الهيكل كمن هم في السماء حيث المقادس الإلهية، أو في حضن الله القدوس "قدسه". إنهم قائمون في فلك قوته!
جاءت كلمة "جلد" هنا المستخدمة في تك 1: 6، وهي مشتقة من فعل معناه يضرب أو ينشر بالضرب مثل الذهب[3]. فالله مُسبح بواسطة السمائيين كما بواسطة كنيسته المنتشرة والممتدة والمرتفعة كجلد السماء.
إذ يرتفع المؤمن بروح الله عن العالميات، يشهد لعمل الله الخلاصي وقدرته الفائقة، فيترنم: "السماوات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه" (مز 19: 1).
إذ يبدأ المرتل بالتسبيح لله في قديسيه، يعلن التسبيح له في فلك قوته. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إنه بهذا يعلن أن الله خلق السماء sky لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السماء. كما يرى الذهبي الفم أن الملائكة الساكنين في السماء، يشاركون في التسبيح لله.
* من الواجب أن يُسبح الله من قبل السالكين في القداسة والموجودين فيها، لأنه خارج عن القداسة والطهارة تكون أرضًا غريبة. فكيف يمكن أن يُسبح لله في أرض غريبة؟ وكيف تُطرح القدسات للكلاب، والجواهر أمام الخنازير...؟
يقول النبي المعظم: "سبحوا الله في قديسيه"، أعني سبحوه وأنتم في مصاف القديسين. وأيضًا معناه سبحوا الله من أجل القديسين، شاكرين، لأنه جعل الناس بنعمته قديسين، وأضافهم إلى الملائكة، لأجل سيرتهم الطاهرة، ومنحهم مواهب عظيمة.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* "سبحوا الرب في قديسيه" [1]. وفي نسخة أخرى: "في قدسه"، وفي ثالثة: "في المُقدَّس له". هنا إشارة إلى الشعب المقدس أو الحياة المقدسة أو القديسين.
لنلاحظ كيف بدوره يختم السفر بالشكر، معلمًا إيانا كيف تكون بداية أعمالنا وكلماتنا ونهايتها هكذا (بالشكر). هكذا أيضًا يقول بولس: "كل ما عملتم بقولٍ أو فعلٍ، اشكروا الله الآب بالمسيح" (راجع كو 3: 17).
هذا هو طريق بداية صلاتنا، حيث نبدأ بالقول: "أبانا"، وهذا يحمل شكرًا، لأجل إحساناته، مظهرين أن هذا كله يليق أن يُنسب إلى اسمه.
بالقول: "أبانا" تعترفون بالبنوة، وبالاعتراف بالبنوة تعلنون عن البرّ والتقديس والخلاص وغفران الخطايا والانقياد بالروح. تُقدم كل هذه أمامنا، كما ترون، فنتمتع بالبنوة ونتأهل لدعوة الله أبًا[4].
* يبدو لي أنه يلمح إلي شيء آخر بقوله: "في قديسيه"... فهو يشكر، لأنه يقدم مثل هذا الطريق العجيب من الحياة إلى كياننا، بمعنى يجعل الكائنات البشرية ملائكة[5].
القديس يوحنا الذهبي الفم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]2. لماذا نسبحه؟[/FONT]

سَبِّحُوهُ عَلَى قُوَّاتِهِ.
سَبِّحُوهُ حَسَبَ كَثْرَةِ عَظَمَتِهِ [2].
نتطلع إلي عظمة قدرته وحبه ورعايته ونعمته وما يعده للمؤمنين من أمجاد سماوية أبدية وبرّه وعدله، لا نكف عن تسبيحه بكل طاقاتنا وبكل وسيلة. لا يُمكن إدراك عظمة الله في كمالها، ولا التعبير عنها، لذا لن نتوقف عن التسبيح له، مع دعوة كل الخلائق لتشاركنا تذوق عذوبة التسبيح له.
تسبيحنا لله العجيب في قدرته ومحبته، لا يسكب فقط عذوبة في نفوس مسبحيه، وإنما يهبهم أيضًا شركة معه، فيسكب فيهم من قدرته وصلاحه وبرّه، ويصيرون أيقونة حيَّة تنجذب نحو الأصل.
* "سبحوه على قواته" [2]... أي خلال عجائبه، خلال القوة التي يعلنها في كل الأمور، في الذين في الأعالي والذين أسفل، في الجماعة ككل، والأشخاص على وجه خصوصي، في كل شخصٍ تحت أي ظرف، وفي كل الأشخاص في كل الظروف[6].
* "سبحوه حسب عظمته"... ألا ترون عقلًا ملتهبًا بالنار، يجاهد ويعاني لكي يتغلب على محدوديته، ليطير إلى السماء عينها، وفي عبودية لله، يقدم له اشتياقه العميق؟[7]
القديس يوحنا الذهبي الفم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]3. كيف نسبحه؟[/FONT]

سَبِّحُوهُ بِصَوْتِ الصُّورِ.
سَبِّحُوهُ بِرَبَابٍ وَعُودٍ [3].
صوت الصور (البوق) showpaar: جاءت الكلمة الأصلية تعني سمو الصوت وبهجته وعظمته[8].
برباب neebel:
العود: أصل الكلمة kinowr غير معروف معناها. وقد اقتبست كل اللغات الاسم عن العبرية. ووردت في الترجمة السبعينية قيثارة kithara أو كينارة kinura. وهي آلة وترية أخرى، يُعزف عليها بالأيادي أو الأصابع[9]. جاء في سفر التكوين (4: 21) أنه اخترعها يوبال. كثيرًا ما ذكرها المرتل (مز 32: 2؛ 43: 4؛ 49: 5) وأيضا في إش 5: 12.
يرى البعض[10] أن الآلات الموسيقية الواردة في هذا المزمور كانت مستخدمة في العبادة اليهودية. معظمها قد تجمع حاليًا في الأرغن، حتى لا تستخدم بآلات منفصلة متعددة، بل يمكن لشخصٍ واحدٍ أن يستخدمها في تناغمٍ معًا.
الرباب nebel: اشتقت عنها الكلمة اليونانية nablion واللاتينية nablium وnabla. وهي آلة منفوخة hollow وترية ربما تشبه الجيتار[11]. يظن أنها على شكل زجاجة كانت تستخدم في الشرق، ربما علي شكل وعاء جلدي، كان يحفظ فيه الخمر (1 صم 10: 3؛ 25: 18؛ 2 صم 16: 1). كانت في البداية تصنع من خشب التنوب fir، وبعد ذلك صارت تصنع من شجرة almug، ويبدو أنها صارت بعد ذلك تصنع من المعدن (2 صم 6: 5؛ 1 أي 13: 6). كان الجزء الخارجي من الآلة من الخشب، تشد عليه أوتار بطرق مختلفة. يقول يوسيفوس إنه كان لها 12 وترًا، كما يقول إنه كان يُعزف عليها بالأصابع[12].
يحسبها هيسيخيوس آلة وترية، ويرى أنه كان يُلعب عليها باليدين معًا.
يرى القديس جيروم وايسدروس وكاسيدورسأنها كانت على شكل الحرف دلتا D اليونانية.
سَبِّحُوهُ بِدُفٍّ وَرَقْص.
سَبِّحُوهُ بِأَوْتَارٍ وَمِزْمَارٍ [4].
الدف: بالعبرية top وهي الطبلة drum، آلة تضرب بالأيادي.
رقص: كان الرقص عند اليهود يصحبه استخدام الدفوف. يقول آدم كلارك إن الكلمة العبرية maachowl لا تعني مطلقًا الرقص.
أوتار أو آلات وترية miniym.
مزمار nwgaab: مشتقة من كلمة aagab وتعني ينفخ. لم يٌذكر عن هذه الآلة أو غيرها من آلات النفخ كانت تستخدم في الهيكل (كالمزمار pipes). ويري البعض أنها ذكرت هنا، لأنها كانت تستخدم في عيد تدشين الأسوار كعلامة عن البهجة. وتمثل كل أصناف الآلات الموسيقية التي بالنفخ.
سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ التَّصْوِيت.
سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ الْهُتَاف [5 ا].
التسبيح بالصنوج بصوتٍ عالٍ وهتافٍ يتناسب مع التسابيح العالية (نح 12: 27). ما هي الصنوج العالية، إلا صوت القلب الداخلي الذي يبلغ إلى عرش نعمة الله دون عائق، والذي يترجمه المؤمن ببذل كل جهدٍ، وترك كل شيءٍ، حبًا في ذاك الذي بذل ذاته عنا. تشبه الصنوج الأطباق، كل طبق يضرب في آخر، فيحدث صوتًا عاليًا.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله أوصى باستخدام الآلات الموسيقية في العهد القديم من أجل ضعفهم الروحي، حتى تثيرهم للغيرة المقدسة والتسبيح لله. أما الآن وقد بلغ الإنسان النضوج الروحي، فإنه يستخدم كل أعضاء جسده كآلات موسيقية تعبر عما في قلبه من حبٍ وشكرٍ لله.
* إنه يشغِّل كل الآلات الموسيقية، ويحث على تقديم الموسيقى له بواسطة جميعها، لتلهب عقولهم وتثيرها. وكما يحث اليهود أن يسبحوا الله بكل آلات الموسيقى، هكذا يحثنا أن نفعل هذا بكل أعضائنا الجسدية: العين واللسان والسمع واليد. وذلك كما أشار بولس في الكلمات: "أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حيَّة مقدسة مرضية عند الله، عبادتكم العقلية" (رو 12: 1)
العين تسبح، كما ترون، عندما يكون بصرها مضبوطة؛ واللسان عندما يرنم، والسمع عندما لا يقبل نغمات شريرة، ولا سب قريبه. والفكر يسبح عندما لا يفكر في خطط شريرة، بل يرتبط بالحب. والقدمان يسبحان عندما لا يجريان نحو الشر، بل لممارسة الأعمال الصالحة. واليدان عندما لا يُستخدمان في اللصوصية والطمع والعنف، بل في تقديم الصدقة والدفاع ضد المخطئين. بهذا يصير الشخص قيثارة ذات نغمات تقدم لله نوعًا من السيمفونية المتناغمة الروحية.
لقد عُهد إليهم استخدام هذه الآلات الموسيقية في ذلك الحين بسبب ضعفهم، ولأجل تهدئة أرواحهم، فتتمشى مع الحب والتناغم، ولإثارة عقولهم للعمل بما فيه الكفاية والمساهمة فيما هو لنفعهم، وهي تهدف نحو قيادتهم إلى الغيرة العظيمة خلال مثل هذا الاندماج (في الموسيقى)[13].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* عندما نرفع أيادينا الطاهرة في الصلاة، دون نزاع أو جدال (1 تي 2: 8)، نعزف على أداة ذات عشرة أوتار للرب. نعزف كما كتب المرتل، بأداة ذات عشرة أوتار وقيثارة، بلحن على قيثارة. أجسادنا ونفوسنا هما قيثارتنا تعمل في تناغمٍ معًا بكل أوتارهم في لحنٍ![14]
القديس جيروم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]4. من الذي نسبحه؟[/FONT]

كُلُّ نَسَمَةٍ فَلْتُسَبِّحِ الرَّبَّ.
هَلِّلُويَا [5 ب].
مع استخدام كل آلة ممكنة للتسبيح، جاءت الدعوة لكل الكائنات العاقلة السماوية والأرضية أن تكون خورس واحدًا متناغمًا، يسبح لله. وكما يقول الرسول: "لكي تمجدوا الله أبا ربنا يسوع المسيح، بنفسٍ واحدةٍ، وفمٍ واحدٍ" (رو 15: 6).
إن أروع موسيقي تُقدم للتسبيح لله لا تصدر عن آلاتٍ صماءٍ وأوتارٍ لا حياة فيها، إنما عن قلوب ملتهبة بالحب لله والناس. الدعوة هنا موجهة للتسبيح بقلوبٍ مملوءة ثقة ويقينًا ورجاءً في المخلص. نسبحه خلال إيماننا الحي، به نغلب قوات الظلمة، ونشارك السمائيين حبهم لله وطاعتهم ونقاوتهم ووحدتهم معًا.
* ليتنا نسبح الله بلا انقطاع، فلا نفشل في تقديم التشكرات عن كل شيءٍ بالقول والفعل. هذه كما ترون، هي ذبيحتنا وتقدمتنا، هذه هي أسمى العبادة، تشبه حياة الملائكة. إن ثابرنا على تسبيح الله بهذه الكيفية، ننعم بحياة بلا لوم، ونتمتع بالخيرات العتيدة[15].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* يوجد كثيرون أحياء بالجسد لكنهم أموات ولا يقدرون على التسبيح لله... ويوجد كثيرون ماتوا بالجسد لكنهم يسبحون الله بأرواحهم.إذ يقال: "باركوا الرب يا أرواح ونفوس الصديقين..." (راجع دا 86:3 LXX)، "كل نسمةٍ فلتسبح الرب" (مز 5:150)، وفي سفر الرؤيا نجد نفوس الذين قُتلوا ليس فقط تسبح الله، بل وتطلب منه (رؤ 9:6-10). وفي الإنجيل يقول الرب للصدوقيين في وضوحٍ تامٍ: "أَفما قرأْتم ما قيل لكم من قِبَل الله القائل أنا إلهُ إبراهيم وإلهُ إسحق وإلهُ يعقوب، ليس الله إله أموات بل إله أحياءٍ (لأن الكل يحيا فيه)" (مت 31:22-32). وعمن يتحدث الرسول قائلًا: "لذلك لا يستحي بهم الله أن يُدعَى إلههم، لأنه أعدَّ لهم مدينةً" (عب 16:11)؟! فانفصالهم عن الجسد لا يجعلهم بلا عمل، ولا يفقدهم الإحساس والشعور[16].
الأب موسى
* تحفظ الخليقة كلها عيدًا يا إخوتي، وكل نسمة تسبح الرب كقول المرتل (مز 150: 5)، وذلك بسبب هلاك الأعداء (الشياطين) وخلاصنا.
بالحق في توبة الخاطئ يكون فرح في السماء (لو 15: 7)، فكيف لا يكون فرح بسبب إبطال الخطية وإقامة الأموات؟
آه. يا له من عيدٍ وفرحٍ في السماء!
حقًا. كيف تفرح كل الطغمات السمائية وتبتهج، إذ يفرحون ويسهرون في اجتماعاتنا، ويأتون إلينا، فيكونوا معنا دائمًا، خاصة في أيام عيد القيامة!
إنهم يتطلعون إلى الخطاة وهم يتوبون،
وإلى الذين يحولون وجوههم (عن الخطية) ويتغيرون،
وإلى الذين كانوا غرقى في الشهوات والترف، والآن هم منسحقون بالأصوام والعفة.
أخيرًا يتطلعون إلى العدو (الشيطان) وهو مطروح ضعيفًا بلا حياة، مربوط اليدين والأقدام، فنسخر به قائلين: "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟" (1 كو 15: 55).
فلنرنم الآن للرب بأغنية النصرة.
القديس أثناسيوس الرسولي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي المزمور 150

هلم نسبح الله في هيكل قدسه!


* كل الطغمات السماوية تهتف وتسبح بلا انقطاع!
هم في عيدٍ مستمرٍ،
وفرحٍ مجيدٍ بلا انقطاع!
أنت سرّ تهليلهم وهتافهم.
تُرى هل أدعوك أن تميل أذنك وتقبل تسابيح قلبي،
أم تهبني روحك، يطير بي إلى سماواتك!
هناك يلذ لي التسبيح بلغة السمائيين.
* في الجو السماوي المجيد، لا تفتر شفاه المسبحين،
وها أنت تقيم ملكوتك السماوي في أعماقي!
هب لي أن أترك كل شيءٍ،
وأنسى كل ما هو حولي.
أدخل إلي أعماقي التي تقدسها.
هناك يلذ لي التسبيح!
* من يستحق أن يعزف بما يليق بقداستك.
روحك القدوس يتنازل ويحتضني.
يعزف على أوتار نفسي وعقلي وعواطفي،
بل وكل طاقات جسدي وأعضائي،
فأصير بالحق قيثارة فريدة.
هي من عمل روحك العجيب!
* يلذ لي أن أسبحك،
فأنت لا تحتاج إلي تسبيحي، ولا إلي صلاحي.
تسبيحك يرفعني إلي سماواتك.
تسبيحك يدخل بي إلي أحضانك.
تسبيحك يضمني إلي طغمة السمائيين.
تسبيحك يفتح بصيرتي،
فأنهل من أعماق معرفتك.
* تسبيحك يزيد عطش كل البشرية إليك!
متى أرى كل إنسانٍ قد صار عضوًا في الخورس السماوي!
لتُعد يا رب بروحك القدوس كل البشر،
فيصير الجميع مع السمائيين خورس تسبيح فريدًا وعجيبًا!
لك المجد يا واهب التسبيح وقابله ذبيحة حبٍ فائقة!
  رد مع اقتباس
قديم 22 - 07 - 2014, 08:23 PM   رقم المشاركة : ( 175 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,563

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 151 - تفسير سفر المزامير
لداود للانتصار على جليات



وُجد هذا المزمور في الترجمة السبعينية، وفي النسخة الإسكندارنية. أشار إليه القديسان أثناسيوس الرسولي ويوحنا الذهبي الفم وأيضا أبوليناريوس وغيرهم، لكنه لا يوجد في النسخة العبرية، ولا في ترجمة الفولجاتا.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]المزمور 151 وتسابيح سبت النور[/FONT]

يحتل هذا المزمور مركز الصدارة في تسابيح قيامة رب المجد يسوع. فما أن تحتفل الكنيسة بدفن رب المجد يسوع في الجمعة العظيمة، حتى نتغنى به، إذ ترتفع أنظارنا إلى نفس السيد المسيح وقد انطلقت إلى الجحيم، لتكرز للذين ماتوا على الرجاء. دخلت نفسه التي لم يفارقها لاهوته، وحملت نفوس جميع المؤمنين الذين سباهم الموت ليطلقها إلى الفردوس، محطمًا متاريس الهاوية.
يفتح الكاهن ستر الهيكل في بدء الاحتفال بسبت الفرح، ويحمل الإنجيل ملفوفًا بكتانٍ أبيض، يحمله أمام جبهته، وقد ارتدى ثياب المجد (البرنس) ليقدم هذا المزمور بلحنٍ فريدٍ رائعٍ ومبهجٍ للغاية. كأن الكنيسة اختارت هذا المزمور لتبدأ به الاحتفال بعيد القيامة التي اختبرها الذين كانوا في الجحيم قبل أن يختبره التلاميذ والمريمات في صباح الأحد. يقف الكاهن ليعلن بروح البهجة عن قيامة السيد المسيح وعملها في حياة المؤمنين الذين رقدوا. هذا ما نلمسه في تفسيرنا لهذا المزمور.
ما أكثر المزامير والتسابيح التي تنبأت عن القيامة السيد المسيح بكل وضوح وصراحة وبروح الفرح والبهجة، فلماذا اختارت الكنيسة هذا المزمور لتفتتح به الاحتفال الكنسي التعبدي المبهج لسبت الفرح؟
1. حمل كل أب من الآباء البطاركة الأولين (إبراهيم وإسحق ويعقوب) والأنبياء صورة لجانبٍ من جوانب شخص السيد المسيح أو عمله الخلاصي. أما داود النبي فامتاز بأن نُسب إليه السيد المسيح أو المسيا، بدعوته "ابن داود". وقد جاء هذا المزمور يكشف عن علة دعوة المسيح القائم من الأموات بابن داود.
2. بدأ المزمور بالحديث عن داود أصغر إخوته، حتى عندما جاء صموئيل النبي كطلب الرب أن يختار أحد أبناء يسى ليمسحه ملكًا. قدم يسى كل أبنائه دون الصبي داود الذي كان يرعى غنم أبيه. ولعل في هذا استخفافًا به لأنه أصغرهم. وجاء السيد المسيح ليحتل آخر صفوف البشرية، ليحسب نفسه الأخير بروح التواضع، يفتح ذراعية بالخلاص للجميع.
3. يعلن داود النبي عن اعتزازه بالتسبيح بروح الفرح. فقد دُعي "مرنم إسرائيل الحلو" (2 صم 23: 1). وجاء مسيحنا ليردنا إلى الحياة الفردوسية المتهللة، حتى يحق لنا الانضمام إلى خورس السمائيين، نشاركهم تسابيحهم وفرحهم السماوي.
4. اختياره ليكون مسيح الرب. قيل عن السيد المسيح أنه ممسوح بزيت البهجة، فقد كرّس حياته لتقديم الخلاص عن العالم كله. مُسح داود ملكًا على إسرائيل، أما السيد المسيح فيملك على قلوب البشرية، ويقيم منهم ملوكًا وكهنة لله أبيه.
5. يرى داود النبي في إخوته أنهم حسان أو مملوءين جمالًا، لكن ما يُسر به الله هو الجمال الداخلي، الذي لم يستطيعوا أن يتمتعوا به، إنما تمتع به داود الذي يشهد له الرب نفسه أنه وجد ابن يسى رجلًا حسب قلبه (أع 13: 22؛ 1 صم 15: 22). أما السيد المسيح فهو الجمال عينه الذي يسكبه على المؤمنين، فيقيم منهم العروس السماوية المقدسة التي بلا لوم ولا عيب ولا دنس ولا غضن.
6. قائد معركة فريدة: هذا الصبي راعي الغنم الممسوح ملكًا خفية، يقف بدون الأسلحة المتعارف عليها سواء كان سيفًا أو رمحًا أو خوذة، إنما يدخل المعركة بمقلاع مع خمسة حجارة صغيرة ملساء أمام الفلسطيني العملاق بأسلحته، وإذ باسم الرب يقذفه بحجرٍ صغيرٍ، فيلقيه أرضًا ويقتله بسيفه. إنها صورة لعمل الصليب حيث يضرب السيد المسيح إبليس في جبهته، وبالصليب الذي أراد إبليس أن يتخلص من السيد المسيح تحطم إبليس، وفقد سلطانه ومملكته على أولاد الله! معركة فريدة انتهت بتحطيم إبليس، وتحرير أولاد الله من أسره، وتقديم مجد القيامة لهم. هكذا نزع السيد المسيح بقيامته العار عن البشرية، ووهبها حق الشركة في الأمجاد الأبدية.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]العنوان[/FONT]

جاء في الترجمة السبعينية: "هذا مزمور كتبه داود بيده، مع أنه خارج العدد. عندما حارب في معركة واحدة مع جليات."
ماذا يعني "خارج العدد"؟ قبل اليهود في كتاب المزامير 150 مزمورًا، وحُسب هذا المزمور خارج كتاب المزامير، لا يدخل في تعداد المزامير.
من الجانب الروحي وأيضًا المسياني، فإن السيد المسيح الذي جاء إلى العالم، وحلّ بين البشرية كواحدٍ منهم، صار مرفوضًا. وكأنه حُسب خارج العدد. "إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله" (يو 1: 11). حسبه البشر أنه غير أهلٍ ليكون بينهم، فصلبوه خارج المحلة. وكما يقول الرسول بولس: "فلنخرج إذًا إليه خارج المحلة، حاملين عاره" (عب 13: 13). لقد صلب السيد المسيح ونحن بعد أعداء ليصالحنا مع أبيه (رو 5: 10)، ويدخل بنا إلى حضنه، أما البشر فرفضوه!
حينما يحمل المؤمن سمات مسيحه أو يصير أيقونة له، يتوقع أن يُحسب معه خارج العدد.

1. الراعي الصغير
1
2. مرنم إسرائيل الحلو
2.
3. مسحه بزيت البهجة
3-5.
4. معركة مقدسة
6-8.
من وحي مزمور 151
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]1. الراعي الصغير[/FONT]

"أنا صغيرًا كنت في إخوتي،
وحدثًا في بيت أبي.
كنت راعيًا غنم أبي" [1].
كثيرًا ما يردد داود المرتل أنه يذكر أعمال الله معه في القدم. إنه لن ينسى أنه إذ كان أصغر إخوته، أوكلت إليه رعاية غنمات أبيه، كان الله يعده لرعاية أعظم، قطيع الله العاقل.
تذكره لصبوته حفظه ليسلك دائمًا بروح التواضع، مدركًا أن لا فضل له فيما بلغه من مراكز أو نجاح. كما قدم له نوعًا من الثقة والاتكال على الله الذي اختاره دون إخوته الحسان ليكون نبيًا وملكًا على شعب الله!

تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
تواضعه مع ثقته في عمل الله كانا السند له في حياته، ومصدر فرح وترنم وتسبيح حتى في أشد لحظات الضيق.
يرى القديس أغسطينوس[1] في اختيار داود الأصغر دون إخوته الأكبر منه عملًا رمزيًا لاختيار الأمم كأعضاء في كنيسة العهد الجديد، فيملكون في الرب دون اليهود الذين سبقوهم في المعرفة، لكنهم رفضوا الإيمان. وكأن الأمم هم داود الأصغر الذي تقبَّل نعمة الملوكية من قبل الله دون إخوته الأكبر منه، وكما يقول السيد المسيح نفسه: "هكذا يكون الآخِرون أولين، والأولون آخِرين". (مت 20: 16) بنفس الطريقة فُضل هابيل عن أخيه الأكبر وإسحق عن إسماعيل ويعقوب عن عيسو المولود معه وهما توأمان. وأيضًا فارص عن زارح (تك 38: 29).
اختيار داود الأصغر بين إخوته ملكًا يرمز إلى رب المجد يسوع الذي احتل آخر الصفوف، فصار الصغير بين إخوته، أصغر من في بيت أبيه، لكي يبسط يده، فيحتضن الكل، ويدخل بهم إلى أحضان أبيه. صار عبدًا من أجلنا، لكي بالصليب يملك في قلوبنا. إنه آدم الثاني الذي ملك عوض آدم الأول (رو 5) ليكون رأسًا للبشرية، قادرًا أن يقيمها ويجددها.
تطلع المرتل إلى مسيحنا المخلص القائم من بين الأموات، فقال: "لأن الرب عالٍ، ويرى المتواضع، أما المتكبر فيعرفه من بعيد". (مز 138: 6) إنه قريب من المتواضع، وبعيد عن المتكبر. فإذ صار الأصغر، إنما ليضم المؤمنين الحقيقيين إلى العضوية في بيت أبيه، فيكون بالحق قريبًا من المتواضعين، لا من جهة المسافة المكانية، وإنما من جهة اتحادهم معه، بكونهم أعضاء في جسده، ليصيروا أهل بيت الله (أف 2: 19). بهذا أعلن رعايته لقطيع أبيه فيقول: "كنت راعيًا غنم (قطيع) أبي" [1].
يريد رب المجد أن يجد راحته في قلبك، فيسند فيه رأسه، إن صار متواضعًا كبيت لعازر.
يُعلّق القديس جيرومعلى ذهاب السيِّد إلى بيت عنيا قائلًا: [كان شديد الفقر بعيدًا كل البعد عن التملُّق، فلم يجد في المدينة الكبيرة (أورشليم) مأوى أو مسكنًا، إنّما سكن عند لعازر وأختيْه في بيت صغير جدًا في بيت عنيا.]
* صار حمل الله حملًا صغيرًا بريئًا، يُقاد للذبح لكي ينزع خطية العالم (إش ٥٣: ٧؛ يو ١: ٢٩). الذي يهب الكلام (الكلمة) للكل صار مقارنًا بحملٍ صامتٍ أمام جازيه (إش ٥٣: ٧)، لكي نتطهر نحن جميعًا بموته، الذي يُوزع كدواءٍ ضد تأثيرات العدو، وضد خطية الذين يشتاقون إلى قبول الحق. فإن موت المسيح أبطل القوات المقاومة للجنس البشري، وأباد بسلطانٍ لا يوصف الحياة في الخطية في حياة كل مؤمنٍ[2].
العلامة أوريجينوس

* يكشف ابن الله السرّ السماوي، معلنًا نعمته للأطفال وليس لحكماء هذا الدهر (مت 11: 25). يذكر الرسول بولس ذلك بالتفصيل: "لأنه إذ كان العالم في حكمة الله لم يُعرف الله بالحكمة استحسن الله أن يُخلِّص المؤمنين بجهالة الكرازة" (1 كو 1: 21).
من يعرف أن ينتفخ أو يعطي كلماته رنين الحكمة فهو حكيم (هذا الدهر)، أما الطفل فيقول: "يا رب لم يرتفع قلبي، ولم تستَعْلِ عيناي، ولم أنظر في العجائب والعظائم التي هي أعلى مني" (مز 1:131)، هذا يظهر صغيرًا لا في السن، ولا في الفكر، وإنما بِتواضعه، خلال ابتعاده عن المديح، لذا يضيف: "لكن رفعتُ عينيَّ مثل الفطيم من اللبن من أُمِّه".
تأمَّل عظمة مثل هذا الإنسان في كلمات الرسول: "إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر، فلْيصر جاهلًا لكي يصير حكيمًا، لأن حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله" (1 كو 3: 18-19)[3].
القديس أمبروسيوس
* قام نعمان وذهب واغتسل رمزًا للمعمودية، فصار جسمه كجسم صبي صغير. من هو هذا الصبي؟ إنه ذاك الذي يُولد في جرن التجديد[4].
العلامة أوريجينوس
* نحن السمك الصغير بحسب سمكتنا يسوع المسيح قد وُلدنا في المياه، ولا نكون في أمان بطريق ما غير بقائنا في المياه على الدوام.
العلامة ترتليان
هذا ويليق بنا في تواضعنا ألا نكف عن التمتع بالغذاء الروحي، لكي ننمو ونصير ناضجين بعمل نعمة الله. يقول القديس أمبروسيوس: [الإنسان الناضج (روحيًا) وحده يتخطَّى أركان هذا العالم.]
* طالما بقيت النفس صغيرة وغير كاملة النمو فهي تحت الوصايا والمعلمين. هؤلاء هم الملائكة الذين تَسمّوا بحراس الأطفال، ويُعاينون على الدوام وجه الله في السماء. هم إذًا محاكاة للذهب، يُعطي للنفس التي لم تتغذَ بعد بالغذاء القوي للكلمة.
العلامة أوريجينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]2. مرنم إسرائيل الحلو [/FONT]

يداي صنعتا الأرغن،
وأصابعي الفت المزمار. الليلويا [2].
ما هذا العود (أو هذه القيثارة) التي تطرد الروح الشرير لتهب الإنسان راحة (1 صم 16: 23) إلا كلمة الله في العهدين الجديد والقديم، إذ تحوي أوتار الشريعة والنبوات والتسابيح والأناجيل والكتابات الرسولية الخ.، كأوتار متباينة لكنها تعمل معًا في انسجام لتهب المؤمن راحة وسلامًا.
يقول العلامة أوريجينوس: [الكتاب المقدس هو آلة الله الواحدة الكاملة والمنسجمة معًا، تعطي خلال الأصوات المتباينة صوت الخلاص الواحد للراغبين في التَّعلُم، هذه القيثارة التي تبطل عمل كل روح شرير وتقاومه، كما حدث مع داود الموسيقار في تهدئة الروح الشرير الذي كان يتعب شاول[5].]
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]3. مسحه بزيت البهجة[/FONT]

من هو الذي يخبر سيدي؟
هو الرب الذي يستجيب للذين يصرخون إليه [3].
هو أرسل ملاكه،
وأخذني من غنم أبي،
ومسحني بدهن مسحته [4].

تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
السيد المسيح الجالس على الكرسي إلى الأبد، والمسجود له من القوات الملائكية، يملك على الشعب بالحب. إنه البار وحده، الذي بلا خطية، قد مُسح منذ الأزل من قِبَلْ الآب لتحقيق الخلاص خلال تجسده وحياته بيننا وتقديم نفسه ذبيحة حب عنا. هنا تلتحم إرادته الإلهية مع تقواه الشخصية لتحقيق غايته فينا. وكما يقول الرسول: "أحْببْت الْبرّ، وأبْغضْت الإثْم، منْ أجْل ذلك مسحك الله إلهك بزيْت الابْتهاج أكْثر منْ شركائك". (عب 1: 9)
وأوصت الشريعة الموسويّة بمسح أشخاص (الملوك والكهنة)، وأماكن (الهيكل)، والآنية المكرّسة لخدمة بيت الرب الخ. غاية هذه المسحة أن الشخص أو الشيء يصير مكرّسًا لله وحده. كان هذا كلّه عبر الأجيال يشير إلى مجيء المسيح الذي مسحه الآب بزيت البهجة (مز 45: 7)، ليبشّر المساكين (إش 61: 1). فهو موضع سرور وبهجة الآب، لأنّه وهو الكلمة الإلهي والابن وحيد الجنس، يتجسّد ليصالح البشريَّة كلّها مع الآب، فيبعث الفرح السماوي على المساكين الذين حرموا من فيض بهجة الحياة السماويّة.
مُسح لكي نمسح نحن فيه، بكوننا أعضاء جسده، فنُحسب مسحاء.
* بحق دُعيتم للمسيح، وعنكم قال الله: "لا تمسوا مسحائي، ولا تسيئوا إلى أنبيائي" (مز 15:105).
جُعلتم مسحاء بقبولكم نموذج[6] الروح القدس. وكل الأشياء عُملت فيكم امتثالًا (بالمسيح)، لأنكم صورة المسيح. هو اغتسل في نهر الأردن، ونشر معرفة ألوهيته في الماء. وصعد منها، وأضاء عليه الروح القدس في تمام وجوده وحلّ كذلك عليه. ولكم أنتم فشبه ذلك بعد أن صعدتم من الينابيع المقدسة صار لكم دهن شبه الذي مُسح به المسيح. وهذا هو الروح القدس الذي قال عنه المطوّب إشعياء في نبوته عن شخص الرب: "روح السيد الرب عليّ، لأن الرب مسحني". (إش 1:61)
لأنه لم يُمسح المسيح بأناسٍ بزيتٍ أو دهنٍ ماديٍ، لكن الآب عيّنه من قبل ليكون مخلصًا للعالم أجمع، كما قال بطرس: "يسوع الذي من الناصرة، كيف مسحه الله بالروح القدس". (أع 38:10)
صرخ داود النبي أيضًا قائلًا: "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البرّ، وأبغضت الإثم، من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك". (مز 6:45، 7)
وإذ صُلب المسيح ودفن وقام حقًا، أنتم في العماد حُسبتم جديرين أن تصلبوا وتدفنوا وتقوموا معه على مثاله: هكذا في الدهن أيضًا. وكما مسح بزيتٍ مثاليٍ، زيت الابتهاج، لأنه منشئ الفرح الروحي، هكذا أنتم مُسحتم بدهن، إذ أصبحتم شركاء للمسيح وأتباعه[7].
القديس كيرلس الأورشليمي

* من اعتمد يلزم أن يُمسح أيضًا، لكي يصير بواسطة المسحة ممسوحًا لله ويأخذ نعمة المسيح[8].
القديس كبريانوس

* إن اسم المسيح من المسحة، فكل مسيحي يقبل المسحة، إنّما ذلك ليس للدلالة على انّه صار شريكًا في الملكوت فقط، بل صار من المحاربين للشيطان.
القديس أغسطينوس

إخوتي حسان،
وهم أكبر مني،
والرب لم يُسر بهم [5].
عندما أراد صموئيل النبي مسح الابن الأكبر آلياب: (غالبًا هو اليهو الذي صار رئيسًا على سبط يهوذا)، قال له الرب: "لا تنظر إلى منظره وطول قامته، لأني قد رفضته؛ لأنه ليس كما ينظر الإنسان، لأن الإنسان ينظر إلى العينين، وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب" (1 صم 16: 7). وكما يقول القديس إكليمنضس الإسكندري: [لم يمسح من كان وسيمًا في هيئته، بل من كان جميلًا في النفس[9].]
اختاره الله من أجل نقاوته الداخلية وجمال نفسه لا من أجل هيئته الخارجية. لقد سبق أن أعطاهم الرب شاول ملكًا، وكان طويل القامة وحسن الصورة حسب طلبهم، أما الآن فيهبهم ملكًا حسب فكره.
هكذا عبّر يسى أولاده السبعة أمام صموئيل، ولم يختر الرب أحدًا منهم، وأخيرًا استدعى أصغر الأبناء الذي كان يرعى الغنم، ليُمسح راعيًا على غنم الله الناطقة.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]4. معركة مقدسة[/FONT]

خرجت للقاء الفلسطيني،
فلعنني بأوثانه [6].
قدم لنا قيصريوس أسقف Arles تفسيرًا رمزيًا لقصة داود وجليات نقلًا عن القديس أغسطينوس، جاء فيه:
[عندما أرسل (يسى) ابنه داود لينظر إخوته، يبدو أنه كان رمزًا لله الآب. أرسل يسى داود يبحث عن إخوته، وأرسل الله ابنه الوحيد الذي قيل عنه: "أخبر باسمك إخوتي" (مز 22: 23). بالحقيقة جاء المسيح يبحث عن إخوته، إذ قال: "لم أُرسل إلا إلى خراف إسرائيل الضالة" (مت 15: 24).
"فقال يسى لداود ابنه: خذ لإخوتك إيفة من هذا الفريك وهذه العشر الخبزات واركض إلى المحلة إلى إخوتك". الإيفة يا إخوة هي ثلاث كيلات؛ في هذه الكيلات الثلاث، نفهم سرّ الثالوث. لقد عرف إبراهيم هذا السرّ جيدًا عندما تأهل لإدراك سرّ الثالوث في الثلاثة أشخاص تحت شجرة البطمة بممرا، فأمر أن يُعجن ثلاث كيلات دقيق (تك 18: 6). إنها ثلاث كيلات، لذلك أعطى يسى ذات الكمية لابنه. وفي العشر قطع من الجبن ندرك الوصايا العشر للعهد القديم. هكذا جاء داود ومعه الثلاث كيلات والعشر قطع من الجبن ليفتقد إخوته الذين كانوا في المعركة، إذ كان المسيح قادمًا بوصايا الناموس العشر وسرّ الثالوث ليحرر الجنس البشري من الشيطان[10].]
[يقول القديس أغسطينوس: عندما مُسح داود بواسطة الطوباوي صموئيل قبل مجيئه إلى هنا قتل أسدًا ودبًا بغير أسلحة، كما أخبر الملك شاول بنفسه. الأسد والدب يشيران كلاهما إلى الشيطان، إذ تجاسر على الهجوم ضد بعض من غنم داود، فخنقهما بقوته. ما نقرأه إنما هو رمز أيها الأعزاء المحبوبون؛ ما رُمز به بداود تحقق في ربنا يسوع المسيح، الذي خنق الأسد والدب عندما نزل إلى الجحيم ليحرر كل القديسين من مخالبهما. أنصتوا إلى توسّل النبي إلى شخص ربنا: "أَنْقِذ من السيف نفسي، وأنا وحيد في فك الكلب. خَلَّصْني من فم الأسد" (راجع مز 22: 20-21).
إذ يحمل الدب قوته في مخالبه، والأسد في فمه، هكذا يُرمز للشيطان بهذين الوحشين. لذا قيل عن شخص المسيح إنه ينزع كنيسته الوحيدة من اليد، أي من قوة الشيطان وفمه.
إذ جاء داود وجد الشعب اليهودي حالاًّ في وادي البطم Terebinth لمحاربة الفلسطينيين، لأن المسيح - داود الحقيقي - كان يجب أن يأتي كي يرفع الجنس البشري من وادي الخطية والدموع. لقد وقفوا في الوادي في مواجهة أمام الفلسطينيين. كانوا في وادٍ، لأن ثقل خطاياهم أنزلهم إلى تحت. على أي الأحوال، كانوا واقفين غير متجاسرين على محاربة الأعداء. لماذا لم يجسروا على ذلك، لأن داود رمز المسيح لم يكن قد جاء بعد. هذا حق أيها الأعزاء الأحباء. من يقدر أن يحارب الشيطان قبل أن يحرر ربنا المسيح الجنس البشري من سلطانه؟ الآن كلمة "داود" تعني "كقوي في اليد". من هو أقوى يا إخوة من ذاك الذي غلب العالم كله متسلحًا بالصليب، وليس بسيفٍ؟!
وقف أبناء إسرائيل 40 يومًا ضد الأعداء. تشير هذه الأربعين يومًا إلى الحياة الحاضرة التي فيها لا يكف المسيحيون عن الحرب ضد جليات وجيشه، أي ضد الشيطان وملائكته (رقم 4 تشير إلى الفصول الأربعة للعام، و10 إلى كمال الزمن).
جاء داود ووجد الشعب يحارب ضد الفلسطينيين. لم يوجد من يجسر أن يدخل إلى المعركة بمفرده. ذهب رمز المسيح (داود) إلى المعركة يحمل عصا في يده ضد جليات. بهذا أشار بالتأكيد إلى ما قد تحقق في ربنا يسوع المسيح -داود الحقيقي- إذ جاء وحمل صليبه ليحارب جليات الروحي، أي الشيطان.
لاحظوا يا إخوة أين ضرب داود الطوباوي جليات: في جبهته، حيث لم توجد عليها علامة الصليب. كما أن العصا رمزت إلى الصليب هكذا الحجر الذي ضُرب به جليات يرمز إلى ربنا يسوع، لأنه هو الحجر الحيّ الذي كُتب عنه: "الحجر الذي رفضه البناؤون هذا صار رأسًا للزاوية" (مز 117: 22).
وقف داود على جليات وقتله بدون سيف، إنما استخدم سيف جليات نفسه. هذا يشير إلى أنه عند مجيء المسيح يُهزم الشيطان بذات سيفه. حقًا إن الشيطان بمكره وظلمه الذي أجراه ضد المسيح، فقد سلطانه على كل المؤمنين بالمسيح.
وضع داود أدوات جليات في خيمته، ونحن كُنا أداة في يد الشيطان، لذلك يقول الرسول: "لأنه كما قدمتم أعضاءكم عبيدًا للنجاسة والإثم للإثم، هكذا الآن قدموا أعضاءكم عبيدًا للبرّ للقداسة" (رو 6: 19). وأيضًا: "ولا تقدموا أعضاءكم آلات إثم للخطية" (رو 6: 13). حقًا لقد وضع المسيح أدوات عدوه في خيمته عندما استحققنا نحن الذين كنا مسكنًا للشيطان أن نصير هيكلًا للمسيح، وهو يسكن فينا. يؤكد الرسول أن المسيح يسكن في داخلنا بقوله: "ليحلّ المسيح بالإيمان في قلوبكم" (أف 3: 16-17). يكرر بولس الرسول نفسه أننا نسكن في المسيح بقوله: "لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح، قد لبستم المسيح" (غل 3: 27). ويقول ربنا يسوع لتلاميذه في الإنجيل: "إني أنا في أبي، وأنتم فيّ، وأنا فيكم". (يو 14: 2)
حقيقة إصابة جليات في جبهته دون أي عضو آخر يرمز إلى أمر يحدث لنا. عندما يُرشم طالب العماد على جبهته يكون ذلك بمثابة ضربة لجليات الروحي، هزيمة للشيطان. يحمل على جبهته مسحة الروح، وكأنه قد وُسم بالعبارة "قدس للرب"، خلالها يتمتع بنعم السيد المسيح التي تقدس الفكر (الجبهة) كمدخل لحياة الإنسان الداخلية.
خلال نعم المسيح يُطرد الشيطان من قلوبنا، لذا نحاول قدر المستطاع بمعونته ألا نقبل الشيطان في داخلنا مرة أخرى بإرادتنا، بأعمالنا الشريرة وأفكارنا الماكرة الفاسقة. لأنه في هذه الحالة (إن قبلناه) يتحقق فينا المكتوب... "إذ خرج الروح النجس من الإنسان، يجتاز في أماكن ليس فيها ماء، يطلب راحة ولا يجد. ثم يقول: أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه. فيأتي ويجده فارغًا مكنوسًا مزينًا. ثم يذهب ويأخذ معه سبعة أرواح آخر أشر منه فتدخل وتسكن هناك، فتصير أواخر ذلك الإنسان أشر من أوائله. هكذا يكون أيضًا لهذا الجيل الشرير". (مت 12: 43-45)
الآن، مادمنا بنعمة المعمودية قد تخلصنا من كل الشرور بدون استحقاق سابق من جانبنا، فلنجاهد بمعونة الرب كي نمتلئ بالبركات الروحية. كلما أراد الشيطان أن يجرنا يجدنا دومًا مملُوءين من الروح القدس، ومرتبطين بأعمال صالحة، بهذا يتحقق فينا القول: "من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص" (مت 10: 22)[11].]
لكن أنا سللت سيفه الذي كان بيده،
وقطعت رأسه [7].
ضرب داود النبي رقبة جليات الجبار بسيفه، وكان في ذلك رمزًا لابن داود الذي استخدم أسلحة إبليس ليضربه بها.
* غلب المسيح الشيطان بالوسائل التي غلب بها الشيطان العالم. لقد حاربه بأسلحته الخاصة التي استعملها هو. كيف؟ إليك ذلك:
العذراء، والخشبة، والموت، كانت علامات انكسارنا. فالعذراء كانت حواء التي لم تكن بعد قد عرفتْ الرجل. والخشبة كانت الشجرة، والموت عقوبة آدم.
فالعذراء والخشبة والموت التي كانت وسائل الانحدار، صارت هي نفسها وسائل الغلبة.
فمريم قامت مقام حواء، وخشبة الصليب بدلًا من شجرة معرفة الخير والشر، وموت المسيح بدلًا من موت آدم. وهكذا ترون أن الشيطان غُلِبَ بالوسائل نفسها التي ساعدت على انتصاره.
لقد غلب الشيطان آدم بعود الشجرة، والمسيح صرع إبليس بعود الصليب. عود الشجرة ألقى بآدم في الجحيم، وعود الصليب أنقذ منه من كانوا قد انحدروا إليه. العود الأول عرَّى الإنسان من السلاح، وسبَّب له الموت، والثاني جرَّد هذا الظافر (أي إبليس) من سلاحه، وشهَّره، وغلبه على مرأى من العالم.
مَلَكَ موت آدم على كل الذين جاءوا بعده، أما موت المسيح فأقام من وُلِدوا قبله. من يُخبِر بقوة الرب (مز 104: 2). لقد اجتزنا من الموت إلى عدم الموت: هذه هي معجزة الصليب... الرب حارب والإكليل لنا. إذن بما أن الغلبة لنا، ليتنا نقتدي بالجنود، ولننشد اليوم في بهجتنا نشيد الظفر. لنقل مادحين الرب: "قد ابتُلِعَ الموت إلى غلبة". فأين شوكتك أيها الموت؟ وأين غلبتك يا هاوية؟ (1 كو 15: 54-55)
هذه هي الإحسانات التي وهبها لنا الصليب، شعار غلبه منصوب ضد الشياطين، وسيف ضد الخطيئة، سيف غَلَبَ به المسيح الحية. فالصليب هو مشيئة الآب، مجد الابن، انتصار وتمجيد الروح القدس، وشرف الملائكة، وأمان الكنيسة، وموضوع مجد لبولس، وتُرْس القديسين، ونور العالم. لأنه كما تُبَدَّد ظلمات مسكن مُظلم بإيقاد مصباح ووضعه على مكانٍ عالٍ، هكذا إذ أنار المسيح الصليب كسراج وأقامه منصوبًا، طرد كل ظلمات الأرض. وكما أن السراج يحمل نورًا في أعلاه، هكذا الصليب كان يحمل في أعلاه المسيح شمس البرّ الباهرة. ارتعد العالم، واهتزت الأرض، وتشققت الحجارة عندما رأته مصلوبًا. تشققت الحجارة لا قسوة اليهود. وانشق حجاب الهيكل ودسيستهم المخزية لم تتراخَ[12].
القديس كيرلس الكبير
ونزعت العار عن بني إسرائيل.
الليلويا [8].
في معركة الصليب، حطّم السيد المسيح مملكة إبليس، ووهبنا سلطانًا، ونزع العار عنا.
تارة يصف الكتاب المقدس الشيطان كتنينٍ رهيبٍ أو أسدٍ يزمجر أو تمساحٍ يفترس الخ.، وأخرى كثعلبٍ صغيرٍ لا قوة له. فإن واجه الإنسان عدو الخير بقدراته الذاتية يرتعب أمام هذا العدو العنيف، وإن اختفى في نعمة الله يراه حقيرًا، عاجزًا عن الإضرار به.
قيل عن إبليس في سفر أيوب: "أتلعب معه كالعصفور، أو تربطه لأجل فتياتك؟" (أي 41: 5). الطير الذي يُروض يمكن اللعب به لأجل التسلية والترفيه، لكن الأمر ليس هكذا بالنسبة للوياثان. لأجل التسلية تُصطاد الطيور، وتوضع في أقفاص، لتقف حولها الفتيات الصغيرات يتمتعن برؤيتها. في بعض البلاد غير المتقدمة يقوم الآباء بربط الطيور بخيط لكي ما يلهو بها أطفالهم كنوعٍ من التسلية.
* الشيطان الذي كان ملكًا صار في عارٍ، فنسج لنفسه تيجانًا من الكذب.
قُذف بعرشه، لأن الله في العالم!
"الطفل" جاء في المذود، فطرد الشيطان من مملكته![13]
* دُحر الظلام ليعني أن الشيطان قد انهزم، والنور يظهر.
ليصرخ معلنا أن الابن البكر قد انتصر.
الشيطان المظلم قد اندحر مع الظلام،
والنور الذي لنا غلب مع الشمس[14].
القديس مار أفرام السرياني
* هو الذي سيق كحملٍ، وذُبح كخروفٍ، نجَّانا من عبودية العالم كما من أرض مصر، وحلَّنا من قيود عبودية الشيطان كما من يد فرعون، وختم نفوسنا بروحه وأعضاء جسمنا بدمه.
هو الذي غطى الموت بثوب العار، وجعل الشيطان في ثوب الحداد، كما صنع موسى بفرعون[15].
ميليتو من ساردس
* ليت المراحم الإلهية تهبنا ألا يجد خصمنا شيئًا من أعماله فينا، فإنه إذ لا يجد شيئًا مما له، يعجز عن أن يحتفظ بنا أو يستدعينا من الحياة الأبدية.
لنمتحن الأماكن السرية لضميرنا ونفحص خبايا قلوبنا، وإذ لا نجد شيئًا يخص الشيطان نفرح ونشكر الله. بعونه نجتهد قدر ما نستطيع أن تبقى أبواب قلوبنا مفتوحة على الدوام للمسيح ومغلقة أمام الشيطان إلى الأبد.
إن اكتشفنا شيئًا من أعمال الشيطان أو مكره في قلوبنا، فلنسرع ونلقيه خارجًا، ونتخلص منه كما من سمٍ مميتٍ. عندئذ عندما يريد الشيطان أن يصطادنا في شباكه لا يجد فينا شيئًا مما له، يرحل في ارتباكٍ، بينما نشكر الله مع النبي صارخين: "حررتنا من أعدائنا، وجعلت مبغضينا في عارٍ" (راجع مز 44: 7).
لهذا فإن ليئة كما قلنا قبلًا تشير إلى شعب اليهود الذي التصقوا بالمسيح، وراحيل تشير إلى الكنيسة التي من الأمم. لهذا راحيل وليس ليئة سرقت أصنام أبيها، إذ بعد مجيء المسيح لم يعرف مجمع اليهود خدمة الأوثان في أي موضع[16].
الأب قيصريوس أسقف آرل
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي مزمور 151

أغنية عجيبة في الجحيم


* وسط احتفال الكنيسة في العالم كله بدفنك،
يا خالق السماء والأرض،
أقف في دهشة متعجبًا!
كيف يُدفن واهب القيامة وسط الأموات؟
تُرى هل أشارك نيقوديموس ويوسف الرامي دموعهما،
وتهتز نفسي لهروب التلاميذ حتى في لحظات دفنك؟
أم تسمح لي باقتحام الجحيم،
فأتمتع برؤية موكب الآباء والأنبياء وكل المؤمنين.
اهتزت أساسات الجحيم حين دخلت نفسك يا مخلصي،
تكرز للمؤمنين بعتقهم من الأسر،
وتحملهم كما على كتفيك،
لتدخل بهم إلى موكب نصرة عجيب!
انفتحت أعين الكل ليدركوا أن النبوات قد تحققت.
يوم الخلاص قد جاء!
* تُرى هل قاد داود مرتل إسرائيل الحلو،
الموكب كقائد خورس المرنمين.
إنه لا يحمل عودًا ولا قيثارة ولا مزمارًا كعادته،
إنه يغني ويسبح،
يردد المزمور غير المُحصى بين المزامير (مز 151)،
مزمور القائد الجبار، محطم إبليس.
مزمور العريس الإلهي ينبوع الفرح السماوي،
يقدمه بلغة سماوية ملائكية!
* حين كان داود على الأرض تعجب،
كان الصغير بين إخوته، واخترته مسيحًا لك.
الآن يرى المسيح الحقيقي، المساوي للآب في الجوهر،
تجسد واحتل آخر صفوف البشرية.
بإرادته صار عبدًا مرفوضًا من إخوته،
صار عبدًا يُباع بثلاثين من الفضة، كأصغر البشرية!
وهو حجر الزاوية السماوي، احتقره البناءون ورذلوه.
حسبوه ثقلًا على البشرية،
لا موضع له بينهم،
لا خلاص منه إلا بصلبه خارج المحلة!
* وقف داود أمام ابن داود وربه!
في دهشة يقول: بغير إرادتي كنت صغيرًا،
لكنك بإرادتك صرت يا أيها السماوي أصغر من الجميع!
كنتُ صغيرًا بين إخوتي،
أما أنت، فصرت صغيرًا بين الذين جبلتهم يداك.
كنت حدثًا في بيت أبي،
أما أنت فجئت غريبًا ليس لك أين تسند رأسك.
كنت أنا راعيًا لغنم أبي.
أما أنت فأتيت تبحث عن الخطاة والزناة.
تضمد النفوس المجروحة،
وتحمل على منكبيك كل ضعيف.
جئت ترعى الذين قدموا عداوة لك، يا أيها العجيب في حبه!
* مزماري لم يفارقني حتى في أيام شدتي.
كنت أسبحك بلساني كما بقيثارتي.
أما أنت، فأتيت لتفيض بالفرح على كل البشرية.
تحول حياتنا إلى قيثارة، يعزف عليها روحك القدوس.
وتقيم من الكنيسة خورس شبه سماوي،
لا يتوقف على الشكر والحمد.
* أرسلت لي نبيك صموئيل، مسحني بدهن مبارك.
أقمتني ملكًا على شعبك.
رفعتني من المزبلة، لأجلس مع أشراف أشراف شعبك.
أما أنت فالقدوس ملك الملوك.
أرسلك الآب لأجل خلاصنا.
تحقق إرادته الواحدة مع إرادتك.
فليس ما يشغلك مثل خلاصنا.
تقدسنا بروحك القدوس،
وتهيئنا لشركة الأمجاد الأبدية.
* وهبني أن أقتل أسدًا ودبًا،
لكي أنقذ خرافًا غير عاقلة.
كنت سلاحي الخفي،
باسمك التقيت بجليات الجبار.
بسيفه قطعت رأسه، لأنه كان رمزًا لإبليس.
به نزعت العار عن شعبك.
أما أنت، فقُدت المعركة في مواجهة مع إبليس نفسه.
أعدَّ لك الصليب، لكي يتخلص منك.
ولم يدرك أنه بالصليب تحطَّم وفقد سلطانه.
حرك بكل طاقاته الكثيرين لكي تموت وتُدفن.
وها أنت قادم لكي تحطم الموت،
تحملنا كغنائم، وتحررنا من الموت الأبدي.
تدخل بنا إلى الفردوس، لننعم بنورك الإلهي.
لك المجد يا من ملأت كل مؤمنيك فرحًا وبهجة!
  رد مع اقتباس
قديم 30 - 12 - 2014, 10:43 AM   رقم المشاركة : ( 176 )
amiranassar Female
x Banned x


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 122390
تـاريخ التسجيـل : Dec 2014
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : مصر
المشاركـــــــات : 14

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

amiranassar غير متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

بارك لكم الرب

التعديل الأخير تم بواسطة Ramez5 ; 30 - 12 - 2014 الساعة 10:49 AM سبب آخر: حذف لينك خارجى
  رد مع اقتباس
قديم 30 - 12 - 2014, 02:44 PM   رقم المشاركة : ( 177 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,563

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

شكرا على المرور
  رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي رو26:8
تفسير الكتاب المقدس - العهد القديم - القمص تادرس يعقوب سفر نحميا
قصة الكتاب المقدس للأطفال - القمص تادرس يعقوب ملطي
مزمور 1 - تفسير سفر المزامير -القمص تادرس يعقوب
تفسير سفر نشيد الأنشاد القمص تادرس يعقوب مركزه عند اليهود:


الساعة الآن 02:36 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024