16 - 08 - 2024, 02:57 PM
|
رقم المشاركة : ( 170511 )
|
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
قوة يسوع التي معك تعطيكم
نصرة على كل المعوقات التي أمامكم
|
|
|
|
16 - 08 - 2024, 03:00 PM
|
رقم المشاركة : ( 170512 )
|
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
لا يخشون أخبار السوء
فقلوبهم راسخة وآمنة في الله
(مز 112: 7)
|
|
|
|
16 - 08 - 2024, 03:25 PM
|
رقم المشاركة : ( 170513 )
|
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
انسكاب الروح والحياة الجديدة
يُعتبر هذا الأصحاح تكملة للأصحاح السابق، فيه يعلن الله عن تحقيق خلاصنا بسكب روحه القدوس على كنيسته لأجل تجديدها المستمر، يُقيم فيها شهودًا له بعمله الداخلي فيهم، يشبعهم ويُقدسهم، غافرًا خطاياهم، وذلك على خلاف الفراغ الداخلي الذي عانى منه الناس خلال العبادة الوثنية.
كأن الخلاص الذي يقدمه الله لشعبه يحمل اتجاهين: تأكيد أن الله فيه كفايتنا، البعد عنه سخافة وخداع للقلب.
1. انسكاب الروح:
1 «وَالآنَ اسْمَعْ يَا يَعْقُوبُ عَبْدِي، وَإِسْرَائِيلُ الَّذِي اخْتَرْتُهُ. 2 هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ صَانِعُكَ وَجَابِلُكَ مِنَ الرَّحِمِ، مُعِينُكَ: لاَ تَخَفْ يَا عَبْدِي يَعْقُوبُ، وَيَا يَشُورُونُ الَّذِي اخْتَرْتُهُ. 3 لأَنِّي أَسْكُبُ مَاءً عَلَى الْعَطْشَانِ، وَسُيُولًا عَلَى الْيَابِسَةِ. أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى نَسْلِكَ وَبَرَكَتِي عَلَى ذُرِّيَّتِكَ. 4 فَيَنْبُتُونَ بَيْنَ الْعُشْبِ مِثْلَ الصَّفْصَافِ عَلَى مَجَارِي الْمِيَاهِ. 5 هذَا يَقُولُ: أَنَا لِلرَّبِّ، وَهذَا يُكَنِّي بِاسْمِ يَعْقُوبَ، وَهذَا يَكْتُبُ بِيَدِهِ: لِلرَّبِّ، وَبِاسْمِ إِسْرَائِيلَ يُلَقِّبُ».
يحقق الله دعوته واختياره لإسرائيل الجديد بانسكاب روحه القدوس على المؤمنين ليُقيم كنيسة العهد الجديد، إذ يقول: "والآن اسمع يا يعقوب عبدي وإسرائيل الذي اخترته، هكذا يقول الرب صانعك وجابلك من الرحم معينك. لا تخف يا عبدي يعقوب ويا يشورون الذي اخترته، لأني اسكب ماء على العطشان وسيولًا على اليابسة. أسكب روحي على نسلك وبركتي على ذريتك، فَينُبتُون بين العشب مثل الصَّفصاف على مجاري المياه. هذا يقول: أنا للرب وهذا يُكَنِّي باسم يعقوب، وهذا يكتب بيده للرب وباسم إسرائيل يُلقِّب" [1-5].
يلاحظ في هذه العطية العظمى الآتي:
أ. يشتاق الله أن يُعطي ليس فقط بركاته وعطاياه الخارجية إنما أن يهب ذاته للإنسان: "أسكب روحي على نسلك"، يهب واهب العطايا، ومانح البركة كهبة وعطية...
* الذي يغتسل للخلاص يتقبل الماء والروح القدس.
* (المعتمد) ينال الروح القدس فيه ويحمل فعلًا لقب هيكل الله.
* أيها الوحيد الذي أعطانا روحه بالمعمودية، أعطني كلمة لأرتل لك بها بمحبة.
* نزل الابن الوحيد وأقامك من المزبلة وأعطاك روحه بالمعمودية وجعلك أخاه.
* تجنسنا بلاهوته في داخل المياه، وصرنا أبناء بالحقيقة، ومنذ ذلك الحين صار لنا أن ندعوه أبانا، ذاك الخفي الذي أعطانا روحه بالمعمودية.
يعتبر الله هذه العطية هي العظمى، فأنه هو الذي في حبه جبلنا، ومن الرحم أعاننا، وها هو يُطالبنا ألا نخاف لأنه اختارنا، ولتحقيق هذا الاختيار قدم لنا هذه العطية.
ب. يدعو كنيسته "يشورون"، وقد ظهر هذا الاسم أربع مرات في العهد القديم (تث 32: 15؛ 33: 5-6)، معناه "مستقيم"، مشتقة من ياشر. وكأنه يدعو كنيسته التي ضمت الخطاة "مستقيمين" وذلك بفعل روحه القدوس. كأنه يُشجع شعبه على التجاوب مع عطية روحه القدوس فيتركوا انحرافهم وعصيانهم ويترنموا ببهاء الرب وجماله الروحي.
ففي سفر نشيد الأنشاد بينما تعترف الكنيسة أن التجارب قد لوحتها (نش 1: 6)، إلاَّ أن الله العريس المخلص لم يلمح قط عن عيب فيها، وإنما على العكس يبرز كل جمال فيها: "ها أنتِ جميلة يا حبيبتي ها أنتِ جميلة، عيناكِ حمامتان" (نش 1: 15)، "كُلّك جميل يا حبيبتي ليس فيكِ عيبة" (نش 4: 7).
يرى السيد المسيح في كنيسته جمالًا فائقًا سره العينان الحمامتان، فقد حلَّ عليها الروح القدس الذي يظهر على شكل حمامة يهبها استنارة روحية.
يقول العلامة أوريجانوس: [تقارن عيناها بالحمامتين بالتأكيد لأنها قد صارت الآن تفهم الكتب المقدسة حسب الروح وليس حسب الحرف. صارت تدرك الأسرار الروحية في الكتب المقدسة، لأن الحمامة رمز للروح القدس. متى فهمنا الناموس والأنبياء بطريقة روحية يصير لنا العينان الحمامتان. لهذا ففي سفر المزامير اشتاقت نفسها أن يكون لها جناحي حمامة (مز 67: 14)، لعلها تقدر أن تطير إلى فهم الأسرار الروحية وتستقر في ساحات الحكمة].
أما القديس غريغوريوس النيصي فيرى أن سرّ جمال الكنيسة هو عيناها الحمامتان إذ هما نقيتان تظهر فيهما صورة الروح القدس الذي تشخص إليه العروس على الدوام فتنطبع صورته على حدقة العين.
يرى القديس جيرومأن سرّ جمال الكنيسة هو اتحادها بابن الله الوحيد، فتحمل مجده في داخلها، إذ يقول: [أي شيء أجمل من النفس التي تُدعى ابنة الله (مز 45: 10)، التي لا تطلب الزينة الخارجية (1 بط 3: 3)؟! إنها تؤمن بالمسيح، وإذ يوهب لها روحه تأخذ طريقها نحو المسيح الذي هو عريسها وربها في نفس الوقت، برجاء عظيم].
ج. يُقدم لنا عطية روحه القدوس الذي يعمل فينا حسب احتياجنا، فمن كان ظمآنا يسكب له ماء ليرويه، أما من كان كأرض يابسة فيفيض عليه سيولًا لتحول اليبوسة والقفر إلى بستان. أنه سخي في العطاء، يهبنا حسب احتياجنا، وقدر تجاوبنا معه. يقول: "أفغِر فاك فأملأه" (مز 81: 10).
* أية شعلة يلهبها الروح في داخلنا يمكننا إن أردنا أن نوهجها أكثر فأكثر، وإن لم نرد نفقدها للحال (بتراخينا وعدم تجاوبنا معه).
* الذين ينالونه (الروح القدس) يتمتعون به على قدر استيعابهم، لا على قدر ما يستطيع هو.
* إنك تتسلم عُدة حربية ضد قوة العدو (الشيطان)... هوذا السلاح مُعدّ: سيف الروح (أف 6: 17). إنه مهيأ، لذا يليق بك أن تبسط يمينك بطريقة صالحة لكي تُحارب حرب الرب وتغلب القوات المقاومة وتصير (حصنًا) منيعًا يصد كل محاولة للهراطقة...
* لا تحتقر النعمة من أجل مجانيتها بل اقبلها واكتنزها بورع.
د. ماذا يعني: "ينْبُتُون بين العشب مثل الصَّفصاف على مجاري المياه"؟ ربما عَنَى أن المتمتع بعطية الروح القدس ينبت كشجرة ضخمة بين عشب زائل.
ه. من يتمتع بالروح يكتب على يده: "للرب"؛ إذ كانت العادة القديمة أن يكتب الإنسان اسم الإله أو سيده على يده كوشم، وقد منع الله شعبه من ذلك حتى لا يكتبوا اسم الوثن على أيديهم عند انحرافهم فيصعب بل وكان مستحيلًا إزالته.
"وباسم إسرائيل يُلقّب"، إذ حملت كنيسة العهد الجديد المتمتعة بعطية الروح لقب "إسرائيل الجديد"؛ ورثت عن إسرائيل القديم الكتب المقدسة بما ضمته من شريعة إلهية ووصايا ونبوات وعهود ومواعيد... لقد فهمت ذلك كله بالروح لا الحرف وأدركت أسرارًا إلهية وتمتعت بأمور فائقة.
2. أنتم شهودي:
6 هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ وَفَادِيهِ، رَبُّ الْجُنُودِ: «أَنَا الأَوَّلُ وَأَنَا الآخِرُ، وَلاَ إِلهَ غَيْرِي. 7 وَمَنْ مِثْلِي؟ يُنَادِي، فَلْيُخْبِرْ بِهِ وَيَعْرِضْهُ لِي مُنْذُ وَضَعْتُ الشَّعْبَ الْقَدِيمَ. وَالْمُسْتَقْبِلاَتُ وَمَا سَيَأْتِي لِيُخْبِرُوهُمْ بِهَا. 8 لاَ تَرْتَعِبُوا وَلاَ تَرْتَاعُوا. أَمَا أَعْلَمْتُكَ مُنْذُ الْقَدِيمِ وَأَخْبَرْتُكَ؟ فَأَنْتُمْ شُهُودِي. هَلْ يُوجَدُ إِلهٌ غَيْرِي؟ وَلاَ صَخْرَةَ لاَ أَعْلَمُ بِهَا؟»
المتحدث هنا هو السيد المسيح، الصخرة التي أفاضت ماء على الشعب (1 كو10: 4)، لذا يقول "أسكب ماء على العطشان" [3]؛ وها هو يدعو نفسه "ملك إسرائيل وفاديه" [6]، وقد اعترف أمام بيلاطس أنه ملك.
يدعو نفسه هنا "رب الجنود"، "أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيري" [6]. وفي سفر الرؤيا يقول السيد المسيح: "أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية" (رؤ 1: 8)، "أنا هو الأول والآخر" (رؤ 1: 17؛ 22: 13). واضح أن الفادي رب الجنود الإله الوحيد الذي ليس إله غيره، هو المسيح المخلص... هذه هي شهادة المتمتعين بخلاصه: "فأنتم شهودي، هل يوجد إله غيري؟!" [8].
ما نتمتع به في العهد الجديد هو امتداد لعمل الله المستمر؛ الله الذي عمل مع الشعب القديم [7] سبق فأعلن لهم بالمستقبلات، أي ما قد خططه لأجل العهد الجديد [7].
ربما قدم نفسه هنا "الأول والآخر" ليعلن أنه هو بنفسه الذي عمل في القديم لا يزال بنفسه الذي يعمل في العهد الجديد.
الله المخلص هو الأول والآخر، يتقدم كل الصفوف لكي يقود رعيته ويتأخر وراءها حتى يسند كل خروف بطيء أو ضعيف... يحتضن الجميع ويترفق بالكل. هو أيضًا الأول بكونه رأسي الكنيسة والآخر إذ صار خادم الجميع. نجده الأول والآخر في حياتنا، يُشبع كل احتياجاتنا ولا يعوزنا شيء!
3. الوثنية والفراغ:
9 الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ صَنَمًا كُلُّهُمْ بَاطِلٌ، وَمُشْتَهَيَاتُهُمْ لاَ تَنْفَعُ، وَشُهُودُهُمْ هِيَ. لاَ تُبْصِرُ وَلاَ تَعْرِفُ حَتَّى تَخْزَى. 10 مَنْ صَوَّرَ إِلهًا وَسَبَكَ صَنَمًا لِغَيْرِ نَفْعٍ؟ 11 هَا كُلُّ أَصْحَابِهِ يَخْزَوْنَ وَالصُّنَّاعُ هُمْ مِنَ النَّاسِ. يَجْتَمِعُونَ كُلُّهُمْ، يَقِفُونَ يَرْتَعِبُونَ وَيَخْزَوْنَ مَعًا. 12 طَبَعَ الْحَدِيدَ قَدُومًا، وَعَمِلَ فِي الْفَحْمِ، وَبِالْمَطَارِقِ يُصَوِّرُهُ فَيَصْنَعُهُ بِذِرَاعِ قُوَّتِهِ. يَجُوعُ أَيْضًا فَلَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ. لَمْ يَشْرَبْ مَاءً وَقَدْ تَعِبَ. 13 نَجَّرَ خَشَبًا. مَدَّ الْخَيْطَ. بِالْمِخْرَزِ يُعَلِّمُهُ، يَصْنَعُهُ بِالأَزَامِيلِ، وَبِالدَّوَّارَةِ يَرْسُمُهُ. فَيَصْنَعُهُ كَشَبَهِ رَجُل، كَجَمَالِ إِنْسَانٍ، لِيَسْكُنَ فِي الْبَيْتِ! 14 قَطَعَ لِنَفْسِهِ أَرْزًا وَأَخَذَ سِنْدِيَانًا وَبَلُّوطًا، وَاخْتَارَ لِنَفْسِهِ مِنْ أَشْجَارِ الْوَعْرِ. غَرَسَ سَنُوبَرًا وَالْمَطَرُ يُنْمِيهِ. 15 فَيَصِيرُ لِلنَّاسِ لِلإِيقَادِ. وَيَأْخُذُ مِنْهُ وَيَتَدَفَّأُ. يُشْعِلُ أَيْضًا وَيَخْبِزُ خُبْزًا، ثُمَّ يَصْنَعُ إِلهًا فَيَسْجُدُ! قَدْ صَنَعَهُ صَنَمًا وَخَرَّ لَهُ. 16 نِصْفُهُ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ. عَلَى نِصْفِهِ يَأْكُلُ لَحْمًا. يَشْوِي مَشْوِيًّا وَيَشْبَعُ! يَتَدَفَّأُ أَيْضًا وَيَقُولُ: «بَخْ! قَدْ تَدَفَّأْتُ. رَأَيْتُ نَارًا». 17 وَبَقِيَّتُهُ قَدْ صَنَعَهَا إِلهًا، صَنَمًا لِنَفْسِهِ! يَخُرُّ لَهُ وَيَسْجُدُ، وَيُصَلِّي إِلَيْهِ وَيَقُولُ: «نَجِّنِي لأَنَّكَ أَنْتَ إِلهِي». 18 لاَ يَعْرِفُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ لأَنَّهُ قَدْ طُمِسَتْ عُيُونُهُمْ عَنِ الإِبْصَارِ، وَقُلُوبُهُمْ عَنِ التَّعَقُّلِ. 19 وَلاَ يُرَدِّدُ فِي قَلْبِهِ وَلَيْسَ لَهُ مَعْرِفَةٌ وَلاَ فَهْمٌ حَتَّى يَقُولَ: «نِصْفَهُ قَدْ أَحْرَقْتُ بِالنَّارِ، وَخَبَزْتُ أَيْضًا عَلَى جَمْرِهِ خُبْزًا، شَوَيْتُ لَحْمًا وَأَكَلْتُ. أَفَأَصْنَعُ بَقِيَّتَهُ رِجْسًا، وَلِسَاقِ شَجَرَةٍ أَخُرُّ؟» 20 يَرْعَى رَمَادًا. قَلْبٌ مَخْدُوعٌ قَدْ أَضَلَّهُ فَلاَ يُنَجِّي نَفْسَهُ وَلاَ يَقُولُ: «أَلَيْسَ كَذِبٌ فِي يَمِينِي؟».
بعدما تحدث عن عطية الروح العظمى التي قدمتنا شهودًا للحق، نعلن عن تمتعنا بالله مخلصنا كرب الجنود، قائد المعركة الروحية، ومشبع الكل بكونه الأول والآخر، سند رجال العهد القديم وأيضًا مؤمني العهد الجديد... الآن يُقارن بين شهادة المؤمنين وشهادة عبدة الأوثان:
أ. الشهادة للمخلص تهب شبعًا وارتواء وإثمارًا: "لأني أسكب ماء على العطشان وسيولًا على اليابسة... فينبتون بين العشب مثل الصفصاف" [3، 4]، أما الشهادة للأوثان فتقدم بطلانًا وفراغًا وجوعًا مع عمى وجهل: "الذين يُصّوِرون صنمًا كلهم باطل، ومشتهياتهم لا تنفع، وشهودُهُم هي؛ لا تبصر ولا تعرف حتى تَخزى" [9].
مسيحنا مشبع للأعماق، فيه كل الكفاية؛ الذين اختبروه شعروا بالشبع ولم يعوزهم شيئًا قط؛ أما خارجه ففقدان لكل شبع داخلي وحرمان للتمتع بالشركة مع الله مصدر الحياة والشبع.
ب. الشهادة للمخلص تهب سلامًا: "لا تخف" [2]؛ "لا ترتعبوا ولا ترتاعوا" [8]، أما خارجه فخوف ورعدة "يجتمعون كُلَّهْم يقفون يرتعبون ويخزون معًا" [11]. لقد اجتمعت كل الطاقات معًا ضده من رؤساء كهنة وكتبة وفريسيين وصدوقيين وولاة رومان إلخ... لكنهم حملوا رعبًا وخوفًا حتى في لحظات الصلب والسخرية بالمصلوب! أرعبهم شرهم الداخلي وفراغ قلبهم من النعمة الإلهية، وثارت الطبيعة عليهم فانكسفت الشمس وانخسف القمر وحدثت زلازل وتشققت الصخور وقام كثير من الأموات!
ج. يتمتع شهود الرب بالكرامة فيُحسبون "إسرائيل الجديد" ويَنقشون اسم المخلص على أيديهم الداخلية، وكأنهم لا يعملون إلاَّ باسمه [5]؛ أما شهود الخارجين عنه فيحملون عارًا وخزيًا [11].
يُقدم لنا تصويرًا رائعًا عن فساد العبادة الوثنية، مظهرًا أن الأوثان وصانعيها والمتعبدين لها جميعهم يحملون خزيًا وبطلانًا. فصناع الأوثان جادُّون لا يهتمون بالجوع ولا العطش ولا التعب [12] من أجل صنع الفأس من الحديد وطرق صفائح لإقامة التماثيل. وهكذا أيضًا بالنسبة للنجارين الذين يبذلون كل الجهد لحفر تماثيل خشبية... الجميع يتعبون ولا يكلون لإقامة تماثيل معدنية أو خشبية عاجزة عن تقديم الخلاص، بينما يتهاون أولاد الله في جهادهم الروحي بالرغم من تمتعهم بإمكانيات إلهية قادرة على تمتعهم بالخلاص الأبدي. وكأن هؤلاء العاملين باطلًا يدينون أولاد الله المتهاونين، وكما قال رب المجد يسوع أن أبناء هذا الجيل أحكم من بني الملكوت (لو 16: 8).
من جانب آخر فإن صنع التماثيل المعدنية يستنفذ طاقة الصناع، بينما صنع التماثيل الخشبية يرافقه لهو بما تبقى من الأخشاب، إذ تستخدم في الموقد للدفء أو لطهي الطعام في الوقت الذي فيه يهدئون ضميرهم بالعبادة للخشب المنحوت تمثالًا.
أخيرًا ماذا تُقدم عبادة الأوثان (= اعتزال الله):
أ. عمى البصيرة الداخلية وظلمة داخلية [18]، بينما المسيح هو شمس البر (ملا 4: 2).
ب. جهلًا وعدم معرفة [9]، بينما المسيح هو بِرُّنا.
ج. جوعًا فيأكل الإنسان رمادًا [20]، بينما السيد المسيح هو الخبز السماوي.
د. كذبًا وخداعًا وتضليلًا [20]، بينما السيد المسيح هو الطريق والحق.
بمعنى آخر نجد في مسيحنا الاستنارة الداخلية والمعرفة والشبع والحق وكل احتياجاتنا، أما خارجه فلا يوجد إلاَّ الفراغ الداخلي والشعور بالعزلة وفُقدان البصيرة الداخلية.
4. أنت ليّ:
21 «اُذْكُرْ هذِهِ يَا يَعْقُوبُ، يَا إِسْرَائِيلُ، فَإِنَّكَ أَنْتَ عَبْدِي. قَدْ جَبَلْتُكَ. عَبْدٌ لِي أَنْتَ. يَا إِسْرَائِيلُ لاَ تُنْسَى مِنِّي. 22 قَدْ مَحَوْتُ كَغَيْمٍ ذُنُوبَكَ وَكَسَحَابَةٍ خَطَايَاكَ. اِرْجِعْ إِلَيَّ لأَنِّي فَدَيْتُكَ». 23 تَرَنَّمِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ فَعَلَ. اِهْتِفِي يَا أَسَافِلَ الأَرْضِ. أَشِيدِي أَيَّتُهَا الْجِبَالُ تَرَنُّمًا، الْوَعْرُ وَكُلُّ شَجَرَةٍ فِيهِ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ فَدَى يَعْقُوبَ، وَفِي إِسْرَائِيلَ تَمَجَّدَ. 24 هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ فَادِيكَ وَجَابِلُكَ مِنَ الْبَطْنِ: «أَنَا الرَّبُّ صَانِعٌ كُلَّ شَيْءٍ، نَاشِرٌ السَّمَاوَاتِ وَحْدِي، بَاسِطٌ الأَرْضَ. مَنْ مَعِي؟ 25 مُبَطِّلٌ آيَاتِ الْمُخَادِعِينَ وَمُحَمِّقٌ الْعَرَّافِينَ. مُرَجِّعٌ الْحُكَمَاءَ إِلَى الْوَرَاءِ، وَمُجَهِّلٌ مَعْرِفَتَهُمْ. 26 مُقِيمٌ كَلِمَةَ عَبْدِهِ، وَمُتَمِّمٌ رَأْيَ رُسُلِهِ. الْقَائِلُ عَنْ أُورُشَلِيمَ: سَتُعْمَرُ، وَلِمُدُنِ يَهُوذَا: سَتُبْنَيْنَ، وَخِرَبَهَا أُقِيمُ.
أبرزَ بطلان العبادة الوثنية أو اعتزال الله، لا للنقد العقلاني المجرد، وإنما لإثارة النفس وحثِّها على قبول عمل الله الخلاصي، الذي يتركز في الآتي:
أ. إقامة شعب الله: "اذكر هذه يا يعقوب، يا إسرائيل فانك أنت عبدي" [21]... صرنا إسرائيل الجديد المتعبد لله.
ب. انتسابنا له: "ليّ أنت" [21]، لسنا فقط خليقته وشعبه، إنما يعتز الله بنا كأولاد له، منسوبين إليه.
ج. غير منسييّن منه [21].
د. ننعم بغفران الخطايا مهما بلغت كثافتها: "قد محوتُ كغيم ذنوبكَ وكسحابةٍ خطاياكَ، ارجع إليّ لأني فديُتكَ" [22].
ه. يهب النفس (السموات) تسبيحًا، والجسد (الأرض) هتاف فرح، وطاقاتنا (الجبال) ترنمًا، ويصير كل ما في داخلنا كأشجار تمجد الله [23].
5. نبوة عن كورش:
27 الْقَائِلُ لِلُّجَّةِ: انْشَفِي، وَأَنْهَارَكِ أُجَفِّفُ. 28 الْقَائِلُ عَنْ كُورَشَ: رَاعِيَّ، فَكُلَّ مَسَرَّتِي يُتَمِّمُ. وَيَقُولُ عَنْ أُورُشَلِيمَ: سَتُبْنَى، وَلِلْهَيْكَلِ: سَتُؤَسَّسُ».
قبل حوالي 220 سنة أعلن الله عما يتم على يدي كورش الوثني لأجل بنيان أورشليم وتأسيس الهيكل حسب مسرة الله: "القائل عن كورشَ راعيَّ، فكل مسرَّتي يُتمم، ويقول عن أورشليم ستُبنى وللهيكل ستُؤَسْس" [28].
هنا لأول مرة يذكر اسم "كورش" صراحة، معناه بالفارسي "شمس"؛ وبالأرامية "راع"؛ يرى البعض أن "راعيّ" لقب لبعض ملوك الشرق الأوسط قديمًا.
يذكر المؤرخ اليهودي يوسيفوس أن كورش قرأ في إشعياء اسمه قبل 220 سنة وأراد أن يُحقق ما ورد عنه (راجع عزرا 1: 2؛ 2 أي 36: 23).
ماذا يعني بقوله: "القائل لِلُّجْةِ انشفي وأنهارِك أُجفف" [27]؟
أ. يصور أورشليم بلجة ماء ونهر لا يمكن أن يُقام فيه الهيكل بعد، وذلك حسب الفكر البشري، لأن اليهود فقدوا رجاءهم تمامًا أثناء السبي البابلي، لكن الله الكُلِّي القُدرة والرعاية يُجفف اللجج والأنهار محققًا وعوده لنا.
ب. ربما يُشير هنا إلى عبور بحر سوف ونهر الأردن ليؤكد أنه قادر أن يعبر بهم من السبي ويردهم إلى أرض الموعد.
ج. ربما أشار إلى كورش الذي عبر الفرات واقتحم مملكة بابل.
كورش والخلاص
تعتبر الأصحاحات السابقة (40-44) دعوة موجهة إلى الكنيسة لكي تتعزى بالله مخلصها، فيه وحده تجد شعبها بكونها له وهو لها. الآن يعلن الله خلال الأصحاحات (45-47) عن سرّ تعزيتها ألا وهو تحطيم الشر المقاوم لها. فقد سبق فدعى كورش راعيه (إش 44: 28) معلنًا عن اسمه قبل حوالي قرنين من هجومه على بابل بكونه آلة في يد الله لتحطيم من أذل شعبه واستخدامه لإرجاعهم إلى وطنهم.
1. حديث إلهي لكورش:
1 هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ لِمَسِيحِهِ، لِكُورَشَ الَّذِي أَمْسَكْتُ بِيَمِينِهِ لأَدُوسَ أَمَامَهُ أُمَمًا، وَأَحْقَاءَ مُلُوكٍ أَحُلُّ، لأَفْتَحَ أَمَامَهُ الْمِصْرَاعَيْنِ، وَالأَبْوَابُ لاَ تُغْلَقُ: 2 «أَنَا أَسِيرُ قُدَّامَكَ وَالْهِضَابَ أُمَهِّدُ. أُكَسِّرُ مِصْرَاعَيِ النُّحَاسِ، وَمَغَالِيقَ الْحَدِيدِ أَقْصِفُ. 3 وَأُعْطِيكَ ذَخَائِرَ الظُّلْمَةِ وَكُنُوزَ الْمَخَابِئِ، لِكَيْ تَعْرِفَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ الَّذِي يَدْعُوكَ بِاسْمِكَ، إِلهُ إِسْرَائِيلَ. 4 لأَجْلِ عَبْدِي يَعْقُوبَ، وَإِسْرَائِيلَ مُخْتَارِي، دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ. لَقَّبْتُكَ وَأَنْتَ لَسْتَ تَعْرِفُنِي. 5 أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لاَ إِلهَ سِوَايَ. نَطَّقْتُكَ وَأَنْتَ لَمْ تَعْرِفْنِي. 6 لِكَيْ يَعْلَمُوا مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ وَمِنْ مَغْرِبِهَا أَنْ لَيْسَ غَيْرِي. أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. 7 مُصَوِّرُ النُّورِ وَخَالِقُ الظُّلْمَةِ، صَانِعُ السَّلاَمِ وَخَالِقُ الشَّرِّ. أَنَا الرَّبُّ صَانِعُ كُلِّ هذِهِ. 8 اُقْطُرِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ مِنْ فَوْقُ، وَلْيُنْزِلُ الْجَوُّ بِرًّا. لِتَنْفَتِحِ الأَرْضُ فَيُثْمِرَ الْخَلاَصُ، وَلْتُنْبِتْ بِرًّا مَعًا. أَنَا الرَّبَّ قَدْ خَلَقْتُهُ.
يظهر من الكتابات البابلية أن كورش هذا كان ابنًا لقمبيز وحفيدًا لكورش آخر، وجميعهم مع أجدادهم ملكوا في شرق عيلام حيث كانت شوشان عاصمة ملكهم منذ سنة 550 ق.م. تقريبًا.
يعتبر كورش مؤسس المملكة الفارسية، قيل إنه بدأ حياته كقائد فرقة خاملة في فارس، نجح في أن يصير قائدًا لفرقتين من جنود الجبال، وكان طموحًا للغاية فبدأ غزواته للممالك الصغيرة المجاورة، غير أن بابل سخرت به واستهترت بإمكانياته حتى دخل بابل سنة 539 ق.م. في أيام بيلشاصَّر ملكها، وكان قد جمع في شخصه قوة مملكتي فارس ومادي؛ بهذا تحققت نبوة دانيال (دا 5: 28)، وكان دانيال في بلاط كورش أيضًا (دا 6: 28).
مدح هيرودت Herodotus وزينوفون (الشاب اليوناني) شخص كورش، تحدث عنه الأخير بعد موته بحوالي 100عام كمثل أعلى في القوة مع البساطة والطهارة وضبط النفس.
الآن يوجه الله حديثًا لكورش قبل مجيئه بحوالي قرنين، فيه يعلن عن نظرته إليه، وعمله الإلهي في حياته، وغاية الله منه. ويلاحظ في هذا الحديث الآتي:
أ. تظهر كلمة "أنا" للرب 16 مرة في حديث الله مع كورش [1-7] و31 مرة في الأصحاح كله. وكأن الله يُريد تأكيد أن قيام كورش بسماح إلهي وأن غلبته هو وجيشه وتحطيم بابل كإناء خزفي لا يمكن إصلاحه هو من قبل الله نفسه.
ب. يدعو الرب كورش "مسيحه" [1]، مع أنه لا يعرف الرب [4-5]، ربما لأنه كان يتعبد لله الواحد المجهول مع احترامه للديانات ككل، أو لأنه حقق خطة الله نحو خلاص شعبه من السبي البابلي، ولأنه كان رمزًا للسيد المسيح مخلص العالم.
ج. من جهة عمل الله معه يقول "الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أممًا وأحقاء ملوكٍ أحُلُّ" [1]. يقوم الله بدور الأب الذي يمسك بكورش كطفل له لكي يسير، وكأن الله هو الموجه له وسرّ قوته يسنده ليُحطم الشر. يعطيه النصرة في الحرب ضد الأمم فيدوسهم، إذ كانت العادة أن يدوس المنتصر على أعناق العظماء المأسورين، وأن يحل أحقاء ملوك أي يفقدهم قوتهم وعظمتهم، فقد اعتاد الملوك أن يلبسوا أحقاء ثمينة للغاية علامة عظمتهم وجبروتهم. وقد تحقق ذلك حرفيًّا عندما رأى بيلشاصَّر الملك أصابع يد إنسان تكتب على حائط القصر، "تغيرت هيئة الملك وأفزعته أفكاره وانحلت خَرّز حقويه واصطكَّت ركبتاه" (دا 5: 6).
على أي الأحوال كان كورش رمزًا للسيد المسيح في هذا الأمر الذي قيل عنه "الرب عن يمينك يحطم في يوم رجزه ملوكًا" (مز 110: 5). قيل عن كورش أن الرب أمسك بيمينه، وهنا يُقال عن الابن الكلمة "الرب عن يمينك"، والعجيب أنه قيل في نفس المزمور على لسان الآب "اجلس عن يميني" (مز 110: 1). كأن الابن عن يمين الآب (مز 110: 1) والآب عن يمين الابن (مز 110: 5)... لأنه لا يعني باليمين وضعًا مكانيًا أو اتجاهًا معينًا إنما هو رمز للقوة الإلهية، وعلامة الاتحاد وعدم الانفصال، إذ هما واحد في اللاهوت وواحد في القوة.
وكما حطم كوش ملوكًا هكذا حطم السيد المسيح الملوك الجاحدين والمقاومين للحق، فقد قيل: "يحطم في يوم رجزه ملوكًا" (مز 110: 5).
يعلق القديس أغسطينوسعلى ذلك قائلًا: [جُرح هؤلاء الملوك بمجده، وصيرهم ضعفاء بثقل اسمه، فلم يعد لهم قوة لتحقيق ما أرادوه... هم أرادوا أن يمحوا الاسم المسيحي من وجه الأرض فلم يستطيعوا، لأن من يسقط على هذا الحجر يترضض. لقد سقط الملوك على حجر الصدمة هذا فجرحوا عندما قالوا: من هو المسيح؟!].
لعله قصد بالملوك خاصة السيد المسيح التي لم تقبله (يو 1: 11)، إذ كان يليق بهم أن يتحدوا به كملك الملوك فيصيروا ملوكًا كارزين وشاهدين له. الأمر الذي أدهش الأنبياء عندما تنبأوا عن ذلك، إذ يقول إشعياء في ذات الأصحاح: "حقا أنت إله مُحتجب يا إله إسرائيل المخلص" [15]؛ واندهش أيضًا لذلك الرسول بولس (رو 10: 20؛ 11: 7؛ 9: 30).
د. "لأفتح أمامه المصراعين، الأبواب لا تغلق" [1]. هكذا يتقدم الله أمام كورش مسيحه ليفتح أمامه الأبواب المغلقة وتنهار قدامه الحصون التي من عمل البشر، حتى الطبيعة أيضًا تتحرك لمساندته: "أنا أسير قدامك والهضاب أمهِّد، أُكسِّر مِصْراعَي النحاس ومغاليق الحديد أُقصِف" [2].
حينما نرتبط بمسيحنا الغالب نسير في الطريق الملوكي ونرتفع نحو السماويات كما بغير عائق، لأن الرب يتقدمنا، فتُفتح أمامه أبواب الأبدية لحسابنا. لقد اقتحم كورش أسوار بابل بأبوابها النحاسية الضخمة التي بلغت مئة بابًا كقول هيرودت.
ه. الله يهب كورش كنوز بابل الخفية، إذ كانت عادة الملوك أن يخفوا كنوزهم في أماكن لا يعلمها أحد حتى لا يستطيع العدو أن يغتصبها.
"وأعطيك ذخائر الظلمة وكنوز المخابئ لكي تعرف إني أنا الرب الذي يدعوك باسمك إله إسرائيل" [3]. ما دام الله هو "مصوّر النور" [7]، لهذا فهو يكشف لأبنائه الأمور المخفية ويهبهم كنوز نعمته غير المدركة.
و. يكشف الله لكورش غايته منه: "لأجل عبدي يعقوب وإسرائيل مختاري دعوتك باسمك، لقبتك وأنت لست تعرفني" [5]. ما يقدمه له إنما لحساب مؤمنيه، ولأجل شعبه... هكذا يليق بنا -كمسحاء للرب- التصقنا بربنا يسوع المسيح الفريد. أن نتعرف على رسالتنا ألا وهي بنيان الجماعة ونموها في الرب.
ز. إذ عُرفت الديانات الفارسية بالغنوصية التي ركزت على "ثنائية الله"، بمعنى وجود إله للخير وإله للشر، لهذا أراد الله أن ينتزع هذا الفكر من كورش، قائلًا له: "أنا الرب وليس آخر؛ مصور النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق الشر؛ أنا الرب صانعُ كل هذه" [7].
جاءت كلمة "الشر ra " لا بمعنى الخطية وإنما ثمر الخطية أو عقوبتها من حزن وضيق.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يوجد شر هو بالحقيقة شر: الزنا، الدعارة، الطمع، وأشياء أخرى مخفية بلا عدد تستحق التوبيخ الشديد والعقوبة. كما يوجد أيضًا شر هو في الحقيقة ليس شرًا، إنما يدعى كذلك مثل المجاعة، الكارثة، الموت، المرض وما أشبه ذلك؛ فإن هذه ليست شرورًا وإنما تدعى هكذا. لماذا؟ لأنها لو كانت شرورًا لما كانت تصبح مصدرًا لخيرنا، إذ تؤدب كبرياءنا وتكاسلنا، وتقودنا إلى الغيرة، وتجعلنا أكثر يقظة].
بنفس المعنى يقول الأب ثيؤدور في مناظرات القديس يوحنا كاسيان: [اعتاد الكتاب المقدس أن يستخدم تعبيريْ "شرور"، "أحزان" في معان غير مناسبة، فإنها ليست شريرة في طبيعتها وإنما دُعيت كذلك لأنه يظن أنها شرور بالنسبة لمن لم تسبب لهم خيرًا].
2. تذمر على اختيار كورش:
9 «وَيْلٌ لِمَنْ يُخَاصِمُ جَابِلَهُ. خَزَفٌ بَيْنَ أَخْزَافِ الأَرْضِ. هَلْ يَقُولُ الطِّينُ لِجَابِلِهِ: مَاذَا تَصْنَعُ؟ أَوْ يَقُولُ: عَمَلُكَ لَيْسَ لَهُ يَدَانِ؟ 10 وَيْلٌ لِلَّذِي يَقُولُ لأَبِيهِ: مَاذَا تَلِدُ؟ وَلِلْمَرْأَةِ: مَاذَا تَلِدِينَ؟». 11 هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ وَجَابِلُهُ: «اِسْأَلُونِي عَنِ الآتِيَاتِ! مِنْ جِهَةِ بَنِيَّ وَمِنْ جِهَةِ عَمَلِ يَدِي أَوْصُونِي! 12 أَنَا صَنَعْتُ الأَرْضَ وَخَلَقْتُ الإِنْسَانَ عَلَيْهَا. يَدَايَ أَنَا نَشَرَتَا السَّمَاوَاتِ، وَكُلَّ جُنْدِهَا أَنَا أَمَرْتُ. 13 أَنَا قَدْ أَنْهَضْتُهُ بِالنَّصْرِ، وَكُلَّ طُرُقِهِ أُسَهِّلُ. هُوَ يَبْنِي مَدِينَتِي وَيُطْلِقُ سَبْيِي، لاَ بِثَمَنٍ وَلاَ بِهَدِيَّةٍ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ».
يبدو أن تذمرًا قد حدث بين اليهود كما أيضًا بين الأمم؛ تذمر اليهود على الله لأنه يحقق الخلاص برجل وثني، فإن اختياره يحطم كبرياءهم وتعصبهم لبني جنسهم. هذا من جانب اليهود أما الأمم فقد تمرمرت نفس بعضهم أن يقوم أحدهم بهذا الدور فيحقق خلاصًا لليهود من السبي ويساعد على إقامة الشعائر بأورشليم.
أمام هذا الوضع رفع إشعياء قلبه نحو الله ليقدم صلاة ليتورجية فيها يعلن أن ما يحدث خلال كورش هو رمز لما يتحقق بواسطة السيد المسيح. وكأنه يطلب من اليهود كما من الأمم أن يتحوَّلوا عن تذمرهم إلى خبرة الخلاص المجاني المقدم للكل. هذا ما دفع إشعياء إلى التحول في الحديث من كورش إلى المسيح برُّنا وخلاصنا، إذ يقول: "أُقطُري أيتها السموات من فوق، وليُنزِل الجوُّ بِرًّا. لتنفتح الأرض فيُثمر الخلاصُ، ولتُنبت بِّرًا معًا، أنا الربَّ قد خلقتُهُ" [8]. وكأنه يردد ما جاء في سفر المزامير: "لأن خلاصه قريب من خائفيه، ليسكن المجد أرضنا. الرحمة والحق التقيا. البر والسلام تلاثما. الحق من الأرض ينبت والبر من السماء يطلع إلخ..." (مز 85: 9-13)؛ "الأرض أعطت غلتها، يباركنا الله إلهنا" (مز 67: 6)؛ "تحمل الجبال سلامًا للشعب والآكام بالبر" (مز 72: 3)...
كأن النبي يردد أن الخلاص يتم لا بسبب كورش وإنما خلال خلاص السيد المسيح وبره... فيه يتحقق سلامنا خلال تلاقي الرحمة مع الحق، أو الرحمة مع العدل الإلهي، إذ على الصليب دفع الثمن كاملًا خلال بره اللانهائي.
يرى القديس أغسطينوس
أنه في المسيح تلاقى اليهود مع الأمم خلال تلاقي الحق مع الرحمة؛ فاليهود عرفوا الحق خلال الشريعة والنبوات، وقَبِل الأمم الرحمة بعد أن تركوا عبادتهم الوثنية، وتلاقى هؤلاء مع أولئك كشعب واحد بار ومقدس للرب.
في السيد المسيح تلاقت السموات مع الأرض، إذ هو ابن الله السماوي صار ابنًا للبشر، وُلد كبَشري على أرضنا... لهذا يقول النبي: "أُقطري أيتها السموات من فوق، وليْنزل الجو بّرًا" [8]، وكأنه يقول: "طأطأ السموات ونزل" (مز 18: 9)، نزل البار القدوس كما من سمواته ليحقق خلاصنا. أما قوله: "لتنفتحِ الأرضُ فيُثمرَ الخلاصُ ولتُنبت برًا معًا" [8] فيعني: "الحق من الأرض ينبت" (مز 85).
وكما يقول القديس أغسطينوس: [وُلد المسيح من امرأة؛ ابن الله صار جسدًا. ما هو الحق؟ ابن الله! ما هي الأرض؟ الجسد... لكن الحق الذي نبت من الأرض كان قبل الأرض، به خُلقت السموات والأرض؛ لكن لكي يتطلع البر من السماء، أي لكي يتبرر البشر بالنعمة الإلهية، وُلد الحق من العذراء مريم، ليستطيع أن يُقدم ذبيحة تبررهم، ذبيحة الألم، ذبيحة الصليب].
بعدما حول النبي أنظارنا من كورش إلى المسيح المخلص خلال ذبيحته الفريدة القادرة أن تبرر، عاتب اليهود والأمم على تذمرهم ضد الرب، مقدمًا ويْلَيْن:
أ. الويل الأول: دخول الخزف في مخاصمة مع الخزاف، والطين مع جابله، فإنه ليس من حق قطعة الخزف أن تُطالب صانعها بشكل معين كأن تقول له: "عملك ليس له يدان" [9]... أي صنعت الخزف بدون يدين.
ب. الويل الثاني: احتجاج الطفل على أبيه وأمه "ماذا تلد؟" أو "ماذا تلدين؟"... كنت أود أن تلدانني ملاكًا لا إنسانًا يحمل ضعفًا بشريًا ويدخل تحت أثقال الحياة الأرضية ومتاعبها.
يليق بنا كخزف أو كبنين أن نشكر جابلنا وأبانا لا أن نتذمر عليه!
3. الله المخلص المُحتجب:
14 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «تَعَبُ مِصْرَ وَتِجَارَةُ كُوشٍ وَالسَّبَئِيُّونَ ذَوُو الْقَامَةِ إِلَيْكِ يَعْبُرُونَ وَلَكِ يَكُونُونَ. خَلْفَكِ يَمْشُونَ. بِالْقُيُودِ يَمُرُّونَ وَلَكِ يَسْجُدُونَ. إِلَيْكِ يَتَضَرَّعُونَ قَائِلِينَ: فِيكِ وَحْدَكِ اللهُ وَلَيْسَ آخَرُ. لَيْسَ إِلهٌ». 15 حَقًّا أَنْتَ إِلهٌ مُحْتَجِبٌ يَا إِلهَ إِسْرَائِيلَ الْمُخَلِّصَ. 16 قَدْ خَزُوا وَخَجِلُوا كُلُّهُمْ. مَضَوْا بِالْخَجَلِ جَمِيعًا، الصَّانِعُونَ التَّمَاثِيلَ. 17 أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَيَخْلُصُ بِالرَّبِّ خَلاَصًا أَبَدِيًّا. لاَ تَخْزَوْنَ وَلاَ تَخْجَلُونَ إِلَى دُهُورِ الأَبَدِ. 18 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «خَالِقُ السَّمَاوَاتِ هُوَ اللهُ. مُصَوِّرُ الأَرْضِ وَصَانِعُهَا. هُوَ قَرَّرَهَا. لَمْ يَخْلُقْهَا بَاطِلًا. لِلسَّكَنِ صَوَّرَهَا. أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. 19 لَمْ أَتَكَلَّمْ بِالْخِفَاءِ فِي مَكَانٍ مِنَ الأَرْضِ مُظْلِمٍ. لَمْ أَقُلْ لِنَسْلِ يَعْقُوبَ: بَاطِلًا اطْلُبُونِي. أَنَا الرَّبُّ مُتَكَلِّمٌ بِالصِّدْقِ، مُخْبِرٌ بِالاسْتِقَامَةِ.
انشغل اليهود كما الأمم بقصة كورش في حرفيتها وفي أعماله الزمنية، مع أنه كان يليق بالكل أن يخترقوا الحرف ويلتقوا بالله المحتجب العامل وراء التاريخ لخلاص الجميع. ففي عتاب أبوي يقول الرب: "اسألوني عن الآتيات. من جهة بنيَّ ومن جهة عمل يديَّ أوصُوني" [11].
أود ألا تنشغلوا إلاَّ بالآتيات أي بالمستقبل الأبدي حيث يليق بكم أن تطلبوا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم. وأن تُصلّوا من أجل بنيه، أي ننشغل في صلواتنا بمؤمنيه وعمل يديه، إذ يليق بنا أن ندرك مركزنا ودالتنا العجيبة لديه. بمعنى آخر ملكوتنا الأبدي وشهادتنا للغير واشتياقنا إلى خلاص كل إنسان، هذه كلها أمور أهم من التذمر على قيام كورش بهذا الدور في خلاصهم من السبي البابلي.
مرة أخرى يؤكد لهم أنه يجب أن ينشغلوا به لا بكورش فهو "إله محتجب... المخلص" [15]؛ هو العامل في الخفاء.
سمات هذا الخلاص الإلهي هي:
أ. خلاص مجاني: "أنا قد أنهضته بالنَصر، وكل طرقه أُسهل، وهو يبني مدينتي، ويُطلق سبيي بلا ثمن ولا بهدّية يقول رب الجنود" [13]. فقد حقق كورش خطة الله نحو شعبه دون انتظار مكافأة من الشعب؛ لم يدفعوا ثمنًا لكورش من أجل تسهيل الطرق لهم وبناء المدينة وتحريرهم من السبي. كان ذلك رمزًا لخلاص السيد المسيح المجاني كقول الرسول بولس: "متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله" (رؤ 3: 24-25).
ب. خلاص جماعي: يحول المصريين والكوشيين والسبائيين إلى الإيمان، فيدخلوا إسرائيل الجديد بروح الاتضاع والعبادة [14]. لقد بسط ربنا يسوع المسيح يديه على الصليب ليضم بالواحدة الشعب القديم وبالآخر جماعة الأمم، لقد ضم العالم كله في أحضانه ليرفع البشرية إلى البنوة للآب بروحه القدوس.
ج. خلاص أبدي: "أما إسرائيل فيخلص بالرب خلاصًا أبديًا، لا تخزون ولا تخجلون إلى دهر دهور الأبد" [17].
د. خلاص علني: "لم أتكلم بالخفاء في مكان من الأرض مظلم" [19]. لقد صلب رب المجد علانية على جبل الجلجثة.
4. دعوة للخلاص في المسيح:
20 «اِجْتَمِعُوا وَهَلُمُّوا تَقَدَّمُوا مَعًا أَيُّهَا النَّاجُونَ مِنَ الأُمَمِ. لاَ يَعْلَمُ الْحَامِلُونَ خَشَبَ صَنَمِهِمْ، وَالْمُصَلُّونَ إِلَى إِلهٍ لاَ يُخَلِّصُ. 21 أَخْبِرُوا. قَدِّمُوا. وَلْيَتَشَاوَرُوا مَعًا. مَنْ أَعْلَمَ بِهذِهِ مُنْذُ الْقَدِيمِ، أَخْبَرَ بِهَا مُنْذُ زَمَانٍ؟ أَلَيْسَ أَنَا الرَّبُّ وَلاَ إِلهَ آخَرَ غَيْرِي؟ إِلهٌ بَارٌّ وَمُخَلِّصٌ. لَيْسَ سِوَايَ. 22 اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَاخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي الأَرْضِ، لأَنِّي أَنَا اللهُ وَلَيْسَ آخَرَ. 23 بِذَاتِي أَقْسَمْتُ، خَرَجَ مِنْ فَمِي الصِّدْقُ كَلِمَةٌ لاَ تَرْجعُ: إِنَّهُ لِي تَجْثُو كُلُّ رُكْبَةٍ، يَحْلِفُ كُلُّ لِسَانٍ. 24 قَالَ لِي: إِنَّمَا بِالرَّبِّ الْبِرُّ وَالْقُوَّةُ. إِلَيْهِ يَأْتِي، وَيَخْزَى جَمِيعُ الْمُغْتَاظِينَ عَلَيْهِ. 25 بِالرَّبِّ يَتَبَرَّرُ وَيَفْتَخِرُ كُلُّ نَسْلِ إِسْرَائِيلَ».
يتحدث السيد المسيح إلى الأمم ليدعوهم للتمتع به كمخلص قادر أن يبررهم. "واجتمعوا وهلموا تقدموا معًا أيها الناجون من الأمم... التفتوا إليّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض لأني أنا الله وليس آخر. بذاتي أقسمت خرج من فمي الصدق، كلمة لا ترجع، أنه ليّ تجثو كل ركبة، يحلف كل لسان، قال ليّ إنما بالرب البر والقوة، إليه يأتي ويخرج جميع المغتاظين عليه، بالرب يتبرر ويفتخر كل نسل إسرائيل" [20-24].
يلاحظ في هذه الدعوة:
أ. دعوة جماعية فيها يطلب من الأمم أن تجتمع معًا ككنيسة مقدسة واحدة، تتقدم بروح الجماعة لقبول عمله الخلاصي.
ب. الله هو المخلص وليس آخر، وكما يقول الرسول بولس: "لأنه لاقَ بذاك الذي من أجله الكل، وبه الكل، وهو آتٍ بأبناءٍ كثيرين إلى المجد أن يجعل رئيس خلاصهم كاملًا بالآلام" (عب 2: 10).
وكما يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [يقصد بهذه الكلمات أنه لم يكن اختصاص أحد آخر أن يرد البشر عن الذي قد بدأ سوى كلمة الله، الذي هو أيضًا صنعهم من البدء... لأنه بذبيحة جسده وضع نهاية للحكم الذي كان ضدنا، لأنه كما بإنسان ساد الموت على البشر، كذلك أيضًا بكلمة الله -إذ صار إنسانًا- تهدم الموت وبدأت قيامة الحياة].
ج. دعوة مملوءة رجاءً، تحقق هدفها بأن تجثو له كل ركبة.
د. دعوة قوامها الإيمان: "التفتوا إليّ"، كما سبق أن آمن الشعب القديم والتفت إلى الحية النحاسية فبرأوا.
ه. التمتع ببر المخلص وقوته.
ز. المخلص هو سرّ مجد مؤمنيه وخزي مقاوميه.
الله حَامل أثقالنا
الله الذي سمح لشعبه بالسبي البابلي يرفعه خلال كورش، معلنًا رعايته لأولاده حاملًا أثقالهم وأتعابهم. لا يوجد أثقل من حياتنا بخطاياها وذاتيتها، لكنه هو يحملها عنا خلال عمله الخلاصي بالصليب.
في مقارنة تصويرية رائعة يكشف النبي عن الفارق بين الحياة في المسيح والحياة خارجها؛ في المسيح نصير محمولين به كما بأجنحة الروح، خارجه نكون كالوثنيين تحتاج آلهتهم من يحمل أثقالها ويحرسها!
1. الله حامل أثقالنا:
1 قَدْ جَثَا بِيلُ، انْحَنَى نَبُو. صَارَتْ تَمَاثِيلُهُمَا عَلَى الْحَيَوَانَاتِ وَالْبَهَائِمِ. مَحْمُولاَتُكُمْ مُحَمَّلَةٌ حِمْلًا لِلْمُعْيِي. 2 قَدِ انْحَنَتْ. جَثَتْ مَعًا. لَمْ تَقْدِرْ أَنْ تُنَجِّيَ الْحِمْلَ، وَهِيَ نَفْسُهَا قَدْ مَضَتْ فِي السَّبْيِ. 3 «اِسْمَعُوا لِي يَا بَيْتَ يَعْقُوبَ وَكُلَّ بَقِيَّةِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ، الْمُحَمَّلِينَ عَلَيَّ مِنَ الْبَطْنِ، الْمَحْمُولِينَ مِنَ الرَّحِمِ. 4 وَإِلَى الشَّيْخُوخَةِ أَنَا هُوَ، وَإِلَى الشَّيْبَةِ أَنَا أَحْمِلُ. قَدْ فَعَلْتُ، وَأَنَا أَرْفَعُ، وَأَنَا أَحْمِلُ وَأُنَجِّي. 5 بِمَنْ تُشَبِّهُونَنِي وَتُسَوُّونَنِي وَتُمَثِّلُونَنِي لِنَتَشَابَهَ؟ 6 «اَلَّذِينَ يُفْرِغُونَ الذَّهَبَ مِنَ الْكِيسِ، وَالْفِضَّةَ بِالْمِيزَانِ يَزِنُونَ. يَسْتَأْجِرُونَ صَائِغًا لِيَصْنَعَهَا إِلهًا، يَخُرُّونَ وَيَسْجُدُونَ! 7 يَرْفَعُونَهُ عَلَى الْكَتِفِ. يَحْمِلُونَهُ وَيَضَعُونَهُ فِي مَكَانِهِ لِيَقِفَ. مِنْ مَوْضِعِهِ لاَ يَبْرَحُ. يَزْعَقُ أَحَدٌ إِلَيْهِ فَلاَ يُجِيبُ. مِنْ شِدَّتِهِ لاَ يُخَلِّصُهُ.
يقارن الله بين آلهة بابل وبينه، الأولى تحتاج إلى من يحملها، أما هو فحامل حياتنا بكل متاعبها، إذ يقول:
"قد جثا بيلُ انحنى نَبو، صارت تماثيلها على الحيوانات والبهائم؛ محمولاتكم محمّلة حملًا للمُعيي. قد انحنت جثت معًا لم تقدر أن تُنجّي الحمل وهي نفسها قد مضت في السبي" [1-2].
اهتز الإلهان الرئيسيان لبابل أمام كورش، سجدا له، فصار المعبودان عبدين، حُملا بكل تماثيلهما على الحيوانات بلا قوة، إذ الكل عاجز عن المشي بل وعن الحركة، سُلبت كل الجواهر التي تزين التماثيل بواسطة وجاء كورش وأُخذ الكل إلى السبي... فهل يستطيع هذان المعبودان أن يُنجيا أحدًا ما داما عاجزين حتى عن خلاص نفسيهما؟!
"بيل": اسم أكادي يُقابل الاسم العبري "بعل" ويعني "السيد"؛ ربما هو بعينه الإله مردوخ (إر50: لا 2؛ 51: 44)؛ هو إله الشمس وإله الربيع. له شكل رجل عظيم على رأسه تاج وله سبعة قرون ثور، يُقدَّم له طعام وشراب بكميات كبيرة كل مساء، وكانوا يعتقدون أنه يأكلها ويشربها حتى كشف دانيال النبي للملك عن وجود باب سري في الهيكل خلاله يدخل الكهنة بعائلاتهم ليلًا ليأكلوا الطعام ويشربون خفية، كما ورد في قصة بيل في تتمة دانيال.
"نَبو": اسم بابلي معناه "مذيع"، إله العلم والمعرفة؛ كانت بورسيبا، قرب بابل، مركز عبادته؛ وكان ملوك بابل يتباركون به، ويحملون اسمه مع أسمائهم الأصلية مثل نبوخذ ناصر ونبوخذ راصر ونبوزرادان ونبو شربان.
انكشف هذا الإلهان وانفضح عجزهما عن الحركة أو عن حماية زينتهما أمام كورش، أما الله الحيّ فهو مخلص شعبه، يحمل أثقالنا ونحن بعد لم نتشكل في رحم أمهاتنا حتى نبلغ الشيخوخة، إذ يؤكد لنا "أنا هو... أنا أحمل" [4]. وكأنه يقول: لديَّ ربوات الملائكة والخليقة السماوية وكثير من الأنبياء والكهنة والخدام... لكنني أضع نفسي بين يديْ شعبي لأحمل بنفسي أتعابهم، وأرفع عنهم خطاياهم، وأسندهم في كل مسئولياتهم... أنا أحملهم بنفسي كما على كتفيّ.
هذا ما يؤكده الله عبر الأجيال قائلًا: "هأنذا أسأل عن غنمي وافتقدها... أنا أرعى غنمي وأربضها يقول السيد الرب، وأطلب الضال واسترد المطرود وأجبر الكسير وأعصب الجريح وأبيد السمين والقوي وأرعاها بعدل... أخلص غنمي فلا تكون من بعد غنيمة وأحكم بين شاة وشاة " (حز 34: 11-22). هكذا يؤكد: "أنا هو... أنا أحمل".
لا يكف الله مخلصنا عن دعوتنا إليه لكي يحمل أثقالنا، قائلًا: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28). لذا قيل عنه: "لكن أحزاننا حملها" (إش 53: 4)؛ "حمل خطية كثيرين" (إش 53: 12)؛ "يحملنا إله خلاصنا" (مز 68: 19).
جاء ربنا يسوع كمخلص ليس فقط ليحمل أثقالنا وخطايانا مكفرًا عنها، وإنما ليحملنا نحن فيه، يسبينا بحبه ليرفعنا معه إلى مجده. نزل إلينا ليحملنا فيه فنصعد فيه وبه إلى ملكوته.
نعود إلى حديثه في سفر إشعياء: "قد فعلت وأنا أرفع وأنا أحمل وأنجي" [4].
قد فعلت، أي سمحت بالسبي البابلي لفضح ضعفاتكم.
وأنا أرفع، أنزع عنكم هذا العار وأدبر تحرركم من السبي.
وأنا أحمل، أقوم بحمل أتعابكم بنفسي... أنا الإله المحتجب.
وأنا أنجي، أدخل بكم إلى الحرية وأردكم إلى أرض الموعد، وأخلصكم.
هذا هو عمل الله المخلص: يفعل، ويرفع، ويحمل، ويخلص. إنه يسمح أن يكشف خطايانا لندرك إننا مأسورون لا في سبي بابل وإنما تحت سبي إبليس وأعماله الشريرة، وهو يرفع إذ ينزع هذا العار عنا بتدبيره الإلهي لخلاصنا؛ وهو يحمل إذ رفع الدين بنفسه عنا ولم يأتمن ملاكًا أو رئيس ملائكة أو نبيًا على خلاصنا؛ وأخيرًا يخلص حيث يحملنا إلى سمواته ويهبنا شركة أمجاده الإلهية.
يقول الرسول بولس: "قُدم مرة لكي يحمل خطايا الكثيرين" (عب 9: 28). . لقد أحنى السيد المسيح ظهره ليحمل خطايا العالم كله، إذ مات عن الجميع، لكنه يُحسب مخلصًا للمؤمنين وحدهم، هؤلاء الذين قبلوا أن يرفع عنهم ثقل خطاياهم، فيُحملوا أبرارًا فيه ويدخل بهم إلى حضن أبيه.
لقد مات من أجل الكل، هذا من جانبه، فإن هذا الموت كان المقابل ضد هلاك كل البشرية، لكنه لم يحمل خطايا كل الناس لأنهم لم يريدوا.
*حمل موسى (الفصح) لم يحمل في الحال خطايا أحد ما، أما هذا الحمل فحمل خطايا العالم كله، فانه إذ كان العالم في خطر الهلاك أسرع فخلّصه من غضب الله.
*لقد سمعوا أنه يحمل خطايا العالم (يو 1: 36)، وللحال جروا إليه، قائلين: إن كان ممكنًا أن ينزع الاتهامات الموجهة ضدنا فلماذا نتأخر؟ هنا يوجد ذاك الذي يُخلص دون تعب من جانبنا.
* بالصليب أعطى الخلاص للعالم.
ليس إنسان في التاريخ بلغ العظمة التي تؤهله أن يرفع خطية العالم كله، لا أخنوخ ولا إبراهيم ولا إسحق، وإن كان قد قدم نفسه للموت، لكنه حُفظ إذ لم يكن قادرًا على إزالة وسخ الخطية.
فمن هو هذا الرجل العظيم الذي بموته تموت الخطية؟! هذا لا يمكن أن يكون من البشر... لكن الله اختار الابن، ابن الله الذي فوق الكل، وهو الذي يمكن أن يُقدم عن خطايا الجميع!
لقد كان يلزم أن يموت، لأن بغلبته على الموت يقدر أن ينقذ الآخرين الذين هم كقتلى مضطجعين في القبور.
لقد كسر عبودية الشهوات، ولم تقدر قيود الموت أن تمسكه!
* حِل آلامي بآلامك؛ اشِف جراحاتي بجراحاتك؛ طهر دمي بدمك، وامزج في جسدي رائحة الحياة التي لجسدك المقدس!
حمل الرب خطايانا بكل ثقلها في جسده لكي يهبنا بره فينا، فصرنا نحن أنفسنا محمولين فيه بروحه القدوس كي يرفعنا إلى سمواته. إنه ذاك الذي سبق فحمل شعبه القديم من أرض العبودية بكل ثقلها ومرارتها ليدخل بهم إلى أرض الموعد، بل وليدخل بهم إليه. "وأنا حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إليّ" (خر 19: 4)؛ "رأيت كيف حملك الرب إلهك كما يحمل الإنسان ابنه في كل الطريق التي سلكتموها حتى جئتم إلى هذا المكان" (تث 1: 31).
لقد أكد الله حبه الفائق لنا، يحملنا ونحن في الأحشاء ويبقى حاملًا إيانا حتى الشيخوخة [3-4]، يفوق حب الأم التي تقدر أن تحمل جنينها في الأحشاء أو الرضيع وإلى حدٍ ما حين يصير طفلًا صغيرًا في السنوات القليلة الأولى من حياته... تحمله جسديًا وتحمل بعض متاعبه لكنها تعجز عن إدراك كل أسراره الخفية لتشاركه متاعبه، أما الله فيحملنا حتى الشيخوخة، يحمل كل أتعابنا الظاهرة والخفية، وكما يقول المرتل: "أبي وأمي قد تركاني والرب يضمني" (مز 27: 10).
ليس لله في حبه شبيه لا الوالدين ولا الآلهة الأخرى المحتاجة إلى من يصنعها ويرفعها على الكتف ويقيمها في موضع ويحرسها حتى لا تُسرق، يصرخ إليها عابدوها فلا تُجيبهم وقت الشدة [5-7].
2. دعوة كورش من المشرق:
8 «اُذْكُرُوا هذَا وَكُونُوا رِجَالًا. رَدِّدُوهُ فِي قُلُوبِكُمْ أَيُّهَا الْعُصَاةُ. 9 اُذْكُرُوا الأَوَّلِيَّاتِ مُنْذُ الْقَدِيمِ، لأَنِّي أَنَا اللهُ وَلَيْسَ آخَرُ. الإِلهُ وَلَيْسَ مِثْلِي. 10 مُخْبِرٌ مُنْذُ الْبَدْءِ بِالأَخِيرِ، وَمُنْذُ الْقَدِيمِ بِمَا لَمْ يُفْعَلْ، قَائِلًا: رَأْيِي يَقُومُ وَأَفْعَلُ كُلَّ مَسَرَّتِي. 11 دَاعٍ مِنَ الْمَشْرِقِ الْكَاسِرَ، مِنْ أَرْضٍ بَعِيدَةٍ رَجُلَ مَشُورَتِي. قَدْ تَكَلَّمْتُ فَأُجْرِيهِ. قَضَيْتُ فَأَفْعَلُهُ. 12 «اِسْمَعُوا لِي يَا أَشِدَّاءَ الْقُلُوبِ الْبَعِيدِينَ عَنِ الْبِرِّ. 13 قَدْ قَرَّبْتُ بِرِّي، لاَ يَبْعُدُ. وَخَلاَصِي لاَ يَتَأَخَّرُ. وَأَجْعَلُ فِي صِهْيَوْنَ خَلاَصًا، لإِسْرَائِيلَ جَلاَلِي.
هذه هي مسرة الله [10]، أنه صنع في القديم ولا زال يعمل ويبقى عاملًا من أجل خلاص شعبه. حمل أثقالهم في أيام موسى عند خروجهم من مصر ويحملها أثناء ردهم من السبي البابلي ولا يزال يحملها خلال ذبيحة الصليب القائمة.
دُعي كورش -رمز السيد المسيح- بالطائر الكاسر [11] لأنه سريع الحركة، قوي ينقضّ على بابل ليخطفها كفريسة، يخطف آلهتها وكنوزها... إنه رمز للسيد المسيح الذي انقضَّ على عدو الخير وحطم مملكته ليرد للإنسان كرامته وحريته وغناه الروحي.
"من أرض بعيدة رجل مشورتي" [11]، رمز السيد المسيح القادم من السماء ليصير "ابن الإنسان" (رجل مشورتي) الذي يُحقق إرادة الآب فيه بمسرة.
يرى إشعياء النبي المخلص قادمًا من بعيد فيدعو الأمم البعيدين للقرب منه والتمتع ببره وخلاصه: "اسمعوا ليّ يا أشداء القلوب، البعيدين عن البر، قد قربت برّي، لا يبعد وخلاصي لا يتأخر" [12-13].
ربما يوجه حديثه هنا إلى البابليين قساة القلوب معلنًا لهم أن مقاومتهم لبرّ الله ولخلاصه لن تدوم، فقد اقترب وقت الخلاص.
ولعله يتحدث مع الأمم قساة القلوب حتى يقبلوا برّ الرب وخلاصه بلا مقاومة.
انهيَار بَابل
إذ وصف كورش كطائر كاسر ينقض على بابل (إش 46: 11)، كظل لعمل السيد المسيح الخلاصي ضد إبليس، الآن يكشف النبي عما سيحل ببابل المترفة المتنعمة، سيدة الممالك المتشامخة. أنه يتحدث عن عمل الخطية وثمارها في حياة الإنسان.
1. انهيار بابل:
1 «اِنْزِلِي وَاجْلِسِي عَلَى التُّرَابِ أَيَّتُهَا الْعَذْرَاءُ ابْنَةَ بَابِلَ. اجْلِسِي عَلَى الأَرْضِ بِلاَ كُرْسِيٍّ يَا ابْنَةَ الْكَلْدَانِيِّينَ، لأَنَّكِ لاَ تَعُودِينَ تُدْعَيْنَ نَاعِمَةً وَمُتَرَفِّهَةً. 2 خُذِي الرَّحَى وَاطْحَنِي دَقِيقًا. اكْشِفِي نِقَابَكِ. شَمِّرِي الذَّيْلَ. اكْشِفِي السَّاقَ. اعْبُرِي الأَنْهَارَ. 3 تَنْكَشِفُ عَوْرَتُكِ وَتُرَى مَعَارِيكِ. آخُذُ نَقْمَةً وَلاَ أُصَالِحُ أَحَدًا». 4 فَادِينَا رَبُّ الْجُنُودِ اسْمُهُ. قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ. 5 «اجْلِسِي صَامِتَةً وَادْخُلِي فِي الظَّلاَمِ يَا ابْنَةَ الْكَلْدَانِيِّينَ، لأَنَّكِ لاَ تَعُودِينَ تُدْعَيْنَ سَيِّدَةَ الْمَمَالِكِ.
"انزلي واجلسي على التراب أيتها العذراء ابنة بابل، اجلسي على الأرض بلا كرسي يا ابنة الكلدانيين لأنك لا تعودين تُدعين ناعمة ومترفهة" [1].
دُعيت بابل "العذراء"؛ هذا التشبيه في الكتاب المقدس بخصوص المدن (إش 1: 8؛ 37: 22؛ إر 31: 21؛ 46: 11، مرا 1: 15). هذه العذراء إما تُخطب لله كعروس مقدسة له مثل أورشليم أو تخطب لعدو الخير فتصير عروسه، متحدة به، تحمل مملكة الظلمة التي له.
إذ تمثل بابل النفس الساقطة خلال الكبرياء مع الترف والفرح الزمني وطلب الشهوات الأرضية فان ما حلَّ بها يكشف عما يُصيب الإنسان بسبب الخطية.
ماذا حلَّ ببابل؟ أو ما هي ثمار الخطية؟
أ. بكونها عاصمة أكبر دولة في ذلك الحين مالت إلى الاهتمام بمظاهر البهرجة مع ممارسة الفساد، لها صورة الفرح الخارجي، فحّل بها الحزن الشديد لتنزل إلى التراب [1] كأنها فقدت رجلها أو أحد أحبائها (يش 7: 6؛ أي 2: 12؛ 10: 9، مز 22: 15؛ مرا 3: 29).
عمل الخطية الأول هو فقدان الفرح الداخلي وسلام العقل الفائق، فتمتلئ النفس مرارة ويأسًا مع شعور بالعزلة والحرمان.
* نعم يا إلهي... في غياب نورك ظهور للموت، أو بالحري مجيء للعدم....
يا لشقائي... أصابتني جراحات كثيرة، ومع أنك أنت المعزي واهب السلام، غير أنني ابتعدت عنك.
يا لشقائي... لقد انتابتني حماقات جمة، ومع أنك أنت هو الحق، غير أنني لم أطلب منك المشورة...
شروري سببت ليّ جراحات عميقة، إذ لم أسلك في الطريق الضيق؛ فمع كونك أنت الحياة، إلاَّ أنني لم أكن معك.
ب. عوض العرش "الكرسي" والسلطان تجلس بابل على الأرض في مذلة بكونها أسيرة [1]
لقد خلق الله الإنسان سيدًا على الأرض، وهبه كرامة وسلطانًا، لكن الكبرياء نزل به إلى الهاوية. صار الإنسان في مذلة العبيد، ينحني للخطية وينقاد وراء شهوات الجسد كعبد بعدما كان ملكًا يعرف كيف يوجه مشاعره وأحاسيسه وكل طاقاته لحساب ملكوت الله، لذلك قيل: "مالك روحه خير ممن يأخذ مدينة" (أم 16: 32).
يُحذرنا الكتاب المقدس من الكبرياء؛ "قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح؛ تواضع الروح مع الودعاء خير من قسم الغنيمة مع المتكبرين" (أم 16: 18-19).
* المجد الزمني يشبه صخرة مختفية في البحر، لا يعرفها البحَّار قبل أن تصطدم بها سفينة ويتمزق قاعها وتمتلئ ماء.
ج. بعد أن كانت بابل سيدة الممالك المتشامخة، صارت تمارس أعمال العبيد الشاقة لحساب سادتها. هنا يصورها إشعياء النبي بامرأة تطحن بالرحى، وهو عمل يحتاج إلى سيدتين تعملان معًا؛ والرحى الكبيرة تديرها الحيوانات؛ ها هي تُؤمر بهذا العمل العنيف دون معونة من أحد [2]. تصير كشمشون حين أذلته الخطية فصار يدير الطاحونة عوض الحيوانات، ليضحك الكل عليه ويستهزئون به.
إذ يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن صعودنا إلى السموات في المسيح يسوع الصاعد يكشف لنا كيف انحدرت حياتنا وطبيعتنا فصرنا أقل من الحيوانات، لكن مسيحنا رفعنا من هذه المذلة بصعوده ووهبنا التمتع بسمواته، إذ يقول: [انظروا إلى طبيعتنا كيف انحطت ثم ارتفعت. فإنه ما كان يمكن النزول إلى أكثر مما نزل إليه الإنسان، ولا يمكن الصعود إلى أكثر مما ارتفع إليه المسيح... ويوضح بولس ذلك إذ يقول: "الذي نزل هو الذي صعد أيضًا". أين نزل؟ "إلى أقسام الأرض السفلي"؛ وصعد إلى "فوق جميع السموات" (أف 4: 10-9)... إننا لم نكن سوى ترابًا ورمادًا.... لقد صرنا أكثر غباء من الحيوانات غير العاقلة، فقد صار الإنسان يُقارن بها وصار مثلها (مز 48: 21؛ إش 1: 3)... انظروا كيف صرنا أكثر غباءً من الحمار والثور (إش 1: 3)، ومن طيور السماء واليمامة والسنونة (إر 8: 7)... صرنا تلاميذ للنمل (أم 6: 6)... أكثر جمودًا من الحجارة (إش 6: 2)، نشّبه بالأفاعي (مز 58: 5)... نُدعى أبناء إبليس (يو 8: 44)... هكذا صار انحطاطنا وعدم استحقاقنا... لكن اليوم ارتفعت طبيعتنا فوق كل خليقة. اليوم استعاد الملائكة من فقدوهم منذ زمن طويل! اليوم رأى رؤساء الملائكة أولئك الذين يشتاقون إلى رؤيتهم منذ زمن بعيد! اليوم رأوا طبيعتنا في العرش الإلهي تتلألأ في جمال أبدي ومجد سرمدي!].
ه. "اكشفي نقابك، شمري الذيل" [2]؛ وهو أمر غير لائق بالفتيات الصغيرات الشريفات في ذلك الحين، أن يكشفن وجوههن أو يشمرن ذيل ثيابهن.
بعد أن كانت تبحر بسفنها التجارية أو الحربية المزينة الكثيرة الثمن بكونها ملكة العالم، يُقال لها: "اكشفي الساق، اعبري الأنهار، تنكشف عورتك وتُرى معاريك. آخذ نقمة ولا أصالح أحدًا" [3]. لقد حطمت كثيرين وأساءت إلى الأمم كثيرة لهذا استحقت أن يرتد إليها عملها فتحمل ذات العار. وكأن الخطية تدخل بالإنسان إلى العار والخزي.
لقد أفقدتنا الخطية ثياب النعمة الإلهية فصرنا عراة، لكن مسيحنا الحامل خطايانا تعرَّى من أجلنا ليُقدم نفسه لباسًا يستر خزينا.
* عرّاه الصالبون من لباسه كالجزارين، أما هو فصمت يشبه النعجة قدام الجزار!
ترك لباسه حين فرح (في عرس الصليب)، حتى يلبس الذين خرجوا من الفردوس عرايا!
يلبسهم ثيابه ويبقى هو في هزء، لأنه عرف أنها تصلح لآدم المفضوح!
عروا ثيابه وألبسوه ثوبًا قرمزيًا لون الدم، حتى يتزين به العريس المقتول (الذبيح)!
و. تدخل في حالة ذهول وكآبة بسبب ما يحل بها من كارثة، فتصير عاجزة عن الكلام، تعيش في ظلام: "اجلسي صامتة وادخلي في الظلام يا ابنة الكلدانيين، لأنك لا تعودين تُدعين سيدة الممالك" [5].
2. خطايا بابل:
6 «غَضِبْتُ عَلَى شَعْبِي. دَنَّسْتُ مِيرَاثِي وَدَفَعْتُهُمْ إِلَى يَدِكِ. لَمْ تَصْنَعِي لَهُمْ رَحْمَةً. عَلَى الشَّيْخِ ثَقَّلْتِ نِيرَكِ جِدًّا. 7 وَقُلْتِ: إِلَى الأَبَدِ أَكُونُ سَيِّدَةً! حَتَّى لَمْ تَضَعِي هذِهِ فِي قَلْبِكِ. لَمْ تَذْكُرِي آخِرَتَهَا. 8 فَالآنَ اسْمَعِي هذَا أَيَّتُهَا الْمُتَنَعِّمَةُ الْجَالِسَةُ بِالطُّمَأْنِينَةِ، الْقَائِلَةُ فِي قَلْبِهَا: أَنَا وَلَيْسَ غَيْرِي. لاَ أَقْعُدُ أَرْمَلَةً وَلاَ أَعْرِفُ الثَّكَلَ. 9 فَيَأْتِي عَلَيْكِ هذَانِ الاثْنَانِ بَغْتَةً فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ: الثَّكَلُ وَالتَّرَمُّلُ. بِالتَّمَامِ قَدْ أَتَيَا عَلَيْكِ مَعَ كَثْرَةِ سُحُورِكِ، مَعَ وُفُورِ رُقَاكِ جِدًّا. 10 وَأَنْتِ اطْمَأْنَنْتِ فِي شَرِّكِ. قُلْتِ: لَيْسَ مَنْ يَرَانِي. حِكْمَتُكِ وَمَعْرِفَتُكِ هُمَا أَفْتَنَاكِ، فَقُلْتِ فِي قَلْبِكِ: أَنَا وَلَيْسَ غَيْرِي. 11 فَيَأْتِي عَلَيْكِ شَرٌّ لاَ تَعْرِفِينَ فَجْرَهُ، وَتَقَعُ عَلَيْكِ مُصِيبَةٌ لاَ تَقْدِرِينَ أَنْ تَصُدِّيهَا، وَتَأْتِي عَلَيْكِ بَغْتَةً تَهْلُكَةٌ لاَ تَعْرِفِينَ بِهَا. 12 «قِفِي فِي رُقَاكِ وَفِي كَثْرَةِ سُحُورِكِ الَّتِي فِيهَا تَعِبْتِ مُنْذُ صِبَاكِ، رُبَّمَا يُمْكِنُكِ أَنْ تَنْفَعِي، رُبَّمَا تُرْعِبِينَ. 13 قَدْ ضَعُفْتِ مِنْ كَثْرَةِ مَشُورَاتِكِ. لِيَقِفْ قَاسِمُو السَّمَاءِ الرَّاصِدُونَ النُّجُومَ، الْمُعَرِّفُونَ عِنْدَ رُؤُوسِ الشُّهُورِ، وَيُخَلِّصُوكِ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْكِ. 14 هَا إِنَّهُمْ قَدْ صَارُوا كَالْقَشِّ. أَحْرَقَتْهُمُ النَّارُ. لاَ يُنَجُّونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ يَدِ اللَّهِيبِ. لَيْسَ هُوَ جَمْرًا لِلاسْتِدْفَاءِ وَلاَ نَارًا لِلْجُلُوسِ تُجَاهَهَا. 15 هكَذَا صَارَ لَكِ الَّذِينَ تَعِبْتِ فِيهِمْ. تُجَّارُكِ مُنْذُ صِبَاكِ قَدْ شَرَدُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَيْسَ مَنْ يُخَلِّصُكِ.
صدر الأمر بانهيار بابل لكن ليس بدون حيثيات لهذا الحكم، فإن الله في محبته دائمًا يعلن لمن يسقط تحت دينونة أسباب الحكم لكي يتعظ الآخرون ولا يسقطون في ذات الخطايا. أما خطايا بابل فهي:
أ. العنف وعدم الرحمة، فقد سمح الله بتسليم شعبه لبابل لأجل التأديب، لكن بابل استغلت الموقف ومارست العنف حتى على الشيوخ، دون تقدير لعجزهم بسبب كبر سنهم [6]. كان الله ينتظر منها ترفقًا بشعبه، الذين يحبهم حتى في لحظات تسليمهم للتأديب.
ب. ظنت أنها فوق القانون؛ ففي استخدامها للعنف لم تدرك أن ما تصنعه بالغير يحل بها، وبالكيل الذي تكيل به يُكال لها به. ظنت أنها سيدة الكل لم تذكر آخرتها [7].
ج. تمسكها بالطمأنينة المخادعة أو السلام الكاذب [8] الذي لا يقوم على لقاء النفس مع الله مصدر السلام وإنما على اعتقاد الإنسان أنه لن يحل به شيء من أجل عظمته الباطلة أو مركزه أو غناه. حَسبت أنها لن تصير أرملة ولا ثكْلي، معتمدة على السحر والرُقى فانخدعت وبغتها الترمل والثكل في يوم واحد [9]. صارت أرملة لأنها فقدت الملك، وصارت ثكلى بقتل سكانها كأولاد وبنات لها.
د. تجاهلها رؤية الله لها ومعرفته لأسرارها: "وأنتِ اطمأننتِ في شّرِك. قلتِ ليس من يراني" [10].
ه. اتكالها على الحكمة البشرية المجردة [10]، مع الالتجاء إلى السحر والرقى، إذ حسبت أن راصدي النجوم يقدرون أن يخلصوها وقت الشدة بمشورتهم ومعرفتهم للغيب، فإذا بهم هم أنفسهم يحترقون كالقش ولا ينجون من اللهيب [11-15]. لم تكن هناك دولة في العالم تعرف بالسحرة والمنجمين مثلها (راجع سفر دانيال)، وها هو النبي يسخر بهم.
الخرُوج الجَديد
تضم الأصحاحات (48-49) أحاديث عن الخلاص مثل الأمر بالرجوع إلى الوطن، الصلاة كمصدر القوة في الخلاص، بهجة الخلاص.
بعد تقديم كلمة عتاب لشعبه الذي اتسم بالرياء مع قساوة القلب والانحراف إلى الوثنية، كشف لهم الله عن مقاصده بتسليمهم للسبي البابلي، وأخيرًا يعلن عن إصدار الأمر المفرح بالخروج السريع المصحوب بالفداء.
1. الله يعاتب شعبه:
1 «اِسْمَعُوا هذَا يَا بَيْتَ يَعْقُوبَ، الْمَدْعُوِّينَ بِاسْمِ إِسْرَائِيلَ، الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ مِيَاهِ يَهُوذَا، الْحَالِفِينَ بِاسْمِ الرَّبِّ، وَالَّذِينَ يَذْكُرُونَ إِلهَ إِسْرَائِيلَ، لَيْسَ بِالصِّدْقِ وَلاَ بِالْحَقِّ! 2 فَإِنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ مِنْ مَدِينَةِ الْقُدْسِ وَيُسْنَدُونَ إِلَى إِلهِ إِسْرَائِيلَ. رَبُّ الْجُنُودِ اسْمُهُ. 3 بِالأَوَّلِيَّاتِ مُنْذُ زَمَانٍ أَخْبَرْتُ، وَمِنْ فَمِي خَرَجَتْ وَأَنْبَأْتُ بِهَا. بَغْتَةً صَنَعْتُهَا فَأَتَتْ. 4 لِمَعْرِفَتِي أَنَّكَ قَاسٍ، وَعَضَلٌ مِنْ حَدِيدٍ عُنُقُكَ، وَجَبْهَتُكَ نُحَاسٌ، 5 أَخْبَرْتُكَ مُنْذُ زَمَانٍ. قَبْلَمَا أَتَتْ أَنْبَأْتُكَ، لِئَلاَّ تَقُولَ: صَنَمِي قَدْ صَنَعَهَا، وَمَنْحُوتِي وَمَسْبُوكِي أَمَرَ بِهَا. 6 قَدْ سَمِعْتَ فَانْظُرْ كُلَّهَا. وَأَنْتُمْ أَلاَ تُخْبِرُونَ؟ قَدْ أَنْبَأْتُكَ بِحَدِيثَاتٍ مُنْذُ الآنَ، وَبِمَخْفِيَّاتٍ لَمْ تَعْرِفْهَا. 7 الآنَ خُلِقَتْ وَلَيْسَ مُنْذُ زَمَانٍ، وَقَبْلَ الْيَوْمِ لَمْ تَسْمَعْ بِهَا، لِئَلاَّ تَقُولَ: هأَنَذَا قَدْ عَرَفْتُهَا. 8 لَمْ تَسْمَعْ وَلَمْ تَعْرِفْ، وَمُنْذُ زَمَانٍ لَمْ تَنْفَتِحْ أُذُنُكَ، فَإِنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ تَغْدُرُ غَدْرًا، وَمِنَ الْبَطْنِ سُمِّيتَ عَاصِيًا.
في الأصحاح السابق فضح الله بابل العذراء سيدة الممالك التي انجرفت إلى حياة اللهو مع التشامخ والعنف فانهارت تمامًا، الآن قبل أن يعلن عن خروج شعبه أو تحريره من السبي في عتاب أبوي، صريح يكشف عن ضعفاتهم وخطاياهم وأيضًا عن مقاصده من السماح بسبيهم حتى لا يعودوا إلى خطاياهم مرة أخرى.
لعل أخطر خطية تواجه المؤمنين أصحاب المعرفة الروحية هو الرياء مع الشكلية في العبادة. الله لا يريد إذلالهم إنما رفعهم إلى مركز ساٍم وأعطاهم إمكانيات روحية للحياة معه، أهمها:
أ. دعاهم "إسرائيل" [1]، بكونهم شعبه المختار.
ب. شعب ملوكي "خرجوا من بيت يهوذا" [1].
ج. دُعِيَ عليهم اسم الله: "الحالفين باسم الرب والذين يذكرون إله إسرائيل"، لكنهم يصنعون هذا "ليس بالصدق ولا بالحق" [1] مع إدراكهم أنه هو الله الواحد الحقيقي الذي يتعبدون له لكن في شكلية وبحرفية دون روح.
د. تمتعوا بمدينة القدس [2] كمدينة الله المقدسة التي تضم هيكله.
ه. "يُسْنَدون إلى إله إسرائيل" [2]، يفتخرون بمواعيده ويعترفون بعهده ويتكئون عليه (مي 3: 11)..
و. تمتعوا بالنبوات الإلهية، إذ كان الله يخبرهم بالآتيات، أي بالأمور المقبلة [3]. أما سرّ تقديم هذه النبوات فهو تثبيتهم في الإيمان به وتصديق كلماته ومواعيده. لقد عرف أنهم قساة القلوب، عنقهم من حديد وجباههم من نحاس، يصعب عليهم تصديق الكلمات النبوية لذا قدم لهم نبوات تتحقق في المستقبل القريب حتى يصدقوا النبوات، وأيضًا للتمييز بين الله والأوثان [5].
مع كل ما قدمه الله لشعبه من هذه الإمكانيات عاشوا في شكلية العبادة بروح فريسية مملوءة رياء، كما خلطوا بين عبادة الله والأوثان، وتجاهلوا الكلمات النبوية واحتقروها ولم يفهموا أسرارها، لذا يوبخهم قائلًا: "لم تسمع ولم تعرف ومنذ زمان لم تنفتح أذنك، فإني علمت أنك تغدر غدرًا ومن البطن سميت عاصيًا" [8].
لقد انشغل إشعياء النبي بالحديث عن البصيرة الروحية والأذن الداخلية المقدسة، فإن حديثه عن المخلص يبدو لكثيرين في عصره أو للغالبية أمرًا يكاد يكون مستحيلًا.
لقد جاء المخلص ومع ذلك يرفضه كثيرون بالرغم من تحقيق النبوات التي وردت في العهد القديم في شخصه وخلال أعماله الخلاصية، لذا فالعالم لا زال يحتاج إلى البصيرة الحقة والأذن المقدسة. حتى الذين آمنوا به وقبلوه يحتاجون إلى ذلك للتمتع بأسرار أعمق وإدراك الأمجد السماوية الداخلية الخفية.
نحتاج جميعًا أن يرافقنا رب المجد ويتحدث معنا ليُقدس أعماقنا فنقول مع تلميذيّ عمواس: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب؟!" (لو 24: 32).
* إلهي... أنت نوري، افتح عن عيني فتُعاينا بهاءك الإلهي، لأستطيع أن أسير في طريقي بغير تعثر في فخاخ العدو.
* أنت النور، الذي أنار عقل يعقوب، فكسف لأولاده عن الأمور المختلفة.
2. قصد الله من السبي:
9 مِنْ أَجْلِ اسْمِي أُبَطِّئُ غَضَبِي، وَمِنْ أَجْلِ فَخْرِي أُمْسِكُ عَنْكَ حَتَّى لاَ أَقْطَعَكَ. 10 هأَنَذَا قَدْ نَقَّيْتُكَ وَلَيْسَ بِفِضَّةٍ. اخْتَرْتُكَ فِي كُورِ الْمَشَقَّةِ. 11 مِنْ أَجْلِ نَفْسِي، مِنْ أَجْلِ نَفْسِي أَفْعَلُ. لأَنَّهُ كَيْفَ يُدَنَّسُ اسْمِي؟ وَكَرَامَتِي لاَ أُعْطِيهَا لآخَرَ. 12 «اِسْمَعْ لِي يَا يَعْقُوبُ، وَإِسْرَائِيلُ الَّذِي دَعَوْتُهُ: أَنَا هُوَ. أَنَا الأَوَّلُ وَأَنَا الآخِرُ، 13 وَيَدِي أَسَّسَتِ الأَرْضَ، وَيَمِينِي نَشَرَتِ السَّمَاوَاتِ. أَنَا أَدْعُوهُنَّ فَيَقِفْنَ مَعًا. 14 اِجْتَمِعُوا كُلُّكُمْ وَاسْمَعُوا. مَنْ مِنْهُمْ أَخْبَرَ بِهذِهِ؟ قَدْ أَحَبَّهُ الرَّبُّ. يَصْنَعُ مَسَرَّتَهُ بِبَابِلَ، وَيَكُونُ ذِرَاعُهُ عَلَى الْكَلْدَانِيِّينَ. 15 أَنَا أَنَا تَكَلَّمْتُ وَدَعَوْتُهُ. أَتَيْتُ بِهِ فَيَنْجَحُ طَرِيقُهُ. 16 تَقَدَّمُوا إِلَيَّ. اسْمَعُوا هذَا: لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنَ الْبَدْءِ فِي الْخَفَاءِ. مُنْذُ وُجُودِهِ أَنَا هُنَاكَ» وَالآنَ السَّيِّدُ الرَّبُّ أَرْسَلَنِي وَرُوحُهُ. 17 هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ فَادِيكَ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ: «أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ مُعَلِّمُكَ لِتَنْتَفِعَ، وَأُمَشِّيكَ فِي طَرِيق تَسْلُكُ فِيهِ. 18 لَيْتَكَ أَصْغَيْتَ لِوَصَايَايَ، فَكَانَ كَنَهْرٍ سَلاَمُكَ وَبِرُّكَ كَلُجَجِ الْبَحْرِ. 19 وَكَانَ كَالرَّمْلِ نَسْلُكَ، وَذُرِّيَّةُ أَحْشَائِكَ كَأَحْشَائِهِ. لاَ يَنْقَطِعُ وَلاَ يُبَادُ اسْمُهُ مِنْ أَمَامِي.
يقدم الله لشعبه أسباب السماح بسبيهم:
أ. "من أجل اسمي أُبطئ غضبي، ومن أجل فخري أمسك عنك حتى لا أقطعك" [9]... بمعنى آخر كان يلزم أن يهلك هذا الشعب تمامًا ويُقطع، لكن الله في غيرته على اسمه ومجده قدمهم للتأديب لعلهم يرجعون إليه فلا يهلكون. وكأن السبي هو "عطية" بكونه تأديب إلهي يقدم للمحبوبين بالرغم من عدم استحقاقهم لهذا الحب الأبوي التأديبي.
هذه نظرة روحية رائعة نحو التأديب، خلالها يدرك المؤمن أنه ليس أهلًا لهذا التأديب بكونه علامة حب أبوي. يقول الرسول: "لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله؛ إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين" (عب 12: 6-7).
* إن كان عدم التأديب علامة خاصة بالنغول (عب 12: 8)، إذن يليق بنا أن نفرح بالتأديب كعلامة على شرعية بنوتنا!
* الأب لا يهذب ابنه لو لم يحبه، والمعلم لا يصلح من شأن تلميذه ما لم ير فيه علامات نوال الوعد. عندما يرفع الطبيب عنايته عن مريض، يكون هذا علامة يأسه من شفائه.
* "افتقد بعصا معصيتهم، وبضربات إثمهم" (مز 89: 32).
إنها رحمة (الله) ليس فقط أن يدعوهم وإنما أيضًا أن يؤدبهم ويجلدهم. لتكن يّد أبيك عليك، فإن كنت ابنًا صالحًا لا تتذمر على التأديب... ليؤدبه ما دام لم ينزع رحمته عنه؛ ليضربه عندما يخطئ ما دام لا يمنعه من أن يرث.
إن كنت تدرك مواعيد أبيك حسنًا لا تخف من جلداته بل خف لئلا لا ترثه...
ليت الأبناء الأتقياء لا يقولون: "إن كنت تأتينا بعصا فلا تأتِ قط. فانه من الأفضل أن تتعلم بعصا الآب عن أن تهلك باهتمام اللص بك.
* الرب الحافظ الصغار (مز 116: 6) يجلد هؤلاء الذين عندما يصيرون ناضجين، يطلب أن يكونوا ورثة (له)...
لقد أعانني إذ كنت في ضيق، فان الألم الذي يسببه الطبيب بمشرطه ليس للعقوبة بل للتكريم.
ب. للتنقية: "هانذا نَقيَّتك وليس بفضة، اخترتك في كور المشقة" [10]. نحن فضة الرب وذهبه، يهتم بتنقيتنا في كور التعب والألم.
* مغبوط هو الإنسان الذي يؤدب في هذه الحياة مرتين، فإن الرب لا يُعاقب عن شيء مرتين (نا 1: 9) LXX.
ج. الله الذي يسمح بالتأديب لتنقيتنا هو يرفعه عنا عندما يحقق هدفه. لقد دعا السموات والأرض، لتجتمع كل الخليقة وترى خلاص الله العجيب. لقد أحب كورش ليُحقق هدفه ويكون ذراعه على الكلدانيين [14].
ما يحققه كورش ليس من عندياته بل من قبل الله مخلص شعبه: "أنا أنا تكلمت ودعوته، أتيت به فينجح طريقه" [15]... منذ وجوده أنا هناك، والآن السيد الرب أرسلني وروحه" [6].
أُرسل كورش بواسطة الرب وبروح الله القدوس، كرمز للسيد المسيح الذي جاء بإرادته وفي نفس الوقت مرسلًا من الآب والروح القدس... كيف؟
هنا وحدة عمل الثالوث القدوس؛ الثالوث القدوس كأقانيم غير منفصلة جوهر إلهي واحد يعمل لخلاص البشرية.
الآب يحب البشرية، وفي حبه أرسل كلمته غير المنفصل عنه، حاسبًا ذبيحة المسيح عطاء من جانب الآب، وكما قال السيد المسيح نفسه: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 16). الآب محب البشر أرسل ابنه ذبيحة حب.
الابن من جانبه قدم نفسه للبذل في طاعة للآب، وأيضًا بكامل إرادته، إذ يقول الرسول: "الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي" (غل 2: 20).
أما الروح القدس فلم يقف في دور سلبي بل كان له دوره الايجابي في كل العمل الخلاصي؛ به تحقق التجسد الإلهي في أحشاء البتول (لو 1: 35)، وهو الذي أصعد يسوع ليُجرب، وهو الذي يشهد للسيد المسيح (يو 15: 26).
و. لممارسة الطاعة لله، فان السبي لم يحدث مصادفة ولا قضاءً وقدرًا إنما هو ثمرة طبيعية للعصيان، بدونه ما سقطوا تحت السبي. لهذا وجب عليهم عند عودتهم أن يمارسوا الطاعة فيتمتعوا ببّر الله وخيراته. "ليتك أصغيت لوصاياي فكان كنهر سلامك وبرك كلجج البحر. وكان كالرمل نسلك وذرية أحشائك كأحشائه، لا ينقطع ولا يُباد اسمه من أمامي" [18-19].
لو أنهم أطاعوا الله ليس فقط لم يسقطوا تحت السبي البابلي، وإنما لأفاض سلام الله كنهر متسع وعميق ودائم الجريان ومُروي للكثيرين.
3. الخلاص السريع المبهج:
20 «اُخْرُجُوا مِنْ بَابِلَ، اهْرُبُوا مِنْ أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ. بِصَوْتِ التَّرَنُّمِ أَخْبِرُوا. نَادُوا بِهذَا. شَيِّعُوهُ إِلَى أَقْصَى الأَرْضِ. قُولُوا: قَدْ فَدَى الرَّبُّ عَبْدَهُ يَعْقُوبَ. 21 وَلَمْ يَعْطَشُوا فِي الْقِفَارِ الَّتِي سَيَّرَهُمْ فِيهَا. أَجْرَى لَهُمْ مِنَ الصَّخْرِ مَاءً، وَشَقَّ الصَّخْرَ فَفَاضَتِ الْمِيَاهُ. 22 لاَ سَلاَمَ، قَالَ الرَّبُّ لِلأَشْرَارِ».
يقدم الله دعوة للخروج: "اخرجوا من بابل، اهربوا من أرض الكلدانيين" [20].
إن كان الله قد أرسل كورش لخلاصهم، لكنه لا يلزمهم بالخروج بغير إرادتهم، إنما يدعوهم ويحثّهم على ذلك... وبالفعل خرج 40,000 شخصًا على يدي زربابل (نح 9: 36، 39).
إنها دعوة مستمرة لخروجنا تحت قيادة مخلصنا من كل موضع معثر، حتى نتحرر بروح الله من نيرها، كما دُعي لوط وعائلته لِتَرْك سدوم وعمورة.
الهروب من الشر ليس ضعفًا ولا سلبية وإنما هو عمل مِقدام فيه يعلن الإنسان بروح الله عن نصرته على أعماقه التي تشتاق أو تستطيب للمواضع المعثرة.
هذه الدعوة يصحبها فرح وتهليل بعمل الله الخلاصي: "بصوت الترنم أخبروا نادوا بهذا" [20].
إذ يتطلع إشعياء النبي إلى التحرر من السبي كخروج ثانٍ يشبه خروج الشعب من عبودية فرعون على يدي موسى حيث أخرج لهم ماءً من الصخرة في البرية كي لا يعطشوا، هكذا في هذا الخروج الجديد يتمتعون بذات العطية: "ولم يعطشوا في القفار التي سيَّرهم فيها، أجري لهم من الصخر ماءً، وشق الصخر ففاضت المياه" [21]. لقد تحقق هذا إذ ارتبط خلاص السيد المسيح بعطية الروح القدس في عيد العنصرة كينبوع مياه حيَّة فاضت في كنيسة المسيح.
أخيرًا فإن هذا الخلاص اختياري، من لا يقبله يحرم من سلام الله الفائق، إذ قيل: "لا سلام قال الرب للأشرار" [22].
* قيل لنا: "أبطل صوت الطرب وصوت الفرح من أفواههم" (إر 7: 34). نعم فانه أعياد الأشرار هي ويلات.
* إذ يعتزل الجاحدون الصلاة والشكر يحرمون أنفسهم من ثمر الفرح.
جاءت الترجمة السبعينية "لا فرح قال الرب للأشرار". وقد ميز القديس أغسطينوس(500) بين فرح الشرير المؤقت والمرتبط بالزمنيات يزول بزوالها، أما الأبرار فيفرحون حتى في قيودهم، فقد فرحت الشهيدة كريسبينا Crispina عندما قُيدت وعندما أُقتيدت للمحاكمة، كما عندما سُجنت وعندما صدر الحكم ضدها... كان فرحها أمام الملائكة، كقول المرتل: "أمام الملائكة أُسبح لك" (مز 138: 1).
إرسَالية المخُلِّص
في الأصحاح السابق يعلن المخلص عن إرساليته قائلًا: "والآن السيد الرب أرسلني وروحه" (إش 48: 16). الآن يتحدث عن هذه الإرسالية الفريدة التي فيها يُخلي الابن ذاته لكي يمجدنا فيه، نازعًا عار المذلة، فيُقيمنا عروسًا سماوية وملكة تجلس مع المسيح الملك، مشبعًا كل احتياجاتنا.
1. اتضاع المخلص وتمجيده:
1 اِسْمَعِي لِي أَيَّتُهَا الْجَزَائِرُ، وَاصْغَوْا أَيُّهَا الأُمَمُ مِنْ بَعِيدٍ: الرَّبُّ مِنَ الْبَطْنِ دَعَانِي. مِنْ أَحْشَاءِ أُمِّي ذَكَرَ اسْمِي، 2 وَجَعَلَ فَمِي كَسَيْفٍ حَادٍّ. فِي ظِلِّ يَدِهِ خَبَّأَنِي وَجَعَلَنِي سَهْمًا مَبْرِيًّا. فِي كِنَانَتِهِ أَخْفَانِي. 3 وَقَالَ لِي: «أَنْتَ عَبْدِي إِسْرَائِيلُ الَّذِي بِهِ أَتَمَجَّدُ». 4 أَمَّا أَنَا فَقُلْتُ: « عَبَثًا تَعِبْتُ. بَاطِلًا وَفَارِغًا أَفْنَيْتُ قُدْرَتِي. لكِنَّ حَقِّي عِنْدَ الرَّبِّ، وَعَمَلِي عِنْدَ إِلهِي». 5 وَالآنَ قَالَ الرَّبُّ جَابِلِي مِنَ الْبَطْنِ عَبْدًا لَهُ، لإِرْجَاعِ يَعْقُوبَ إِلَيْهِ، فَيَنْضَمُّ إِلَيْهِ إِسْرَائِيلُ فَأَتَمَجَّدُ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَإِلهِي يَصِيرُ قُوَّتِي. 6 فَقَالَ: «قَلِيلٌ أَنْ تَكُونَ لِي عَبْدًا لإِقَامَةِ أَسْبَاطِ يَعْقُوبَ، وَرَدِّ مَحْفُوظِي إِسْرَائِيلَ. فَقَدْ جَعَلْتُكَ نُورًا لِلأُمَمِ لِتَكُونَ خَلاَصِي إِلَى أَقْصَى الأَرْضِ». 7 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ فَادِي إِسْرَائِيلَ، قُدُّوسُهُ، لِلْمُهَانِ النَّفْسِ، لِمَكْرُوهِ الأُمَّةِ، لِعَبْدِ الْمُتَسَلِّطِينَ: «يَنْظُرُ مُلُوكٌ فَيَقُومُونَ. رُؤَسَاءُ فَيَسْجُدُونَ. لأَجْلِ الرَّبِّ الَّذِي هُوَ أَمِينٌ، وَقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي قَدِ اخْتَارَكَ».
في الأصحاح السابق كان الحديث موجهًا إلى بيت يعقوب المدعوين باسم إسرائيل (إش 48: 1)، أما الحديث هنا فموجه إلى الأمم، إذ يقول: "اسمعي ليّ أيتها الجزائر، واصغوا أيها الأمم من بعيد" [1]. فقد دُعِي الأمم "جزائر الأمم" (تك 10: 5)، إذ كانوا يتطلعون إلى جزائر البحر الأبيض المتوسط بكونها المناطق البعيدة الغربية والغريبة عن إسرائيل؛ وقد دَعَى الأمم "من بعيد" لأنها لم تدخل في شركة مع إسرائيل.
يتحدث السيد المسيح المخلص إلى الأمم معلنًا الآتي:
أ. مدعو من البطن: "الرب من البطن دعاني" [1]. يظن بعض الدارسين أن المتحدث هنا باسم إسرائيل بكون الله اختار شعبه قبل أن يوجد، وهو في صلب إبراهيم وفي أحشاء سارة؛ وظن البعض أنه كورش الذي أختاره الله لتحقيق رسالته قبل أن يوجد؛ لكن الواضح أن الحديث هنا باسم السيد المسيح، كلمة الله المتجسد؛ فقد كرز رئيس الملائكة جبرائيل للعذراء بميلاده قبل أن تُحبل به ودُعى يسوع لأنه يُخلص شعبه من خطاياهم (مت 1: 21)، لذا قيل "من أحشاء أمي ذكر أسمي" [1].
ب. صاحب سلطان: "وجعل فمي كسيف حاد" [2]. وقد قيل عن السيد المسيح:
"وسيف ماضِ ذو حدين يخرج من فمه" (رؤ 1: 16)، كما قيل عنه أنه كان يتكلم كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين (مت 7: 29). لقد دخل المعركة ضد عدو الخير إبليس بكلمته التي هي كسيف ذي حدين (عب 4: 12).
ج. اختفاء سرّ المسيح وعمله الخلاصي الإنجيلي ودعوته الأمم للإيمان وراء ظلال الناموس الموسوي والنبوات، إذ يقول "في ظل يده خبأني" [2]. لعله عَنَى بهذا القول أيضًا ما حدث في طفولته حيث ثار هيرودس عليه وأراد قتله فأرسل الآب ملاكًا ليوسف يأمره بالهروب إلى مصر. لقد صار الكلمة جسدًا، ابن الله صار ابنًا للبشر، لهذا في اتضاعه سار في طريقنا كواحد منا يرعاه الآب بحمايته كما في ظل يده، وهو قادر أن يأمر الطبيعة فتهلك هيرودس وكل مقاوميه.
"وجعلني سهمًا مبريًا (لا يصدأ)، في كنانته أخفاني" [2]. بكونه كلمة الله فهو سهم لا يصدأ، اختفى وراء الظلال والرموز حتى جاء ملء الزمان فأعلن ذاته خلال الصليب كسهم صُوِّبَ ضد إبليس وجنوده فجردهم من سلطانهم وأشهرهم جهارًا ظافرًا بهم (كو 2: 15). إنه السهم القاتل للشر، وواهب جراحات الحب الإلهي للنفوس المؤمنة التي تصرخ "إنيّ مريضة حبًا" (نش 2: 5؛ 5: 8).
* يعلمنا الكتاب المقدس أن الله محبة (1 يو 4: 8)، فقد صوّب ابنه الوحيد "السهم المختار" [2] نحو المختارين، غارسًا قمته المثلثة في روح الحياة.
رأس السهم هو الإيمان الذي يربط ضارب السهم (المسيح) بالمضروبين به، وكأن النفس ترتفع بمصاعد إلهية، فترى في داخلها سهم الحب الحلو يجرحها، متحلية بالجروح....
إنه جرح حسن، وألم عذب، به تخترق "الحياة" النفس.
*هل يقدر أحد أن يرى جراحات الحب الإلهي الكثيرة مثل تلك التي في نشيد الأناشيد، هذه التي تشتكي أنها مجروحة: "إنيّ مجروحة حبًا" (نش 2: 5)؟! وأنه يرى السهم الذي يجرح نفوسًا كثيرة بحب الله إلاَّ في ذاك الذي قال: "جعلني مثل رمح مختار"؟!.
* إن التهب أحد ما في أي وقت بالحب الصادق لكلمة الله، إن تقبل أحد الجراحات الحلوة التي لهذا "السهم المختار" كما يسميه النبي، إن كان قد جُرح أحد برمح معرفته المستحقة كل حب حتى أنه يحن ويشتاق إليه ليلًا ونهارًا، فلا يقدر أن يتحدث إلاَّ عنه، ولا ينصت إلاَّ إليه، ولا يفكر إلاَّ فيه، ولا يميل إلى أية رغبة أو يترجى سواه، متى صار الأمر هكذا تقول النفس بحق: "إنيّ مجروحة حبًا". أنها تتقبل جرحها من ذاك الذي قيل عنه "جعلني سهمًا مختارًا، وفي جعبته يخفيني" [2].
يليق بالله أن يضرب نفوسنا بجرح كهذا، يجرحها بمثل هذه السهام والرماح، يضربها بمثل هذه الجراحات الشافية.
* كلمات الرب سهام تلهب الحب لا الألم... لهذا يليق بنا فهم "سهامك انغرست فيَّ" (مز 38: 2) هكذا: كلماتك انغرست في قلبي.
*ليت غير الأصحاء يُجرحون، فإنهم إذ يُجرحون حسنًا يصيرون أصحاء. ليقل هؤلاء إذ صاروا مقيمين في الكنيسة جسد المسيح مع الكنيسة: "إنيّ مجروحة حبًا" (نش 2: 5)LXX.
د. بالصليب خضع الابن مطيعًا للآب، صار من أجلنا عبدًا لكي يتمجد الآب فيه، ويتمجد هو أيضًا في ضعف الصليب. "وقال ليّ: أنت عبدي إسرائيل الذي به أتمجد، أما أنا فقلتُ: عبثًا تعبتُ باطلًا، وفارغًا أفنيتُ قدرتي، لكن حقي عند الرب وعملي عند إلهي" [4].
يتساءل البعض: من هو عبده إسرائيل؟ أنه السيد المسيح الذي جاء من اليهود، وقبل بإرادته العبودية مع أنه مساوٍ للآب في الجوهر (في 2: 7). جاء كعبد ليرفع العبيد فيّه إلى البنوة لله، بهذا مجّد الآب وتمجّد هو أيضًا خلال الضعف، إذ يقول الرسول: "وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب، لذلك رفَّعه الله أيضًا وأعطاه اسمًا فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" (في 2: 8-11).
في لحظات الآلام حين ظهر رب المجد كما في ضعف قال: "أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته، والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان ليّ عندك قبل كوْن العالم" (يو 17: 4-5).
إن كان الصليب عارًا وضعفًا من الخارج لكنه مجد من الداخل.
يقول العلامة أوريجانوس: [لا نتردد في القول بأن صلاح المسيح يظهر بطريقة أعظم وبالنور الإلهي... لأنه "وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (في 2: 6-8)].
الصليب أيضًا مجد لأنه صالح الآب مع البشر، وفتح أمامنا باب الفردوس لنشارك الرب مجده ونعيش معه نُسبحه مع السمائيين.
يرى البعض أن ما قيل هنا أيضًا يُخص الكنيسة المختفية في المخلص بكونها إسرائيل الجديد هذه التي تمجد الله خلال قبولها شركة الآلام والصلب مع مسيحها فتنعم بقوة قيامته وبهجتها، لهذا استحقت أن تسمع الصوت الإلهي: "أنت عبدي إسرائيل الذي به أتمجد". أما هي ففي آلامها تقول: "عبثًا تعبتُ باطلًا وفارغًا أفنيتُ قدرتي، لكن حقي عند الرب وعملي عند إلهي" [4].
ه. نجاح رسالة السيد المسيح في ضمه الأمم إلى الإيمان: إن كان السيد قد ظهر على الصليب في ضعف حتى فارقه الجميع، إذ جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله (يو 1: 11)، صار مجروحًا في بيت أحبائه (زك 13: 6)، فقال: "عبثًا تعبتُ باطلًا، وفارغًا أفنيتُ قدرتي" [4]؛ هذا هو مظهر الصليب الخارجي، أما عمله الداخلي فيعلنه الآب بقوة قائلًا للمصلوب: "قليلٌ أن تكون ليّ عبدًا لإقامة أسباط يعقوب، وردّ محفوظي إسرائيل، فقد جعلتُك نورًا للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض" [6]. وكأنه يقول للابن المصلوب: إن عملك الفدائي لا يمكن أن يُحد ثمره في حدود شعب معين وإنما يمتد إلى أقصى الأرض فتكون نورًا للأمم وسرّ الخلاص الإلهي لكل البشر.
عندما حمل سمعان الشيخ الطفل يسوع قال: "لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام جميع الشعوب، نور إعلان للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل" (لو 2: 30: 31). كما قال بولس وبرنابا: "لأنه هكذا أوصانا الرب، قد أقمتك نورًا للأمم لتكون أنت خلاصًا إلى أقصى الأرض" (أع 13: 46-47).
يقول العلامة أوريجانوس: [لو لم يصر عبدًا ما كان يقيم أسباط يعقوب ولا يغيّر قلب إسرائيل المشتت، ولما صار نورًا للأمم لخلاص أقصى الأرض].
جاء مسيحنا نورًا للشعوب والأمم؛ النور الحقيقي الذي يضيء كل إنسان آتِ في العالم (يو 1: 9)، يدعونا من الظلمة إلى النور (1 بط 2: 9) حتى نسلك في النور ونصير أبناء للنور وأبناء للنهار (1 تس 5: 5)، بل ونصير نورًا للعالم (مت 5: 14). بهذا يتحقق قول إشعياء النبي: "لا تكن لك بعد الشمس نورًا في النهار، ولا القمر ينير لك مضيئًا، بل الرب يكون لك نورًا أبديًا وإلهك زيتًا؛ لا تغيب بعد شمسك، وقمرك لا ينقص لأن الرب يكون لك نورًا أبديًا" (إش 6: 19-20). يُضيء المخلص -نور الأمم- على النفس بكونها عروسه فتُدرك خفيات الحكمة (أي 11: 6).
* ربي وإلهي... يا نور نفسي! لا تتوقف قط عن إنارة خطواتي...!
إلهي... أنت رجائي... بدون نورك -الذي به نُعاين كل شيء- يصعب علينا أن نكتشف مناورات الشيطان وحيله.
* أنت هو الكلمة القائل: "ليكن نور"، فكان نور. قل هذه العبارة الآن أيضًا حتى تستنير عيناي بالنور الحقيقي، وأميزه عن غيره من النور؛ فبدونك كيف أقدر أن أميز النور عن الظلمة، والظلمة عن النور؟!
أهانه اليهود وجحوده طالبين صلبه وقبلته الشعوب الوثنية وخضعت له بالإيمان وقبلت عمله. لهذا دُعي السيد "المهان النفس"، "مكروه الأمة"، "عبد المتسلطين" إذ تسلط عليه الأشرار وابغضوه وأهانوه؛ وفي نفس الوقت قيل "ينظر ملوك فيقومون، رؤساء فيسجدون" [7]. حيث يقوم الملوك عن كراسيهم في حضرته ويسجد له الرؤساء متعبدين له.
2. عمله الخلاصي:
8 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «فِي وَقْتِ الْقُبُولِ اسْتَجَبْتُكَ، وَفِي يَوْمِ الْخَلاَصِ أَعَنْتُكَ. فَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ، لإِقَامَةِ الأَرْضِ، لِتَمْلِيكِ أَمْلاَكِ الْبَرَارِيِّ، 9 قَائِلًا لِلأَسْرَى: اخْرُجُوا. لِلَّذِينَ فِي الظَّلاَمِ: اظْهَرُوا. عَلَى الطُّرُقِ يَرْعَوْنَ وَفِي كُلِّ الْهِضَابِ مَرْعَاهُمْ. 10 لاَ يَجُوعُونَ وَلاَ يَعْطَشُونَ، وَلاَ يَضْرِبُهُمْ حَرٌّ وَلاَ شَمْسٌ، لأَنَّ الَّذِي يَرْحَمُهُمْ يَهْدِيهِمْ وَإِلَى يَنَابِيعِ الْمِيَاهِ يُورِدُهُمْ. 11 وَأَجْعَلُ كُلَّ جِبَالِي طَرِيقًا، وَمَنَاهِجِي تَرْتَفِعُ. 12 هؤُلاَءِ مِنْ بَعِيدٍ يَأْتُونَ، وَهؤُلاَءِ مِنَ الشَّمَالِ وَمِنَ الْمَغْرِبِ، وَهؤُلاَءِ مِنْ أَرْضِ سِينِيمَ». 13 تَرَنَّمِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ، وَابْتَهِجِي أَيَّتُهَا الأَرْضُ. لِتُشِدِ الْجِبَالُ بِالتَّرَنُّمِ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ عَزَّى شَعْبَهُ، وَعَلَى بَائِسِيهِ يَتَرَحَّمُ.
بين أيدينا حديث إلهي رائع يكشف عن سرّ خلاصنا في المسيح يسوع ربنا الذي لا يُعبَّر عنه؛ ففي المسيح المخلص ننال الآتي:
أ. استجابة الله لنا؛ فقد حان الوقت أن يسمع الآب لنا خلال ابنه المحبوب المصلوب كذبيحة طاعة للآب وموضع سروره، فيستجيب لنا الآب فيه واهبًا نفسه لنا أبًا، مقدمًا لنا حضنه كموضع راحة أبدية نستقر فيه. هذا ما عناه بقوله: "في وقت القبول استجبتُك" [8]. فقد حان الوقت الذي فيه يُعلن قبولنا لدى الآب في ابنه المقبول أزليًا، فيستجيب لنا على الدوام.
ب. بالمسيح يسوع مخلصنا صار الله نفسه عونًا لنا ومعينًا: "وفي يوم الخلاص أعنتك" [8]. تسلم الرب نفسه قيادة المعركة ضد عدو الخير لنختفي نحن فيه وننال فيه الغلبة والنصرة. وكما يقول الرسول: "ولكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويُظهِر بنا رائحة معرفته في كل مكان" (2 كو 2: 14).
يقول القديس أغسطينوس: [هذا هو اليوم الذي فيه صار الشفيع حجر الزاوية الرئيسي، فلنفرح ولنبتهج فيه].
يليق بنا أن نميز بين "يوم الخلاص" [8] أو "يوم الرب" وأيامنا نحن، يوم الرب مفرح يَهبُ خلاصًا أما أيامنا التي نسلك فيها حسب هوانا فمُحطِّمة ومُهلِكة.
يقول القديس أغسطينوس: [بالحري أدعو أيامي (مز 116: 2) أيام بؤسي، أيام موتي، أيام حسب آدم مملوءة تعبًا وعرقًا، أيام حسب الفساد القديم. إذ يصرخ في مزمور آخر: "غرقت في حمأة عميقة" (مز 69: 2)، "هوذا جعلتَ أيامي قديمة" (مز 39: 5)؛ في أيامي هذه أدعوك (مز 166: 2). فإن أيامي تختلف عن أيام ربي].
ج. بالمصلوب أيضًا صرنا محفوظين في الرب، إذ يقول: "فأحفظك" [9]. ففي الصلاة الوداعية يقول المخلص: "لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير... قدِّسهم في حقك" (يو 17: 15، 17).
د. التمتع بالمصلوب كعهد مع الآب: "وأجعلك عهدًا للشعب لإقامة الأرض لتمليك أملاكِ البراري" [8]. قدم الله عهده الجديد ليس منقوشًا على حجارة وإنما مسجلًا بالدم في جسد الابن الكلمة المتجسد، خلال هذا العهد لا تتمتع الكنيسة بأرض الموعد التي تفيض عسلًا ولبنًا وإنما ترث الأرض أي الشعوب التي كانت قفرًا كالبراري لتُقيم منها فردوسًا إلهيًا ومملكة سماوية. في جسد بشريته صالح الآب مع البشرية وأقام في كل قلب مؤمن حقيقي ميراثًا لا يُعبَّر عنه.
أما سمات هذا الملكوت الجديد أو الميراث الداخلي أو الحياة الإنجيلية الكنيسة الحقة فهي:
أولًا: الحرية؛ "قائلًا للأسرى أخرجوا، للذين في الظلام إظهَروا" [9]. فقد كسر متاريس الجحيم وأعطانا حرية مجد أولاد الله لنعيش حاملين سلطانًا على الحيات والعقارب وكل قوة العدو (لو 10: 19)، نسلك في النور، لا سلطان للظلمة علينا.
وهبنا مخلصنا الحرية الداخلية فلا نُستعبد لعدو الخير ولا لشهوات الجسد ولا لمحبة العالم، أما ما هو أهم فهو ألا نستعبد للأنا "ego" ، لا نتقوقع بعد في الأنا إنما نُصلب مع مسيحنا المخلص لنعلن اتساع قلبنا لنحمل فيه الله غير المحدود ويتسع لكل بشر حتى المقاومين لنا.
خلال هذه الحرية الداخلية نقبل برضانا الخضوع لله كعبيد له، فنعيش أحرارًا لا سلطان للعدو على أعماقنا.
* كن خادمًا وحرًا في نفس الوقت؛ كن خادمًا بخضوعك لله، حرًا لا تُستعبد لشيء، لا لمديح فارغ ولا لهوى ما.
*حرر نفسك من قيود الخطية، عش في حرية، فقد حررك المسيح (غل 5: 1). أطلب حرية العالم الجديد خلال حياتك الزمنية. لا تستعبد نفسك لمحبة مال ولا لمديح نابع عن إرضاء الناس.
* لا تضع قانونًا لنفسك لئلا تُستعبد لقوانين من عندياتك. كن حرًا، إنسانًا في مركز يسمح له أن يفعل ما يشاء.
* حرر نفسك من نير العالم بحرية الحياة الجديدة.
*كن حرًا، حرر نفسك من كل عبودية مخرّبة؛ فإنك إن لم تصر حرًا لا تكن عاملًا للمسيح، فإن ملكوت أورشليم السماوية الحرة لا تقبل أبناء العبودية. . أبناء الأم الحرة هم أنفسهم أحرار (رو 8: 5)، ولا يستعبدون للعالم في شيء.
* لا تُلزم نفسك بجهد فوق طاقتك لئلا تَستعبد نفسك للحاجة لإرضاء الغير.
الأب يوحنا السرياني المتوحد ثانيًا: التمتع بمرعى إلهي خصب، "على الطريق يرعون وفي كل الهضاب مرعاهم" [9]. ما هو هذا الطريق إلاَّ المخلص الذي دَعى نفسه "الطريق" (يو 14: 6)، به ندخل إلى هضاب مثمرة لنجد كل احتياجاتنا، فلا نجوع ولا نعطش ولا يضربنا حر ولا شمس؛ فيها ينابيع الروح القدس كمياه حيَّة تروي أعماقنا وتهبنا ثمرًا [10].
ثالثًا: التمتع بطريق ممهد يدخل بنا إلى الأحضان الإلهية، "واجعل كل جباليّ طريقًا ومناهجي ترتفع" [11]. ما هي هذه الجبال إلاَّ وصايا الرب التي تبدو كجبال شاهقة يصعب تسلقها، لكن باتحادنا مع المسيح "الطريق" يصير السير على الجبال أمرًا طبيعيًا، وتتحول الوصية إلى لذة وبهجة لا إلى أوامر قاسية وحرمان.
في الوقت الذي فيه يجعل الوصية الصعبة سهلة إذ يحول جباله الشاهقة إلى طريق نفرح بالعبور فيه، إذا به يقول" ومناهجي (مسالكي) ترتفع"، بمعنى أن سهولة الوصية لا تعني نزولنا إلى الأمور الدنيا وتساهلنا مع أنفسنا في قبول الملذات الجسدية وتحقيق الرغبات الزمنية، إنما على العكس يحملنا بمسالكه إلى فوق لنمارس الحياة السماوية العُلْوية ببهجة قلب وفرح كحياة مقبولة ومبهجة في الرب.
رابعًا: انفتاح أبواب الكنيسة أمام كل الأمم من المشارق والمغارب والشمال والجنوب. "هؤلاء من بعيد يأتون، وهؤلاء من الشمال ومن المغرب وهؤلاء من أرض سينيم" [12]. يقصد بالآتين من بعيد سكان الشرق الأقصى، كما يقصد بأرض سينيم (أسوان) جنوب مصر بكونها تمثل القادمين من الجنوب.
خامسًا: التمتع بحياة التسبيح والفرح كحياة تعيشها النفس (السموات) ويمارسها الجسد (الأرض) ويعبر عنها خلاص الطاقات البشرية (الجبال). هكذا تشترك السموات مع الأرض بجبالها في الترنم للرب، "لأن الرب عزى شعبه وعلى بائسيه يترحم" [13].
سرّ بهجتنا تعزيات الله المعلنة بالروح القدس في أعماقنا خلال استحقاقات الدم الثمين، فقد أقامنا المصلوب من بؤسنا وتراءف علينا برحمته العملية.
هذا الفرح يعم على الكنيسة كلها الممتدة هنا عبر الأجيال وأيضًا في السموات، لهذا يقول القديس البابا أثناسيوس الرسولي: [لسنا وحدنا في فرحنا، فإنه في السماء تفرح معنا "كنيسة الأبكار" جميعها (عب 12: 23)... انظروا يا أصدقائي، ها الخليقة كلها تحفظ معنا العيد، إذ يقول المرتل: "كل نسمة فلتسبح الرب" (مز 150: 6)، وذلك من أجل هلاك أعداء الرب ومن أجل خلاصنا].
الآن رأينا كيف انتقل الرب من الحديث عن كورش كمنقذ لشعب الله من السبي إلى ما هو أعظم وأبقى، الحديث عن السيد المسيح كمخلص لكل البشرية، ينقذهم من الأسر الأبدي ليهبهم بركات خلاصه بالدخول بهم إلى ملكوته أي التمتع بالحياة الجديدة الكنسية المفرحة في الرب، كحياة فردوسية مقدمة لكل الشعوب والأمم.
3. إقامة المتروكة عروسًا أبدية:
14 وَقَالَتْ صِهْيَوْنُ: «قَدْ تَرَكَنِي الرَّبُّ، وَسَيِّدِي نَسِيَنِي». 15 «هَلْ تَنْسَى الْمَرْأَةُ رَضِيعَهَا فَلاَ تَرْحَمَ ابْنَ بَطْنِهَا؟ حَتَّى هؤُلاَءِ يَنْسَيْنَ، وَأَنَا لاَ أَنْسَاكِ. 16 هُوَذَا عَلَى كَفَّيَّ نَقَشْتُكِ. أَسْوَارُكِ أَمَامِي دَائِمًا. 17 قَدْ أَسْرَعَ بَنُوكِ. هَادِمُوكِ وَمُخْرِبُوكِ مِنْكِ يَخْرُجُونَ. 18 اِرْفَعِي عَيْنَيْكِ حَوَالَيْكِ وَانْظُرِي. كُلُّهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا، أَتَوْا إِلَيْكِ. حَيٌّ أَنَا، يَقُولُ الرَّبُّ، إِنَّكِ تَلْبَسِينَ كُلَّهُمْ كَحُلِيٍّ، وَتَتَنَطَّقِينَ بِهِمْ كَعَرُوسٍ. 19 إِنَّ خِرَبَكِ وَبَرَارِيَّكِ وَأَرْضَ خَرَابِكِ، إِنَّكِ تَكُونِينَ الآنَ ضَيِّقَةً عَلَى السُّكَّانِ، وَيَتَبَاعَدُ مُبْتَلِعُوكِ. 20 يَقُولُ أَيْضًا فِي أُذُنَيْكِ بَنُو ثُكْلِكِ: ضَيِّقٌ عَلَيَّ الْمَكَانُ. وَسِّعِي لِي لأَسْكُنَ. 21 فَتَقُولِينَ فِي قَلْبِكِ: مَنْ وَلَدَ لِي هؤُلاَءِ وَأَنَا ثَكْلَى، وَعَاقِرٌ مَنْفِيَّةٌ وَمَطْرُودَةٌ؟ وَهؤُلاَءِ مَنْ رَبَّاهُمْ؟ هأَنَذَا كُنْتُ مَتْرُوكَةً وَحْدِي. هؤُلاَءِ أَيْنَ كَانُوا؟»
لم يكن يتوقع شعب الله أنه يُسبى، وحين سُبيت إسرائيل أو مملكة الشمال ظنت مملكة يهوذا أنها لن تُسبى لأنها تحتضن هيكل الرب في أورشليم مدينة الله. لكن سُبيت يهوذا وانهارت أورشليم بالهيكل الذي دنسوه بالعبادة الوثنية والرجاسات كما جاء في حزقيال وإرميا، وظن المسبيون أنها ربما شهور قليلة ويتدخل الله ليحررهم، لكن عبرت الشهور والسنوات تلو السنوات، فظن الشعب أن الله قد نسيه، وشعر الكل بالعزلة والحرمان والترك. هذا ما عبّر عنه النبي هنا هكذا: "وقالت صهيون قد تركني الرب وسيدي نسيني" [14]. هذا الشعور بالعزلة هو ثمرة طبيعية يُعاني منها غالبية البشر أن لم يكن جميعهم في بعض اللحظات. فالإنسان في وقت التجربة يشعر نفسه وحيدًا، ليس من يشاركه مشاعره وأحاسيسه ولا من يلمس مرارته الداخلية.
يشتكي علماء النفس من هذا المرض "الشعور بالعزلة" بكونه مرضًا يكاد يكون عامًا خاصة بين المراهقين، حين يدركون أن أقرب من لهم لا يقدر أن يتفهم حقيقة عالمهم الداخلي ومشاعرهم الخفية.
علاج هذا المرض هو الالتقاء بالمخلص، الذي وحده يقدر أن يدخل إلى الأعماق ويقيم علَمَه محبة، يعلن بصليبه صداقة فريدة شخصية خلالها نتمتع بحب إلهي فائق واتحاد مع الله لا يقدر الزمن ولا تستطيع الأحداث أن تُحطمه. بالصليب ضم الله البشرية إليه كعروس سماوية مقدسة لا يفارقها عريسها السماوي، عوض الشعور بالترك.
والعجيب أن المخلص نفسه صرخ على الصليب قائلًا: "الوي الوي لماذا تركتني؟!" (مر 16: 34). كأنه كممثل للبشرية ونائب عنها يعلن عن موقفنا كمتروكين ومحرومين! صار بالصليب كمن هو متروك لكي ينزع عنا الشعور بالحرمان والترك ويردنا إلى الأحضان الإلهية عروسًا مقدسة!
الآن بماذا يُجيب الرب على شعور صهيون بالحرمان؟
"هل تنسى الأم رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟! حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساكِ" [15]. بلا شك أن الأمومة تعتبر من أسمى درجات الحب البشري، فالأم التي تحمل ابنها أو ابنتها كجنين لشهور في أحشائها يصعب أن تنساه بعد ولادته. ومع هذا فقد نسيت بعض الأمهات أبناءهن وبناتهن، إذ قدم بعضهن أطفالهن ذبائح بشرية، يلقين إياهم في النار وسط ضربات الطبول كنوع من العبادة للإله بعل. وفي بعض المجاعات سمعن عن أمهات أكلن أطفالهن. ولا نزال نسمع الآن عن جرائم قتل تقوم بها بعض الأمهات ضد أطفالهن. وفي كل يوم أيضًا نرى أمهات وآباء يقتلن أبناءهن خلال الجو العائلي الكئيب أو المشاكل العائلية خاصة الانفصال والطلاق. ما أكثر ضحايا الطلاق؟! لم يترفق الآباء والأمهات بالأجيال الجديدة، ولا أعطوا لهم حسابًا في حياتهم، إنما في أنانية يُريدون تحقيق ما يظنوه سلامًا على حساب حياة أولادهم وسلامهم الروحي والنفسي وأحيانا الاجتماعي والمادي أيضًا.
قد تنسى الأم رضيعها أما الله فلا ينسانا!
* عناية الله هذه وحبه الذي يظهرهما الرب بصلاحه... يُقارنهما بقلب أم مملوء حنانًا ولطفًا، إذ يريد أن يعبر عنه بمثال من العاطفة البشرية، فلم يجد في خليقته مشاعر حب أفضل كي يُقارن بها.
* إنه ليس فقط يعتني بنا، إنما يحبنا بلا حدود، حبًا مقدسًا ملتهبًا، حبًا شديدًا حقيقيًا لا ينفصم ولا ينطفئ...
* يجاوب النبي الذين اكتأبوا مرة وأنّوا قائلين: "قد تركني الرب وسيدي نسيني"، قائلًا: "هل تنسى الأم رضيعها فلا ترحم ابن رحمها؟". كأنه يقول: يستحيل على الأم أن تنسى رضيعها، فبالأولى لا ينسى الرب البشرية. وهو بهذا لا يقصد تشبيه حب الله لنا بحب الأم لثمرة بطنها، وإنما لأن حب الأم يفوق كل حب، غير أن حب الله حتمًا أعظم منه. لهذا يقول: "ولو نسيت الأم رضيعها أنا لا أنساك يقول الرب". تأمل كيف تفوق محبة الله محبة الأم...؟!
يؤكد رب الأنبياء وسيد الجميع أن حبه يفوق محبة الأب لأولاده، كما يفوق النور الظلمة والخير والشر... أنصت ماذا يقول؟ "أم أي إنسان منكم إذا سأله ابنه سمكة يعطيه حية؟! فإن كنتم وانتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري أبوكم الذي في السموات يهب خيرات للذين يسألونه؟!" (مت 7: 9-11). كاختلاف الخير عن الشر هكذا تعلو محبة الله على عواطف الوالدين...
هناك أمثلة أخرى كحب الحبيب لمحبوبته، إلاَّ أن حب الله لن يعادله هذا الحب (مز 103: 11)..
"هوذا على كفي نقشتك" [16]. من العادات الشرقية القديمة أن ينقش الإنسان اسم محبوبه على كفه، علامة أنه لن ينساه حتى الموت، وأن كل ما يعمله بيديه إنما لحساب محبوبه. لقد نقش الرب اسم كنيسته المحبوبة لديه على كفه بالمسامير، لتبقى آثار الجارحات علامة حب أبدي! بل نقش اسم كل عضو فيها على كفه علامة محبته الشخصية لنا باسمائنا.
"أسوارك أمامي دائمًا" [16]؛ كأنه يقول أنا أعلم أن أسوارك قد تهدمت، أنا لن أنساها، سأبنيها لكن في الوقت المحدد، سأرد لك قوتك وحصانتك، وأرد إلى أرضي بنيك واطرد الهادمين والمخربين منها [17].
من هم هؤلاء البنون المسرعون إلى صهيون إلاَّ قابلو الإيمان الذين يأتون إلى كنيسة العهد الجديد ويتمتعون بأسوارها التي ليست من صنع يد بشرية، أما الهادمون والمخربون فهم جاحدو الإيمان الذين يُطردون منها.
"ارفعي عينيك حواليكِ وانظري. كلهم قد اجتمعوا أتو إليكِ. حيّ أنا يقول الرب تلبسين كلهم كحلي وتتنطقين بهم كعروس" [18]. يا لها من صورة بهية لكنيسة العهد الجديد، فإنه عوض المدينة التي تهدمت أسوارها، وطرد منها شعبها كمسبيين، ودخلها الهادمون والمخرِّبون، يُقيم الرب كنيسة العهد الجديد لا كمدينة حصينة فحسب يرجع إليها أولادها مسرعين ويُطرد منها الأشرار المخربون، إنما تصير عروسًا سماوية تحمل زينة فريدة، هي اجتماع أولادها فيها كأولاد لله، لهم حرية المجد الداخلي. في الشرق كان جمال المرأة هو أولادها، تفخر بهم كمجد لها وكثوب عرسها المستمر؛ هكذا تعتز الكنيسة بأولادها الممجدين فيها، كمنطقة عروس ثمينة تتمنطق بهم.
تصير عروسًا مثمرة، أُمًا ولودًا، يكثر أولادها الروحيون حتى يبدو كأن الأرض قد ضاقت بهم ولا يوجد موضع للمخربين ليسكنوا معهم.
لا يقف العدو صامتًا إنما يريد أن يدخل ويخرب أولادها، هذا الذي سبق فأثكلها بتحطيمه إيمان البعض، إذ يقول لها: "ضيق عليّ المكان، وسِّعي ليّ لأسكن" [20]. أما هي فترى يد الله العجيبة والعاملة فيها بالرغم من مقاومة العدو المستمرة، فتردد في قلبها قائلة: "من ولد ليّ هؤلاء وأنا ثكلى وعاقر منفية ومطرودة؟ وهؤلاء من رباهم؟ هانذا كنت متروكة وحدي. وهؤلاء أين كانوا؟" [21]. إنها نعمة الله الفائقة التي تُخرج من الآكل أكلًا ومن الجافي حلاوة! وإنها نعمته الغنية التي تُقيم فينا ثمرًا متكاثرًا ليس من عندياتنا، إنما هو عطية الله المجانية لمؤمنيه السالكين بالروح.
4. إقامة الذليلة ملكة:
22 هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: «هَا إِنِّي أَرْفَعُ إِلَى الأُمَمِ يَدِي وَإِلَى الشُّعُوبِ أُقِيمُ رَايَتِي، فَيَأْتُونَ بِأَوْلاَدِكِ فِي الأَحْضَانِ، وَبَنَاتُكِ عَلَى الأَكْتَافِ يُحْمَلْنَ. 23 وَيَكُونُ الْمُلُوكُ حَاضِنِيكِ وَسَيِّدَاتُهُمْ مُرْضِعَاتِكِ. بِالْوُجُوهِ إِلَى الأَرْضِ يَسْجُدُونَ لَكِ، وَيَلْحَسُونَ غُبَارَ رِجْلَيْكِ، فَتَعْلَمِينَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ الَّذِي لاَ يَخْزَى مُنْتَظِرُوهُ».
إن كانت صهيون قد عاشت كأمة أسيرة ذليلة في أرض الغربة، الآن تعود إلى وطنها كملكة يشتاق الكل أن يرفعها على الأكتاف ويخضع لها الملوك ويسجدون أمامها يلحسون غبار رجليها.
هذا هو عمل الله في حياة النفس التي سبق فأذلتها الخطية، إذ يقيمها الرب ملكة، تجلس عن يمين الملك، يشتاق الكل أن يخدمها.
"هكذا قال السيد الرب: ها إني أرفع إلى الأمم يدي وإلى الشعوب أقيم رايتي" [22]. ما هو رفع اليد إلاَّ مجيء السيد المسيح إلى العالم ليبسط يديه على الصليب فيضم إليه الأمم كقوله: "وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الجميع" (يو 12: 32). وأما الراية التي يُقيمها فهي "عَلَم الحب" (نش 2: 4)، أي إعلان الفداء على الصليب.
بهذا العمل الخلاصي تتمجد كنيسة المسيح، إذ يُقال لها: "يأتون بأولادك في الأحضان، وبناتك على الأكتاف يُحمَلن، ويكون الملوك حاضنيكِ، وسيداتهم مرضعاتك، بالوجوه يسجدون لكِ ويلحسون غبار رجليك، فتعلمين أني أنا الرب الذي لا يخزى منتظروه" [22-23].
لقد تحقق ذلك، فقد صار الملوك والملكات مؤمنين عاملين في كنيسة الرب مثل قسطنطين الكبير وهيلانة، يخدمون الكنيسة كملكة روحية فوق الكل.
5. الله فادي كنيسته:
24 هَلْ تُسْلَبُ مِنَ الْجَبَّارِ غَنِيمَةٌ؟ وَهَلْ يُفْلِتُ سَبْيُ الْمَنْصُورِ؟ 25 فَإِنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «حَتَّى سَبْيُ الْجَبَّارِ يُسْلَبُ، وَغَنِيمَةُ الْعَاتِي تُفْلِتُ. وَأَنَا أُخَاصِمُ مُخَاصِمَكِ وَأُخَلِّصُ أَوْلاَدَكِ، 26 وَأُطْعِمُ ظَالِمِيكِ لَحْمَ أَنْفُسِهِمْ، وَيَسْكَرُونَ بِدَمِهِمْ كَمَا مِنْ سُلاَفٍ، فَيَعْلَمُ كُلُّ بَشَرٍ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ مُخَلِّصُكِ، وَفَادِيكِ عَزِيزُ يَعْقُوبَ».
بدت هذه الوعود كأنها خيال بالنسبة لمعاصري إشعياء وأيضًا فيما بعد بالنسبة للمسبيين، لذلك أكد الله أنه هو بنفسه الذي يُحقق هذا الخلاص، بكونه القادر وحده أن يُحطم إبليس الجبار ويسحب منه الذين سبق أن سباهم.
"هل تُسلب من الجبار غنيمة؟! وهل يفلت سبي المنصور؟! فإنه هكذا قال الرب: حتى سبي الجبار يُسلب، وغنيمة العاتي تفلت. وأنا أخاصم مخاصمك وأخلص أولادك، وأطعم ظالميكِ لحم أنفسهم ويسكرون بدمهم كما من سلاف فيعلم كل بشر إني أنا الرب مخلصكِ وفاديكِ عزيز يعقوب" [24-26].
هكذا يليق بنا أن نثق في الله مخلصنا ولا نضطرب أمام قسوة إبليس وعنفه، فإن المخلص قادر أن يُحررنا من سبيه مهما كان العدو عاتيًا وجبارًا، يردنا إلى كنيسته ويُخاصم عنا مخاصمينا، أي يقود المعركة بنفسه، فيأكل العدو لحم نفسه ويشرب ويسكر كما بدمه، أي يرتد عمله على رأسه ويذوق من عنفه مرارة حتى يفقد وعيه كَمَن في حالة سُكْر.
|
|
|
|
16 - 08 - 2024, 03:31 PM
|
رقم المشاركة : ( 170517 )
|
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
* الذي يغتسل للخلاص يتقبل الماء والروح القدس.
|
|
|
|
16 - 08 - 2024, 03:33 PM
|
رقم المشاركة : ( 170518 )
|
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
* تجنسنا بلاهوته في داخل المياه، وصرنا أبناء بالحقيقة،
ومنذ ذلك الحين صار لنا أن ندعوه أبانا،
ذاك الخفي الذي أعطانا روحه بالمعمودية.
|
|
|
|
16 - 08 - 2024, 03:34 PM
|
رقم المشاركة : ( 170519 )
|
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
* نزل الابن الوحيد وأقامك من المزبلة
وأعطاك روحه بالمعمودية وجعلك أخاه.
|
|
|
|
16 - 08 - 2024, 03:34 PM
|
رقم المشاركة : ( 170520 )
|
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
* أيها الوحيد الذي أعطانا روحه بالمعمودية،
أعطني كلمة لأرتل لك بها بمحبة.
|
|
|
|
الساعة الآن 02:38 AM
|