02 - 08 - 2024, 10:42 AM
|
رقم المشاركة : ( 168837 )
|
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
وَيل لإريئيل
يضم هذا الأصحاح الويلين الثاني والثالث من الويلات الستة التي نطق بها الله على لسان إشعياء النبي: ويل لإريئيل [1-14] وويل للذين يظنون في أنفسهم أنهم أحكم من الله [15-24].
الويل لإريئيل خاص بأورشليم التي سقطت تحت التأديب حين حاصرها سنحاريب الآشوري بجيشه الذي حطمه ملاك الرب، كما ينطبق على خراب أورشليم على يد الكلدانيين وأخيرًا على يد الرومان. هذا وينطبق الويل على كل نفس يُريدها الله مدينته المقدسة، أورشليمه التي تضم مقدساته فإذا بها تلهو في الرجاسات وتخلط بين الحياتين المقدسة والدنسة.
انشغل اليهود بشكليات العبادة مثل الاهتمام بمذبح المحرقة (إريئيل) دون الحياة الإيمانية الداخلية المقدسة، لهذا سقطوا تحت التأديب القاسي وإن كان الله لا ينسى البقية الأمينة المخلصة له، وفي نفس الوقت ينتظر رجوع حتى جاحدي الإيمان إلى الحق.
1. الويل الثاني لإريئيل:
1 وَيْلٌ لأَرِيئِيلَ، لأَرِيئِيلَ قَرْيَةٍ نَزَلَ عَلَيْهَا دَاوُدُ. زِيدُوا سَنَةً عَلَى سَنَةٍ. لِتَدُرِ الأَعْيَادُ. 2 وَأَنَا أُضَايِقُ أَرِيئِيلَ فَيَكُونُ نَوْحٌ وَحَزَنٌ، وَتَكُونُ لِي كَأَرِيئِيلَ. 3 وَأُحِيطُ بِكِ كَالدَّائِرَةِ، وَأُضَايِقُ عَلَيْكِ بِحِصْنٍ، وَأُقِيمُ عَلَيْكِ مَتَارِسَ. 4 فَتَتَّضِعِينَ وَتَتَكَلَّمِينَ مِنَ الأَرْضِ، وَيَنْخَفِضُ قَوْلُكِ مِنَ التُّرَابِ، وَيَكُونُ صَوْتُكِ كَخَيَال مِنَ الأَرْضِ، وَيُشَقْشَقُ قَوْلُكِ مِنَ التُّرَابِ. 5 وَيَصِيرُ جُمْهُورُ أَعْدَائِكِ كَالْغُبَارِ الدَّقِيقِ، وَجُمْهُورُ الْعُتَاةِ كَالْعُصَافَةِ الْمَارَّةِ. وَيَكُونُ ذلِكَ فِي لَحْظَةٍ بَغْتَةً، 6 مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْجُنُودِ تُفْتَقَدُ بِرَعْدٍ وَزَلْزَلَةٍ وَصَوْتٍ عَظِيمٍ، بِزَوْبَعَةٍ وَعَاصِفٍ وَلَهِيبِ نَارٍ آكِلَةٍ. 7 وَيَكُونُ كَحُلْمٍ، كَرُؤْيَا اللَّيْلِ جُمْهُورُ كُلِّ الأُمَمِ الْمُتَجَنِّدِينَ عَلَى أَرِيئِيلَ، كُلُّ الْمُتَجَنِّدِينَ عَلَيْهَا وَعَلَى قِلاَعِهَا وَالَّذِينَ يُضَايِقُونَهَا. 8 وَيَكُونُ كَمَا يَحْلُمُ الْجَائِعُ أَنَّهُ يَأْكُلُ، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ وَإِذَا نَفْسُهُ فَارِغَةٌ. وَكَمَا يَحْلُمُ الْعَطْشَانُ أَنَّهُ يَشْرَبُ، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ وَإِذَا هُوَ رَازِحٌ وَنَفْسُهُ مُشْتَهِيَةٌ. هكَذَا يَكُونُ جُمْهُورُ كُلِّ الأُمَمِ الْمُتَجَنِّدِينَ عَلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ.
"الويل لإريئيل لإريئيل قرية نزل عليها داود" [1].
كلمة "إريئيل" معناها "موقد الله الناري" أو "أسد الله" أو "الأسد القوي". وهو اسم رمزي يقصد به أورشليم، بكونها المدينة التي تضم في الهيكل مذبح المحرقة المتقد نارًا (حز 43: 15-16) وبكونها عاصمة شعب الله كالأسد ملك الوحوش.
يرى Ironside أن أورشليم كانت قديمًا كأسد الله لكنها تصير أشبه بموقد ضخم للذبائح يُقدم عليه شعبها على أيدي أعدائهم الألداء.
استخدام داود الملك والنبي إريئيل عاصمة له لمدة طويلة، وبنى قصره على جبل صهيون حيث أُعلن مجد الله بعد ذلك هناك بطريقة عجيبة. وبنى ابنه سليمان الهيكل على جبل المريَّا داخل أورشليم، فصارت المدينة مركز العبادة الجماعية، فيها تُقدم ذبائح للرب، وتُحسب كأسد في قوتها الروحية. لكنها إذ انحلت عن روح العبادة الحقة وانشغلت بالشكليات بلا روح وانغمست في الرجاسات مع إصرار على عدم التوبة حلّ بها الويل.
لقد اعتاد الشعب أن يأتي إلى أورشليم للاحتفال بثلاثة أعياد سنوية [1]، لكن الله في تأديبه يحول هذه الأعياد إلى نوح وحزن [2].
ماذا يعني بقوله "وتكون ليّ كإريئيل" [2]؟ ربما أراد أن يعلن إنها في حزنها تصير كموقد نار سمح الله بإشعاله لتأديب شعبه المنحرف، وربما قصد أنه وإن سمح بهزيمتها ومضايقتها لكنه يجعلها كمذبح ناري له تحرق العدو مغتصبها كذبيحة للرب(311).
يعبر عن مقدار الحزن الذي يحل بأورشليم عند حصارها، قائلًا: "فتتضعين وتتكلمين من الأرض وينخفض قولك من التراب ويكون صوتك كخيال من الأرض، ويشقشق قولك من التراب" [4]. بسبب حزنها الشديد يجلس سكان أورشليم في التراب كمن هم في "جنازة" حسب التقاليد الشرقية القديمة، ويخرج صوتها كما من الأرض؛ وإذ لا يجدوا أحدًا من الأحياء يستشيرونه يلجأون إلى الموتى يطلبون مشورتهم (إش 8: 19)، وتخرج الأصوات خافتة كما في روحانية، وهذا نوع من خداع الشياطين.
ومع هذا فإن الله في محبته يتدخل فجأة بذراعه الرفيعة ليُخلص مدينته وشعبه من جيش سنحاريب (إش 37: 33-36) فيحل غضب الله على العدو الذي يبدده كالغبار الناعم وكالعصافة في مهب الريح، مصورًا هذا الخلاص كرمز لخلاصنا بالصليب وخلاص الكنيسة في أواخر الدهور من المسيح الدجال:
أ. انهيار العدو بالرغم من كثرة عدده وقوته: "ويصير جمهور أعدائك كالغبار الدقيق وجمهور العتاة كالعصافة المارة" [5]. هؤلاء يشيرون إلى إبليس وملائكته الذين بلا عدد، يحاربون البشرية بلا هوادة، لكنهم أمام الصليب يصيرون كلا شيء.
* لا نخاف الشيطان حتى ولو كان روحًا بغير جسد، فليس شيء أضعف منه ذاك الذي جاء ليتعامل معنا وهو غير جسدي، وليس أحد أقوى من الشجاع ولو كان يحمل جسدًا قابلًا للموت!
ب. تحقيق غلبة سريعة: "ويكون ذلك في لحظة بغتة" [5]، إشارة إلى إمكانية الصليب الفائقة للغلبة على الأعداء.
* مع الصلاة ارشم نفسك بالصليب على جبهتك وحينئذ لا تقربك الشياطين لأنك تكون متسلحًا ضدهم.
ج. خلاص الرب لهذه المدينة المنكوبة يرافقه علامات خاصة بالطبيعة. "من قبل رب الجنود تُفتقد برعد وزلزلة وصوت عظيم بزوبعة وعاصف ولهيب نار آكلة" [6]. هذه العلامات تُشير إلى ما حدث أثناء صلب السيد المسيح من ثورة للطبيعة ككسوف الشمس وخسوف القمر وحدوث زلزلة... وأيضًا يُشير إلى ما سيحدث قبيل مجيء السيد المسيح الأخير للدينونة (إش 28: 21؛ 30: 30؛ زك 14: 1-6؛ 2 تس 1: 6-8).
لعل غاية هذه العلامات توبيخ الإنسان الذي أقامه الله سيدًا للطبيعة بكونه صورة الله ومثاله، فإن الطبيعة الجامدة تشهد لأعمال الله الخلاصية وتستنكر جحود الإنسان وتجاهله لخالقه ومخلصه.
د. تبديد تام للأعداء، إذ يختفون كما في حلم الليل متى استيقظ الإنسان يختفي كل ما رآه، بل ويصعب عليه حتى أن يتذكره [7].
العدو الذي حاول اغتصاب شعب الله يكون كالجائع الذي يحلم أن يأكل أو كالعطشان الذي يحلم أنه يشرب ليستيقظ فيجد نفسه كما هو جائعًا وظمآنًا [8].
2. انتشار الجهل بين شبعه:
9 تَوَانَوْا وَابْهَتُوا. تَلَذَّذُوا وَاعْمَوْا. قَدْ سَكِرُوا وَلَيْسَ مِنَ الْخَمْرِ. تَرَنَّحُوا وَلَيْسَ مِنَ الْمُسْكِرِ. 10 لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ سَكَبَ عَلَيْكُمْ رُوحَ سُبَاتٍ وَأَغْمَضَ عُيُونَكُمُ. الأَنْبِيَاءُ وَرُؤَسَاؤُكُمُ النَّاظِرُونَ غَطَّاهُمْ. 11 وَصَارَتْ لَكُمْ رُؤْيَا الْكُلِّ مِثْلَ كَلاَمِ السِّفْرِ الْمَخْتُومِ الَّذِي يَدْفَعُونَهُ لِعَارِفِ الْكِتَابَةِ قَائِلِينَ: «اقْرَأْ هذَا». فَيَقُولُ: «لاَ أَسْتَطِيعُ لأَنَّهُ مَخْتُومٌ». 12 أَوْ يُدْفَعُ الْكِتَابُ لِمَنْ لاَ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ وَيُقَالُ لَهُ: «اقْرَأْ هذَا». فَيَقُولُ: « لاَ أَعْرِفُ الْكِتَابَةَ».
بجانب ما اتسم به الشعب من تغطية الحياة الشريرة بشكليات العبادة جهلهم بكلمة الله وعدم خبرتهم لقوة الوصية في حياتهم.
إن كان الروح القدس يُسكر النفس فيهبها فرحًا سماويًا ينسيها مرارة الضيق والألم، فان الجهل الروحي يُسكرها بشربها كأس غضب الله، أما ثمر هذا الجهل فهو:
أ. التواني [9]، فقد تراخي الشعب وأهملوا خلاص أنفسهم، وصاروا كما في حالة سُبات [10]، كنائمين فاقدين الأحاسيس الروحية والمشاعر المقدسة واليقظة والنشاط والصلاة الدائمة والالتقاء مع الله في حيوية.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:[إن الرسول بولس إذ اتهم الشعب بالسقوط في حالة سبات وعدم يقظة (رو 11: 7-8)]، التجأ إلى داود النبي وإشعياء حتى لا يُحسب هذا الاتهام من عندياته.
ب. الإصابة بنوع من الانبهار دون التمتع بعمل الله. فالحق كالشمس مشرق أمامهم، لكن عيونهم الضعيفة أفقدتهم التمتع بنورها، فصاروا مبهورين بها دون معاينتها.
ج. التلذذ بالحياة المترفة [9].
د. رفض المشورة الصالحة، فقد وُجد بينهم أنبياء [10] كعيون روحية يمكن للشعب كما للقيادات أن يعاينوا الحق ويدركوا خطة الله وإرادته. تمتع الأنبياء بالرؤى لذلك دُعوا بالرائين أو الناظرين [10]، لكن هذه الرؤى بقيت سفرًا مختومًا، إما لأن ما جاء في السفر كان بالنسبة لهم غامضًا أو لعجز الشعب عن قراءته.
3. شكلية العبادة:
13 فَقَالَ السَّيِّدُ: «لأَنَّ هذَا الشَّعْبَ قَدِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ بِفَمِهِ وَأَكْرَمَنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَأَبْعَدَهُ عَنِّي، وَصَارَتْ مَخَافَتُهُمْ مِنِّي وَصِيَّةَ النَّاسِ مُعَلَّمَةً. 14 لِذلِكَ هأَنَذَا أَعُودُ أَصْنَعُ بِهذَا الشَّعْبِ عَجَبًا وَعَجِيبًا، فَتَبِيدُ حِكْمَةُ حُكَمَائِهِ، وَيَخْتَفِي فَهْمُ فُهَمَائِهِ».
لعل أخطر عدو يواجه المتدينين هو الرياء أو الاهتمام بالشكليات دون جوهر الحياة المقدسة. لقد بدأ حزقيا الملك إصلاحاته لكن البعض ترك عبادة الأوثان من الخارج لا من قلبه؛ وجاءوا يقتربون إلى الله بشفاههم دون قلوبهم، يهتمون بمديح الناس لا الله، لهم صورة التقوى وينكرون قوتها.
"لأن هذا الشعب اقترب إليّ بفمه وأكرمني بشفتيه وأما قلبه فأبعده عني وصارت مخافتهم مني وصية الناس معلّمة" [13].
يربط العلامة أوريجانوسبين اقتراب الشعب إلى الله بشفتيه دون القلب وبين انتشار الجهل، أي ادعاء المعرفة الروحية مع عدم إيمانهم بالسيد المسيح، فيقول: [عندما تصير الكلمات النبوية ككلمات سفر مختوم، ليس فقط بالنسبة لا يعرفون الحروف وإنما بالنسبة للذين يمتهنون المعرفة عندئذ يقول الرب أن شعب اليهود يقترب إلى الرب بفمه فقط ويكرمه بشفتيه لأن قلبهم مبتعد عن الرب بسبب عدم إيمانهم بيسوع].
يرى القديس إكليمندس الإسكندريأن الله كشف هذا العيب لا للانتقام منهم ولا لفضحهم وإنما لكي يدركوا ضعفاتهم فيرجعوا إليه طالبين خلاصهم. [هنا محبته الرعوية جعلته يظهر خطاياهم كما يظهر لهم الخلاص جنبًا إلى جنب].
من تعليقات الآباء عن تكريم الله بالفم دون القلب:
* كثيرون لهم فهم في شفاههم لا في قلوبهم.
* لقد اقتربوا بالجسد لكنهم وقفوا بعيدًا بقلوبهم. من كان بالجسد أقرب إليه من أولئك الذين رفعوه على الصليب؟! من كانوا أكثر بعدًا عنه مثل الذين جدفوا عليه...؟ ذات الأشخاص الذين كانوا قريبين منه كانوا أيضًا بعيدين عنه. كانوا قريبين بشفاههم بعيدين بقلوبهم.
* لنلتصق بالذين يتعهدون السلام بتقواهم لا بالذين يمتهنون الرغبة في التقوى بالرياء.
* قيل: "باركوا بأفواههم أما قلوبهم فتلعن" (مز 63: 4). وقيل أيضًا: "أحبوه بفمهم وكذبوا عليه بلسانهم، وأما قلبهم فلم يكن مستقيمًا معه ولا ثبتوا في عهده"، "لتبكم شفاه الكذب" (مز 78: 36-37؛ 31: 8).
* ماذا يعني هذا؟ الاتجاه الحقيقي للنفس نحو الحق هو أثمن من الكلمات اللطيفة في نظر الله السامع للتنهدات التي لا يُنطق بها.
يمكن للإنسان أن يستخدم العبارات بمعنى مضاد (لما تحمله في الظاهر)، فإن اللسان مستعد لتحقيق ذلك حسب قصد المتكلم ونيته، أما اتجاه النفس فيراه الله العارف بالأسرار.
4. الويل الثالث لمن يتكل على حكمته الذاتية:
15 وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَتَعَمَّقُونَ لِيَكْتُمُوا رَأْيَهُمْ عَنِ الرَّبِّ، فَتَصِيرُ أَعْمَالُهُمْ فِي الظُّلْمَةِ، وَيَقُولُونَ: «مَنْ يُبْصِرُنَا وَمَنْ يَعْرِفُنَا؟». 16 يَا لَتَحْرِيفِكُمْ! هَلْ يُحْسَبُ الْجَابِلُ كَالطِّينِ، حَتَّى يَقُولُ الْمَصْنُوعُ عَنْ صَانِعِهِ: «لَمْ يَصْنَعْنِي». أَوْ تَقُولُ الْجُبْلَةُ عَنْ جَابِلِهَا: «لَمْ يَفْهَمْ»؟
إحدى علامات الرياء أن بعض الأشراف وضعوا في قلوبهم أن يتمموا رأيهم الذاتي وهو الالتجاء سرًا إلى مصر ضد آشور ليخفوا هذا الأمر ليس فقط عن الشعب بل حتى عن الله نفسه، قائلين: "مَنْ يبصرنا؟! ومن يعرفنا؟!" [15]. لقد ظنوا وهم الجبلة، أنهم أكثر حكمة من جابلهم!
الله جابل الإنسان -في اتضاعه- يُريد أن يحاور الإنسان الجبلة التي من الطين، بينما تظن الجبلة في كبريائها أنها قادرة على العلم بحكمة وفهم من وراء جابلها بعيدًا عن الحوار معه.
يقول الأب مرتيروس السرياني: [يا لعظم نعمة رآفات الله وتنازله التي لا تعرف حدودًا! الله ينزل إلى مستوى الخطاة من رجال ونساء، يتحدث الله الصالح مع العبيد الثائرين، يدعو القدوس النجسين لينالوا المغفرة. تتحدث البشرية المخلوقة من الطين مع خالقها بدالة، يُحارب التراب جابله. لذلك ليتنا نظهر مهابة عندما نقف نحن الخطاة في حضرة هذا العظيم ونتحدث معه].
5. وعود ثمينة للمؤمنين:
17 أَلَيْسَ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ جِدًّا يَتَحَوَّلُ لُبْنَانُ بُسْتَانًا، وَالْبُسْتَانُ يُحْسَبُ وَعْرًا؟ 18 وَيَسْمَعُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ الصُّمُّ أَقْوَالَ السِّفْرِ، وَتَنْظُرُ مِنَ الْقَتَامِ وَالظُّلْمَةِ عُيُونُ الْعُمْيِ، 19 وَيَزْدَادُ الْبَائِسُونَ فَرَحًا بِالرَّبِّ، وَيَهْتِفُ مَسَاكِينُ النَّاسِ بِقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ. 20 لأَنَّ الْعَاتِيَ قَدْ بَادَ، وَفَنِيَ الْمُسْتَهْزِئُ، وَانْقَطَعَ كُلُّ السَّاهِرِينَ عَلَى الإِثْمِ 21 الَّذِينَ جَعَلُوا الإِنْسَانَ يُخْطِئُ بِكَلِمَةٍ، وَنَصَبُوا فَخًّا لِلْمُنْصِفِ فِي الْبَابِ، وَصَدُّوا الْبَارَّ بِالْبُطْلِ. 22 لِذلِكَ هكَذَا يَقُولُ لِبَيْتِ يَعْقُوبَ الرَّبُّ الَّذِي فَدَى إِبْرَاهِيمَ: «لَيْسَ الآنَ يَخْجَلُ يَعْقُوبُ، وَلَيْسَ الآنَ يَصْفَارُّ وَجْهُهُ. 23 بَلْ عِنْدَ رُؤْيَةِ أَوْلاَدِهِ عَمَلِ يَدَيَّ فِي وَسَطِهِ يُقَدِّسُونَ اسْمِي، وَيُقَدِّسُونَ قُدُّوسَ يَعْقُوبَ، وَيَرْهَبُونَ إِلهَ إِسْرَائِيلَ. 24 وَيَعْرِفُ الضَّالُّو الأَرْوَاحِ فَهْمًا، وَيَتَعَلَّمُ الْمُتَمَرِّدُونَ تَعْلِيمًا.
إن كانت الخطط الخفية المخادعة والمملوءة رياء تجلب غمًا وحزنًا، فعلى العكس عمل الله الخلاصي العلني يجلب سلسلة أفراح متوالية، وبركات متعددة بلا حصر، منها:
أ. حالة إثمار: "أليس في مدة يسيرة يتحول لبنان بستانًا والبستان يُحسب وعرًا؟!" [17]. عمل الله العلني يحول لبنان إلى بستان أو جنة، يحول قلب الإنسان الجاف والوعر إلى ملكوت المسيح الحامل لثمار الروح؛ بينما حرمان الإنسان من النعمة يُحطم حتى ثماره الطبيعية (البستان) فيصير وعرًا.
ب. عطية الاستماع لصوت الله ورؤية الأسرار الإلهية: "وَيَسْمَعُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ الصُّمُّ أَقْوَالَ السِّفْرِ، وَتَنْظُرُ مِنَ الْقَتَامِ وَالظُّلْمَةِ عُيُونُ الْعُمْيِ" [18]. السمع الروحي والبصيرة الداخلية هما عطيتان من قبل الله.
ج. التمتع بالفرح السماوي الداخلي المتزايد: "ويزداد البائسون فرحًا بالرب ويهتف مساكين الناس بقدوس إسرائيل" [19].
د. تحطيم عدو الخير إبليس وكل أعماله، هذا الطاغية الذي يسخر بالمؤمنين [20].
ه. إبطال العثرات وكل فخاخ ومشورات شريرة ضد أولاد الله الأبرار [21].
و. نزع الخوف والخزي: "ليس الآن يخجل يعقوب وليس الآن يصفارُّ وجهه" [22].
ز. تقديس اسم الله: "بل عند رؤية أولاده (أولاد إبراهيم) عمل يديّ في وسطه يُقدسون اسمي ويقدسون قدوس يعقوب، ويرهبون إله إسرائيل" [23]. وكأنه يتحقق فيهم القول "ليتقدس اسمك"، إذ يتقدس اسم الله في شعبه ومؤمنيه.
ح. تغيير الطبيعة البشرية فيحملون فهمًا وعلمًا لا بطريقة عقلانية بحتة وإنما كحياة جديدة مطيعة للرب بعدما ساروا زمانًا في ضلالة الجهادة وحياة التمرد والعصيان [24].
هذه جميعها وعود الله التي تتمتع بها كنيسة العهد الجديد المتهللة بفرح الرب من حمل ثمار الروح القدس بكونها جنة المسيح، وتمتعها بالاستماع للصوت الإلهي ورؤية أسراره الإلهية عوض العمى، وتحطيم إبليس وكل قوى الظلمة، وتخطي العقبات والعثرات بلا خوف ولا خزي، وأخيرًا تقديس اسم الله خلال الفهم الروحي والطاعة القائمة على معرفة روحية.
الاتكال على فرعون
في الأصحاح السابق طالبهم الرب أن يرجعوا إليه في هدوء وطمأنينة، ويثقوا في خلاصه، عوض الاتكال على الذراع البشري والحكمة الإنسانية المجردة والإمكانيات الزمنية (إش 29: 15). الآن يحذرهم من الاتكال على فرعون متجاهلين عنصر "عمل الله"، معلنًا لهم أن مشورتهم البشرية تؤول إلى خزيهم فينهاروا، لكنه يبقى الله منتظرًا الفرصة ليعلن رحمته ويرعب آشور الذي أرعبهم كأنه يكشف خيانة يهوذا مع أمانة الله وحبه نحوهم.
يرى بعض المفسرين أن الحديث هنا موجه إلى آفرايم حيث ورد في (2 مل 17: 4) عن معاهدة تمت بين هوشع بن إيلة ملك إسرائيل (آفرايم) وسوا ملك مصر مع ثورته ضد آشور ورفضه دفع الجزية له، أكثر منه وجود معاهدة بين يهوذا ومصر... لكن بقية الحديث موجه إلى يهوذا وأورشليم أنه حديث إلهي موجه ضد كل إنسان يتجاهل الله متكلًا على ذراع بشرية.
1. تحذير من الاتكال على فرعون:
1 «وَيْلٌ لِلْبَنِينَ الْمُتَمَرِّدِينَ، يَقُولُ الرَّبُّ، حَتَّى أَنَّهُمْ يُجْرُونَ رَأْيًا وَلَيْسَ مِنِّي، وَيَسْكُبُونَ سَكِيبًا وَلَيْسَ بِرُوحِي، لِيَزِيدُوا خَطِيئَةً عَلَى خَطِيئَةٍ. 2 الَّذِينَ يَذْهَبُونَ لِيَنْزِلُوا إِلَى مِصْرَ وَلَمْ يَسْأَلُوا فَمِي، لِيَلْتَجِئُوا إِلَى حِصْنِ فِرْعَوْنَ وَيَحْتَمُوا بِظِلِّ مِصْرَ. 3 فَيَصِيرُ لَكُمْ حِصْنُ فِرْعَوْنَ خَجَلًا، وَالاحْتِمَاءُ بِظِلِّ مِصْرَ خِزْيًا. 4 لأَنَّ رُؤَسَاءَهُ صَارُوا فِي صُوعَنَ، وَبَلَغَ رُسُلُهُ إِلَى حَانِيسَ. 5 قَدْ خَجِلَ الْجَمِيعُ مِنْ شَعْبٍ لاَ يَنْفَعُهُمْ. لَيْسَ لِلْمَعُونَةِ وَلاَ لِلْمَنْفَعَةِ، بَلْ لِلْخَجَلِ وَلِلْخِزْيِ». 6 وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ بَهَائِمِ الْجَنُوبِ: فِي أَرْضِ شِدَّةٍ وَضِيقَةٍ، مِنْهَا اللَّبْوَةُ وَالأَسَدُ، الأَفْعَى وَالثُّعْبَانُ السَّامُّ الطَّيَّارُ، يَحْمِلُونَ عَلَى أَكْتَافِ الْحَمِيرِ ثَرْوَتَهُمْ، وَعَلَى أَسْنِمَةِ الْجِمَالِ كُنُوزَهُمْ، إِلَى شَعْبٍ لاَ يَنْفَعُ. 7 فَإِنَّ مِصْرَ تُعِينُ بَاطِلًا وَعَبَثًا، لِذلِكَ دَعَوْتُهَا «رَهَبَ الْجُلُوسِ».
"ويل للبنين المتمردين يقول الرب حتى أنهم يجرون رأيًا وليس مني، ويسكبون سكيبًا وليس بروحي، ليزيدوا خطيئة على خطيئة، الذين يذهبون لينزلوا إلى مصر ولم يسألوا فمي ليلتجئوا إلى حصن فرعون ويحتموا بظل مصر" [1-2].
يلاحظ هنا في الويل الرابع الآتي:
أ. يدعوهم أبناء متمردين، لأنهم رفضوا مشورة الله أبيهم ولم يثقوا فيه إنما حسبوا فرعون أباهم الذي ينقذهم. بنوتنا لله ليست كلامًا ولا عواطف مجردة لكنها التقاء معه واتكال عليه ودخول معه في علاقات عميقة عملية؛ هذه البنوة تديننا إن لم نسلك كما يليق بها.
ب. لقد أروا رأيًا [1] أي تشاوروا فيما بينهم ولم يطلبوا مشورة الله ولا سألوا رجاله المخلصين.
ج. "يسكبون سكيبًا" أو "يغطون غطاءً وليس بروحي" [1]، بمعنى أنهم أرادوا أن يغطوا على مشورتهم ويخفون عني ما يفعلونه (إش 29: 15-16)، فحرموا أنفسهم من قيادة روحي القدوس.
د. "ليزيدوا خطيئة على خطيئة" [1]،هكذا كانوا ينحدرون في سلسلة من الخطايا، بدأت بالتمرد على أبيهم السماوي، إذ حسبوه عاجزًا عن حمايتهم، ثم تشاوروا متجاهلين مشورته، ثم حاولوا إخفاء تصرفاتهم إلخ...
ه. "الذين يذهبون لينزلوا إلى مصر ولم يسألوا فمي" [2]؛ فقد بعثوا رسلًا إلى فرعون للتحالف معه... نزلوا إلى مصر، ولم يقبلوا الله الذي يرفعهم إليه، قبلوا النزول عوض الصعود، أو الانحدار عوض الارتفاع نحو السمويات.
أولاد الله يقبلون الانحدار والنزول كما إلى محبة العالم (مصر) إنما يمارسون النمو الدائم ليصعدوا كل يوم نحو الحياة السماوية، قائلين: "هلم نصعد إلى جبل الرب" (مي 4: 2).
و. يُعتبر الحصن الفرعوني لهم خجلًا وحماية مصر ظلًا مخزيًا [3]. لقد بلغ رسلهم إلى صوعن وحانيس يطلبون العون والمشورة فنالوا خجلًا وخزيًا.
صوعن عاصمة مصر العليا، على الضفة الشرقية من الدلتا وعلى فرع النيل الطافي، حصنها الملوك وجعلوها عاصمة تراقب الهجمات القادمة من الشرق على مصر. في هذه المدينة تمت المفاوضات بين موسى وفرعون (مز 78: 12، 43)، احتلها الآشوريون فيما بعد، ودعاها اليونان "تانيس"، حاليًا تُدعى "صا الحجر".
حانيس، تبعد نحو 50 ميلًا جنوب ممفيس على الضفة الغربية للنيل، وهي لا تزال معروفة بأهناس، أي أهناسيا، وكانت معروفة في العصر اليوناني الروماني بهيراكليوبوليس العظمى.
يشبه النبي الرسل القادمين من يهوذا إلى مصر ببهيموث Behemoth (بهائم الجنوب: [6])، يقصد نوعًا من التماسيح المصرية hippopotamus. جاءوا يطلبون النجدة من بلد مملوءة شدائدًا وضيقات غير قادرة على إنقاذ نفسها، مملوءة بالأسود والأفاعي والثعابين السامة الطيارة، جاءوا يحملون خيراتهم على الحمير والجمال كهدايا لفرعون ورجاله العاجزين عن حمايتهم. جاءوا للأمان في منطقة متاعب ومخاطر قاتلة.
يدعو مصر باسم شعري رمزي "رهب الجلوس" [7]؛ يُقصد برهب "الرحب" أو "المتسع" أو "العظيم" أو "المتكبر"، فقد تكبرت مصر وتعجرفت مقدمة وعودًا جميلة لكن غير واقعية، وعوض أن تقوم لتعين مملكة يهوذا وتسندها "جلست" تراقب يهوذا وهي تُسْبَى إلى بابل.
هكذا يُحذر إشعياء النبي مملكة يهوذا التي أُصيبت بالغباء والعمى حيث لجأت إلى مصر المتكبرة تطلب حمايتها.
2. تأديبات بسبب احتقار وصية الرب:
8 تَعَالَ الآنَ اكْتُبْ هذَا عِنْدَهُمْ عَلَى لَوْحٍ وَارْسُمْهُ فِي سِفْرٍ، لِيَكُونَ لِزَمَنٍ آتٍ لِلأَبَدِ إِلَى الدُّهُورِ. 9 لأَنَّهُ شَعْبٌ مُتَمَرِّدٌ، أَوْلاَدٌ كَذَبَةٌ، أَوْلاَدٌ لَمْ يَشَاءُوا أَنْ يَسْمَعُوا شَرِيعَةَ الرَّبِّ. 10 الَّذِينَ يَقُولُونَ لِلرَّائِينَ: «لاَ تَرَوْا»، وَلِلنَّاظِرِينَ: «لاَ تَنْظُرُوا لَنَا مُسْتَقِيمَاتٍ. كَلِّمُونَا بِالنَّاعِمَاتِ. انْظُرُوا مُخَادِعَاتٍ. 11 حِيدُوا عَنِ الطَّرِيقِ. مِيلُوا عَنِ السَّبِيلِ. اعْزِلُوا مِنْ أَمَامِنَا قُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ». 12 لِذلِكَ هكَذَا يَقُولُ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ: «لأَنَّكُمْ رَفَضْتُمْ هذَا الْقَوْلَ وَتَوَكَّلْتُمْ عَلَى الظُّلْمِ وَالاعْوِجَاجِ وَاسْتَنَدْتُمْ عَلَيْهِمَا، 13 لِذلِكَ يَكُونُ لَكُمْ هذَا الإِثْمُ كَصَدْعٍ مُنْقَضٍّ نَاتِئٍ فِي جِدَارٍ مُرْتَفِعٍ، يَأْتِي هدُّهُ بَغْتَةً فِي لَحْظَةٍ. 14 وَيُكْسَرُ كَكَسْرِ إِنَاءِ الْخَزَّافِينَ، مَسْحُوقًا بِلاَ شَفَقَةٍ، حَتَّى لاَ يُوجَدُ فِي مَسْحُوقِهِ شَقَفَةٌ لأَخْذِ نَارٍ مِنَ الْمَوْقَدَةِ، أَوْ لِغَرْفِ مَاءٍ مِنَ الْجُبِّ». 15 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ: «بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ. بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ». فَلَمْ تَشَاءُوا. 16 وَقُلْتُمْ: «لاَ بَلْ عَلَى خَيْل نَهْرُبُ». لِذلِكَ تَهْرُبُونَ. «وَعَلَى خَيْل سَرِيعَةٍ نَرْكَبُ». لِذلِكَ يُسْرُعُ طَارِدُوكُمْ. 17 يَهْرُبُ أَلْفٌ مِنْ زَجْرَةِ وَاحِدٍ. مِنْ زَجْرَةِ خَمْسَةٍ تَهْرُبُونَ، حَتَّى أَنَّكُمْ تَبْقُونَ كَسَارِيَةٍ عَلَى رَأْسِ جَبَل، وَكَرَايَةٍ عَلَى أَكَمَةٍ.
طلب الله من إشعياء النبي أن يكتب تحذيرًا لشعب يهوذا على لوح كبير يراه الكل في مكان عام، وأيضًا أن يُسجل ذلك في كتاب ليبقى أبديًا [8]. ربما كتب على اللوح "رهب الجلوس" ليحذرهم من الاتكال على فرعون (مصر) الجالس متفرجًا، أما في السفر فكُتب عن خطايا يهوذا والنبوات والرؤى التي وهبه الله إياها.
أما خطية يهوذا الرئيسية فهي أنهم شعب متمرد يرفض شريعة الرب ويتقبل كلمات الأنبياء الكاذبة. كانت الشريعة بالنسبة لهم مُرّة وقاسية، لأنها تفضح خطاياهم وتطالبهم بالطريق الإلهي الضيق لذلك قالوا للأنبياء الرائين ألا يروا ولا ينظروا المستقيمات إنما طلبوا كلمات الأنبياء الكذبة المخادعة التي دعاها هنا "الناعمات" "المخادعات" [10] التي تهب طمأنينة مؤقتة للنفس خلال تجاهل الخطية وتهدئة الضمائر. بهذا رفضوا اعتراض الأنبياء طريقهم، وطلبوا عزل قدوس إسرائيل من أمامهم [11].
أما ثمار العصيان ورفض الأنبياء الحقيقيين وقدوس إسرائيل فهي إنهم صاروا كحائط مرتفع يتصدع ويسقط ويتهشم في لحظة [13]، كما يشبهون إناءً خزفيًا يسقط ليُسحق تمامًا بلا شفقة فلا يبقى فيه جزء يصلح لكي يستخدم لسحب نار من موقد أو غرف ماء من جب... هكذا لا يصلح في شيء قط سوى أن يُجمع ليُلقى في مزبلة...
يصّور النبي هلاك مملكة يهوذا بسبب رفضهم مشورة الرب القائل: "بالرجوع والسكون تخلصون، بالهدوء والطمأنينة قوتكم" [15]؛ أي أن سّر خلاصكم يكون في توبتكم ورجوعكم إلى الله مع السكون والهدوء بثقة؛ هذه هي القوة الحقيقية. لكنهم رفضوا التوبة مع الإيمان بالله إذ قالوا: "لا بل على الخيل نهرب... لذلك يسرع طاردوكم" [16]، أي اتكلوا على الإمكانيات البشرية، خاصة على خيول مصر ومركباتها، وظنوا أنها قادرة على إنقاذهم سريعًا فإذا بالعدو يطاردهم بسرعة أعظم ويلحق بهم. بل ما هو أمرّ أنهم يهربون أمام لا شيء، فجندي واحد من الأعداء يرعب ألفًا من رجال بني يهوذا، وخمسة جنود يرعب جيش يهوذا كله، يتركون أسلحتهم ويهربون في مذلة ليصيروا أشبه بشجرة واحدة أو سارية على جبل أو كراية أو علامة على تل؛ يصيرون عبرة لكل الأجيال.
عندما رجع حزقيا الملك إلى الله (2 مل 30) واتجه نحو الحائط وهو على سرير الموت رفع ذهنه إلى السموات وغلب الموت منتصرًا.
3. مراحم الله نحو شعبه التائب:
18 وَلِذلِكَ يَنْتَظِرُ الرَّبُّ لِيَتَرَاءَفَ عَلَيْكُمْ. وَلِذلِكَ يَقُومُ لِيَرْحَمَكُمْ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهُ حَقّ. طُوبَى لِجَمِيعِ مُنْتَظِرِيهِ. 19 لأَنَّ الشَّعْبَ فِي صِهْيَوْنَ يَسْكُنُ فِي أُورُشَلِيمَ. لاَ تَبْكِي بُكَاءً. يَتَرَاءَفُ عَلَيْكَ عِنْدَ صَوْتِ صُرَاخِكَ. حِينَمَا يَسْمَعُ يَسْتَجِيبُ لَكَ. 20 وَيُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ خُبْزًا فِي الضِّيقِ وَمَاءً فِي الشِّدَّةِ. لاَ يَخْتَبِئُ مُعَلِّمُوكَ بَعْدُ، بَلْ تَكُونُ عَيْنَاكَ تَرَيَانِ مُعَلِّمِيكَ، 21 وَأُذُنَاكَ تَسْمَعَانِ كَلِمَةً خَلْفَكَ قَائِلَةً: «هذِهِ هِيَ الطَّرِيقُ. اسْلُكُوا فِيهَا». حِينَمَا تَمِيلُونَ إِلَى الْيَمِينِ وَحِينَمَا تَمِيلُونَ إِلَى الْيَسَارِ. 22 وَتُنَجِّسُونَ صَفَائِحَ تَمَاثِيلِ فِضَّتِكُمُ الْمَنْحُوتَةِ، وَغِشَاءَ تِمْثَالِ ذَهَبِكُمُ الْمَسْبُوكِ. تَطْرَحُهَا مِثْلَ فِرْصَةِ حَائِضٍ. تَقُولُ لَهَا: «اخْرُجِي». 23 ثُمَّ يُعْطِي مَطَرَ زَرْعِكَ الَّذِي تَزْرَعُ الأَرْضَ بِهِ، وَخُبْزَ غَلَّةِ الأَرْضِ، فَيَكُونُ دَسَمًا وَسَمِينًا، وَتَرْعَى مَاشِيَتُكَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ فِي مَرْعًى وَاسِعٍ. 24 وَالأَبْقَارُ وَالْحَمِيرُ الَّتِي تَعْمَلُ الأَرْضَ تَأْكُلُ عَلَفًا مُمَلَّحًا مُذَرَّى بِالْمِنْسَفِ وَالْمِذْرَاةِ. 25 وَيَكُونُ عَلَى كُلِّ جَبَل عَال وَعَلَى كُلِّ أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ سَوَاق وَمَجَارِي مِيَاهٍ فِي يَوْمِ الْمَقْتَلَةِ الْعَظِيمَةِ، حِينَمَا تَسْقُطُ الأَبْرَاجُ. 26 وَيَكُونُ نُورُ الْقَمَرِ كَنُورِ الشَّمْسِ، وَنُورُ الشَّمْسِ يَكُونُ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ كَنُورِ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، فِي يَوْمٍ يَجْبُرُ الرَّبُّ كَسْرَ شَعْبِهِ وَيَشْفِي رَضَّ ضَرْبِهِ.
"ولذلك ينتظر الرب ليترأف عليكم، ولذلك يقوم ليرحمكم لأن الرب إله حق؛ طوبى لجميع منتظريه" [8].
يتوقع إشعياء النبي منهم أن يرجعوا إلى الله ويتركوا اتكالهم على الذراع البشري منتظرين الرب كمخلص لهم، لكن العجيب أنه ليس إشعياء الذي ينتظر هذا وإنما الرب نفسه المبادر بالحب هو منتظر عودتهم، مشتاق إليهم كي يترآف عليهم ويرحمهم بكونه إله حق محب لخليقته. في حبه ينتظر أن يسكب فيض نعمته على ابنه الضال الراجع إليه (لو 15).
انتظار الرب أيضًا يعني خطته المقبلة نحو خلاص الكثيرين، والتي تتركز في النقاط التالية:
أ. سكنى شعبه في أورشليم: "لأن الشعب في صهيون يسكن في أورشليم" [19]؛ أي يدخل بهم إلى كنيسة العهد الجديد حيث سلام الله الذي يفوق كل عقل ("أورشليم" معناها "موضع السلام").
أورشليم أيضًا تُشير إلى السماء، أورشليم العليا أُمّنا (غل 4: 26)، وكأن خلاصنا يكمن في سحب الله شعبه إلى الحياة السماوية.
ب. انتزاع الحزن والبكاء: "لا تبكي بكاءً" [19]، بكون الكنيسة صورة للسماء التي ليس فيها حزن ولا ألم... (رؤ 21: 4). هنا لا يقصد البكاء الخارجي إنما فقدان الفرح الداخلي... فالكنيسة تشارك عريسها آلامه التي لا تنفصل عن بهجة قيامته. بمعنى آخر الكنيسة هي ملكوت المسيح الذي يحمل سمة الصليب غير المنفصل عن القيامة.
يليق بنا أن نميز هنا بين الحزن حسب مشيئة الله وبين القنوط أو فقدان التعزية والسلام. الحزن حسب مشيئة الله فضيلة روحية تُرافقها تعزيات الله وسلامه الفائق للعقل أما القنوط فرذيلة تكشف عن حالة يأس وعدم رجاء، تحطم حياة الإنسان وأرادته.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنها لا تُهاجم الجسد فحسب وإنما أيضًا النفس ذاتها... إنها قاتلة على الدوام تستنزف قوة النفس". لقد شجع الشماسة أوليمبياس أن تتغلب على القنوط بكونه طاغية مهبط للهمم.
ج. استجابة سريعة للصلوات: "يتراءف عليك عند صوت صراخك، حينما يسمع يستجيب لكِ" [19]؛ هو يسمح بالضيق والشدة لكنه يسمع الصرخات فيُعطي خبزًا وماءً ولا يترك الإنسان في عوز [20].
د. إن كان الرب نفسه يصير معلمًا (يو 2: 23) وروحه القدوس قائدًا ومعزيًا للكنيسة فإن إحدى بركات الرب أنه يهب روح التعليم الصادق والإرشاد ومعزيًا للكنيسة فإن إحدى بركات الرب أنه يهب روح التعليم الصادق والإرشاد الروحي المستقيم بلا انحراف؛ "لا يختبئ معلموك بعد بل تكون عيناك تريان معلميك، وأذناك تسمعان كلمة خلفك قائلة: هذه هي الطريق اسلكوا فيها حينما تميلون إلى اليمين وحينما تميلون إلى اليسار" [21].
التعليم والمعرفة هما عطية من الله نفسه، الذي يُقدس الأذن لتسمع كلماته وتستجيب لها، ويُقدس الفكر والقلب والأحاسيس ليصير الإنسان بكليته متجاوبًا مع إرادة الله المعلنة خلال كلمته.
بهذا الروح عاشت الكنيسة الأولى تؤمن أن الله وحده قادر أن يرسل الفعلة لحصاده واهبًا إياهم نعمته للنطق بكلمة الحق باستقامة وواهبًا السامعين نعمة للتجاوب معها وإدراكها.
هذا أيضًا ما دفع آباء الكنيسة على المثابرة في الصلوات وخلال الحياة المقدسة من أجل التمتع بعطية المعرفة الإلهية.
* لنحث الله كي يهبنا، كما أن الكلمة تنمو فينا، هكذا نتقبل غنى اتساع الفكر في المسيح يسوع وهكذا نصير قادرين على سماع الكلمات القدسيّة المقدسة.
* كثيرون طلبوا أن يفسروا الكتب الإلهية... لكن لم ينجح الكل في ذلك. فأنه نادرًا ما يوجد ذاك الذي له هذه النعمة من قبل الله.
ربما يقصد بالمعلمين المختفين في الكنيسة جماعة الأنبياء، فبمجيء السيد المسيح المعلم الفريد يُنير النبوات وتتكشف أسرار العهد القديم الذي يُشير إلى الخلاص، ويعلن عن شخص المسيا وأعماله الخلاصية ودوره الإلهي في حياة الكنيسة.
ه. رفض العبادات الوثنية بكل ترفها: "وتنجسون صفائح تماثيل فضتكم المنحوتة وغشاء تمثال ذهبكم المسبوك تطرحها مثل فرصة حائض؛ تقول لها أخرجي" [22].
إذ كانت أغلب التماثيل من الخشب أو الخزف المغشى بالفضة أو الذهب فإن عمل الخلاص هو فضح الداخل، إذ ينال الإنسان بروح الله قوة ليقول لها "أخرجي"؛ فتخرج من الغلاف الخارجي الذي يخفي حقيقتها أنها تمثل فرصة الحائض النجسة، كما تخرج من قلب المؤمن الذي يستقبل رب المجد يسوع بكونه مقدسًا له.
مسيحنا يحمل من الخارج آلامًا فيبدو "لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه" (إش 53: 2) لكنه يهبنا أمجاده الداخلية غير المدركة. أما محبة العالم فتعطي إغراءات خارجية وداخلها نتانة وفساد.
و. نعمة المطر: "ثم يُعطي مطر زرعك الذي تزرع الأرض به وخبز غلة الأرض فيكون دسمًا وسمينًا وترعى ماشيتك في ذلك اليوم في مرعى واسع" [23].
كان عصر المسيا في ذهن الأنبياء هو "عصر المطر" أو "عصر المياه الغزيرة". نذكر على سبيل المثال أن هذا العصر وُصف بأن الله يقدم فيه المطر في حينه (حز 34: 26)، وأن المطر يروي الأرض فتأتي بوفرة الغلال والزراعة ليأكل الإنسان وتجد البهائم مرعى دسمًا [23] إلخ...، فلا يوجد جوع أو عطش (إش 31: 9، إش 49: 10). تفيض مياه حيَّة من الهيكل وتأتي بثمار عجيبة وتنمو أشجار كثيرة جدًا (حز 47: 1-12)؛ يخرج ينبوع مفتوح لبيت داود يقطع أصنام الأرض ويزيل الروح النجس (زك 13: 1-2). تفيض ينابيع يهوذا ماءً ويخرج من بيت الرب ينبوع يهب حياة (يؤ 3: 18؛ زك 14: 8)، يفرح مدينة الله مقدس مساكن العلي (مز 46: 4).
في اختصار ارتبط العصر المسياني بالمياه المقدسة، التي تعطي ارتواءً، وتحوّل القفر أرضًا خصبة، تروي المؤمنين كأشجار فردوس الله، تنزع النجاسات وتطهر الأرض من عبادة الأصنام، وتُقدم حياة وتقديسًا... هذه المياه المقدسة هي المعمودية وعطية الروح القدس.
* لقد أنجبت المياه الأولى حياة، لا يتعجب أحد إن كانت المياه في المعمودية أيضًا تقدر أن تهب حياة.
* إنكم خارج الفردوس أيها الموعوظون؛ إنكم تشاركون آدم أباكم الأول في نفيه، والآن يفتح الباب (المعمودية كحياة فردوسية) وتعودون من حيث خرجتم.
القديس غريغوريوس النزينزي هكذا ترتوي النفوس في العصر المسياني كما تشبع الأجساد لا خلال الملذات الزمنية وإنما خلال تقديسها بالرب فيكون لها كل شيء صالحًا ومباركًا وطاهرًا. "وَالأَبْقَارُ وَالْحَمِيرُ (إشارة إلى الجسد) الَّتِي تَعْمَلُ الأَرْضَ تَأْكُلُ عَلَفًا مُمَلَّحًا مُذَرَّى بِالْمِنْسَفِ وَالْمِذْرَاةِ" [24].
كانت العادة أن يترك للحيوانات التي تعمل للأرض علفًا هو خليط من التبن مع بواقي قليلة من الحبوب، لكنه في العصر الميساني إذ تفيض الخيرات يُقدم للجسد طعامًا مملحًا ومُذري، أي يُنتزع عنه التبن والأتربة إلخ... علامة اهتمامنا بالجسد كعنصر صالح مقدس لحساب ملكوت الله.
بمجيء كلمة الله متجسدًا تقدست نظرتنا للجسد، لذلك حرم الرسول يوحنا منكري أن يسوع جاء في الجسد (1 يو 4: 2؛ 2 يو 7)؛ وقاومت الكنيسة الأولى الفكر الغنوسي القائل بأن الجسد عنصر ظلمة يجب تحطمه.
* ليس الجسد هو مصدر الشر إنما حرية الاختيار (الإرادة الحرة) .
* الجسد هو مسكن النفس.
* الجسد هو أداة الروح... العامل في صحبة النفس.
* صار الكلمة جسدًا لكي يُغير جسدنا إلى روح... ولكي يُقدس الجسد كله معه، إذ فيه تقدستي البكور.
"ويكون على كل جبل عالٍ وعلى كل أكمة مرتفعة سواقٍ ومجاري مياه في يوم المقتلة العظيمة حينما تسقط الأبراج" [25]. كأنه حتى الجبال العالية والتلال تجد مياها كافية، ربما يُشير ذلك إلى نعمة الله الغنية التي تفيض ليس فقط على البسطاء والعامة وإنما تجتذب ملوك ورؤساء وقادة وأشراف للإيمان، في اليوم الذي فيه يُقتل جاحدو الإيمان روحيًا هؤلاء الذين سقطوا كأبراج. كان يليق بالقيادات اليهودية أن تكون أبراجًا للعالم ترى مملكة المسيح وتكرز بها لكنها صارت مقاومة للحق فانهارت، الأمر الذي أحزن الرسول بولس.
ز. استنارة عظيمة: "ويكون نور القمر كنور الشمس، ونور الشمس يكون سبعة أضعاف كنور سبعة أيام في يوم يُجبر الرب كسر شعبه ويشفي رض ضربه" [26].
إذ يشفي الرب جراحات النفس والجسد مقدسًا الإنسان بكليته، بجميع طاقاته من غرائز وأحاسيس وعواطف وفكر إلخ... يحمل صورة خالقه "النور الحقيقي" فيصير نورًا للعالم، نورًا كاملًا في الرب (سبعة أضعاف علامة الكمال) فيسمع صوت العريس السماوي: "كُلك جميل يا حبيبتي وليس فيكِ عيبة" (نش 4: 7).
4. غضب الله على آشور:
27 هُوَذَا اسْمُ الرَّبِّ يَأْتِي مِنْ بَعِيدٍ. غَضَبُهُ مُشْتَعِلٌ وَالْحَرِيقُ عَظِيمٌ. شَفَتَاهُ مُمْتَلِئَتَانِ سَخَطًا، وَلِسَانُهُ كَنَارٍ آكِلَةٍ، 28 وَنَفْخَتُهُ كَنَهْرٍ غَامِرٍ يَبْلُغُ إِلَى الرَّقَبَةِ. لِغَرْبَلَةِ الأُمَمِ بِغُرْبَالِ السُّوءِ، وَعَلَى فُكُوكِ الشُّعُوبِ رَسَنٌ مُضِلٌّ. 29 تَكُونُ لَكُمْ أُغْنِيَّةٌ كَلَيْلَةِ تَقْدِيسِ عِيدٍ، وَفَرَحُ قَلْبٍ كَالسَّائِرِ بِالنَّايِ، لِيَأْتِيَ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ، إِلَى صَخْرِ إِسْرَائِيلَ. 30 وَيُسَمِّعُ الرَّبُّ جَلاَلَ صَوْتِهِ، وَيُرِي نُزُولَ ذِرَاعِهِ بِهَيَجَانِ غَضَبٍ وَلَهِيبِ نَارٍ آكِلَةٍ، نَوْءٍ وَسَيْل وَحِجَارَةِ بَرَدٍ. 31 لأَنَّهُ مِنْ صَوْتِ الرَّبِّ يَرْتَاعُ أَشُّورُ. بِالْقَضِيبِ يَضْرِبُ. 32 وَيَكُونُ كُلُّ مُرُورِ عَصَا الْقَضَاءِ الَّتِي يُنْزِلُهَا الرَّبُّ عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ وَالْعِيدَانِ. وَبِحُرُوبٍ ثَائِرَةٍ يُحَارِبُهُ. 33 لأَنَّ «تُفْتَةَ» مُرَتَّبَةٌ مُنْذُ الأَمْسِ، مُهَيَّأَةٌ هِيَ أَيْضًا لِلْمَلِكِ، عَمِيقَةٌ وَاسِعَةٌ، كُومَتُهَا نَارٌ وَحَطَبٌ بِكَثْرَةٍ. نَفْخَةُ الرَّبِّ كَنَهْرِ كِبْرِيتٍ تُوقِدُهَا.
يرى أغلب الدارسين أن ما ورد هنا هو وصف للخراب الذي حلّ بجيش سنحاريب، وإن كانت آشور بجيشها وقائدها تمثل قوى الظلمة الحاملة العداوة ضد الله بقيادة إبليس نفسه الذي يطلب أن يقتحم كنيسة الرب، أورشليمنا الداخلية، ليتربع في هيكل قلوبنا المقدس.
أ. "هوذا اسم الرب يأتي من بعيد غضبه مشتعل والحريق عظيم، شفتاه ممتلئتان سخطًا ولسانه كنار آكلة، ونفخته كنهر غامر يبلغ إلى الرقبة" [27]. "يأتيمن بعيد" لأنه أطال أناته على آشور لعله يتراجع عن كبرياء قلبه، وانتظر طويلًا إذ لا يطلب المعاقبة بل رجوع الكل إليه، ولا يزال يأتياسمه من بعيد مطيلًا أناته على الأشرار لعلهم يتوبوا. وكما يقول الرسول بولس: "أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته غير عالمٍ أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة" (رو 5: 4).
"أسم الله" حال في حياة الكنيسة، مُعلن في قلب المؤمن، قريب إليه أقرب من نفسه، أما بالنسبة للأشرار فيبدو له بعيدًا جدًا، بل وأحيانًا يظنه غير موجود. هذا الاسم هو برج حصين للمؤمنين (مز 18: 50) وغضب مشتعل وحريق عظيم للمقاومين.
شفتا الرب تقطران دسمًا لأولاده ومملوءتان سخطًا لجاحديه!
لسانه يدعو الكل لخيراته السماوية ويكون كنار آكلة للعصاة.
نفخته تهب عزاء وسلامًا فائقًا للكنيسة، إذ نفخ الرب في وجه تلاميذه ووهبهم روحه القدوس يعمل فيهم لغفران الخطايا (يو 20: 22)؛ أما لرافضي الإيمان فتكون نفخته كنهر غامر يبلغ بهم إلى الرقبة.
يُشبه الأمم بالحصاد الفارغ الذي كله قش بلا حنطة أو بخيول جامحة لا تضبطها اللجم، إذ يقول: "لغربلة الأمم بغربال السوء the sieve of nothingness" [28]، فأنهم يغربلون ولا يأتيالغربال بشيء. "وعلى فكوك الشعوب رسن (لجام) مضل" [28]. توضع اللجم في أفواههم لكنهم لا يسيرون في طريق الحق.
ب. "تكون لكم أغنية كليلة تقديس عيد وفرح قلب كالسائر بالناي ليأتي إلى جبل الرب إلى صخر إسرائيل. ويُسمع الرب جلال صوته ويُرى نزول ذراعه يهيجان غضب ولهيب نار آكلة نوء وسيل وحجارة بَرَد" [29-30].
تحول خراب العدو إلى فرح للشعب كما في ليلة فصحية... لعل ما يشغل المؤمنين ليس هلاك العدو - حتى إبليس نفسه وملائكته - إنما انتزاع العوائق فيأتون إلى جبل الرب، إلى السماء عينها متهللين. غايتنا لا الشماتة في عدو الخير وإنما تمتعنا بجلال الرب وسماعنا صوته.
ج. يرى إشعياء في عودة الشعب من السبي إلى أورشليم أشبه بموكب عسكري يدخل بلده بموسيقى عسكرية تعلن عن النصرة؛ "وَيَكُونُ كُلُّ مُرُورِ عَصَا الْقَضَاءِ الَّتِي يُنْزِلُهَا الرَّبُّ عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ وَالْعِيدَانِ. وَبِحُرُوبٍ ثَائِرَةٍ يُحَارِبُهُ" [32].
د. يُقدم صورة نهائية عن مدى خراب آشور؛ إذ يصور مكان النار "تفته Tophet"، الموضع الذي كانت البقايا تُحرق فيه خارج أورشليم، قد اُعد ليسع الملك "الإله ملّوخ" فيحترق بغضب الرب [33].
الاتكال على الذراع البشري
لما كان الاتكال على الذراع البشري أمرًا خطيرًا يُحطم الإيمان في حياة البشرية عبر الأجيال فلا نعجب. إن عالجه إشعياء النبي مرارًا من زوايا مختلفة. هنا يوضح النبي خطورة النزول إلى مصر لطلب حماية فرعون عوض ارتفاع القلب إلى الله القدوس كحصن حقيقي ومعين لشعبه.
1. الالتجاء إلى فرعون:
1 وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَنْزِلُونَ إِلَى مِصْرَ لِلْمَعُونَةِ، وَيَسْتَنِدُونَ عَلَى الْخَيْلِ وَيَتَوَكَّلُونَ عَلَى الْمَرْكَبَاتِ لأَنَّهَا كَثِيرَةٌ، وَعَلَى الْفُرْسَانِ لأَنَّهُمْ أَقْوِيَاءُ جِدًّا، وَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى قُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ وَلاَ يَطْلُبُونَ الرَّبَّ. 2 وَهُوَ أَيْضًا حَكِيمٌ وَيَأْتِي بِالشَّرِّ وَلاَ يَرْجعُ بِكَلاَمِهِ، وَيَقُومُ عَلَى بَيْتِ فَاعِلِي الشَّرِّ وَعَلَى مَعُونَةِ فَاعِلِي الإِثْمِ. 3 وَأَمَّا الْمِصْرِيُّونَ فَهُمْ أُنَاسٌ لاَ آلِهَةٌ، وَخَيْلُهُمْ جَسَدٌ لاَ رُوحٌ. وَالرَّبُّ يَمُدُّ يَدَهُ فَيَعْثُرُ الْمُعِينُ، وَيَسْقُطُ الْمُعَانُ وَيَفْنَيَانِ كِلاَهُمَا مَعًا.
يقدم لنا إشعياء النبي فكرًا روحيًا رائعًا، فإن موضوع الالتجاء إلى فرعون ليس مجرد خطة سياسية عسكرية لكنها موضوع لاهوتي يمس حياة الإنسان ومصيره الأبدي. من يتكئ على البشر مهما كثر عددهم أو إمكانياتهم أو قوتهم [1] إنما يلتصق بأناس جسدانيين مائتين فيصير مثلهم مائتًا، أما من يلتصق بالمخلص قدوس إسرائيل غير المتغير الأبدي فيحمل معه الخلود. اتكالنا على البشر يوحّدنا معهم فنهلك، واتكالنا على الله يربطنا به فنشاركه أمجاده الأبدية. هذا ما عناه عندما حذرهم قائلًا: "وأما المصريون فهم أناس لا آلهة، وخيلهم جسد لا روح، والرب يمد يده فيَعثر المعُين ويَسقط المُعان ويفنيان كلاهما معًا" [3].
لنتكئ إذن على الخالق الأبدي لا الخليقة الضعيفة العاجزة حتى على إعانة نفسها.
* "لا تتكلوا على الرؤساء" (مز 146: 4)...
الآن خلال نوع من ضعف النفس البشرية عندما يقع الإنسان في ضيقة ييأس من جهة الله، مختارًا أن يتكئ على إنسان.
ليقل لإنسان ساقط في ضيقة: "يوجد إنسان عظيم يُحررك"، للحال يبتسم ويبتهج وترتفع معنوياته، أما إن قيل له "الله يُحررك" فيسقط في حالة إحباط وييأس!
أنك تفرح عندما تنال عونًا من مائت، فكيف تحزن عندما تنال العون من الخالق؟!
لقد نلت وعدًا بأن يُحررك من هو محتاج أن يتحرر معك فترتفع معنوياتك كمن نال عونًا عظيمًا. ها أنت تنال وعدًا من (الله) المحرر الذي لا يحتاج إلى من يُحرره ومع ذلك تيأس كأنك تنال أمرًا واهنًا.
ويل لمثل هذه الأفكار، لقد ضلوا، حقًا صار فيهم موت خطير ومحزن!
* "تخرج روحه فيعود إلى ترابه، في ذلك اليوم تهلك كل أفكاره" (مز 146: 4)...
"قد رأيت الشرير عاتيًا فوق شجر لبنان، عبر فإذا هو ليس بموجود، والتمسته فلم يوجد" (مز 37: 35-36)...
كل هؤلاء قابلون للموت، سريعوا الزوال، هالكون.
إذن، ماذا يجب علينا أن نفعل إن كنا لا نترجى بني البشر ولا الرؤساء؟ ماذا يجب علينا أن نفعل؟ "طوبى لمن كان معينه إله يعقوب" (مز 146: 5)، لا يكون معينه هذا الإنسان أو ذاك، ولا هذا الملاك أو ذاك، إنما "طوبى لمن كان معينه إله يعقوب". فقد كان ليعقوب معينًا عظيمًا هكذا أقام من يعقوب إسرائيل. يا له من عون قدير! الآن هو إسرائيل "يرى الله"! أن بقيت أنت أيضًا هنا ولم تشرد عن رؤية الله، أن صار لك إله يعقوب معينًا، فأنك تتحول من يعقوب إلى إسرائيل؛ ترى الله، وتنتهي المتاعب وكل التنهدات وتبطل الارتباكات وتحل التسابيح السعيدة...
ليكن رجاؤك في الرب إلهك، ليكن رجاؤك فيه.
2. الله حامي أولاده:
4 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ لِيَ الرَّبُّ: «كَمَا يَهِرُّ فَوْقَ فَرِيسَتِهِ الأَسَدُ وَالشِّبْلُ الَّذِي يُدْعَى عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّعَاةِ وَهُوَ لاَ يَرْتَاعُ مِنْ صَوْتِهِمْ وَلاَ يَتَذَلَّلُ لِجُمْهُورِهِمْ، هكَذَا يَنْزِلُ رَبُّ الْجُنُودِ لِلْمُحَارَبَةِ عَنْ جَبَلِ صِهْيَوْنَ وَعَنْ أَكَمَتِهَا. 5 كَطُيُورٍ مُرِفَّةٍ هكَذَا يُحَامِي رَبُّ الْجُنُودِ عَنْ أُورُشَلِيمَ. يُحَامِي فَيُنْقِذُ. يَعْفُو فَيُنَجِّي».
إن كان عدو الخير إبليس يشبه أسدًا مزمجرًا يُريد أن يفترس ليأكل ويشبع ويهلك فريسته (1 بط 5: 8)، فإن "قدوس إسرائيل" هو الأسد الخارج من سبط يهوذا (رؤ 5: 5) لا يهلك الفريسة وإنما قادر أن يحميها. يقتني النفس كفريسة يحوط بها ليهبها سماته الملوكية فيُقيم مؤمنيه "كهنة وملوكًا" (رؤ 1: 6)، يهبهم خلوده وشركة أمجاده.
الله موضع ثقة قادر أن يحمينا وأيضًا أن يرعانا، لذا يُشبه نفسه بالأسد ملك الوحوش لا يقدر أحد أن يقف أمامه، وفي نفس الوقت كطائر يهتم بصغاره [5].
مسيحنا يرعانا على الصليب كأسد ربض ونام (تك 49: 9) ولم يقدر العدو أن يقترب إليه، ولا أن يقترب إلينا.
3. دعوة للرجوع إلى الله:
6 اِرْجِعُوا إِلَى الَّذِي ارْتَدَّ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنْهُ مُتَعَمِّقِينَ. 7 لأَنْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَرْفُضُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَوْثَانَ فِضَّتِهِ وَأَوْثَانَ ذَهَبِهِ الَّتِي صَنَعَتْهَا لَكُمْ أَيْدِيكُمْ خَطِيئَةً. 8 وَيَسْقُطُ أَشُّورُ بِسَيْفِ غَيْرِ رَجُل، وَسَيْفُ غَيْرِ إِنْسَانٍ يَأْكُلُهُ، فَيَهْرُبُ مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ، وَيَكُونُ مُخْتَارُوهُ تَحْتَ الْجِزْيَةِ. 9 وَصَخْرُهُ مِنَ الْخَوْفِ يَزُولُ، وَمِنَ الرَّايَةِ يَرْتَعِبُ رُؤَسَاؤُهُ، يَقُولُ الرَّبُّ الَّذِي لَهُ نَارٌ فِي صِهْيَوْنَ، وَلَهُ تَنُّورٌ فِي أُورُشَلِيمَ.
يكشف النبي عن غاية عمل الله معهم، فإن الرب يُحطم آشور بطريقة غير بشرية ولا طبيعية لا لاستعراض قوته الإلهية وإنما لاجتذاب نفوس جاحديه، إذ يقول الرب: "ارجعوا إلى الذي ارتد بنو إسرائيل عنه متعمقين... ويسقط آشور بسيف غير رجل وسيف غير إنسان يأكله..." [6، 8].
أليست هذه صورة خلاص الله الذي تم على الصليب حيث أسقط إبليس لا بفكر بشري ولا بسيف مادي وإنما ببذل حياته ذبيحة إثم عنا، ومحرقة حب لحسابنا وباسمنا، فتحطم العدو تحت أقدامنا ورجعنا إلى الله بأعماق جديدة لم يختبرها رجال العهد القديم مثلنا؟!
|
|
|
|
الساعة الآن 12:43 PM
|