منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05 - 04 - 2024, 10:31 AM   رقم المشاركة : ( 156561 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,320

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

Bible رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة






كيف نقرأ القدّيس بولس اليوم

منذ ألفي سنة وبولس الرسول يُلاحَق. ففي أعمال الرسل نرى اليهود يلاحقونه من مدينة إلى مدينة ويحرِّضون الناس عليه، وفي النهاية اعتبروه خائنًا لشعبه ولدينه. والكتب عديدة في أيّامنا عن دور شاول - بولس الذي حوَّر المسيحيَّة بحيث أضعنا وجه يسوع الحقيقيّ، فقال بعضهم: ما العلاقة بين يسوع ابن الجليل وبولس ابن طرسوس الذي لا حدود لأسفاره؟ ورسالة بطرس الثانية تعلن أنَّ في ما كتبَه بولس أمورًا صعبة الفهم يحرِّفها الجهّال وغير الراسخين في الحقّ (2 بط 3: 16). ومع ذلك أعلنت الكنيسة الكاثوليكيَّة بفم قداسة البابا بنديكتس السادس عشر هذه السنة (2008-2009) سنة بولسيَّة. وفي اجتماع بيبليّ في دار السلام بتنزانيا، تنادت الرابطة الكتابيَّة العالميَّة لكي ينفتح الباب واسعًا للمؤمنين بحيث يتعرَّفون إلى هذا المفكِّر السامي الذي طبع بطابعه العهد الجديد كلَّه. ونحن في هذا الشرق، كيف نقرأ القدّيس بولس اليوم، وكيف نفهم هذا الفكر العبقريّ الذي أخرج المسيحيَّة من قوقعتها في القدس الحاليَّة، في أورشليم، فأرادها ديانة عالميَّة لا تترك إنسانًا لامباليًا أمام كتاباته.

وهكذا نتوقَّف عند ثلاثة وجوه من تعليمه: موضع المرأة في المجتمع، موضع الشريعة القديمة تجاه شريعة المسيح، موضع الإنسان بين الخطيئة والنعمة ومفهوم القدر.

1. لا رجل ولا امرأة

لا مجال للتمييز في فكر القدّيس بولس. ذاك ما كتبه إلى كنائس غلاطية حيث رفض اليهوديّ أن يأكل على مائدة واحدة مع غير اليهوديّ. ذكَّرهم بما حصل في أنطاكية. واستخلص: »لا فرق الآن بين اليهوديّ والأمميّ (أو غير اليهوديّ)، بين العبد والحرّ، بين الرجل والمرأة. فأنتم كلُّكم واحد في المسيح يسوع« (غل 3: 28).

ما هذا القول؟ هل تكون المرأة على مستوى الرجل، مع أنَّ المبدأ الشرقيّ العامّ يقول: هي خادمة أولادي وملبِّية حاجاتي؟ تلك هي الثورة التي أعلنها الرسول في الكنيسة وفي العالم. ونحن نعرف أنَّ الرجل اليهوديّ الذي يصلّي اليوم يشكر الله لأنَّه لم يُولَد »امرأة« و... و...

أعلن بولس المبدأ العامّ في منطقة تأثَّرت بالتعاليم اليهوديَّة، وعاد فأعلنه في إطار يونانيّ، فقال للمؤمنين: خَلعتم الإنسان القديم ولبستم الإنسان الجديد (كو 3: 9-10)، صارت المرأة حرَّة فلماذا تجعلونها عبدة؟ هي مساندة للرجل منذ البداية، فلماذا تسجنونها في تقاليد موروثة منذ القدم، فتبقى داخل الخيمة لا ترى أحدًا ولا تكلِّم أحدًا ولا تسلِّم على أحد. صارت »مُلكًا« بيد الرجل يحافظ عليها كما يحافظ على متاعه. أمَا جعلَ سفر الخروج المرأة بمنزلة البيت والعبد والجارية والثور والحمار؟ (خر 20: 27)، ومنع الإنسان من أن يشتهيها؟

أمّا المبدأ عند بولس الرسول فالمساواة بين الرجل والمرأة. هنا نقرأ الفصل السابع من الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس، فنفهم أنَّ كلَّ شيء يتمُّ بالتفاهم بين الرجل والمرأة، بحيث لا يفرض الرجل رأيه على امرأته التي يجب أن تخضع خضوع الذلّ، وما يسري على الرجل يسري على المرأة. وها نحن نورد النصَّ أوَّلاً في الحياة اليوميَّة:

فليكن لكلِّ رجل امرأته

ولكلِّ امرأة زوجها (آ2).

لا مجال لكثرة الزوجات. ولا مجال للزنى وما اعتاد عليه الرجل من دوران في شرقنا فيجعل ضميره »مرتاحًا« بالنسبة إلى امرأته.

على الزوج أن يوفي امرأته حقَّها

كما على المرأة أن توفي زوجها حقَّه (آ3).

ما كانت تطلب المرأة من الرجل؟ أن يؤمِّن لها الطعام والشراب والمأوى، وغير ذلك هو حرٌّ في تصرُّفاته. والحقوق الزوجيَّة؟ لا حقَّ للمرأة على زوجها سوى الطاعة. أمّا الرسول فيذكِّر الرجل بواجباته. وما يدهشنا هو أنَّ على المرأة أن توفي زوجها حقَّه. بكلِّ حرِّيَّة، لا رغمًا عنها، لا بالقسر وربَّما بالضرب وسائر المعاملات السيِّئة.

لا سلطة للمرأة على جسدها، فهو لزوجها،

وكذلك الزوج، لا سلطة له على جسده، فهو لامرأته (آ4).

زوج واحد، امرأة واحدة، بحسب ما قيل في البدء: »يترك الرجل أباه وأمَّه ويتَّحد بامرأته فيكون الاثنان جسدًا واحدًا« (تك 2: 24). في الأصل: لحمًا واحدًا. لهذا قال آدم: »هي لحم من لحمي وعظم من عظمي« (آ23). الزنى ممنوع. فجسد المرأة لا يخصُّها، وكذلك جسدُ الرجل لا يخصُّه. تلك هي الأمانة الرفيعة التي إليها يدعو بولس الرجل والمرأة. لا إكراه ولا قسر، بل يقين داخليّ. وإذا أراد واحد أن يبتعد عن الآخر، يكون ذلك »بالاتِّفاق« (آ5) ولفترة محدودة.

ذاك على مستوى العلاقات الزوجيَّة. وإذا كانت صعوبات؟! لا فرق بين الرجل والمرأة. فعلى المستوى المسيحيّ، لا سلطة سوى سلطة المحبَّة والخدمة. وتقول لنا الرسالة إلى أفسس: »يجب على الرجال أن يحبُّوا نساءهم كما يحبّون أجسادهم« (أف 5: 28)، بحيث يستعدُّون للتضحية على مثال ما فعل المسيح من أجل كنيسته حيث »ضحّى بنفسه من أجلها« (آ25). قال الرسول إلى أهل كورنتوس، وإلينا اليوم:

لا تفارق المرأة زوجها (آ10).

وإن فارقته فلتبقَ بغير زواج،

أو فلتصالح زوجها (آ11أ).

وما قيل عن المرأة يُقال عن الرجل:

وعلى الزوج أن لا يطلِّق امرأته (آ11ب).

وما كتبه الرسول على مستوى الحياة اليوميَّة، يكتبه على مستوى الحياة الروحيَّة سواء في البيت أو في جماعة الصلاة. كان العالم اليهوديّ يعتبر الرجل وحده »تقيٌّا«، أمّا المرأة فلا يمكن أن تكون »تقيَّة«. فمؤنَّث »تقي« لم يكن موجودًا. ثمَّ إن تراخت المرأة في حفظ الوصايا، لا بأس. فهي كائن ضعيف، »ناقصة العقل«. هذا ما لا يقبل به بولس في خطِّ التعاليم الإنجيليَّة:

الزوج غير المؤمن يتقدَّس بامرأته المؤمنة،

والمرأة غير المؤمنة تتقدَّس بزوجها المؤمن (آ14).

ولكن ماذا تستطيع المرأة أن تفعل لزوجها؟ لا شيء كما كانوا يقولون. هو وحده القادر أن »يخلِّصها« وهي تتقبَّل منه كلَّ مساعدة. كلاّ فهي قادرة كما هو قادر. وهنا يكون التبادل أيضًا:

أما تعلمين أيَّتها المرأة المؤمنة أنَّك تخلِّصين زوجك؟

أما تعلم أيُّها الرجل المؤمن أنَّك تخلِّص امرأتك؟ (آ16).

وكما في الحياة اليوميَّة، كذلك في حياة الجماعة: الرجل يصلّي والمرأة أيضًا. الرجل يعلِّم والمرأة كذلك. الرجل يرنِّم والمرأة كذلك (1 كو 14: 26). لا يمكن أن تُفصَل المرأة عن الرجل في تمجيد الله وتسبيحه، وكلاهما مخلوقان على صورة الله ومثاله (تك 1: 26-27). في هذا المجال نقرأ لائحة أسماء الذين واللواتي يعملون في الرسالة: أوَّلهم فيبة، شمّاسة الكنيسة. ثمَّ عائلة مسيحيَّة برسكلَّة وأكيلا (ذُكرت المرأة قبل الرجل). ذُكر أبينيتوس وهو مسيحيٌّ آتٍ من العالم اليونانيّ وحالاً ذُكرت مريم الآتية من العالم اليهوديّ. وذُكر أندرونيكس وذُكرت معه يونيا زوجته (رو 16: 1ي). فكيف لا تستفيد الكنيسة من نصف المجتمع في أعمال الصلاة والرسالة والخدمة؟ والمثال الكبير هو الراهبات اللواتي تدعوهنَّ الكنيسة »لؤلؤة« في جبينها.

ولكن ما نلاحظ في هذه الثورة التي لا يمكن أن يقبلها الرجل في القرن الحادي والعشرين، وتعتبرها المرأة ناقصة هو أنَّ الرجل الذكر رأى أنَّه لم يَعُد »رأس« البيت والسيِّدَ المطاع. والمرأة اكتشفت أنَّها يجب أن »تصمت« كما هو الأمر في جماعات أورشليم، لأنَّه لا يجوز لها »التكلُّم« (1 كو 14: 33-34). من جهة أعلن بولس »إنجيله« بدون »مساومة«. ومن جهة ثانية خفَّف من حدَّة هذه المتطلِّبات. فتقول النساء: عاد إلى الوراء. أو استعاد بيدٍ ما أعطاه باليد الخرى. وربَّما يكون تلاميذه نزعوا بعض فتيل الثورة. وكلّ هذا من أجل السلام في الجماعة (1 كو 14: 33). أمّا الهدف فَرعَويّ.

»وكما تصمت النساء في جميع كنائس الإخوة القدِّيسين (أي في الكنيسة الأولى، في أورشليم)، فلتصمت نساؤكم (يا أهل كورنتوس) في الكنائس، فلا يجوز لهنَّ التكلُّم، وعليهنَّ أن يخضعن كما تقول الشريعة« (1 كو 14: 33-34).

هل نتخيَّل أن يلجأ بولس إلى الشريعة ليُسند كلامه؟ هو أمر صعب بالنسبة إلى من قال: »مُتنا عمّا كان يعتقلنا وتحرَّرنا من الشريعة« (رو 7: 6)! هل نتصوَّر بولس راجعًا إلى العادات اليهوديَّة حيث المرأة ليست بشيء في صلاة الجماعة؟ كلاّ. ومع ذلك يواصل النصّ: »فإن أردن (= النساء) أن يتعلَّمن، فليسألن أزواجهنَّ في البيت، لأنَّه عيب على المرأة أن تتكلَّم في الكنيسة« (آ35).

مراعاةً للعالم اليهوديّ ولعادات المؤمنين في أورشليم، فُرض على المرأة الصمت لا باسم مبدأ إنجيليّ، بل باسم السلطة: »هل صدرت عنكم كلمة الله، أم انتهت إليكم وحدكم؟« (آ36). واعتُبر هذا الترتيب من أجل »النظام في الكنيسة«. وفي الإطار عينه نتكلَّم عن »الغطاء« على الرأس، سواء كان الشعر أو الحجاب. ماذا كانت الخلاصة؟ هكذا يفعلون في »أمِّ الكنائس«، القدس. فلا مجال للمناقشة في خطِّ مجمع أورشليم: »فإن أراد أحد أن يعارض فما هذا من عادتنا ولا من عادة كنائس الله« (1 كو 11: 16).

نشير هنا إلى أمرين. الأوَّل، تغطّي المرأة الشرقيَّة رأسها فقط بل وجهها أيضًا بسبب المناخ الصحراويّ، والرجل يفعل أيضًا مثلها. أمّا المرأة الغربيَّة فلا تحتاج إلى ذلك فتمشي »مكشوفة الرأس« (آ13). يبقى على المؤمنات الجديدات في كورنتوس أن يراعين أخواتهنَّ الآتيات من الشرق للمشاركة في الصلاة. والأمر الآخر يتعلَّق بمدينة كورنتوس وسائر المدن الوثنيَّة: المرأة »على الرصيف« تقصُّ شعرها لتُعرف، والرجل يطيل شعره. لهذا نبَّهت الرسالةُ المرأةَ بأن شعرها فخرٌ لها، سترٌ لها. أمّا الرجل، فمن العار »أن يطيل شعره«. من يعلِّمنا هذا؟ »الطبيعة نفسها« (آ14-15). وهكذا ما قيل عن »الغطاء« على الرأس بالنسبة إلى المرأة، هو شعرها. إذًا هي حرَّة بأن تغطّي رأسها أو لا. وطول الشعر أو قصره أمرٌ تعدَّاه الزمن

وكان الجدال: من هو الأوَّل؟ وعادت الرسالة إلى العهد القديم: المرأة خُلقت من الرجل، كما في رمزيَّة سفر التكوين، وخُلقت من ضلع من أضلاعه لكي يكون موضعها في قلبه، لا عند قدميه. فإذا كانت المرأة من الرجل كما يقولون، يجب أن تخضع له. ويعيد الرسول التوازن: »إذا كانت المرأة أُخذت من الرجل، فالرجل تلده المرأة، وكلُّ شيء يأتي من الله« (1 كو 11: 12).

إذًا، من يخضع للآخر؟ ويأتي الجواب في الرسالة إلى أفسس: »ليخضع بعضكم لبعض بمخافة المسيح« (أف 5: 21). كلُّ شيء يكون في المسيح على مستوى الحبِّ والتضحية. وما يُشرف هنا، مخافة الله التي هي رأس الحكمة. إذًا، تبادلٌ في الخضوع وفي العطاء، تبادل في الحياة على جميع مستوياتها بحيث لا يدخل أحد ولا شيء بين الرجل والمرأة.

قراءة القدّيس بولس ليست بالأمر السهل وفهمه أصعب. ومع ذلك فرسائله تنطلق من الواقع البسيط جدٌّا وترفعنا إلى مستوى الله فالعلاقة بين الرجل والمرأة سرّ، على مثال العلاقة بين المسيح والكنيسة (آ25). وكلُّ الحلول التي تبقى ملتصقة بالأرض وبالأمور المادِّيَّة، لا يمكن أن تبني عائلة ولا جماعة. إنَّما يبقى المبدأ: لا رجل ولا امرأة. فكلُّكم واحد في المسيح.

2. الشريعة القديمة وشريعة المسيح

أُعطيَت الوصايا على جبل سيناء وسط البروق والرعود، وأضيفت الفرائض العديدة والفتاوى، وفي النهاية مع المعلِّمين في زمن بولس صارت الوصايا 613 وصيَّة. هذا ما ندعوه الشريعة والقوانين التي تُفرَض على الإنسان، والويل لمن يقع في وصيَّة واحدة، فكأنَّه وقع في جميع الوصايا، وما فادته بشيء هذه الممارسةُ ولا تلك.

بهذه الشريعة تعلَّق الرسول بحيث استطاع أن يقول، لو هو قال: »حياتي هي الشريعة«. ومن أجل هذه الشريعة أراد أن »يقاتل« المسيح ويلاحقه من مدينة إلى مدينة، من أورشليم إلى دمشق، ليُخفي أثر أَتْباعه.

ولكن تقولون: هذه الشريعة قديمة بعد أن ارتبطت بالعالم اليهوديّ القديم. فما لنا ولها؟ ولكنَّ الشريعة حاضرة اليوم في عالمنا وهي تفرض نفسها بالقوَّة، لا على المستوى الدنيويّ فقط بل على المستوى الدينيّ. والويل لمن يعارض أو يرفض ممارستها. وأعطي مثلاً قديمًا عن رجل خالف شريعة السبت: كان ذاك الفقير يجمع حطبًا. يا للخطيئة الكبيرة! أخرجته الجماعة من المخيَّم ورجمته (عد 15: 32). وكذا نقول عن الزانية التي يجب أن تُرجم، بل إنَّ الذي يعلِّم تعليمًا يختلف بعض الاختلاف عن تعليم المعلِّمين الرسميّ يُحرم من عيشه، من امرأته، ويُرسَل إلى المنفى. فالشريعة سيِّدة وهي تقول اليوم كما في الماضي: »ماذا نأكل وماذا لا نأكل. نأكل البقر والضأن والمعز والغزال، ولا نأكل الجمل والأرنب والدب وغيرها من الحيوانات« (لا 14: 3ي). وهكذا صار الإنسان مقيَّدًا بشرائع تنسى أنَّ كلَّ ما خلقه الله هو حسن. وجاءت عبارات ردَّدها بولس بلسان بعض الضعفاء: »لا تلمس، لا تذق، لا تمسك« (كو 2: 21). قال الرسول مبيِّنًا أنَّ كلَّ هذا أمرٌ نسبيّ: »كلُّ هذه الأشياء تزول بالاستعمال (آ22).

في البداية كان بولس قاسيًا مع الشريعة، رافضًا لها حين تأتي من خارج الإنسان، لا من داخله. فقال فيها مثلاً: »ما عرفتُ الخطيئة إلاَّ بالشريعة. فلولا قولها لي: ''لا تشتهِ!'' لما عرفتُ الشهوة« (رو 7: 7). وأضاف: »الخطيئة وجدت... فرصة لتثير فيَّ الشهوة، لأنَّ الخطيئة بلا شريعة ميتة« (آ8). أجل، الخطيئة اتَّخذت من الوصيَّة، (من الشريعة)، سبيلاً فخدعَتْني بها وقتلتني« (آ11).

فالشريعة في ممارستها الخارجيَّة تفصل الإنسان عن أخيه الإنسان، وتجعل حاجزًا بين جماعة وجماعة. في هذا الإطار نقرأ ما كتب بولس إلى أهل رومة، ونرى كيف ينطبق علينا الآن، لا في الشرق فقط، بل في العالم الغربيّ مع الأطعمة الطاهرة والأطعمة النجسة. قال: »من الناس من يرى أن يأكل من كلِّ شيء. ومنهم من هو ضعيف فلا يأكل إلاَّ البقول. فعلى من يأكل من كلِّ شيء أن لا يحتقر من لا يأكل مثله. وعلى من لا يأكل كلَّ شيء أن لا يدين من يأكل من كلِّ شيء« (رو 14: 2-3). خاف ابنُ الشريعة اليهوديَّة العائش وسط عالم وثنيّ أن لا يكون اللحم »طاهرًا« بحسب الشريعة، فتحاشى أن يأكل. وما الذي يجعل الطعام طاهرًا سوى الله الذي خلقه حسنًا، لا الإنسان الذي يفرض عاداته الآتية منذ أعماق التاريخ لأسباب لا تمتُّ إلى الدين بصلة. وخاف ابن التيّارات الدينيَّة من الخمر واللحم وحتّى من حياة الزواج. ولا نقول اليوم شيئًا عن ابن الديانات الهنديَّة. قال الرسول: إن أكلتم لا تزدادون شيئًا. وإن لم تأكلوا لن تنقصوا شيئًا (1 كو 8: 8). وجاءت الآية الرائعة: »ليس ملكوت الله أكلاً وشربًا، بل برٌّ وسلام وفرح في الروح القدس« (رو 14: 3). وجاء التنبيه الرائع المبنيّ على المحبَّة: »لا تجعل من طعامك سببًا لهلاك من مات المسيح من أجله« (آ15).

وهكذا انفصل الجار عن جاره في أمور عديدة من أكل وشرب ولبس. هي عادات بها تستطيع الجارة أن تحكم على جارتها وتعرف سريرتها. وأين السبت؟ شريعة قديمة استخرجناها من الكتب المقدَّسة وطبَّقناها خطأ، وهكذا حمينا نفوسنا وحطَّمنا الآخرين. وما نقوله عن الأفراد نقوله عن الجماعات. تحدَّث بولس عن الحاجز الذي يفصل اليهوديّ عن اليونانيّ، من يعيش بحسب الشريعة الموسويَّة عن ذاك الذي »لا شريعة له« كما يقولون. ولكن بولس يعلن حالاً: من قال لك إنَّه بلا شريعة. الفطرة، الضمير... تلك هي شريعة. الضمير صوتُ الله في داخلنا. هو يقول لنا في أعماقنا ما يجب أن نعمل وما ينبغي أن نتجنَّب. وباسم هؤلاء وأولئك قال الرسول: »صرتُ لأهل الشريعة من أهل الشريعة، وإن كنتُ لا أخضع للشريعة، لأربح أهل الشريعة، وصرتُ للذين بلا شريعة كالذي بلا شريعة لأربح الذين هم بلا شريعة، مع أنَّ لي شريعة من الله بخضوعي لشريعة المسيح« (1 كو 9: 20-21).

نحن الأقوياء نفرض على الضعفاء إرادتنا! نحن الأكثريَّة نحطِّم الأقليَّة. ما الذي يجري اليوم في عصرنا؟ ذاك ما حصل للمؤمنين في رومة: الأكثريَّة آتية من عالم اليونان، ففرضت عاداتها على الآتين من العالم اليهوديّ. وبَّخهم بولس على ذلك وأعطى من نفسه مثالاً: »صرتُ للضعفاء ضعيفًا لأربح الضعفاء. وصرتُ للناس كلِّهم كلَّ شيء لأخلِّص بعضهم بكلِّ وسيلة« (آ22).

المبدأ: أن أربح الناس. وهم يربحونني في عمق شخصيَّتي. المبدأ أن يجتمع الناس في الخدمة بعضهم لبعض. تخيَّلوا ذاك الرجل الجريح الذي تحدَّث عنه يسوع في أحد أمثاله الإنجيليَّة (لو 10: 25-35). هو يمشي على يمين الطريق، لأنَّه يهوديّ. ولباسه مميَّز عن لباس الآخرين، ولاسيَّما الغرباء عن الدين. مرَّ بقربه كاهن يهوديّ، ففضَّل أن ينتقل إلى الجهة الثانية من الطريق. ما الذي منعه من الاقتراب إليه؟ الشريعة، الدم على هذا الجريح. قال: إن لمستُه تنجَّست ومُنعتُ من الخدمة في الهيكل. أمّا السامريّ، ابن نابلس الحاليَّة في فلسطين، الذي كان يسير على شمال الطريق ويلبس لباسًا يميِّزه عن لباس اليهود، فنسيَ كلَّ هذه الأمور ولو اعتبرها البعض من أساس الدين مع أنَّها جُعلت هنا لإذلال الأقلِّيَّة ولإظاهر قوَّة الأكثريَّة، بما معناه: إلهنا أقوى من إلهكم وكأنَّ هناك إلهين أو أكثر. أجل نسيَ هذا السامريّ شريعة النجاسة وتذكَّر شريعة واحدة: المحبَّة. في هذا المجال قال الربُّ يسوع لأناس قلوبهم قاسية: »أيحلُّ في السبت عمل الخير أم عمل الشرّ؟ إنقاذ نفس أم إهلاكها؟« (مر 3: 4). ساد الصمت، فبدا يسوع حزينًا. هل صار الإنسان في خدمة السبت؟ هل صار الإنسان عبدًا للشريعة؟

وحزن بولس لوضع مماثل حصل في أنطاكية. مدينة كبيرة فيها من كلِّ الأشكال والألوان. والمؤمنون يكوِّنون جماعة واحدة. ما أحلاهم! ولكن أتت الشريعة اليهوديَّة ففصلت بينهم، كما يفصل بيننا اليوم عددٌ من الفرائض. كانوا كلُّهم يشاركون في المائدة الواحدة، مائدة المحبَّة. بولس الرسول يوجِّه إنجيله إلى الأمم، إلى اليونان وغيرهم. وبطرس إلى أهل الختان مع بعض التنازل لأنَّه فهم أنَّ التطهير لا يقوم على ممارسات خارجيَّة. قال متحدِّثًا عن اليهود والأمم الوثنيَّة: »فما فرَّق بيننا وبينهم في شيء، فهو طهَّر قلوبهم بالإيمان« (أع 15: 9). ثمَّ أضاف: »نحن نؤمن أنَّنا نخلُص بنعمة الربِّ يسوع كما هم يخلصون« (آ11).

باسم الله نحن معًا. نجلس إلى مائدة واحدة. ولكن باسم »الشريعة« يفترق الواحد عن الآخر. فالمختون لا يكون مع اللامختون. فإذا كان هذا المختون لا يعيش حسب وصايا الله، أما يكون وكأنَّه لم يُختَن ولم يُحسَب منتميًا إلى »شعب الله«، إلى »المؤمنين«؟ ما الذي حصل في أنطاكية؟ »جاء قوم من عند يعقوب« (غل 2: 12)، وهو المعروف بدفاعه عن الشريعة، فاعتزل بطرسُ الجماعة. ترك الأممَ وحدَهم وكأنَّهم مؤمنون من الدرجة الثانية. أذلَّهم ساعة كان يجب أن يرفعهم. أمّا بولس فما استطاع أن يقبل بهذا الوضع. فهذا الحاجز الموجود بين فئة وفئة، بين مذهب ومذهب، بين دين ودين، أزاله يسوع. قال الرسول إلى أهل أفسس: »جعلَ اليهودَ والأمم شعبًا واحدًا، هدم الحاجز الذي يفصل بينهما، أي العداوة، وألغى بجسده شريعة موسى بأحكامها ووصاياها ليخلق في شخصه من هاتين الجماعتين إنسانًا واحدًا جديدًا، بعدما أحلَّ السلام بينهما« (أف 2: 14-15).

فصلت الشريعةُ بين بعيد وقريب، بين غريب وأهل البيت، بين الأبناء والكلاب. وهنا تأتي العداوة. قال الرسول: »المسيح قضى على العداوة« (آ16) بشَّر بالسلام البعيدين والقريبين، ابن (وابنة) هذا الدين وذاك، بين ابن (وابنة) هذا المذهب وذاك؟ فكيف يجسر المؤمن، في الخطِّ البولسيّ، أن يحسب الآخرين »غرباء أو ضيوفًا مع أنَّهم من القدّيسين وأهل بيت الله« (آ19)؟ في العمق الإيمانيّ، نحن كلُّنا ضيوف لدى الله، وهو يستقبلنا كما نحن، سواء شابهنا الابن الضالّ الآتي من البعيد (لو 15: 13) أو الابن الأكبر الذي اعتبر نفسه »مع والده في كلِّ حين« (آ31) مع أنَّ قلبه لم يكن مع أبيه، بل مع »أصحابه« (آ29) حول جديٍ يفرحون به.

هل الشريعة تجمع الناس؟ ولكن أيُّ شريعة؟ يكفي أنَّ نمرَّ في بلاد الهند لنعرفَ كيف تتلوَّن الشريعة بلون المنطقة التي تقيم فيها. منهم من لا يأكل شيئًا من تحت الأرض (البطاطا مثلاً). وآخرون يأكلون ما يتعلَّق بالأغصان. منهم من يحترم هذه الخليقة وآخر يبتعد عن تلك لأنَّها نجسة. وفي الشرق القديم هناك المانويّون مثلاً الذين انطلقوا من اليهوديَّة والمسيحيَّة والبوذيَّة، خافوا أن يمشوا على العشب، كما تورَّعوا أن يقطفوا من البقول الكميَّة الكبيرة. وربَّما راح أبو العلاء المعرّي في خطِّهم فقال: »سرْ إن استطعت في الهواء رويدًا«.

الشرائع عديدة. فلا بدَّ من البحث عن شريعة واحدة تجمع البشريَّة كلَّها. هنا قال الرسول: »لو تكلَّمتُ بلغات الناس والملائكة ولم تكن فيَّ المحبَّة، فما أنا إلاَّ نحاس يطنُّ أو صنج يرنّ. ولو وُهبتُ النبوءة وكنتُ عارفًا كلَّ سرٍّ وعلم، ولي الإيمان الكامل لأنقل الجبال، ولم تكن فيَّ المحبَّة، فما أنا بشيء« (1 كو 13: 1-2). ويتابع: »لو فرَّقت أموالي... لو... بدون محبَّة، هذا لا ينفعني« (آ3). ونقول: كلُّنا عندنا محبَّة. أنا أحبُّ جميع الناس. أنا أحبُّ البشريَّة لأنَّنا كلُّنا من إنسان واحد. أمّا بولس فلا يكتفي بهذا الكلام العامّ، بل يقول لنا كيف تكون هذه المحبَّة، وكيف نمارسها. ما تحدَّث عن الطقوس ولا عن الممارسات الدينيَّة. ما تحدَّث عن عادات فرضَتْ نفسَها علينا فحسبناها الدين مع أنَّ الدين برّاء منها. »تنازل« بولس إلى الحياة اليوميَّة: المحبَّة هي الصبر والرفق. المحبَّة هي الصفح والأمانة والرجاء. حيث المحبَّة لا وجود للحسد ولا للتفاخر ولا للكبرياء. المُحبُّ لا يحتدّ، لا يغضب، لا يظنُّ السوء. المحبّ لا يتصرَّف سيِّئًا من أجل منفعته، بل يطلب ما هو لغيره.

والوصايا عديدة. حتّى الوصايا العشر بمتفرِّعاتها. لهذا جاء من يسأل يسوع عن »الوصيَّة العظمى« (مت 22: 34ي)، الوصيَّة التي تلخِّص الوصايا بحيث لا يُتعب المؤمن قلبَه فيحفظ لائحة طويلة من الفرائض. وجواب يسوع جاء بسيطًا: المحبَّة. وفي هذا الخطّ سار بولس الرسول. حمل إليه أهل الشرق »وصايا«، وكذلك أهل رومة. ماذا نفعل في الحياة اليوميَّة؟ قال: »فالوصايا التي تقول: لا تزنِ، لا تقتل، لا تسرق، لا تشتهِ وسواها من الوصايا، تتلخَّص في هذه الوصيَّة: أحببْ قريبك مثلما تحبُّ نفسك. فمن أحبَّ قريبه لا يسيء إلى أحد. فالمحبَّة تمام الشريعة« (رو 13: 9-10). والمحبَّة تكون صادقة (رو 12: 9) تدعونا إلى الاتِّفاق، إلى الفرح مع الفرحين، إلى البكاء مع الباكين، إلى التواضع والوداعة (آ15).

كيف نقرأ بولس اليوم؟ تارة يقول عن الشريعة إنَّها حرَّكت الشهوة فيَّ، وطورًا يقول: »الشريعة مقدَّسة، والوصيَّة مقدَّسة وعادلة وصالحة« (رو 7: 12). فكرُ بولس أوسع من أن نقرأه بسرعة كما يفعل العديد في شرقنا العربيّ، فهو يرفع الإنسان فوق الإنسان، ويدعوه إلى لقاء إخوته وأخواته لا على أمور مادِّيَّة نفعيَّة، بل على مستوى الله، لأنَّ الله محبَّة: »فمن ثبت في المحبَّة ثبت في الله والله ثبتَ فيه« (1 يو 4: 16). فكيف أثبتُ في الله وحدي؟ هذا مستحيل على مثال ما قال أحد الأبطال في الكتب المقدَّسة: أو نموتُ معًا أو نحيا معًا.

3. نعمة الله ظهرت لجميع البشر

حين كان شاول - بولس - ماضيًا من أورشليم إلى دمشق لكي يلاحق المسيحيّين الذين تركوا الإيمان اليهوديّ والتحقوا بيسوع وأخذوا طريقًا آخر، دُعيَ الطريق (أع 9: 2)، في ذلك الوقت تصدَّى له يسوع بنعمته، تصدّى له يسوع ذاته وكأنَّه يقول له: إلى أين أنت ذاهب؟ كانوا يذهبون إلى أورشليم لكي يتعلَّموا الشريعة، أمّا بولس فترك الشريعة الموسويَّة ليأخذ بشريعة المسيح. لهذا هتف في الرسالة إلى فيلبّي: »حياتي هي المسيح، والموتُ ربحٌ لي« (فل 1: 21).

كان بولس ذلك الخاطئَ فبرَّره الله في دمشق حين اعتمد على يد حنانيَّا. كان ذاك المضطهدَ الذي يلاحق المسيحيّين، فسوف يضطهده أبناء قومه ويلاحقونه حتّى الموت. كان متحمِّسًا لقضيَّة »محدودة«، مغلقة على طائفة من الطوائف، فتحوَّل حماسُه كلُّه لقضيَّة أسمى هي قضيَّة يسوع المسيح. فاستطاع أن يهتف باسمه وباسم كلِّ إنسان: »فنعمة الله، ينبوع الخلاص لجميع البشر، ظهرت لتعلِّمنا أن نمتنع عن الكفر وشهوات هذه الدنيا لنعيش بتعقُّل وصلاح وتقوى في العالم الحاضر« (تي 2: 11-12).

النعمة. العطيَّة المجّانيَّة لكلِّ واحد منّا، للبشر جميعًا. والنعمة في النهاية هي يسوع المسيح. والرسول نفسه يقول: »الله الذي ما بخل بابنه، بل أسلمه إلى الموت من أجلنا جميعًا، كيف لا يهب لنا معه كلَّ شيء« (رو 8: 32). أجل، أعطيَت لنا نِعم. ولكنَّ النعمة النعمة هي الابن يسوع المسيح. كما نقول: في الكتب المقدَّسة كلمات وكلمات. ولكنَّ يسوع المسيح هو الكلمة لدى الله لأنَّه الله.

هذه النعمة أخرجَتْنا من العبوديَّة: عبوديَّة الشريعة، عبوديَّة العناصر الأوَّليَّة، عبوديَّة الرؤساء والسلاطين، عبوديَّة القدر والمصير المجهول الذي يخاف منه الإنسان.

تحدَّثنا عن الشريعة ويمكن أن نقابلها مع العبد الذي يقود الطفل إلى المدرسة. ولكن حين صرنا أبناء الله، لم نعد عبيدًا، بل صرنا أحرارًا. أمّا الغلاطيّون المقيمون في الجبال التركيَّة حول أنقرة، فبعد أن صاروا أحرارًا عادوا إلى العبوديَّة. بعد أن نالوا العماد طلبوا الختان، وطلبوا الممارسات اليهوديَّة القديمة، لأنَّها محدَّدة ولا تطلب تفكيرًا كبيرًا. وبَّخهم الرسول وقال لهم أين موقع حرِّيَّتنا؟ في الشريعة أم في المسيح يسوع؟ أراد الإخوة الدخلاء الآتون من خارج المنطقة أن »يستعبدونا، أن يتجسَّسوا الحرِّيَّة التي لنا في المسيح يسوع، فما استسلمنا لهم ولا خضعنا لحظة واحدة« (غل 2: 4). أجل المؤمن حرٌّ في الربِّ الإله. لهذا قال الرسول إلى الغلاطيّين: »فأنتم يا إخوتي دعاكم الله إلى الحرِّيَّة... دعاكم الله لتكونوا أحرارًا« (غل 5: 13أ). ولكنَّه استدرك حالاً: »ولكن لا تجعلوا هذه الحرِّيَّة حجَّة لإرضاء شهوات الجسد، بل اخدموا بعضكم بعضًا بالمحبَّة« (آ13ب). لا. الحرِّيَّة لا تعني الفلتان بل التمسُّك بالله بملء إرادتنا. الحرِّيَّة لا تقوم في خدمة نفوسنا بالأنانيَّة ولو على حساب الآخرين، بل في خدمة الآخرين في المحبَّة.

قيل للمؤمنين: كيف تُستعبَدون وأنتم خُلقتم من بطن أمِّكم أحرارًا! ولكن هذه الحرِّيَّة مهدَّدة، ونحن نجاهد يومًا بعد يوم لكي نُنميها، اقتداء بالربَّ يسوع الذي كان ذلك الحرّ حتّى وهو ذاهب إلى الموت. قال: »لكي تعرفوا أنّي أحبُّ الآب، قوموا نمضي« (يو 14: 31). وهو من قال: »حياتي لا يأخذها أحد منّي. بل أنا أبذلها وأنا أستعيدها« (يو 10: 18). هكذا تحدَّث عن موته وقيامته. وفي خطِّه راح بولس الرسول الذي كان في السجن وينتظر ساعة تنفيذ الإعدام فيه. قال: »أمّا أنا فذبيحة يُراق دمُها وساعة رحيلي اقتربت« (2 تم 4: 6).

تلك هي حرِّيَّة المؤمن بالنسبة إلى الظروف التي يمكن أن تحيط به. وحين كتب بولس إلى الآتين من العالم اليونانيّ، نبَّههم من عبوديَّة تهدِّدهم: العناصر الأوَّليَّة. اعتاد العالم القديم أن يؤلِّه الأشياء التي حوله: البحر مؤلَّه ولا بدَّ من إرضائه (بالضحايا مثلاً). الجبل مؤلَّه ولا بدَّ من السجود أمامه. وهناك إله الحرب وإله المدينة وإله (أو: إلاهة) الحبّ وإله الموت... حدَّثهم الرسول عن حرِّيَّة المؤمنين: »فإن كنتم متُّم مع المسيح وتخلَّصتم من قوى الكون الأوَّليَّة، فكيف تعيشون كأنَّكم تَنتمون إلى هذا العالم؟ لماذا تَخضعون لمثل هذه الفرائض؟« (كو 2: 20).

الموت هنا يدلُّ على المعموديَّة. مُتُّم عن الخطيئة وذيولها، فهل تبقون في الموت؟ مُتُّم عن هذا العالم، العالم الوثنيّ، أما تريدون أن تتخلَّصوا منه؟ تخلَّقتم بأخلاق العالم، فمتى تتخلَّقون بأخلاق المسيح؟ (فل 2: 5).

قال الرسول لأهل غلاطية: »أمّا الآن، بعدما عرفتم الله، بل عرفكم الله، فكيف تعودون إلى قوى الكون الأوَّليَّة الضعيفة الحقيرة وتريدون أن تكونوا عبيدًا لها كما كنتم من قبل؟ تراعون الأيّام والشهور والفصول والسنين« (غل 4: 9-10). هذه هي العناصر التي تستعبد الإنسانَ لقوى الكون التي يؤلِّهها؟ وهكذا يسيطر الخوف علينا فنودُّ أن نعرف المستقبل وأيّ مصير ينتظرنا. عندما نسمع أولئك الذين يحسبون السنوات من عمرنا والأشهر فيقابلونها مع أعداد أخرى ويقولون لنا ماذا تكون النتيجة، يحزن قلبنا. عندما نسمع الناس يقولون لنا ماذا سوف يحصل في السنة القادمة، لأنَّ هذا الكوكب قريب من ذاك، نتساءل: هل الكواكب الجامدة المائتة تحرِّك الإنسان الذي هو فوق الكواكب وسيِّدها؟ لا شكّ هو قصبة ضعيفة بجسده وهو صغير بالنسبة إلى الكون الواسع، ولكنَّه بعقله وقلبه وحرِّيَّته أرفع من الكون. فلماذا نركع، نخضع، وننتظر خلاصنا من تلاقي الكواكب وموقع الشمس والقمر وتوالي السنين؟

قال الرسول: »كنتم عبيدًا لآلهة ما هي بالحقيقة آلهة« (آ8ب). كنتم معذورون »حين كنتم تجهلون الله« (آ8أ). أمّا الآن، أتريدون أن تلبَثوا في جهلكم الله وتنظِّموا حياتكم بحياتكم؟ كم نشبه الشعب العبرانيّ في البرِّيَّة. كلَّمه الربُّ على الجبل من خلال البروق والرعود وصوت البوق، فقالوا: نعمل بكلِّ ما أوصانا الله. ولكن أين هو هذا الإله؟ نحن لا نسمع صوته. وإن سمعناه فمن خلال موسى كليمه. ولكن نودُّ أن نراه. من أجل هذا صنع لهم هارون، أخو موسى، تمثال عجل. فرحوا بهذا »الإله« الصغير، الحقير، وسجدوا له، ورقصوا حوله. ضحُّوا له بكلِّ شيء »بحلق الذهب التي في آذان نسائهم« (خر 32: 3). وهكذا عادوا إلى العبوديَّة. والإنسان المعاصر بماذا لا يضحّي وأيَّ مال لا يدفع لكي يسمع كلمة خادعة تقول له ماذا يفعل. عباداتنا كثيرة وأصنامنا أكثر: الأشخاص، الأحزاب، المصالح، الغنى، الغرائز...

قرأ بولس هذا النصَّ وغيرَه من سفر الخروج. قال: »فلا أريد أن تجهلوا، أيُّها الإخوة، أنَّ آباءنا كانوا كلُّهم تحت السحابة، وكلُّهم عبروا البحر... وكلُّهم أكلوا طعامًا روحيٌّا واحدًا... ومع ذلك ما رضيَ الله عن أكثرهم، فسقطوا أمواتًا في الصحراء« (1 كو 10: 1-5). اشتهوا الشرَّ فوقعوا فيه. تعبَّدوا للأوثان واستسلموا للزنى... وكانت النتيجة وخيمة.

من أجل هذا دعانا الرسول إلى الجهاد بحيث نبقى أحرارًا. قال لنا في الرسالة إلى أفسس: »ليس جهادنا مع لحم ودم، بل مع أصحاب الرئاسة والسلطان والسيادة على هذا العالم، عالم الظلام والأرواح الشرّيرة« (أف 6: 12). هي عبوديَّة ثالثة تهدِّد الإنسان في حرِّيَّته وعليه في هذا المجال أن يحمل السلاح. ولكن أيُّ سلاح؟ لا الدرع ولا الترس ولا السهام ولا الخوذة ولا السيف؟ هذا ما حمله المؤمنون على مرِّ العصور. إذا كنت لا تقدر أن تُحيي، لماذا لا تقتل وتميت؟ إن لم أستطع أن أقنع أخي (أو: أختي) بطرق الله، أقنعه بطرق البشر الذين عرفوا آلاف الحروب صغيرها وكبيرها.

لا. مثلُ هذا السلاح لا ينفع. بل هو مضرٌّ كلُّ الضرر ويبقى المؤمنون في حالة من الضياع والتقهقر. هذا السلاح منذ القديمَ رفَضَهُ الله ومنع الانتقام حتّى عن قايين القاتل. هذا السلاح أفنى قبائل عديدة ودمَّر المدن. لأنَّ من يأخذ بالسيف بالسيف يُؤخذ، والعنف لا يمكن أن يجرَّ إلاَّ العنف. إذًا، أيَّ سلاح نأخذ؟ »سلاح الله الكامل« (آ13). بمثل هذا السلاح يثبت المؤمن ويقاوم في يوم الشرّ. وهكذا تحوّلَ سلاح البشر. »المنطقة« يضعها المحارب على خصره ليضع فيها ما يلزمه للقتال، صارت في منطق الرسول: الحقيقة. لا مجال للكذب والرياء والاحتيال. والدرع تدلُّ على العدالة والاستقامة. ولا ننسَ نعالَ المحارب التي تحدَّث عنها إشعيا، النعال التي تدوس العدوّ. هذه أحرَقَها الله مع »كلِّ ثوب ملطَّخ بالدماء« (إش 9: 5). هذه النعال صارت الاندفاع والحماسة لحمل الخبر الطيِّب إلى البشر، إنجيل السلام. وإن واجهتنا السهام لا نردُّها بسهام مقابلة بحيث نُقتَل أو نَقتل، فترسُنا هو الإيمان. ويتحدَّث النصُّ عن »سهام الشرّير«، أي الشيطان. فعالم الحرب هو عالم إبليس، ذاك الذي دعاه الربّ: »الكذّاب وأبا الكذب«. قال عنه: »ما ثبت على الحقّ، لأنَّ لا حقَّ فيه. وهو يكذب، والكذب في طبعه« (يو 8: 44).

وأخيرًا، أين يكون الخلاص الذي رمزت إليه خوذة يلبسها المؤمن؟ في كلام الله. ذاك هو السيف الذي به نحارب، فقيل: »كلمة الله حيَّة فاعلة، أمضى من كلِّ سيف له حدَّان، تنفذُ في الأعماق« (عب 4: 12). عندئذٍ وعندئذٍ فقط يستطيع الإنسان أن يكون حرٌّا. فالبغضُ يَستعبد ومثله الحقد. والسلاح البشريّ يُشعل الخوف من خصمي ويشعله فيَّ. وماذا يُرجى من مجتمع يعيش التهديد المتبادل؟ ومن أجل هذا العنف نستعدُّ للتضحية بكلِّ شيء. وهكذا صار العنف إلهًا نعبده. والقوَّة رَبَّة نخضع لها. ولكن إذا كنّا عرفنا الله، هل نعبد سواه؟ وإذا كان الله عرفَنا، اختارنا، أحبَّنا، أرادنا لمهمَّة رائعة وهي إضفاء مسحة من الجمال على الكون، وإحلال السلام بيننا وبين الآخرين، فماذا ننتظر لكي نتجاوب مع هذا النداء؟

الخاتمة

هكذا نقرأ بولس الرسول في أيّامنا، لا كما يقرأه بعض كتّابنا في هذا الشرق، فلا يتعدُّوا حرف الكلام. هم لا يَصلون إلى الروح، مع أنَّ بولس قال: الحرف يقتل والروح يُحيي. وفي الغرب؟ هذا الذي حسبه بعض العالم الغربيّ »مؤسِّس المسيحيَّة« دعا نفسه »عبد يسوع المسيح ورسوله«. أنريد للإيمان أن يكون عمل بشر؟ مثلُ هذا العمل يَسقط بسرعة على ما قال المعلِّم غملائيل في محاكمة الرسل: »لأنَّ ما يبشِّرون به ويعلِّمونه يزول إذا كان من عند البشر. أمّا إذا كان من عند الله، فلا يمكنكم أن تزيلوه لئلاَّ تصيروا أعداء الله« (أع 5: 38-39). أجل، ما نقرأه في الرسائل البولسيَّة هو من عند الله. تَسلَّمه بولسُ في الكنيسة وسلَّمه إلى الجماعات التي بشَّرها. اكتشف الربَّ على طريق دمشق وأراد لكلِّ إنسان أن يكتشف ما اكتشفه هو.

محيطنا الشرقيّ يحتاج إلى نظرة جديدة إلى المرأة إذا أراد أن يرتقي. وبولس ينبِّهنا: امرأة حرَّة رجل حرّ. امرأة عبدة، رجل عبد. وتكون المسيرة كما أرادها الرسول تدريجيَّة لئلاَّ يحصل ما يحصل في بعض الدول الغربيَّة من المآسي. محيطنا الشرقيّ مقيَّد بالشرائع وكأنَّه لم يتخلَّ بعدُ عن »خمير الفرّيسيّين والصادوقيّين« (مت 16: 6). الإكراه، القهر، تتميم الوصايا »البشريَّة« والعادات التي تتجذَّر في القديم الوثنيّ بما فيه من خرافات وأكاذيب تُبقي الإنسان عابدًا لما يخاف. لا شريعة سوى شريعة المحبَّة ومنها تنطلق كلُّ الشرائع والوصايا. فحين تغيب المحبَّة لا يكون الإنسان مؤمنًا بالله، ولا يمكنه أن ينتظر منه خلاصًا. والحرِّيَّة في قلوبنا هي نداء بولس الرسول إن عرفنا أن نفهمه. لا مكان للقَدَر في نظر المؤمن، تلك القدرة التي اعتُبرت في العالم القديم فوق الآلهة والبشر. لا مكان لمصير محدَّد يُكتَب لنا فلا نستطيع أن نتجاوزه. لا مكان لقوَّة حتميَّة مسبقة تحدِّد مسيرة الأحداث. علَّمَنا الرسول: لا رجوع إلى الوراء، إلى الأمجاد الماضية نفتخر بها بعد أن زالت ومضت. بل تطلُّعٌ إلى الأمام. وبهذا نختم كلامنا: »أترك ما ورائي وأنبطح إلى الأمام من أجل الدعوة العلويَّة«. تلك دعوةٌ إلى كلِّ واحد منا. تلك دعوة إلى الشرق العربيّ ليأخذ مكانته بين الأمم والشعوب من أجل بناء الإنسان وحضارة المحبَّة.

 
قديم 05 - 04 - 2024, 10:33 AM   رقم المشاركة : ( 156562 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,320

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة





لا رجل ولا امرأة

لا مجال للتمييز في فكر القدّيس بولس. ذاك ما كتبه إلى كنائس غلاطية حيث رفض اليهوديّ أن يأكل على مائدة واحدة مع غير اليهوديّ. ذكَّرهم بما حصل في أنطاكية. واستخلص: »لا فرق الآن بين اليهوديّ والأمميّ (أو غير اليهوديّ)، بين العبد والحرّ، بين الرجل والمرأة. فأنتم كلُّكم واحد في المسيح يسوع« (غل 3: 28).

ما هذا القول؟ هل تكون المرأة على مستوى الرجل، مع أنَّ المبدأ الشرقيّ العامّ يقول: هي خادمة أولادي وملبِّية حاجاتي؟ تلك هي الثورة التي أعلنها الرسول في الكنيسة وفي العالم. ونحن نعرف أنَّ الرجل اليهوديّ الذي يصلّي اليوم يشكر الله لأنَّه لم يُولَد »امرأة« و... و...

أعلن بولس المبدأ العامّ في منطقة تأثَّرت بالتعاليم اليهوديَّة، وعاد فأعلنه في إطار يونانيّ، فقال للمؤمنين: خَلعتم الإنسان القديم ولبستم الإنسان الجديد (كو 3: 9-10)، صارت المرأة حرَّة فلماذا تجعلونها عبدة؟ هي مساندة للرجل منذ البداية، فلماذا تسجنونها في تقاليد موروثة منذ القدم، فتبقى داخل الخيمة لا ترى أحدًا ولا تكلِّم أحدًا ولا تسلِّم على أحد. صارت »مُلكًا« بيد الرجل يحافظ عليها كما يحافظ على متاعه. أمَا جعلَ سفر الخروج المرأة بمنزلة البيت والعبد والجارية والثور والحمار؟ (خر 20: 27)، ومنع الإنسان من أن يشتهيها؟

أمّا المبدأ عند بولس الرسول فالمساواة بين الرجل والمرأة. هنا نقرأ الفصل السابع من الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس، فنفهم أنَّ كلَّ شيء يتمُّ بالتفاهم بين الرجل والمرأة، بحيث لا يفرض الرجل رأيه على امرأته التي يجب أن تخضع خضوع الذلّ، وما يسري على الرجل يسري على المرأة. وها نحن نورد النصَّ أوَّلاً في الحياة اليوميَّة:

فليكن لكلِّ رجل امرأته

ولكلِّ امرأة زوجها (آ2).

لا مجال لكثرة الزوجات. ولا مجال للزنى وما اعتاد عليه الرجل من دوران في شرقنا فيجعل ضميره »مرتاحًا« بالنسبة إلى امرأته.

على الزوج أن يوفي امرأته حقَّها

كما على المرأة أن توفي زوجها حقَّه (آ3).

ما كانت تطلب المرأة من الرجل؟ أن يؤمِّن لها الطعام والشراب والمأوى، وغير ذلك هو حرٌّ في تصرُّفاته. والحقوق الزوجيَّة؟ لا حقَّ للمرأة على زوجها سوى الطاعة. أمّا الرسول فيذكِّر الرجل بواجباته. وما يدهشنا هو أنَّ على المرأة أن توفي زوجها حقَّه. بكلِّ حرِّيَّة، لا رغمًا عنها، لا بالقسر وربَّما بالضرب وسائر المعاملات السيِّئة.

لا سلطة للمرأة على جسدها، فهو لزوجها،

وكذلك الزوج، لا سلطة له على جسده، فهو لامرأته (آ4).

زوج واحد، امرأة واحدة، بحسب ما قيل في البدء: »يترك الرجل أباه وأمَّه ويتَّحد بامرأته فيكون الاثنان جسدًا واحدًا« (تك 2: 24). في الأصل: لحمًا واحدًا. لهذا قال آدم: »هي لحم من لحمي وعظم من عظمي« (آ23). الزنى ممنوع. فجسد المرأة لا يخصُّها، وكذلك جسدُ الرجل لا يخصُّه. تلك هي الأمانة الرفيعة التي إليها يدعو بولس الرجل والمرأة. لا إكراه ولا قسر، بل يقين داخليّ. وإذا أراد واحد أن يبتعد عن الآخر، يكون ذلك »بالاتِّفاق« (آ5) ولفترة محدودة.

ذاك على مستوى العلاقات الزوجيَّة. وإذا كانت صعوبات؟! لا فرق بين الرجل والمرأة. فعلى المستوى المسيحيّ، لا سلطة سوى سلطة المحبَّة والخدمة. وتقول لنا الرسالة إلى أفسس: »يجب على الرجال أن يحبُّوا نساءهم كما يحبّون أجسادهم« (أف 5: 28)، بحيث يستعدُّون للتضحية على مثال ما فعل المسيح من أجل كنيسته حيث »ضحّى بنفسه من أجلها« (آ25). قال الرسول إلى أهل كورنتوس، وإلينا اليوم:

لا تفارق المرأة زوجها (آ10).

وإن فارقته فلتبقَ بغير زواج،

أو فلتصالح زوجها (آ11أ).

وما قيل عن المرأة يُقال عن الرجل:

وعلى الزوج أن لا يطلِّق امرأته (آ11ب).

وما كتبه الرسول على مستوى الحياة اليوميَّة، يكتبه على مستوى الحياة الروحيَّة سواء في البيت أو في جماعة الصلاة. كان العالم اليهوديّ يعتبر الرجل وحده »تقيٌّا«، أمّا المرأة فلا يمكن أن تكون »تقيَّة«. فمؤنَّث »تقي« لم يكن موجودًا. ثمَّ إن تراخت المرأة في حفظ الوصايا، لا بأس. فهي كائن ضعيف، »ناقصة العقل«. هذا ما لا يقبل به بولس في خطِّ التعاليم الإنجيليَّة:

الزوج غير المؤمن يتقدَّس بامرأته المؤمنة،

والمرأة غير المؤمنة تتقدَّس بزوجها المؤمن (آ14).

ولكن ماذا تستطيع المرأة أن تفعل لزوجها؟ لا شيء كما كانوا يقولون. هو وحده القادر أن »يخلِّصها« وهي تتقبَّل منه كلَّ مساعدة. كلاّ فهي قادرة كما هو قادر. وهنا يكون التبادل أيضًا:

أما تعلمين أيَّتها المرأة المؤمنة أنَّك تخلِّصين زوجك؟

أما تعلم أيُّها الرجل المؤمن أنَّك تخلِّص امرأتك؟ (آ16).

وكما في الحياة اليوميَّة، كذلك في حياة الجماعة: الرجل يصلّي والمرأة أيضًا. الرجل يعلِّم والمرأة كذلك. الرجل يرنِّم والمرأة كذلك (1 كو 14: 26). لا يمكن أن تُفصَل المرأة عن الرجل في تمجيد الله وتسبيحه، وكلاهما مخلوقان على صورة الله ومثاله (تك 1: 26-27). في هذا المجال نقرأ لائحة أسماء الذين واللواتي يعملون في الرسالة: أوَّلهم فيبة، شمّاسة الكنيسة. ثمَّ عائلة مسيحيَّة برسكلَّة وأكيلا (ذُكرت المرأة قبل الرجل). ذُكر أبينيتوس وهو مسيحيٌّ آتٍ من العالم اليونانيّ وحالاً ذُكرت مريم الآتية من العالم اليهوديّ. وذُكر أندرونيكس وذُكرت معه يونيا زوجته (رو 16: 1ي). فكيف لا تستفيد الكنيسة من نصف المجتمع في أعمال الصلاة والرسالة والخدمة؟ والمثال الكبير هو الراهبات اللواتي تدعوهنَّ الكنيسة »لؤلؤة« في جبينها.

ولكن ما نلاحظ في هذه الثورة التي لا يمكن أن يقبلها الرجل في القرن الحادي والعشرين، وتعتبرها المرأة ناقصة هو أنَّ الرجل الذكر رأى أنَّه لم يَعُد »رأس« البيت والسيِّدَ المطاع. والمرأة اكتشفت أنَّها يجب أن »تصمت« كما هو الأمر في جماعات أورشليم، لأنَّه لا يجوز لها »التكلُّم« (1 كو 14: 33-34). من جهة أعلن بولس »إنجيله« بدون »مساومة«. ومن جهة ثانية خفَّف من حدَّة هذه المتطلِّبات. فتقول النساء: عاد إلى الوراء. أو استعاد بيدٍ ما أعطاه باليد الخرى. وربَّما يكون تلاميذه نزعوا بعض فتيل الثورة. وكلّ هذا من أجل السلام في الجماعة (1 كو 14: 33). أمّا الهدف فَرعَويّ.

»وكما تصمت النساء في جميع كنائس الإخوة القدِّيسين (أي في الكنيسة الأولى، في أورشليم)، فلتصمت نساؤكم (يا أهل كورنتوس) في الكنائس، فلا يجوز لهنَّ التكلُّم، وعليهنَّ أن يخضعن كما تقول الشريعة« (1 كو 14: 33-34).

هل نتخيَّل أن يلجأ بولس إلى الشريعة ليُسند كلامه؟ هو أمر صعب بالنسبة إلى من قال: »مُتنا عمّا كان يعتقلنا وتحرَّرنا من الشريعة« (رو 7: 6)! هل نتصوَّر بولس راجعًا إلى العادات اليهوديَّة حيث المرأة ليست بشيء في صلاة الجماعة؟ كلاّ. ومع ذلك يواصل النصّ: »فإن أردن (= النساء) أن يتعلَّمن، فليسألن أزواجهنَّ في البيت، لأنَّه عيب على المرأة أن تتكلَّم في الكنيسة« (آ35).

مراعاةً للعالم اليهوديّ ولعادات المؤمنين في أورشليم، فُرض على المرأة الصمت لا باسم مبدأ إنجيليّ، بل باسم السلطة: »هل صدرت عنكم كلمة الله، أم انتهت إليكم وحدكم؟« (آ36). واعتُبر هذا الترتيب من أجل »النظام في الكنيسة«. وفي الإطار عينه نتكلَّم عن »الغطاء« على الرأس، سواء كان الشعر أو الحجاب. ماذا كانت الخلاصة؟ هكذا يفعلون في »أمِّ الكنائس«، القدس. فلا مجال للمناقشة في خطِّ مجمع أورشليم: »فإن أراد أحد أن يعارض فما هذا من عادتنا ولا من عادة كنائس الله« (1 كو 11: 16).

نشير هنا إلى أمرين. الأوَّل، تغطّي المرأة الشرقيَّة رأسها فقط بل وجهها أيضًا بسبب المناخ الصحراويّ، والرجل يفعل أيضًا مثلها. أمّا المرأة الغربيَّة فلا تحتاج إلى ذلك فتمشي »مكشوفة الرأس« (آ13). يبقى على المؤمنات الجديدات في كورنتوس أن يراعين أخواتهنَّ الآتيات من الشرق للمشاركة في الصلاة. والأمر الآخر يتعلَّق بمدينة كورنتوس وسائر المدن الوثنيَّة: المرأة »على الرصيف« تقصُّ شعرها لتُعرف، والرجل يطيل شعره. لهذا نبَّهت الرسالةُ المرأةَ بأن شعرها فخرٌ لها، سترٌ لها. أمّا الرجل، فمن العار »أن يطيل شعره«. من يعلِّمنا هذا؟ »الطبيعة نفسها« (آ14-15). وهكذا ما قيل عن »الغطاء« على الرأس بالنسبة إلى المرأة، هو شعرها. إذًا هي حرَّة بأن تغطّي رأسها أو لا. وطول الشعر أو قصره أمرٌ تعدَّاه الزمن

وكان الجدال: من هو الأوَّل؟ وعادت الرسالة إلى العهد القديم: المرأة خُلقت من الرجل، كما في رمزيَّة سفر التكوين، وخُلقت من ضلع من أضلاعه لكي يكون موضعها في قلبه، لا عند قدميه. فإذا كانت المرأة من الرجل كما يقولون، يجب أن تخضع له. ويعيد الرسول التوازن: »إذا كانت المرأة أُخذت من الرجل، فالرجل تلده المرأة، وكلُّ شيء يأتي من الله« (1 كو 11: 12).

إذًا، من يخضع للآخر؟ ويأتي الجواب في الرسالة إلى أفسس: »ليخضع بعضكم لبعض بمخافة المسيح« (أف 5: 21). كلُّ شيء يكون في المسيح على مستوى الحبِّ والتضحية. وما يُشرف هنا، مخافة الله التي هي رأس الحكمة. إذًا، تبادلٌ في الخضوع وفي العطاء، تبادل في الحياة على جميع مستوياتها بحيث لا يدخل أحد ولا شيء بين الرجل والمرأة.

قراءة القدّيس بولس ليست بالأمر السهل وفهمه أصعب. ومع ذلك فرسائله تنطلق من الواقع البسيط جدٌّا وترفعنا إلى مستوى الله فالعلاقة بين الرجل والمرأة سرّ، على مثال العلاقة بين المسيح والكنيسة (آ25). وكلُّ الحلول التي تبقى ملتصقة بالأرض وبالأمور المادِّيَّة، لا يمكن أن تبني عائلة ولا جماعة. إنَّما يبقى المبدأ: لا رجل ولا امرأة. فكلُّكم واحد في المسيح.
 
قديم 05 - 04 - 2024, 10:34 AM   رقم المشاركة : ( 156563 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,320

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة





الشريعة القديمة وشريعة المسيح

أُعطيَت الوصايا على جبل سيناء وسط البروق والرعود، وأضيفت الفرائض العديدة والفتاوى، وفي النهاية مع المعلِّمين في زمن بولس صارت الوصايا 613 وصيَّة. هذا ما ندعوه الشريعة والقوانين التي تُفرَض على الإنسان، والويل لمن يقع في وصيَّة واحدة، فكأنَّه وقع في جميع الوصايا، وما فادته بشيء هذه الممارسةُ ولا تلك.

بهذه الشريعة تعلَّق الرسول بحيث استطاع أن يقول، لو هو قال: »حياتي هي الشريعة«. ومن أجل هذه الشريعة أراد أن »يقاتل« المسيح ويلاحقه من مدينة إلى مدينة، من أورشليم إلى دمشق، ليُخفي أثر أَتْباعه.

ولكن تقولون: هذه الشريعة قديمة بعد أن ارتبطت بالعالم اليهوديّ القديم. فما لنا ولها؟ ولكنَّ الشريعة حاضرة اليوم في عالمنا وهي تفرض نفسها بالقوَّة، لا على المستوى الدنيويّ فقط بل على المستوى الدينيّ. والويل لمن يعارض أو يرفض ممارستها. وأعطي مثلاً قديمًا عن رجل خالف شريعة السبت: كان ذاك الفقير يجمع حطبًا. يا للخطيئة الكبيرة! أخرجته الجماعة من المخيَّم ورجمته (عد 15: 32). وكذا نقول عن الزانية التي يجب أن تُرجم، بل إنَّ الذي يعلِّم تعليمًا يختلف بعض الاختلاف عن تعليم المعلِّمين الرسميّ يُحرم من عيشه، من امرأته، ويُرسَل إلى المنفى. فالشريعة سيِّدة وهي تقول اليوم كما في الماضي: »ماذا نأكل وماذا لا نأكل. نأكل البقر والضأن والمعز والغزال، ولا نأكل الجمل والأرنب والدب وغيرها من الحيوانات« (لا 14: 3ي). وهكذا صار الإنسان مقيَّدًا بشرائع تنسى أنَّ كلَّ ما خلقه الله هو حسن. وجاءت عبارات ردَّدها بولس بلسان بعض الضعفاء: »لا تلمس، لا تذق، لا تمسك« (كو 2: 21). قال الرسول مبيِّنًا أنَّ كلَّ هذا أمرٌ نسبيّ: »كلُّ هذه الأشياء تزول بالاستعمال (آ22).

في البداية كان بولس قاسيًا مع الشريعة، رافضًا لها حين تأتي من خارج الإنسان، لا من داخله. فقال فيها مثلاً: »ما عرفتُ الخطيئة إلاَّ بالشريعة. فلولا قولها لي: ''لا تشتهِ!'' لما عرفتُ الشهوة« (رو 7: 7). وأضاف: »الخطيئة وجدت... فرصة لتثير فيَّ الشهوة، لأنَّ الخطيئة بلا شريعة ميتة« (آ8). أجل، الخطيئة اتَّخذت من الوصيَّة، (من الشريعة)، سبيلاً فخدعَتْني بها وقتلتني« (آ11).

فالشريعة في ممارستها الخارجيَّة تفصل الإنسان عن أخيه الإنسان، وتجعل حاجزًا بين جماعة وجماعة. في هذا الإطار نقرأ ما كتب بولس إلى أهل رومة، ونرى كيف ينطبق علينا الآن، لا في الشرق فقط، بل في العالم الغربيّ مع الأطعمة الطاهرة والأطعمة النجسة. قال: »من الناس من يرى أن يأكل من كلِّ شيء. ومنهم من هو ضعيف فلا يأكل إلاَّ البقول. فعلى من يأكل من كلِّ شيء أن لا يحتقر من لا يأكل مثله. وعلى من لا يأكل كلَّ شيء أن لا يدين من يأكل من كلِّ شيء« (رو 14: 2-3). خاف ابنُ الشريعة اليهوديَّة العائش وسط عالم وثنيّ أن لا يكون اللحم »طاهرًا« بحسب الشريعة، فتحاشى أن يأكل. وما الذي يجعل الطعام طاهرًا سوى الله الذي خلقه حسنًا، لا الإنسان الذي يفرض عاداته الآتية منذ أعماق التاريخ لأسباب لا تمتُّ إلى الدين بصلة. وخاف ابن التيّارات الدينيَّة من الخمر واللحم وحتّى من حياة الزواج. ولا نقول اليوم شيئًا عن ابن الديانات الهنديَّة. قال الرسول: إن أكلتم لا تزدادون شيئًا. وإن لم تأكلوا لن تنقصوا شيئًا (1 كو 8: 8). وجاءت الآية الرائعة: »ليس ملكوت الله أكلاً وشربًا، بل برٌّ وسلام وفرح في الروح القدس« (رو 14: 3). وجاء التنبيه الرائع المبنيّ على المحبَّة: »لا تجعل من طعامك سببًا لهلاك من مات المسيح من أجله« (آ15).

وهكذا انفصل الجار عن جاره في أمور عديدة من أكل وشرب ولبس. هي عادات بها تستطيع الجارة أن تحكم على جارتها وتعرف سريرتها. وأين السبت؟ شريعة قديمة استخرجناها من الكتب المقدَّسة وطبَّقناها خطأ، وهكذا حمينا نفوسنا وحطَّمنا الآخرين. وما نقوله عن الأفراد نقوله عن الجماعات. تحدَّث بولس عن الحاجز الذي يفصل اليهوديّ عن اليونانيّ، من يعيش بحسب الشريعة الموسويَّة عن ذاك الذي »لا شريعة له« كما يقولون. ولكن بولس يعلن حالاً: من قال لك إنَّه بلا شريعة. الفطرة، الضمير... تلك هي شريعة. الضمير صوتُ الله في داخلنا. هو يقول لنا في أعماقنا ما يجب أن نعمل وما ينبغي أن نتجنَّب. وباسم هؤلاء وأولئك قال الرسول: »صرتُ لأهل الشريعة من أهل الشريعة، وإن كنتُ لا أخضع للشريعة، لأربح أهل الشريعة، وصرتُ للذين بلا شريعة كالذي بلا شريعة لأربح الذين هم بلا شريعة، مع أنَّ لي شريعة من الله بخضوعي لشريعة المسيح« (1 كو 9: 20-21).

نحن الأقوياء نفرض على الضعفاء إرادتنا! نحن الأكثريَّة نحطِّم الأقليَّة. ما الذي يجري اليوم في عصرنا؟ ذاك ما حصل للمؤمنين في رومة: الأكثريَّة آتية من عالم اليونان، ففرضت عاداتها على الآتين من العالم اليهوديّ. وبَّخهم بولس على ذلك وأعطى من نفسه مثالاً: »صرتُ للضعفاء ضعيفًا لأربح الضعفاء. وصرتُ للناس كلِّهم كلَّ شيء لأخلِّص بعضهم بكلِّ وسيلة« (آ22).

المبدأ: أن أربح الناس. وهم يربحونني في عمق شخصيَّتي. المبدأ أن يجتمع الناس في الخدمة بعضهم لبعض. تخيَّلوا ذاك الرجل الجريح الذي تحدَّث عنه يسوع في أحد أمثاله الإنجيليَّة (لو 10: 25-35). هو يمشي على يمين الطريق، لأنَّه يهوديّ. ولباسه مميَّز عن لباس الآخرين، ولاسيَّما الغرباء عن الدين. مرَّ بقربه كاهن يهوديّ، ففضَّل أن ينتقل إلى الجهة الثانية من الطريق. ما الذي منعه من الاقتراب إليه؟ الشريعة، الدم على هذا الجريح. قال: إن لمستُه تنجَّست ومُنعتُ من الخدمة في الهيكل. أمّا السامريّ، ابن نابلس الحاليَّة في فلسطين، الذي كان يسير على شمال الطريق ويلبس لباسًا يميِّزه عن لباس اليهود، فنسيَ كلَّ هذه الأمور ولو اعتبرها البعض من أساس الدين مع أنَّها جُعلت هنا لإذلال الأقلِّيَّة ولإظاهر قوَّة الأكثريَّة، بما معناه: إلهنا أقوى من إلهكم وكأنَّ هناك إلهين أو أكثر. أجل نسيَ هذا السامريّ شريعة النجاسة وتذكَّر شريعة واحدة: المحبَّة. في هذا المجال قال الربُّ يسوع لأناس قلوبهم قاسية: »أيحلُّ في السبت عمل الخير أم عمل الشرّ؟ إنقاذ نفس أم إهلاكها؟« (مر 3: 4). ساد الصمت، فبدا يسوع حزينًا. هل صار الإنسان في خدمة السبت؟ هل صار الإنسان عبدًا للشريعة؟

وحزن بولس لوضع مماثل حصل في أنطاكية. مدينة كبيرة فيها من كلِّ الأشكال والألوان. والمؤمنون يكوِّنون جماعة واحدة. ما أحلاهم! ولكن أتت الشريعة اليهوديَّة ففصلت بينهم، كما يفصل بيننا اليوم عددٌ من الفرائض. كانوا كلُّهم يشاركون في المائدة الواحدة، مائدة المحبَّة. بولس الرسول يوجِّه إنجيله إلى الأمم، إلى اليونان وغيرهم. وبطرس إلى أهل الختان مع بعض التنازل لأنَّه فهم أنَّ التطهير لا يقوم على ممارسات خارجيَّة. قال متحدِّثًا عن اليهود والأمم الوثنيَّة: »فما فرَّق بيننا وبينهم في شيء، فهو طهَّر قلوبهم بالإيمان« (أع 15: 9). ثمَّ أضاف: »نحن نؤمن أنَّنا نخلُص بنعمة الربِّ يسوع كما هم يخلصون« (آ11).

باسم الله نحن معًا. نجلس إلى مائدة واحدة. ولكن باسم »الشريعة« يفترق الواحد عن الآخر. فالمختون لا يكون مع اللامختون. فإذا كان هذا المختون لا يعيش حسب وصايا الله، أما يكون وكأنَّه لم يُختَن ولم يُحسَب منتميًا إلى »شعب الله«، إلى »المؤمنين«؟ ما الذي حصل في أنطاكية؟ »جاء قوم من عند يعقوب« (غل 2: 12)، وهو المعروف بدفاعه عن الشريعة، فاعتزل بطرسُ الجماعة. ترك الأممَ وحدَهم وكأنَّهم مؤمنون من الدرجة الثانية. أذلَّهم ساعة كان يجب أن يرفعهم. أمّا بولس فما استطاع أن يقبل بهذا الوضع. فهذا الحاجز الموجود بين فئة وفئة، بين مذهب ومذهب، بين دين ودين، أزاله يسوع. قال الرسول إلى أهل أفسس: »جعلَ اليهودَ والأمم شعبًا واحدًا، هدم الحاجز الذي يفصل بينهما، أي العداوة، وألغى بجسده شريعة موسى بأحكامها ووصاياها ليخلق في شخصه من هاتين الجماعتين إنسانًا واحدًا جديدًا، بعدما أحلَّ السلام بينهما« (أف 2: 14-15).

فصلت الشريعةُ بين بعيد وقريب، بين غريب وأهل البيت، بين الأبناء والكلاب. وهنا تأتي العداوة. قال الرسول: »المسيح قضى على العداوة« (آ16) بشَّر بالسلام البعيدين والقريبين، ابن (وابنة) هذا الدين وذاك، بين ابن (وابنة) هذا المذهب وذاك؟ فكيف يجسر المؤمن، في الخطِّ البولسيّ، أن يحسب الآخرين »غرباء أو ضيوفًا مع أنَّهم من القدّيسين وأهل بيت الله« (آ19)؟ في العمق الإيمانيّ، نحن كلُّنا ضيوف لدى الله، وهو يستقبلنا كما نحن، سواء شابهنا الابن الضالّ الآتي من البعيد (لو 15: 13) أو الابن الأكبر الذي اعتبر نفسه »مع والده في كلِّ حين« (آ31) مع أنَّ قلبه لم يكن مع أبيه، بل مع »أصحابه« (آ29) حول جديٍ يفرحون به.

هل الشريعة تجمع الناس؟ ولكن أيُّ شريعة؟ يكفي أنَّ نمرَّ في بلاد الهند لنعرفَ كيف تتلوَّن الشريعة بلون المنطقة التي تقيم فيها. منهم من لا يأكل شيئًا من تحت الأرض (البطاطا مثلاً). وآخرون يأكلون ما يتعلَّق بالأغصان. منهم من يحترم هذه الخليقة وآخر يبتعد عن تلك لأنَّها نجسة. وفي الشرق القديم هناك المانويّون مثلاً الذين انطلقوا من اليهوديَّة والمسيحيَّة والبوذيَّة، خافوا أن يمشوا على العشب، كما تورَّعوا أن يقطفوا من البقول الكميَّة الكبيرة. وربَّما راح أبو العلاء المعرّي في خطِّهم فقال: »سرْ إن استطعت في الهواء رويدًا«.

الشرائع عديدة. فلا بدَّ من البحث عن شريعة واحدة تجمع البشريَّة كلَّها. هنا قال الرسول: »لو تكلَّمتُ بلغات الناس والملائكة ولم تكن فيَّ المحبَّة، فما أنا إلاَّ نحاس يطنُّ أو صنج يرنّ. ولو وُهبتُ النبوءة وكنتُ عارفًا كلَّ سرٍّ وعلم، ولي الإيمان الكامل لأنقل الجبال، ولم تكن فيَّ المحبَّة، فما أنا بشيء« (1 كو 13: 1-2). ويتابع: »لو فرَّقت أموالي... لو... بدون محبَّة، هذا لا ينفعني« (آ3). ونقول: كلُّنا عندنا محبَّة. أنا أحبُّ جميع الناس. أنا أحبُّ البشريَّة لأنَّنا كلُّنا من إنسان واحد. أمّا بولس فلا يكتفي بهذا الكلام العامّ، بل يقول لنا كيف تكون هذه المحبَّة، وكيف نمارسها. ما تحدَّث عن الطقوس ولا عن الممارسات الدينيَّة. ما تحدَّث عن عادات فرضَتْ نفسَها علينا فحسبناها الدين مع أنَّ الدين برّاء منها. »تنازل« بولس إلى الحياة اليوميَّة: المحبَّة هي الصبر والرفق. المحبَّة هي الصفح والأمانة والرجاء. حيث المحبَّة لا وجود للحسد ولا للتفاخر ولا للكبرياء. المُحبُّ لا يحتدّ، لا يغضب، لا يظنُّ السوء. المحبّ لا يتصرَّف سيِّئًا من أجل منفعته، بل يطلب ما هو لغيره.

والوصايا عديدة. حتّى الوصايا العشر بمتفرِّعاتها. لهذا جاء من يسأل يسوع عن »الوصيَّة العظمى« (مت 22: 34ي)، الوصيَّة التي تلخِّص الوصايا بحيث لا يُتعب المؤمن قلبَه فيحفظ لائحة طويلة من الفرائض. وجواب يسوع جاء بسيطًا: المحبَّة. وفي هذا الخطّ سار بولس الرسول. حمل إليه أهل الشرق »وصايا«، وكذلك أهل رومة. ماذا نفعل في الحياة اليوميَّة؟ قال: »فالوصايا التي تقول: لا تزنِ، لا تقتل، لا تسرق، لا تشتهِ وسواها من الوصايا، تتلخَّص في هذه الوصيَّة: أحببْ قريبك مثلما تحبُّ نفسك. فمن أحبَّ قريبه لا يسيء إلى أحد. فالمحبَّة تمام الشريعة« (رو 13: 9-10). والمحبَّة تكون صادقة (رو 12: 9) تدعونا إلى الاتِّفاق، إلى الفرح مع الفرحين، إلى البكاء مع الباكين، إلى التواضع والوداعة (آ15).

كيف نقرأ بولس اليوم؟ تارة يقول عن الشريعة إنَّها حرَّكت الشهوة فيَّ، وطورًا يقول: »الشريعة مقدَّسة، والوصيَّة مقدَّسة وعادلة وصالحة« (رو 7: 12). فكرُ بولس أوسع من أن نقرأه بسرعة كما يفعل العديد في شرقنا العربيّ، فهو يرفع الإنسان فوق الإنسان، ويدعوه إلى لقاء إخوته وأخواته لا على أمور مادِّيَّة نفعيَّة، بل على مستوى الله، لأنَّ الله محبَّة: »فمن ثبت في المحبَّة ثبت في الله والله ثبتَ فيه« (1 يو 4: 16). فكيف أثبتُ في الله وحدي؟ هذا مستحيل على مثال ما قال أحد الأبطال في الكتب المقدَّسة: أو نموتُ معًا أو نحيا معًا.
 
قديم 05 - 04 - 2024, 10:35 AM   رقم المشاركة : ( 156564 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,320

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة





نعمة الله ظهرت لجميع البشر

حين كان شاول - بولس - ماضيًا من أورشليم إلى دمشق لكي يلاحق المسيحيّين الذين تركوا الإيمان اليهوديّ والتحقوا بيسوع وأخذوا طريقًا آخر، دُعيَ الطريق (أع 9: 2)، في ذلك الوقت تصدَّى له يسوع بنعمته، تصدّى له يسوع ذاته وكأنَّه يقول له: إلى أين أنت ذاهب؟ كانوا يذهبون إلى أورشليم لكي يتعلَّموا الشريعة، أمّا بولس فترك الشريعة الموسويَّة ليأخذ بشريعة المسيح. لهذا هتف في الرسالة إلى فيلبّي: »حياتي هي المسيح، والموتُ ربحٌ لي« (فل 1: 21).

كان بولس ذلك الخاطئَ فبرَّره الله في دمشق حين اعتمد على يد حنانيَّا. كان ذاك المضطهدَ الذي يلاحق المسيحيّين، فسوف يضطهده أبناء قومه ويلاحقونه حتّى الموت. كان متحمِّسًا لقضيَّة »محدودة«، مغلقة على طائفة من الطوائف، فتحوَّل حماسُه كلُّه لقضيَّة أسمى هي قضيَّة يسوع المسيح. فاستطاع أن يهتف باسمه وباسم كلِّ إنسان: »فنعمة الله، ينبوع الخلاص لجميع البشر، ظهرت لتعلِّمنا أن نمتنع عن الكفر وشهوات هذه الدنيا لنعيش بتعقُّل وصلاح وتقوى في العالم الحاضر« (تي 2: 11-12).

النعمة. العطيَّة المجّانيَّة لكلِّ واحد منّا، للبشر جميعًا. والنعمة في النهاية هي يسوع المسيح. والرسول نفسه يقول: »الله الذي ما بخل بابنه، بل أسلمه إلى الموت من أجلنا جميعًا، كيف لا يهب لنا معه كلَّ شيء« (رو 8: 32). أجل، أعطيَت لنا نِعم. ولكنَّ النعمة النعمة هي الابن يسوع المسيح. كما نقول: في الكتب المقدَّسة كلمات وكلمات. ولكنَّ يسوع المسيح هو الكلمة لدى الله لأنَّه الله.

هذه النعمة أخرجَتْنا من العبوديَّة: عبوديَّة الشريعة، عبوديَّة العناصر الأوَّليَّة، عبوديَّة الرؤساء والسلاطين، عبوديَّة القدر والمصير المجهول الذي يخاف منه الإنسان.

تحدَّثنا عن الشريعة ويمكن أن نقابلها مع العبد الذي يقود الطفل إلى المدرسة. ولكن حين صرنا أبناء الله، لم نعد عبيدًا، بل صرنا أحرارًا. أمّا الغلاطيّون المقيمون في الجبال التركيَّة حول أنقرة، فبعد أن صاروا أحرارًا عادوا إلى العبوديَّة. بعد أن نالوا العماد طلبوا الختان، وطلبوا الممارسات اليهوديَّة القديمة، لأنَّها محدَّدة ولا تطلب تفكيرًا كبيرًا. وبَّخهم الرسول وقال لهم أين موقع حرِّيَّتنا؟ في الشريعة أم في المسيح يسوع؟ أراد الإخوة الدخلاء الآتون من خارج المنطقة أن »يستعبدونا، أن يتجسَّسوا الحرِّيَّة التي لنا في المسيح يسوع، فما استسلمنا لهم ولا خضعنا لحظة واحدة« (غل 2: 4). أجل المؤمن حرٌّ في الربِّ الإله. لهذا قال الرسول إلى الغلاطيّين: »فأنتم يا إخوتي دعاكم الله إلى الحرِّيَّة... دعاكم الله لتكونوا أحرارًا« (غل 5: 13أ). ولكنَّه استدرك حالاً: »ولكن لا تجعلوا هذه الحرِّيَّة حجَّة لإرضاء شهوات الجسد، بل اخدموا بعضكم بعضًا بالمحبَّة« (آ13ب). لا. الحرِّيَّة لا تعني الفلتان بل التمسُّك بالله بملء إرادتنا. الحرِّيَّة لا تقوم في خدمة نفوسنا بالأنانيَّة ولو على حساب الآخرين، بل في خدمة الآخرين في المحبَّة.

قيل للمؤمنين: كيف تُستعبَدون وأنتم خُلقتم من بطن أمِّكم أحرارًا! ولكن هذه الحرِّيَّة مهدَّدة، ونحن نجاهد يومًا بعد يوم لكي نُنميها، اقتداء بالربَّ يسوع الذي كان ذلك الحرّ حتّى وهو ذاهب إلى الموت. قال: »لكي تعرفوا أنّي أحبُّ الآب، قوموا نمضي« (يو 14: 31). وهو من قال: »حياتي لا يأخذها أحد منّي. بل أنا أبذلها وأنا أستعيدها« (يو 10: 18). هكذا تحدَّث عن موته وقيامته. وفي خطِّه راح بولس الرسول الذي كان في السجن وينتظر ساعة تنفيذ الإعدام فيه. قال: »أمّا أنا فذبيحة يُراق دمُها وساعة رحيلي اقتربت« (2 تم 4: 6).

تلك هي حرِّيَّة المؤمن بالنسبة إلى الظروف التي يمكن أن تحيط به. وحين كتب بولس إلى الآتين من العالم اليونانيّ، نبَّههم من عبوديَّة تهدِّدهم: العناصر الأوَّليَّة. اعتاد العالم القديم أن يؤلِّه الأشياء التي حوله: البحر مؤلَّه ولا بدَّ من إرضائه (بالضحايا مثلاً). الجبل مؤلَّه ولا بدَّ من السجود أمامه. وهناك إله الحرب وإله المدينة وإله (أو: إلاهة) الحبّ وإله الموت... حدَّثهم الرسول عن حرِّيَّة المؤمنين: »فإن كنتم متُّم مع المسيح وتخلَّصتم من قوى الكون الأوَّليَّة، فكيف تعيشون كأنَّكم تَنتمون إلى هذا العالم؟ لماذا تَخضعون لمثل هذه الفرائض؟« (كو 2: 20).

الموت هنا يدلُّ على المعموديَّة. مُتُّم عن الخطيئة وذيولها، فهل تبقون في الموت؟ مُتُّم عن هذا العالم، العالم الوثنيّ، أما تريدون أن تتخلَّصوا منه؟ تخلَّقتم بأخلاق العالم، فمتى تتخلَّقون بأخلاق المسيح؟ (فل 2: 5).

قال الرسول لأهل غلاطية: »أمّا الآن، بعدما عرفتم الله، بل عرفكم الله، فكيف تعودون إلى قوى الكون الأوَّليَّة الضعيفة الحقيرة وتريدون أن تكونوا عبيدًا لها كما كنتم من قبل؟ تراعون الأيّام والشهور والفصول والسنين« (غل 4: 9-10). هذه هي العناصر التي تستعبد الإنسانَ لقوى الكون التي يؤلِّهها؟ وهكذا يسيطر الخوف علينا فنودُّ أن نعرف المستقبل وأيّ مصير ينتظرنا. عندما نسمع أولئك الذين يحسبون السنوات من عمرنا والأشهر فيقابلونها مع أعداد أخرى ويقولون لنا ماذا تكون النتيجة، يحزن قلبنا. عندما نسمع الناس يقولون لنا ماذا سوف يحصل في السنة القادمة، لأنَّ هذا الكوكب قريب من ذاك، نتساءل: هل الكواكب الجامدة المائتة تحرِّك الإنسان الذي هو فوق الكواكب وسيِّدها؟ لا شكّ هو قصبة ضعيفة بجسده وهو صغير بالنسبة إلى الكون الواسع، ولكنَّه بعقله وقلبه وحرِّيَّته أرفع من الكون. فلماذا نركع، نخضع، وننتظر خلاصنا من تلاقي الكواكب وموقع الشمس والقمر وتوالي السنين؟

قال الرسول: »كنتم عبيدًا لآلهة ما هي بالحقيقة آلهة« (آ8ب). كنتم معذورون »حين كنتم تجهلون الله« (آ8أ). أمّا الآن، أتريدون أن تلبَثوا في جهلكم الله وتنظِّموا حياتكم بحياتكم؟ كم نشبه الشعب العبرانيّ في البرِّيَّة. كلَّمه الربُّ على الجبل من خلال البروق والرعود وصوت البوق، فقالوا: نعمل بكلِّ ما أوصانا الله. ولكن أين هو هذا الإله؟ نحن لا نسمع صوته. وإن سمعناه فمن خلال موسى كليمه. ولكن نودُّ أن نراه. من أجل هذا صنع لهم هارون، أخو موسى، تمثال عجل. فرحوا بهذا »الإله« الصغير، الحقير، وسجدوا له، ورقصوا حوله. ضحُّوا له بكلِّ شيء »بحلق الذهب التي في آذان نسائهم« (خر 32: 3). وهكذا عادوا إلى العبوديَّة. والإنسان المعاصر بماذا لا يضحّي وأيَّ مال لا يدفع لكي يسمع كلمة خادعة تقول له ماذا يفعل. عباداتنا كثيرة وأصنامنا أكثر: الأشخاص، الأحزاب، المصالح، الغنى، الغرائز...

قرأ بولس هذا النصَّ وغيرَه من سفر الخروج. قال: »فلا أريد أن تجهلوا، أيُّها الإخوة، أنَّ آباءنا كانوا كلُّهم تحت السحابة، وكلُّهم عبروا البحر... وكلُّهم أكلوا طعامًا روحيٌّا واحدًا... ومع ذلك ما رضيَ الله عن أكثرهم، فسقطوا أمواتًا في الصحراء« (1 كو 10: 1-5). اشتهوا الشرَّ فوقعوا فيه. تعبَّدوا للأوثان واستسلموا للزنى... وكانت النتيجة وخيمة.

من أجل هذا دعانا الرسول إلى الجهاد بحيث نبقى أحرارًا. قال لنا في الرسالة إلى أفسس: »ليس جهادنا مع لحم ودم، بل مع أصحاب الرئاسة والسلطان والسيادة على هذا العالم، عالم الظلام والأرواح الشرّيرة« (أف 6: 12). هي عبوديَّة ثالثة تهدِّد الإنسان في حرِّيَّته وعليه في هذا المجال أن يحمل السلاح. ولكن أيُّ سلاح؟ لا الدرع ولا الترس ولا السهام ولا الخوذة ولا السيف؟ هذا ما حمله المؤمنون على مرِّ العصور. إذا كنت لا تقدر أن تُحيي، لماذا لا تقتل وتميت؟ إن لم أستطع أن أقنع أخي (أو: أختي) بطرق الله، أقنعه بطرق البشر الذين عرفوا آلاف الحروب صغيرها وكبيرها.

لا. مثلُ هذا السلاح لا ينفع. بل هو مضرٌّ كلُّ الضرر ويبقى المؤمنون في حالة من الضياع والتقهقر. هذا السلاح منذ القديمَ رفَضَهُ الله ومنع الانتقام حتّى عن قايين القاتل. هذا السلاح أفنى قبائل عديدة ودمَّر المدن. لأنَّ من يأخذ بالسيف بالسيف يُؤخذ، والعنف لا يمكن أن يجرَّ إلاَّ العنف. إذًا، أيَّ سلاح نأخذ؟ »سلاح الله الكامل« (آ13). بمثل هذا السلاح يثبت المؤمن ويقاوم في يوم الشرّ. وهكذا تحوّلَ سلاح البشر. »المنطقة« يضعها المحارب على خصره ليضع فيها ما يلزمه للقتال، صارت في منطق الرسول: الحقيقة. لا مجال للكذب والرياء والاحتيال. والدرع تدلُّ على العدالة والاستقامة. ولا ننسَ نعالَ المحارب التي تحدَّث عنها إشعيا، النعال التي تدوس العدوّ. هذه أحرَقَها الله مع »كلِّ ثوب ملطَّخ بالدماء« (إش 9: 5). هذه النعال صارت الاندفاع والحماسة لحمل الخبر الطيِّب إلى البشر، إنجيل السلام. وإن واجهتنا السهام لا نردُّها بسهام مقابلة بحيث نُقتَل أو نَقتل، فترسُنا هو الإيمان. ويتحدَّث النصُّ عن »سهام الشرّير«، أي الشيطان. فعالم الحرب هو عالم إبليس، ذاك الذي دعاه الربّ: »الكذّاب وأبا الكذب«. قال عنه: »ما ثبت على الحقّ، لأنَّ لا حقَّ فيه. وهو يكذب، والكذب في طبعه« (يو 8: 44).

وأخيرًا، أين يكون الخلاص الذي رمزت إليه خوذة يلبسها المؤمن؟ في كلام الله. ذاك هو السيف الذي به نحارب، فقيل: »كلمة الله حيَّة فاعلة، أمضى من كلِّ سيف له حدَّان، تنفذُ في الأعماق« (عب 4: 12). عندئذٍ وعندئذٍ فقط يستطيع الإنسان أن يكون حرٌّا. فالبغضُ يَستعبد ومثله الحقد. والسلاح البشريّ يُشعل الخوف من خصمي ويشعله فيَّ. وماذا يُرجى من مجتمع يعيش التهديد المتبادل؟ ومن أجل هذا العنف نستعدُّ للتضحية بكلِّ شيء. وهكذا صار العنف إلهًا نعبده. والقوَّة رَبَّة نخضع لها. ولكن إذا كنّا عرفنا الله، هل نعبد سواه؟ وإذا كان الله عرفَنا، اختارنا، أحبَّنا، أرادنا لمهمَّة رائعة وهي إضفاء مسحة من الجمال على الكون، وإحلال السلام بيننا وبين الآخرين، فماذا ننتظر لكي نتجاوب مع هذا النداء؟

الخاتمة

هكذا نقرأ بولس الرسول في أيّامنا، لا كما يقرأه بعض كتّابنا في هذا الشرق، فلا يتعدُّوا حرف الكلام. هم لا يَصلون إلى الروح، مع أنَّ بولس قال: الحرف يقتل والروح يُحيي. وفي الغرب؟ هذا الذي حسبه بعض العالم الغربيّ »مؤسِّس المسيحيَّة« دعا نفسه »عبد يسوع المسيح ورسوله«. أنريد للإيمان أن يكون عمل بشر؟ مثلُ هذا العمل يَسقط بسرعة على ما قال المعلِّم غملائيل في محاكمة الرسل: »لأنَّ ما يبشِّرون به ويعلِّمونه يزول إذا كان من عند البشر. أمّا إذا كان من عند الله، فلا يمكنكم أن تزيلوه لئلاَّ تصيروا أعداء الله« (أع 5: 38-39). أجل، ما نقرأه في الرسائل البولسيَّة هو من عند الله. تَسلَّمه بولسُ في الكنيسة وسلَّمه إلى الجماعات التي بشَّرها. اكتشف الربَّ على طريق دمشق وأراد لكلِّ إنسان أن يكتشف ما اكتشفه هو.

محيطنا الشرقيّ يحتاج إلى نظرة جديدة إلى المرأة إذا أراد أن يرتقي. وبولس ينبِّهنا: امرأة حرَّة رجل حرّ. امرأة عبدة، رجل عبد. وتكون المسيرة كما أرادها الرسول تدريجيَّة لئلاَّ يحصل ما يحصل في بعض الدول الغربيَّة من المآسي. محيطنا الشرقيّ مقيَّد بالشرائع وكأنَّه لم يتخلَّ بعدُ عن »خمير الفرّيسيّين والصادوقيّين« (مت 16: 6). الإكراه، القهر، تتميم الوصايا »البشريَّة« والعادات التي تتجذَّر في القديم الوثنيّ بما فيه من خرافات وأكاذيب تُبقي الإنسان عابدًا لما يخاف. لا شريعة سوى شريعة المحبَّة ومنها تنطلق كلُّ الشرائع والوصايا. فحين تغيب المحبَّة لا يكون الإنسان مؤمنًا بالله، ولا يمكنه أن ينتظر منه خلاصًا. والحرِّيَّة في قلوبنا هي نداء بولس الرسول إن عرفنا أن نفهمه. لا مكان للقَدَر في نظر المؤمن، تلك القدرة التي اعتُبرت في العالم القديم فوق الآلهة والبشر. لا مكان لمصير محدَّد يُكتَب لنا فلا نستطيع أن نتجاوزه. لا مكان لقوَّة حتميَّة مسبقة تحدِّد مسيرة الأحداث. علَّمَنا الرسول: لا رجوع إلى الوراء، إلى الأمجاد الماضية نفتخر بها بعد أن زالت ومضت. بل تطلُّعٌ إلى الأمام. وبهذا نختم كلامنا: »أترك ما ورائي وأنبطح إلى الأمام من أجل الدعوة العلويَّة«. تلك دعوةٌ إلى كلِّ واحد منا. تلك دعوة إلى الشرق العربيّ ليأخذ مكانته بين الأمم والشعوب من أجل بناء الإنسان وحضارة المحبَّة.
 
قديم 05 - 04 - 2024, 10:38 AM   رقم المشاركة : ( 156565 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,320

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة





أسرار التنشئة في الكنيسة البولسيّة

حين نتحدّث عن أسرار التنشئة، نتذكّر الأسرار الثلاثة الأولى، التي تحدّد الهوية المسيحية: المعموديّة، التثبيت والافخارســتيّا(1). عرف الآبــاء »التنشــئة« منذ القــرن الثــاني، كما كانت تمارَس في العالم الوثنيّ، ولكنّهم انتظروا القرن الرابع الذي هو »العصر الذهبيّ« بالنسبة إلى هذه الممارسة لكي ينظّموا ليتورجيا نموذجيّة تحمل رمزيّة غنية، عميقــة. وامتــدّت هذه »التنشئـة« طــوال أربعــين يوماً، هي أيام الصيام المبارك. عندئذ يتســـجّل »الموعوظون«(2) مــــن أجــل المعموديّة، لأن »المعموديّة هي الاسم الأصلي للتنشئة«(3). هــــــم أيضـــــاً: المختارون(4). و»الطالبون«(5). عن هذه التنشئة تحدّث كيرلس الأورشليميّ(6)، وتيودور، أسقف المصيصة(7)، ويوحنا الذهبيّ الفم(8)، وامبرواز أسقف ميلانو(9)، وأوغســـطـين، أسقف هـيبونة (= عنـــابة الحالية)(10) وسويريوس الانطـــاكي(11). هكذا نتعرّف على التنشئة في كنائس أورشليم وسورية والقسطنطينية وميلانو وقرطاجة وانطاكية... فأين هو الينبوع الذي استقى منه آباء الكنيسة لكي »يدرّجوا« طالبي العماد خلال الصوم الأربعيني؟ في ما قاله بولس الرسول إلى جماعة كورنتوس سنة 57. نبدأ فنقدّم نصاً نتأمّل فيه وندرسه قبل أن نستخلص مسيرة »الموعوظين« كما عرفـتها الكنائس البولسيّة.

1 - نتعلّم من الكتب المقدّسة

في إطار الكلام عن الأوثان (ف 8 - 10)، راح الرسول في استطراد بلفت انتباه المؤمنين فيدعوهم »أيها الاخوة«(12). ويعيدهم إلى خبرة الشعب العبراني في البرية. وها نحن نقدّم النصّ (10: 1-13) كما في ترجمة بين السطور(13).

1 فلا أريدكم أن تجهلوا، أيها الإخوة، أن آباءنا كلّهم تحت السحابة كانوا وكلّهم في البحر عبروا.

2 وكلُّهم لموسى عُمّدوا في السحابة وفي البحر

3 وكلُّهم أكلوا الطعام الروحي نفسه

4 وكلُّهم شربوا الشراب الروحي نفسه، لأنهم كانوا يشربون من مرافقة صخرة (= من صخرة ترافقهم)، والصخرةُ كانت (= هي) المسيح

5 لكن ما رضي الله بأكثرهم فصُرعوا (سقطوا أمواتاً) في البريّة

6 وهذه أمثلةًد„د…د€خ؟خ¹ صارت لنا، لئلاّ نكون نحن مشتهين شروراً كما أولئك أيضاً اشتهوا

7 ولئلاّ تصيروا عبّاد أوثان، كما بعضٌ منهم، كما كُتب: جلس الشعب ليأكل وليشرب، وقاموا ليلعبوا

8 ولا نزنِ كما بعضٌ منهم زنوا، وسقطوا في يوم واحد ثلاثةٌ وعشرون ألفاً

9 ولا نجرّب المسيح كما بعضٌ منهم جرّبوا، وبالحيّات كانوا يهلكون

10 ولا تتذمّروا كما بعض منهم تذمّروا، وهلكوا من (قِبَل) ملاك الموت

11 وهذه كمثالد„د…د€خ¹خ؛د‰د‚ كــانت تحــدث، لأولئك وكتبت لإنذارنا خ½خ؟د…خµدƒخ¹خ±خ½، الذين إليهم نهاياتُ الدهور انتهت

12 إذاً، من يظنّ أنه يقوم (قائم، واقف) لينظر (= ليحذر) لئلاّ يسقط

13 تجربتكم ما أصابت إلاّ (حالة) بشريّة، وأمينٌ (هو) الله الذي لن يدَعَكم أن تجرَّبوا فوق ما تقدرون، لكن سيجعل مع التجربة أيضاً المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا.

كيف بدا هذا التوسّع فوصل إليه بولس تاركاً ما يتعلّق بعبادة الأوثان؟ بواسطة الصفة »مرذولاً« كما نقرأها في 9:9(14). ظنّ الأقوياء في الجماعة أنهم ثابتون ولا شيء يزعزهم، فردّ عليهم الرسول: يمكن أن تُرذَلوا كما رُذل أبناءُ الشعب الأول. ها هنا أخطار التكبّر والاعتداد بالذات.

فلا أريدكم أن تجهلوا (آ 1). نحن هنا أمــــام نَفيين، الأول ''لا'' خ؟د… والــــثـــان خ± في بـــداية الفعــــــل خ±-خ³خ½خ؟خµخ¹خ½: أن لا تعرفوا. هناك طريقتان للكلام: إمّا الطريقة الايجـــابيّة: أريدكـــم أن تعرفــوا خ³خ½خ؟خµخ¹خ½. وإمّــا النفيان كمــا هو الأمر هنا. رج 10: 1. ويبدو أن استعمال الصيغة الايجابية يفترض أن المعلومة التي تُعطى هي معروفة(15). واستعمال النفيان يعني أن المعلومة جديدة(16).

آباءنا. هم أفراد الشعب الاول. فمع أن الجماعة تألّفت من مسيحيين آتين من العالم الوثنيّ، فبولس يتوجّه إليهم وكأنّهم ارتبطوا بالعهد، شأنهم شأن بني اسرائيل (1: 2؛ 5: 13؛ 12: 2). هي المرة الوحيدة يعود فيها بولس إلى الخروج ويذكر الشعب الأول على أنه آباء د€خ±د„خµدپخµد‚ الكورنثيين. أما في 2 كو 3 - 4 فيقاسم الكورنثيون بعض الخير في مسيرة الخروج. هذا يعني أن هذه الخبرة معروفة، شاملة، لهذا جاء اللفظ »كلّهم« د€خ±خ½د„خµد‚ مرّتين في هذه الآية. ثم يرد أكثر من مرّة. كل هذا سوف يوجّهنا إلى الإرشاد اللاحق: »فليحذر السقوط« (10: 12).

عُمّدوا. الــفعل في المجهول (17) خµخ²خ±د€د„خ¹دƒخ¸خ·دƒخ±خ½ . الله عمّد شعبــــه حين »غطس، غرق، عبـــر« خ´خ¹خ·خ»خ¸خ؟خ½ في البحر الأحمر. ولكن جاء من صحّح الفعل بحيث يزول اللبس بين »عماد في موسى« و»عماد في المـسيح«. فاستعملـوا (18) خµخ²خ±د€د„خ¶خ±خ½د„خ؟ . ظنّ بعضهم أنه وُجد »عماد« في العالم اليهودي المتأخّر على مثال العالم المسيحي. ولكن لا شيء أكيداً في هذا المجال. أما الرسول فلا يقابل بين »عماد« و»عماد«. بل بين »خبرة بني اسرائيل« و»خبرة الكورنثيين« ليستخلص الموقف الواجب اتخاذه(19).

الـــــروحـــي (آ 4) د€خ½خµد…خ¼خ±د„خ¹خ؛خ؟خ½. المعنى الروحي هو الذي يقرأه المسيحيون، وهذا ما يعارض النظرة اليهودية. وهو أمرٌ واضح نجده في الانجيل الرابع: عرض يسوع الماء على السامرية، فحَسبَتْ أنه يستطيع أن يعمل عنها ويملأ لها الجرّة. ولكن يسوع تكلّم عن ماءٍ آخر يتفجّر في المؤمن حياة أبدية. وشبع اليهود من خمسة أرغفة وسمكتين. ورجعوا إلى الوراء، إلى خبرتهم مع موسى. أما يسوع فقال لهم: »خبز الله هو الذي ينزل من السماء ويعطي العالم الحياة« (يو 6: 23). والولادة الثانية لدى نيقوديمس صارت دخولاً جديداً في بطن أمه »ليُولَد« (يو 3: 4).

المعنى المادي يدلّ على المنّ. المعنى الروحي يوجّهنا نحو معنى آخر. وكذا نقول عن الماء الذي تفجَّر من الصخرة، فرافق الشعب العبرانيّ حتى الوصول إلى أرض الميعاد. هل صار الصخر »صهريجًا« يختزن الماء ويسير مع السائرين في البرية؟ أما بولس فيرى هنا شخص المسيح الذي يرافق المؤمنين »الجائعين والعطــاش إلى البــر« (مت 5: 9). د€خ½خµد…خ¼خ±د„خ¹خ؛خ؟د‚ هــو لــفــظ بولسي بامتياز. فإذا وضعنا جانباً 1 بط 2: 5 ورؤ 11: 8، فهو لا يرد إلاّ في الرسائل البولسيّة، وفي 1 كو وحدها، خمس عشرة مرة. نحن أمام عمل الروح في قدرة الله الخالقة والخلاصية. فالمسافة بعيدة بين طعام التقطه بنو اسرائيل وطعام أغدقه الله عليهم.

كـل مــــا حصـــل هو مـثال (آ 6) د„د…د€خ؟د‚، نـمـوذج، يجمع السمـات الرئيسيّة. فكأننا نرى هنا ما سوف يتمّ مع يـسوع الـمسيـح. أمّــا الظــــرف د„د…د€خ¹خ؛د‰د‚ فلا يرد في العهد الجديد إلاّ هنا، في 1 كو 10:11. وهكذا نكون أمام تضمين بين آ 6 وآ 11، ممّا يدلّ على وحدة أدبيّة. استعمل الآباء الرسوليون لفظ »مثال« ليدلّوا على صورة مسبقة لتاريخ الخلاص في يسوع المسيح. نذكر هنا يوستين في الحوار مع تريفون: »وكذلك الاثنا عشر جرساً التي كانت تُعلَّق تقليدياً على ثوب رئيس الكهنة الطويل، كانت ترمز إلى الاثني عشر رسولاً المنتمين إلى قدرة المسيح الكاهن الأبديّ«(20).

ولا نجرّب المسيح (آ 9). غير أن هناك مخطوطــات قديمــة، مثل السينائي والفاتيكــاني والافــــرامي والــــنــصّ المتسلَّم(21)، تقدّم عبارة بيبليّة نقرأها في تث 6: 16؛ رج خر 17: 7؛ »لا نجرّب الربّ«. ويقرأ الاسكندرانيّ ومخطوط آخر (81) يعود إلى القرن السادس: »لا نجرّب الله« أما يوحنا الذهبي الفم فقال مرة »المسيح« ومرّة »الربّ«. وبما أن مع المسيح هي القراءة الأصعب(22)، أَخذت بها النسخة الشبه رسميّة(23). ظنَّ البعض أن التصحيح جــــاء في خطّ مسحنـــة الكتـــابات اليهوديّة. ذاك كان موقف بولس الشميشاطي، أسقف انطاكية في القرن الثالث. غير أن 10: 9 هي كافية لكي نقرأ هنا: »ولا نجرّب المسيح«. فالمسيح ليس مجرّد بشر، بل هو الله وابن الله، وبالتالي يعمل في الأزمنة البيبليّة.

كما بعض منهم جرّبوا. لا نجد هنا المفعول به. ولكن الرسول يعود إلى سفر العدد (21: 5 - 6) وإلى المزامير (78: 18): نقص الطعام والشراب، فتذمّر الشعب على الله وعلى موسى، وكان العقاب الحيّات السامّة.

كل هذا كُتب ليكون لنا »مثالاً« (آ 11). »هذه الأشياء حدثت لهم«. أضــافت بعض المخطوطــات »كــل« تارة قبل »لهم« وطوراً بعد: »حدثت لهم كلهم«. ولكن عدم ثبات »كل« يدلّ أنّناً أمام تصحيح للنصّ.

كُتبت لانذارنا خ½خ؟د…خ¸خµدƒخ¹خ±خ½ (آ 11). هو لفظ لا يرد إلاّ في الكتابات البولسيّة (أف 6: 4؛ تي 3: 10). وهو يعني »التعليم«(24). وفي الوقت عينه التوبيخ والتأنيب (حك 16: 6)، ولا سيّما من قبل الوالدين، كما قال الرسول في 4:14 (ناصــحٌ خ½خ؟د…خ¸خµد„د‰خ½ ) عـــرف العالم اليهودي الهلنستيّ توبيخ الله لشعبه، لا لكي يعاقبهم، بل ليردّهم إليه (فيلون، حياة موسى 1: 110). انطلق بولس من هذا الخبر لكي »يوبّخ« الكورنثيين. فعددٌ كبير منهم يعتبرون نفوسهم من العارفين ولا يحتاجون إلى من يُرشدهم (2: 6).

2 - شعب العهد القديم مثال لشعب العهد الجديد

يُشكّل هذا النص (10: 1 - 31) الذي نقرأ وحدة أدبيّة، نستطيع أن نقسمها قسمين كبيرين، مع تنبيه من التجربة التي أصابت الشعب الأول وتصيب الكورنثيين إن لم ينتبهوا إلى التجربة، هذا مع العلم أن الله لا يجرّبُنا فوق طاقتنا. في آ 1 - 5، كلّ شعب اسرائيل اختبروا عطايا الله الخلاصيّة. ومقابل هذا، بعضٌ منهم تمرّدوا على الله (آ 6 - 11). خمسة أمثلة إيجابيّة، وخمسة أمثلة سلبيّة، نافية. يبدو أننا هنا أمام عظة ألقاها بولس كما فعل مثلاً في أنطاكية بسيدية حيث أنطلق من مصر والقضاة وصموئيل فوصل إلى داود وبالتالي إلى يسوع المسيح (أع 13: 16 - 52). أما في 1 كو، فلبث في سفر الخروج والعيش في البرية، وقدّم لائحة بأعمال الله الخلاصيّة، ثم لائحة بالخطايا تنتهي بتحذير للسامعين. مثل هذه البنية نجدها في نصوص الكتاب المقدس: في نشيد موسى (تث 32)؛ في مز 78. كما نجدها في الأدب اليهودي وفي العهد الجديد (الرسالة إلى العبرانيين)(25).

أما آ 1 - 5 فهي مدراش أو درس وتأمّل، يرتبط بالخروج والإقامة في البـريّة. أول هديّـة من لدن الله: السحابـة خ½خµد†خµخ»خ·. هنا نقرأ خر 13: 21:

وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود من سحاب

ليهديهم في الطريق

وليلاً في عمود من نار ليضيء لهم،

فواصلوا السير نهاراً وليلاً.

كيف يمكن أن يسير الشعب في النهار، وحرّ الشمس يلفحُهم؟ لهذا جعل الله لهم »مظلّة« ترافقهم. تلك هي حماية الرب في النهار، مع حماية مماثلة في الليل: نار تضيء. فالسحابة ترافق ظهور الله (خر 19: 9) الذي يقود شعبه بحيث لا يضلّ الطريق. ردّد مز 105: 39 هذه الخبرة:

بسط سحاباً ظلّلهم

وناراً أضاءت لهم في الليل(26)

والهدية الثانية: عبور البحر (خر 14: 21):

ومدّ موسى يده على البحر،

فأرسل الرب على البحر

ريحاً شرقيّة عاصفة طول الليل

حتى أيبس ما بين مياهه فانشقّت المياه.

الخطر يلاحق العبرانيين بعد أن »شدّ فرعون مركبته وأخذ جيشه معه، واختار ست مئة مركبة من مركباته، وأخذ معها جميع مركبات مصر وعليها قادتها« (خر 14: 6-7). الموت من وراء موسى وشعبه. والموت أمامهم. فانفتح البحر ومضى الشعب كما على أرض يابسة. »وكان الماء لهم سوراً عن يمينهم وعن يسارهم« (آ 22). هي خبرة خلاص رائعة، أنشدها مز 66: 6

حوّل البحر إلى يبس

وبالأرجل عبر آباؤنا النهر.

ونقرأ مز 78: 13 - 14 الذي يجمع البحر إلى السحاب:

شقّ البحر لهم ليعبروا،

ونصب المياه كتلٍّ مرتفع.

هداهم بالسحاب في النهار

وطولَ الليل بضوء النار.

هي حماية الله في السحاب، وقدرته في تحطيم أكبر جيش في ذلك الزمان. ووصل العبرانيون إلى البرية: ماذا يأكلون وهم عدد كبير(27)؟ فأرسل الرب لهم المنّ الذي هو منّة من الله وهديّة. نقرأ خر 16: 4:

فقال الرب لموسى:

»الآن أُمطر لكم خبزاً من السماء،

وعلى الشعب أن يخرجوا ليلتقطوه

طعام كلّ يوم بيومه«.

المنّ رافقهم في مسيرتهم حتى وصلوا إلى أرض البعاد. فنقرأ يش 5: 12:

ومنذ أن أكلوا من غلّة الأرض،

انقطع عنهم المنّ

فالـــرب يحــمي شــعــبه بشكل عجائبيّ، ساعة الشعب يحنّ إلى طعام مصر (خر 16: 3؛ عد 11: 4 - 6). وفي ما يعمل يُظهر مجده، كما نقرأ في مز 78: 23:

فأمر الغيوم من فوق

وفتح أبواب السماء

فأمطرت مناً ليأكلوا،

حنطة أعطاهم من السماء.

والهدية الرابعة: ماء يشربونه. نقرأ خر 17:

3 وعطش هناك بنو اسرائيل إلى الماء

5 فقال الرب لموسى:

»خذ بيدك عصاك

6 فتضرب الصخرة فيخرج منها ماء ليشرب منه الشعب«.

ونقرأ العبارة الايجابيّة الأخيرة: »تعمّدوا لموسى« أو: »في موسى«. أي: غطسوا في موسى لكي يتّحدوا به فيرافقوه في مسيرته عبر البرية(28).

خمسة أقوال إيجابيّة كان بإمكانها أن تجعل من مسيرة الشعب من مصر إلى أرض الميعاد تطوافاً مجيداً برفقة الله، فإذا هي تعطي النتيجة المعاكسة. جاءت الأداة خ±خ»خ»خ± : ولــكن، ومع ذلك. لم يكن كلُّ هذا للحياة، بل للموت: »صُرعوا خ؛خ±د„خµدƒد„دپخ؟خ¸خ·دƒخ±خ½. صيغة المجهول للدلالة على عمل الله الذي لم يَرضَ عن شعبه. أو بالأحرى، رفض الشعب أن يُرضيَ الله فابتعد عنه كما في مثل الابن الضال (لو 15)، فكان له المــــوت لا الحـــيـــاة. إذاً، ليــحـذر الكورنــثــيــون: المــوت هنا ينتظرهم. والمثال الذي يسمعونه عن خبرة البرّيــة لا يقــودهم إلى معرفة نفوسهم وأنه يسقطــون كمـــا سقط »آباؤهم« في البريّة.

خـبـرة الشـعـب في البرية مَثَل د„د…د€خ؟د‚ للمؤمنين في كورنتوس. نالوا ما نالوا من مواهب فبدوا عاقّين، ناكري الجميل. هكذا بُني المدراش في التراث اليهودي وهو ينقسم قسمين: هاغادا وهلكه. أما الهاغادا فهي الخبر. والهلكة هي السلوك. بعد أن يسمع المؤمنون كلاماً عن أعمال الله، يُدعَون إلى تبديل حياتهم: إذا سمعتم صوته، فلا تُقسّوا قلوبكم. مع الهلكة تبدأ التوصيات مع النافية: لا. هم فعلوا. وأنتم لا تفعلوا. وهكذا نكون أمام خمس لاءات:

الأولى: لا نشتهي (آ 6)، لا نكون مشــتــهيـــن خµد€خ¸د…خ¼خ·د„خ±د‚. وهكذا لا نتشبَّه بالشعب العبراني. هنا يعود بولس إلى خبرة قبروت هتأوة. نقرأ عد 11:

وتأوّه الأوباش الذين فيما بين اسرائيل شهوة إلى اللحم،

فجاراهم الكثيرون من بني اسرائيل

وبكوا وقالوا: »من يطعمنا لحمًا«؟

الشهوة. في العبرية مع المفعول المطلق : : اشتهوا شهوة. هذا ما يدلّ على عمق الشهوة. ونقلت السبعيــنــيـــة النـــص العـــبري حــرفياً خµد€خ¹خ¸د…خ¼خ·دƒخ±خ½ خµد€خ¹خ¸د…خ¼خ¹خ±خ½

33 وبينما اللحم بين أسنانهم قبل أن يمضغوه

اشتدّ غضب الرب على الشعب فضربهم ضربة عظيمة جداً.

أرسل الرب طيور السلوى طعاماً عجيباً، مثل المنّ. ولكنه تحوّل عقاباً على ثورة الشعب وتمرّده. وهكذا صار »اللحم« عطية ملتبسة: طعام عجيب للذين طلبوه بتواضع، عقاب أليم للذين طالبوا به في جوّ من العصيان والتذمّر(29). والتساؤل: كيف يتعامل الكورنثيون مع مواهب نالوها من الرب؟ لن تكون حالهم أفضل من حالة العبرانيين. قال بولس إلى مؤمني رومة الآتين من الوثنية: اليهود لم يؤمنوا فقُطعوا من الشجرة وأنتم طُعِّمتم مكانهم. فإذا لم تؤمنوا يكون مصيركم كمصيرهم.

اللاء الثانية: لا تصيروا عبّاد أوثان (آ 7) خµخ¹خ´خ؟خ»خ؟خ»خ±د„دپخ±خ¹. هـــنـــــا يـــعـود الموضوع إلى ما فعله العبرانيون حين كان موسى على الجبل. أتوا إلى هرون وقالوا: »قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا« (خر 32: 1). كيف يسمع هرون لمثل هذا القول؟ لهذا جاء في هامش الترجوم: »يُقرأ ولا يترجم«(30) لئلاّ يتشكّك السامعون. ومع ذلك، »نزع جميع الشعب حلق الذهب التي في آذان نسائهم وجاؤوا بها إلى هرون، فأخذها من أيديهم وأذابها وسكبها في صنم على صورة عجل« (آ 3 - 4). ورسم سفر الخروح ما عمل الشعب أمام هذا الصنم: »جلسوا يأكلون ويشربون، ثم قاموا يمرحون« (آ 6). ثلاثة أفعــــال: أكــــل د†خ±خ³خµخ¹خ½، شرب د€خ¹خ½خµخ¹خ½ ، لــــعـــب أو مــــرح د€خ±خ¹خ¶خµخ¹خ½ . : ضحك. تلك هي الأفعال الواردة في النص البولسيّ. هكذا كانت تئمّ العبادة أمام البعل، فجاء في بعض الترجمات: »جلسوا يأكلون طعام العيد، فانقلبت وليمتهم عربدة«. وأضاف الترجوم: »ثم نهضوا ليمرحوا بفلتان في عبادة الأصنام«.

أتُرى عاد الكورنثيون إلى عبادة الأوثان؟ الأمر معقول جداً. كان الفقــراء يشـترون اللـحم من ذبـــائح الأوثان، فمــا توقّفــوا. ثم هناك الأصحــاب الذين يُجبـــرون المؤمنين على المشاركة بالعيد في مناسبة من المناسبات. لهذا جاء كلام الرسول قاسياً: »لا تستطيعون أن تشربوا كأس الـرب وكــأس الشــيــاطـيـن، ولا أن تشتــركـــوا في مــائدة الرب ومــائدة الشياطين« (1 كو 10: 21). بعد أن أكل »الكورنثيون« المنّ وشربوا الماء من الصخرة، ها هم يفعلون الشيء عينه أمام »عمل« صنعه لهم »هرون«.

الـلاء الثـــالـــثــــة: لا نـــــــزنِ (آ 8) خ¼خ·خ´خµ د€خ؟دپخ½خµد…خ؟خ¼خµخ½ . يشــــيـــر الرسول هنا إلى ما حصل في فاغور. قــــــال عـد 25: 1: ''وأخــذوا يزنــــون'' بالأرض. هو الزنى حول المعبد، ويُدعى البغاء المكرّس، فيتّحد الملك مع إحدى الصبايا علامة على اتحــــاد السـماء بالأرض خ؛خ±خ¹ خ؟ خ½د„د‰د€خ·خ²خµخ²خµخ· خ»خ±خ؟د‚ خµخ؛د€خ؟دپخ½خµد…دƒخ±خ¹ زنى الشعب فكان العقاب كبيراً مع تضخيم في الأرقام! ثلاثة وعشرون ألفاً. سقطوا خµد€خµدƒدپخ±خ½. أما الزنى فهو أيضاً تطلّع إلى الأوثان وخيانة الرب، كما الشريك الزاني يخون شريكه. فالخطر خطران، وهو يهدّد الكورنثيين. لهذا جاء التحذير: »لا نزن«.

اللاء الرابعة: لا نجرّب (آ 9) خ¼خ·خ´خµ خµد€خµخ¹دپخ±خ¶د‰خ¼خµخ½ .في البداية »جرّب« الشعبُ الرب: هل يقدر؟ هل هو معنا أم لا؟ نريد أن نرى الرب ماشياً أمامنا، على مثال الأصنام التي تُحمَل في مقدّمة التطواف. أما هنا فتُذكر »ضربةُ« الحيّات. نقرأ في عد 14: 2: ''ولام جميعُ بني اسرائيل موسى وهرون وقالوا لهما: »يا ليتنا متنا في أرض مصر... لماذا جاء الربّ بنا إلى هذه الأرض؟« (آ 3). بل عزموا أن ''يقيموا رئيساً عليهم'' (آ 4). وأسوأ من هذا، قالوا: »هيَّا نرجمهما بالحجارة« (آ 10). وفي عد 21: 5: ''تكلّموا على الله وعلى موسى''. حينئذ أتت ''حيات ناريّة'' . هــذا مــــا يقابل في العربية ''ح ن ش'' (نوع من الحيات). رج في السريانية . تــحــــدّث الـــيـــونــــانـــي عـــــــن الحــيّــاتد„خ؟د…د‚ خ؟د†خµخ¹د‚، ولكنه لم يَدعُهـــا »الحـــارقــة«، بـــــل »القــاتلة« خ¸خ±خ½خ±د„خ؟د…خ½د„خ±د‚. هنا يُبرز الترجوم عقوق الشـعـب: »فـــي المــاضي لعـنـتُ الحـيّة...أخرجتُ شعبي من أرض مصر، أعطيتُ الحيةَ الترابَ مأكلاً، أما شعبي فأنزلتُ له المن من السماء... ولكنَّ شعبي عاد يتذمّر قدّامي على المن الذي هو طعام هزيل. إذاً، لتأتِ الحية التي لم تتذمّر على طعامها، ولتعضّ هذا الشعب الذي تذمّر على طعامه«(31).

واللاء الخامسة والأخيرة: »لا تتذمّروا« (آ 10) خ¼خ·خ´خµ خ³خ؟خ³خ³د…خ¶خµد„خµ . هذا ما نقرأ في الاسكندراني والفاتيكاني والأفرامي وغيرها مع عدد كبير من المخطوطات الجرارة والآبـــاء. ولكنّ الســـيـــنــائي والبازي واوريمجــان وأوغسطــيـــن فتركوا صيغة الأمر مع المخاطب الجمع، وأخذوا بصيغة التمنيّ مع المتكلم الجمع: لا نجرّبْ. قد يكون »التمني« تأثّر بما في آ 9 (لا نزنِ). نلاحظ هنا أن اللاءتان الثانية (آ 7) والرابعة (آ 10) هما ارشادان متوازيان يتحدّثان عن جيل البرية كمثَل سلبيّ، وقد جاءت في صيغة الأمر خ¼خ·خ´خµ خ³خ¹خ½خµدƒد„خµ. ثم: لا تتذمّروا. أما اللاءات الثانية والثالثة (آ 9) فجاءتا في صيغة التمني: لا نزنِ، لا نجرّب.

تذمّر العبرانيون على موسى

(عد 14: 2). في اليونانية: خ´خµخ³خ؟خ³خ³د…خ¶خ؟خ½ استعمل بولس الفعل عينه مرتين خµخ³خ³خ؟خ³د…دƒخ±خ½ ثم خ³خ؟خ³خ³د…خ¶خµد„خµ»أنتم لا تتذمّروا كما هم تذمّروا، لئلاّ يأتي ملاك الموت خ؟خ»خ؟خ¸دپخµد…د„خ؟د… . لا يرد هذا اللفظ إلاّ هنا في العهد الجديد كلّه، وهو يتألف من لفظين خ؟خ»خ؟خ؟د‚. (الهلاك) ثم (بكى، ندب). نشير إلى أن ملاك الموت يُذكَر في خر 12: 23 خ؟خ»خ؟خ¸دپخµد…خ؟خ½د„خ± على أنه ''المهلــــك'' . الفعل هو . في العربية: سحت: أفسد، أهلك.

3 - من الكتاب المقدس إلى الليتورجيا

اعتادت الكنائس الشرقيّة أن تقرأ الكتب المقدّسة في إطار ليتورجي كما يقول المجمع الفاتيكاني الثاني في دستور في الليتورجيا(32). أما 1 كو 10: 1 - 13، فهو خلاصة الحياة الليتورجية في كنيسة كورنتوس. يُذكر أولاً فعل العماد. عماد في موسى، في العهد الأول. وعماد في يسوع، في العهد الثاني. يسوع نفسه هو الذي يغطّسنا في الماء فنموت معه لنعود إلى الحياة. أمَا هكذا كانت تتمّ الليتورجيا حين ينزل »السامع« في الماء بعد أن يخلع ثيابه. ثم يلبس ثوباً أبيض يرافقه سبعة أيام. وفي اليوم الثامن، الذي دُعي في الليتورجيا الأحد الجديد، ينطلق مَنْ تعمّد يوم الفصح في حياة كتلك التي وعد بها يسوع نيقوديمس.

فالعبور في البحر موضوع يرتبط بالعماد منذ الكنيسة الأولى، في خطّ ما فعله بولس. ونقرأ ما كتب القديس يوستين حوالي سنة 152 إلى الامبراطور انطونين، من دفاع هو الأول:

ونحن نصلّي ونصوم معاً،

ثم نذهب بهم إلى مكان فيه ماء

وهنا بالطريقة نفسها التي تجدّدنا بها نحن، يتجدّدون هم بدورهم(33)

ويتواصل الكلام (ص 81)

هذا الاستحمام يُدعى استنارة، لأن الذين يتلقّون هذه العقيدة يمتلئ روحُهم ناراً، ويغتسل المستنير أيضاً باسم يسوع المسيح الذي صُلب على عهد بيلاطس البنطي في ليلة الفصح. ساعة ينال الموعوظون العماد، تقرأ الليتورجيا عبور البحر الأحمر ونشيد موسى الذي فيه يَشكرُ الله على خلاص أمّنه لشعبه، فأوصله إلى أرض الميعاد (خر 14 - 15). انفتح البحر وجاءت السحابة تحمي الشعب من الذين يلاحقونهم. وما ان عبروا، حتَّى انغلق البحر على المصريين. وهكذا رافقت صورة العماد صورة النصر التي حازها المؤمنون بالصليب المنتصر على الشيطان الذي يستعبدنا (34).

وتحدّث كيرلس الأورشليمي عن »مجد الشيطان الذي يرمز إليه فرعون«:

كان فرعون، هذا الظالم المفتري القاسي، يضطهد شعب العبرانيين الحرّ الأصيل، أرسل الله موسى ليحرّرهم من عبودية المصريين المضنية... وبطريقة تدعو إلى العجب، نجا شعب العبرانيين. فانطلق العدوّ في إثر الذين استردّوا حريتهم، وعندما رأى البحر قد انشقّ لهم بأعجوبة، اندفع وراءهم فغمرته فجأة مياه البحر الأحمر(35).

إن مضمون عبور البحر الأحمر ظهر منذ العهد القديم مع تلوين اسكاتولوجي. قال الرب في إش 43: 19:

في الصحراء أَشقّ طريقاً

وفي القفر أُجري الأنهار(36)

ونقرأ في 51: 10 كيف أن عبور البحر الأحمر هو صورة عن انتصار الله على رهب، الذي يرمز إلى مصر:

وجففتُ مياه البحر

مياه الغمر العظيم

فجعلتُ أعماقه طريقاً

ليعبر فيه المفتدون

وما قاله العهد القديم، وجد صداه في العهد الجديد، في سفر الرؤيا، مع صورة الوحش الذي تدمّره المياه، ساعة يجد عبادُ الله نفوسهم منتصرين بعد أن وصلوا إلى الشاطئ الآخر، وبعد أن عبروا بحر الموت(37). نقرأ رؤ 15: 2 - 3:

ورأيتُ ما يشبه بحراً من البلور المختلط بالنار.

ورأيت الذين غَلبوا الوحش وصورتَه وعددَ اسمه،

واقفين على بحر البلور، معهم قيثارات الله

ويرتّلون نشيد عبد الله موسى ونشيد الحمل

ونقدّم هنا بعض النصوص من آباء الكنيسة. ديديم الأعمى في كتابه عن الثالوث (2: 14)

إن بحر الأحمر الذي تلقّى أيضاً بني اسرائيل الذين لم يرتابوا، والذي نجّاهم من شرور المصريين الذين يلاحقونهم، وكل خبر الخروج من مصر، كل هــذا هو رمز د„د…د€خ؟د‚ إلى الخلاص الذي تمنحه المعمودية. فمصر رمزت إلى العالم الذي فيه نصنع شقاءنا حين نعيش في الشرّ. والشعب هو هؤلاء الذين استناروا (= اعتمدوا) الآن. والمياه التي هي للشعب وسيلة خلاص، تدلّ على المعمودية. وفرعون وجنوده هم إبليس وجنوده

باسيل في الروح القدس، ف 14

يردُ ما يتعلّق بخروج بني اسرائيل ليدلّ على الذين خُلّصوا بالعماد... فالبحر هو صورة المعمودية التي تنجّي من فرعون، كما المعمودية من طغيان ابليس. البحر قتل العدوّ. وكذلك في المعمودية دُمّرت عداوتُنا مع الله. خرج الشعب من البحر بصحّة وعافية، ونصعد نحن أيضاً من الماء مثل أحياء من بين الموتى.

غريغوار النيصي

عبور البحر الأحمر هو بحسب القديس بولس نفسه، نبوءة عن عمل (خ´خµخ¹دپخ³د‰) سر العماد. فالآن أيضاً، حين يقترب الشعب من مياه الولادة الجديدة، هارباً من مصر التي هي الخطيئة، فهو ينجو ويخلص، ويهلك إبليس وجنودُه وارواح الشرّ (38).

وأفرام السرياني في أناشيد الدنح(39)

عبر الشعب البحر فصوّر حينئذ مثالاً ( ـ›ـکـ¦ـ£ـگ د‚خ؟د€خ؟د‚)

للمعمودية التي بها تغتسلون

عبرها الشعب (اليهودي) ولم يؤمن

أما الشعوب فاعتمدت وآمنت ونالت الروح القدس (1: 6)

موسى عمّد الشعب في داخل البحر

ولم يستطع غسل قلبه من الداخل لامتلائه بأدناس الخطايا (7: 5)

ومع المعمودية الذي هو الموضوع الأساسي، يظهر عمود السحاب الذي رافق العبرانيين خلال مسيرة الخروج. فموضوع السحاب الذي هو علامة سكنى الله في الخيمة، نجده في العهد القديم كله. وفي يو 1: 14 نعرف أن سكن الله يرتبط ببشريّة يسوع(40). ونبدأ مع أوريجان في عظاته حول سفر الخروج (5: 1)

أنظروا كيف أن التقليد البولسيّ يختلف عن القراءة التاريخيّة. ما يعتبره اليهود »عبور البحر«، يدعوه القديس بولس »المعمودية«. وما ظنوا أنه »سحاب«، أكَّد القديس بولس أنه الروح القدس. وأراد من هذا العبور أن يُفسّر في ذات معنى وصيّة الرب الذي قال: »إن لمْ يولَد الانسان من الماء والروح القدس، لا يقدر أن يدخل ملكوت السماوات«.

وهكذا دلّت السحابة التي تظلّل المؤمنين على الروح القدس. فهذا ما نفهمه في قراءتنا لمشهد البشارة: الروح يحل عليك وقوّة العلي تظلّلك. إذاً نحن أمام اسرار التنشئة الثلاثة: المعمودية، التثبيت، الافخارستيا. ونقرأ ما تركه القديس امبراوز في الأسرار (12 - 13)، وذلك بعد أن عدّد صور المعمودية:

ووصلت إلينا الشهادة الثالثة بيد الرسول... جميع آبائنا كانوا تحت السحاب... ثمّ يقول موسى نفسه في نشيده: »أرسلتَ روحك فابتلعَهم البحر. فترى في عبور العبرانيين حيث هلك المصري ونجا العبري، صورةً مسبقة عن العماد المقدّس. وماذا تتعلّم أيضاً بواسطة هذا السر؟ أن الخطيئة غرقت، والضلال زال ونجت التقوى والبرارة.

أما السحابة فهي صورة عن حضور الروح القدس:

هي التي أتت على العذراء مريم، وقدرة العلي غطّتها بظلّها.

واستعاد امبرواز الموضوع عينه مع تفاصيل جديدة في أسرار الكنيسة(41). فيبين سموّ الأسرار (أو: المقدّسات) المسيحية على »الأسرار« اليهودية:

ما الذي هو أهمّ من عبور الشعب اليهوديّ للبحر؟ ومع ذلك فاليهود الذين عبروا ماتوا كلّهم في البرية. أما الذي عبر بهذه العين (الماء) أي من الأمور الأرضيّة إلى الأمور السماوية - وهذا هو الانتقال transitus أي الفصح، العبور من الخطيئة إلى الحياة. إذاً، من يعبر بهذه العين لن يموت بل يقوم.

ويتواصل الكلام في خطّ أوريجان:

عمود السحاب هو الروح القدس. كان الشعب في البحر وسحابة النور تسير أمامه، ثم عمود السحاب يتبعه، مثل ظِلّ الروح القدس. فترى أنه بالروح القدس وبالماء تجلّت صورة المعموديّة.

وبـــعـد المــعــمـوديّة والتـثـبـيـت، الافخارستيا: الطعام الروحي والشراب الروحي. هذا ما يقودنا إلى المنّ في البرية، وصخرة حوريب.

قال يوحنا الذهبي الفم:

رأيتَ بالنسبة إلى المعمودية ما كانت الصورة وما كانت الحقيقة. والآن أريك المائدة أيضاً وتناول الأسرار المرسومة هنا. هذا إذا كنت لا تطلب أن تجدها كلها، بل أن تتفحّص الوقائع كما هو من الطبيعي أن تكون في الصوَر. فبعد عبور السحاب والبحر، قال بولس: وكلهم شربوا شراباً روحياً واحداً. وقال ايضاً: أنتَ حين تصعد من حوض المياه، تقترب بسرعة من المائدة. وهكذا هم حين صعدوا من البحر، أتوا إلى مائدة جديدة وعجيبة، أعني المنّ. وكما نلتَ شراباً سرياً، الدم الخلاصيّ، كذلك هم نالوا نوعاً عجيباً من الشراب، إذ لم يجدوا هناك لا نبعاً ولا مياه جارية، بل مياهاً وافرة تتفجّر من صخر جاف.

وهكذا تبرز المتتالية التي تضمّ الافخارستيّا إلى العماد في إطار الخروج من مصر، والطعام والشراب في البريّة. ونقرأ تيودوريه القورشي:

الأمور القديمة صورة عن الجديدة: شريعة موسى هي الظلّ، والنعمة هي الجسم. حين كان المصريون يلاحقون العبرانيين، عبَرَ هؤلاء البحرَ الأحمر ونجوا من تسلّطهم. فالبحر صورة عن حوض العماد. والسحاب عن الروح. وموسى عن المسيح المخلّص. والعصا عن الصليب وفرعون عن إبليس. والمصريون عن الشياطين. والمنّ عن الطعام الالهي، ومياه الصخرة عن دم المخلّص. وكما أن الناس بعد أن عبروا البحر الأحمر ذاقوا طعاماً إلهياً وينبوعاً خارقاً، كذلك نحن، بعد العماد الخلاصيّ، نشارك في الأسرار الالهيّة.

في خطّ انجيل يوحنا، ارتبط المنّ بالافخاستيا (يو 6: 31 - 33). نستطيع أن نذكر قبريانس في الرسالة 69 أو 70(42) أو القديس أوغسطين في خطبة إلى معمّدين جدد أو في العظة 216 ، 259(43). ولكننا تكتفي بالعودة إلى امبرواز:

معجزةٌ كبيرة المنُّ الذي نثره الله على الآباء. فالسماء غذّتهم بطعام يومي كما كُتب: »أكل الانسان خبز الملائكة« (مز 78: 25). ومع ذلك، فالذين أكلوا هذا الخبز ماتوا في البرية. أما هذا الطعام الذي تتقبّلُ، الخبز النازل من السماء، فهو يمنحك جوهر الحياة الأبدية. إنه جسد المسيح. كم النور يتفوّق على الظلّ! والحقيقة على الصورة! وجسد الخالق على منّ السماء!

وننهي كلامنا مع يعقوب السروجي، صاحب الصور الرائعة. في الميمر الرابع من مجموعة بيجان(44)، يطلب هذا الشاعر أن ينزل إلى بحر أسرار الابن:

25 أكل الشعب المنّ وتذمّر على الباري (الخالق)

وما سبّح على مأكله، هذا الشرِهُ

26 تنكّر للنعمة، كما وجب عليه بعد الوليمة

وما شكر من قاته بشبع كبير

27 أُرسل له خبز الملائكة لكي يسمَن به

فما حسن له ذاك الطعام لأنه ناكر (النعمة)

33 وفّر (الله) لهذا الطمّاع (الشعب) المنّ والسلوى، وهما بسيطان له.

تَخِمَ من الأكل، ولأنه جاع ولوَلَ وجدّف

34 في البرية، شرب من الصوّان مياهاً مباركة

وما اندهش بهذه المعجزة العجيبة

35 السحب والرياح قرَّبتْ له الطعام،

فتكاسل وما سبّح حين كان يأكل

45 ولما اشتدّ، تمرمر بتذمّر كبير

أدّبه (الاله) العادل بحيّات تتقيّأ السمّ

48 وبما أنه ما سبّح لأنه نجا من المصريين،

أتت الأفاعي ولدغته فتمرمرَ

49 غلب لاويثان (الثعبان، الملتوي) الذي هو فرعون ورضَّ رؤوسه،

وبما أنه ما شكر، ابتُلع برؤوس الحيّات.

الخاتمــة

من عبادة الأصنام في مصر إلى الحرية في عبادة الله، مروراً بالبحر الأحمر وصولاً إلى البرية مع المن والسلوى والمياه الخارجة من الصخر. هدايا حلوة من الرب للشعب الأول، ولكنه بدا وكأنه لم يقبلها فدلّ على أن رضى الله ابتعد عنه، فمات الرائحون في خطى موسى قبل أن يصلوا إلى ارض الميعاد. لا شكّ في أنهم اجتمعوا حول الجبل وأخذوا الوصايا وقطعوا العهد مع الرب، ولكنهم ما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا عليه في الماضي. عادوا إلى عبادة الأوثان مع العجل الذهبي، ثم الزنى والبغاء المكرّس، عادوا يجرّبون الله ويتذمّرون على عبده موسى. ومع أن الله كان يؤدّبهم في كل مرة، فما قبلوا التأديب، بل راحوا إلى ملاك الموت، الذي نجوا منه يوم الفصح الأول وخروجهم من مصر، ليكون لهم الهلاك. تلك هي الليتورجيا التي يعيشها اليهود على مدّ تاريخهم خصوصاً في الأعياد الثلاثة التي فيها يحجّون إلى المعبد، أي في الفصح والأسابيع والمظال.

انطلق بولس من هذه الليتورجيا، فرأى فيها مثلاً من أجل المؤمنين في كورنتوس، الذين بدوا وكأنهم لم يختلفوا في شيء عن الشعب الأول. كانوا وثنيّين، فعادوا إلى الممارسات الوثنية. مارسوا الزنى بأنواعه بما فيه البغاء المكرَّس، وها هم يعودون إليه. ويطرحون الأسئلة لكي يعرفوا إلى أي حد يستطيعون أن يمضوا. نال العبرانيون عطايا ماديّة ترمز إلى العالم الروحي، ولا سيّما مع المسيح. ولكنها تبقى مادية: نجاة من موت الجسد. طعام وشراب وقيادة. أما المسيحيون فنالوا هبات روحيّة سامية هي اسرار التنشئة. المعمودية حيث مرّوا في حوض الماء. كما عبر العبرانيون في البحر، هم أيضاً عبروا من ضفة الخطيئة إلى ضفة النعمة والخلاص. ظلّلت السحابة الشعب في صحراء شمسُها قاسية. أما المسيحيون فظلّلهم الروحُ القدس حين نالوا »سرّ التثبيت« كما تدعوه الكنيسة في لاهوتها. وأخيراً، سر الافخارستيا: الطعام الروحي والشراب الروحي. لم نعد فقط أمام المنّ، بل أمام جسد الرب ودمه: من يأكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة الأبدية. لم نعد فقط أمام ماء »يخرج من الصخرة«، بل أمام المسيح، الماء الحيّ الذي يرافقنا في مسيرتنا اليوميّة. قالت التقاليد اليهوديّة إن هذه الصخرة رافقت العبرانيين حتّى وصولهم إلى ارض الموعد. هو تمنّ. فانطلق بولس من هنا وقال: »هذه الصخرة هي المسيح«.

ذاك اساس الليتورجيا العمادية التي تستقبل »الموعوظين« أو »السامعين« كما نقول في التقليد السرياني. فبعد التعليم، يأتي النداء من أجل عيش بحسب مشيئة الله فيرضى عنا. أما التجارب التي يمكن أن تعترضنا، فنحن لا نخاف منها، لأنَّنا نعرف أن الرب لا يسمح بأن نجرَّب فوق طاقتنا. فيبقى الموقف الذي يأخذه المؤمن على ما قال سفر التثنية: وضعتُ أمامك الموت والحياة، الشقــاء والسعـادة، فماذا تختار؟ عبادة الأصنـــام وعبوديتها، أم عبـادة الله في الحرية لأننا أبنـــاء الـله؟
 
قديم 05 - 04 - 2024, 10:39 AM   رقم المشاركة : ( 156566 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,320

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة





أسرار التنشئة في الكنيسة البولسيّة

حين نتحدّث عن أسرار التنشئة، نتذكّر الأسرار الثلاثة الأولى، التي تحدّد الهوية المسيحية: المعموديّة، التثبيت والافخارســتيّا(1). عرف الآبــاء »التنشــئة« منذ القــرن الثــاني، كما كانت تمارَس في العالم الوثنيّ، ولكنّهم انتظروا القرن الرابع الذي هو »العصر الذهبيّ« بالنسبة إلى هذه الممارسة لكي ينظّموا ليتورجيا نموذجيّة تحمل رمزيّة غنية، عميقــة. وامتــدّت هذه »التنشئـة« طــوال أربعــين يوماً، هي أيام الصيام المبارك. عندئذ يتســـجّل »الموعوظون«(2) مــــن أجــل المعموديّة، لأن »المعموديّة هي الاسم الأصلي للتنشئة«(3). هــــــم أيضـــــاً: المختارون(4). و»الطالبون«(5). عن هذه التنشئة تحدّث كيرلس الأورشليميّ(6)، وتيودور، أسقف المصيصة(7)، ويوحنا الذهبيّ الفم(8)، وامبرواز أسقف ميلانو(9)، وأوغســـطـين، أسقف هـيبونة (= عنـــابة الحالية)(10) وسويريوس الانطـــاكي(11). هكذا نتعرّف على التنشئة في كنائس أورشليم وسورية والقسطنطينية وميلانو وقرطاجة وانطاكية... فأين هو الينبوع الذي استقى منه آباء الكنيسة لكي »يدرّجوا« طالبي العماد خلال الصوم الأربعيني؟ في ما قاله بولس الرسول إلى جماعة كورنتوس سنة 57. نبدأ فنقدّم نصاً نتأمّل فيه وندرسه قبل أن نستخلص مسيرة »الموعوظين« كما عرفـتها الكنائس البولسيّة.

1 - نتعلّم من الكتب المقدّسة

في إطار الكلام عن الأوثان (ف 8 - 10)، راح الرسول في استطراد بلفت انتباه المؤمنين فيدعوهم »أيها الاخوة«(12). ويعيدهم إلى خبرة الشعب العبراني في البرية. وها نحن نقدّم النصّ (10: 1-13) كما في ترجمة بين السطور(13).

1 فلا أريدكم أن تجهلوا، أيها الإخوة، أن آباءنا كلّهم تحت السحابة كانوا وكلّهم في البحر عبروا.

2 وكلُّهم لموسى عُمّدوا في السحابة وفي البحر

3 وكلُّهم أكلوا الطعام الروحي نفسه

4 وكلُّهم شربوا الشراب الروحي نفسه، لأنهم كانوا يشربون من مرافقة صخرة (= من صخرة ترافقهم)، والصخرةُ كانت (= هي) المسيح

5 لكن ما رضي الله بأكثرهم فصُرعوا (سقطوا أمواتاً) في البريّة

6 وهذه أمثلةًτυποι صارت لنا، لئلاّ نكون نحن مشتهين شروراً كما أولئك أيضاً اشتهوا

7 ولئلاّ تصيروا عبّاد أوثان، كما بعضٌ منهم، كما كُتب: جلس الشعب ليأكل وليشرب، وقاموا ليلعبوا

8 ولا نزنِ كما بعضٌ منهم زنوا، وسقطوا في يوم واحد ثلاثةٌ وعشرون ألفاً

9 ولا نجرّب المسيح كما بعضٌ منهم جرّبوا، وبالحيّات كانوا يهلكون

10 ولا تتذمّروا كما بعض منهم تذمّروا، وهلكوا من (قِبَل) ملاك الموت

11 وهذه كمثالτυπικως كــانت تحــدث، لأولئك وكتبت لإنذارنا νουεσιαν، الذين إليهم نهاياتُ الدهور انتهت

12 إذاً، من يظنّ أنه يقوم (قائم، واقف) لينظر (= ليحذر) لئلاّ يسقط

13 تجربتكم ما أصابت إلاّ (حالة) بشريّة، وأمينٌ (هو) الله الذي لن يدَعَكم أن تجرَّبوا فوق ما تقدرون، لكن سيجعل مع التجربة أيضاً المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا.

كيف بدا هذا التوسّع فوصل إليه بولس تاركاً ما يتعلّق بعبادة الأوثان؟ بواسطة الصفة »مرذولاً« كما نقرأها في 9:9(14). ظنّ الأقوياء في الجماعة أنهم ثابتون ولا شيء يزعزهم، فردّ عليهم الرسول: يمكن أن تُرذَلوا كما رُذل أبناءُ الشعب الأول. ها هنا أخطار التكبّر والاعتداد بالذات.

فلا أريدكم أن تجهلوا (آ 1). نحن هنا أمــــام نَفيين، الأول ''لا'' ου والــــثـــان α في بـــداية الفعــــــل α-γνοειν: أن لا تعرفوا. هناك طريقتان للكلام: إمّا الطريقة الايجـــابيّة: أريدكـــم أن تعرفــوا γνοειν. وإمّــا النفيان كمــا هو الأمر هنا. رج 10: 1. ويبدو أن استعمال الصيغة الايجابية يفترض أن المعلومة التي تُعطى هي معروفة(15). واستعمال النفيان يعني أن المعلومة جديدة(16).

آباءنا. هم أفراد الشعب الاول. فمع أن الجماعة تألّفت من مسيحيين آتين من العالم الوثنيّ، فبولس يتوجّه إليهم وكأنّهم ارتبطوا بالعهد، شأنهم شأن بني اسرائيل (1: 2؛ 5: 13؛ 12: 2). هي المرة الوحيدة يعود فيها بولس إلى الخروج ويذكر الشعب الأول على أنه آباء πατερες الكورنثيين. أما في 2 كو 3 - 4 فيقاسم الكورنثيون بعض الخير في مسيرة الخروج. هذا يعني أن هذه الخبرة معروفة، شاملة، لهذا جاء اللفظ »كلّهم« παντες مرّتين في هذه الآية. ثم يرد أكثر من مرّة. كل هذا سوف يوجّهنا إلى الإرشاد اللاحق: »فليحذر السقوط« (10: 12).

عُمّدوا. الــفعل في المجهول (17) εβαπτισθησαν . الله عمّد شعبــــه حين »غطس، غرق، عبـــر« διηλθον في البحر الأحمر. ولكن جاء من صحّح الفعل بحيث يزول اللبس بين »عماد في موسى« و»عماد في المـسيح«. فاستعملـوا (18) εβαπτζαντο . ظنّ بعضهم أنه وُجد »عماد« في العالم اليهودي المتأخّر على مثال العالم المسيحي. ولكن لا شيء أكيداً في هذا المجال. أما الرسول فلا يقابل بين »عماد« و»عماد«. بل بين »خبرة بني اسرائيل« و»خبرة الكورنثيين« ليستخلص الموقف الواجب اتخاذه(19).

الـــــروحـــي (آ 4) πνευματικον. المعنى الروحي هو الذي يقرأه المسيحيون، وهذا ما يعارض النظرة اليهودية. وهو أمرٌ واضح نجده في الانجيل الرابع: عرض يسوع الماء على السامرية، فحَسبَتْ أنه يستطيع أن يعمل عنها ويملأ لها الجرّة. ولكن يسوع تكلّم عن ماءٍ آخر يتفجّر في المؤمن حياة أبدية. وشبع اليهود من خمسة أرغفة وسمكتين. ورجعوا إلى الوراء، إلى خبرتهم مع موسى. أما يسوع فقال لهم: »خبز الله هو الذي ينزل من السماء ويعطي العالم الحياة« (يو 6: 23). والولادة الثانية لدى نيقوديمس صارت دخولاً جديداً في بطن أمه »ليُولَد« (يو 3: 4).

المعنى المادي يدلّ على المنّ. المعنى الروحي يوجّهنا نحو معنى آخر. وكذا نقول عن الماء الذي تفجَّر من الصخرة، فرافق الشعب العبرانيّ حتى الوصول إلى أرض الميعاد. هل صار الصخر »صهريجًا« يختزن الماء ويسير مع السائرين في البرية؟ أما بولس فيرى هنا شخص المسيح الذي يرافق المؤمنين »الجائعين والعطــاش إلى البــر« (مت 5: 9). πνευματικος هــو لــفــظ بولسي بامتياز. فإذا وضعنا جانباً 1 بط 2: 5 ورؤ 11: 8، فهو لا يرد إلاّ في الرسائل البولسيّة، وفي 1 كو وحدها، خمس عشرة مرة. نحن أمام عمل الروح في قدرة الله الخالقة والخلاصية. فالمسافة بعيدة بين طعام التقطه بنو اسرائيل وطعام أغدقه الله عليهم.

كـل مــــا حصـــل هو مـثال (آ 6) τυπος، نـمـوذج، يجمع السمـات الرئيسيّة. فكأننا نرى هنا ما سوف يتمّ مع يـسوع الـمسيـح. أمّــا الظــــرف τυπικως فلا يرد في العهد الجديد إلاّ هنا، في 1 كو 10:11. وهكذا نكون أمام تضمين بين آ 6 وآ 11، ممّا يدلّ على وحدة أدبيّة. استعمل الآباء الرسوليون لفظ »مثال« ليدلّوا على صورة مسبقة لتاريخ الخلاص في يسوع المسيح. نذكر هنا يوستين في الحوار مع تريفون: »وكذلك الاثنا عشر جرساً التي كانت تُعلَّق تقليدياً على ثوب رئيس الكهنة الطويل، كانت ترمز إلى الاثني عشر رسولاً المنتمين إلى قدرة المسيح الكاهن الأبديّ«(20).

ولا نجرّب المسيح (آ 9). غير أن هناك مخطوطــات قديمــة، مثل السينائي والفاتيكــاني والافــــرامي والــــنــصّ المتسلَّم(21)، تقدّم عبارة بيبليّة نقرأها في تث 6: 16؛ رج خر 17: 7؛ »لا نجرّب الربّ«. ويقرأ الاسكندرانيّ ومخطوط آخر (81) يعود إلى القرن السادس: »لا نجرّب الله« أما يوحنا الذهبي الفم فقال مرة »المسيح« ومرّة »الربّ«. وبما أن مع المسيح هي القراءة الأصعب(22)، أَخذت بها النسخة الشبه رسميّة(23). ظنَّ البعض أن التصحيح جــــاء في خطّ مسحنـــة الكتـــابات اليهوديّة. ذاك كان موقف بولس الشميشاطي، أسقف انطاكية في القرن الثالث. غير أن 10: 9 هي كافية لكي نقرأ هنا: »ولا نجرّب المسيح«. فالمسيح ليس مجرّد بشر، بل هو الله وابن الله، وبالتالي يعمل في الأزمنة البيبليّة.

كما بعض منهم جرّبوا. لا نجد هنا المفعول به. ولكن الرسول يعود إلى سفر العدد (21: 5 - 6) وإلى المزامير (78: 18): نقص الطعام والشراب، فتذمّر الشعب على الله وعلى موسى، وكان العقاب الحيّات السامّة.

كل هذا كُتب ليكون لنا »مثالاً« (آ 11). »هذه الأشياء حدثت لهم«. أضــافت بعض المخطوطــات »كــل« تارة قبل »لهم« وطوراً بعد: »حدثت لهم كلهم«. ولكن عدم ثبات »كل« يدلّ أنّناً أمام تصحيح للنصّ.

كُتبت لانذارنا νουθεσιαν (آ 11). هو لفظ لا يرد إلاّ في الكتابات البولسيّة (أف 6: 4؛ تي 3: 10). وهو يعني »التعليم«(24). وفي الوقت عينه التوبيخ والتأنيب (حك 16: 6)، ولا سيّما من قبل الوالدين، كما قال الرسول في 4:14 (ناصــحٌ νουθετων ) عـــرف العالم اليهودي الهلنستيّ توبيخ الله لشعبه، لا لكي يعاقبهم، بل ليردّهم إليه (فيلون، حياة موسى 1: 110). انطلق بولس من هذا الخبر لكي »يوبّخ« الكورنثيين. فعددٌ كبير منهم يعتبرون نفوسهم من العارفين ولا يحتاجون إلى من يُرشدهم (2: 6).

2 - شعب العهد القديم مثال لشعب العهد الجديد

يُشكّل هذا النص (10: 1 - 31) الذي نقرأ وحدة أدبيّة، نستطيع أن نقسمها قسمين كبيرين، مع تنبيه من التجربة التي أصابت الشعب الأول وتصيب الكورنثيين إن لم ينتبهوا إلى التجربة، هذا مع العلم أن الله لا يجرّبُنا فوق طاقتنا. في آ 1 - 5، كلّ شعب اسرائيل اختبروا عطايا الله الخلاصيّة. ومقابل هذا، بعضٌ منهم تمرّدوا على الله (آ 6 - 11). خمسة أمثلة إيجابيّة، وخمسة أمثلة سلبيّة، نافية. يبدو أننا هنا أمام عظة ألقاها بولس كما فعل مثلاً في أنطاكية بسيدية حيث أنطلق من مصر والقضاة وصموئيل فوصل إلى داود وبالتالي إلى يسوع المسيح (أع 13: 16 - 52). أما في 1 كو، فلبث في سفر الخروج والعيش في البرية، وقدّم لائحة بأعمال الله الخلاصيّة، ثم لائحة بالخطايا تنتهي بتحذير للسامعين. مثل هذه البنية نجدها في نصوص الكتاب المقدس: في نشيد موسى (تث 32)؛ في مز 78. كما نجدها في الأدب اليهودي وفي العهد الجديد (الرسالة إلى العبرانيين)(25).

أما آ 1 - 5 فهي مدراش أو درس وتأمّل، يرتبط بالخروج والإقامة في البـريّة. أول هديّـة من لدن الله: السحابـة νεφελη. هنا نقرأ خر 13: 21:

وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود من سحاب

ليهديهم في الطريق

وليلاً في عمود من نار ليضيء لهم،

فواصلوا السير نهاراً وليلاً.

كيف يمكن أن يسير الشعب في النهار، وحرّ الشمس يلفحُهم؟ لهذا جعل الله لهم »مظلّة« ترافقهم. تلك هي حماية الرب في النهار، مع حماية مماثلة في الليل: نار تضيء. فالسحابة ترافق ظهور الله (خر 19: 9) الذي يقود شعبه بحيث لا يضلّ الطريق. ردّد مز 105: 39 هذه الخبرة:

بسط سحاباً ظلّلهم

وناراً أضاءت لهم في الليل(26)

والهدية الثانية: عبور البحر (خر 14: 21):

ومدّ موسى يده على البحر،

فأرسل الرب على البحر

ريحاً شرقيّة عاصفة طول الليل

حتى أيبس ما بين مياهه فانشقّت المياه.

الخطر يلاحق العبرانيين بعد أن »شدّ فرعون مركبته وأخذ جيشه معه، واختار ست مئة مركبة من مركباته، وأخذ معها جميع مركبات مصر وعليها قادتها« (خر 14: 6-7). الموت من وراء موسى وشعبه. والموت أمامهم. فانفتح البحر ومضى الشعب كما على أرض يابسة. »وكان الماء لهم سوراً عن يمينهم وعن يسارهم« (آ 22). هي خبرة خلاص رائعة، أنشدها مز 66: 6

حوّل البحر إلى يبس

وبالأرجل عبر آباؤنا النهر.

ونقرأ مز 78: 13 - 14 الذي يجمع البحر إلى السحاب:

شقّ البحر لهم ليعبروا،

ونصب المياه كتلٍّ مرتفع.

هداهم بالسحاب في النهار

وطولَ الليل بضوء النار.

هي حماية الله في السحاب، وقدرته في تحطيم أكبر جيش في ذلك الزمان. ووصل العبرانيون إلى البرية: ماذا يأكلون وهم عدد كبير(27)؟ فأرسل الرب لهم المنّ الذي هو منّة من الله وهديّة. نقرأ خر 16: 4:

فقال الرب لموسى:

»الآن أُمطر لكم خبزاً من السماء،

وعلى الشعب أن يخرجوا ليلتقطوه

طعام كلّ يوم بيومه«.

المنّ رافقهم في مسيرتهم حتى وصلوا إلى أرض البعاد. فنقرأ يش 5: 12:

ومنذ أن أكلوا من غلّة الأرض،

انقطع عنهم المنّ

فالـــرب يحــمي شــعــبه بشكل عجائبيّ، ساعة الشعب يحنّ إلى طعام مصر (خر 16: 3؛ عد 11: 4 - 6). وفي ما يعمل يُظهر مجده، كما نقرأ في مز 78: 23:

فأمر الغيوم من فوق

وفتح أبواب السماء

فأمطرت مناً ليأكلوا،

حنطة أعطاهم من السماء.

والهدية الرابعة: ماء يشربونه. نقرأ خر 17:

3 وعطش هناك بنو اسرائيل إلى الماء

5 فقال الرب لموسى:

»خذ بيدك عصاك

6 فتضرب الصخرة فيخرج منها ماء ليشرب منه الشعب«.

ونقرأ العبارة الايجابيّة الأخيرة: »تعمّدوا لموسى« أو: »في موسى«. أي: غطسوا في موسى لكي يتّحدوا به فيرافقوه في مسيرته عبر البرية(28).

خمسة أقوال إيجابيّة كان بإمكانها أن تجعل من مسيرة الشعب من مصر إلى أرض الميعاد تطوافاً مجيداً برفقة الله، فإذا هي تعطي النتيجة المعاكسة. جاءت الأداة αλλα : ولــكن، ومع ذلك. لم يكن كلُّ هذا للحياة، بل للموت: »صُرعوا κατεστροθησαν. صيغة المجهول للدلالة على عمل الله الذي لم يَرضَ عن شعبه. أو بالأحرى، رفض الشعب أن يُرضيَ الله فابتعد عنه كما في مثل الابن الضال (لو 15)، فكان له المــــوت لا الحـــيـــاة. إذاً، ليــحـذر الكورنــثــيــون: المــوت هنا ينتظرهم. والمثال الذي يسمعونه عن خبرة البرّيــة لا يقــودهم إلى معرفة نفوسهم وأنه يسقطــون كمـــا سقط »آباؤهم« في البريّة.

خـبـرة الشـعـب في البرية مَثَل τυπος للمؤمنين في كورنتوس. نالوا ما نالوا من مواهب فبدوا عاقّين، ناكري الجميل. هكذا بُني المدراش في التراث اليهودي وهو ينقسم قسمين: هاغادا وهلكه. أما الهاغادا فهي الخبر. والهلكة هي السلوك. بعد أن يسمع المؤمنون كلاماً عن أعمال الله، يُدعَون إلى تبديل حياتهم: إذا سمعتم صوته، فلا تُقسّوا قلوبكم. مع الهلكة تبدأ التوصيات مع النافية: لا. هم فعلوا. وأنتم لا تفعلوا. وهكذا نكون أمام خمس لاءات:

الأولى: لا نشتهي (آ 6)، لا نكون مشــتــهيـــن επθυμητας. وهكذا لا نتشبَّه بالشعب العبراني. هنا يعود بولس إلى خبرة قبروت هتأوة. نقرأ عد 11:

وتأوّه الأوباش الذين فيما بين اسرائيل شهوة إلى اللحم،

فجاراهم الكثيرون من بني اسرائيل

وبكوا وقالوا: »من يطعمنا لحمًا«؟

الشهوة. في العبرية مع المفعول المطلق : : اشتهوا شهوة. هذا ما يدلّ على عمق الشهوة. ونقلت السبعيــنــيـــة النـــص العـــبري حــرفياً επιθυμησαν επιθυμιαν

33 وبينما اللحم بين أسنانهم قبل أن يمضغوه

اشتدّ غضب الرب على الشعب فضربهم ضربة عظيمة جداً.

أرسل الرب طيور السلوى طعاماً عجيباً، مثل المنّ. ولكنه تحوّل عقاباً على ثورة الشعب وتمرّده. وهكذا صار »اللحم« عطية ملتبسة: طعام عجيب للذين طلبوه بتواضع، عقاب أليم للذين طالبوا به في جوّ من العصيان والتذمّر(29). والتساؤل: كيف يتعامل الكورنثيون مع مواهب نالوها من الرب؟ لن تكون حالهم أفضل من حالة العبرانيين. قال بولس إلى مؤمني رومة الآتين من الوثنية: اليهود لم يؤمنوا فقُطعوا من الشجرة وأنتم طُعِّمتم مكانهم. فإذا لم تؤمنوا يكون مصيركم كمصيرهم.

اللاء الثانية: لا تصيروا عبّاد أوثان (آ 7) ειδολολατραι. هـــنـــــا يـــعـود الموضوع إلى ما فعله العبرانيون حين كان موسى على الجبل. أتوا إلى هرون وقالوا: »قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا« (خر 32: 1). كيف يسمع هرون لمثل هذا القول؟ لهذا جاء في هامش الترجوم: »يُقرأ ولا يترجم«(30) لئلاّ يتشكّك السامعون. ومع ذلك، »نزع جميع الشعب حلق الذهب التي في آذان نسائهم وجاؤوا بها إلى هرون، فأخذها من أيديهم وأذابها وسكبها في صنم على صورة عجل« (آ 3 - 4). ورسم سفر الخروح ما عمل الشعب أمام هذا الصنم: »جلسوا يأكلون ويشربون، ثم قاموا يمرحون« (آ 6). ثلاثة أفعــــال: أكــــل φαγειν، شرب πινειν ، لــــعـــب أو مــــرح παιζειν . : ضحك. تلك هي الأفعال الواردة في النص البولسيّ. هكذا كانت تئمّ العبادة أمام البعل، فجاء في بعض الترجمات: »جلسوا يأكلون طعام العيد، فانقلبت وليمتهم عربدة«. وأضاف الترجوم: »ثم نهضوا ليمرحوا بفلتان في عبادة الأصنام«.

أتُرى عاد الكورنثيون إلى عبادة الأوثان؟ الأمر معقول جداً. كان الفقــراء يشـترون اللـحم من ذبـــائح الأوثان، فمــا توقّفــوا. ثم هناك الأصحــاب الذين يُجبـــرون المؤمنين على المشاركة بالعيد في مناسبة من المناسبات. لهذا جاء كلام الرسول قاسياً: »لا تستطيعون أن تشربوا كأس الـرب وكــأس الشــيــاطـيـن، ولا أن تشتــركـــوا في مــائدة الرب ومــائدة الشياطين« (1 كو 10: 21). بعد أن أكل »الكورنثيون« المنّ وشربوا الماء من الصخرة، ها هم يفعلون الشيء عينه أمام »عمل« صنعه لهم »هرون«.

الـلاء الثـــالـــثــــة: لا نـــــــزنِ (آ 8) μηδε πορνευομεν . يشــــيـــر الرسول هنا إلى ما حصل في فاغور. قــــــال عـد 25: 1: ''وأخــذوا يزنــــون'' بالأرض. هو الزنى حول المعبد، ويُدعى البغاء المكرّس، فيتّحد الملك مع إحدى الصبايا علامة على اتحــــاد السـماء بالأرض και ο ντωπηβεβεη λαος εκπορνευσαι زنى الشعب فكان العقاب كبيراً مع تضخيم في الأرقام! ثلاثة وعشرون ألفاً. سقطوا επεσραν. أما الزنى فهو أيضاً تطلّع إلى الأوثان وخيانة الرب، كما الشريك الزاني يخون شريكه. فالخطر خطران، وهو يهدّد الكورنثيين. لهذا جاء التحذير: »لا نزن«.

اللاء الرابعة: لا نجرّب (آ 9) μηδε επειραζωμεν .في البداية »جرّب« الشعبُ الرب: هل يقدر؟ هل هو معنا أم لا؟ نريد أن نرى الرب ماشياً أمامنا، على مثال الأصنام التي تُحمَل في مقدّمة التطواف. أما هنا فتُذكر »ضربةُ« الحيّات. نقرأ في عد 14: 2: ''ولام جميعُ بني اسرائيل موسى وهرون وقالوا لهما: »يا ليتنا متنا في أرض مصر... لماذا جاء الربّ بنا إلى هذه الأرض؟« (آ 3). بل عزموا أن ''يقيموا رئيساً عليهم'' (آ 4). وأسوأ من هذا، قالوا: »هيَّا نرجمهما بالحجارة« (آ 10). وفي عد 21: 5: ''تكلّموا على الله وعلى موسى''. حينئذ أتت ''حيات ناريّة'' . هــذا مــــا يقابل في العربية ''ح ن ش'' (نوع من الحيات). رج في السريانية . تــحــــدّث الـــيـــونــــانـــي عـــــــن الحــيّــاتτους οφεις، ولكنه لم يَدعُهـــا »الحـــارقــة«، بـــــل »القــاتلة« θανατουντας. هنا يُبرز الترجوم عقوق الشـعـب: »فـــي المــاضي لعـنـتُ الحـيّة...أخرجتُ شعبي من أرض مصر، أعطيتُ الحيةَ الترابَ مأكلاً، أما شعبي فأنزلتُ له المن من السماء... ولكنَّ شعبي عاد يتذمّر قدّامي على المن الذي هو طعام هزيل. إذاً، لتأتِ الحية التي لم تتذمّر على طعامها، ولتعضّ هذا الشعب الذي تذمّر على طعامه«(31).

واللاء الخامسة والأخيرة: »لا تتذمّروا« (آ 10) μηδε γογγυζετε . هذا ما نقرأ في الاسكندراني والفاتيكاني والأفرامي وغيرها مع عدد كبير من المخطوطات الجرارة والآبـــاء. ولكنّ الســـيـــنــائي والبازي واوريمجــان وأوغسطــيـــن فتركوا صيغة الأمر مع المخاطب الجمع، وأخذوا بصيغة التمنيّ مع المتكلم الجمع: لا نجرّبْ. قد يكون »التمني« تأثّر بما في آ 9 (لا نزنِ). نلاحظ هنا أن اللاءتان الثانية (آ 7) والرابعة (آ 10) هما ارشادان متوازيان يتحدّثان عن جيل البرية كمثَل سلبيّ، وقد جاءت في صيغة الأمر μηδε γινεστε. ثم: لا تتذمّروا. أما اللاءات الثانية والثالثة (آ 9) فجاءتا في صيغة التمني: لا نزنِ، لا نجرّب.

تذمّر العبرانيون على موسى

(عد 14: 2). في اليونانية: δεγογγυζον استعمل بولس الفعل عينه مرتين εγγογυσαν ثم γογγυζετε»أنتم لا تتذمّروا كما هم تذمّروا، لئلاّ يأتي ملاك الموت ολοθρευτου . لا يرد هذا اللفظ إلاّ هنا في العهد الجديد كلّه، وهو يتألف من لفظين ολοος. (الهلاك) ثم (بكى، ندب). نشير إلى أن ملاك الموت يُذكَر في خر 12: 23 ολοθρευοντα على أنه ''المهلــــك'' . الفعل هو . في العربية: سحت: أفسد، أهلك.

3 - من الكتاب المقدس إلى الليتورجيا

اعتادت الكنائس الشرقيّة أن تقرأ الكتب المقدّسة في إطار ليتورجي كما يقول المجمع الفاتيكاني الثاني في دستور في الليتورجيا(32). أما 1 كو 10: 1 - 13، فهو خلاصة الحياة الليتورجية في كنيسة كورنتوس. يُذكر أولاً فعل العماد. عماد في موسى، في العهد الأول. وعماد في يسوع، في العهد الثاني. يسوع نفسه هو الذي يغطّسنا في الماء فنموت معه لنعود إلى الحياة. أمَا هكذا كانت تتمّ الليتورجيا حين ينزل »السامع« في الماء بعد أن يخلع ثيابه. ثم يلبس ثوباً أبيض يرافقه سبعة أيام. وفي اليوم الثامن، الذي دُعي في الليتورجيا الأحد الجديد، ينطلق مَنْ تعمّد يوم الفصح في حياة كتلك التي وعد بها يسوع نيقوديمس.

فالعبور في البحر موضوع يرتبط بالعماد منذ الكنيسة الأولى، في خطّ ما فعله بولس. ونقرأ ما كتب القديس يوستين حوالي سنة 152 إلى الامبراطور انطونين، من دفاع هو الأول:

ونحن نصلّي ونصوم معاً،

ثم نذهب بهم إلى مكان فيه ماء

وهنا بالطريقة نفسها التي تجدّدنا بها نحن، يتجدّدون هم بدورهم(33)

ويتواصل الكلام (ص 81)

هذا الاستحمام يُدعى استنارة، لأن الذين يتلقّون هذه العقيدة يمتلئ روحُهم ناراً، ويغتسل المستنير أيضاً باسم يسوع المسيح الذي صُلب على عهد بيلاطس البنطي في ليلة الفصح. ساعة ينال الموعوظون العماد، تقرأ الليتورجيا عبور البحر الأحمر ونشيد موسى الذي فيه يَشكرُ الله على خلاص أمّنه لشعبه، فأوصله إلى أرض الميعاد (خر 14 - 15). انفتح البحر وجاءت السحابة تحمي الشعب من الذين يلاحقونهم. وما ان عبروا، حتَّى انغلق البحر على المصريين. وهكذا رافقت صورة العماد صورة النصر التي حازها المؤمنون بالصليب المنتصر على الشيطان الذي يستعبدنا (34).

وتحدّث كيرلس الأورشليمي عن »مجد الشيطان الذي يرمز إليه فرعون«:

كان فرعون، هذا الظالم المفتري القاسي، يضطهد شعب العبرانيين الحرّ الأصيل، أرسل الله موسى ليحرّرهم من عبودية المصريين المضنية... وبطريقة تدعو إلى العجب، نجا شعب العبرانيين. فانطلق العدوّ في إثر الذين استردّوا حريتهم، وعندما رأى البحر قد انشقّ لهم بأعجوبة، اندفع وراءهم فغمرته فجأة مياه البحر الأحمر(35).

إن مضمون عبور البحر الأحمر ظهر منذ العهد القديم مع تلوين اسكاتولوجي. قال الرب في إش 43: 19:

في الصحراء أَشقّ طريقاً

وفي القفر أُجري الأنهار(36)

ونقرأ في 51: 10 كيف أن عبور البحر الأحمر هو صورة عن انتصار الله على رهب، الذي يرمز إلى مصر:

وجففتُ مياه البحر

مياه الغمر العظيم

فجعلتُ أعماقه طريقاً

ليعبر فيه المفتدون

وما قاله العهد القديم، وجد صداه في العهد الجديد، في سفر الرؤيا، مع صورة الوحش الذي تدمّره المياه، ساعة يجد عبادُ الله نفوسهم منتصرين بعد أن وصلوا إلى الشاطئ الآخر، وبعد أن عبروا بحر الموت(37). نقرأ رؤ 15: 2 - 3:

ورأيتُ ما يشبه بحراً من البلور المختلط بالنار.

ورأيت الذين غَلبوا الوحش وصورتَه وعددَ اسمه،

واقفين على بحر البلور، معهم قيثارات الله

ويرتّلون نشيد عبد الله موسى ونشيد الحمل

ونقدّم هنا بعض النصوص من آباء الكنيسة. ديديم الأعمى في كتابه عن الثالوث (2: 14)

إن بحر الأحمر الذي تلقّى أيضاً بني اسرائيل الذين لم يرتابوا، والذي نجّاهم من شرور المصريين الذين يلاحقونهم، وكل خبر الخروج من مصر، كل هــذا هو رمز τυπος إلى الخلاص الذي تمنحه المعمودية. فمصر رمزت إلى العالم الذي فيه نصنع شقاءنا حين نعيش في الشرّ. والشعب هو هؤلاء الذين استناروا (= اعتمدوا) الآن. والمياه التي هي للشعب وسيلة خلاص، تدلّ على المعمودية. وفرعون وجنوده هم إبليس وجنوده

باسيل في الروح القدس، ف 14

يردُ ما يتعلّق بخروج بني اسرائيل ليدلّ على الذين خُلّصوا بالعماد... فالبحر هو صورة المعمودية التي تنجّي من فرعون، كما المعمودية من طغيان ابليس. البحر قتل العدوّ. وكذلك في المعمودية دُمّرت عداوتُنا مع الله. خرج الشعب من البحر بصحّة وعافية، ونصعد نحن أيضاً من الماء مثل أحياء من بين الموتى.

غريغوار النيصي

عبور البحر الأحمر هو بحسب القديس بولس نفسه، نبوءة عن عمل (δειργω) سر العماد. فالآن أيضاً، حين يقترب الشعب من مياه الولادة الجديدة، هارباً من مصر التي هي الخطيئة، فهو ينجو ويخلص، ويهلك إبليس وجنودُه وارواح الشرّ (38).

وأفرام السرياني في أناشيد الدنح(39)

عبر الشعب البحر فصوّر حينئذ مثالاً ( ܛܘܦܣܐ ςοπος)

للمعمودية التي بها تغتسلون

عبرها الشعب (اليهودي) ولم يؤمن

أما الشعوب فاعتمدت وآمنت ونالت الروح القدس (1: 6)

موسى عمّد الشعب في داخل البحر

ولم يستطع غسل قلبه من الداخل لامتلائه بأدناس الخطايا (7: 5)

ومع المعمودية الذي هو الموضوع الأساسي، يظهر عمود السحاب الذي رافق العبرانيين خلال مسيرة الخروج. فموضوع السحاب الذي هو علامة سكنى الله في الخيمة، نجده في العهد القديم كله. وفي يو 1: 14 نعرف أن سكن الله يرتبط ببشريّة يسوع(40). ونبدأ مع أوريجان في عظاته حول سفر الخروج (5: 1)

أنظروا كيف أن التقليد البولسيّ يختلف عن القراءة التاريخيّة. ما يعتبره اليهود »عبور البحر«، يدعوه القديس بولس »المعمودية«. وما ظنوا أنه »سحاب«، أكَّد القديس بولس أنه الروح القدس. وأراد من هذا العبور أن يُفسّر في ذات معنى وصيّة الرب الذي قال: »إن لمْ يولَد الانسان من الماء والروح القدس، لا يقدر أن يدخل ملكوت السماوات«.

وهكذا دلّت السحابة التي تظلّل المؤمنين على الروح القدس. فهذا ما نفهمه في قراءتنا لمشهد البشارة: الروح يحل عليك وقوّة العلي تظلّلك. إذاً نحن أمام اسرار التنشئة الثلاثة: المعمودية، التثبيت، الافخارستيا. ونقرأ ما تركه القديس امبراوز في الأسرار (12 - 13)، وذلك بعد أن عدّد صور المعمودية:

ووصلت إلينا الشهادة الثالثة بيد الرسول... جميع آبائنا كانوا تحت السحاب... ثمّ يقول موسى نفسه في نشيده: »أرسلتَ روحك فابتلعَهم البحر. فترى في عبور العبرانيين حيث هلك المصري ونجا العبري، صورةً مسبقة عن العماد المقدّس. وماذا تتعلّم أيضاً بواسطة هذا السر؟ أن الخطيئة غرقت، والضلال زال ونجت التقوى والبرارة.

أما السحابة فهي صورة عن حضور الروح القدس:

هي التي أتت على العذراء مريم، وقدرة العلي غطّتها بظلّها.

واستعاد امبرواز الموضوع عينه مع تفاصيل جديدة في أسرار الكنيسة(41). فيبين سموّ الأسرار (أو: المقدّسات) المسيحية على »الأسرار« اليهودية:

ما الذي هو أهمّ من عبور الشعب اليهوديّ للبحر؟ ومع ذلك فاليهود الذين عبروا ماتوا كلّهم في البرية. أما الذي عبر بهذه العين (الماء) أي من الأمور الأرضيّة إلى الأمور السماوية - وهذا هو الانتقال transitus أي الفصح، العبور من الخطيئة إلى الحياة. إذاً، من يعبر بهذه العين لن يموت بل يقوم.

ويتواصل الكلام في خطّ أوريجان:

عمود السحاب هو الروح القدس. كان الشعب في البحر وسحابة النور تسير أمامه، ثم عمود السحاب يتبعه، مثل ظِلّ الروح القدس. فترى أنه بالروح القدس وبالماء تجلّت صورة المعموديّة.

وبـــعـد المــعــمـوديّة والتـثـبـيـت، الافخارستيا: الطعام الروحي والشراب الروحي. هذا ما يقودنا إلى المنّ في البرية، وصخرة حوريب.

قال يوحنا الذهبي الفم:

رأيتَ بالنسبة إلى المعمودية ما كانت الصورة وما كانت الحقيقة. والآن أريك المائدة أيضاً وتناول الأسرار المرسومة هنا. هذا إذا كنت لا تطلب أن تجدها كلها، بل أن تتفحّص الوقائع كما هو من الطبيعي أن تكون في الصوَر. فبعد عبور السحاب والبحر، قال بولس: وكلهم شربوا شراباً روحياً واحداً. وقال ايضاً: أنتَ حين تصعد من حوض المياه، تقترب بسرعة من المائدة. وهكذا هم حين صعدوا من البحر، أتوا إلى مائدة جديدة وعجيبة، أعني المنّ. وكما نلتَ شراباً سرياً، الدم الخلاصيّ، كذلك هم نالوا نوعاً عجيباً من الشراب، إذ لم يجدوا هناك لا نبعاً ولا مياه جارية، بل مياهاً وافرة تتفجّر من صخر جاف.

وهكذا تبرز المتتالية التي تضمّ الافخارستيّا إلى العماد في إطار الخروج من مصر، والطعام والشراب في البريّة. ونقرأ تيودوريه القورشي:

الأمور القديمة صورة عن الجديدة: شريعة موسى هي الظلّ، والنعمة هي الجسم. حين كان المصريون يلاحقون العبرانيين، عبَرَ هؤلاء البحرَ الأحمر ونجوا من تسلّطهم. فالبحر صورة عن حوض العماد. والسحاب عن الروح. وموسى عن المسيح المخلّص. والعصا عن الصليب وفرعون عن إبليس. والمصريون عن الشياطين. والمنّ عن الطعام الالهي، ومياه الصخرة عن دم المخلّص. وكما أن الناس بعد أن عبروا البحر الأحمر ذاقوا طعاماً إلهياً وينبوعاً خارقاً، كذلك نحن، بعد العماد الخلاصيّ، نشارك في الأسرار الالهيّة.

في خطّ انجيل يوحنا، ارتبط المنّ بالافخاستيا (يو 6: 31 - 33). نستطيع أن نذكر قبريانس في الرسالة 69 أو 70(42) أو القديس أوغسطين في خطبة إلى معمّدين جدد أو في العظة 216 ، 259(43). ولكننا تكتفي بالعودة إلى امبرواز:

معجزةٌ كبيرة المنُّ الذي نثره الله على الآباء. فالسماء غذّتهم بطعام يومي كما كُتب: »أكل الانسان خبز الملائكة« (مز 78: 25). ومع ذلك، فالذين أكلوا هذا الخبز ماتوا في البرية. أما هذا الطعام الذي تتقبّلُ، الخبز النازل من السماء، فهو يمنحك جوهر الحياة الأبدية. إنه جسد المسيح. كم النور يتفوّق على الظلّ! والحقيقة على الصورة! وجسد الخالق على منّ السماء!

وننهي كلامنا مع يعقوب السروجي، صاحب الصور الرائعة. في الميمر الرابع من مجموعة بيجان(44)، يطلب هذا الشاعر أن ينزل إلى بحر أسرار الابن:

25 أكل الشعب المنّ وتذمّر على الباري (الخالق)

وما سبّح على مأكله، هذا الشرِهُ

26 تنكّر للنعمة، كما وجب عليه بعد الوليمة

وما شكر من قاته بشبع كبير

27 أُرسل له خبز الملائكة لكي يسمَن به

فما حسن له ذاك الطعام لأنه ناكر (النعمة)

33 وفّر (الله) لهذا الطمّاع (الشعب) المنّ والسلوى، وهما بسيطان له.

تَخِمَ من الأكل، ولأنه جاع ولوَلَ وجدّف

34 في البرية، شرب من الصوّان مياهاً مباركة

وما اندهش بهذه المعجزة العجيبة

35 السحب والرياح قرَّبتْ له الطعام،

فتكاسل وما سبّح حين كان يأكل

45 ولما اشتدّ، تمرمر بتذمّر كبير

أدّبه (الاله) العادل بحيّات تتقيّأ السمّ

48 وبما أنه ما سبّح لأنه نجا من المصريين،

أتت الأفاعي ولدغته فتمرمرَ

49 غلب لاويثان (الثعبان، الملتوي) الذي هو فرعون ورضَّ رؤوسه،

وبما أنه ما شكر، ابتُلع برؤوس الحيّات.

الخاتمــة

من عبادة الأصنام في مصر إلى الحرية في عبادة الله، مروراً بالبحر الأحمر وصولاً إلى البرية مع المن والسلوى والمياه الخارجة من الصخر. هدايا حلوة من الرب للشعب الأول، ولكنه بدا وكأنه لم يقبلها فدلّ على أن رضى الله ابتعد عنه، فمات الرائحون في خطى موسى قبل أن يصلوا إلى ارض الميعاد. لا شكّ في أنهم اجتمعوا حول الجبل وأخذوا الوصايا وقطعوا العهد مع الرب، ولكنهم ما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا عليه في الماضي. عادوا إلى عبادة الأوثان مع العجل الذهبي، ثم الزنى والبغاء المكرّس، عادوا يجرّبون الله ويتذمّرون على عبده موسى. ومع أن الله كان يؤدّبهم في كل مرة، فما قبلوا التأديب، بل راحوا إلى ملاك الموت، الذي نجوا منه يوم الفصح الأول وخروجهم من مصر، ليكون لهم الهلاك. تلك هي الليتورجيا التي يعيشها اليهود على مدّ تاريخهم خصوصاً في الأعياد الثلاثة التي فيها يحجّون إلى المعبد، أي في الفصح والأسابيع والمظال.

انطلق بولس من هذه الليتورجيا، فرأى فيها مثلاً من أجل المؤمنين في كورنتوس، الذين بدوا وكأنهم لم يختلفوا في شيء عن الشعب الأول. كانوا وثنيّين، فعادوا إلى الممارسات الوثنية. مارسوا الزنى بأنواعه بما فيه البغاء المكرَّس، وها هم يعودون إليه. ويطرحون الأسئلة لكي يعرفوا إلى أي حد يستطيعون أن يمضوا. نال العبرانيون عطايا ماديّة ترمز إلى العالم الروحي، ولا سيّما مع المسيح. ولكنها تبقى مادية: نجاة من موت الجسد. طعام وشراب وقيادة. أما المسيحيون فنالوا هبات روحيّة سامية هي اسرار التنشئة. المعمودية حيث مرّوا في حوض الماء. كما عبر العبرانيون في البحر، هم أيضاً عبروا من ضفة الخطيئة إلى ضفة النعمة والخلاص. ظلّلت السحابة الشعب في صحراء شمسُها قاسية. أما المسيحيون فظلّلهم الروحُ القدس حين نالوا »سرّ التثبيت« كما تدعوه الكنيسة في لاهوتها. وأخيراً، سر الافخارستيا: الطعام الروحي والشراب الروحي. لم نعد فقط أمام المنّ، بل أمام جسد الرب ودمه: من يأكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة الأبدية. لم نعد فقط أمام ماء »يخرج من الصخرة«، بل أمام المسيح، الماء الحيّ الذي يرافقنا في مسيرتنا اليوميّة. قالت التقاليد اليهوديّة إن هذه الصخرة رافقت العبرانيين حتّى وصولهم إلى ارض الموعد. هو تمنّ. فانطلق بولس من هنا وقال: »هذه الصخرة هي المسيح«.

ذاك اساس الليتورجيا العمادية التي تستقبل »الموعوظين« أو »السامعين« كما نقول في التقليد السرياني. فبعد التعليم، يأتي النداء من أجل عيش بحسب مشيئة الله فيرضى عنا. أما التجارب التي يمكن أن تعترضنا، فنحن لا نخاف منها، لأنَّنا نعرف أن الرب لا يسمح بأن نجرَّب فوق طاقتنا. فيبقى الموقف الذي يأخذه المؤمن على ما قال سفر التثنية: وضعتُ أمامك الموت والحياة، الشقــاء والسعـادة، فماذا تختار؟ عبادة الأصنـــام وعبوديتها، أم عبـادة الله في الحرية لأننا أبنـــاء الـله؟
 
قديم 05 - 04 - 2024, 10:40 AM   رقم المشاركة : ( 156567 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,320

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




أسرار التنشئة في الكنيسة البولسيّة

حين نتحدّث عن أسرار التنشئة، نتذكّر الأسرار الثلاثة الأولى، التي تحدّد الهوية المسيحية: المعموديّة، التثبيت والافخارســتيّا(1). عرف الآبــاء »التنشــئة« منذ القــرن الثــاني، كما كانت تمارَس في العالم الوثنيّ، ولكنّهم انتظروا القرن الرابع الذي هو »العصر الذهبيّ« بالنسبة إلى هذه الممارسة لكي ينظّموا ليتورجيا نموذجيّة تحمل رمزيّة غنية، عميقــة. وامتــدّت هذه »التنشئـة« طــوال أربعــين يوماً، هي أيام الصيام المبارك. عندئذ يتســـجّل »الموعوظون«(2) مــــن أجــل المعموديّة، لأن »المعموديّة هي الاسم الأصلي للتنشئة«(3). هــــــم أيضـــــاً: المختارون(4). و»الطالبون«(5). عن هذه التنشئة تحدّث كيرلس الأورشليميّ(6)، وتيودور، أسقف المصيصة(7)، ويوحنا الذهبيّ الفم(8)، وامبرواز أسقف ميلانو(9)، وأوغســـطـين، أسقف هـيبونة (= عنـــابة الحالية)(10) وسويريوس الانطـــاكي(11). هكذا نتعرّف على التنشئة في كنائس أورشليم وسورية والقسطنطينية وميلانو وقرطاجة وانطاكية... فأين هو الينبوع الذي استقى منه آباء الكنيسة لكي »يدرّجوا« طالبي العماد خلال الصوم الأربعيني؟ في ما قاله بولس الرسول إلى جماعة كورنتوس سنة 57. نبدأ فنقدّم نصاً نتأمّل فيه وندرسه قبل أن نستخلص مسيرة »الموعوظين« كما عرفـتها الكنائس البولسيّة.
 
قديم 05 - 04 - 2024, 10:40 AM   رقم المشاركة : ( 156568 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,320

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




نتعلّم من الكتب المقدّسة

في إطار الكلام عن الأوثان (ف 8 - 10)، راح الرسول في استطراد بلفت انتباه المؤمنين فيدعوهم »أيها الاخوة«(12). ويعيدهم إلى خبرة الشعب العبراني في البرية. وها نحن نقدّم النصّ (10: 1-13) كما في ترجمة بين السطور(13).

1 فلا أريدكم أن تجهلوا، أيها الإخوة، أن آباءنا كلّهم تحت السحابة كانوا وكلّهم في البحر عبروا.

2 وكلُّهم لموسى عُمّدوا في السحابة وفي البحر

3 وكلُّهم أكلوا الطعام الروحي نفسه

4 وكلُّهم شربوا الشراب الروحي نفسه، لأنهم كانوا يشربون من مرافقة صخرة (= من صخرة ترافقهم)، والصخرةُ كانت (= هي) المسيح

5 لكن ما رضي الله بأكثرهم فصُرعوا (سقطوا أمواتاً) في البريّة

6 وهذه أمثلةًد„د…د€خ؟خ¹ صارت لنا، لئلاّ نكون نحن مشتهين شروراً كما أولئك أيضاً اشتهوا

7 ولئلاّ تصيروا عبّاد أوثان، كما بعضٌ منهم، كما كُتب: جلس الشعب ليأكل وليشرب، وقاموا ليلعبوا

8 ولا نزنِ كما بعضٌ منهم زنوا، وسقطوا في يوم واحد ثلاثةٌ وعشرون ألفاً

9 ولا نجرّب المسيح كما بعضٌ منهم جرّبوا، وبالحيّات كانوا يهلكون

10 ولا تتذمّروا كما بعض منهم تذمّروا، وهلكوا من (قِبَل) ملاك الموت

11 وهذه كمثالد„د…د€خ¹خ؛د‰د‚ كــانت تحــدث، لأولئك وكتبت لإنذارنا خ½خ؟د…خµدƒخ¹خ±خ½، الذين إليهم نهاياتُ الدهور انتهت

12 إذاً، من يظنّ أنه يقوم (قائم، واقف) لينظر (= ليحذر) لئلاّ يسقط

13 تجربتكم ما أصابت إلاّ (حالة) بشريّة، وأمينٌ (هو) الله الذي لن يدَعَكم أن تجرَّبوا فوق ما تقدرون، لكن سيجعل مع التجربة أيضاً المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا.

كيف بدا هذا التوسّع فوصل إليه بولس تاركاً ما يتعلّق بعبادة الأوثان؟ بواسطة الصفة »مرذولاً« كما نقرأها في 9:9(14). ظنّ الأقوياء في الجماعة أنهم ثابتون ولا شيء يزعزهم، فردّ عليهم الرسول: يمكن أن تُرذَلوا كما رُذل أبناءُ الشعب الأول. ها هنا أخطار التكبّر والاعتداد بالذات.

فلا أريدكم أن تجهلوا (آ 1). نحن هنا أمــــام نَفيين، الأول ''لا'' خ؟د… والــــثـــان خ± في بـــداية الفعــــــل خ±-خ³خ½خ؟خµخ¹خ½: أن لا تعرفوا. هناك طريقتان للكلام: إمّا الطريقة الايجـــابيّة: أريدكـــم أن تعرفــوا خ³خ½خ؟خµخ¹خ½. وإمّــا النفيان كمــا هو الأمر هنا. رج 10: 1. ويبدو أن استعمال الصيغة الايجابية يفترض أن المعلومة التي تُعطى هي معروفة(15). واستعمال النفيان يعني أن المعلومة جديدة(16).

آباءنا. هم أفراد الشعب الاول. فمع أن الجماعة تألّفت من مسيحيين آتين من العالم الوثنيّ، فبولس يتوجّه إليهم وكأنّهم ارتبطوا بالعهد، شأنهم شأن بني اسرائيل (1: 2؛ 5: 13؛ 12: 2). هي المرة الوحيدة يعود فيها بولس إلى الخروج ويذكر الشعب الأول على أنه آباء د€خ±د„خµدپخµد‚ الكورنثيين. أما في 2 كو 3 - 4 فيقاسم الكورنثيون بعض الخير في مسيرة الخروج. هذا يعني أن هذه الخبرة معروفة، شاملة، لهذا جاء اللفظ »كلّهم« د€خ±خ½د„خµد‚ مرّتين في هذه الآية. ثم يرد أكثر من مرّة. كل هذا سوف يوجّهنا إلى الإرشاد اللاحق: »فليحذر السقوط« (10: 12).

عُمّدوا. الــفعل في المجهول (17) خµخ²خ±د€د„خ¹دƒخ¸خ·دƒخ±خ½ . الله عمّد شعبــــه حين »غطس، غرق، عبـــر« خ´خ¹خ·خ»خ¸خ؟خ½ في البحر الأحمر. ولكن جاء من صحّح الفعل بحيث يزول اللبس بين »عماد في موسى« و»عماد في المـسيح«. فاستعملـوا (18) خµخ²خ±د€د„خ¶خ±خ½د„خ؟ . ظنّ بعضهم أنه وُجد »عماد« في العالم اليهودي المتأخّر على مثال العالم المسيحي. ولكن لا شيء أكيداً في هذا المجال. أما الرسول فلا يقابل بين »عماد« و»عماد«. بل بين »خبرة بني اسرائيل« و»خبرة الكورنثيين« ليستخلص الموقف الواجب اتخاذه(19).

الـــــروحـــي (آ 4) د€خ½خµد…خ¼خ±د„خ¹خ؛خ؟خ½. المعنى الروحي هو الذي يقرأه المسيحيون، وهذا ما يعارض النظرة اليهودية. وهو أمرٌ واضح نجده في الانجيل الرابع: عرض يسوع الماء على السامرية، فحَسبَتْ أنه يستطيع أن يعمل عنها ويملأ لها الجرّة. ولكن يسوع تكلّم عن ماءٍ آخر يتفجّر في المؤمن حياة أبدية. وشبع اليهود من خمسة أرغفة وسمكتين. ورجعوا إلى الوراء، إلى خبرتهم مع موسى. أما يسوع فقال لهم: »خبز الله هو الذي ينزل من السماء ويعطي العالم الحياة« (يو 6: 23). والولادة الثانية لدى نيقوديمس صارت دخولاً جديداً في بطن أمه »ليُولَد« (يو 3: 4).

المعنى المادي يدلّ على المنّ. المعنى الروحي يوجّهنا نحو معنى آخر. وكذا نقول عن الماء الذي تفجَّر من الصخرة، فرافق الشعب العبرانيّ حتى الوصول إلى أرض الميعاد. هل صار الصخر »صهريجًا« يختزن الماء ويسير مع السائرين في البرية؟ أما بولس فيرى هنا شخص المسيح الذي يرافق المؤمنين »الجائعين والعطــاش إلى البــر« (مت 5: 9). د€خ½خµد…خ¼خ±د„خ¹خ؛خ؟د‚ هــو لــفــظ بولسي بامتياز. فإذا وضعنا جانباً 1 بط 2: 5 ورؤ 11: 8، فهو لا يرد إلاّ في الرسائل البولسيّة، وفي 1 كو وحدها، خمس عشرة مرة. نحن أمام عمل الروح في قدرة الله الخالقة والخلاصية. فالمسافة بعيدة بين طعام التقطه بنو اسرائيل وطعام أغدقه الله عليهم.

كـل مــــا حصـــل هو مـثال (آ 6) د„د…د€خ؟د‚، نـمـوذج، يجمع السمـات الرئيسيّة. فكأننا نرى هنا ما سوف يتمّ مع يـسوع الـمسيـح. أمّــا الظــــرف د„د…د€خ¹خ؛د‰د‚ فلا يرد في العهد الجديد إلاّ هنا، في 1 كو 10:11. وهكذا نكون أمام تضمين بين آ 6 وآ 11، ممّا يدلّ على وحدة أدبيّة. استعمل الآباء الرسوليون لفظ »مثال« ليدلّوا على صورة مسبقة لتاريخ الخلاص في يسوع المسيح. نذكر هنا يوستين في الحوار مع تريفون: »وكذلك الاثنا عشر جرساً التي كانت تُعلَّق تقليدياً على ثوب رئيس الكهنة الطويل، كانت ترمز إلى الاثني عشر رسولاً المنتمين إلى قدرة المسيح الكاهن الأبديّ«(20).

ولا نجرّب المسيح (آ 9). غير أن هناك مخطوطــات قديمــة، مثل السينائي والفاتيكــاني والافــــرامي والــــنــصّ المتسلَّم(21)، تقدّم عبارة بيبليّة نقرأها في تث 6: 16؛ رج خر 17: 7؛ »لا نجرّب الربّ«. ويقرأ الاسكندرانيّ ومخطوط آخر (81) يعود إلى القرن السادس: »لا نجرّب الله« أما يوحنا الذهبي الفم فقال مرة »المسيح« ومرّة »الربّ«. وبما أن مع المسيح هي القراءة الأصعب(22)، أَخذت بها النسخة الشبه رسميّة(23). ظنَّ البعض أن التصحيح جــــاء في خطّ مسحنـــة الكتـــابات اليهوديّة. ذاك كان موقف بولس الشميشاطي، أسقف انطاكية في القرن الثالث. غير أن 10: 9 هي كافية لكي نقرأ هنا: »ولا نجرّب المسيح«. فالمسيح ليس مجرّد بشر، بل هو الله وابن الله، وبالتالي يعمل في الأزمنة البيبليّة.

كما بعض منهم جرّبوا. لا نجد هنا المفعول به. ولكن الرسول يعود إلى سفر العدد (21: 5 - 6) وإلى المزامير (78: 18): نقص الطعام والشراب، فتذمّر الشعب على الله وعلى موسى، وكان العقاب الحيّات السامّة.

كل هذا كُتب ليكون لنا »مثالاً« (آ 11). »هذه الأشياء حدثت لهم«. أضــافت بعض المخطوطــات »كــل« تارة قبل »لهم« وطوراً بعد: »حدثت لهم كلهم«. ولكن عدم ثبات »كل« يدلّ أنّناً أمام تصحيح للنصّ.

كُتبت لانذارنا خ½خ؟د…خ¸خµدƒخ¹خ±خ½ (آ 11). هو لفظ لا يرد إلاّ في الكتابات البولسيّة (أف 6: 4؛ تي 3: 10). وهو يعني »التعليم«(24). وفي الوقت عينه التوبيخ والتأنيب (حك 16: 6)، ولا سيّما من قبل الوالدين، كما قال الرسول في 4:14 (ناصــحٌ خ½خ؟د…خ¸خµد„د‰خ½ ) عـــرف العالم اليهودي الهلنستيّ توبيخ الله لشعبه، لا لكي يعاقبهم، بل ليردّهم إليه (فيلون، حياة موسى 1: 110). انطلق بولس من هذا الخبر لكي »يوبّخ« الكورنثيين. فعددٌ كبير منهم يعتبرون نفوسهم من العارفين ولا يحتاجون إلى من يُرشدهم (2: 6).
 
قديم 05 - 04 - 2024, 10:41 AM   رقم المشاركة : ( 156569 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,320

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




شعب العهد القديم مثال لشعب العهد الجديد

يُشكّل هذا النص (10: 1 - 31) الذي نقرأ وحدة أدبيّة، نستطيع أن نقسمها قسمين كبيرين، مع تنبيه من التجربة التي أصابت الشعب الأول وتصيب الكورنثيين إن لم ينتبهوا إلى التجربة، هذا مع العلم أن الله لا يجرّبُنا فوق طاقتنا. في آ 1 - 5، كلّ شعب اسرائيل اختبروا عطايا الله الخلاصيّة. ومقابل هذا، بعضٌ منهم تمرّدوا على الله (آ 6 - 11). خمسة أمثلة إيجابيّة، وخمسة أمثلة سلبيّة، نافية. يبدو أننا هنا أمام عظة ألقاها بولس كما فعل مثلاً في أنطاكية بسيدية حيث أنطلق من مصر والقضاة وصموئيل فوصل إلى داود وبالتالي إلى يسوع المسيح (أع 13: 16 - 52). أما في 1 كو، فلبث في سفر الخروج والعيش في البرية، وقدّم لائحة بأعمال الله الخلاصيّة، ثم لائحة بالخطايا تنتهي بتحذير للسامعين. مثل هذه البنية نجدها في نصوص الكتاب المقدس: في نشيد موسى (تث 32)؛ في مز 78. كما نجدها في الأدب اليهودي وفي العهد الجديد (الرسالة إلى العبرانيين)(25).

أما آ 1 - 5 فهي مدراش أو درس وتأمّل، يرتبط بالخروج والإقامة في البـريّة. أول هديّـة من لدن الله: السحابـة خ½خµد†خµخ»خ·. هنا نقرأ خر 13: 21:

وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود من سحاب

ليهديهم في الطريق

وليلاً في عمود من نار ليضيء لهم،

فواصلوا السير نهاراً وليلاً.

كيف يمكن أن يسير الشعب في النهار، وحرّ الشمس يلفحُهم؟ لهذا جعل الله لهم »مظلّة« ترافقهم. تلك هي حماية الرب في النهار، مع حماية مماثلة في الليل: نار تضيء. فالسحابة ترافق ظهور الله (خر 19: 9) الذي يقود شعبه بحيث لا يضلّ الطريق. ردّد مز 105: 39 هذه الخبرة:

بسط سحاباً ظلّلهم

وناراً أضاءت لهم في الليل(26)

والهدية الثانية: عبور البحر (خر 14: 21):

ومدّ موسى يده على البحر،

فأرسل الرب على البحر

ريحاً شرقيّة عاصفة طول الليل

حتى أيبس ما بين مياهه فانشقّت المياه.

الخطر يلاحق العبرانيين بعد أن »شدّ فرعون مركبته وأخذ جيشه معه، واختار ست مئة مركبة من مركباته، وأخذ معها جميع مركبات مصر وعليها قادتها« (خر 14: 6-7). الموت من وراء موسى وشعبه. والموت أمامهم. فانفتح البحر ومضى الشعب كما على أرض يابسة. »وكان الماء لهم سوراً عن يمينهم وعن يسارهم« (آ 22). هي خبرة خلاص رائعة، أنشدها مز 66: 6

حوّل البحر إلى يبس

وبالأرجل عبر آباؤنا النهر.

ونقرأ مز 78: 13 - 14 الذي يجمع البحر إلى السحاب:

شقّ البحر لهم ليعبروا،

ونصب المياه كتلٍّ مرتفع.

هداهم بالسحاب في النهار

وطولَ الليل بضوء النار.

هي حماية الله في السحاب، وقدرته في تحطيم أكبر جيش في ذلك الزمان. ووصل العبرانيون إلى البرية: ماذا يأكلون وهم عدد كبير(27)؟ فأرسل الرب لهم المنّ الذي هو منّة من الله وهديّة. نقرأ خر 16: 4:

فقال الرب لموسى:

»الآن أُمطر لكم خبزاً من السماء،

وعلى الشعب أن يخرجوا ليلتقطوه

طعام كلّ يوم بيومه«.

المنّ رافقهم في مسيرتهم حتى وصلوا إلى أرض البعاد. فنقرأ يش 5: 12:

ومنذ أن أكلوا من غلّة الأرض،

انقطع عنهم المنّ

فالـــرب يحــمي شــعــبه بشكل عجائبيّ، ساعة الشعب يحنّ إلى طعام مصر (خر 16: 3؛ عد 11: 4 - 6). وفي ما يعمل يُظهر مجده، كما نقرأ في مز 78: 23:

فأمر الغيوم من فوق

وفتح أبواب السماء

فأمطرت مناً ليأكلوا،

حنطة أعطاهم من السماء.

والهدية الرابعة: ماء يشربونه. نقرأ خر 17:

3 وعطش هناك بنو اسرائيل إلى الماء

5 فقال الرب لموسى:

»خذ بيدك عصاك

6 فتضرب الصخرة فيخرج منها ماء ليشرب منه الشعب«.

ونقرأ العبارة الايجابيّة الأخيرة: »تعمّدوا لموسى« أو: »في موسى«. أي: غطسوا في موسى لكي يتّحدوا به فيرافقوه في مسيرته عبر البرية(28).

خمسة أقوال إيجابيّة كان بإمكانها أن تجعل من مسيرة الشعب من مصر إلى أرض الميعاد تطوافاً مجيداً برفقة الله، فإذا هي تعطي النتيجة المعاكسة. جاءت الأداة خ±خ»خ»خ± : ولــكن، ومع ذلك. لم يكن كلُّ هذا للحياة، بل للموت: »صُرعوا خ؛خ±د„خµدƒد„دپخ؟خ¸خ·دƒخ±خ½. صيغة المجهول للدلالة على عمل الله الذي لم يَرضَ عن شعبه. أو بالأحرى، رفض الشعب أن يُرضيَ الله فابتعد عنه كما في مثل الابن الضال (لو 15)، فكان له المــــوت لا الحـــيـــاة. إذاً، ليــحـذر الكورنــثــيــون: المــوت هنا ينتظرهم. والمثال الذي يسمعونه عن خبرة البرّيــة لا يقــودهم إلى معرفة نفوسهم وأنه يسقطــون كمـــا سقط »آباؤهم« في البريّة.

خـبـرة الشـعـب في البرية مَثَل د„د…د€خ؟د‚ للمؤمنين في كورنتوس. نالوا ما نالوا من مواهب فبدوا عاقّين، ناكري الجميل. هكذا بُني المدراش في التراث اليهودي وهو ينقسم قسمين: هاغادا وهلكه. أما الهاغادا فهي الخبر. والهلكة هي السلوك. بعد أن يسمع المؤمنون كلاماً عن أعمال الله، يُدعَون إلى تبديل حياتهم: إذا سمعتم صوته، فلا تُقسّوا قلوبكم. مع الهلكة تبدأ التوصيات مع النافية: لا. هم فعلوا. وأنتم لا تفعلوا. وهكذا نكون أمام خمس لاءات:

الأولى: لا نشتهي (آ 6)، لا نكون مشــتــهيـــن خµد€خ¸د…خ¼خ·د„خ±د‚. وهكذا لا نتشبَّه بالشعب العبراني. هنا يعود بولس إلى خبرة قبروت هتأوة. نقرأ عد 11:

وتأوّه الأوباش الذين فيما بين اسرائيل شهوة إلى اللحم،

فجاراهم الكثيرون من بني اسرائيل

وبكوا وقالوا: »من يطعمنا لحمًا«؟

الشهوة. في العبرية مع المفعول المطلق : : اشتهوا شهوة. هذا ما يدلّ على عمق الشهوة. ونقلت السبعيــنــيـــة النـــص العـــبري حــرفياً خµد€خ¹خ¸د…خ¼خ·دƒخ±خ½ خµد€خ¹خ¸د…خ¼خ¹خ±خ½

33 وبينما اللحم بين أسنانهم قبل أن يمضغوه

اشتدّ غضب الرب على الشعب فضربهم ضربة عظيمة جداً.

أرسل الرب طيور السلوى طعاماً عجيباً، مثل المنّ. ولكنه تحوّل عقاباً على ثورة الشعب وتمرّده. وهكذا صار »اللحم« عطية ملتبسة: طعام عجيب للذين طلبوه بتواضع، عقاب أليم للذين طالبوا به في جوّ من العصيان والتذمّر(29). والتساؤل: كيف يتعامل الكورنثيون مع مواهب نالوها من الرب؟ لن تكون حالهم أفضل من حالة العبرانيين. قال بولس إلى مؤمني رومة الآتين من الوثنية: اليهود لم يؤمنوا فقُطعوا من الشجرة وأنتم طُعِّمتم مكانهم. فإذا لم تؤمنوا يكون مصيركم كمصيرهم.

اللاء الثانية: لا تصيروا عبّاد أوثان (آ 7) خµخ¹خ´خ؟خ»خ؟خ»خ±د„دپخ±خ¹. هـــنـــــا يـــعـود الموضوع إلى ما فعله العبرانيون حين كان موسى على الجبل. أتوا إلى هرون وقالوا: »قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا« (خر 32: 1). كيف يسمع هرون لمثل هذا القول؟ لهذا جاء في هامش الترجوم: »يُقرأ ولا يترجم«(30) لئلاّ يتشكّك السامعون. ومع ذلك، »نزع جميع الشعب حلق الذهب التي في آذان نسائهم وجاؤوا بها إلى هرون، فأخذها من أيديهم وأذابها وسكبها في صنم على صورة عجل« (آ 3 - 4). ورسم سفر الخروح ما عمل الشعب أمام هذا الصنم: »جلسوا يأكلون ويشربون، ثم قاموا يمرحون« (آ 6). ثلاثة أفعــــال: أكــــل د†خ±خ³خµخ¹خ½، شرب د€خ¹خ½خµخ¹خ½ ، لــــعـــب أو مــــرح د€خ±خ¹خ¶خµخ¹خ½ . : ضحك. تلك هي الأفعال الواردة في النص البولسيّ. هكذا كانت تئمّ العبادة أمام البعل، فجاء في بعض الترجمات: »جلسوا يأكلون طعام العيد، فانقلبت وليمتهم عربدة«. وأضاف الترجوم: »ثم نهضوا ليمرحوا بفلتان في عبادة الأصنام«.

أتُرى عاد الكورنثيون إلى عبادة الأوثان؟ الأمر معقول جداً. كان الفقــراء يشـترون اللـحم من ذبـــائح الأوثان، فمــا توقّفــوا. ثم هناك الأصحــاب الذين يُجبـــرون المؤمنين على المشاركة بالعيد في مناسبة من المناسبات. لهذا جاء كلام الرسول قاسياً: »لا تستطيعون أن تشربوا كأس الـرب وكــأس الشــيــاطـيـن، ولا أن تشتــركـــوا في مــائدة الرب ومــائدة الشياطين« (1 كو 10: 21). بعد أن أكل »الكورنثيون« المنّ وشربوا الماء من الصخرة، ها هم يفعلون الشيء عينه أمام »عمل« صنعه لهم »هرون«.

الـلاء الثـــالـــثــــة: لا نـــــــزنِ (آ 8) خ¼خ·خ´خµ د€خ؟دپخ½خµد…خ؟خ¼خµخ½ . يشــــيـــر الرسول هنا إلى ما حصل في فاغور. قــــــال عـد 25: 1: ''وأخــذوا يزنــــون'' بالأرض. هو الزنى حول المعبد، ويُدعى البغاء المكرّس، فيتّحد الملك مع إحدى الصبايا علامة على اتحــــاد السـماء بالأرض خ؛خ±خ¹ خ؟ خ½د„د‰د€خ·خ²خµخ²خµخ· خ»خ±خ؟د‚ خµخ؛د€خ؟دپخ½خµد…دƒخ±خ¹ زنى الشعب فكان العقاب كبيراً مع تضخيم في الأرقام! ثلاثة وعشرون ألفاً. سقطوا خµد€خµدƒدپخ±خ½. أما الزنى فهو أيضاً تطلّع إلى الأوثان وخيانة الرب، كما الشريك الزاني يخون شريكه. فالخطر خطران، وهو يهدّد الكورنثيين. لهذا جاء التحذير: »لا نزن«.

اللاء الرابعة: لا نجرّب (آ 9) خ¼خ·خ´خµ خµد€خµخ¹دپخ±خ¶د‰خ¼خµخ½ .في البداية »جرّب« الشعبُ الرب: هل يقدر؟ هل هو معنا أم لا؟ نريد أن نرى الرب ماشياً أمامنا، على مثال الأصنام التي تُحمَل في مقدّمة التطواف. أما هنا فتُذكر »ضربةُ« الحيّات. نقرأ في عد 14: 2: ''ولام جميعُ بني اسرائيل موسى وهرون وقالوا لهما: »يا ليتنا متنا في أرض مصر... لماذا جاء الربّ بنا إلى هذه الأرض؟« (آ 3). بل عزموا أن ''يقيموا رئيساً عليهم'' (آ 4). وأسوأ من هذا، قالوا: »هيَّا نرجمهما بالحجارة« (آ 10). وفي عد 21: 5: ''تكلّموا على الله وعلى موسى''. حينئذ أتت ''حيات ناريّة'' . هــذا مــــا يقابل في العربية ''ح ن ش'' (نوع من الحيات). رج في السريانية . تــحــــدّث الـــيـــونــــانـــي عـــــــن الحــيّــاتد„خ؟د…د‚ خ؟د†خµخ¹د‚، ولكنه لم يَدعُهـــا »الحـــارقــة«، بـــــل »القــاتلة« خ¸خ±خ½خ±د„خ؟د…خ½د„خ±د‚. هنا يُبرز الترجوم عقوق الشـعـب: »فـــي المــاضي لعـنـتُ الحـيّة...أخرجتُ شعبي من أرض مصر، أعطيتُ الحيةَ الترابَ مأكلاً، أما شعبي فأنزلتُ له المن من السماء... ولكنَّ شعبي عاد يتذمّر قدّامي على المن الذي هو طعام هزيل. إذاً، لتأتِ الحية التي لم تتذمّر على طعامها، ولتعضّ هذا الشعب الذي تذمّر على طعامه«(31).

واللاء الخامسة والأخيرة: »لا تتذمّروا« (آ 10) خ¼خ·خ´خµ خ³خ؟خ³خ³د…خ¶خµد„خµ . هذا ما نقرأ في الاسكندراني والفاتيكاني والأفرامي وغيرها مع عدد كبير من المخطوطات الجرارة والآبـــاء. ولكنّ الســـيـــنــائي والبازي واوريمجــان وأوغسطــيـــن فتركوا صيغة الأمر مع المخاطب الجمع، وأخذوا بصيغة التمنيّ مع المتكلم الجمع: لا نجرّبْ. قد يكون »التمني« تأثّر بما في آ 9 (لا نزنِ). نلاحظ هنا أن اللاءتان الثانية (آ 7) والرابعة (آ 10) هما ارشادان متوازيان يتحدّثان عن جيل البرية كمثَل سلبيّ، وقد جاءت في صيغة الأمر خ¼خ·خ´خµ خ³خ¹خ½خµدƒد„خµ. ثم: لا تتذمّروا. أما اللاءات الثانية والثالثة (آ 9) فجاءتا في صيغة التمني: لا نزنِ، لا نجرّب.

تذمّر العبرانيون على موسى

(عد 14: 2). في اليونانية: خ´خµخ³خ؟خ³خ³د…خ¶خ؟خ½ استعمل بولس الفعل عينه مرتين خµخ³خ³خ؟خ³د…دƒخ±خ½ ثم خ³خ؟خ³خ³د…خ¶خµد„خµ»أنتم لا تتذمّروا كما هم تذمّروا، لئلاّ يأتي ملاك الموت خ؟خ»خ؟خ¸دپخµد…د„خ؟د… . لا يرد هذا اللفظ إلاّ هنا في العهد الجديد كلّه، وهو يتألف من لفظين خ؟خ»خ؟خ؟د‚. (الهلاك) ثم (بكى، ندب). نشير إلى أن ملاك الموت يُذكَر في خر 12: 23 خ؟خ»خ؟خ¸دپخµد…خ؟خ½د„خ± على أنه ''المهلــــك'' . الفعل هو . في العربية: سحت: أفسد، أهلك.
 
قديم 05 - 04 - 2024, 10:41 AM   رقم المشاركة : ( 156570 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,320

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




شعب العهد القديم مثال لشعب العهد الجديد

يُشكّل هذا النص (10: 1 - 31) الذي نقرأ وحدة أدبيّة، نستطيع أن نقسمها قسمين كبيرين، مع تنبيه من التجربة التي أصابت الشعب الأول وتصيب الكورنثيين إن لم ينتبهوا إلى التجربة، هذا مع العلم أن الله لا يجرّبُنا فوق طاقتنا. في آ 1 - 5، كلّ شعب اسرائيل اختبروا عطايا الله الخلاصيّة. ومقابل هذا، بعضٌ منهم تمرّدوا على الله (آ 6 - 11). خمسة أمثلة إيجابيّة، وخمسة أمثلة سلبيّة، نافية. يبدو أننا هنا أمام عظة ألقاها بولس كما فعل مثلاً في أنطاكية بسيدية حيث أنطلق من مصر والقضاة وصموئيل فوصل إلى داود وبالتالي إلى يسوع المسيح (أع 13: 16 - 52). أما في 1 كو، فلبث في سفر الخروج والعيش في البرية، وقدّم لائحة بأعمال الله الخلاصيّة، ثم لائحة بالخطايا تنتهي بتحذير للسامعين. مثل هذه البنية نجدها في نصوص الكتاب المقدس: في نشيد موسى (تث 32)؛ في مز 78. كما نجدها في الأدب اليهودي وفي العهد الجديد (الرسالة إلى العبرانيين)(25).

أما آ 1 - 5 فهي مدراش أو درس وتأمّل، يرتبط بالخروج والإقامة في البـريّة. أول هديّـة من لدن الله: السحابـة νεφελη. هنا نقرأ خر 13: 21:

وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود من سحاب

ليهديهم في الطريق

وليلاً في عمود من نار ليضيء لهم،

فواصلوا السير نهاراً وليلاً.

كيف يمكن أن يسير الشعب في النهار، وحرّ الشمس يلفحُهم؟ لهذا جعل الله لهم »مظلّة« ترافقهم. تلك هي حماية الرب في النهار، مع حماية مماثلة في الليل: نار تضيء. فالسحابة ترافق ظهور الله (خر 19: 9) الذي يقود شعبه بحيث لا يضلّ الطريق. ردّد مز 105: 39 هذه الخبرة:

بسط سحاباً ظلّلهم

وناراً أضاءت لهم في الليل(26)

والهدية الثانية: عبور البحر (خر 14: 21):

ومدّ موسى يده على البحر،

فأرسل الرب على البحر

ريحاً شرقيّة عاصفة طول الليل

حتى أيبس ما بين مياهه فانشقّت المياه.

الخطر يلاحق العبرانيين بعد أن »شدّ فرعون مركبته وأخذ جيشه معه، واختار ست مئة مركبة من مركباته، وأخذ معها جميع مركبات مصر وعليها قادتها« (خر 14: 6-7). الموت من وراء موسى وشعبه. والموت أمامهم. فانفتح البحر ومضى الشعب كما على أرض يابسة. »وكان الماء لهم سوراً عن يمينهم وعن يسارهم« (آ 22). هي خبرة خلاص رائعة، أنشدها مز 66: 6

حوّل البحر إلى يبس

وبالأرجل عبر آباؤنا النهر.

ونقرأ مز 78: 13 - 14 الذي يجمع البحر إلى السحاب:

شقّ البحر لهم ليعبروا،

ونصب المياه كتلٍّ مرتفع.

هداهم بالسحاب في النهار

وطولَ الليل بضوء النار.

هي حماية الله في السحاب، وقدرته في تحطيم أكبر جيش في ذلك الزمان. ووصل العبرانيون إلى البرية: ماذا يأكلون وهم عدد كبير(27)؟ فأرسل الرب لهم المنّ الذي هو منّة من الله وهديّة. نقرأ خر 16: 4:

فقال الرب لموسى:

»الآن أُمطر لكم خبزاً من السماء،

وعلى الشعب أن يخرجوا ليلتقطوه

طعام كلّ يوم بيومه«.

المنّ رافقهم في مسيرتهم حتى وصلوا إلى أرض البعاد. فنقرأ يش 5: 12:

ومنذ أن أكلوا من غلّة الأرض،

انقطع عنهم المنّ

فالـــرب يحــمي شــعــبه بشكل عجائبيّ، ساعة الشعب يحنّ إلى طعام مصر (خر 16: 3؛ عد 11: 4 - 6). وفي ما يعمل يُظهر مجده، كما نقرأ في مز 78: 23:

فأمر الغيوم من فوق

وفتح أبواب السماء

فأمطرت مناً ليأكلوا،

حنطة أعطاهم من السماء.

والهدية الرابعة: ماء يشربونه. نقرأ خر 17:

3 وعطش هناك بنو اسرائيل إلى الماء

5 فقال الرب لموسى:

»خذ بيدك عصاك

6 فتضرب الصخرة فيخرج منها ماء ليشرب منه الشعب«.

ونقرأ العبارة الايجابيّة الأخيرة: »تعمّدوا لموسى« أو: »في موسى«. أي: غطسوا في موسى لكي يتّحدوا به فيرافقوه في مسيرته عبر البرية(28).

خمسة أقوال إيجابيّة كان بإمكانها أن تجعل من مسيرة الشعب من مصر إلى أرض الميعاد تطوافاً مجيداً برفقة الله، فإذا هي تعطي النتيجة المعاكسة. جاءت الأداة αλλα : ولــكن، ومع ذلك. لم يكن كلُّ هذا للحياة، بل للموت: »صُرعوا κατεστροθησαν. صيغة المجهول للدلالة على عمل الله الذي لم يَرضَ عن شعبه. أو بالأحرى، رفض الشعب أن يُرضيَ الله فابتعد عنه كما في مثل الابن الضال (لو 15)، فكان له المــــوت لا الحـــيـــاة. إذاً، ليــحـذر الكورنــثــيــون: المــوت هنا ينتظرهم. والمثال الذي يسمعونه عن خبرة البرّيــة لا يقــودهم إلى معرفة نفوسهم وأنه يسقطــون كمـــا سقط »آباؤهم« في البريّة.

خـبـرة الشـعـب في البرية مَثَل τυπος للمؤمنين في كورنتوس. نالوا ما نالوا من مواهب فبدوا عاقّين، ناكري الجميل. هكذا بُني المدراش في التراث اليهودي وهو ينقسم قسمين: هاغادا وهلكه. أما الهاغادا فهي الخبر. والهلكة هي السلوك. بعد أن يسمع المؤمنون كلاماً عن أعمال الله، يُدعَون إلى تبديل حياتهم: إذا سمعتم صوته، فلا تُقسّوا قلوبكم. مع الهلكة تبدأ التوصيات مع النافية: لا. هم فعلوا. وأنتم لا تفعلوا. وهكذا نكون أمام خمس لاءات:

الأولى: لا نشتهي (آ 6)، لا نكون مشــتــهيـــن επθυμητας. وهكذا لا نتشبَّه بالشعب العبراني. هنا يعود بولس إلى خبرة قبروت هتأوة. نقرأ عد 11:

وتأوّه الأوباش الذين فيما بين اسرائيل شهوة إلى اللحم،

فجاراهم الكثيرون من بني اسرائيل

وبكوا وقالوا: »من يطعمنا لحمًا«؟

الشهوة. في العبرية مع المفعول المطلق : : اشتهوا شهوة. هذا ما يدلّ على عمق الشهوة. ونقلت السبعيــنــيـــة النـــص العـــبري حــرفياً επιθυμησαν επιθυμιαν

33 وبينما اللحم بين أسنانهم قبل أن يمضغوه

اشتدّ غضب الرب على الشعب فضربهم ضربة عظيمة جداً.

أرسل الرب طيور السلوى طعاماً عجيباً، مثل المنّ. ولكنه تحوّل عقاباً على ثورة الشعب وتمرّده. وهكذا صار »اللحم« عطية ملتبسة: طعام عجيب للذين طلبوه بتواضع، عقاب أليم للذين طالبوا به في جوّ من العصيان والتذمّر(29). والتساؤل: كيف يتعامل الكورنثيون مع مواهب نالوها من الرب؟ لن تكون حالهم أفضل من حالة العبرانيين. قال بولس إلى مؤمني رومة الآتين من الوثنية: اليهود لم يؤمنوا فقُطعوا من الشجرة وأنتم طُعِّمتم مكانهم. فإذا لم تؤمنوا يكون مصيركم كمصيرهم.

اللاء الثانية: لا تصيروا عبّاد أوثان (آ 7) ειδολολατραι. هـــنـــــا يـــعـود الموضوع إلى ما فعله العبرانيون حين كان موسى على الجبل. أتوا إلى هرون وقالوا: »قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا« (خر 32: 1). كيف يسمع هرون لمثل هذا القول؟ لهذا جاء في هامش الترجوم: »يُقرأ ولا يترجم«(30) لئلاّ يتشكّك السامعون. ومع ذلك، »نزع جميع الشعب حلق الذهب التي في آذان نسائهم وجاؤوا بها إلى هرون، فأخذها من أيديهم وأذابها وسكبها في صنم على صورة عجل« (آ 3 - 4). ورسم سفر الخروح ما عمل الشعب أمام هذا الصنم: »جلسوا يأكلون ويشربون، ثم قاموا يمرحون« (آ 6). ثلاثة أفعــــال: أكــــل φαγειν، شرب πινειν ، لــــعـــب أو مــــرح παιζειν . : ضحك. تلك هي الأفعال الواردة في النص البولسيّ. هكذا كانت تئمّ العبادة أمام البعل، فجاء في بعض الترجمات: »جلسوا يأكلون طعام العيد، فانقلبت وليمتهم عربدة«. وأضاف الترجوم: »ثم نهضوا ليمرحوا بفلتان في عبادة الأصنام«.

أتُرى عاد الكورنثيون إلى عبادة الأوثان؟ الأمر معقول جداً. كان الفقــراء يشـترون اللـحم من ذبـــائح الأوثان، فمــا توقّفــوا. ثم هناك الأصحــاب الذين يُجبـــرون المؤمنين على المشاركة بالعيد في مناسبة من المناسبات. لهذا جاء كلام الرسول قاسياً: »لا تستطيعون أن تشربوا كأس الـرب وكــأس الشــيــاطـيـن، ولا أن تشتــركـــوا في مــائدة الرب ومــائدة الشياطين« (1 كو 10: 21). بعد أن أكل »الكورنثيون« المنّ وشربوا الماء من الصخرة، ها هم يفعلون الشيء عينه أمام »عمل« صنعه لهم »هرون«.

الـلاء الثـــالـــثــــة: لا نـــــــزنِ (آ 8) μηδε πορνευομεν . يشــــيـــر الرسول هنا إلى ما حصل في فاغور. قــــــال عـد 25: 1: ''وأخــذوا يزنــــون'' بالأرض. هو الزنى حول المعبد، ويُدعى البغاء المكرّس، فيتّحد الملك مع إحدى الصبايا علامة على اتحــــاد السـماء بالأرض και ο ντωπηβεβεη λαος εκπορνευσαι زنى الشعب فكان العقاب كبيراً مع تضخيم في الأرقام! ثلاثة وعشرون ألفاً. سقطوا επεσραν. أما الزنى فهو أيضاً تطلّع إلى الأوثان وخيانة الرب، كما الشريك الزاني يخون شريكه. فالخطر خطران، وهو يهدّد الكورنثيين. لهذا جاء التحذير: »لا نزن«.

اللاء الرابعة: لا نجرّب (آ 9) μηδε επειραζωμεν .في البداية »جرّب« الشعبُ الرب: هل يقدر؟ هل هو معنا أم لا؟ نريد أن نرى الرب ماشياً أمامنا، على مثال الأصنام التي تُحمَل في مقدّمة التطواف. أما هنا فتُذكر »ضربةُ« الحيّات. نقرأ في عد 14: 2: ''ولام جميعُ بني اسرائيل موسى وهرون وقالوا لهما: »يا ليتنا متنا في أرض مصر... لماذا جاء الربّ بنا إلى هذه الأرض؟« (آ 3). بل عزموا أن ''يقيموا رئيساً عليهم'' (آ 4). وأسوأ من هذا، قالوا: »هيَّا نرجمهما بالحجارة« (آ 10). وفي عد 21: 5: ''تكلّموا على الله وعلى موسى''. حينئذ أتت ''حيات ناريّة'' . هــذا مــــا يقابل في العربية ''ح ن ش'' (نوع من الحيات). رج في السريانية . تــحــــدّث الـــيـــونــــانـــي عـــــــن الحــيّــاتτους οφεις، ولكنه لم يَدعُهـــا »الحـــارقــة«، بـــــل »القــاتلة« θανατουντας. هنا يُبرز الترجوم عقوق الشـعـب: »فـــي المــاضي لعـنـتُ الحـيّة...أخرجتُ شعبي من أرض مصر، أعطيتُ الحيةَ الترابَ مأكلاً، أما شعبي فأنزلتُ له المن من السماء... ولكنَّ شعبي عاد يتذمّر قدّامي على المن الذي هو طعام هزيل. إذاً، لتأتِ الحية التي لم تتذمّر على طعامها، ولتعضّ هذا الشعب الذي تذمّر على طعامه«(31).

واللاء الخامسة والأخيرة: »لا تتذمّروا« (آ 10) μηδε γογγυζετε . هذا ما نقرأ في الاسكندراني والفاتيكاني والأفرامي وغيرها مع عدد كبير من المخطوطات الجرارة والآبـــاء. ولكنّ الســـيـــنــائي والبازي واوريمجــان وأوغسطــيـــن فتركوا صيغة الأمر مع المخاطب الجمع، وأخذوا بصيغة التمنيّ مع المتكلم الجمع: لا نجرّبْ. قد يكون »التمني« تأثّر بما في آ 9 (لا نزنِ). نلاحظ هنا أن اللاءتان الثانية (آ 7) والرابعة (آ 10) هما ارشادان متوازيان يتحدّثان عن جيل البرية كمثَل سلبيّ، وقد جاءت في صيغة الأمر μηδε γινεστε. ثم: لا تتذمّروا. أما اللاءات الثانية والثالثة (آ 9) فجاءتا في صيغة التمني: لا نزنِ، لا نجرّب.

تذمّر العبرانيون على موسى

(عد 14: 2). في اليونانية: δεγογγυζον استعمل بولس الفعل عينه مرتين εγγογυσαν ثم γογγυζετε»أنتم لا تتذمّروا كما هم تذمّروا، لئلاّ يأتي ملاك الموت ολοθρευτου . لا يرد هذا اللفظ إلاّ هنا في العهد الجديد كلّه، وهو يتألف من لفظين ολοος. (الهلاك) ثم (بكى، ندب). نشير إلى أن ملاك الموت يُذكَر في خر 12: 23 ολοθρευοντα على أنه ''المهلــــك'' . الفعل هو . في العربية: سحت: أفسد، أهلك.
 
موضوع مغلق


الانتقال السريع


الساعة الآن 03:26 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025