29 - 03 - 2024, 11:30 AM | رقم المشاركة : ( 155871 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
معرفة بولس بالتفسير اليهوديّ أوصلته إلى يسوع المسيح إذا لم يكن هكذا، فما معنى ذاك اللقاء على طريق دمشق؟ »كان وجه موسى يلمع في كلامه مع الربّ... فخافوا أن يقتربوا إليه« (خر 34: 29-30). قال بولس: هذا مجد زائل، ومع ذلك لم يقدر بنو إسرائيل »أن ينظروا وجه موسى« (2 كو 3: 7). وواصل كلامه: »كيف يكون مجد خدمة الروح«؟ لم نعد على مستوى العهد القديم لكي يبقى هذا البرقع على قلوبنا عند قراءة شريعة موسى. فمن يزيل هذا البرقع، هذا القناع؟ الاهتداء إلى الربّ، فالربُّ روح وحيث يكون روح الربِّ هناك تكون الحرِّيَّة (آ17). وفي النهاية »نحن جميعًا نعكس صورة مجد الربِّ بوجوه مكشوفة، فنتحوَّل إلى تلك الصورة ذاتها« (آ18). هذه »الحرِّيَّة« المسيحيَّة التي حرَّرت بولس من الشريعة، فحرَّر الوثنيّين الآتين إلى الإيمان من الختانة ومن الامتناع عن بعض الأطعمة، قرأها الرسول في المقابلة بين هاجر وسارة. قال: هو رمز. »لأنَّ هاتين المرأتين تمثِّلان العهدين. فإحداهما هاجر من جبل سيناء تلد للعبوديَّة، وجبل سيناء في بلاد العرب، وهاجر تعني أورشليم الحاضرة التي هي وبنوها في العبوديَّة« (غل 4: 24). نلاحظ هذا الانقلاب العميق في حياة »شاول«، ذاك اليهوديّ الذي وجب عليه ألاَّ ينسى موسى وشريعة سيناء حيث ظهر الله في البروق والرعود. كلُّ هذا صار وراءه. وأورشليم حيث المؤمن يلتقي بالربِّ فينشد: متى آتي وأحضر أمام الله. أورشليم ارتبطت »بالعبوديَّة«. ذاك كان الحوار بين يسوع واليهود في إنجيل يوحنّا. قال الربّ: »تعرفون الحقَّ والحقُّ يحرِّركم« (يو 8: 32). والحقُّ هو يسوع المسيح. أجاب اليهود: »إنَّنا ذرِّيَّة إبراهيم ولم يستعبدنا أحد، فكيف تقول أنت: إنَّكم تصيرون أحرارًا« (آ33). أجل لبث اليهود »عبيدًا« لأنَّهم تعلَّقوا بأورشليم الأرضيَّة. ويواصل الرسول: »أمّا أورشليم السماويَّة فحرَّة وهي أمَّنا« (غل 4: 26). واستند بولس إلى نصٍّ من إشعيا ليعلن حرِّيَّة البنين (والبنات): »فما نحن إذًا، يا إخوتي، أبناء الجارية، بل أبناء الحرَّة« (آ31). ونقول الشيء عينه بالنسبة إلى تلك الصخرة الروحيَّة. قال الرسول: »وهذه الصخرة هي المسيح« (1 كو 10: 4). فما هو هذا الماء الذي تحتاج السامريَّة أن تأتي كلَّ يوم لتملأ منه جرَّتها؟ قال الربّ: »فالماء الذي أعطيه يصير فيه نبعًا يفيض بالحياة الأبديَّة« (يو 4: 14). لهذا هتفت تلك المرأة: »أعطني من هذا الماء، يا سيِّدي، فلا أعطش« (آ15). ماذا كان شعار بولس بعد اهتدائه إلى الربّ؟ »أترك ما وراءي وأنبطح إلى ما أمامي فأجري إلى الهدف، للفوز بالجائزة التي هي دعوة الله السماويَّة في يسوع المسيح« (فل 3: 13). والشريعة، أين صارت؟ قال في الرسالة عينها: »لا أتبرَّر بالشريعة، بل بالإيمان بالمسيح، وهو التبرير الذي يمنحه الله على أساس الإيمان، فأغرف المسيح وأعرف القوَّة التي تجلَّت في قيامته وأشاركه في آلامه وأتشبَّه به في موته، على رجاء قيامتي من بين الأموات« (آ9-10). |
||||
29 - 03 - 2024, 11:32 AM | رقم المشاركة : ( 155872 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
ما الذي حصل لشاول الآتي إلى أورشليم لكي يدافع عن ديانة آبائه؟ هو الذي قال في دفاعه عن نفسه في أورشليم: »واضطهدتُ طريق يسوع حتّى الموت. فاعتقلتُ الرجال والنساء وألقيتهم في السجون« (أع 22: 4). ولكنَّه انتقل من »نير« إلى نير. من نير الشريعة الثقيل الذي يرزح المؤمن تحت ثقله (مت 11: 28) إلى نير المسيح »الوديع والمتواضع القلب«. فهو هيِّن وخفيف. مثل هذا الانتقال جعل اليهود حتّى في أيّامنا يحسبون بولس خائنًا. ولكنَّه لم يكن خائنًا، بل قرأ العهد القديم وأوصله إلى كماله، إلى يسوع المسيح، الذي قال: »ما جئت لأنقض، بل لأكمِّل« (مت 5: 17). أمّا اليهود فلبثوا في العهد القديم وما أرادوا الخروج منه. وبولس نفسه كان موافقًا لولا تلك »الصدمة« التي حصلت له على طريق دمشق. »شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟« ماذا تريد يا ربّ أن أعمل؟ ذاك كان جواب ذاك الماضي ليحارب يسوع في كلِّ مكان. ما جادل، ما ناقش. ولكنَّه أحسَّ بالصعوبة. فالاهتداء إلى الربِّ يبدأ مثل نارٍ في القشّ، في الاندفاع. ولكن بعد وقتٍ قصير يحسُّ المؤمن بما يجب أن يتركه. سوف نرى بولس الذي ترك ماضيَه كلَّه. هو ابن طرسوس، لم يمرَّ فيها خلال رسالته. وأورشليم حيث »وُلد« إلى شريعة موسى، صارت ممرٌّا. لا مقرٌّا، فنقطة الانطلاق في رحلاته الرسوليَّة، ستكون أنطاكية. ونحن نعرف المرَّة الأولى وما فيها من صيغة احتفاليَّة: »قال لهم الروح القدس: خصِّصوا لي برنابا وشاول لعملٍ دعوتُهما إليه. فصاموا وصلّوا، ثمَّ وضعوا أيديهم عليهما وصرفوهما« (أع 13: 2-3). وحين انتهت المهمَّة، قدَّم بولس وبرنابا تقريرًا في أنطاكية، لا في أورشليم: »جمعا الكنيسة وأخبرا بكلِّ ما أجرى الله على أيديهما وكيف فتح باب الإيمان للأمم« (أع 14: 27). قال الربُّ جوابًا على إعلان بطرس: »ما من أحد ترك بيتًا أو إخوة أو أخوات...« (مر 10: 29)، وأضاف لوقا: »امرأة« (لو 18: 29). مع أنَّ بولس كان متزوِّجًا، أراد أن يكون حرٌّا فما اصطحب معه امرأته مثل بطرس وإخوة الربّ (1 كو 9: 5). ومع أنَّ له الحقَّ أن يعيش من البشارة، أعلن »أجرتي هي أن أبشِّر مجّانًا وأتنازل عن حقّي من خدمة البشارة« (آ18). وطلب الربّ: »من جاء إليَّ وما أحبَّني أكثر من حبِّه لأبيه وأمِّه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته، بل أكثر من حبِّه لنفسه، لا يقدر أن يكون لي تلميذًا« (لو 14: 36). أما كان هذا حبُّ بولس ليسوع، فأعلن يومًا: »حياتي هي المسيح وإن متُّ فذلك ربحٌ لي؟« وواصل الربُّ كلامه: »ومن لا يحمل صليبه ويتبعني لا يقدر أن يكون لي تلميذًا« (آ17). قال بعضهم، ويا لتعاسة ما قالوا: بولس »مؤسِّس« المسيحيَّة؟ لا، بولس دعا نفسه »عبد« يسوع المسيح. والعبد يلتصق بسيِّده. والعبد في مفهوم الكتاب هو القريب جدٌّا من الملك. رأى »معلِّمه« ملتصقًا بالصليب، فالتصق هو. قال: »أمّا أنا فلن أفاخر إلاَّ بصليب ربِّنا يسوع المسيح. به صار العالم مصلوبًا بالنسبة إليَّ، وصرتُ أنا مصلوبًا بالنسبة إلى العالم« (غل 6: 14). بالصليب أدخلَ المسيحُ البشرَ في الخليقة الجديدة. فما عاد الرسول يهتمُّ بالعالم القديم، لا على المستوى اليهوديّ مع الختان أو عدم الختان، ولا على المستوى الوثنيّ مع »حكمته« التي هي حماقة في نظرالربّ. لا أمان للمسيحيّ في هذا العالم، ولا افتخار. فالرسول متعلِّق بالصليب ولا يريد أن يتعلَّق إلاَّ بالصليب. فقال: »أحمل في جسدي سمات يسوع« (آ17). تلك التي أراها لتوما الذي رفض أن يؤمن (يو 20: 27). هي العلامة التي تميِّز يسوع، كما تميِّز الرسول الحقيقيّ: »نحن ننادي بالمسيح مصلوبًا، وهذا عقبة لليهود وحماقة في نظر الوثنيّين« (1 كو 1: 23). ترك بولس الحكمة »اليونانيَّة« وأخذ بحكمةٍ من نوع آخر. وترك المسلَّمات اليهوديَّة التي تطلب الآية بعد الآية، مع أنَّ يسوع كثَّر لهم الأرغفة وأطعم خمسة آلاف (يو 6). |
||||
29 - 03 - 2024, 11:33 AM | رقم المشاركة : ( 155873 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
في أيِّ مدرسة دخل شاول لكي ينال هذا التعليم الجديد؟ في مدرسة يسوع الذي قال: »لا تسمحوا بأن يدعوكم أحد: يا معلِّم، لأنَّكم كلَّكم إخوة ولكم معلِّم واحد« (مت 23: 8) وأوَّل تعليم كان التواضع. ما أرسله الربُّ يسوع إلى بطرس ولا إلى يعقوب ولا إلى العُمُد (غل 2: 9) في الكنيسة، بل إلى شخص مجهول في دمشق اسمه حنانيا. ثمَّ لم يقل له ماذا يجب أن يفعل. فهذا المخطِّط الكبير لا يُقال له شيء عن الهدف الأخير. فشابه إبراهيم: أنا أريك في الوقت المناسب. وهكذا كان الأمرُ بالنسبة إلى شاول. وضع هذا »المسؤول« في إحدى الجماعات المسيحيَّة يدَه على شاول »فتساقط من عينيه ما يشبه القشور، وعاد البصرُ إليه فقام وتعمَّد. ثمَّ أكل فعادت إليه قواه« (أع 9: 18-19). كان بالإمكان أن يعود هذا المعمَّد جديدًا إلى أورشليم. ولكنَّه ما فعل. دعاه الربُّ فمضى إلى الجماعات المسيحيَّة في ما يُسمّى اليوم حوران وإلى الشرق من نهر الأردنّ. هناك المدن العشر التي وصل إليها الإنجيل. ومنها »جرش« وغيرها. هناك عاش مع المسيحيّين الأوَّلين، وشاركهم في عشاء الربِّ فأورد ما عرف في الرسالة الأولى إلى كورنتوس: »تسلَّمتُ ما سلَّمته إليكم، وهو أنَّ الربَّ يسوع في الليلة التي أُسلم فيها...« (1 كو 11: 23). واكتنز تعليم يسوع كما وصل إلى الجماعات ، فتذكَّر أقوال الربّ قبل أن تُكتَب الأناجيل. وبولس صاحب الثقافة الواسعة، والمعرفة العميقة بالكتاب المقدَّس، وابن العبقريَّة التي هي عطيَّة من عطايا الربّ، أعطانا أوَّل إنجيل، أوَّل خبر طيِّب: بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت (رو 5: 12)، وبإنسان واحد هو يسوع المسيح »سادت الحياة« (آ17). اعتدنا أن نتكلَّم عن الأناجيل الأربعة، متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا. ولكن قبل هذه الأناجيل بعشرات السنين، قال بولس: »ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله... حسب إنجيلي بيسوع المسيح« (رو 2: 13، 16). ويعلن الرسول: »فأنا لا أستحي بإنجيل المسيح، لأنَّه قوَّة لخلاص كلِّ مؤمن، لليهوديّ أوَّلاً ثمَّ لليوناني« (رو 1: 16). في الرسالة الأولى إلى كورنتوس: »ويلٌ لي إن كنت لا أبشِّر« (1 كو 9: 16). وأضاف: »لا أريد أن أبني على أساس غيري« (رو 15: 20). وهكذا نراه في سفر الأعمال ينتقل من مدينة إلى مدينة، بالرغم من الصعوبات التي تجابهه. في قبرص مع عليما الساحر (أع 13: 8). في أنطاكية بسيدية، المعارضة والشتيمة (آ45). في إيقونية، الإهانة والاستعداد للرجم (أع 14: 5). في لسترة »رجموا بولس وجرُّوه إلى خارج المدينة وهم يحسبون أنَّه مات« (آ19). مدرسة يسوع التي دخل فيها بولس امتدَّت، لا بضع دقائق على طريق دمشق، بل طوال حياته. فيسوع يرافقه من خلال حوار بدأ ولن ينتهي إلاَّ بموت الرسول بعد أن قُطع رأسه على طريق أوستيا، قرب رومة. بدأ يبشِّر في مجامع دمشق، فطُرد من هناك وهرَّبوه في سلَّة أُنزلت من على السور. وفي أورشليم، زعج الجماعة لأنَّه راح في خطِّ إسطفانس. لهذا »حاول اليهود أن يقتلوه« (أع 9: 29). وهناك سمع صوت الربِّ يقول له: »اذهب فإنّي أرسلك إلى الأمم بعيدًا« (أع 22: 21)، أي إلى العالم الوثنيّ. وفي كورنتوس، سمع بولس الربَّ يقول له: »لا تخف! بل تكلَّم ولا تسكت. فأنا معك، ولن يؤذيك أحد. فلي شعبٌ كثير في هذه المدينة« (أع 18: 9-10). ولاحقه الخصوم ولاحقوه. فكان مرَّة أولى في السجن، بين قيصريَّة ورومة. ومرَّة ثانية أحسَّ بدنوِّ أجله، في ذلك السجن القاسي، فهتف: »أمّا أنا فذبيحة يراق دمُها وساعة رحيلي اقتربت. جاهدتُ الجهاد الحسن، وأتممتُ شوطي، وحافظتُ على الإيمان« (2 تم 4: 6-7). الخاتمة إلى هنا قادت طريقُ دمشق بولس الرسول. كان بإمكانه أن يعيش في طرسوس، في كنف والديه، وربَّما مع إخوته وأخواته. ربَّما يعلِّم في الجامعة، أو يحمل في هذه المهنة اليدويَّة التي تميَّز بها الفرّيسيّون والمعلّمون اليهود. هذا »الزعيم« الذي ترأَّس حملة عسكريَّة لكي يحارب المسيحيَّة، ترك السباق في الميدان من أجل إكليل يفنى، وطلب إكليلاً لا يفنى (1 كو 9: 25). أمامه مستقبل جامعيّ! تركه. أمامه مستقبل في أورشليم، في خطِّ هؤلاء المعلِّمين الكبار! تركه. أمامه ثورة يمكن أن يقودها كما سوف يعمل العديدون وآخرهم ابن الكوكب يوم سقطت أورشليم سنة 132-135! هذا الشابّ هو سيِّد نفسه، ولا يسير وراء أحد، إلاَّ شخص يسوع المسيح. فهو يسير في موكبه عارفًا بمن وضع ثقته. »أنا عالم بمن آمنت وعارف أنَّه قادر أن يحفظ وديعتي إلى يوم ربِّنا«. أجل، ترك كلَّ الضمانات البشريَّة وما احتفظ إلاَّ بضمانة الصليب، ممّا يدلُّ على إيمانه العميق واستسلامه التامّ على ما نقرأ في الرسالة إلى رومة: من إيمان إلى إيمان. آمن الله به فآمن بالله. كان الله أمينًا لرسوله، فكان الرسول أمينًا لربِّه. لهذا هتف في الرسالة الأولى إلى كورنتوس: »فليعتبرنا الناس خدَّامًا للمسيح ووكلاء أسرار الله، وكلُّ ما يُطلَب من الوكلاء هو أن يكون كلُّ واحد منهم أمينًا« (1 كو 4: 1-2). ذاك هو بولس الذي تحوَّلت حياته كلُّها في الطريق إلى دمشق. |
||||
29 - 03 - 2024, 11:35 AM | رقم المشاركة : ( 155874 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
من بولس عبد يسوع المسيح عرف العالمُ اليونانيّ والرومانيّ عددًا كبيرًا من الرسائل تتوزَّع بين الرسائل الرسميَّة أو الخاصَّة، والرسائل التي تحمل مقالاً خاصٌّا في اللاهوت أو في الفلسفة أو في أمور أخرى. وبولس الرسول اختار هذا الفنَّ الأدبيّ، الفنَّ الرسائليّ، لكي يوصلَ أفكاره من بعيد، ويواصل تعليمه إلى الجماعات التي أسَّسها، في آسية الصغرى أو اليونان وصولاً إلى ما يُدعى اليوم أوروبّا الشرقيَّة. والرسالة إلى رومة جاءت في خطِّ الرسائل التي وصلت إلينا سواء من الفيلسوف اليونانيّ أفلاطون (427-348/347 ق.م.) أو من المفكِّر اللاتينيّ سينيكا (4 ق.م.- 65 ب.م.) ابن قرطبة في إسبانيا، أو من خطيب رومة الشهير شيشرون (106-43ق.م.) الذي احتفظ لنا سكرتيره تيرون (كان عبدًا وحرَّره) برسائله وسائر مؤلَّفاته فوصلت إلينا كاملة. كاتب الرسالة إلى رومة اسمه ترتيوس (رو 16: 2) الذي يسلِّم هو أيضًا على جماعة رومة. وفيبة، الشمّاسة في كنخريَّة (16: 1أ) حملت هذه الرسالة، فقال بولس: »تقبَّلوها في الربِّ قبولاً يليق بالإخوة القدّيسين (آ1ب). الرسالة إلى رومة رسالة طويلة، بل أطول الرسائل البولسيَّة، ولهذا وُضعت في رأس الرسائل، كما كانت العادة في ذلك الزمان. مع أنَّها كتبت سنة 67-68 وأرسلت من كورنتُوس. رسالة تحمل العقيدة الأساسيَّة: التبرير بالإيمان، فتقدِّم نظرة إلى كنيسة كورنتوس تنطبق على كنيسة رومة. فيها نتعرَّف إلى بولس الرسول فيكتشف »المسؤول« هويَّته بحسب الربِّ يسوع، لا بحسب البشر. ونتعرَّف إلى »نبيّ« في العهد الجديد، يكشف الخطيئة في المحيط الذي فيه ولا يموّه على نفسه وعلى الجماعة المسيحيَّة على مثال »الفرّيسيّين المرائين« الذين يتوقَّفون عند الظاهر وينسون الباطن (مت 23: 27). ونتعرَّف أخيرًا إلى »معلِّم« يدعو المؤمنين في مختلف حالاتهم إلى المحبَّة واحترام الآخرين ولاسيَّما الضعفاء. 1- بولس الرسول منذ البداية عرَّفنا بولس بنفسه، كما اعتادت الرسائل القديمة أن تفعل وعرَّفنا بالجماعة التي يكتب إليها. بولس. اسم بولس في العالم اليونانيّ يرتبط بالراحة. أمّا اسمه في العالم الشرقيّ فهو شاول، اسم أوَّل ملك على القبائل العبرانيَّة (1 صم 10: 21). ترك بولس اسمه العبرانيّ حين كان في قبرص، خلال الرحلة الرسوليَّة الأولى (أع 13 : 9: فامتلأ شاول، واسمه أيضًا بولس) بسبب رنَّته اللغويَّة (من يرقص بشكل مخنَّث σαλος) . ولكنَّه لا ينسى أبدًا ذاك الاسم الذي به دعاه الربُّ على طريق دمشق: »شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟« (أع 9: 4). كما قال الربُّ لعبده وعابده: »دعوتك باسمك وجعلتك لي« (إش 43: 1). عبد. كلمة عبد في مفهومنا الحديث لا تفي بالمراد، بل هي تعطي المعنى المعاكس لما في الكتاب المقدَّس. في القاموس، هو الزنجيّ، المملوك المولود من عبد وأمة. ولكنَّ موسى هو »عبد« الله، وكذلك داود. والوزير هو عبد الملك. يعني هو صنيعة الملك، بحسب الاشتقاق السامي لفعل »ع ب د« في العبريَّة والآراميَّة والسريانيَّة. العبد، أو الوزير الأوَّل، يكون قرب الملك. يسمع نصائحه، يخدمه، يطيعه. كدتُ أقول: يلتصق به ولا يتركه مهما كانت الأمور. من هنا يقول لنا القاموس: »عبدَ الله أي وحَّده وخدمه وخضع وذلَّ وطاع له«. عبدُ الله هو »ملكه« الذي لا يريد أن يتصرَّف إلاَّ كما سيِّده يريد. ذاك هو بولس. ذاك هو الرسول. هو صنيعة الربِّ. فلو لم يتدخَّل يسوع في حياته، لكان »شاول« فرّيسيٌّا بين الفرّيسيّين العديدين، وحائكًا بين الحائكين في مدينة طرسوس (أع 18: 3: صناعة الخيام). غير أنَّ الله اختاره ليحمل اسمه إلى الأمم والملوك وبني إسرائيل (أع 9: 15). وقال الربُّ فيه: »سأريه كم يجب أن يتحمَّل من الآلام في سبيل اسمي« (آ16). »كما أرسلني أبي هكذا أنا أرسلكم« (يو 20: 21). صار بولس رسولاً بين الرسل، على مثال »المعلِّم« الإلهيّ. وسيقول عن نفسه إنَّه »وكيل« وما يُطلَب من الوكيل هو أن يكون أمينًا (1 كو 4: 2). لهذا هو يرفض أن »يدينه« أحد. بل هو لا يدين نفسه. ديّانه هو الله. والمقياس الأمانة للرسالة. ودعا بولس نفسه »السفير« الذي يعظ يسوع بلسانه (2 كو 5: 20). يعظ كلمة المصالحة (آ19) ويُبعد كلَّ خلاف من قلب الجماعة: لا مجال للعداوة والخصام والحسد (غل 5: 20-21). ارتبط بولس بيسوع ارتباطًا جعله »مغرَمًا« بذلك الذي دعاه رسولاً »مع أنّي اضطهدتُ كنيسة الله« (1 كو 15: 9). ولكنَّه عرف ضعفه في الوقت عينه، فإن كان »الإناءَ المختار« كما قيل لحنانيّا الدمشقيّ، فهو يعلن أنَّه وحاملي الرسالة »آنية من خزف تحمل هذا الكنز، ليظهر أنَّ تلك القدرة هي من الله لا منّا« (2 كو 4: 7). غير أنَّ ضعفه يدلُّ على أنَّ يسوع يعمل فيه. لهذا افتخر بهذا الضعف (2 كو 11: 30). وسمع الربُّ يقول له: »تكفيك نعمتي. في الضعف يظهر كمالُ قدرتي« (2 كو 12: 9). وفي أيِّ حال، ما أراد أن يتقوَّى بقوَّة البشر. لا بالمال ولا بالعلم ولا »بالرئاسة« ولا بالعظمة. كلُّ هذا حسبه نفاية تجاه معرفة يسوع المسيح. قال »ما كان لي من ربح، حسبته خسارة من أجل المسيح، بل أحسب كلَّ شيء خسارة من أجل الربح الأعظم، وهو معرفة يسوع المسيح ربّي. من أجله خسرتُ كلَّ شيء وحسبتُ كلَّ شيء نفاية لأربح المسيح وأكون فيه« (فل 3: 7-9). بعد هذا، أتُراه يستند إلى البشر؟ كلاّ. أيطلب رسالة توصية من بطرس أو من يعقوب أو من يوحنّا الذين يُعتَبرون العمد في الكنيسة (غل 2: 9)؟ كلاّ. لهذا نسمعه يقول: »هل أنا أستعطف الناس؟ كلاّ. بل أستعطف الله، أيكون أنّي أطلب رضى الناس؟ فلو كنتُ إلى اليوم أطلب رضى الناس، لمّا كنتُ عبدًا للمسيح!« (غل 1: 10). أكبر شرف له أن يكون »عبدًا« للمسيح، لا عبدًا للناس وما يمكن أن يعطونه من مال أو اعتبار. أكبر شرف له أنَّه رفض تعليم البشر واستند إلى »وحي يسوع المسيح« (آ12). أكبر شرف له أنَّه ترك حكمة العالم وأخذ بحكمة الصليب. »ما أردتُ أن أعرف بينكم سوى يسوع المسيح ويسوع المسيح مصلوبًا« (1 كو 2: 2). دعاه الله واختاره. ويعرِّفنا بولس بنفسه في خطِّ ما قال يسوع لتلاميذه: »ما اخترتموني أنتم، بل أنا اخترتُكم وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بالثمر، ويدوم ثمركم« (يو 15: 116). الربُّ دعا بولس كما دعا »الأنبياء«. كما دعا عاموس العائش في جنوب البلاد، وأرسله إلى الشمال، إلى معبد الملك في بيت إيل، قرب السامرة. هو ما أعدَّ نفسه، ولو فعل لكان لبس لباس الأنبياء أو صار »ابن نبي« مثل إليشع بالنسبة إلى إيليّا (1 مل 19: 19ي). تحدَّث عن نفسه قال: »أنا راعي غنم وقاطف جمَّيز. أخذني الربُّ من وراء الغنم وقال لي: إذهب تنبَّأ لشعبي إسرائيل« (عا 7: 14-15). كما أخذ الربُّ عاموس أخذ »شاول«، وإرميا قال له الربّ: »قبل أن أصوِّرك في البطن أخذتُك، وقبل أن تخرج من الرحم كرَّستك (قدَّستك، جعلتك لي) وجعلتُك نبيٌّا للأمم« (إر 1: 5). أراد أن يتهرَّب: »أنا لا أعرف أن أتكلَّم لأنّي صغير« (آ6). رفض الربُّ مثلَ هذا العذر. »كلُّ ما آمرك به تقوله... لأنّي في فمك أضع كلامي« (آ7-8). وبولس أيضًا اختاره الله وهو في حشا أمِّه. قال عن نفسه في الرسالة إلى غلاطية: »ولكنَّ الله بنعمته اختارني وأنا في بطن أمّي، فدعاني إلى خدمته. وعندما شاء أن يُعلن ابنَه فيَّ لأبشِّر به بين الأمم، ما استشرتُ بشرًا... بل ذهبتُ على الفور إلى بلاد العرب (حوران في سورية الجنوبيَّة، ومناطق واقعة شرقيّ نهر الأردنّ) ومنها عدتُ إلى دمشق« (غل 1: 15-17). وهناك »سارع إلى التبشير في المجامع بأنَّ يسوعَ هو ابنُ الله« (أع 9: 20). أيُّها الكاهن، اعرف نفسك! وليكن بولس مرآة لك فتعرف كرامتك. وتعرف بمن آمنت (2 تم 1: 12): هو قادر أن يحفظ وديعتي »إلى ذلك اليوم«. 2- أحبّاء الله في رومة بولس مدعوّ، وجماعة رومة هم »مدعوُّون ليكونوا قدّيسين« (رو 1: 7). فالمؤمنون كلُّهم مدعوُّون إلى القداسة، التي بدونها لا نستطيع أن نرضي ربَّنا. بدأ بولس فهنَّأ كنيسة رومة »لأنَّ إيمانكم ذاع خبرُه في العالمِ كلِّه« (رو 1: 8). فرومة عاصمة الإمبراطوريَّة. إليها وصل الإنجيل كما وصل إلى أنطاكية والإسكندريَّة قبل أن يصل إليها الرسل. ومنها يستطيع الإنجيل أن ينطلق، بل إنَّ الرسول أراد أن ينطلق منها لكي يحمل البشارة إلى إسبانية (رو 15: 24). فكما انطلق شاول (بولس) مع برنابا من أنطاكية مزوَّدًا ببركة الجماعة (أع 13: 3)، كذلك استعدَّ لأن يجعل من رومة مركز الانطلاق الجديد بحيث تصل البشارة »إلى أقاصي الأرض« (أع 1: 8). وأقاصي الأرض هي جبل طارق أو »عمود هرقل« الذي يُسند الأرض في زاوية من زواياها. واشتاق بولس لكي يرى هذه الكنيسة (رو 1: 11أ) وفيها من فيها من المسيحيّين المعروفين: بريسكيلا وأكيلا، أبينيتوس الحبيب، مريم، أندرونيكوس ويونيّا... (رو 16: 3ي). كما اشتاق أن يشارك هذه الجماعة في إيمانها (آ11ب)، وفي ما نالته من مواهب سوف يذكرها فيما بعد: موهبة النبوءة، موهبة الخدمة، موهبة التعليم، موهبة الوعظ، موهبة العطاء، موهبة الرئاسة، موهبة الرحمة (رو 12: 6-8). يبقى عليها أن تنسِّق هذه المواهب بحيث يعرف الجميع أنَّ النبع هو واحد: الروح القدس (1 كو 12: 5)، وأنَّ كلَّ عمل إنَّما هو من أجل بناء الجماعة (1 كو 14: 26)، لا من أجل بناء شخصنا في أنانيَّة قاتلة (آ4). وفي النهاية، العامل الحقيقيّ لا يمكن أن يكون الإنسان بحيث يفتخر بما نال من مواهب (1 كو 1: 23). بل »الله الذي يعمل كلَّ شيء في الجميع« (1 كو 12: 6). ونلاحظ تواضع الرسول تجاه تلك الجماعة التي ارتبطت ببطرس بحسب التقليد المسيحيّ، والتي منها أرسلت رسالة بطرس الأولى. »كنيسة بابل (هي ترمز إلى رومة، عاصمة الإمبراطوريَّة، رؤ 17: 5)، وهي مثلكم مختارة من الله، تسلِّم عليكم« (1 بط 5: 13). ما قال الرسول: »جئتُ لكي أشجِّعكم، لكي أقوِّيكم« بل »ليشجِّع بعضنا بعضًا... بالإيمان المشترك بيني وبينكم« (رو 1: 12). حين كتب بولس إلى كنيسة تسالونيكي قال لهم: »أرسلنا تيموتاوس... ليشجِّعكم ويقوّي إيمانكم لئلاّ يتزعزع أحدٌ منكم في هذه الشدائد« (1 تس 3: 2-3). أمّا هنا، فبولس يطلب التشجيع من أجل الرسالة الجديدة التي يتطلَّع إليها، ومن أجل الصعوبات التي قد تعترضه حين الذهاب إلى اليهوديَّة وأورشليم (رو 15: 25). كما يطلب الصلاة: »فأناشدكم، أيُّها الإخوة، باسم ربِّنا يسوع المسيح وبمحبَّة الروح، أن تجاهدوا معي برفع صلواتكم إلى الله، من أجلي، لينقذني من أيدي الخارجين على الإيمان في اليهوديَّة، ويجعل خدمتي مقبولة عند الإخوة القدّيسين« (آ30-31)، أي الإخوة الذين في أورشليم. أجل، بولس ضعيف وهو يطلب معونة من المؤمنين، الصلاة وربَّما أكثر من الصلاة. فهل تلبّي الجماعة طلبه؟ وفي أيِّ حال، سوف تبدأ الصعوبات بالنسبة إلى بولس في أورشليم، فيصل إلى رومة »كسجين المسيح« (غل 4: 1: السجين في الربّ). فتأتي الجماعة وتستقبله في »ساحة مدينة أبيّوس والحوانيت الثلاثة« (أع 28: 15أ). ويقول لنا لوقا، صاحب سفر الأعمال: »فلمّا رآهم بولس شكر الله وتشجَّع« (آ15ب). فرح بولس بجماعة رومة وهنّأها، ولكنَّه مارس معها »موهبة النبوءة«. فالنبيّ هو الذي يدخل في سرِّ الله ويكشفه للمؤمنين. والنبيّ لا يخاف أن يقول الحقيقة ولو كلَّفه السجن والعذاب والموت. وبولس جاء في خطِّ الأنبياء فندَّدوا بخطايا الشعب الذين استندوا إلى »الهيكل« (إر 7: 4). »فخدعوا أنفسهم، وما أصلحوا طرقهم وأعمالهم، ولا قضوا بالعدل بين الواحد والآخر، بل جاروا على الغريب واليتيم والأرملة، وسفكوا الدم الزكي« (آ5-6). وخطايا مدينة رومة كبيرة سواء لدى الوثنيّين أو لدى اليهود. فالوثنيّون غاصوا في عبادة الأوثان، وما اكتفوا »بصور على شاكلة الإنسان الفاني« بل تطلَّعوا أيضًا إلى »الطيور والدواب والزحّافات« (رو 1: 23). وبسبب هذا الضلال تنكَّروا لله، فما اكتشفوا »صفاته الخفيَّة، أي قدرته الأزليَّة وألوهيَّته« (آ20). هم »ما مجَّدوا الله ولا شكروه، بل زاغت عقولهم« (آ21). والنتيجة: عيش الزنى بأشكاله: »فاستبدلت نساؤهم بالوصال الطبيعيّ الوصال غير الطبيعيّ. وكذلك ترك الرجال الوصال الطبيعيّ للنساء والتهبَ بعضُهم شهوة لبعض، وفعل الرجال الفحشاء بالرجال ونالوا في أنفسهم الجزاء العادل لضلالهم« (آ26-27). صورة قاتمة عن جماعة رومة. استوحاها الرسول ممّا يرى في كورنتوس من زنى وفجور، بحيث اخترع الكتّاب من اسم المدينة فعل »كرنتس« ليصوِّر هذه الحالة التي قرأناها في بداية الرسالة إلى رومة. أتُرى المؤمنون في رومة لم يتركوا بعدُ العادات الوثنيَّة، مثل إخوتهم في كورنتوس الذين يعيِّدون مع الوثنيّين في ظلِّ معابد الآلهة ويأكلون اللحوم المكرَّسة لهذه الآلهة الكاذبة؟ (1 كو 10: 14-22). ولمّا رسم بولس الحالة التي وصل إليها الوثنيّون، ظنَّ الهيود أنَّهم أفضل منهم ولكنَّهم أخطأوا. فإذا كان الوثنيّون »بلا عذر« (رو 1: 20) لأنَّهم عرفوا الله ولكنَّهم رفضوه (آ28). »وامتلأوا بأنواع الإثم والشرِّ والطمع والفساد« (آ29)، فاليهود ليسوا أفضل منهم. قال الرسول: »لذلك لا عُذرَ لك أيٌّا كنتَ، يا من يدين الآخرين ويعمل أعمالهم« (رو 2: 1). فهذا »اليهودي« الذي يمثِّل اليهود في كنيسة رومة، يشبه الفرّيسيّ الذي أتى يصلّي في الهيكل: »ما أنا مثل سائر الناس الطامعين الظالمين الزناة« (لو 18: 11). حكمَ هذا الفرّيسيّ بشكل خاصّ على »هذا العشّار« الذي يجبي الضرائب فيظلم الفقير ويبني الثروات الطائلة بعد أن يعطي الدولة الحاكمة حقَّها. واليهود، في زمن بيلاطس، حكموا على الوثنيّين. فأحدرهم الرسول من عليائهم: هم ليسوا أفضل من الوثنيّين. »دينونة الله« (رو 2: 2) تصيب الوثنيّين وتصيب اليهود أيضًا. »وأنت، يا من يدين الذين يعملونها ويفعل مثلهم، أتظنُّ أنَّك تنجو من دينونة الله؟ أم أنَّك تستهين بعظيم رأفته وصبره واحتماله، غير عارف أنَّ الله يريد أن يقودك إلى التوبة؟« (آ3-4). أيُّها الكاهن، اعرف رعيَّتك! شجِّع حين يجب التشجيع، ونبِّه حين يجب التنبيه. في وقته وفي غير وقته. ولا تخف أن تمارس رسالتك النبويَّة لأنَّه يأتي وقت يرفضون التعليم الصحيح »فيتبعون معلِّمين يكلِّمونهم بما يُطرب آذانهم« (2 تم 4: 3). 3- وبِّخْ وأنذرْ وعظْ إلى مثل هذا العمل دعا بولس تلميذه تيموتاوس: »أناشدك أمام الله والمسيح يسوع الذي سيدين الأحياء والأموات عند ظهوره ومجيء ملكوته، أن تبشِّر بكلام الله وتلحَّ في إعلانه في وقته وفي غير وقته، وأن توبِّخَ وتُنذر وتعظ صابرًا كلَّ الصبر في التعليم« (2 تم 4: 1-2). فإن هو دعا تلميذه، فهو سوف يقوم به في كورنتوس أوَّلاً، وفي رومة ثانيًا من خلال هذه الرسالة التي بدأت فقدَّمت »التعليم الصحيح«. بعد لوحة قاتمة عن البشريَّة التي لا تقدر أن تعمل الأعمال الصالحة، هي دعوة إلى العالم الوثنيّ الذي لم تحفظه حكمتُه من الأصناميَّة ولا من اللاخلقيَّة. أمّا العالم اليهوديّ فلا يمكنه أن يكتفي ببرارة ظاهرة في عيون الناس، بل تُفرَض عليه الاستقامة قدَّام الله. إذًا على اليهوديّ أن يسأل نفسَه إذا كان »مختون القلب« مثل الوثنيّين الذين يعملون بالشريعة دون أن يعرفوها. الجميع هم خطأة، والجميع يحتاجون إلى الخلاص المجّانيّ ينالونه في الإيمان مثل إبراهيم. فوعدُ الله جعله أبًا لليهود وأبًا للوثنيّين، ومثالاً لجميع الذين يؤمنون بقدرة الله الخالق الذي يقدر أن يقيم الموتى. ويصوِّر الرسول في هذه الرسالة (ف 5-8) صراع الإنسان مع الخطيئة التي تحاول أن تسيطر عليه. وبفضل حبِّ الله، يسير المؤمن بحسب الروح الذي يحقِّق فيه ما لم يستطع العنصرُ البشريّ أن يفعل. وهذا الإنسان الروحيّ يختبر حرِّيَّة التعلُّق بمخطَّط الله بالرغم من آلام الحياة الحاضرة. وإذ يمتلئ رجاء، تتصوَّر فيه صورةُ الابن الذي مات وقام ودخل الآن في المجد. وهكذا يتجاوب مع حبِّ الآب الذي لم يوفِّر ابنه، فيستسلم بالمحبَّة إلى جميع الضيقات التي تولِّده الحربُ في هذه الحياة بحسب الروح: »ولكنَّنا في هذه الشدائد ننتصر كلَّ الانتصار بالذي أحبَّنا. وأنا على يقين أنَّ لا الموت ولا الحياة، ولا الملائكة ولا رؤساء الملائكة، ولا الحاضر ولا المستقبل، ولا قوى الأرض ولا قوى السماء، ولا شيء في الخليقة كلِّها يقدر أن يفصلنا عن محبَّة الله التي هي في المسيح يسوع ربِّنا« (رو 8: 37-39). بعد هذا التعليم اللاهوتيّ يأتي التعليم الخلقيّ. فالرسول لا يجعل »بخطِّه« أخلاقيّات سطحيَّة فحسب، فيتوقَّف عند بعض الرذائل والخطايا وكأنَّه يُسرُّ بالكلام عنها. إمّا لضعف في العقيدة، وإمّا لسهولة بها يكرز الكاهن فلا يجُرُّ نفسه على التأمُّل في كلام الله والدخول في مكنوناته. بعد هذه النظرة إلى الإنسان الخاطئ والذي خلَّصه يسوع بموته وآلامه وقيامته، يبدأ التوبيخ والإنذار، ولاسيَّما على مستوى المحبَّة الأخويَّة. هنا يحملنا الرسول إلى القسم الثاني من الرسالة إلى أهل رومة، وبدايتها: »أناشدكم أيُّها الإخوة« (رو 12: 1). أوَّل تنبيه يكون على المحبَّة بين الإخوة »مفضِّلين بعضكم على بعض في الكرامة«، ثمَّ محبَّة الأعداء على مثال ما نقرأ في عظة الجبل (مت 5-7): »باركوا مضطهديكم، باركوا ولا تلعنوا« (رو 12: 14). فالمؤمنون يعيشون وسط الضيقات والاضطهادات، فهل يردُّون على الشرِّ بالشرّ؟ كلاّ. بل يتركون الأمر لله، ولا يسمحون للشرِّ أن يتغلَّب عليهم (آ26)، ولا للحقد أن يسيطر. أمّا المسألة الأساسيَّة التي جعلت الخلاف داخل جماعة رومة، فهو التعامل بين الآتين من العالم الوثنيّ والآتين من العالم اليهوديّ. هؤلاء كانوا الأكثريَّة في بداية كنيسة رومة، ثمَّ أخذ الوثنيّون »يطعَّمون« (رو 11: 18) شيئًا فشيئًا في الأصل. ولكن سنة 49، أمر الإمبراطور كلود (10-54ب.م.) جميع اليهود بأن يتركوا رومة بسبب الخلاف فيما بينهم حول »خرستوس« أو: المسيح. منهم من انتقل إلى المسيحيَّة ومنهم من لبث يهوديٌّا. غير أنَّ الإمبراطور ما فرَّق بين الاثنين. عندئذٍ صار العنصر اليهوديّ في الكنيسة أقلِّيَّة بالنسبة إلى العنصر الوثنيّ. فقال: »قُطعتْ تلك الفروع (الآتية من العالم اليهوديّ) حتّى أطعَّم أنا« (آ19)، أنا الآتي من العالم الوثنيّ. وجاء الصراع بين الأقوياء الذين هم الأكثريَّة وبين اليهود الذين هم الأقلِّيَّة. بين العائشين في حرِّيَّة المسيح، فلا يهتمُّون للطعام ولا للشراب، وبين المحافظين على الشريعة فبدوا »ضعاف الإيمان« (رو 14: 1) لأنَّهم لم يتجرَّدوا عن كلِّ شيء ليعرفوا أنَّ الخلاص بيسوع المسيح لا يحتاج إلى الختان ولا إلى الامتناع عن بعض الأطعمة. فاليهوديّ يأتي إلى يسوع من خلال الحالة التي هو فيها. والوثنيّ يأتي إلى يسوع من عالمه الذي لا يعرف الشرائع اليهوديَّة ولا فرائضها. هو لا يحتاج الختان لأنَّه لا يزيده شيئًا. وهكذا قسم الرسول الجماعة قسمين: »فمن الناس من يرى أن يأكل من كلِّ شيء« (آ2أ). هؤلاء هم المسيحيّون الآتون من العالم الوثنيّ. »ومنهم من هو ضعيف الإيمان فلا يأكل إلاَّ البقول« (آ2ب). كيف يكون التصرُّف؟ في المحبَّة. صاحب الحرِّيَّة لا يحتقر الآخرين فيقول: هم ما وصلوا بعد إلى ملء الحياة في المسيح. وصاحب الشريعة لا يدين أولئك الذين تحرَّروا من عادات صارت »بشريَّة« في نظر الحياة الجديدة في المسيح. عن الأوَّلين قال الرسول: »فعلى من يأكل من كلِّ شيء أن لا يحتقر من لا يأكل مثله« (آ3أ). وعن الآخرين قال: »وعلى من لا يأكل من كلِّ شيء أن لا يدين من يأكل كلَّ شيء« (آ3ب). إذا كان الله يقبل هؤلاء وأولئك، »فمن أنت لتدين خادم غيرك؟« (آ4)، خادم الربّ. هذا المناخ يجعلنا قريبين من مسألة عرفتها كنيسة كورنتوس: كلُّ اللحوم الآتية من ذبائح الأوثان. مع أنَّ الوثن ليس بشيء، ومع أنَّ اللحوم المذبوحة في عيد من أعياد المدينة لا تفترق عن اللحوم لدى قصّاب في المدينة، إلاَّ أنَّ المؤمن العائش في المحبَّة يمتنع عن أكل مثل هذا اللحم. وأعطى بولس السبب: »فإذا كان بعضُ الطعام سببًا لسقوط أخي، فلن آكل اللحم أبدًا لئلاّ أكون سببًا لسقوط أخي« (1 كو 8: 13). وقال بولس في الرسالة إلى أهل رومة: »فإذا أسأتَ إلى أخيك بما تأكله، فأنت لا تكون سالكًا في طريق المحبَّة. فلا تجعل من طعامك سببًا لهلاك من مات المسيح من أجله« (رو 14: 15). الطعام خيرٌ فلماذا يصبح سببًا للشرِّ وللخطيئة بحيث يتشكَّك أخي. الطعام شيء عابر فلماذا نعتبره جوهريٌّا في علاقتنا مع الإخوة والأخوات. فقال الرسول: »فما ملكوت الله طعام وشراب، بل برٌّ وسلام وفرح في الروح القدس. فمن خدم المسيح مثلَ هذه الخدمة نال رضى الله وقبول الناس« (آ17-18). أجل، الأقوياء يحتملون ضعف الضعفاء (رو 15: 1)، على مستوى الإيمان، على مستوى الطعام والشراب، على مستوى الأزمنة والأوقات. الحديث في الإيمان يستند إلى من سبقه فانضمَّ إلى كنيسة المسيح. واليهوديّ الذي صار أقلِّيَّة في الجماعة لا ينسى أنَّه »من الفروع الطبيعيَّة« (رو 11: 20). فيستطيع أن يعود إلى »زيتونة المسيح« لأنَّ مكانه محفوظ على مثال الابن الضالّ. يكفي أن يعود ليكون له استقبال البنين في بيت أبيهم. والوثنيّ الذي اعتبرَ نفسه أفضل من اليهوديّ بعد أن حلَّ محلَّه، يخاف لأنَّه يمكن أن يحصل له ما حصل لليهوديّ: هذا سقط فما أبقى الله عليه. والوثنيّ يسقط فلا يبقي الله عليه (آ21-22). فإذا كان الله يجازي كلَّ واحد بحسب أعماله (رو 2: 6)، فليتبرَّر كلُّ إنسان. إنَّه يجازى »بالحياة الأبديَّة لمن يواظبون على العمل الصالح ويسعون إلى المجد والكرامة« (آ7). من؟ »الذي يعمل الخير من اليهود أوَّلاً ثمَّ من اليونانيّين (آ10). وهو يجازي »بالغضب والسخط على المتمرِّدين الذين يرفضون الحقَّ وينقادون للباطل« (آ8)، كلَّ إنسان يعمل الشرَّ من اليهود أوَّلاً ثمَّ من اليونانيّين« (آ9). أيُّها الكاهن، تعلَّم من الرسول في عملك الرعائيّ. اهتمَّ بالضعفاء، داوِ الخطأة لأنَّ المسيح جاء من أجلهم. احمل البشارة إلى المساكين لأنَّهم أوَّل من يكون لهم ملكوت السماء. الخاتمة حاولنا أن نقرأ الرسالة إلى رومة بما فيها من تعليم عقيديّ ونظرة أخلاقيَّة، وتعرَّفنا إلى شخص بولس الذي افتخر أنَّه »عبد« ليسوع المسيح، التصق به مدى الحياة، بل بعد هذه الحياة فقال: »وإن متُّ فذلك ربحٌ لي« (فل 1: 22). وعرف بولس رعيَّته وكشف الشرور التي فيها وحاول أن يقتلع الزؤان من حقل الربّ على أساس كلام الكتاب: »يزول الشرّ من بينكم« (تث 21: 21). من أجل هذا، قام بولس بمهمَّة الوعظ والإنذار والتوبيخ مشدِّدًا على المحبَّة الأخويَّة التي يجب أن تسود داخل الجماعة وخارجها، بين الإخوة والأخوات كما مع الذين في الخارج وإن كانوا من المضطهدين. قال الرسول: »لا يكن عليكم لأحد دين إلاَّ محبَّة بعضكم بعض. فمن أحبَّ قريبه أتمَّ العمل بالشريعة« (رو 13: 8). تلك هي صورة بولس ونحن الكهنة نحاول أن نقتدي به كما هو اقتدى بالمسيح (1 كو 11: 1). |
||||
29 - 03 - 2024, 11:39 AM | رقم المشاركة : ( 155875 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
من بولس عبد يسوع المسيح عرف العالمُ اليونانيّ والرومانيّ عددًا كبيرًا من الرسائل تتوزَّع بين الرسائل الرسميَّة أو الخاصَّة، والرسائل التي تحمل مقالاً خاصٌّا في اللاهوت أو في الفلسفة أو في أمور أخرى. وبولس الرسول اختار هذا الفنَّ الأدبيّ، الفنَّ الرسائليّ، لكي يوصلَ أفكاره من بعيد، ويواصل تعليمه إلى الجماعات التي أسَّسها، في آسية الصغرى أو اليونان وصولاً إلى ما يُدعى اليوم أوروبّا الشرقيَّة. والرسالة إلى رومة جاءت في خطِّ الرسائل التي وصلت إلينا سواء من الفيلسوف اليونانيّ أفلاطون (427-348/347 ق.م.) أو من المفكِّر اللاتينيّ سينيكا (4 ق.م.- 65 ب.م.) ابن قرطبة في إسبانيا، أو من خطيب رومة الشهير شيشرون (106-43ق.م.) الذي احتفظ لنا سكرتيره تيرون (كان عبدًا وحرَّره) برسائله وسائر مؤلَّفاته فوصلت إلينا كاملة. كاتب الرسالة إلى رومة اسمه ترتيوس (رو 16: 2) الذي يسلِّم هو أيضًا على جماعة رومة. وفيبة، الشمّاسة في كنخريَّة (16: 1أ) حملت هذه الرسالة، فقال بولس: »تقبَّلوها في الربِّ قبولاً يليق بالإخوة القدّيسين (آ1ب). الرسالة إلى رومة رسالة طويلة، بل أطول الرسائل البولسيَّة، ولهذا وُضعت في رأس الرسائل، كما كانت العادة في ذلك الزمان. مع أنَّها كتبت سنة 67-68 وأرسلت من كورنتُوس. رسالة تحمل العقيدة الأساسيَّة: التبرير بالإيمان، فتقدِّم نظرة إلى كنيسة كورنتوس تنطبق على كنيسة رومة. فيها نتعرَّف إلى بولس الرسول فيكتشف »المسؤول« هويَّته بحسب الربِّ يسوع، لا بحسب البشر. ونتعرَّف إلى »نبيّ« في العهد الجديد، يكشف الخطيئة في المحيط الذي فيه ولا يموّه على نفسه وعلى الجماعة المسيحيَّة على مثال »الفرّيسيّين المرائين« الذين يتوقَّفون عند الظاهر وينسون الباطن (مت 23: 27). ونتعرَّف أخيرًا إلى »معلِّم« يدعو المؤمنين في مختلف حالاتهم إلى المحبَّة واحترام الآخرين ولاسيَّما الضعفاء. |
||||
29 - 03 - 2024, 11:41 AM | رقم المشاركة : ( 155876 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
بولس الرسول منذ البداية عرَّفنا بولس بنفسه، كما اعتادت الرسائل القديمة أن تفعل وعرَّفنا بالجماعة التي يكتب إليها. بولس. اسم بولس في العالم اليونانيّ يرتبط بالراحة. أمّا اسمه في العالم الشرقيّ فهو شاول، اسم أوَّل ملك على القبائل العبرانيَّة (1 صم 10: 21). ترك بولس اسمه العبرانيّ حين كان في قبرص، خلال الرحلة الرسوليَّة الأولى (أع 13 : 9: فامتلأ شاول، واسمه أيضًا بولس) بسبب رنَّته اللغويَّة (من يرقص بشكل مخنَّث دƒخ±خ»خ؟د‚) . ولكنَّه لا ينسى أبدًا ذاك الاسم الذي به دعاه الربُّ على طريق دمشق: »شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟« (أع 9: 4). كما قال الربُّ لعبده وعابده: »دعوتك باسمك وجعلتك لي« (إش 43: 1). عبد. كلمة عبد في مفهومنا الحديث لا تفي بالمراد، بل هي تعطي المعنى المعاكس لما في الكتاب المقدَّس. في القاموس، هو الزنجيّ، المملوك المولود من عبد وأمة. ولكنَّ موسى هو »عبد« الله، وكذلك داود. والوزير هو عبد الملك. يعني هو صنيعة الملك، بحسب الاشتقاق السامي لفعل »ع ب د« في العبريَّة والآراميَّة والسريانيَّة. العبد، أو الوزير الأوَّل، يكون قرب الملك. يسمع نصائحه، يخدمه، يطيعه. كدتُ أقول: يلتصق به ولا يتركه مهما كانت الأمور. من هنا يقول لنا القاموس: »عبدَ الله أي وحَّده وخدمه وخضع وذلَّ وطاع له«. عبدُ الله هو »ملكه« الذي لا يريد أن يتصرَّف إلاَّ كما سيِّده يريد. ذاك هو بولس. ذاك هو الرسول. هو صنيعة الربِّ. فلو لم يتدخَّل يسوع في حياته، لكان »شاول« فرّيسيٌّا بين الفرّيسيّين العديدين، وحائكًا بين الحائكين في مدينة طرسوس (أع 18: 3: صناعة الخيام). غير أنَّ الله اختاره ليحمل اسمه إلى الأمم والملوك وبني إسرائيل (أع 9: 15). وقال الربُّ فيه: »سأريه كم يجب أن يتحمَّل من الآلام في سبيل اسمي« (آ16). »كما أرسلني أبي هكذا أنا أرسلكم« (يو 20: 21). صار بولس رسولاً بين الرسل، على مثال »المعلِّم« الإلهيّ. وسيقول عن نفسه إنَّه »وكيل« وما يُطلَب من الوكيل هو أن يكون أمينًا (1 كو 4: 2). لهذا هو يرفض أن »يدينه« أحد. بل هو لا يدين نفسه. ديّانه هو الله. والمقياس الأمانة للرسالة. ودعا بولس نفسه »السفير« الذي يعظ يسوع بلسانه (2 كو 5: 20). يعظ كلمة المصالحة (آ19) ويُبعد كلَّ خلاف من قلب الجماعة: لا مجال للعداوة والخصام والحسد (غل 5: 20-21). ارتبط بولس بيسوع ارتباطًا جعله »مغرَمًا« بذلك الذي دعاه رسولاً »مع أنّي اضطهدتُ كنيسة الله« (1 كو 15: 9). ولكنَّه عرف ضعفه في الوقت عينه، فإن كان »الإناءَ المختار« كما قيل لحنانيّا الدمشقيّ، فهو يعلن أنَّه وحاملي الرسالة »آنية من خزف تحمل هذا الكنز، ليظهر أنَّ تلك القدرة هي من الله لا منّا« (2 كو 4: 7). غير أنَّ ضعفه يدلُّ على أنَّ يسوع يعمل فيه. لهذا افتخر بهذا الضعف (2 كو 11: 30). وسمع الربُّ يقول له: »تكفيك نعمتي. في الضعف يظهر كمالُ قدرتي« (2 كو 12: 9). وفي أيِّ حال، ما أراد أن يتقوَّى بقوَّة البشر. لا بالمال ولا بالعلم ولا »بالرئاسة« ولا بالعظمة. كلُّ هذا حسبه نفاية تجاه معرفة يسوع المسيح. قال »ما كان لي من ربح، حسبته خسارة من أجل المسيح، بل أحسب كلَّ شيء خسارة من أجل الربح الأعظم، وهو معرفة يسوع المسيح ربّي. من أجله خسرتُ كلَّ شيء وحسبتُ كلَّ شيء نفاية لأربح المسيح وأكون فيه« (فل 3: 7-9). بعد هذا، أتُراه يستند إلى البشر؟ كلاّ. أيطلب رسالة توصية من بطرس أو من يعقوب أو من يوحنّا الذين يُعتَبرون العمد في الكنيسة (غل 2: 9)؟ كلاّ. لهذا نسمعه يقول: »هل أنا أستعطف الناس؟ كلاّ. بل أستعطف الله، أيكون أنّي أطلب رضى الناس؟ فلو كنتُ إلى اليوم أطلب رضى الناس، لمّا كنتُ عبدًا للمسيح!« (غل 1: 10). أكبر شرف له أن يكون »عبدًا« للمسيح، لا عبدًا للناس وما يمكن أن يعطونه من مال أو اعتبار. أكبر شرف له أنَّه رفض تعليم البشر واستند إلى »وحي يسوع المسيح« (آ12). أكبر شرف له أنَّه ترك حكمة العالم وأخذ بحكمة الصليب. »ما أردتُ أن أعرف بينكم سوى يسوع المسيح ويسوع المسيح مصلوبًا« (1 كو 2: 2). دعاه الله واختاره. ويعرِّفنا بولس بنفسه في خطِّ ما قال يسوع لتلاميذه: »ما اخترتموني أنتم، بل أنا اخترتُكم وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بالثمر، ويدوم ثمركم« (يو 15: 116). الربُّ دعا بولس كما دعا »الأنبياء«. كما دعا عاموس العائش في جنوب البلاد، وأرسله إلى الشمال، إلى معبد الملك في بيت إيل، قرب السامرة. هو ما أعدَّ نفسه، ولو فعل لكان لبس لباس الأنبياء أو صار »ابن نبي« مثل إليشع بالنسبة إلى إيليّا (1 مل 19: 19ي). تحدَّث عن نفسه قال: »أنا راعي غنم وقاطف جمَّيز. أخذني الربُّ من وراء الغنم وقال لي: إذهب تنبَّأ لشعبي إسرائيل« (عا 7: 14-15). كما أخذ الربُّ عاموس أخذ »شاول«، وإرميا قال له الربّ: »قبل أن أصوِّرك في البطن أخذتُك، وقبل أن تخرج من الرحم كرَّستك (قدَّستك، جعلتك لي) وجعلتُك نبيٌّا للأمم« (إر 1: 5). أراد أن يتهرَّب: »أنا لا أعرف أن أتكلَّم لأنّي صغير« (آ6). رفض الربُّ مثلَ هذا العذر. »كلُّ ما آمرك به تقوله... لأنّي في فمك أضع كلامي« (آ7-8). وبولس أيضًا اختاره الله وهو في حشا أمِّه. قال عن نفسه في الرسالة إلى غلاطية: »ولكنَّ الله بنعمته اختارني وأنا في بطن أمّي، فدعاني إلى خدمته. وعندما شاء أن يُعلن ابنَه فيَّ لأبشِّر به بين الأمم، ما استشرتُ بشرًا... بل ذهبتُ على الفور إلى بلاد العرب (حوران في سورية الجنوبيَّة، ومناطق واقعة شرقيّ نهر الأردنّ) ومنها عدتُ إلى دمشق« (غل 1: 15-17). وهناك »سارع إلى التبشير في المجامع بأنَّ يسوعَ هو ابنُ الله« (أع 9: 20). أيُّها الكاهن، اعرف نفسك! وليكن بولس مرآة لك فتعرف كرامتك. وتعرف بمن آمنت (2 تم 1: 12): هو قادر أن يحفظ وديعتي »إلى ذلك اليوم«. |
||||
29 - 03 - 2024, 11:42 AM | رقم المشاركة : ( 155877 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
أحبّاء الله في رومة بولس مدعوّ، وجماعة رومة هم »مدعوُّون ليكونوا قدّيسين« (رو 1: 7). فالمؤمنون كلُّهم مدعوُّون إلى القداسة، التي بدونها لا نستطيع أن نرضي ربَّنا. بدأ بولس فهنَّأ كنيسة رومة »لأنَّ إيمانكم ذاع خبرُه في العالمِ كلِّه« (رو 1: 8). فرومة عاصمة الإمبراطوريَّة. إليها وصل الإنجيل كما وصل إلى أنطاكية والإسكندريَّة قبل أن يصل إليها الرسل. ومنها يستطيع الإنجيل أن ينطلق، بل إنَّ الرسول أراد أن ينطلق منها لكي يحمل البشارة إلى إسبانية (رو 15: 24). فكما انطلق شاول (بولس) مع برنابا من أنطاكية مزوَّدًا ببركة الجماعة (أع 13: 3)، كذلك استعدَّ لأن يجعل من رومة مركز الانطلاق الجديد بحيث تصل البشارة »إلى أقاصي الأرض« (أع 1: 8). وأقاصي الأرض هي جبل طارق أو »عمود هرقل« الذي يُسند الأرض في زاوية من زواياها. واشتاق بولس لكي يرى هذه الكنيسة (رو 1: 11أ) وفيها من فيها من المسيحيّين المعروفين: بريسكيلا وأكيلا، أبينيتوس الحبيب، مريم، أندرونيكوس ويونيّا... (رو 16: 3ي). كما اشتاق أن يشارك هذه الجماعة في إيمانها (آ11ب)، وفي ما نالته من مواهب سوف يذكرها فيما بعد: موهبة النبوءة، موهبة الخدمة، موهبة التعليم، موهبة الوعظ، موهبة العطاء، موهبة الرئاسة، موهبة الرحمة (رو 12: 6-8). يبقى عليها أن تنسِّق هذه المواهب بحيث يعرف الجميع أنَّ النبع هو واحد: الروح القدس (1 كو 12: 5)، وأنَّ كلَّ عمل إنَّما هو من أجل بناء الجماعة (1 كو 14: 26)، لا من أجل بناء شخصنا في أنانيَّة قاتلة (آ4). وفي النهاية، العامل الحقيقيّ لا يمكن أن يكون الإنسان بحيث يفتخر بما نال من مواهب (1 كو 1: 23). بل »الله الذي يعمل كلَّ شيء في الجميع« (1 كو 12: 6). ونلاحظ تواضع الرسول تجاه تلك الجماعة التي ارتبطت ببطرس بحسب التقليد المسيحيّ، والتي منها أرسلت رسالة بطرس الأولى. »كنيسة بابل (هي ترمز إلى رومة، عاصمة الإمبراطوريَّة، رؤ 17: 5)، وهي مثلكم مختارة من الله، تسلِّم عليكم« (1 بط 5: 13). ما قال الرسول: »جئتُ لكي أشجِّعكم، لكي أقوِّيكم« بل »ليشجِّع بعضنا بعضًا... بالإيمان المشترك بيني وبينكم« (رو 1: 12). حين كتب بولس إلى كنيسة تسالونيكي قال لهم: »أرسلنا تيموتاوس... ليشجِّعكم ويقوّي إيمانكم لئلاّ يتزعزع أحدٌ منكم في هذه الشدائد« (1 تس 3: 2-3). أمّا هنا، فبولس يطلب التشجيع من أجل الرسالة الجديدة التي يتطلَّع إليها، ومن أجل الصعوبات التي قد تعترضه حين الذهاب إلى اليهوديَّة وأورشليم (رو 15: 25). كما يطلب الصلاة: »فأناشدكم، أيُّها الإخوة، باسم ربِّنا يسوع المسيح وبمحبَّة الروح، أن تجاهدوا معي برفع صلواتكم إلى الله، من أجلي، لينقذني من أيدي الخارجين على الإيمان في اليهوديَّة، ويجعل خدمتي مقبولة عند الإخوة القدّيسين« (آ30-31)، أي الإخوة الذين في أورشليم. أجل، بولس ضعيف وهو يطلب معونة من المؤمنين، الصلاة وربَّما أكثر من الصلاة. فهل تلبّي الجماعة طلبه؟ وفي أيِّ حال، سوف تبدأ الصعوبات بالنسبة إلى بولس في أورشليم، فيصل إلى رومة »كسجين المسيح« (غل 4: 1: السجين في الربّ). فتأتي الجماعة وتستقبله في »ساحة مدينة أبيّوس والحوانيت الثلاثة« (أع 28: 15أ). ويقول لنا لوقا، صاحب سفر الأعمال: »فلمّا رآهم بولس شكر الله وتشجَّع« (آ15ب). فرح بولس بجماعة رومة وهنّأها، ولكنَّه مارس معها »موهبة النبوءة«. فالنبيّ هو الذي يدخل في سرِّ الله ويكشفه للمؤمنين. والنبيّ لا يخاف أن يقول الحقيقة ولو كلَّفه السجن والعذاب والموت. وبولس جاء في خطِّ الأنبياء فندَّدوا بخطايا الشعب الذين استندوا إلى »الهيكل« (إر 7: 4). »فخدعوا أنفسهم، وما أصلحوا طرقهم وأعمالهم، ولا قضوا بالعدل بين الواحد والآخر، بل جاروا على الغريب واليتيم والأرملة، وسفكوا الدم الزكي« (آ5-6). وخطايا مدينة رومة كبيرة سواء لدى الوثنيّين أو لدى اليهود. فالوثنيّون غاصوا في عبادة الأوثان، وما اكتفوا »بصور على شاكلة الإنسان الفاني« بل تطلَّعوا أيضًا إلى »الطيور والدواب والزحّافات« (رو 1: 23). وبسبب هذا الضلال تنكَّروا لله، فما اكتشفوا »صفاته الخفيَّة، أي قدرته الأزليَّة وألوهيَّته« (آ20). هم »ما مجَّدوا الله ولا شكروه، بل زاغت عقولهم« (آ21). والنتيجة: عيش الزنى بأشكاله: »فاستبدلت نساؤهم بالوصال الطبيعيّ الوصال غير الطبيعيّ. وكذلك ترك الرجال الوصال الطبيعيّ للنساء والتهبَ بعضُهم شهوة لبعض، وفعل الرجال الفحشاء بالرجال ونالوا في أنفسهم الجزاء العادل لضلالهم« (آ26-27). صورة قاتمة عن جماعة رومة. استوحاها الرسول ممّا يرى في كورنتوس من زنى وفجور، بحيث اخترع الكتّاب من اسم المدينة فعل »كرنتس« ليصوِّر هذه الحالة التي قرأناها في بداية الرسالة إلى رومة. أتُرى المؤمنون في رومة لم يتركوا بعدُ العادات الوثنيَّة، مثل إخوتهم في كورنتوس الذين يعيِّدون مع الوثنيّين في ظلِّ معابد الآلهة ويأكلون اللحوم المكرَّسة لهذه الآلهة الكاذبة؟ (1 كو 10: 14-22). ولمّا رسم بولس الحالة التي وصل إليها الوثنيّون، ظنَّ الهيود أنَّهم أفضل منهم ولكنَّهم أخطأوا. فإذا كان الوثنيّون »بلا عذر« (رو 1: 20) لأنَّهم عرفوا الله ولكنَّهم رفضوه (آ28). »وامتلأوا بأنواع الإثم والشرِّ والطمع والفساد« (آ29)، فاليهود ليسوا أفضل منهم. قال الرسول: »لذلك لا عُذرَ لك أيٌّا كنتَ، يا من يدين الآخرين ويعمل أعمالهم« (رو 2: 1). فهذا »اليهودي« الذي يمثِّل اليهود في كنيسة رومة، يشبه الفرّيسيّ الذي أتى يصلّي في الهيكل: »ما أنا مثل سائر الناس الطامعين الظالمين الزناة« (لو 18: 11). حكمَ هذا الفرّيسيّ بشكل خاصّ على »هذا العشّار« الذي يجبي الضرائب فيظلم الفقير ويبني الثروات الطائلة بعد أن يعطي الدولة الحاكمة حقَّها. واليهود، في زمن بيلاطس، حكموا على الوثنيّين. فأحدرهم الرسول من عليائهم: هم ليسوا أفضل من الوثنيّين. »دينونة الله« (رو 2: 2) تصيب الوثنيّين وتصيب اليهود أيضًا. »وأنت، يا من يدين الذين يعملونها ويفعل مثلهم، أتظنُّ أنَّك تنجو من دينونة الله؟ أم أنَّك تستهين بعظيم رأفته وصبره واحتماله، غير عارف أنَّ الله يريد أن يقودك إلى التوبة؟« (آ3-4). أيُّها الكاهن، اعرف رعيَّتك! شجِّع حين يجب التشجيع، ونبِّه حين يجب التنبيه. في وقته وفي غير وقته. ولا تخف أن تمارس رسالتك النبويَّة لأنَّه يأتي وقت يرفضون التعليم الصحيح »فيتبعون معلِّمين يكلِّمونهم بما يُطرب آذانهم« (2 تم 4: 3). |
||||
29 - 03 - 2024, 11:54 AM | رقم المشاركة : ( 155878 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
وبِّخْ وأنذرْ وعظْ إلى مثل هذا العمل دعا بولس تلميذه تيموتاوس: »أناشدك أمام الله والمسيح يسوع الذي سيدين الأحياء والأموات عند ظهوره ومجيء ملكوته، أن تبشِّر بكلام الله وتلحَّ في إعلانه في وقته وفي غير وقته، وأن توبِّخَ وتُنذر وتعظ صابرًا كلَّ الصبر في التعليم« (2 تم 4: 1-2). فإن هو دعا تلميذه، فهو سوف يقوم به في كورنتوس أوَّلاً، وفي رومة ثانيًا من خلال هذه الرسالة التي بدأت فقدَّمت »التعليم الصحيح«. بعد لوحة قاتمة عن البشريَّة التي لا تقدر أن تعمل الأعمال الصالحة، هي دعوة إلى العالم الوثنيّ الذي لم تحفظه حكمتُه من الأصناميَّة ولا من اللاخلقيَّة. أمّا العالم اليهوديّ فلا يمكنه أن يكتفي ببرارة ظاهرة في عيون الناس، بل تُفرَض عليه الاستقامة قدَّام الله. إذًا على اليهوديّ أن يسأل نفسَه إذا كان »مختون القلب« مثل الوثنيّين الذين يعملون بالشريعة دون أن يعرفوها. الجميع هم خطأة، والجميع يحتاجون إلى الخلاص المجّانيّ ينالونه في الإيمان مثل إبراهيم. فوعدُ الله جعله أبًا لليهود وأبًا للوثنيّين، ومثالاً لجميع الذين يؤمنون بقدرة الله الخالق الذي يقدر أن يقيم الموتى. ويصوِّر الرسول في هذه الرسالة (ف 5-8) صراع الإنسان مع الخطيئة التي تحاول أن تسيطر عليه. وبفضل حبِّ الله، يسير المؤمن بحسب الروح الذي يحقِّق فيه ما لم يستطع العنصرُ البشريّ أن يفعل. وهذا الإنسان الروحيّ يختبر حرِّيَّة التعلُّق بمخطَّط الله بالرغم من آلام الحياة الحاضرة. وإذ يمتلئ رجاء، تتصوَّر فيه صورةُ الابن الذي مات وقام ودخل الآن في المجد. وهكذا يتجاوب مع حبِّ الآب الذي لم يوفِّر ابنه، فيستسلم بالمحبَّة إلى جميع الضيقات التي تولِّده الحربُ في هذه الحياة بحسب الروح: »ولكنَّنا في هذه الشدائد ننتصر كلَّ الانتصار بالذي أحبَّنا. وأنا على يقين أنَّ لا الموت ولا الحياة، ولا الملائكة ولا رؤساء الملائكة، ولا الحاضر ولا المستقبل، ولا قوى الأرض ولا قوى السماء، ولا شيء في الخليقة كلِّها يقدر أن يفصلنا عن محبَّة الله التي هي في المسيح يسوع ربِّنا« (رو 8: 37-39). بعد هذا التعليم اللاهوتيّ يأتي التعليم الخلقيّ. فالرسول لا يجعل »بخطِّه« أخلاقيّات سطحيَّة فحسب، فيتوقَّف عند بعض الرذائل والخطايا وكأنَّه يُسرُّ بالكلام عنها. إمّا لضعف في العقيدة، وإمّا لسهولة بها يكرز الكاهن فلا يجُرُّ نفسه على التأمُّل في كلام الله والدخول في مكنوناته. بعد هذه النظرة إلى الإنسان الخاطئ والذي خلَّصه يسوع بموته وآلامه وقيامته، يبدأ التوبيخ والإنذار، ولاسيَّما على مستوى المحبَّة الأخويَّة. هنا يحملنا الرسول إلى القسم الثاني من الرسالة إلى أهل رومة، وبدايتها: »أناشدكم أيُّها الإخوة« (رو 12: 1). أوَّل تنبيه يكون على المحبَّة بين الإخوة »مفضِّلين بعضكم على بعض في الكرامة«، ثمَّ محبَّة الأعداء على مثال ما نقرأ في عظة الجبل (مت 5-7): »باركوا مضطهديكم، باركوا ولا تلعنوا« (رو 12: 14). فالمؤمنون يعيشون وسط الضيقات والاضطهادات، فهل يردُّون على الشرِّ بالشرّ؟ كلاّ. بل يتركون الأمر لله، ولا يسمحون للشرِّ أن يتغلَّب عليهم (آ26)، ولا للحقد أن يسيطر. أمّا المسألة الأساسيَّة التي جعلت الخلاف داخل جماعة رومة، فهو التعامل بين الآتين من العالم الوثنيّ والآتين من العالم اليهوديّ. هؤلاء كانوا الأكثريَّة في بداية كنيسة رومة، ثمَّ أخذ الوثنيّون »يطعَّمون« (رو 11: 18) شيئًا فشيئًا في الأصل. ولكن سنة 49، أمر الإمبراطور كلود (10-54ب.م.) جميع اليهود بأن يتركوا رومة بسبب الخلاف فيما بينهم حول »خرستوس« أو: المسيح. منهم من انتقل إلى المسيحيَّة ومنهم من لبث يهوديٌّا. غير أنَّ الإمبراطور ما فرَّق بين الاثنين. عندئذٍ صار العنصر اليهوديّ في الكنيسة أقلِّيَّة بالنسبة إلى العنصر الوثنيّ. فقال: »قُطعتْ تلك الفروع (الآتية من العالم اليهوديّ) حتّى أطعَّم أنا« (آ19)، أنا الآتي من العالم الوثنيّ. وجاء الصراع بين الأقوياء الذين هم الأكثريَّة وبين اليهود الذين هم الأقلِّيَّة. بين العائشين في حرِّيَّة المسيح، فلا يهتمُّون للطعام ولا للشراب، وبين المحافظين على الشريعة فبدوا »ضعاف الإيمان« (رو 14: 1) لأنَّهم لم يتجرَّدوا عن كلِّ شيء ليعرفوا أنَّ الخلاص بيسوع المسيح لا يحتاج إلى الختان ولا إلى الامتناع عن بعض الأطعمة. فاليهوديّ يأتي إلى يسوع من خلال الحالة التي هو فيها. والوثنيّ يأتي إلى يسوع من عالمه الذي لا يعرف الشرائع اليهوديَّة ولا فرائضها. هو لا يحتاج الختان لأنَّه لا يزيده شيئًا. وهكذا قسم الرسول الجماعة قسمين: »فمن الناس من يرى أن يأكل من كلِّ شيء« (آ2أ). هؤلاء هم المسيحيّون الآتون من العالم الوثنيّ. »ومنهم من هو ضعيف الإيمان فلا يأكل إلاَّ البقول« (آ2ب). كيف يكون التصرُّف؟ في المحبَّة. صاحب الحرِّيَّة لا يحتقر الآخرين فيقول: هم ما وصلوا بعد إلى ملء الحياة في المسيح. وصاحب الشريعة لا يدين أولئك الذين تحرَّروا من عادات صارت »بشريَّة« في نظر الحياة الجديدة في المسيح. عن الأوَّلين قال الرسول: »فعلى من يأكل من كلِّ شيء أن لا يحتقر من لا يأكل مثله« (آ3أ). وعن الآخرين قال: »وعلى من لا يأكل من كلِّ شيء أن لا يدين من يأكل كلَّ شيء« (آ3ب). إذا كان الله يقبل هؤلاء وأولئك، »فمن أنت لتدين خادم غيرك؟« (آ4)، خادم الربّ. هذا المناخ يجعلنا قريبين من مسألة عرفتها كنيسة كورنتوس: كلُّ اللحوم الآتية من ذبائح الأوثان. مع أنَّ الوثن ليس بشيء، ومع أنَّ اللحوم المذبوحة في عيد من أعياد المدينة لا تفترق عن اللحوم لدى قصّاب في المدينة، إلاَّ أنَّ المؤمن العائش في المحبَّة يمتنع عن أكل مثل هذا اللحم. وأعطى بولس السبب: »فإذا كان بعضُ الطعام سببًا لسقوط أخي، فلن آكل اللحم أبدًا لئلاّ أكون سببًا لسقوط أخي« (1 كو 8: 13). وقال بولس في الرسالة إلى أهل رومة: »فإذا أسأتَ إلى أخيك بما تأكله، فأنت لا تكون سالكًا في طريق المحبَّة. فلا تجعل من طعامك سببًا لهلاك من مات المسيح من أجله« (رو 14: 15). الطعام خيرٌ فلماذا يصبح سببًا للشرِّ وللخطيئة بحيث يتشكَّك أخي. الطعام شيء عابر فلماذا نعتبره جوهريٌّا في علاقتنا مع الإخوة والأخوات. فقال الرسول: »فما ملكوت الله طعام وشراب، بل برٌّ وسلام وفرح في الروح القدس. فمن خدم المسيح مثلَ هذه الخدمة نال رضى الله وقبول الناس« (آ17-18). أجل، الأقوياء يحتملون ضعف الضعفاء (رو 15: 1)، على مستوى الإيمان، على مستوى الطعام والشراب، على مستوى الأزمنة والأوقات. الحديث في الإيمان يستند إلى من سبقه فانضمَّ إلى كنيسة المسيح. واليهوديّ الذي صار أقلِّيَّة في الجماعة لا ينسى أنَّه »من الفروع الطبيعيَّة« (رو 11: 20). فيستطيع أن يعود إلى »زيتونة المسيح« لأنَّ مكانه محفوظ على مثال الابن الضالّ. يكفي أن يعود ليكون له استقبال البنين في بيت أبيهم. والوثنيّ الذي اعتبرَ نفسه أفضل من اليهوديّ بعد أن حلَّ محلَّه، يخاف لأنَّه يمكن أن يحصل له ما حصل لليهوديّ: هذا سقط فما أبقى الله عليه. والوثنيّ يسقط فلا يبقي الله عليه (آ21-22). فإذا كان الله يجازي كلَّ واحد بحسب أعماله (رو 2: 6)، فليتبرَّر كلُّ إنسان. إنَّه يجازى »بالحياة الأبديَّة لمن يواظبون على العمل الصالح ويسعون إلى المجد والكرامة« (آ7). من؟ »الذي يعمل الخير من اليهود أوَّلاً ثمَّ من اليونانيّين (آ10). وهو يجازي »بالغضب والسخط على المتمرِّدين الذين يرفضون الحقَّ وينقادون للباطل« (آ8)، كلَّ إنسان يعمل الشرَّ من اليهود أوَّلاً ثمَّ من اليونانيّين« (آ9). أيُّها الكاهن، تعلَّم من الرسول في عملك الرعائيّ. اهتمَّ بالضعفاء، داوِ الخطأة لأنَّ المسيح جاء من أجلهم. احمل البشارة إلى المساكين لأنَّهم أوَّل من يكون لهم ملكوت السماء. الخاتمة حاولنا أن نقرأ الرسالة إلى رومة بما فيها من تعليم عقيديّ ونظرة أخلاقيَّة، وتعرَّفنا إلى شخص بولس الذي افتخر أنَّه »عبد« ليسوع المسيح، التصق به مدى الحياة، بل بعد هذه الحياة فقال: »وإن متُّ فذلك ربحٌ لي« (فل 1: 22). وعرف بولس رعيَّته وكشف الشرور التي فيها وحاول أن يقتلع الزؤان من حقل الربّ على أساس كلام الكتاب: »يزول الشرّ من بينكم« (تث 21: 21). من أجل هذا، قام بولس بمهمَّة الوعظ والإنذار والتوبيخ مشدِّدًا على المحبَّة الأخويَّة التي يجب أن تسود داخل الجماعة وخارجها، بين الإخوة والأخوات كما مع الذين في الخارج وإن كانوا من المضطهدين. قال الرسول: »لا يكن عليكم لأحد دين إلاَّ محبَّة بعضكم بعض. فمن أحبَّ قريبه أتمَّ العمل بالشريعة« (رو 13: 8). تلك هي صورة بولس ونحن الكهنة نحاول أن نقتدي به كما هو اقتدى بالمسيح (1 كو 11: 1). |
||||
29 - 03 - 2024, 11:58 AM | رقم المشاركة : ( 155879 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
محبَّة المسيح تلفُّنا حين أراد بولس الرسول أن يحدِّث أهل كورنتوس عن المصالحة مع الله، قال لهم: »محبّة المسيح تلفُّنا« (2 كور 5: 14)، تحيط بنا، تحثُّنا، تدفعنا. وهكذا صرنا أسرى لها. ولماذا هذا التأثير فينا؟ لأنَّنا أدركنا أنَّ واحدًا مات عنٌّا جميعًا لأنَّه أحبَّنا. وهو يدعونا إلى أن نشاركه في موته من أجل الحياة. وهكذا لا نحيا بعدُ لأنفسنا في أنانيَّة قاتلة، بل »للذي مات وقام« (آ15) من لأجلنا. المسيح هو المرآة التي نرى فيها محبَّة الله لنا. وهو الطريق التي نسير فيها فنعرف كيف تكون المحبَّة بين الأخوات والإخوة ساعة لا يخاف الواحد أن يحسبَ الآخرين أفضل منه (فل 2: 4)، لأنَّ فكره على فكر المسيح (آ15). من المسيح نتعلَّم أنَّ الله الذي هو محبَّة، يحبُّنا كما الوالدون يحبُّون أولادهم. ومحبَّته تزرع المحبَّة فينا فتكون الثمرة محبَّة للقريب في ظروف الحياة اليوميَّة. فالمحبَّة في النهاية، عطاء من أجل الأخوَّة وتضحية. في مسيرتنا هذه يكون بولس الرسول رفيقنا. 1- محبَّة الله اكتشف بولس محبَّة الله في قلب حياته، لا انطلاقًا من فهمٍ قرأه في العهد القديم، أو في الآداب اليونانيَّة التي عرفها كما يعرفها كلُّ جامعيّ في طرسوس، المدينة التي وُلد فيها. كان يضطهد »كنيسة« الله بلا رحمة، ويحاول تدميرها« (غل 1: 13). ومع ذلك يقول: الله أحبَّني. »بنعمته اختارني وأنا في بطن أمّي« (آ15). لو كنّا في إطار العهد الأوَّل، لقلنا: يعاملنا الله كما عاملناه. نسيناه فنسانا. ابتعدنا عنه فابتعد عنّا. هي صورة بشريَّة ناقصة، فيها يقوم الله بتربية أبنائه، فيعاقبهم ويحرمهم بانتظار أن يعود إليهم. »كيف أهجركم؟ كيف أتخلّى عنكم؟ كيف أعاملكم؟« (هو 11: 8) أمثل مدن عرفت الخراب والدمار؟ ويواصل الربُّ كلامه: »قلبي يضطرب في صدري، وكلُّ مراحمي تتَّقد«. الله أب بقلب أم يقول لأبنائه: »جذبتكم بحبال الرحمة وروابط المحبَّة، وكنتُ لكم كأبٍ يرفع طفلاً على ذراعه، ويحنو عليه ويطعمه« (آ4). بمثل هذه العاطفة، عامل الربُّ بولس، أو شاول، »ذاك الذي كان مضطهدًا وشتّامًا« (1تم 1: 13). ما عاقبه، ما لاحقه وإن هو لاحق المؤمنين، لا في أورشليم فقط، بل في دمشق ولو أنَّه وصل إليها »بالغيرة الشديدة على تقاليد آبائي« (غل 1: 14). قال: »رحمني لأنّي كنت غير مؤمن، لا أعرف ما أفعل، ففاضت عليَّ نعمةُ ربِّنا وما فيها من إيمان ومحبَّة في المسيح يسوع« (1تم 1: 13-14). وما اختبره بولس في حياته، اختبره المؤمنون في أفسس. كانوا غرباء، يقيمون خارج البيت ولا يحقُّ لهم أن يشاركوا سكّانه في حياتهم. كانوا ضيوفًا يُسمَح لهم بمرور عابر (رج أف 1: 19). أمّا الآن، فما عادوا غرباء ولا ضيوفًا. كانوا بعيدين، بل مُبعَدين لأنَّهم لم ينالوا الختان، تلك العلامة الخارجيَّة التي تدلُّ على انتماء إلى الله وإلى شعبه. ما عادوا بعيدين، صاروا قريبين بعد أن نالوا البشارة (آ17). لا عهد يجمعهم مع الله، لأنَّهم لم يعرفوه ذاك الإله الواحد والذي أرسل ابنه إلينا. فقال في يوحنّا: »هكذا أحبَّ الله العالم، فأرسل ابنه الوحيد، لئلاّ يهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديَّة« (يو 3: 16). وحدَّث بولس أهل أفسس عن حبِّ الله الكبير، عن رحمته الواسعة (أف 2: 4). من أين انتشلنا؟ قال: »كنّا نحن كلُّنا نعيش في شهوات الجسد، تابعين رغباته وأهواءه. ولذلك كنّا بطبيعتنا أبناء الغضب« (آ2-3). والآن صرنا أبناء الحياة »بعد أن كنّا أمواتًا بزلاّتنا« (آ4)، صرنا أبناء الخلاص (آ8)، ومرافقين يسوع في موته، في قيامته وفي صعوده وجلوسه عن يمين الآب (آ6). كثرت الخطيئة، لا شكّ. ولكن فاضت النعمة (روم 5: 20). ويتحدَّث الرسول في الرسالة عينها عن »نعمة الله التي تفيض علينا، والعطيَّة الموهوبة بإنسان واحد هو يسوع المسيح« (آ15). لا شكَّ في أنَّ بولس أبرز الخطيئة في أبشع مظاهرها، ولاسيَّما لدى الوثنيّين، فقال: »غضبُ الله معلن من السماء على كفر الناس وشرِّهم« (روم 1: 18). ولكن ما كان ليقدِّم هذه الصورةَ البشعة، لو لم يكن مقيمًا في محبَّة الله. خرج الإنسان من هذا المستنقع بعد أن أمسكه الله بيده، فنظر إلى الوراء ليكتشف عمل الله من أجله، وليأخذ العبرة على ما قال الرسول: كيف ترجعون؟ فخبرة الشعب العبرانيّ حاضرة في ذهن بولس: تطلَّعوا دومًا إلى الوراء، إلى مصر وعبوديَّتها، إلى »قدور اللحم التي تشبعهم« (خر 16: 3)، إلى »القثاء والبطّيخ والكراث والبصل والثوم« (عد 1: 5). ما عاد يهمُّه المنّ، ذاك الطعام الذي منَّ به الله عليهم. والمؤمنون في زمن بولس، يمكن أن يعودوا إلى شهواتهم، إلى ما في العالم »من شهوة الجسد، وشهوة العين، ومجد الحياة«، كما يقول يوحنّا في رسالته الأولى (2: 16). وهكذا ينسون محبَّة الله التي أفيضت في قلوبهم (روم 5: 5). تلك المحبَّة التي برهن الله عنها حين أرسل ابنه، حين »المسيح مات من أجلنا ونحن خاطئون« (آ8). فيا لعمق هذه المحبَّة التي لا تنظر إلى أعمال الإنسان، بل تعبِّر عن قلب الله. قال في النبيّ هوشع: »أنا إله، لا إنسان« (هو 11: 9). أنا هو القدُّوس، البعيد عن الإنسان، اللامحدود بالنسبة إلى المحدود. قال بفم أشعيا: »بمن تشبِّهونني وتعادلونني؟ بمن تمثِّلونني فنتشابه؟« (أش 46: 5). وتابع: »أنا الله ولا إله غيري، أنا الله ولا إله مثلي« (آ9). ولماذا يتميَّز الله عن كلِّ قوى الأرض والسماء؟ لأنَه محبَّة كما دعاه يوحنّا (1يو 4: 8، 14). وبما أنَّه المحبَّة، لا تفيض منه سوى المحبَّة. لهذا خَلق، لهذا خَلَّص، لهذا كوَّن في الإنسان قلبًا يحبُّ بحيث نصبح شبيهين به، على ما قال الرسول: »اقتدوا بالله كأبناء أحبّاء، وسيروا في المحبَّة سيرة المسيح الذي أحبَّنا وضحّى بنفسه من أجلنا« (أف 5: 1-2). 2- محبَّة الإخوة بعد أن كلَّم الرسول مؤمني رومة عن هذه المحبَّة التي أفاضها الله في القلوب، دعاهم إلى محبَّة القريب: »لا يكن عليكم لأحد دين إلاَّ محبَّة بعضكم لبعض« (رو 13: 8). دين يُفرَض عليكم. ولا دين غير ذلك. والله يحاسبكم، لأنَّ الإنسان لا يقدِّر. فالجريح في الطريق، لم يساعده الكاهن ولا اللاويّ. وكان الضمير »مرتاحًا« لديهما أقلَّه في الخارج. وحده السامريّ اعتبر أنَّه دفع »الدين«. بل أقرض الله، على ما يقول سفر الأمثال: »من يتحنَّن على الفقير يُحسن إلى الربّ، والربُّ على إحسانه يكافئه« (أم 19: 17). ويشوع بن سيراخ: »من يقرض قريبه مالاً، يكون رؤوفًا به، ومن يمدُّه بالعون، يحفظ الوصايا. أقرض قريبك في وقت حاجته، وأوفه ما له عليك ولا تتأخَّر« (سي 29: 1-2). وتابع الرسول كلامه: »من أحبَّ القريب أتمَّ العمل بالشريعة«. تضمَّنت الشريعة الوصايا العشر. وكانت الفرائض والأحكام التي تبعَتْها، فوردت في سفر الخروج. ثمَّ توسَّعت فصارت 613 وصيَّة في التقليد اليهوديّ، بحيث عجز المؤمن عن معرفتها، فكيف له بممارستها. لهذا سأل أحدهم يسوع: »ما هي أعظم وصيَّة في الشريعة؟« (مت 22: 36). هو لا يستطيع أن يعمل بها كلِّها. فيا ليت الربَّ يختار له واحدة، تعفيه من الباقي. وكان جواب يسوع: »أحِبَّ الربَّ إلهك بكلِّ قلبك وبكلِّ نفسك، وبكلِّ عقلك (آ37)... أحببْ قريبك كنفسك« (آ39). هل هذا يكفي؟ نعم. »فعلى هاتين الوصيَّتين تقوم الشريعة كلُّها وتعاليم الأنبياء« (آ40). وفي الخطِّ عينه، راح الرسول: »فالوصايا التي تقول: لا تزنِ، لا تقتل، لا تسرق، لا تشتهِ، وسواها من الوصايا تتلخَّص في هذه الوصيَّة: أحِبَّ قريبك مثلما تحبُّ نفسك. فمن أحَبَّ قريبه لا يسيء إلى أحد. فالمحبَّة تمام العمل بالشريعة« (روم 13: 9-10). هنا نفهم كلام الربِّ يسوع في العظة الأولى من العظات التي أوردها في إنجيله، عظة الجبل. أورد يسوع الوصايا: لا تقتل (مت 5: 21). لا تزنِ (آ27). ولكنَّه أضاف حالاً: أمّا أنا فأقول لكم (آ22، 28، 34، 39، 44). خمس مرَّات كرَّر العبارة عينها، وكأنَّه يُجمل الوصايا جميعًا. هي غير كافية. ما جاء يسوع ليُبطلها وكأنَّها ما كانت، فهي كلام الله. بل جاء ليكمِّلها. الوصيَّة تطلب منّا شيئًا محدَّدًا، إذا قرأناها بحسب الحرف. والشريعة يمكن أن تكون عائقًا في طريق الكمال، على ما حصل للكتبة والفرّيسيّين. لهذا قال يسوع لتلاميذه: »إن لم يزد برُّكم على برِّ الكتبة والفرّيسيّين، لن تدخلوا ملكوت السماوات« (آ20). اعتبرَ البعضُ أنَّ ما قاله الرسول أمرٌ نظريّ. فالمحبَّة كلمة نجعلها في كلِّ خطاباتنا: محبَّة العالم. محبَّة الطبيعة، محبَّة الحيوان، محبَّة البشريَّة. ولكنَّها لا تؤثِّر فينا. نسمع الكلمات والكلمات، ونفرح بأقوالنا، وننسى ما يجب أن تكون عليه أفعالنا. لا. ليست هذه المحبَّة التي يطلبها بولس، بل هي عمليَّة جدٌّا. المحبَّة لا تسيء إلى القريب. فإن تعمَّدتُ الإساءة، لم أكن في المحبَّة. إن قتلتُه أو أبغضته أو سلبته، لا أكون في المحبَّة. هنا نلتقي مع القدّيس يوحنّا: »يحبُّ بعضنا بعضًا، ولا نكون مثل قايين، الذي كان من الشرِّير فقتل أخاه« (1يو 3: 11-12). وراح القدّيس أوغسطين يقول: »أحببْ وافعل ما تشاء«. من زُرعت محبَّة الله في قلبه، لا يمكن إلاَّ أن يفعل الخير. يُصبح مثل شجرة التفّاح التي لا يمكن إلاَّ أن تنتج تفّاحًا، لا شوكًا وعوسجًا. تصبح المحبَّة فينا طبيعة ثانية. مثل الأمِّ تريزا ده كلكوتا. صارت المحبَّة فيها »شبه غزيرة« لا يمكن إلاَّ أن تمارسها، ساعة الجميع يتهرَّبون ويعتبرون عملها مضيعة للوقت. بعد ذلك، هل نعود إلى الشريعة، ونقيم الحسابات: ماذا عملنا؟ ماذا يجب علينا أن نعمل؟ نغفر سبع مرَّات أم عشر مرّات. نتصرَّف إلى درجة لا تتعدّى ما يفعله الخطأة أو الوثنيّون. ونعتبر بعض المرّات أنَّنا عملنا الكثير. في نظر الإنسان، لا شكّ، لا في نظر الله. غفر بطرس سبع مرّات. هذا ما لا يعمله أحد، فقال له الربّ: تغفر »سبعين مرَّة سبع مرّات« (مت 18: 22). أحبَّ المؤمنون من يحبّونهم (لو 6: 32). مساكين! الخطأة يفعلون مثلهم. فأين هي الشهادة التي يؤدُّونها؟ وأحسن المسيحيّون في زمن لوقا إلى الذين يحسنون عليهم، على مثل المثل المعروف: أعطيك فتعطيني. أُحسن إليه بتلك الكميَّة من المال التي بها أحسنَ إليَّ. فأنا أعامله كما عاملني: رفض أن يعطيني، وأنا أرفض. امتنع عن زيارتي وأنا أمتنع. في هذا الإطار حدَّد الرسول عددًا من السمات التي تميِّز المحبَّة. تكون صادقة (رو 12: 7). تبتعد عن الكذب والرياء. إن قالت فعلت، وإلاّ شابه المؤمنُ الكتبة والفرّيسيّين الذين يقولون ولا يعملون (مت 23: 3). وتكون متبادلة، كمحبَّة الأخ لأخيه، والأخت لأختها. إذا كان الآب السماويّ أبانا جميعًا، فنحن إخوة. معًا نطلب الخبز اليوميّ. معًا نغفر بعضنا لبعض، ولا نعتبر أنَّ ما عملناه بطولة خارقة. ويبقى المثال أمامنا يسوع المسيح الذي غفر لنا من أعلى صليبه، بدءًا بالذين حكموا عليه ظلمًا وقتلوه. والمحبَّة هي خدمة. قال الرسول: »أخدموا بعضكم بعضًا بالمحبَّة« (غل 5: 13). أترى صرنا عبيدًا ننقاد للغير؟ أما كفى الذين كانوا عبيدًا في الحضارة الرومانيَّة، ما عانوه في حالتهم المذلَّة، لكي يعودوا عبيدًا؟ كلاّ. بل إنَّ مثل هذه الخدمة تجعلهم يعيشون ذروة الحرِّيَّة. أمّا الحرِّيَّة التي يخاف منها الرسول، فهي التي تعني الفلتان على مستوى الرغبات، فهي التي تكون »حجَّة لإرضاء شهوات الجسد«. وكيف يكون مثل هذا الفلتان؟ »تنهشون وتأكلون بعضكم بعضًا« (آ15) حتّى الإفناء. إذا كانت الشريعة تفيد في هذه الحالة، فهي تبقى ناقصة. وهي »كلُّها تكتمل في وصيَّة واحدة، أحبب قريبك مثلما تحبُّ نفسك« (آ14). هنا تكون أمام المؤمن طريقان: السلوك بحسب الروح، أو السلوك بحسب الشهوات البشريَّة، هذه تقاوم الروح، وتجعل الناس عبيدًا لأعمال تقع على مستوى اللحم والدم، والضعف البشريّ. هذه الأعمال هي الزنى، الدعارة، العداوة، الخصام (آ19-20)، كلُّها تعني ابتعاد المحبَّة وانغلاق على الذات في أنانيَّة تجعل الإنسان عبدًا لشهواته. أمّا طريق الروح، فأوَّل ثمر لها المحبَّة، التي تصبح شجرة كبيرة تعطي ثمار الفرح والسلام والصبر واللطف والوداعة (آ22-23). وينهي الرسول كلامه هنا: »لا نتكبَّر، لا نتحدّى، لا يحسد بعضنا بعضًا« (آ26). 3- محبَّتكم لجميع الإخوة تحدَّث بولس عن إيمان الجماعة، واعتبر أنَّ هذا الإيمان يرتبط بالمحبَّة (أف 1: 15). فالإيمان الذي يجعلنا نرى ما لا يُرى، يساعدنا على التلاقي مع الذين حولنا، بطريقة تدفعنا إلى أن نرفع آيات الشكر إلى الله (آ16). وقدَّم لنا الرسول برنامجًا كاملاً في إطار الجسد الذي نؤلِّفه. قال: »كما أنَّ لنا أعضاء كثيرة في جسد واحد، ولكلِّ عضوٍ منها عمله الخاصّ به، هكذا نحن في كثرتنا، جسدٌ واحد في المسيح. ولكنَّنا أعضاء بعضنا لبعض« (رو 2: 4-5). هناك تفاعل داخل الجسد الواحد، بحيث لا يستطيع الواحد أن يستغني عن الآخر. لا تستغني العين عن اليد، والأذن عن الرجل. كلُّ عضو له مهمَّته في الجسد، وعمله من أجل خير الجماعة كلِّها، لا من أجل خير العضو وحده. وهكذا »تهتمُّ الأعضاء كلُّها بعضها ببعض. فإذا تألَّم عضو، تألَّمت معه جميع الأعضاء. وإذا أُكرم عضو، فرحَتْ معه سائر الأعضاء« (1كور 12: 25-26). في مثل هذه الحالة، كيف يمكن أن تكون المحبَّة غائبة؟ فالحياة التي تمرُّ في عضو تصل إلى سائر الأعضاء. والروح الذي ينعش الواحد منّا، يصل إلى الكنيسة كلِّها. ولكن ما لا نجده في جسد الإنسان، تلك الصورة التي استقاها الرسول من عالم الفلاسفة اليونان، ولاسيَّما الرواقيّين، نجده في الكنيسة أي جسد المسيح. فالأعضاء في الجسد تسير بحسب الغريزة، مثل آلة دقيقة الصنع، حيث كلُّ غرض يأخذ مكانه. أمّا على مستوى الكنيسة، أو الرعيَّة، أو الدير، أو المدرسة، أو أيَّة جماعة، فكلُّ فرد حرٌّ في تصرُّفه، فيكون »الشقاق« (آ25)، وتحلُّ الأنانيَّة محلَّ التفكير بالغير والتضحية من أجل الإخوة. إذا كان الله بذل نفسه عنّا، فكيف لا نبذل نحن نفوسنا من أجل إخوتنا؟ »فما فعلنا إلاَّ ما كان يجب علينا« (لو 17: 10). كيف يمكن أن نعيش هذه المحبَّة مع الإخوة؟ بما أنَّ لكلِّ أخ موهبة خاصَّة به، يُطلَب منه أن يُنمي هذه الموهبة لكي تكون خدمته بلا عيب. كما يُفرَض عليه أن يكتشف الموهبة التي عند أخيه. وإذ يضع كلُّ واحد المحبَّة التي وُهبت له في خدمة الجميع، يكون عائشًا المحبَّة. فالوزنة التي وُهبَت لي، لم تكن يومًا لكي أخفيها في الأرض (مت 25: 26). عندئذٍ أكون »ذلك الخادم الشرّير، الكسلان«. وإذ أعرف ما عندي وما به أقدر أن أكون حاضرًا في الجماعة، وأعرف ما عند أخي من موهبة، أدخل في سرِّ الله وفي قلب الكنيسة حيث »كلُّ واحد ينال موهبة يتجلّى فيها الروح للخير العام« (1كور 12: 7). ويفصِّل بولس المواهب. لي موهبة التعليم، أعلِّم. لي موهبة الوعظ أعظُ. لي موهبة الرئاسة، أكون رئيسًا. هل الكلُّ يريد أن يكون رئيسًا؟ وعلى من يترأَّسون؟ إذا قوبلت الرئاسة بالعين، فأيُّ جسد يكون جسدنا إن كان كلُّه عينًا؟ ولم يكن فيه أذن ولا فم ولا يد ولا رجل؟ ونحسب بعض المرّات أنَّ الأعضاء التي نحسبها مهمَّة، هي الأكثر شرفًا لدى الله. هذا خطأ كبير. وفي أيِّ حال، مفهوم الإنجيل غير مفهوم العالم. في الإنجيل، الأوَّل يكون الآخر، كالراعي الذي يسير وراء خرافه ليجمعهم ويدخلهم إلى الحظيرة. والكبير يكون الأصغر. والمترئِّس يكون الخادم. ذاك ما قال يسوع لتلاميذه بعد أن غسل لهم أرجلهم: »أنتم تدعونني معلِّمًا وربٌّا، وحسنًا تفعلون لأنّي هكذا أنا. وإذا كنتُ أنا الربُّ والمعلِّم غسلت أرجلكم، فيجب عليكم أنتم أيضًا أن يغسل بعضكم أرجل بعض« (يو 13: 13-14). حين يعيَّن كاهن في الرعيَّة، يُدعى »خادم الرعيَّة«، لا رئيس الرعيَّة. ومثاله يسوع الذي جاء ليَخدم لا ليخدمه الناس. جاء ليبذل حياته عن الكثيرين، عن البشريَّة كلِّها (مر10: 45). وهو الذي قال: »ما من حبٍّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه« (يو 15: 13). وهو الذي دعا نفسه الراعي الصالح. قال: »أضحّي بحياتي في سبيل خرافي« (يو 10: 15). من أحبَّ خرافه، لا يعاملها كالأجير الذي يعمل قدر أجرته. ولا هو يهرب حين يرى الذئب آتيًا، والخطر مقبلاً، أهكذا يتبع المسيح حاملاً صليبه، سائرًا في خطاه (مر 8: 35)؟ والأسقف يوقِّع: الحقير، أي الصغير. وهو يستعدُّ لأن يقتبل المذلَّة من أجل المؤمنين الموكَّلين إلى رعايته. إن حسب نفسه أنَّه الكبير، سمع كلام العذراء مريم، تلك الخادمة الوضيعة، تُنشد: »حطَّ المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين« (لو 1: 52). ويمكن أن يسمع صوت الربِّ يقول له إن هو خان الأمانة: »أذكر من أين سقطت« (رؤ 2: 5). أمّا في التراث السريانيّ فهو ܢܝܣܝܐ الطاهر والنقيّ على مثال يسوع المسيح الذي تنشده الليتورجيّا: ܢܝܣܝܐ ܘܩܕܝܫܐ الطاهر والقدّوس الساكن في ديار النور. وهو في النهاية، الطيِّب الذكر، بسبب ما تركه بعد موته من أعمال تمجِّد الله، على مثال ما قال الرسول لتيموتاوس أسقف أفسس: »تكون خادمًا صالحًا للمسيح يسوع، متغذِّيًا بكلام الإيمان والتعليم الصحيح« (1تم 4: 6). ثمَّ »تحفظ الوصيَّة منزَّهًا عن العيب واللوم إلى يوم ظهور ربِّنا« (1تم 6: 14). وأسقف رومة، قداسة البابا، يُدعى: خادم خدّام الله. عبد عبيد الله. هذا يعني أنَّه قريب جدٌّا من الربّ. وفي المعنى الأصليّ: هو صُنعتُه. هو اختاره من بطن أمِّه ودعاه إلى خدمته، كما دعا بولس الرسول نفسه (غل 1:15). فكلُّ رسول في الجماعة، حديث العهد، ينتبه إلى نفسه، »لئلاّ تسيطر عليه الكبرياء فيلقى العقاب الذي لقيَه إبليس« (1تم 3: 6). بولس دعا نفسه »عبد يسوع المسيح« (رو 1: 1). هو الرسول والمرسل، وعمله عمل السفير الذي يكون أمينًا للسفارة التي أرسل فيها. وهو الوكيل الذي يحاول أن يعطي إخوته الطعام في حينه. ذاك هو معنى ܡܕܒܪܢܐ يُقال في الأسقف الداخل إلى الكنيسة، ولاسيَّما في زيارة قانونيَّة للرعيَّة. عرف »أن يحسن تدبير بيته، وبالتالي تدبير الكنيسة« (1تم 3: 5). ويُقال أيضًا في المجلس الذي يوجِّه مسيرة الرهبانيَّة. كلُّ وحد منهم هو أب »مدبِّر«. ويُعطى الألقاب، ويحافظ عليها حتّى بعد نهاية خدمته. فالمدبِّر يكون في موضع القيادة. فيكون مثل القائد في الجيش الرومانيّ. يسير في المقدِّمة حيث الخطر. لا في المؤخِّرة حيث يموت الجميع ليحموا حياته. وهو الذي يسوس الجماعة بحكمة آتية من عند الله. هكذا تظهر محبَّته لإخوته الذين يعملون كلُّ واحد في ديره، في رعيَّته. بهذه الطريقة يستطيع أن يقول إنَّه يعمل في قلب التدبير الخلاصيّ. هنا تبرز شخصيَّة بولس الرسول. أتى إلى تسالونيكيّ. هدَّده الخطر. أجبر على ترك المدينة، ولكنَّه أرسل إلى الجماعة هناك »تيموتاوس أخانا، والعامل مع الله في بشارة المسيح ليشجِّعكم ويقوّيكم« (1تس 3: 1). هكذا يعيش تيموتاوس المحبَّة الأخويَّة، وهكذا يدلُّ الرسول أنَّه يحمل همَّ الكنائس. قال: »ولمّا فرغ صبرنا«. ثمَّ قال في آ5: »ولهذا أرسلت، حين فرغ صبري، من يستخبر عن إيمانكم«. وتحدَّث في 2كور 11: 28 عن همِّ الكنائس، فقال: »فمن يضعف وأنا لا أضعفُ معه؟ ومن يقع في الخطيئة وأنا لا أحترق من الحزن عليه؟« (آ29). محبَّة الرسول بولس صارت مثالاً لكلِّ واحد منّا. كم تعذَّب من أجل الرسالة. قال: »عانيتُ الكدَّ والتعب والسهر الدائم والجوع والعطش والصوم الكثير والبرد والعري« (آ27). ونذكر هنا مثلين من تقاليدنا. مات القدّيس شربل ليلة الميلاد، سنة 1898. وفي الليلة عينها مات البطريرك يوحنّا الحاجّ. كيف تصرَّف الرهبان في ذلك الوضع؟ لا شكَّ في أنَّ شربل الذي كان اسمه يوسف من قرية بقاعكفرا، لا يستحقُّ كلَّ هذا الاهتمام، وهو الذي عاش شبه مجهول في محبسة على الجبل. هو اقتدى بيسوع الذي عاش في الناصرة، يعمل بيديه ويحرق قلبه بصلاة على مذبح الربّ. والقدّيس نعمة الله، أستاذ اللاهوت للرهبان، ومن تلاميذه القدّيس شربل، طلب منه أخوه أن يأتي إلى المحبسة مثله. فقد كانوا يعتبرون أنَّ المحبسة قمَّة القداسة في الدير. رفض القدّيس نعمة الله. ما أعطيَ موهبة الانزواء في المحبسة كما سوف يفعل القديس شربل، بل أعطي مهمَّة التعليم، فقام بها في اجتهاد. ويا ليته ترك لنا بعض ما علَّمه. ولكنَّ ما كتبه ما كان »بحبر على ورق« (2يو 12)، بل في القلوب والضمائر والأفكار (رج رو 2: 15). 4- إن لم تكن فيَّ المحبَّة في قلب المواهب التي منحها الله للمؤمنين في كنيسته، من صُنع معجزات ومواهب الشفاء وحسن الإدارة والتكلُّم باللغات (1كور 2: 28)، أنشد القدّيس بولس المحبَّة. واعتبر أنَّ كلَّ ما في الكنيسة لا يأخذ كامل معناه إلاّ إذا أنعشته المحبَّة. وجاء كلامه متدرِّجًا مع عبارة تكرَّرت ثلاث مرّات: »ولا محبَّة عندي« (1كور 13: 1، 2، 3). جاء المتكلِّمون بالألسنة. فقال لهم: »لو تكلَّمت بلغات الناس والملائكة، ولا محبَّة عندي، فما أنا إلاّ نحاس يطنّ وصنج يرن« (آ1). أستطيع أن أنطق بألسنة، ربَّما تبجُّحًا واستكبارًا على الآخرين. فإن لم يكن من يفسِّر، لا أتميَّز عن النحاس والصنوج التي لا نفْسَ لها. وجاءه أصحاب العلم والمعرفة، وهو القائل أنَّ العلم ينفخ، فأجابهم: »ولو وهبني الله النبوءة، وكنتُ عارفًا كلَّ سرٍّ وكلَّ علم، ولي الإيمان الكامل أنقل به الجبال، ولا محبَّة عندي، فما أنا بشيء« (آ2). حسبوا نفوسهم شيئًا، فإذا هم لا شيء. إلى هؤلاء لا يهتمُّ بولس. بل الله نفسه يتنكَّر لأعمالهم على مثال ما قال أشعيا في أولئك الذين يجيئون إلى الربّ بالتقدمات والذبائح (أش 1: 13) على متسوى اللسان، لا على مستوى القلب. فالربُّ لا يرضى (آ11)، بل هو لا يطيق (آ13) مثل هذه العواطف الكاذبة، ويحجب وجهه (آ15) لئلاّ يرى. وجاءت فئة ثالثة، أصحاب المعونة والإسعاف. قال: »ولو فرَّقتُ جميع أموالي على الجائعين وسلَّمت جسدي ليحرق، ولا محبَّة عندي، فما ينفعني شيء« (آ3). يا ضياع التعب والتضحية. لا فائدة. فما يعطي الحياة معناها والأعمال مرماها، هو المحبَّة. وما اكتفى الرسول بأن يُطلق هذا المبدأ الذي لا يقبل بشواذً، بل قدَّم بالتفصيل كيف يعيش المؤمنون المحبَّة. هناك أمور سلبيَّة نتحاشاها. لهذا جاءت الوصيَّة مع النافية. خمس مرّات: لا تسيء التصرُّف. لا تطلب منفعتها. لا تحتدّ. لا تظنُّ السوء. أو: لا تحتفظ بالحقّ (آ5). ثمَّ في آ6: »المحبَّة لا تفرح بالظلم«. هي لا تعذر الإخوة. لا تغطّي الخطايا، فتحسبُ الشرَّ خيرًا والخير شرٌّا، النور ظلمة والظلمة نورًا، الحلو مرٌّا والمرُّ حلوًا (أش 5: 20). والأمور الإيجابيَّة تنطلق من محبَّة الله التي لا تذكر هنا، فتصل إلى القريب ذاك الذي نلتقي به كلَّ يوم: الأخ وأخوه. الأمّ والابنة. الرجل وابنه. وفي الرعيَّة، وفي الدير. نتحاشى ما يجب أن نتحاشاه، ونقوم بالأعمال التي تدلُّ على محبَّتنا في خطِّ ما نعرف من الإنجيل. »المحبَّة تصبر وترفق« فالربُّ يُدعى »كثير الأناة، البطيء عن الغضب، وكثير المراحم واللطف« (خر 34: 6). ومثله يكون كلّ ابنٍ من أبنائه. يكون المحبَّ والرفيق وحامل الصدق. »المحبَّة تصفح«. أما هكذا كان كلام الربّ: »إن غفرتم للناس زلاّتهم، غفر لكم أبوكم السماويّ. وإن لم تغفروا لا يغفر لكم أبوكم« (مت 6: 14-15). فالمحبُّ لا يترك الحقد في قلبه. وإن هو غضب »لا تغرب الشمس على غضبه« (أف 4: 26). »والمحبَّة تصدِّق«. فالمؤمن لا يغشّ ولا يكذب. على ما قال الرب« فليكن كلامكم نعم أو لا، وما زاد على ذلك فهو من الشرّير« (مت 5: 37). تلك هي روحانيَّة الرسول: »هل أدبِّر أموري تدبيرًا بشريٌّا، فأقول نعم نعم ولا لا في الوقت ذاته؟ ويشهد الله أنَّ كلامنا لكم ما كان نعم ولا، لأنَّ يسوع المسيح ابن الله الذي بشَّرْنا به بينكم... ما كان نعم ولا، بل نعم كلُّه« (2كور 1: 17-19). »والمحبَّة ترجو كلَّ شيء«. هي تعيش في قلب الرجاء، لأنَّها تنتظر في الآخرة ما تعيشه منذ الآن. كما ترجو أن لا تتغلَّب الخطيئة في القلوب. فالمؤمن يتذكَّر مَثَل التينة العقيمة، الذي أعطاه يسوع بعد ثلاث سنوات من البشارة. جاء صاحب الكرم يريد أن يقلعها، فأجابه الكرَّام: »اتركها، يا سيِّدي، هذه السنة أيضًا، حتّى أقلب التربة وأسمِّدها. فإما تُثمر في السنة المقبلة، وإمّا تقلعها« (لو 13: 8-9). كما الربُّ لا ييأس من شعبه بالرغم من خطاياه، كما ينتظر ابنه الضالّ الذي هو لا بدَّ راجع عليه، هكذا تنتظر الكنيسة وتعامل أبناءها بالرفق. في آ4، تحدَّث الرسول عن المحبَّة التي »تطيل روحها«. تنتظر وتنتظر. في آ8، هي تصبر وتبقى ثابتة لا تتزعزع. هكذا كان الأب المحبّ ينتظر ابنه الذي مضى إلى البعيد. ما إن وصل حتّى استقبله أطيب استقبال. في هذا الإطار عينه، نستطيع أن نقرأ بعض الأعمال التي يقوم بها المؤمن فيعبِّر عن محبَّته في ظروف الحياة: »افرحوا مع الفرحين وابكوا مع الباكين. عيشوا في الاتِّفاق. لا تطلبوا التعالي، بل اقبلوا أن تكونوا متواضعين. ولا تحسبوا أنفسكم حكماء« (رو 12: 15-16)، وكأنَّ الآخرين جهّال يحتاجون لأن تعلِّموهم. ويمكن أن تتواصل اللائحة: »ساعدوا الإخوة القدّيسين في حاجاتهم. وداوموا على ضيافة الغرباء« (آ13). وتنتهي اللائحة: »لا تجازوا أحدًا شرٌّا بشرّ، واجتهدوا أن تعملوا الخير أمام جميع الناس. ساعدوا جميع الناس إن أمكن، على قدر طاقتكم. لا تنتقموا لأنفسكم أيُّها الأحبّاء...« (آ17-19). هكذا تحبُّون بعضكم بعضًا كما الإخوة يحبّون. هكذا يكون الإكرام المتبادل، »بحيث تفضلِّون بعضكم على بعض« (آ10). الخاتمة الكلام عن المحبَّة عند القدّيس بولس حديث طويل. هي تنطلق من قلب الله فتفيض في قلوب المؤمنين. بل الله يعمل معنا نحن أحبّاءه، لأجل خيرنا في كلِّ شيء (رو 8: 28). محبَّة حملها المسيح في شخصه، فضحّى بذاته من أجلنا. محبَّة نعيشها يومًا بعد يوم مع الإخوة الأقربين. وهذا ما يفترض الخروج من الذات، بحيث »نطلب أن لا نرضي أنفسنا« (روم 15: 1)، بل »يعمل كلُّ واحد منّا ما يرضي أخاه لخير البنيان المشترك« (آ1-2). هكذا عمل يسوع (آ3) وهكذا نعمل نحن طالبين »الاتِّفاق في الرأي« (آ5). والمحبَّة تكون عمليَّة، فلا تكتفي بالشعارات والأقوال الفارغة. بل تفرض على كلِّ واحد منّا أن يبدِّل سلوكه اليوميّ فينتقل من البغض والحقد إلى التسامح والغفران. من حبِّ الذات حتّى حبّ الله والقريب، كما قال القدّيس أوغسطين: من حب الذات حتى بغض الله إلى حبِّ الله حتّى بغض الذات. عندئذٍ نفهم كلام الربّ. حين نخسر نفوسنا نخلِّصها. وكيف نخسرها؟ حين نحبُّ حتّى التضحية بنفوسنا، لأنَّ الموت في النهاية حياة، وحين نحاول أن نربح نفوسنا، ونربح معها العالم، تكون الخسارة الكبرى، خسارة الحياة الأبديَّة. يبقى السؤال: ونحن ماذا نختار؟ |
||||
29 - 03 - 2024, 12:01 PM | رقم المشاركة : ( 155880 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
محبَّة المسيح تلفُّنا حين أراد بولس الرسول أن يحدِّث أهل كورنتوس عن المصالحة مع الله، قال لهم: »محبّة المسيح تلفُّنا« (2 كور 5: 14)، تحيط بنا، تحثُّنا، تدفعنا. وهكذا صرنا أسرى لها. ولماذا هذا التأثير فينا؟ لأنَّنا أدركنا أنَّ واحدًا مات عنٌّا جميعًا لأنَّه أحبَّنا. وهو يدعونا إلى أن نشاركه في موته من أجل الحياة. وهكذا لا نحيا بعدُ لأنفسنا في أنانيَّة قاتلة، بل »للذي مات وقام« (آ15) من لأجلنا. المسيح هو المرآة التي نرى فيها محبَّة الله لنا. وهو الطريق التي نسير فيها فنعرف كيف تكون المحبَّة بين الأخوات والإخوة ساعة لا يخاف الواحد أن يحسبَ الآخرين أفضل منه (فل 2: 4)، لأنَّ فكره على فكر المسيح (آ15). من المسيح نتعلَّم أنَّ الله الذي هو محبَّة، يحبُّنا كما الوالدون يحبُّون أولادهم. ومحبَّته تزرع المحبَّة فينا فتكون الثمرة محبَّة للقريب في ظروف الحياة اليوميَّة. فالمحبَّة في النهاية، عطاء من أجل الأخوَّة وتضحية. في مسيرتنا هذه يكون بولس الرسول رفيقنا. |
||||