منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 27 - 03 - 2024, 01:23 PM   رقم المشاركة : ( 155741 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,116

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة





الإناء المختار
حدَّث الرسول تلميذه تيموتاوس عن الآنية التي تكون في البيت الكبير (2: 20). هي أنواع وأنواع. منها الثمينة تكون »من ذهب وفضَّة«، ومنها الأقل ثمنًا، تكون »من خشب وخزف«. من أيِّ نوع يكون خادم الربِّ؟ ونحن نعرف أنَّ الكتاب المقدَّس حين يريد أن يتحدَّث عن شيء ثمين، يشبِّهه بالذهب والفضَّة وسائر الحجارة الكريمة. مثلاً، »غطّى سليمان داخل الهيكل بذهب خالص، ومدَّ سلاسل ذهب أمام المحراب، وغطّى بالذهب الهيكل كلَّه ومذبح المحراب« (1 مل 6: 20-21). وما نقوله عن الهيكل نقوله عن أورشليم الجديدة التي لا قيمة توازيها: »وكانت الأبواب الاثنا عشر اثنتي عشرة لؤلؤة، كلُّ باب منها لؤلؤة، وساحة المدينة من ذهب خالص شفّاف كالزجاج« (رؤ 21: 21).
هذا الموضع »المذهَّب« يستقبل الربّ. والإنسان يكون من ذهب لأنَّه يحمل كلام الله. وهكذا شُبِّه بالإناء. ففي إناء وُضع المنُّ (خر 16: 33) ليكون آية عن عناية الله في شعبه خلال المسيرة في البرِّيَّة. هذا ما يُدعى »إناء شريفًا، مقدَّسًا، نافعًا لربِّه، أهلاً لكلِّ عمل صالح«. ما يقابل الشريف هو »الخسيس«. وما يقابل المقدَّس هو »النجس«. وما يقابل النافع هو »المضِرّ«. وتجاه العمل الصالح يكون العمل الشرّير. فخادم الربِّ يريده الربُّ حاملاً الأعمال الصالحة وإلاَّ يجدَّف على اسم الله بسببه (رو 2: 24). فالأعمال الصالحة هي نور. ولهذا قال الربُّ في العظة على الجبل: »فليضئ نورُكم هكذا قدَّام الناس ليشاهدوا أعمالكم الصالحة ويمجِّدوا أباكم الذي في السماوات« (مت 5: 16). هل يعرف الرسول أنَّه »نور العالم«؟ (آ14). وهل يعرف أنَّه موضوع على مكان عالٍ لكي يَرى الجميعُ نورَه، سواء الذين في البيت (آ15) أو الآتون من الخارج والداخلون إلى البيت (لو 8: 16)؟
وتجاه آنية الذهب والفضَّة، هناك آنية الخشب والخزف. فهذه تكون لاستعمال دنيء. حرفيٌّا: للهوان. بسببها يُهان الله ولا يُكرَم. بسببها النور الذي فينا يكون ظلامًا (لو 11: 35). لهذا يدعونا الرسول لكي نتنقّى »من كلِّ هذه الشرور« (2 تم 2: 21). وما هي هذه الشرور التي تتربَّص بخادم الله؟ ذكر منها بولس ثلاثة: أهواء الشباب. المماحكات الغبيَّة، المشاجرات.
ونبدأ بأهواء الشباب. الهوى ما يذهب بالعقل ويجعله يضيع، الهوى يأخذ بالنفس إلى مَيَلانها. في الأصل، الهوى يميل بنا نحو الخير والشرّ. ولكنَّ »أهواء الشباب« تعني عادة الانحرافات وذلك في خطِّ الكتاب المقدَّس. مثلاً، أبناء عالي الذين اختلفوا كلَّ الاختلاف عن والدهم الشيخ (1 صم 2: 22). ونقول الشيء عينه عن ابنَي صموئيل: لم يسلكا طريق الوالد، بل »مالا وراء المكسب، وأخذا رشوة، وعوَّجا القضاء« (1 صم 8: 3). ولو سمع رحبعام بن سليمان نصيحة الشيوخ لما انقسمت مملكته (1 مل 12: 13). بل سمع من الشباب الذين علَّموه أن يقول: »خنصري أغلظ من خصر أبي« (آ10). والمرتِّل سوف يصلّي: »لا تذكر خطايا صباي ومعاصيَّ« (مز 25: 7). ويعلن سفر الأمثال: »الشابّ الذي يُطلق العنان لأهوائه، يُخجل أمَّه« (أم 29: 15).
ثمَّ المماحكات والجدالات. بمَ تقوم؟ تشير إليها الرسالة الأولى إلى تيموتاوس: الخرافات والأنساب (1: 4). هي تنظيرات يهوديَّة متعلِّقة بالآباء وببعض وجوه العهد القديم. استلهمها العالم الغنوصيّ بهرطقته التي تتضمَّن مزيجًا من الميتولوجيا اليونانيَّة والنظرة الفلسفيَّة وأمورًا من الكتاب المقدَّس. وما نجده أيضًا بعض المعلِّمين الكذبة الذين يحسبون نفوسهم معلِّمين في الشريعة بل في المجتمع كلِّه، فيقدِّمون »أناجيل« في وجه الإنجيل الحقيقيّ. تلك الأناجيل صارت اليوم »الأناجيل المنحولة«، أي التي انتحلت صفة ليست لها. فلا هي أناجيل بمعنى أنَّها تحمل الخبر الطيِّب، ولا هي ملهمة لكي تكون قاعدة الإيمان والأخلاق. ربَطَها الرسولُ بخرافات تتناقلها العجائز (1 تم 4: 7). إذًا، لا تهتمّوا لها. وتلميذ بولس يتجنَّبها لأنَّها تخلق الخصومات. مثل هؤلاء الناس يضعون المحبَّة جانبًا وينحرفون عن الإيمان ليضيعوا في كلام باطل، فارغ، لا منفعة منه، بل كلُّه ضرر. وجاء كلام الرسول قاسيًا: لا يفهمون ما يقولون، ولا ما يؤكِّدونه بقوَّة (1 تم 1: 7). فبقدر ما يشدِّدون على هذه الأمور، يدلُّون على أنَّهم جهّال. يرفعون الصوت فنحسب أنَّ الحقَّ بجانبهم، ولكنَّهم بعيدون عن الحقّ بُعدَ الظلمة عن النور. فهل نسمع بعدُ لهم؟
وأخيرًا المشاجرة. كدتُ أقول الخلاف والقتال والتباعد بين المؤمنين. لا، ليس هذا موقع »خادم الربّ« (2 تم 2: 24). ويعطيه الرسول التعليمات التي تجعله »أهلاً للتعليم«. الصفة الأولى، يكون رفيقًا، لا قاسيًا، خصوصًا على الجهّال والضعفاء. يكون وجهه بشوشًا وكلامه هادئًا. لا بالنسبة إلى فئة صغيرة يتعاطف معها، بل مع الجميع. والصفة الثانية الوداعة. فالودعاء يرثون الأرض، كما قال الربّ (مت 5: 5). ويمتلكون قلوب الناس. أمّا القوَّة فلا تنفع، والعنفُ يعطي النتيجة المعاكسة. تلك كانت طريقة الربِّ بحسب نبوءة إشعيا: »لا يماحك ولا يصيح ولا يسمع أحدٌ صوته في الشوارع. قصبة مرضوضة لا يكسر، وسراجًا مدخِّنًا لا يُطفئ«. هكذا يربح الرسول المؤمنين إلى »معرفة الحقّ«. ما أهون على الكاهن أن يحكم على من يخالفه الرأي، أو يناقشه! يجعله في فئة من الفئات ويحسبه هالكًا. قد يكون هذا الإنسان »وقع في فخِّ إبليس« (2 تم 2: 26). هل نتركه هناك؟ هنا نتذكَّر ما عمل يسوع مع تلك المرأة المنحنية الظهر: »أما يجب أن تُحَلَّ من رباطها؟« (لو 13: 16). وهذا الخاطئ، هل نتركه »يطيع مشيئة إبليس«؟ أم نطلبه كما يُطلَب الخروف الضالّ. والأسلوب يكون في الصبر والوداعة، فلا نعجِّل لأنَّ الربَّ »يأخذ« وقته، يطيل أناته، لكي يأتي بالجميع إلى التوبة. فهو إله الحياة لا إله الموت.
يتجنَّب خادم الربِّ الأمور السلبيَّة، ومقابل هذا يطلب الأمور الإيجابيَّة. ذكر الرسول منها أربعة: البرّ، الإيمان، المحبَّة، السلام (2 تم 2: 22). أمّا البرُّ فهو العمل بمشيئة الله، واتِّباع طريق الإنجيل بعد حفظ الوصايا كما أوضحها يسوع. أوَّلاً تكون حياة الكاهن مثالاً في أقواله وأعماله وتصرُّفاته، »لئلاَّ يكون في خدمتنا عيب«، كما قال بولس. ومع البرِّ الإيمان. هو التعلُّق بالربِّ والاستسلام له في الرسالة. واحد منّا يزرع، وآخر يسقي. وما من أحدٍ منّا يُنمي، سواء نام الناس أو قاموا (مر 4: 26-27). المهمّ أن نقوم بالعمل المطلوب منّا: نزرع، نسقي، نزيل الحجارة، ننقب. هذا ما سوف نقوله عن الزارع والعامل في حقل الربّ.
والصفة الثالثة، المحبَّة. محبَّتنا لله تدفعنا لكي نحبَّ الإخوة. قال القدّيس أوغسطين: »أحبب وافعل ما تشاء«. وحدَّثنا بولس: »المحبَّة لا يمكن أن تسيء إلى القريب«. ونحن في علاقاتنا، هل نبحث عمَّا يجعلنا على حقّ ولو حطَّمنا القريب؟ أم نطلب الحقَّ مع القريب متَّجهين إلى من يدعونا ويدعو الآخرين، بحيث يكون الجميع »في الحظيرة الواحدة؟« (يو 10: 16).
وأخيرًا، السلام. السلام الآتي من الربّ، لا ذاك الذي نفرضه على الآخر حين نفرض عليه أن يصمت ولا يجادل بعد. قال بولس: »عيشوا في سلام مع جميع الناس« (رو 12: 18). وعاد يقول لنا في الرسالة عينها: »لنطلب إذًا ما فيه السلام والبنيان المشترك« (14: 19). الحرب تدمِّر: لا نجازي شرٌّا بشرّ. »نجتهد أن نعمل الخير أمام جميع الناس. نمتنع عن الانتقام. لا ندع الشرَّ يغلبنا بل نغلب الشرَّ بالخير« (رو 12: 17-21).
 
قديم 27 - 03 - 2024, 01:23 PM   رقم المشاركة : ( 155742 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,116

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة





الرسول جنديٌّ وفلاّح
من هو الجنديّ؟ ذاك الذي يدافع عن الوطن. والفلاّح؟ ذاك الذي يهتمُّ بالأرض فيُخرج منها الطعام لإخوته وأخواته.
قال بولس لتلميذه تيموتاوس: »شارك في احتمال الآلام كجنديّ صالح للمسيح يسوع« (2 تم 2: 3). إذا كان التلميذ يحمل الصليب، فهذا يعني أنَّ الألم جزء من حياته. الرسول يعرف ذلك منذ بداية المسيرة وبولس قال لنا بصراحة: »أعطيَ لنا لا أن نؤمن به، بل أن نتألَّم معه« (فل 1: 29). إذا كان الإيمان هديَّة من عند الربّ، فالآلام أيضًا هديَّة. تلك هي المشاركة المطلوبة من خادم الربّ، على ما قال بولس أيضًا: »أتمِّم في جسدي ما ينقص من آلام المسيح من أجل جسده الذي هو الكنيسة« (كو 1: 24). أتُرى آلام المسيح ناقصة؟ بل المسيح ترك لنا مكانًا لكي نحمل صليبه معه. وهذا هو شرف كبير لا يفهمه إلاَّ القدّيسون. ونلاحظ قول الرسول: هو لا يتأفَّف بسبب الآلام التي تصيبه في رسالته، بل يعلن: »أفرح بالآلام التي أعانيها«. فلسنا وحدنا حين نحتمل الآلام، فهناك من يحمل صليبنا معنا، وقد يحملنا حين يرانا ضعفاء، بائسين، لا نعرف كيف نتوجَّه.
ووضع بولس المثال: الجنديّ. هو من يقدِّم عمله وتعبه، بل يجعل حياته على كفِّه. وهناك جنديٌّ وجنديّ. فالجنديّ الصالح لا يترك الساحة مهما كانت الأخطار. والجبان يهرب حين يرى العدوَّ آتيًا. هنا نتذكَّر جيش جدعون الذي عُدَّ بالآلاف، ولكن كم كان الذين رافقوه؟ ثلاثمئة فقط. هناك الخائف المرتعد (قض 7: 3) الذي ينقل خوفه إلى الآخرين. هذا تراجع. الرسول الذي يتراجع خوفًا، يدلُّ أنَّه لا يؤمن بمن جنَّده. وهناك من فكَّر بامرأته وأولاده، أو بحقله فرجع. وهناك من تماهل فأخذ وقته ليشرب على مهل بحيث يكون الأخير فيموت من يموت ويتدبَّر هو أمره. فكم من الأشخاص يتركون العمل لغيرهم! وإذا أحسُّوا أنَّهم وحدهم تذمَّروا. مع أنَّه شرف كبير أن يستند الربُّ إليَّ ويقول لي: اذهب إلى كرمي (مت 21: 28).
كان بإمكان الربِّ أن يختار غير شاول (أو بولس) بين الماضين إلى دمشق. ولكنَّه اختار شاول ودعاه باسمه مرَّتين. وماذا ينتظره بعد أن اختاره الربّ؟ قال الربُّ لحنانيا: »سأريه كم يجب أن يتحمَّل من الآلام في سبيل اسمي« (أع 9: 16). ليس نداء الربِّ نزهة بين المروج، ولا شَرفيَّة وفخرًا، بل الصعوبات والآلام. فابنا زبدى طلبا أن يكونا عن يمين الربِّ وعن شماله، حين يكون في مجده. قال لهما يسوع: »أتعرفان ما أنتما تطلبان؟ هل تستطيعان أن تشربا كأس الموت التي سأشربها؟ (مر 10: 38). لم يعرفا ما ينتظرهما في ذلك الوقت، ولكن فيما بعد عرفا ولاسيَّما يعقوب الذي كان أوَّل رسول يموت لأجل اسم يسوع: قتله هيرودس بحدِّ السيف (أع 12: 2).
خادم الربِّ »يتجنَّد«، أي يتفرَّغ لعمل الجنديَّة. ويقول بولس لتيموتاوس: »لا يشغل باله بأمور الدنيا إذا أراد أن يُرضي قائده« (2 تم 2: 4). لا يهمُّه سوى إرضاء من جنَّده. يسوع المسيح هو قائدنا، ونحن ننتظر أوامره. هنا نتذكَّر »شاول« بعد اهتدائه في دمشق ومروره في أورشليم. ماذا عمل؟ مضى إلى طرسوس، إلى بلدته وانتظر الأوامر من قائده. فأرسل إليه برنابا »فجاء به إلى أنطاكية« (أع 11: 25). ولن تتوقَّف مسيرة رسول الأمم حتّى آخر رمقٍ من حياته.
وما يميِّز الجنديّ هو »الجهاد«. قال بولس عن نفسه: »جاهدت الجهاد الحسن وأتممتُ سعيي وحفظتُ إيمانيّ« (2 تم 4: 7). وما قام به بولس، ها هو يطلبه من تلميذه، ومن كلِّ كاهن في كنيسة الله: »وجاهِد في الإيمان جهادًا حسنًا، وفُزْ بالحياة الأبديَّة« (1 تم 6: 12). وتحدَّثت الرسالة الأولى إلى الكورنثيّين عن »السباق« الذي يقوم به كلُّ واحد منّا: هناك مجهود وضبط النفس (1 كو 9: 25). الناس في الميدان ينتظرون إكليلاً يَفنى، أمّا نحن فإكليلاً لا يَفنى. هناك هدف أمامنا نتطلَّع إليه ولا يشغلنا عنه شاغل. نحاول أن ندرك المسيح الذي أدركنا. لهذا ننسى ما وراءنا ونتطلَّع إلى ما قدَّامنا »للفوز بالجائزة التي هي دعوة الله السماويَّة في المسيح يسوع« (فل 3: 14). ملكوت الله يؤخذ بالقوَّة، والأقوياء هم الذين يأخذونه. »فلا مكان للجبناء«، كما قال سفر الرؤيا (21: 8). فهم يقفون مع السحرة وعبدة الأوثان والكذّابين.
خادم الربِّ هو جنديّ، وهو فلاّح أيضًا. قال بولس: »والزارع الذي يتعب يجب أن يكون أوَّلَ من ينال حصَّته من الغلَّة« (2 تم 2: 6). يسوع هو الزارع الأوَّل. ذاك ما نفهمه من الأمثال الإنجيليَّة. »خرج الزارع ليزرع« (مت 13: 3). والزارع هو يسوع المسيح الذي تقع كلمته في أكثر من موضع. وما أسعدنا إن وقعت في الأرض الجيِّدة، فهي تثمر ثلاثين وستّين ومئة. هو يزرع، وإن جاء العدوُّ »وزرع الزؤان بين القمح« (آ24) فهو لا يتراجع. وحبَّةُ الخردل التي يزرعها، تصير شجرة وإن كانت في الأصل حبَّة صغيرة (آ3-32). ومعه يزرع »خدَّامُ الإنجيل« على ما قال بولس عن نفسه وعن الفريق الرسوليّ: »فإذا كنّا زرعنا فيكم الخيرات الروحيَّة، فهل يكون كثيرًا علينا أن نحصد من خيراتكم المادِّيَّة؟« (1 كو 9: 11). أجل، هكذا مضى الرسول من مدينة إلى مدينة يزرع الإنجيل. ونبَّه معاونيه في الرسالة: »وتذكَّروا أنَّ من زرع قليلاً حصد قليلاً، ومن زرع كثيرًا، حصد كثيرًا« (2 كو 9: 6).
أجل، الكاهن يزرع كلام الله. والويل له إن تقاعس عن هذا العمل وارتضى ببعض الممارسات الخارجيَّة التي قد ترضي الله بسبب قلوب العاملين بها. فنسمع صوت الربِّ بفم إشعيا: »أبغضتُ أعيادكم. إذا بسطتم أيديكم، أسترُ عينيَّ عنكم لئلاَّ أراكم. وإذا أكثرتم الصلاة لا أسمع لكم« (إش 1: 15). فإذا كنّا لم نزرع شيئًا، فماذا نحصد؟ ولماذا نتذمَّر من رعايانا لأنَّها ميتة ولا حياة فيها؟ معتقدات بلا جذور! فمن هو المسؤول عن هذه »الأرض« التي لم تُفلَح ولم تُصلَح؟ ولماذا نندهش إذا الكرمة ما أعطت عنبًا، بل حصرمًا برِّيٌّا؟
الربُّ يرسلنا إلى كرمه ويطلب منّا الثمار، هذا يعني أنَّنا نعمل ولا نخفي وزنتنا في الأرض (مت 25: 18). حينئذٍ نستحقُّ تسمية »الخادم الشرّير الكسلان« (آ26). فإذا جاء الربُّ ماذا يحصد إذا كنّا لم نزرع شيئًا؟ وماذا يجمع إذا نحن لم نلقِ البذار؟ عندئذٍ نسمع الحكم القاسي: »وهذا الخادم الذي لا نفع فيه، اطرحوه خارجًا في الظلام. فهناك البكاء وصريف الأسنان« (آ20). ولكن طوباه العامل في الكرم فيسمع كلام الربِّ حين يعود: »أدخل فرح سيِّدك« (آ23).

 
قديم 27 - 03 - 2024, 01:24 PM   رقم المشاركة : ( 155743 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,116

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة





خادم الربِّ هو الشاهد
الشاهد هو الذي كان حاضرًا حين حدثَ حادث، فرأى أو سمع. وهكذا يستطيع أن يشهد وتُقبَل شهادته. وغير ذلك هو شاهد الزور الذي ما رأى ولا سمع. أوَّل الشهود هم الرسل الذين رافقوا يسوع منذ معموديَّة يوحنّا المعمدان حتّى صعود الربِّ إلى السماء (أع 1: 22). وبعد هؤلاء جاء الذين سمعوا الشهود الأوَّلين، تكلَّم عنهم لوقا في بداية إنجيله: »كانوا منذ البدء معاينين وخدَّامًا للكلمة« (لو 1: 2). ونحن العائشين اليوم، ننتظر كلمة الحياة من الذين سمعوه، من الذين رأوه بعيونهم وشاهدوه، من الذين لمسوه بأيديهم (1 يو 1: 1).
بولس هو الشاهد مع أنَّه لم يرافق يسوع خلال حياته على الأرض. ولكن كانت له خبرة على طريق دمشق، حين »سطع حوله بغتةً نورٌ من السماء...« (أع 9: 3)، وسمع صوتًا يناديه باسمه. وإذا كان بطرس والرسل نعموا بظهور الربِّ القائم من الموت، فبولس نال نعمة مماثلة: »ظهر لي آخرًا أنا أيضًا« (1 كو 15: 8). انطلاقًا من هذه الظهورات، حمل الرسلُ الإنجيل، فقال بولس: »أكنتُ أنا أم كانوا هم، هذا ما نبشِّر به وهذا ما به آمنتم« (آ11).
وما كان بولس شاهدًا وحده. فهناك برنابا ومرقس ولوقا، عدا عن الذين عملوا في الرسالة. ساروا كلُّهم في خطى الاثني عشر، الذين تحدَّث عنهم لوقا في سفر الأعمال فقال: »وكان الرسل يؤدُّون الشهادة بقيامة الربِّ يسوع« (أع 4: 33). أمّا شهادتهم فجاءت في خطِّ ما فعله الربُّ يسوع. قال عنه بولس في الرسالة الأولى إلى تيموتاوس: »المسيح يسوع الذي شهد أحسن شهادة لدى بيلاطس البنطيّ« (1 تم 6: 13). فهذا الوالي الرومانيّ دخل في قانون الإيمان وفي عهده تألَّم يسوع وصُلب ومات وقُبر.
في مثل هذا الإطار، استطاع بولس أن يمتدح ابنه تيموتاوس: أنت شهدت للحياة الأبديَّة »شهادة حسنة بحضور شهود كثيرين« (آ12). وإذ يمضي بولس إلى الموت »ذبيحة يراق دمها« يدعو تلميذه: »لا تخجل بالشهادة لربِّنا وبي أنا سجينه، وشارك في الآلام من أجل البشارة متَّكلاً على قدرة الله« (2 تم 1: 8). فالشهادة تقود إلى الاستشهاد. هذا ما نراه عند بولس الرسول الذي راح يشهد للربِّ يسوع »خلال صعوده إلى أورشليم« منطلقًا من أفسس. قال للشيوخ: »وأنا أعرف أنَّكم لن تروا وجهي بعد اليوم، أنتم الذين سرتُ بينهم كلِّهم أبشِّر بملكوت الله« (أع 20: 25). وهكذا يبدو بولس سائرًا إلى الموت. وفي قيصريَّة، أخذ أغابُّوس حزام بولس وقيَّد به يديه ورجليه وقال: »يقول الروح القدس: صاحب هذا الحزام سيقيِّده اليهود هكذا في أورشليم ويسلمونه إلى أيدي الوثنيّين« (أع 21: 11). بكى الحاضرون، فقال بولس: »أنا مستعدٌّ لا للقيود وحدها، بل للموت في أورشليم من أجل الربِّ يسوع« (آ13).
منذ البداية سمع بولس صوت الربِّ بفم حنانيا: »فأنت ستكون له شاهدًا عند جميع الناس بما رأيتَ وسمعتَ« (أع 22: 15). وفي النهاية، ظهر الربُّ لبولس في الليل وقال له: »تشجَّع! فمثلما شهدتَ لي في أورشليم، هكذا يجب أن تشهد لي في رومة« (أع 23: 11).
فمثلُ هذا الشاهد الذي سيكون شهيد المسيح، يستطيع أن يتحدَّث عن الشهادة التي يدعو إليها تيموتاوس، ويدعو كلَّ خادم للربّ أن يكون الشاهد بحياته، أن يكون الشاهد بكلامه فيعلن البشارة في وقتها وفي غير وقتها: ساعة التعليم يعلِّم، وساعة التوبيخ يوبِّخ، وساعة التشجيع يشجِّع.
والشاهد لا يخاف الأزمة الصعبة التي يعيش فيها. فإن رفض أن يشهد، يكون مثل النعامة التي تضع رأسها في الرمل لكي لا ترى الخطر. ولكنَّها تحكم على نفسها بالموت. هكذا خادم الله. قال لنا الربّ: أنتم في العالم ولكنَّكم لستم من العالم. يعني سلوك المؤمن، وبالأحرى الكاهن، لا يمكن أن يكون مثل سلوك العالم. ولهذا، قال الربّ: »يبغضكم العالم«. ولكن إذا كنّا مثل العالم، فالعالم يحبُّنا. ذاك هو المحكُّ لرسالتنا. فإن حاولنا أن نرضي الناس، لا نكون خدَّامًا ليسوع المسيح.
ونبَّه بولس تيموتاوس إلى نوعيَّة الناس، لا في أيّامه فقط، بل في أيّامنا أيضًا: »يكونون أنانيّين، جشعين، متعجرفين، متكبِّرين...« (2 تم 3: 2ي). وتتواصل اللائحة البشعة. فما يكون موقف خادم الله؟ يبتعد عنهم.
وهم لا يكتفون بالشرِّ لهم، بل يتسلَّلون إلى البيوت (آ6). هنا يكون خادم الربِّ يقظًا فيتنبَّه للخطر الآتي، كما يتنبَّه تيموتاوس إلى التعاليم الضالَّة التي تهدم الإيمان لدى بعض الناس. فهل يترك الراعي الذئب يدخل إلى الحظيرة، فيخطف ويبدِّد؟ (يو 10: 12). إن هرب كان أجيرًا لا راعيًا، يشتغل لأجل أجرة ينتظرها. أمّا الراعي فيستعدُّ لأن يضحّي بحياته من أجل خرافه (آ15). إلاّ إذا اعتبرنا أن الخراف لا تخصُّنا! حينئذٍ، الويل لنا. روى داود عن نفسه كيف كان يلاحق الأسد (أو الدبّ) إذا أخذ شاة من القطيع: يضربه وينقذ الشاة من فمه (1 صم 17: 34). هل الإنسان أفضل من الشاة؟ هل نترك المؤمنين يُسبَون لأنَّنا لا نعرف أن ندافع عنهم، كما لا نكون بقربهم، فنتركهم يشردون في كلِّ مكان مثل خراف لا راعيَ لها؟
وذكر بولس بعض الأسماء. منهم من رفض الشهادة للربِّ فاعتبر أنَّه لا يعرف بولس ولا سمع باسمه. فيجلُّس وهرموجينيس (2 تم 1: 15). وتجاه هذين أونيسفورس. »ما خجل لقيودي«، بل بحث عنّي، شجَّعني. هي صداقة قديمة لبثت حاضرة (آ18).
وذكر بولس اسمين من التقليد اليهوديّ: بنيس ويمبريس. هما بين السحرة الذين عارضوا موسى (خر 7: 11، 22). ويصوِّرهما الترجوم (أي النصّ الأراميّ) وهما يفسِّران الحلم لفرعون. كما جعلهما ابنَيْ بلعام الذي دعا العبرانيّين إلى الفجور وعبادة الأوثان (عد 22: 22).
كلُّ هذا كان الوجه السلبيّ الذي يحاربه تيموتاوس. وهناك الوجه الإيجابيّ الذي يتعلَّمه الابن من أبيه. إذا كان بولس أقيم »مبشِّرًا ورسولاً ومعلِّمًا« (2 تم 1: 11) فتلميذه يتبعه. بولس يتحمَّل المشقَّات ولاسيَّما هذا السجن (آ8)، ويمكن أن يصل الدور إلى تيموتاوس. وبانتظار ذلك يقوم بثلاثة أعمال.
الأوَّل: »اعمل بالأقوال الصحيحة التي سمعتَها منّي« (آ13أ). فهناك أقوال كاذبة يجب أن تتجنَّبها. يمكن أن نتخيَّل هنا التعاليم المتعدِّدة التي انتشرت في الجيل الثاني المسيحيّ، كما نتخيَّل ما يصدر من تعاليم اليوم، عن الربِّ يسوع الذي هو إنسان فقط، لا إله وإنسان، بحسب كتاب دُعيَ »الإنجيل الخامس«. فما هذا الإنجيل الذي ينحدر عن الأناجيل فيصبح كلام بشر لا كلام الله. ردَّ الرسول فقال: »فنحن لا نعظ عن ضلال ولا دنس ولا خداع، بل نتكلَّم كلام من امتحنهم الله، لا لنرضي الناس، بل لنرضي الله الذي يختبر نفوسنا« (1 تس 2: 3-4). إذا كان كلام الله صعبًا، قد يتركنا الناس، كما التلاميذ تركوا يسوع (يو 6: 66). حينئذٍ نرضيهم، أو نساير نظريّات بشريَّة، فننقل يسوع من محيطه فنجعله في محيطنا. لا نرتفع إليه، بل نحدره إلى مستوانا.
الثاني: »اثبتْ في الإيمان والمحبَّة التي في المسيح يسوع« (آ13ب). فنحن لا نؤمن إيمانًا بشريٌّا، بل إيمانًا إلهيٌّا. أن يكون يسوع المعلِّم والفيلسوف وحامل الثورة... أمور لا بأس بها، ولكنَّها لا ترفع الإنسان إلى الله. والمحبَّة لا تكون عاطفة بشريَّة محضة. بل هي في المسيح يسوع الذي أحبَّنا وبذل نفسه عنّا.
الثالث: »احفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الساكن فينا« (آ14). هي وديعة الإيمان، التي يمكن أن نخسرها. فالإيمان موهبة نتقبَّلها بالشكر أو نشبه ديماس »الذي أحبَّ العالم الحاضر« (2 تم 4: 9). نحن وحدنا لا نستطيع، ولكنَّ الروح القدس العامل فينا يُعيننا. وهذا ما يُسند تقليد الإيمان من جيل إلى جيل. فذاك الذي دوَّن الكتاب المقدَّس ممسكًا بأيدي كتّاب عديدين، ما زال يقرأ معنا كلمة الله ويوضحها للمؤمنين مدى الأجيال. هذا الروح يسكن فينا ويُفاض علينا (أع 2: 17) فيجعلنا نكتنز كلام الربِّ ونحمله إلى الذين حولنا.
الخاتمة
ذاك الذي أحبَّه بولس ولبث يذكره في صلواته (2 تم 1: 3). ذاك الذي تعلَّق بمعلِّمه فبكى حين افترق عنه (آ4)، وتركه في أفسس (1 تم 3). ذاك الذي نما إيمانه على ركبتي جدَّته لوئيس وركبتي أمِّه أفنيكة (2 تك 1: 5)، ذاك الذي صار خادم الربّ حين وُضعت الأيدي عليه، اسمه تيموتاوس. هو بعيد عن بولس ويحتاج إلى نصائحه لكي يكون خادمًا للربّ. والإيمان المتجذِّر فيه يحميه من الصعوبات العديدة التي تحيط به وبرسالته. ذاك الذي عرف الكتب المقدَّسة منذ طفولته (2 تم 3: 5)، فردَّدها وتأمَّل فيها وحملها إلى المؤمنين، يكون مثالاً للكاهن الذي يكون كتابه الأوَّل الإنجيل وسائر الأسفار المقدَّسة. فإن عرف كلمة الله، عرف كيف يعلِّم، كيف يردُّ على أشخاص مثل »اسكندر النحّاس... الذي عارض أقوالنا معارضة شديدة« (2 تم 4: 14-15). أيُعقَل أن لا يعرف الكاهن أن يدافع عن الإيمان في وجه الضالّين والمضلّين؟ وما الذي يمنعه من الدرس والمطالعة والبحث والسؤال؟ والكتاب يساعد الكاهن على تربية شعبه وتقديم سلوكه. فالأخلاقيّات تبقى سطحيَّة إن لم تستند إلى كلام الله. فمن أنا حتّى أعلِّم الناس؟ إن كان يسوع قال: »تعليمي ليس من عندي، بل من عند الذي أرسلني« (يو 7: 16)، فماذا يقول الكاهن؟ ومن أين يأتي بتعليمه؟ أمِن داخله؟ أمن من عند البشر؟ في أوَّل رسالة كتبها بولس، قال لأهل تسالونيكي »بشَّرناكم بشارة الله« (1 تس 2: 9). وفي الرسالة إلى رومة أعلن: »الإيمان من السماع، والسماع هو من التبشير بالمسيح« (رو 10: 17). ونحن الكهنة بمن نبشِّر؟ أبأنفسنا أم بالمسيح ربِّنا؟ (2 كو 4: 5).
 
قديم 27 - 03 - 2024, 01:27 PM   رقم المشاركة : ( 155744 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,116

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة






رؤيا بولس بين الشرق والغرب

ولا سيَّما في التقليد السريانيّ

عرفتِ الكنيسة في بداياتها كتبًا جُعلت في موازاة الكتب المقدَّسة: أناجيل عديدة بموازاة الأربعة التي هي وحدها قانونيَّة، بمعنى أنَّها تُقدِّم القاعدةَ للإيمان والحياة الخلقيَّة: الإنجيل بحسب مريم، إنجيل نيقوديموس أو أعمال بيلاطس، الإنجيل بحسب توما، بروتوإنجيل يعقوب، إنجيل الطفولة. وعُرفت »أعمال« هذا الرسول أو ذاك، قبالة سفر الأعمال الذي دوَّنه لوقا وجعله امتدادًا للإنجيل الثالث. في الإنجيل لبث يسوع في فلسطين. وفي أعمال الرسل، وصلت البشارة إلى أقاصي الأرض ولا سيَّما في الفريق البولسيّ. فكانت لنا أعمال أندراوس الرسول وأعمال يوحنّا وأعمال بطرس وأعمال فيلبُّس وأعمال توما... وجاءت الرسائل وأخيرًا أسفار الرؤيا على مثال رؤيا يوحنّا، إن لم يكن في خطِّ أسفار العهد القديم بدءًا من إشعيا وصولاً إلى دانيال وشخصيّات بيبليَّة مثل إيليّا وأخنوخ وغيرهما.

كلُّ هذا أدب »مكتوم« عن العامَّة ومخفيّ، ومحفوظ »للكمّال«. وقد دُعيَ الأدب المنحول لدى الذين من خارج هذا الأدب، لأنَّهم اعتبروا أنَّ مثل هذه الكتابات انتحلت صفة، أخذت صفة ليست لها، بل هي خاصَّة بأسفار العهد الجديد السبعة والعشرين التي أقرَّتها الكنيسة بشكل نهائيّ في مجامعها ولا سيَّما في ترنتو، من أعمال إيطاليا(1).

هذا الأدب الذي كان »مكتومًا«، صار اليوم معروفًا بعد أن نُقل إلى لغات العالم ومنها العربيَّة(2). وارتبطَ، بغير حق، بالرسل في الدرجة الأولى، كما ارتبط ببعض الأشخاص الذين يذكرهم الإنجيل بشكل خاصّ، والكتابُ المقدَّس بشكل عامّ. في هذا المناخ، نقرأ أعمال بولس وبرنابا وتيموتاوس وتيطس ورسالة ثالثة إلى الكورنثيِّين. كما نقرأ رسالة إلى اللاودكيّين بدا الرسول وكأنَّه يتحدَّث عنها في الرسالة إلى كولوسّي (كو 4: 17). وكما كان ليوحنّا الرسول »رؤيا« دُوِّنت في نهاية القرن الأوَّل المسيحيّ، كان لبولس أيضًا سفرٌ مشابه: »رؤيا بولس« أو: »جليان« كما في الأدب السريانيّ، دُوِّنت »في منتصف القرن الثالث، بل في الثلث الأخير من القرن الثاني«(3). لا نتكلَّم في هذا المقال عن »أعمال بولس« التي »ذُكرت مرَّات عديدة في الأدب المسيحيّ القديم، منذ هيبوليت الرومانيّ وبداية القرن الثالث، والتي دُوِّنت في السنوات 160-180 (امتداد، ص 5) وعُرف منها لدى العامَّة ما يتعلَّق بتقلا، تلك الفتاة »الإيقونية«(4) التي تركت الزواج وتزوَّجت البتوليَّة بعد أن قال الرسول في خطِّ يسوع المسيح: »طوبى للذين يحفظون عفَّة جسدهم، لأنَّهم يكونون هياكل الله. طوبى للأعفّاء لأنَّ الله يتحدَّث معهم« (امتداد، ص 24). بل نحصر كلامنا في »رؤيا بولس« التي عرفت انتشارًا واسعًا وفي لغات الكنيسة القديمة: الأرمنيَّة، العربيَّة، السريانيَّة، اللاتينيَّة...

في قسم أوَّل، نتعرَّف إلى هذه »الرؤيا«. وفي قسم ثانٍ، نلاحقها في اللغات التي وصلت إليها. وأخيرًا، نتوقَّف عند العالم السريانيّ الذي أحسَّ بالخطر يهدِّد هذا »السفر« الذي اعتبرته بعض الجماعات »مقدَّسًا«، فقدَّم دفاعًا قال فيه: »فليعرف كلُّ من يرتاب برؤيا بولس الموقَّر، أنَّه لن تكون ذبيحة لغفران الخطايا« (امتداد، ص 239).

1- خُطفتُ إلى السماء الثالثة

هكذا تبدأ »رؤ بولس«، مستندة إلى نصِّ الرسالة الثانية إلى كورنتوس: »أعرفُ رجلاً مؤمنًا بالمسيح خُطف قبل أربع عشرة سنة إلى السماء الثالثة. أبجسده؟ لا أعلم. أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله يعلم. وإنَّما أعلم أنَّ هذا الرجل خُطف إلى الفردوس وهناك سمع كلامًا لا يقدر بشرٌ أن ينطق به ولا يجوزُ له أن يذكره« (2 كو 12: 2-5).

أوردتُ نصَّ الرسالة لأشدِّد على اثنين. أوَّلاً، لا يعلم الرسول إن هو خُطف بجسده أم بدون جسده؟ وهذا أمرٌ هامٌّ في التقليد اليونانيّ، المرتبط خصوصًا بأفلاطون. فالنفس تعيش في عالم المثُل، في الأعالي، ويمكن أن يظنَّ الكورنثيّون أنَّ رسولهم كان هناك. أمّا بولس، فهو لا يعرف. ولكن كاتب رؤ بو يعرف: خُطف الرسول بجسده، ورأى بعينيه البشريَّتين وسمع بأذنيه كما اعتاد أن يسمع على الأرض.

رأى في السماء »سكّان« السماء، الأبرار. أخنوخ، كاتب البرّ (ص 201) وإيليّا الذي تذكَّر الصعوبات التي قاساها لكي يصل إلى هنا. قال: »عظيمةٌ مواعيد الله ولكنَّ الكثيرين لا يفهمونها« (ص 202). واللافت هو أنَّ الجميع يستقبلون بولس، لا كضيف آتٍ إليهم، بل كشخص أعظم منهم. ويخبرنا »بولس« كيف مضى »إلى حاضرة المسيح«. قال: »أصعدني (الملاك) في قارب ذهبيّ، مع ثلاثة آلاف ملاك يسيرون أمامي إلى أن وصلتُ إلى حاضرة المسيح. فاستقبلني سكّانُ حاضرة المسيح بفرح عظيم« (ص 205).

والأمر الثاني: قال بولس في 2 كو إنَّ بشرًا لا يقدر أن ينطق بما رأى. بل لا يحقُّ له. ولكنَّ »بولس« في رؤ بو أخبرنا بكلِّ ما رأى وسمع. ذاك ما ذُكر في رؤ بو. قال الملاك: »ما أبيِّنه لك الآن، ما تسمعُ، لا تكشفْه لأحد على الأرض.« وأردف الرائي: »سمعتُ هناك أقوالاً لا يحقُّ لأحد أن يتفوَّه بها« (ص 202).

إلى أين خُطف بولس؟ إلى السماء، وإلى الجحيم. وإلى هناك تبعه دانتي في الكوميديا الإلهيَّة(5). دانتي، شأنه شأن إينه، مضى بجسده إلى الجحيم، إلى الأسافل حيث الموتى يكونون. وهو استوحى إحدى النسخات العصر الوسيطيَّة، في اللاتينيَّة، ليروي ما روى. أمّا رؤ بو فاستفادت من تقاليد عديدة حملتها اليهوديَّة، كما المسيحيَّة. نذكر على سبيل المثال صعود إشعيا(6) وما حملته الأخبار اليهوديَّة عن هذا النبيّ الذي نُشر بمنشار مع الشجرة التي أقام فيها. كما نذكر رؤيا إبراهيم(7) الذي رأى في ما رأى، آدم وحوّاء والحيَّة ومختلف أشكال الشرِّ من زنى وسرقة وعبادة أوثان.

وما كانت رؤ بو وحدها. فقد سبقتها رؤيا يوحنّا (كتاب قانونيّ)، ورافقتها رؤيا بطرس (رؤ بط). فرؤيا يوحنّا »رسمت« مصير الكنيسة ساعة اقتراب نهاية الأزمنة، من مجيء ثانٍ ودينونة أخيرة. أمّا رؤ بط فقدَّمت المحاولة الأولى لإلقاء الضوء على مصير كلِّ إنسان بعد النهاية: »بعد ذلك، يأتي الرجال والنساء إلى المكان الذي يستحقُّون. يعلَّقون بلسانهم الذي به جدَّفوا على طريق البرّ، ويمدَّدون على نار لا تنطفئ من أجل عقابهم«.(8)

أمّا رؤ بو فتمتدُّ في الزمان والمكان: تُذكَر الشمس والقمر والكواكب، والبحر والمياه والأرض، وذلك قبل الصعود إلى السماء. وذُكرت هذه الأمكنة، وكأنَّها أشخاص حيَّة تتَّهم البشر الخاطئين، وتطلب العدالة من عند الله. أو بالأحرى تَطلب منه أن يسمح لها لكي تفعل. قالت الشمس: »اتركني فأفعل« (ص 188). أترى الربّ غافلاً؟ كلاّ. فهو يقول في كلِّ حالة: »عرفتُ كلَّ هذا، عيني رأتْ وأذني سمعت، ولكن صبري يحتملهم إلى أن يهتدوا ويتوبوا، وإن لم يعودوا إليَّ أدينهم جميعًا« (ص 189). والنتيجة التي تجعل الكتاب يثور هو أنَّ الخليقة تخضع لله، »والجنس البشريّ وحده يخطأ« (ص 190). وهكذا يمكن أن تكون رؤ بو نداء إلى التوبة. أمام شرِّ البشر تظهر أناةُ الله وطولُ باله، وهو يتمهَّل قبل أن يعاقب (1 بط 3: 20).

بعد أن يُطرَح موضوع الشرِّ في هذا العالم، ينقلنا الكاتب إلى العالم الآخر. السماء أوَّلاً. وبولس لا يصل إلى السماء السابعة على مثال إبراهيم الذي التقى موسى هناك(9). بل يبقى في السماء الثالثة. ثمَّ الجحيم التي تُصوَّر بتفاصيل كثيرة وترتيب مسرحيّ مليء بالحياة. تقول رؤ بو: »حينئذٍ رأيتُ نهر نار يغلي، وفيه دخل عددٌ كبير من الرجال والنساء، بعضهم غطس حتّى الركبتين، وآخرون حتّى السرَّة، وآخرون حتّى الشفتين، وآخرون، أخيرًا، حتّى الشعر« (ص 212-213): هناك الفاترون، والمجادلون، وقاطعو الرجاء. ونذكر أحد العذابات: ونظرتُ أيضًا نهر النار: شاهدتُ فيه رجلاً أخذه بحلَقه ملائكة الجحيم(10) الماسكون في يدهم شوكة ثلاثيَّة الأسنان(11) يَثقبون بها أحشاء ذاك الشيخ. فسألتُ الملاك وقلتُ: »يا سيِّدي، من هو هذا الشيخ الذي يسومونه كلَّ هذه العذابات؟« فأجابني الملاك: »هذا الذي تراه كان كاهنًا لا يقوم بخدمته القيام الصحيح: يأكل ويشرب ويزني ساعة يقدِّمُ قربانَ الربِّ أمام مذبحه المقدَّس.« (ص 214-215).

وتتوالى العذابات لأهل الكبرياء والسحر والزنى والفجور. فيقول »بولس« مثلاً: »وشاهدتُ رجالاً آخرين ونساء معلَّقين بحواجب عيونهم وبشعرهم، يجرُّهم نهر نار. فقلت: »من هؤلاء يا ربّ؟« فقال لي: »هنَّ اللواتي ما استسلمن لأزواجهنَّ الأخصّاء (وهم الذين ما استسلموا لنسائهم) بل للزواني (والزانيات). لهذا فهم يكفِّرون بلا انقطاع العقوبات الخاصَّة بهم« (ص 217).

هي مسيرةُ النفوس من النفَس الأخير إلى المثول أمام الله، إلى المحاكمة والحكم مع تنفيذ الحكم. كلُّ هذا منظَّم بحسب منهجيَّة واضحة مع صفوف الملائكة بوظائفهم المحدَّدة والمتنوِّعة، من أجل المعذَّبين ومن أجل العائشين في سعادة مع الله.

دخلتْ نفسٌ إلى السماء، صرخ الملائكة في وجه هذه التعيسة وطلبوا أن تؤخذ عنهم بسبب نتانتها. »ثمَّ حُملت واقتيدت أمام وجه الله لعبادته: فدلَّها الملاك على الربِّ الإله الذي صنعها على صورته ومثاله. ولكن سبقها الملاك وقال: »أيُّها الربّ، أيُّها الإله القدير، أنا هو ملاك هذه النفس: أنا من كان يقدِّم لك أعمالها نهارًا وليلاً، ساعة لم تكن تتصرَّف بحسب أحكامك.« وقال الروح أيضًا: »أنا الروح الذي سكن فيها منذ يومٍ فيه خُلقت. عرفتُها في ذاتها، وما تبعَتْ مشيئتي، فأحكم عليها يا ربّ بحسب دينونتك.« حينئذٍ ردَّ كلام الله عليها وقال: »أين هو الثمر الذي أثمرتِ مقابل الخيرات التي نلتِ؟ هل عاملتُكِ يومًا بخلاف ما عاملتُ الأبرار؟ أما أشرقتُ شمسي عليكِ كما على البارّ؟ فصمتت النفس، وأُنشدت عدالة الله ودينونته (ص 197-198).

ما نلاحظ هو أنَّ تصوير عذابات الجحيم أوسع من الكلام عن الراحة في السماء. فهذه العذابات تدوم يومًا بعد يوم، وتلاحق الخاطئ نهارًا وليلاً. توسّل الناس إلى بولس وفي النهاية، سُمح لهم أن يرتاحوا يومًا في الأسبوع. سمع الله بكاء بولس وبكاء الملائكة، وعلى رأسهم ميخائيل.

وننهي كلامنا في هذا العرض بلقاء بولس مع العذراء مريم. قال: »وإذْ كنتُ بعدُ ناظرًا إلى الشجرة (= شجرة معرفة الخير والشرّ التي بها دخلَ الموت إلى العالم)، رأيت من بعيد صبيَّةً آتية مع مئتي ملاك يُنشدون المدائح أمامها. فسألتُ وقلتُ: »يا ربّ، من هي تلك الآتية في مثل هذا المجد؟« فقال لي: »هي العذراء مريم، أمُّ الربّ.« اقتربتْ منّي وحيَّتني وقالت: »سلام، يا بولس حبيب الله والملائكة والبشر. جميعُ القدّيسين رفعوا الصلاة إلى ابني يسوع الذي هو أيضًا ربّي، لكي تأتي هنا بلحمك وبعظمك، ولكي يشاهدوك قبل أن تترك العالم. فقال الربُّ لهم: ''انتظروا، اصبروا قليلاً! بعد وقتٍ قصير تشاهدونه، ويكون معكم إلى الأبديَّة.« (ص 226).

وواصلت مريم كلامها بأنَّ الأبرار طالبوا ببولس وإلاّ يكونون في حزن إذا هم لا يرونه قبل موته، لأنَّه احتمل المتاعب الصغيرة والكبيرة فأوصل إليهم البشارة. »ها هم جميعًا، هؤلاء الأبرار، وقد جاؤوا ورائي للقائك« (ص 227).

وهكذا دُوِّنَت رؤ بو لتتحدَّث عن عظمة هذا الرسول وما عمله في حياته على الأرض من أجل الملكوت. هو ما انتظر ساعة الموت لكي يكون مع الأبرار، بل مضى إليهم قبل موته، وتعرَّف إليهم واحدًا واحدًا، لأنَّهم ما عادوا يطيقون الابتعاد عنه.

2- انتشار رؤيا بولس

قلَّما عرف منحول من المنحولات الانتشار الذي عرفته رؤ بو. فهي النصّ الحقيقيّ الذي أسَّس الحياة الأخرى لدى المسيحيّين، والذي قدَّم للمخيَّلة الجماعيَّة لدى المؤمنين بالمسيح، مساحة »فردوسيَّة« ومساحة »جحيميَّة« مستعدَّتين لاستقبال أنفس الموتى.(12)

هذا المنحول الذي لم يدخل في لائحة الأسفار القانونيَّة، نال ما نالَتْه الأسفار المنحولة: حرَّمته السلطات الكنسيَّة وحاولت أن تُخفيه وتُلغيه، ولكنَّه عاد في أشكال مختلفة وفي لغات متعدِّدة. وها نحن نقدِّم بعضها، في الغرب ثمَّ في الشرق، قبل العودة في القسم ثالث إلى التقليد السريانيّ.

أ- في الغرب

نذكر هنا ما وصل إلينا في اليونانيَّة وفي اللاتينيَّة.

أوَّلاً: في اليونانيَّة

يبدو أنَّ هذا النصَّ دُوِّن أوَّل ما دُوِّن في اليونانيَّة، في سورية أو في مصر. ولكنَّ الباحثين يتطلَّعون بالأحرى إلى مصر وبالتحديد إلى الإسكندريَّة. فالمقاومة كانت شديدة بين الكنيسة »الرسميَّة« والكنيسة »المختفية«. فهذه أرادت أن يكون لها كتبُها، بمحاذاة الأسفار القانونيَّة كما نقرأها مثلاً في الكودكس الإسكندرانيّ الذي ضمَّ أسفار العهد القديم والعهد الجديد. وما يُسند كلامنا هو الاهتمام بالحياة الرهبانيَّة(13). أمّا البداية التي تُحدَّثنا عن »رجل محترم« عاش ويسكن في طرسوس، »في بيتٍ كان مسكنَ العريس بولس« (ص 187)، فهي خدعة أدبيَّة تسعى إلى ربط رؤ بو، لا بشخص بولس وحسب، بل بأرضٍ وُلد فيها وعاش طفولته.

ما نقرأ هنا لا يمكن أن يخدش آذان أبناء الكنيسة. كلُّ ما في الأمر هو أنَّنا في إطار غنوصيّ ترك لنا الكثير من الأدب، ولا سيَّما في نجع حمّادي.

ماذا نعرف من هذا الأصل اليونانيّ؟ لم يبقَ منه سوى مقطعٍ يتحدَّث عن الفردوس والخطيئة وصولاً إلى مريم العذراء (ص 225-227)(14). ولكن حُفظ لنا نصٌّ آخرُ أوجز وأُعيدت صياغتُه(15)، مع تقريظ بولس الرسول. نشره تيشندورف(16) سنة 1866. أمّا الأساس، فشاهدان اثنان معروفان. واحد يعود إلى القرن الثالث عشر(17)، وآخر هو نسخة عنه، ويعود إلى القرن السادس عشر(18).

تحدَّث أوريجان عن رؤ بو في كلام عن نسبة الرسالة إلى العبرانيّين، إلى بولس. فقال: تقبَّلت الكنيسة بطيبة خاطر عب فلماذا لا تُقبَل رؤ بو(19). كما أورد في شرحه للمزمور 36(20) مقطعًا شبيهًا بما في رؤ بو 13-14. هو بعض برهان بأنَّ رؤ بو رأت النور في مصر، بعد أن عرفها أوريجان الذي توفِّي في منتصف القرن الثالث المسيحيّ.

أمّا المؤرِّخ سوزومين(21) العائش في القرن الخامس، فندَّد بالطابع المنحول لهذا الكتيِّب، وأعلن بشكل خاصّ أنَّ مكانته كبيرة عند الرهبان.

ثانيًا: في اللاتينيَّة

عرف القدّيس أوغسطين رؤ بو وحكم عليها حكمًا لا استئناف فيه. قال: إنَّ الكنيسة المقدَّسة ترذل هذه الخدعة البليدة والمعتدَّة بنفسها، المملوءة بالخرافات. ونستطيع بحقٍّ أن نهزأ بهذه »الأقوال التي لا تُوصَف« والتي تواقح أحدُ المائتين وسجَّلها. وقال: »رؤ بو باطلة، والكنيسة لا تتقبَّلها على أنَّها صحيحة. ولستُ أعرفُ من ثبَّتها وهي مليئة بالخرافات، فدلَّ على البلادة والوقاحة.«(22)

ولكنّ رأيَ سيزاريو(23) الأرليزيّ جاء معاكسًا لرأي أوغسطين، فأورد مرَّتين عبارة مأخوذة من رؤ بو: عوائق العالم جعلتهم تعساء(24). هذا الراهب الذي صار أسقفًا فيما بعد، بدا وكأنَّه يرى في رؤ بو سفرًا قانونيٌّا مثل رؤيا يوحنّا الرسول.

بعد هذا، ماذا بقي لنا من مخطوطات لاتينيَّة؟ بقي شاهدٌ واحد عن الترجمة اللاتينيَّة الكاملة التي تتضمَّن الفصول 1-51(25) نشره جايمس سنة 1893 عن مخطوط المكتبة الوطنيَّة في باريس، العائد إلى القرن الثامن. وقدَّمت ثلاثة شهود أخرى أحداثًا مختارة من النسخة البدئيَّة primitive ف 14-29، 31-37، 39-44 في مخطوط سانت غالان(26). ثمَّ ف 18-23، 25-31. في مخطوط مدريد، الإسكوريال(27). ثمَّ ف 3-34 لمخطوط أوبانباري.(28)

أعيدَت صياغة مختصرة لما في Lat 1، مقابل ف 3-6 و11-51 (Lat 2)، فجاءت في مخطوطين اثنين: غراتس(29) ثمَّ زوريخ(30) وفي مقطع فندوبونانسيس(31) نشره سلفارستاين سنة 1935 (حاشية 26). هي Lat 2 F.

من Lat 1 تفرَّعت أيضًا اثنتا عشرة نسخة وسيطيَّة مختصرة، وأهمُّها 13 Lat (31) من الوجهة النصوصيَّة، التي نُشرت سنة 1988(32) تضمَّنت هذه النسخة في ترتيب مبتكر مختارات استلهمت أحداثًا من الزيارات إلى السماء الثالثة (ف 19)، إلى أمكنة الأبرار (ف 21-24، 26، 29) وإلى أمكنة الهالكين (ف 31، 33، 35، 38-40)، وأضافت تفاصيل جديدة حول مصير مختلف أصاب عشر راهبات، خمسًا فاضلات (المقطع 9 في Lat 13) وخمسًا حقيرات (المقطع 11 في Lat 13). أمّا النسخات العشر الأخرى (Lat 3-12) فتكتفي بما يتعلَّق بالجحيم في ف 31-44(33). وتضيف إسهابات جديدة مثل تنّين بارتيمون Parthemon (Lat 3-5، 9-01، 21) أو دولاب النار (Lat 6-7, 10, 12)، ووصْف وفاة ثلاثة رجال ودينونة نفوسهم في حضرة الله، مأخذوة من ف 14-18.

لا مجال للكلام عن الترجمات الغربيَّة الوسيطيَّة عن مختلف هذه النصوص اللاتينيَّة. فننتقل إلى الشرق مع العربيّ والأرمنيّ(34).

ب- في الشرق

نترك جانبًا القبطيّ(35) والحبشيّ(36)، ونتوقَّف عند العربيّ والأرمنيّ.

أوَّلاً: العربيّ

الترجمة العربيَّة الآتية من Syr 2 يتضمَّنها مخطوط باريسيّ آتٍ من مصر(37). نشره باوسي(38) سنة 1992.

يبدأ هذا المخطوط بملاحظة حول سيرة بولس (الوريقة 141 و- 141 ظ). ثمَّ إنَّ الناسخ ترك وريقتين بدون كتابة (166 ظ-167 و)، وهكذا سقط مقطع يبدأ في Lat 1 (P-StG) 41: »ابقَ بعيدًا، لأنَّك لا تستطيع أن تحتمل نتانة هذا الموضع.« وفي العربيّ: »ابقَ بعيدًا لأنَّك لا تستطيع أن تحتمل نتانة هذا الموضع Arab P وريقة 166و، وينتهي في »حين سمعتُ ذلك مددتُ يديَّ.« Lat 1 (P-StG) 42

وفي العربيّ: »لن يكون خلاص من هنا حتّى اليوم الذي فيه يريد الله العليّ« وريقة 761¨ Arab P. أيكون السبب بعض الإشكالات التي حرَّكتها هرطقات نالت توبيخًا في ف 41-42؟ ربَّما.

مقابل هذا. فالشاهد العربيّ يتوافق مع Syr 2 ليجعل حدث اكتشاف رؤ بو (ف 1-2) بعد ف 51، ويُنهي بدعوة إلى التوبة جاءت موجزة في النصِّ العربيّ Arab P. وهكذا نكون أمام خاصِّيَّة قد تعود إلى النصِّ الأصليّ في الترجمة السريانيَّة (Syr).

هنا يقول كاساي (حاشية 20، ص 24) بالنسبة إلى سر 2: »تُختَم الترجمتان السريانيّتان بخبر حول اختفاء رؤ بو تحت بيته في طرسوس، واكتشافها هناك، مع أنَّهما جعلتا الانتقال من الرؤية مختلفة بعض الشيء.(39)

ثانيًا: الأرمنيّ

وإذا أردنا إعادة النصِّ السريانيّ في سر2، نجد عناصر في أولى النسخات الأرمنيَّة (أرم 1-4). هذه النسخات نشرها ك. حراكيان(40) سنة 1904، منطلقًا من مخطوطات مختلفة وُجدت لدى الآباء الميخاتيريّين، ونقلها إلى الفرنسيَّة. ثمَّ نقلها إلى الفرنسيَّة أيضًا الأب لويس لالوار.

قدَّم أرم 1 ترتيبًا مبلبلاً، ف 7-24، ف 27-44 مع إدراج سبعة فصول إضافيَّة بين 40ج و41-42، كما أدرج بين 43 أ و40د مجموعة إضافيَّة من الهالكين.(42)

أ - أرم 1: 39: »المراؤون« الذين ارتدوا بتوليَّة كاذبة« عُلِّقوا بدولاب يدور حول اللهيب: النساء بشعورهنَّ، الرجال بأعقابهم.

أأ- أرم 1: 40: المتعجرفون الذين ارتكبوا الإثم عينها عُلِّقوا بدولاب ناريّ، الرجال بلسانهم والنساء بشعرهنَّ.

ب- أرم 1: 41: الرهبان الذين لم يراعوا نذر العفَّة، مضَغَهُم وحشٌ هائل.

ب ب- أرم 1: 42: الراهبات اللواتي ارتكبن الإثم عينه واللواتي أزلن أولادهنَّ، عضَّت الحيّات أثداءَهنَّ.

أأأ- أرم 1: 43 عذارى أخريات مراءات، حنثن بوعودهنَّ: جُعلنَ في بحر من جليد.

ج- أرم 1: 44: الشرهون الفاجرون. أكلهم دودٌ ناريّ.

د- أرم 1: 45: أهل الربى ضُربوا على وجوههم بشرارات ناريَّة، وعلى رؤوسهم بسوطٍ ملتهب.

ج ج- أرم 1: 47: الكهنة الشرهون والغاجرون، الذين احتفلوا بذبيحة الإفخارستيّا في حالة النجاسة، عُوقبوا بالنار حول »خبز مبلَّل بالدم«.

قد ننسب هذه الفئات الإضافيَّة من الهالكين ومن العقوبات، التي نجدها في مواضع أخرى من رؤ بو(43)، إلى مبادرة من المترجم الأرمنيّ أو من المؤلِّف(44). ولكنَّنا ملزَمون بإبعاد هذه الفرضيَّة، لأنَّنا نقرأ هذه العذابات عينها في العربيّ الباريسيّ بين 40ج وبين 40د.(45)

أ وأأ- عر.بار. وريقة 165و: سُلِّمتِ العذارى المراءات إلى ملائكة »يمسكونهنَّ برؤوسهنَّ وأسنانهنَّ في حركة مفاجئة (...) والطرح يجعلهنَّ يدرن على أنفسهنَّ.

ب- عر. بار. وريقة 165و- 165ظ: الزناة تعلكهم حيَّة هائلة.

ج- عر. بار. 165ظ الشرهون الفاجرون الذين خطئوا لأنَّهم شاركوا في ذبيحة الإفخارستيّا وهم في حالة النجاسة يعاقبون بالنار، ولا فرق بين رهبان وعوام. كلُّهم يجمعون حول خبزة »ولون هذه الخبزة كأنَّها مبلَّلة بالدم«.

3- التقليد السريانيّ

أ- بين العالم النسطوريّ والعالم اليعقوبيّ

ذكرنا سر1 وسر 2 في كلامنا عن »التقليدين العربيّ والأرمنيّ، لأنَّهما أُخذا منه.

أمّا سر 1 فهو النسخة السريانيَّة الشرقيَّة التي ترجمها بركينس(46) سنة 1864-1865 عن مخطوط أورميه (سر 1، u) ونشرها ريتشيوتّي(47) سنة 1932-1933، منطلقًا من مخطوطين وُجدا في المكتبة الفاتيكانيَّة:

السريانيّ 180 (سر 1، v)، السريانيّ البورجيانيّ 39 (سر 1، B)(48). حُذفت من هذا النصّ ف 44-47 بسبب الصعوبات التي حرَّكتها راحةُ يوم الأحد، المعطاة للهالكين (ف 44)، وبسبب اللقاء مع مريم العذراء في الفردوس.(49)

أما النسخة السريانيَّة الغربيَّة أو اليعقوبيَّة (سر 2) فما زالت مخطوطة مع أنَّه من الضروريّ نشرها(50). وفي أيِّ حال، نستطيع أن نعرف مضمون سر 2 بفضل الترجمة العربيَّة.

أمّا المخطوطات السريانيَّة في رؤ بو فهي عديدة، وها نحن نورد ما وُجد حتّى الآن(51):

1- فاتيكان سر 180، يعود ربَّما إلى القرن الرابع عشر.

2- فاتيكان بورجيا سر 39، يعود ربَّما إلى القرن السادس عشر.

3- فاتيكان سر 597، يعود ربَّما إلى القرن السابع عشر.

4- كمبريدج، مكتبة الجامعة، 2043، ربَّما القرن 17-18.

5- نيويورك، وحدة المعهد اللاهوتيّ، ربَّما القرن 18.

6- باريس، المكتبة الوطنيَّة، سر 352، سنة 1706 ب.م.

7- ألقوش، سيِّدة الزروع، شير 113(52) (فوستي 212). اليوم في الدورة، حوالي 1700 ب.م.

8- طهران، الأبرشيَّة الكلدانيَّة الكاثوليكيَّة، عيسايي 18= نعسان 8؛ سنة 1795 ب.م.

9- كمبريدج، مكتبة الجامعة، 2050، 1788 مسيحيَّة.

10- أورمية 42، سنة 1795 ب.م.

11- غوتنغن، مكتبة الدولة والجامعة، سر 1 (في الماضي، شرقيّ 18د). سنة 1870 ب.م.

12- برمنغام، سلّي أواكس كوليج، منغانا(53) سر 598. نُسحت سنة 1932 عن مخطوط ألقوش 212 (رقم 7).

13- نيويورك، جامعة كولومبيا، مكتبة بو تلر 893، 4، أ ت.3(54)

14- باريس، المكتبة الوطنيَّة، سر 377.

15- منتسّرات، دير القدّيسة مريم(55)، سر 24.

16- كمبريدج (ماس)، جامعة هارفارد مكتبة هوختون(56) سر 169 (2179).

17- نيوهافن. مكتبة الجمعيَّة الأميركيَّة الشرقيَّة Rn R32.

18- نيوهافن. مكتبة الجمعيَّة الأميركيَّة الشرقيَّة Rn R32b

أوردنا هذه المخطوطات لنبيِّن انتشار رؤ بو الواسع في السريانيَّة، ولم نميِّز بين ما هو سر 1 (نسطوريّ) وما هو سر 2 (يعقوبيّ). أُسرٌ عديدة تحتاج إلى درس من أجل تنظيمها. ولكن ما يجمعها هو أنَّ وحي بولس (ف 1-3) هو في نهاية رؤ بو لا في البداية، كما في سائر الترجمات.

وفي عدد من هذه المخطوطات، نجد مقدِّمة أو مرافعة (أبولوجيّا). هي لم تكن مجهولة، بعد أن عُرف شاهدٌ كامل في مخطوط سريانيّ نسطوريّ، في أورميه، وقد أُرسل إلى الجمعيَّة الأميركيَّة الشرقيَّة. لم يُنشَر النصّ بل ترجمته فقط.(57)

وُجدت هذه المقدِّمة في مخطوط عيسايي 18 (نعسان 8)، الرقم 8 في اللائحة (في طهران). هو المطران يوحنّا عيساوي رئيس أساقفة طهران. وفي منغانا (رقم 12)، وفي باريس (رقم 6)، وفي غوتنغن (رقم 11) سبق ونشرنا هذا النصّ(58)، ونحن نكتفي بتقديم بعض الملاحظات بشأنه.

ب- ملاحظات حول الدفاع

* بدأ النصُّ مع عبارة »أيُّها الأحبّاء«، ممَّ يدلُّ على أنَّنا أمام عظة. ولكن لماذا دُوِّنَ هذا الدفاع؟ لأنَّ بعض الناس شكُّوا في نسبة رؤ بو وفي حقيقة الرؤى التي تتضمَّن. قد نكون أمام مبادرة شخصيَّة، إلاَّ أنَّ الكاتب حدَّد تحديدًا دقيقًا الأسئلةَ التي طرحها المعارضون. فبحسب رقم 2، 3، 4 (أنا أبيِّن لكم... يا من تقولون إنَّه ليس حقيقيٌّا... ربُّنا بيَّن) ارتاب البعض أن يكون بولس استطاع أن يرى »ما يحصل لزرع المائتين بعد القيامة«. في أيِّ حال، هذا هو السؤال الرئيسيّ، لأنَّ النصَّ يبيِّن بأنَّ الأمرَ ممكن.

* هؤلاء »الأشرار« الذين يردُّ عليهم كاتبُ الدفاع، لا يرتابون في »الرؤى« البولسيَّة. »هم لا يعارضون الكتاب المقدَّس. فسفر الأعمال يقول لنا كم مرَّة رأى بولس الربّ، خصوصًا 2 كو 12: 1-4. ولكن طَرح بولسُ السؤال: هل رأى بجسده أم بغير جسده؟ فأجاب الدفاع: نفسه التي خرجت من الجسد. ويبقى السبب الأساسيّ: لا نستطيع أن نرى المجازاة قبل القيامة العامَّة والدينونة الأخيرة(59). هنا نفهم أهمَّيَّة هذا الجدال اللاهوتيّ. أمام إمكانيَّة التأثير على مصير الأنفس بالصلوات والتقدمات ومختلف الأجور الأبديَّة. تلك مواضيع نقرأها في رؤ بو، مع العلم أنَّ لا كلام عن المطهر: فالنفوس هي فقط في حالة انتظار.

* البراهين. الانطلاق يكون من الوحي المسيحيّ. بدأ الكاتب فحدَّد موقع الرؤى البولسيَّة في المناخ النبويّ، لسببين اثنين. أوَّلاً، بالنسبة إليه: لا تتمُّ مجازاة الأفراد إلاَّ مع قيامة الأموات العامَّة، أي في وقت الدينونة الأخيرة. هنا نتذكَّر أوريجان، معلِّم الإسكندريَّة. ثانيًا، إدراك الإنسان الذي يتمُّ حين يحصل في الآخرة. فالتعارض يوافق لاهوت ابن العبريّ الذي يبيِّن أنَّ »تمتُّعات العالم المقبل وعذاباته هي عقليَّة، لا محسوسة«(60). استند الدفاع إلى هذه النظرة ليجعل رؤ بو في موضعها الصحيح. هو لا يدافع عن رؤية جسديَّة مباشرة، بل يجيب أن الوحي حول الأمور الأخيرة هو ممكن، كما كان ممكنًا الوحي المُعطى للأنبياء حول المسيح الذي لم يَرَوه في الحقيقة. وهكذا يدافع عن رؤية من النمط النبويّ، في رموز تتيح له أن يُدرج رؤ بو في رسمة معروفة هي لاهوت السرّ .

قدَّم الدفاع برهانه، وختمَهُ في المقاطع 21-23 فقال: إنَّ الرموز (في السرّ) تعمل بحيث لا يكون تعَارض بين صور »نراها في ذاك الزمن« وحقائق التدبير المسيحيّ. فالأنبياء رأوا منذ عصرهم الصليب. ومثلهم رأى بولس ما يكون قبل القيامة. وجاء البرهان الأخير يهدِّد المتردِّدين: إذا كانوا لا يؤمنون بما تعلنه رؤ بو في مجال غفران الخطايا وتخفيف العذابات، فسوف يعاقبون بلا شفقة بحسب تهديد رؤ بو.

هذا الدفاع ظهر في المحيط النسطوريّ، فالتقى مع عدد من النصوص السريانيَّة ولا سيَّما »مغارة الكنوز« المنسوبة إلى أفرام، ثمَّ سؤال مار سمعان كيفا حول المعموديَّة، ثمَّ وصيَّة آدم... في إطار الجدال حول المجازاة في الآخرة، بدءًا من القرن الثالث عشر وصولاً إلى القرن السابع عشر أو الثامن عشر، تبدو رؤ بو مرجعًا تاريخيٌّا مع مراجع أخرى، لا كتابًا على هامش المسيحيَّة.(61)

الخاتمة

مسيرة طويلة سرناها لنكتشف بعض ما في رؤ بو. نقطة الانطلاق كانت نص 2 كو 12: 1-4. وهكذا انطلق بولس إلى السماء فرأى مكافأة الأبرار، وإلى الجحيم فشاهد عذابات الخطأة على اختلاف خطاياهم. نصّ يونانيّ انتقل إلى أكثر من لغة وحمل معه فكرًا لاهوتيٌّا متشعِّبًا بحسب المحيط الذي وصل إليه. لم نطرح الإطار اللاتينيّ الذي تقبَّل رؤ بو، وما تَكشّف خلال النصوص من نظرات لاهوتيَّة. بل توقَّفنا عند العالم السريانيّ، ولا سيّما النسطوريّ منه، فاكتشفنا جدالاً لاهوتيٌّا حول مجازاة الأبرار في العالم الآتي وأهميَّة الصلاة والتقادم. من هذا المنطلق لن نقدر أن نتكلَّم عن رؤ بو وكأنَّها سفر منحول، بل كأنَّها نصّ لاهوتيّ استند إليه المفكِّرون ليُسندوا لاهوتًا عمليٌّا يتوجَّه إلى الرهبان كما إلى العوام من الناس.

 
قديم 27 - 03 - 2024, 01:29 PM   رقم المشاركة : ( 155745 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,116

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة





رؤيا بولس ولا سيَّما في التقليد السريانيّ

عرفتِ الكنيسة في بداياتها كتبًا جُعلت في موازاة الكتب المقدَّسة: أناجيل عديدة بموازاة الأربعة التي هي وحدها قانونيَّة، بمعنى أنَّها تُقدِّم القاعدةَ للإيمان والحياة الخلقيَّة: الإنجيل بحسب مريم، إنجيل نيقوديموس أو أعمال بيلاطس، الإنجيل بحسب توما، بروتوإنجيل يعقوب، إنجيل الطفولة. وعُرفت »أعمال« هذا الرسول أو ذاك، قبالة سفر الأعمال الذي دوَّنه لوقا وجعله امتدادًا للإنجيل الثالث. في الإنجيل لبث يسوع في فلسطين. وفي أعمال الرسل، وصلت البشارة إلى أقاصي الأرض ولا سيَّما في الفريق البولسيّ. فكانت لنا أعمال أندراوس الرسول وأعمال يوحنّا وأعمال بطرس وأعمال فيلبُّس وأعمال توما... وجاءت الرسائل وأخيرًا أسفار الرؤيا على مثال رؤيا يوحنّا، إن لم يكن في خطِّ أسفار العهد القديم بدءًا من إشعيا وصولاً إلى دانيال وشخصيّات بيبليَّة مثل إيليّا وأخنوخ وغيرهما.

كلُّ هذا أدب »مكتوم« عن العامَّة ومخفيّ، ومحفوظ »للكمّال«. وقد دُعيَ الأدب المنحول لدى الذين من خارج هذا الأدب، لأنَّهم اعتبروا أنَّ مثل هذه الكتابات انتحلت صفة، أخذت صفة ليست لها، بل هي خاصَّة بأسفار العهد الجديد السبعة والعشرين التي أقرَّتها الكنيسة بشكل نهائيّ في مجامعها ولا سيَّما في ترنتو، من أعمال إيطاليا(1).

هذا الأدب الذي كان »مكتومًا«، صار اليوم معروفًا بعد أن نُقل إلى لغات العالم ومنها العربيَّة(2). وارتبطَ، بغير حق، بالرسل في الدرجة الأولى، كما ارتبط ببعض الأشخاص الذين يذكرهم الإنجيل بشكل خاصّ، والكتابُ المقدَّس بشكل عامّ. في هذا المناخ، نقرأ أعمال بولس وبرنابا وتيموتاوس وتيطس ورسالة ثالثة إلى الكورنثيِّين. كما نقرأ رسالة إلى اللاودكيّين بدا الرسول وكأنَّه يتحدَّث عنها في الرسالة إلى كولوسّي (كو 4: 17). وكما كان ليوحنّا الرسول »رؤيا« دُوِّنت في نهاية القرن الأوَّل المسيحيّ، كان لبولس أيضًا سفرٌ مشابه: »رؤيا بولس« أو: »جليان« كما في الأدب السريانيّ، دُوِّنت »في منتصف القرن الثالث، بل في الثلث الأخير من القرن الثاني«(3). لا نتكلَّم في هذا المقال عن »أعمال بولس« التي »ذُكرت مرَّات عديدة في الأدب المسيحيّ القديم، منذ هيبوليت الرومانيّ وبداية القرن الثالث، والتي دُوِّنت في السنوات 160-180 (امتداد، ص 5) وعُرف منها لدى العامَّة ما يتعلَّق بتقلا، تلك الفتاة »الإيقونية«(4) التي تركت الزواج وتزوَّجت البتوليَّة بعد أن قال الرسول في خطِّ يسوع المسيح: »طوبى للذين يحفظون عفَّة جسدهم، لأنَّهم يكونون هياكل الله. طوبى للأعفّاء لأنَّ الله يتحدَّث معهم« (امتداد، ص 24). بل نحصر كلامنا في »رؤيا بولس« التي عرفت انتشارًا واسعًا وفي لغات الكنيسة القديمة: الأرمنيَّة، العربيَّة، السريانيَّة، اللاتينيَّة...

في قسم أوَّل، نتعرَّف إلى هذه »الرؤيا«. وفي قسم ثانٍ، نلاحقها في اللغات التي وصلت إليها. وأخيرًا، نتوقَّف عند العالم السريانيّ الذي أحسَّ بالخطر يهدِّد هذا »السفر« الذي اعتبرته بعض الجماعات »مقدَّسًا«، فقدَّم دفاعًا قال فيه: »فليعرف كلُّ من يرتاب برؤيا بولس الموقَّر، أنَّه لن تكون ذبيحة لغفران الخطايا« (امتداد، ص 239).
 
قديم 27 - 03 - 2024, 01:29 PM   رقم المشاركة : ( 155746 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,116

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة





خُطفتُ إلى السماء الثالثة

هكذا تبدأ »رؤ بولس«، مستندة إلى نصِّ الرسالة الثانية إلى كورنتوس: »أعرفُ رجلاً مؤمنًا بالمسيح خُطف قبل أربع عشرة سنة إلى السماء الثالثة. أبجسده؟ لا أعلم. أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله يعلم. وإنَّما أعلم أنَّ هذا الرجل خُطف إلى الفردوس وهناك سمع كلامًا لا يقدر بشرٌ أن ينطق به ولا يجوزُ له أن يذكره« (2 كو 12: 2-5).

أوردتُ نصَّ الرسالة لأشدِّد على اثنين. أوَّلاً، لا يعلم الرسول إن هو خُطف بجسده أم بدون جسده؟ وهذا أمرٌ هامٌّ في التقليد اليونانيّ، المرتبط خصوصًا بأفلاطون. فالنفس تعيش في عالم المثُل، في الأعالي، ويمكن أن يظنَّ الكورنثيّون أنَّ رسولهم كان هناك. أمّا بولس، فهو لا يعرف. ولكن كاتب رؤ بو يعرف: خُطف الرسول بجسده، ورأى بعينيه البشريَّتين وسمع بأذنيه كما اعتاد أن يسمع على الأرض.

رأى في السماء »سكّان« السماء، الأبرار. أخنوخ، كاتب البرّ (ص 201) وإيليّا الذي تذكَّر الصعوبات التي قاساها لكي يصل إلى هنا. قال: »عظيمةٌ مواعيد الله ولكنَّ الكثيرين لا يفهمونها« (ص 202). واللافت هو أنَّ الجميع يستقبلون بولس، لا كضيف آتٍ إليهم، بل كشخص أعظم منهم. ويخبرنا »بولس« كيف مضى »إلى حاضرة المسيح«. قال: »أصعدني (الملاك) في قارب ذهبيّ، مع ثلاثة آلاف ملاك يسيرون أمامي إلى أن وصلتُ إلى حاضرة المسيح. فاستقبلني سكّانُ حاضرة المسيح بفرح عظيم« (ص 205).

والأمر الثاني: قال بولس في 2 كو إنَّ بشرًا لا يقدر أن ينطق بما رأى. بل لا يحقُّ له. ولكنَّ »بولس« في رؤ بو أخبرنا بكلِّ ما رأى وسمع. ذاك ما ذُكر في رؤ بو. قال الملاك: »ما أبيِّنه لك الآن، ما تسمعُ، لا تكشفْه لأحد على الأرض.« وأردف الرائي: »سمعتُ هناك أقوالاً لا يحقُّ لأحد أن يتفوَّه بها« (ص 202).

إلى أين خُطف بولس؟ إلى السماء، وإلى الجحيم. وإلى هناك تبعه دانتي في الكوميديا الإلهيَّة(5). دانتي، شأنه شأن إينه، مضى بجسده إلى الجحيم، إلى الأسافل حيث الموتى يكونون. وهو استوحى إحدى النسخات العصر الوسيطيَّة، في اللاتينيَّة، ليروي ما روى. أمّا رؤ بو فاستفادت من تقاليد عديدة حملتها اليهوديَّة، كما المسيحيَّة. نذكر على سبيل المثال صعود إشعيا(6) وما حملته الأخبار اليهوديَّة عن هذا النبيّ الذي نُشر بمنشار مع الشجرة التي أقام فيها. كما نذكر رؤيا إبراهيم(7) الذي رأى في ما رأى، آدم وحوّاء والحيَّة ومختلف أشكال الشرِّ من زنى وسرقة وعبادة أوثان.

وما كانت رؤ بو وحدها. فقد سبقتها رؤيا يوحنّا (كتاب قانونيّ)، ورافقتها رؤيا بطرس (رؤ بط). فرؤيا يوحنّا »رسمت« مصير الكنيسة ساعة اقتراب نهاية الأزمنة، من مجيء ثانٍ ودينونة أخيرة. أمّا رؤ بط فقدَّمت المحاولة الأولى لإلقاء الضوء على مصير كلِّ إنسان بعد النهاية: »بعد ذلك، يأتي الرجال والنساء إلى المكان الذي يستحقُّون. يعلَّقون بلسانهم الذي به جدَّفوا على طريق البرّ، ويمدَّدون على نار لا تنطفئ من أجل عقابهم«.(8)

أمّا رؤ بو فتمتدُّ في الزمان والمكان: تُذكَر الشمس والقمر والكواكب، والبحر والمياه والأرض، وذلك قبل الصعود إلى السماء. وذُكرت هذه الأمكنة، وكأنَّها أشخاص حيَّة تتَّهم البشر الخاطئين، وتطلب العدالة من عند الله. أو بالأحرى تَطلب منه أن يسمح لها لكي تفعل. قالت الشمس: »اتركني فأفعل« (ص 188). أترى الربّ غافلاً؟ كلاّ. فهو يقول في كلِّ حالة: »عرفتُ كلَّ هذا، عيني رأتْ وأذني سمعت، ولكن صبري يحتملهم إلى أن يهتدوا ويتوبوا، وإن لم يعودوا إليَّ أدينهم جميعًا« (ص 189). والنتيجة التي تجعل الكتاب يثور هو أنَّ الخليقة تخضع لله، »والجنس البشريّ وحده يخطأ« (ص 190). وهكذا يمكن أن تكون رؤ بو نداء إلى التوبة. أمام شرِّ البشر تظهر أناةُ الله وطولُ باله، وهو يتمهَّل قبل أن يعاقب (1 بط 3: 20).

بعد أن يُطرَح موضوع الشرِّ في هذا العالم، ينقلنا الكاتب إلى العالم الآخر. السماء أوَّلاً. وبولس لا يصل إلى السماء السابعة على مثال إبراهيم الذي التقى موسى هناك(9). بل يبقى في السماء الثالثة. ثمَّ الجحيم التي تُصوَّر بتفاصيل كثيرة وترتيب مسرحيّ مليء بالحياة. تقول رؤ بو: »حينئذٍ رأيتُ نهر نار يغلي، وفيه دخل عددٌ كبير من الرجال والنساء، بعضهم غطس حتّى الركبتين، وآخرون حتّى السرَّة، وآخرون حتّى الشفتين، وآخرون، أخيرًا، حتّى الشعر« (ص 212-213): هناك الفاترون، والمجادلون، وقاطعو الرجاء. ونذكر أحد العذابات: ونظرتُ أيضًا نهر النار: شاهدتُ فيه رجلاً أخذه بحلَقه ملائكة الجحيم(10) الماسكون في يدهم شوكة ثلاثيَّة الأسنان(11) يَثقبون بها أحشاء ذاك الشيخ. فسألتُ الملاك وقلتُ: »يا سيِّدي، من هو هذا الشيخ الذي يسومونه كلَّ هذه العذابات؟« فأجابني الملاك: »هذا الذي تراه كان كاهنًا لا يقوم بخدمته القيام الصحيح: يأكل ويشرب ويزني ساعة يقدِّمُ قربانَ الربِّ أمام مذبحه المقدَّس.« (ص 214-215).

وتتوالى العذابات لأهل الكبرياء والسحر والزنى والفجور. فيقول »بولس« مثلاً: »وشاهدتُ رجالاً آخرين ونساء معلَّقين بحواجب عيونهم وبشعرهم، يجرُّهم نهر نار. فقلت: »من هؤلاء يا ربّ؟« فقال لي: »هنَّ اللواتي ما استسلمن لأزواجهنَّ الأخصّاء (وهم الذين ما استسلموا لنسائهم) بل للزواني (والزانيات). لهذا فهم يكفِّرون بلا انقطاع العقوبات الخاصَّة بهم« (ص 217).

هي مسيرةُ النفوس من النفَس الأخير إلى المثول أمام الله، إلى المحاكمة والحكم مع تنفيذ الحكم. كلُّ هذا منظَّم بحسب منهجيَّة واضحة مع صفوف الملائكة بوظائفهم المحدَّدة والمتنوِّعة، من أجل المعذَّبين ومن أجل العائشين في سعادة مع الله.

دخلتْ نفسٌ إلى السماء، صرخ الملائكة في وجه هذه التعيسة وطلبوا أن تؤخذ عنهم بسبب نتانتها. »ثمَّ حُملت واقتيدت أمام وجه الله لعبادته: فدلَّها الملاك على الربِّ الإله الذي صنعها على صورته ومثاله. ولكن سبقها الملاك وقال: »أيُّها الربّ، أيُّها الإله القدير، أنا هو ملاك هذه النفس: أنا من كان يقدِّم لك أعمالها نهارًا وليلاً، ساعة لم تكن تتصرَّف بحسب أحكامك.« وقال الروح أيضًا: »أنا الروح الذي سكن فيها منذ يومٍ فيه خُلقت. عرفتُها في ذاتها، وما تبعَتْ مشيئتي، فأحكم عليها يا ربّ بحسب دينونتك.« حينئذٍ ردَّ كلام الله عليها وقال: »أين هو الثمر الذي أثمرتِ مقابل الخيرات التي نلتِ؟ هل عاملتُكِ يومًا بخلاف ما عاملتُ الأبرار؟ أما أشرقتُ شمسي عليكِ كما على البارّ؟ فصمتت النفس، وأُنشدت عدالة الله ودينونته (ص 197-198).

ما نلاحظ هو أنَّ تصوير عذابات الجحيم أوسع من الكلام عن الراحة في السماء. فهذه العذابات تدوم يومًا بعد يوم، وتلاحق الخاطئ نهارًا وليلاً. توسّل الناس إلى بولس وفي النهاية، سُمح لهم أن يرتاحوا يومًا في الأسبوع. سمع الله بكاء بولس وبكاء الملائكة، وعلى رأسهم ميخائيل.

وننهي كلامنا في هذا العرض بلقاء بولس مع العذراء مريم. قال: »وإذْ كنتُ بعدُ ناظرًا إلى الشجرة (= شجرة معرفة الخير والشرّ التي بها دخلَ الموت إلى العالم)، رأيت من بعيد صبيَّةً آتية مع مئتي ملاك يُنشدون المدائح أمامها. فسألتُ وقلتُ: »يا ربّ، من هي تلك الآتية في مثل هذا المجد؟« فقال لي: »هي العذراء مريم، أمُّ الربّ.« اقتربتْ منّي وحيَّتني وقالت: »سلام، يا بولس حبيب الله والملائكة والبشر. جميعُ القدّيسين رفعوا الصلاة إلى ابني يسوع الذي هو أيضًا ربّي، لكي تأتي هنا بلحمك وبعظمك، ولكي يشاهدوك قبل أن تترك العالم. فقال الربُّ لهم: ''انتظروا، اصبروا قليلاً! بعد وقتٍ قصير تشاهدونه، ويكون معكم إلى الأبديَّة.« (ص 226).

وواصلت مريم كلامها بأنَّ الأبرار طالبوا ببولس وإلاّ يكونون في حزن إذا هم لا يرونه قبل موته، لأنَّه احتمل المتاعب الصغيرة والكبيرة فأوصل إليهم البشارة. »ها هم جميعًا، هؤلاء الأبرار، وقد جاؤوا ورائي للقائك« (ص 227).

وهكذا دُوِّنَت رؤ بو لتتحدَّث عن عظمة هذا الرسول وما عمله في حياته على الأرض من أجل الملكوت. هو ما انتظر ساعة الموت لكي يكون مع الأبرار، بل مضى إليهم قبل موته، وتعرَّف إليهم واحدًا واحدًا، لأنَّهم ما عادوا يطيقون الابتعاد عنه.
 
قديم 27 - 03 - 2024, 01:30 PM   رقم المشاركة : ( 155747 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,116

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة





انتشار رؤيا بولس

قلَّما عرف منحول من المنحولات الانتشار الذي عرفته رؤ بو. فهي النصّ الحقيقيّ الذي أسَّس الحياة الأخرى لدى المسيحيّين، والذي قدَّم للمخيَّلة الجماعيَّة لدى المؤمنين بالمسيح، مساحة »فردوسيَّة« ومساحة »جحيميَّة« مستعدَّتين لاستقبال أنفس الموتى.(12)

هذا المنحول الذي لم يدخل في لائحة الأسفار القانونيَّة، نال ما نالَتْه الأسفار المنحولة: حرَّمته السلطات الكنسيَّة وحاولت أن تُخفيه وتُلغيه، ولكنَّه عاد في أشكال مختلفة وفي لغات متعدِّدة. وها نحن نقدِّم بعضها، في الغرب ثمَّ في الشرق، قبل العودة في القسم ثالث إلى التقليد السريانيّ.

أ- في الغرب

نذكر هنا ما وصل إلينا في اليونانيَّة وفي اللاتينيَّة.

أوَّلاً: في اليونانيَّة

يبدو أنَّ هذا النصَّ دُوِّن أوَّل ما دُوِّن في اليونانيَّة، في سورية أو في مصر. ولكنَّ الباحثين يتطلَّعون بالأحرى إلى مصر وبالتحديد إلى الإسكندريَّة. فالمقاومة كانت شديدة بين الكنيسة »الرسميَّة« والكنيسة »المختفية«. فهذه أرادت أن يكون لها كتبُها، بمحاذاة الأسفار القانونيَّة كما نقرأها مثلاً في الكودكس الإسكندرانيّ الذي ضمَّ أسفار العهد القديم والعهد الجديد. وما يُسند كلامنا هو الاهتمام بالحياة الرهبانيَّة(13). أمّا البداية التي تُحدَّثنا عن »رجل محترم« عاش ويسكن في طرسوس، »في بيتٍ كان مسكنَ العريس بولس« (ص 187)، فهي خدعة أدبيَّة تسعى إلى ربط رؤ بو، لا بشخص بولس وحسب، بل بأرضٍ وُلد فيها وعاش طفولته.

ما نقرأ هنا لا يمكن أن يخدش آذان أبناء الكنيسة. كلُّ ما في الأمر هو أنَّنا في إطار غنوصيّ ترك لنا الكثير من الأدب، ولا سيَّما في نجع حمّادي.

ماذا نعرف من هذا الأصل اليونانيّ؟ لم يبقَ منه سوى مقطعٍ يتحدَّث عن الفردوس والخطيئة وصولاً إلى مريم العذراء (ص 225-227)(14). ولكن حُفظ لنا نصٌّ آخرُ أوجز وأُعيدت صياغتُه(15)، مع تقريظ بولس الرسول. نشره تيشندورف(16) سنة 1866. أمّا الأساس، فشاهدان اثنان معروفان. واحد يعود إلى القرن الثالث عشر(17)، وآخر هو نسخة عنه، ويعود إلى القرن السادس عشر(18).

تحدَّث أوريجان عن رؤ بو في كلام عن نسبة الرسالة إلى العبرانيّين، إلى بولس. فقال: تقبَّلت الكنيسة بطيبة خاطر عب فلماذا لا تُقبَل رؤ بو(19). كما أورد في شرحه للمزمور 36(20) مقطعًا شبيهًا بما في رؤ بو 13-14. هو بعض برهان بأنَّ رؤ بو رأت النور في مصر، بعد أن عرفها أوريجان الذي توفِّي في منتصف القرن الثالث المسيحيّ.

أمّا المؤرِّخ سوزومين(21) العائش في القرن الخامس، فندَّد بالطابع المنحول لهذا الكتيِّب، وأعلن بشكل خاصّ أنَّ مكانته كبيرة عند الرهبان.

ثانيًا: في اللاتينيَّة

عرف القدّيس أوغسطين رؤ بو وحكم عليها حكمًا لا استئناف فيه. قال: إنَّ الكنيسة المقدَّسة ترذل هذه الخدعة البليدة والمعتدَّة بنفسها، المملوءة بالخرافات. ونستطيع بحقٍّ أن نهزأ بهذه »الأقوال التي لا تُوصَف« والتي تواقح أحدُ المائتين وسجَّلها. وقال: »رؤ بو باطلة، والكنيسة لا تتقبَّلها على أنَّها صحيحة. ولستُ أعرفُ من ثبَّتها وهي مليئة بالخرافات، فدلَّ على البلادة والوقاحة.«(22)

ولكنّ رأيَ سيزاريو(23) الأرليزيّ جاء معاكسًا لرأي أوغسطين، فأورد مرَّتين عبارة مأخوذة من رؤ بو: عوائق العالم جعلتهم تعساء(24). هذا الراهب الذي صار أسقفًا فيما بعد، بدا وكأنَّه يرى في رؤ بو سفرًا قانونيٌّا مثل رؤيا يوحنّا الرسول.

بعد هذا، ماذا بقي لنا من مخطوطات لاتينيَّة؟ بقي شاهدٌ واحد عن الترجمة اللاتينيَّة الكاملة التي تتضمَّن الفصول 1-51(25) نشره جايمس سنة 1893 عن مخطوط المكتبة الوطنيَّة في باريس، العائد إلى القرن الثامن. وقدَّمت ثلاثة شهود أخرى أحداثًا مختارة من النسخة البدئيَّة primitive ف 14-29، 31-37، 39-44 في مخطوط سانت غالان(26). ثمَّ ف 18-23، 25-31. في مخطوط مدريد، الإسكوريال(27). ثمَّ ف 3-34 لمخطوط أوبانباري.(28)

أعيدَت صياغة مختصرة لما في Lat 1، مقابل ف 3-6 و11-51 (Lat 2)، فجاءت في مخطوطين اثنين: غراتس(29) ثمَّ زوريخ(30) وفي مقطع فندوبونانسيس(31) نشره سلفارستاين سنة 1935 (حاشية 26). هي Lat 2 F.

من Lat 1 تفرَّعت أيضًا اثنتا عشرة نسخة وسيطيَّة مختصرة، وأهمُّها 13 Lat (31) من الوجهة النصوصيَّة، التي نُشرت سنة 1988(32) تضمَّنت هذه النسخة في ترتيب مبتكر مختارات استلهمت أحداثًا من الزيارات إلى السماء الثالثة (ف 19)، إلى أمكنة الأبرار (ف 21-24، 26، 29) وإلى أمكنة الهالكين (ف 31، 33، 35، 38-40)، وأضافت تفاصيل جديدة حول مصير مختلف أصاب عشر راهبات، خمسًا فاضلات (المقطع 9 في Lat 13) وخمسًا حقيرات (المقطع 11 في Lat 13). أمّا النسخات العشر الأخرى (Lat 3-12) فتكتفي بما يتعلَّق بالجحيم في ف 31-44(33). وتضيف إسهابات جديدة مثل تنّين بارتيمون Parthemon (Lat 3-5، 9-01، 21) أو دولاب النار (Lat 6-7, 10, 12)، ووصْف وفاة ثلاثة رجال ودينونة نفوسهم في حضرة الله، مأخذوة من ف 14-18.

لا مجال للكلام عن الترجمات الغربيَّة الوسيطيَّة عن مختلف هذه النصوص اللاتينيَّة. فننتقل إلى الشرق مع العربيّ والأرمنيّ(34).

ب- في الشرق

نترك جانبًا القبطيّ(35) والحبشيّ(36)، ونتوقَّف عند العربيّ والأرمنيّ.

أوَّلاً: العربيّ

الترجمة العربيَّة الآتية من Syr 2 يتضمَّنها مخطوط باريسيّ آتٍ من مصر(37). نشره باوسي(38) سنة 1992.

يبدأ هذا المخطوط بملاحظة حول سيرة بولس (الوريقة 141 و- 141 ظ). ثمَّ إنَّ الناسخ ترك وريقتين بدون كتابة (166 ظ-167 و)، وهكذا سقط مقطع يبدأ في Lat 1 (P-StG) 41: »ابقَ بعيدًا، لأنَّك لا تستطيع أن تحتمل نتانة هذا الموضع.« وفي العربيّ: »ابقَ بعيدًا لأنَّك لا تستطيع أن تحتمل نتانة هذا الموضع Arab P وريقة 166و، وينتهي في »حين سمعتُ ذلك مددتُ يديَّ.« Lat 1 (P-StG) 42

وفي العربيّ: »لن يكون خلاص من هنا حتّى اليوم الذي فيه يريد الله العليّ« وريقة 761¨ Arab P. أيكون السبب بعض الإشكالات التي حرَّكتها هرطقات نالت توبيخًا في ف 41-42؟ ربَّما.

مقابل هذا. فالشاهد العربيّ يتوافق مع Syr 2 ليجعل حدث اكتشاف رؤ بو (ف 1-2) بعد ف 51، ويُنهي بدعوة إلى التوبة جاءت موجزة في النصِّ العربيّ Arab P. وهكذا نكون أمام خاصِّيَّة قد تعود إلى النصِّ الأصليّ في الترجمة السريانيَّة (Syr).

هنا يقول كاساي (حاشية 20، ص 24) بالنسبة إلى سر 2: »تُختَم الترجمتان السريانيّتان بخبر حول اختفاء رؤ بو تحت بيته في طرسوس، واكتشافها هناك، مع أنَّهما جعلتا الانتقال من الرؤية مختلفة بعض الشيء.(39)

ثانيًا: الأرمنيّ

وإذا أردنا إعادة النصِّ السريانيّ في سر2، نجد عناصر في أولى النسخات الأرمنيَّة (أرم 1-4). هذه النسخات نشرها ك. حراكيان(40) سنة 1904، منطلقًا من مخطوطات مختلفة وُجدت لدى الآباء الميخاتيريّين، ونقلها إلى الفرنسيَّة. ثمَّ نقلها إلى الفرنسيَّة أيضًا الأب لويس لالوار.

قدَّم أرم 1 ترتيبًا مبلبلاً، ف 7-24، ف 27-44 مع إدراج سبعة فصول إضافيَّة بين 40ج و41-42، كما أدرج بين 43 أ و40د مجموعة إضافيَّة من الهالكين.(42)

أ - أرم 1: 39: »المراؤون« الذين ارتدوا بتوليَّة كاذبة« عُلِّقوا بدولاب يدور حول اللهيب: النساء بشعورهنَّ، الرجال بأعقابهم.

أأ- أرم 1: 40: المتعجرفون الذين ارتكبوا الإثم عينها عُلِّقوا بدولاب ناريّ، الرجال بلسانهم والنساء بشعرهنَّ.

ب- أرم 1: 41: الرهبان الذين لم يراعوا نذر العفَّة، مضَغَهُم وحشٌ هائل.

ب ب- أرم 1: 42: الراهبات اللواتي ارتكبن الإثم عينه واللواتي أزلن أولادهنَّ، عضَّت الحيّات أثداءَهنَّ.

أأأ- أرم 1: 43 عذارى أخريات مراءات، حنثن بوعودهنَّ: جُعلنَ في بحر من جليد.

ج- أرم 1: 44: الشرهون الفاجرون. أكلهم دودٌ ناريّ.

د- أرم 1: 45: أهل الربى ضُربوا على وجوههم بشرارات ناريَّة، وعلى رؤوسهم بسوطٍ ملتهب.

ج ج- أرم 1: 47: الكهنة الشرهون والغاجرون، الذين احتفلوا بذبيحة الإفخارستيّا في حالة النجاسة، عُوقبوا بالنار حول »خبز مبلَّل بالدم«.

قد ننسب هذه الفئات الإضافيَّة من الهالكين ومن العقوبات، التي نجدها في مواضع أخرى من رؤ بو(43)، إلى مبادرة من المترجم الأرمنيّ أو من المؤلِّف(44). ولكنَّنا ملزَمون بإبعاد هذه الفرضيَّة، لأنَّنا نقرأ هذه العذابات عينها في العربيّ الباريسيّ بين 40ج وبين 40د.(45)

أ وأأ- عر.بار. وريقة 165و: سُلِّمتِ العذارى المراءات إلى ملائكة »يمسكونهنَّ برؤوسهنَّ وأسنانهنَّ في حركة مفاجئة (...) والطرح يجعلهنَّ يدرن على أنفسهنَّ.

ب- عر. بار. وريقة 165و- 165ظ: الزناة تعلكهم حيَّة هائلة.

ج- عر. بار. 165ظ الشرهون الفاجرون الذين خطئوا لأنَّهم شاركوا في ذبيحة الإفخارستيّا وهم في حالة النجاسة يعاقبون بالنار، ولا فرق بين رهبان وعوام. كلُّهم يجمعون حول خبزة »ولون هذه الخبزة كأنَّها مبلَّلة بالدم«.

3- التقليد السريانيّ

أ- بين العالم النسطوريّ والعالم اليعقوبيّ

ذكرنا سر1 وسر 2 في كلامنا عن »التقليدين العربيّ والأرمنيّ، لأنَّهما أُخذا منه.

أمّا سر 1 فهو النسخة السريانيَّة الشرقيَّة التي ترجمها بركينس(46) سنة 1864-1865 عن مخطوط أورميه (سر 1، u) ونشرها ريتشيوتّي(47) سنة 1932-1933، منطلقًا من مخطوطين وُجدا في المكتبة الفاتيكانيَّة:

السريانيّ 180 (سر 1، v)، السريانيّ البورجيانيّ 39 (سر 1، B)(48). حُذفت من هذا النصّ ف 44-47 بسبب الصعوبات التي حرَّكتها راحةُ يوم الأحد، المعطاة للهالكين (ف 44)، وبسبب اللقاء مع مريم العذراء في الفردوس.(49)

أما النسخة السريانيَّة الغربيَّة أو اليعقوبيَّة (سر 2) فما زالت مخطوطة مع أنَّه من الضروريّ نشرها(50). وفي أيِّ حال، نستطيع أن نعرف مضمون سر 2 بفضل الترجمة العربيَّة.

أمّا المخطوطات السريانيَّة في رؤ بو فهي عديدة، وها نحن نورد ما وُجد حتّى الآن(51):

1- فاتيكان سر 180، يعود ربَّما إلى القرن الرابع عشر.

2- فاتيكان بورجيا سر 39، يعود ربَّما إلى القرن السادس عشر.

3- فاتيكان سر 597، يعود ربَّما إلى القرن السابع عشر.

4- كمبريدج، مكتبة الجامعة، 2043، ربَّما القرن 17-18.

5- نيويورك، وحدة المعهد اللاهوتيّ، ربَّما القرن 18.

6- باريس، المكتبة الوطنيَّة، سر 352، سنة 1706 ب.م.

7- ألقوش، سيِّدة الزروع، شير 113(52) (فوستي 212). اليوم في الدورة، حوالي 1700 ب.م.

8- طهران، الأبرشيَّة الكلدانيَّة الكاثوليكيَّة، عيسايي 18= نعسان 8؛ سنة 1795 ب.م.

9- كمبريدج، مكتبة الجامعة، 2050، 1788 مسيحيَّة.

10- أورمية 42، سنة 1795 ب.م.

11- غوتنغن، مكتبة الدولة والجامعة، سر 1 (في الماضي، شرقيّ 18د). سنة 1870 ب.م.

12- برمنغام، سلّي أواكس كوليج، منغانا(53) سر 598. نُسحت سنة 1932 عن مخطوط ألقوش 212 (رقم 7).

13- نيويورك، جامعة كولومبيا، مكتبة بو تلر 893، 4، أ ت.3(54)

14- باريس، المكتبة الوطنيَّة، سر 377.

15- منتسّرات، دير القدّيسة مريم(55)، سر 24.

16- كمبريدج (ماس)، جامعة هارفارد مكتبة هوختون(56) سر 169 (2179).

17- نيوهافن. مكتبة الجمعيَّة الأميركيَّة الشرقيَّة Rn R32.

18- نيوهافن. مكتبة الجمعيَّة الأميركيَّة الشرقيَّة Rn R32b

أوردنا هذه المخطوطات لنبيِّن انتشار رؤ بو الواسع في السريانيَّة، ولم نميِّز بين ما هو سر 1 (نسطوريّ) وما هو سر 2 (يعقوبيّ). أُسرٌ عديدة تحتاج إلى درس من أجل تنظيمها. ولكن ما يجمعها هو أنَّ وحي بولس (ف 1-3) هو في نهاية رؤ بو لا في البداية، كما في سائر الترجمات.

وفي عدد من هذه المخطوطات، نجد مقدِّمة أو مرافعة (أبولوجيّا). هي لم تكن مجهولة، بعد أن عُرف شاهدٌ كامل في مخطوط سريانيّ نسطوريّ، في أورميه، وقد أُرسل إلى الجمعيَّة الأميركيَّة الشرقيَّة. لم يُنشَر النصّ بل ترجمته فقط.(57)

وُجدت هذه المقدِّمة في مخطوط عيسايي 18 (نعسان 8)، الرقم 8 في اللائحة (في طهران). هو المطران يوحنّا عيساوي رئيس أساقفة طهران. وفي منغانا (رقم 12)، وفي باريس (رقم 6)، وفي غوتنغن (رقم 11) سبق ونشرنا هذا النصّ(58)، ونحن نكتفي بتقديم بعض الملاحظات بشأنه.

ب- ملاحظات حول الدفاع

* بدأ النصُّ مع عبارة »أيُّها الأحبّاء«، ممَّ يدلُّ على أنَّنا أمام عظة. ولكن لماذا دُوِّنَ هذا الدفاع؟ لأنَّ بعض الناس شكُّوا في نسبة رؤ بو وفي حقيقة الرؤى التي تتضمَّن. قد نكون أمام مبادرة شخصيَّة، إلاَّ أنَّ الكاتب حدَّد تحديدًا دقيقًا الأسئلةَ التي طرحها المعارضون. فبحسب رقم 2، 3، 4 (أنا أبيِّن لكم... يا من تقولون إنَّه ليس حقيقيٌّا... ربُّنا بيَّن) ارتاب البعض أن يكون بولس استطاع أن يرى »ما يحصل لزرع المائتين بعد القيامة«. في أيِّ حال، هذا هو السؤال الرئيسيّ، لأنَّ النصَّ يبيِّن بأنَّ الأمرَ ممكن.

* هؤلاء »الأشرار« الذين يردُّ عليهم كاتبُ الدفاع، لا يرتابون في »الرؤى« البولسيَّة. »هم لا يعارضون الكتاب المقدَّس. فسفر الأعمال يقول لنا كم مرَّة رأى بولس الربّ، خصوصًا 2 كو 12: 1-4. ولكن طَرح بولسُ السؤال: هل رأى بجسده أم بغير جسده؟ فأجاب الدفاع: نفسه التي خرجت من الجسد. ويبقى السبب الأساسيّ: لا نستطيع أن نرى المجازاة قبل القيامة العامَّة والدينونة الأخيرة(59). هنا نفهم أهمَّيَّة هذا الجدال اللاهوتيّ. أمام إمكانيَّة التأثير على مصير الأنفس بالصلوات والتقدمات ومختلف الأجور الأبديَّة. تلك مواضيع نقرأها في رؤ بو، مع العلم أنَّ لا كلام عن المطهر: فالنفوس هي فقط في حالة انتظار.

* البراهين. الانطلاق يكون من الوحي المسيحيّ. بدأ الكاتب فحدَّد موقع الرؤى البولسيَّة في المناخ النبويّ، لسببين اثنين. أوَّلاً، بالنسبة إليه: لا تتمُّ مجازاة الأفراد إلاَّ مع قيامة الأموات العامَّة، أي في وقت الدينونة الأخيرة. هنا نتذكَّر أوريجان، معلِّم الإسكندريَّة. ثانيًا، إدراك الإنسان الذي يتمُّ حين يحصل في الآخرة. فالتعارض يوافق لاهوت ابن العبريّ الذي يبيِّن أنَّ »تمتُّعات العالم المقبل وعذاباته هي عقليَّة، لا محسوسة«(60). استند الدفاع إلى هذه النظرة ليجعل رؤ بو في موضعها الصحيح. هو لا يدافع عن رؤية جسديَّة مباشرة، بل يجيب أن الوحي حول الأمور الأخيرة هو ممكن، كما كان ممكنًا الوحي المُعطى للأنبياء حول المسيح الذي لم يَرَوه في الحقيقة. وهكذا يدافع عن رؤية من النمط النبويّ، في رموز تتيح له أن يُدرج رؤ بو في رسمة معروفة هي لاهوت السرّ .

قدَّم الدفاع برهانه، وختمَهُ في المقاطع 21-23 فقال: إنَّ الرموز (في السرّ) تعمل بحيث لا يكون تعَارض بين صور »نراها في ذاك الزمن« وحقائق التدبير المسيحيّ. فالأنبياء رأوا منذ عصرهم الصليب. ومثلهم رأى بولس ما يكون قبل القيامة. وجاء البرهان الأخير يهدِّد المتردِّدين: إذا كانوا لا يؤمنون بما تعلنه رؤ بو في مجال غفران الخطايا وتخفيف العذابات، فسوف يعاقبون بلا شفقة بحسب تهديد رؤ بو.

هذا الدفاع ظهر في المحيط النسطوريّ، فالتقى مع عدد من النصوص السريانيَّة ولا سيَّما »مغارة الكنوز« المنسوبة إلى أفرام، ثمَّ سؤال مار سمعان كيفا حول المعموديَّة، ثمَّ وصيَّة آدم... في إطار الجدال حول المجازاة في الآخرة، بدءًا من القرن الثالث عشر وصولاً إلى القرن السابع عشر أو الثامن عشر، تبدو رؤ بو مرجعًا تاريخيٌّا مع مراجع أخرى، لا كتابًا على هامش المسيحيَّة.(61)

الخاتمة

مسيرة طويلة سرناها لنكتشف بعض ما في رؤ بو. نقطة الانطلاق كانت نص 2 كو 12: 1-4. وهكذا انطلق بولس إلى السماء فرأى مكافأة الأبرار، وإلى الجحيم فشاهد عذابات الخطأة على اختلاف خطاياهم. نصّ يونانيّ انتقل إلى أكثر من لغة وحمل معه فكرًا لاهوتيٌّا متشعِّبًا بحسب المحيط الذي وصل إليه. لم نطرح الإطار اللاتينيّ الذي تقبَّل رؤ بو، وما تَكشّف خلال النصوص من نظرات لاهوتيَّة. بل توقَّفنا عند العالم السريانيّ، ولا سيّما النسطوريّ منه، فاكتشفنا جدالاً لاهوتيٌّا حول مجازاة الأبرار في العالم الآتي وأهميَّة الصلاة والتقادم. من هذا المنطلق لن نقدر أن نتكلَّم عن رؤ بو وكأنَّها سفر منحول، بل كأنَّها نصّ لاهوتيّ استند إليه المفكِّرون ليُسندوا لاهوتًا عمليٌّا يتوجَّه إلى الرهبان كما إلى العوام من الناس.
 
قديم 27 - 03 - 2024, 01:32 PM   رقم المشاركة : ( 155748 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,116

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة






طيف بولس في الأدب المنحول

هذا الذي أطلق الرسالة من قوقعتها في أورشليم فجعل مركز القيادة في أنطاكية بانتظار أن يصبح رومة.

هذا الذي حمل الإنجيل الذي دعاه إنجيله فوصل به إلى آسية الصغرى، إلى أوروبّا وكم تمنّى أن يصل إلى إسبانيا.

هذا الذي كتب أولى كلمات العهد الجديد، لا في آراميَّة فلسطين وإلاّ كانت كتاباته ماتت كما ماتت اللغة الآراميَّة المحكيَّة في هذا الشرق.

هذا الذي نقل فكر يسوع مع أنَّه لم يرَ يسوع بالجسد، إلى اللغة اليونانيَّة والحضارة اليونانيَّة، فوصل هذا الفكر إلى العالم المعروف آنذاك واحتلَّ قلب رومة.

هذا الذي ترك الرسائل العديدة التي دوَّنها بيده أو بيد تلاميذه، أيحتاج بعدُ أن يُكتب عنه أو تنسب إليه رسائل عديدة؟

نعم. نسبت إليه رسالة ثالثة إلى الكورنثيّين ورسالة إلى اللاودكيّين وربَّما إلى الإسكندريّين. ومع أنَّ لوقا الإنجيليّ كرَّس له ثلاثة أرباع سفر الأعمال، فقد كان لنا أعمال بولس(1) في قسم مع تقلا وفي قسم آخر بموازاة ما قالت لنا أعمال الرسل. وما اكتفى التقليد بهذا، بل جعل على اسم بولس رؤيا(2) على مثال رؤيا يوحنّا القانونيَّة(3)، وعلى مثال رؤيا بطرس(4) المنحولة.

لن نتكلَّم هنا عن هذه الآثار، بعد أن صدرت في كتاب عنوانه امتداد الأدب البولسيّ في الأسفار المنحولة(5)، بل نحاول أن نكتشف »طيف« بولس في هذه الآثار، بل الصورة التي أرادت هذه الكتابات أن تقدِّم لنا.

صورة بولس في هذه الكتابات هي صورة بولس كما نعرفه في الرسائل وفي سفر الأعمال، ولكنَّه لبسَ وجهًا غنوصيٌّا مع تشديد على الصلاة والصوم والامتناع عن الزواج وعن شرب الخمر حتّى في القدّاس بحيث يحلُّ الماء محلَّ الخمر. وهي صورة بطرس ويوحنّا، في خطِّ ما عرفه سفر الأعمال بشكل خاصّ. وأخيرًا، صورة بولس هي صورة يسوع. أمّا السؤال: لماذا هذه الكتابات المنحولة تجاه الأسفار القانونيَّة وهي كافية جدٌّا لكي تعطينا صورة عن يسوع وعن التعليم، الذي حمله العهد الجديد؟ فالجواب: هناك ردَّة فعل على السلطة في الكنيسة والعقاب الذي ينتظرها في رؤيا بولس واضح. كما أنَّ هنالك إرادة بأن يكون للغنوصيَّة وغيرها كتب مقدَّسة كما للكنيسة المنظَّمة حيث يسير عمل الروح، وحيث يكونُ للمرأة المكانة التي لا نعرفها إلاّ قليلاً في الأناجيل، لولا إنجيل لوقا، والتي نالت نصيبها من الامتداد البولسيّ في رسائل مثل تيموتاوس الأولى ومن توسَّع بولس بعد بولس في الرسائل الأولى إلى كورنتوس.

1- بولس وبولس

حين نقرأ سفر الأعمال، يظهر لنا طيف بولس منذ الفصل السابع. فهو حاضر عند مقتل إسطفانس. لدى ذاك الفتى الذي اسمه العبريّ شاول »وضع الشهود ثيابهم أمانة« (اع 7: 58). بل كان رجم إسطفانس حلقة من اضطهاد الكنيسة (أع 8: 1-3)، وكأنَّ ذاك الذي سيكون رسولاً، بدأ يخاصم يسوع إلى أن جندله يسوعُ على طريق دمشق. وإذا جعلنا جانبًا أع 10-11، يتكرَّس سفر الأعمال كلُّه تقريبًا للكلام عن بولس، عن الرحلات الرسوليَّة حتّى وصوله إلى رومة مقيَّدًا، ولكنَّ الإنجيل كان حرٌّا (أع 28: 30-31).

من سفر الأعمال انطلق أعمال بولس فجعلنا نرافق الرسول من دمشق حيث وجد التلاميذ »مستغرقين في الصوم«(6) وهو في المخافة. إلى أنطاكية حيث كانت المحاكمة الأولى والطرد من المدينة بعد أن رموا الرسول بالحجارة وطردوه من المدينة.(7) ذاك ما حصل لبولس كما يروي أعمال الرسل (14: 19) وإذ وصل بولس إلى إيقونيوم (أو إيقونية)، بدأ الخصوم يلاحقونه. تذكُر أعمال بولس شخصين سوف يكونان في رفقة بولس في نهاية حياته: ديماس الذي كان تلميذه الحبيب (كو 4: 14؛ فلم 24) ثمَّ تركه »حبٌّا بالعالم« (2 تم 4: 10). وهرموجينيس الذي ترك بولس مع فيجلُّس (2 تم 1: 15)، فمثَّل نفسه ومثَّل أيضًا اسكندر الحدّاد (2 تم 4: 14) الذي جاء اسمه مع ديماس وهرموجينيس في مخطوطين لاتينيَّين.(8)

في لسترة، كان الناس ينتظرون بولس، كما وصفه لهم تيطس: »رجل قصير القامة، لا شعر في رأسه، ساقان مقوَّستان، شديد البأس، حاجبان مضمومان، أنف معقوف بعض الشيء، مملوء لطافة. تارة بدا بشكل إنسان، وطورًا كان وجهه وجه ملاك.«(9)

هكذا نعرفه في الإيقونوغرافيا وهكذا عرفه أونسيفورس واستقبله في بيته. ومضى بولس إلى أنطاكية بسيدية. وما نلاحظ هو أنَّ رفيقه لا يكون برنابا، ذاك الرجل الذي أرسلته أورشليم باسمها لكي يرى تقدُّم الرسالة التي بدت وكأنَّ الأمور أفلتت من يد كنيسة أورشليم، بل تقلا التي ما نالت العماد بعد.(10)

نلاحظ منذ البداية وجود المرأة في أع بو بينما عدد النساء قليل في سفر الأعمال: ليدية مع بعض النسوة (أع 16: 13-15) في فيلبّي، داماريس في أثينة (أع 17: 34)، برسكلَّة زوجة أكيلا في كورنتوس (أع 18: 2). أمّا في أع بو فدور تقلا مهمٌّ جدًا في التبشير وفي التعميد. ما عمَّدها بولس فعمَّدت نفسها. فقالت لبولس: »نلتُ المعموديَّة. فالذي عمل فيك من أجل الإنجيل، عمل فيَّ أيضًا لكي أعمَّد.« وهكذا بدا السؤال مطروحًا: »أما يحقُّ للمرأة أن تمنحَ سرَّ العماد؟« والجواب هو نعم في أع بو.(11) فبولس وافق على ما فعلته تقلا مع أنَّ الإنسان لا يحقُّ له أن يعمِّد نفسه. ثمَّ أرسلها تبشِّر، كما أرسل يسوع تلاميذه. قالت لبولس: »أنا ماضية إلى إيقونيوم.« فأجابها بولس: »امضِ وعلِّمي كلام الله.«(12) كلام بولس هو امتداد لكلام يسوع. طلب الربُّ من رجل أن يتبعه، فقال له: »دعني أذهب أوَّلاً وأدفن أبي.« فقال له يسوع: »اترك الموتى يدفنون موتاهم. وأمّا أنت فاذهب وبشِّر بملكوت الله« (لو 9: 59-60). وفي هذا ردٌّ على تيّار بولسيٍّ جاء بعد بولس: »فلتصمت نساؤكم في الكنائس، فلا يجوز لهنَّ التكلُّم« (1 كو 14: 34). ولكن إذا كان الله نجّى تقلا من الموت، فلكي يرسلها لكي تحمل الإنجيل.(13)

ومع تقلا تُذكَر نساء عديدات: أمُّها تيوقليا. ثمَّ تريفانيا التي استقبلت تقلا قبل أن تُرمى للوحوش. وفلكونيلاّ ابنة تريفانيا التي توفِّيت ولكنَّها لبثت حاضرة في حياة أمِّها. والنساء اللواتي ساعدن تقلا بالعطورِ بحيث تخدَّرت الحيوانات، وما اكتفين بأن يبكين فقط على مثال نساء أورشليم اللواتي »كنَّ يلطمن صدورهنَّ وينحن عليه (على يسوع)« (لو 23: 27). وفي النهاية، امتدحت النسوة الله الذي نجّى تقلا.(14)

أمّا الأغابّي أو عشاء المحبَّة الذي يذكِّرنا بالعشاء السرّيّ، فما هيَّأه في أع بو، تلميذان من تلاميذ يسوع، بل امرأتان هم لاما الأرملة وابنتها أميا، وهما تبعتا بولس كما التلاميذ تبعوا يسوع.(15)

في أفسس حيث أتى بولس ورُميَ للوحوش، في خطِّ ما أشار إليه هو في الرسالة الأولى إلى كورنتوس (15: 2: صارعتُ الوحوش)، كانت بقربه امرأتان: أرتيميلاّ امرأة جيروم حاكم المدينة، وأوبولا زوجة ديوفانتوس الذي حرَّره جيروم. أمّا أوبولا هذه فكانت »تلميذة بولس، فتبقى جالسة لدى الرسل ليلاَ ونهارًا.« هكذا كانت مريمُ أختُ مرتا (لو 10: 39). وكما كان يوسف الرامي تلميذ يسوع (يو 19: 38)، كذلك كانت أوبولا.(16)

وفي كورنتوس حصل لبولس ما يرويه سفر الأعمال ممّا حصل له في قيصريَّة. أمّا النبيّ فكان أغابوس (أع 21: 11ي). أمّا في أع بو فهي نبيَّة اسمها ميرتي التي وعظت في الإخوة، ثمَّ وزَّعت الخبز.(17) أتراها تعمل ما يعمل الكهنة؟

أمّا المناخ الذي تجرى فيه حياة بولس فهو مناخ الصوم والصلاة دون أن ننسى الدموع. حين كان »الشبّان والشابّات يأتون بالحطب والقشِّ لإحراق تقلا«،(18) كان بولس صائمًا مع أونيسيفورس. ولبث صائمًا أيّامًا كثيرة إلى أن جاع الأولاد. فقال أحدهم لتقلا التي كانت تبحث عن يسوع: »بولس يبكي بسببك، ويصلّي ويصوم منذ ستَّة أيّام حتّى الآن.« وبعد أيّام الصوم، نالت الجماعة النعمة المطلوبة، فصلّى بولس إلى الربّ: »أنا أباركك، لأنَّك استجبت طلبتي وسمعتَ لي« (امتداد، ص 33).

وصام لونجنس حين رأى أنَّ ابنته فرونتين ميتة. وأمُّها كانت بجانبها واسمها فيرميلا. ولكنَّ بولس أقامها كما سبق يسوع فأقام ابنة يائيرس رئيس المجمع، الذي لا يُذكر اسم امرأته ولا اسم ابنته (امتداد، ص 72). ففي فيلبّي حُكم على بولس بالموت كما نقرأ في الرسالة إلى أهل فيلبّي (فل 1: 12-14) ولكنَّه نجا. فأُرسل إلى الأشغال الشاقَّة في المناجم ونجا أيضًا »فصارت دموع بولس انفراجًا« (امتداد، ص 73). ولكنَّ الخطر الكبير الآتي، هو انطلاق بولس إلى رومة. قال الرسول: »أيُّها الإخوة، اجتهدوا في الصوم وفي المحبَّة. فها أنا ماضٍ إلى أتون النور« (امتداد، ص 73). فبواسطة »هذا الصوم الثمين« يكون الربُّ معي. يواصل أع بو كلامه عن جماعة كورتنوس الذين »كانوا مكتئبين وصائمين« (امتداد، ص 74). وما نلاحظ هو أنَّ هذا الصوم يسبق عشاء الربّ. هذا ما نقرأ في الصفحة عينها (صنع بولس قربانًا) كما بعد إقامة فرنتين (امتداد، ص 72). أمّا الطعام بعد نجاة تقلا فهو »خمسة أرغفة وبقول وماء«.(19) فلا وجود للخمر في هذه الجماعة. وعشاء الربِّ نفسه يُصنع بالماء لا بالخمر.

مثلُ هذا الكلام نقرأه في أعمال فيلبُّس الذي لا يهتمُّ بالطعام المادّيّ بل بطعام الروح(20) p. EACI, 1232)) وهكذا يحافظ على حرِّيَّته. ويقول لنفسه: »لا تبحثي عن الأطعمة لكي تنالي العزم.« وما نقوله عن الطعام، نقوله عن الزواج. ذاك ما حصل بعد خطبة توما في أعمال توما، حيث رفض العروسان أن يتجامعا. بالنسبة إلى العروس، هي تطلب »العريس الذي لا يفسد والذي ظهر لي في هذه الليلة«.(21) أمّا العريس فامتدح الربَّ لأنَّه »أبعده عن الفساد«. نحن هنا في إطار المتعفِّفين الذين يرفضون الزواج. هذا ما يجعلنا في إطار غنوصيّ عرفته مثلاً الرسالة الأولى إلى تيموتاوس التي تتحدَّث عن »مرائين كذّابين اكتوت ضمائرهم فماتت، ينهون عن الزواج وعن أنواع من الأطعمة خلقها الله« (1 تم 4: 2-3). لا شكَّ في أنَّ تقلا رفضت الزواج في مثل هذا المناخ، حين سمعت كلامًا قاله بولس، مشابهًا »لعظة الجبل«: »طوبى للذين يحفظون عفَّة جسدهم، لأنَّهم يكونون هياكل الله.« طوبى للأعفّاء لأنَّ الله يتحدَّث معهم. طوبى للذين تخلُّوا عن هذا العالم لأنَّهم يرضون الله. طوبى للذين لهم نساء كأنَّ لا نساء لهم، لأنَّهم يكونون وارثي الله«.(22) فما يقابل العفَّة هو النجاسة، فماذا يختار المؤمن والمؤمنة من أجل اتِّباع بولس أو اتِّباع المسيح؟

بولس هو بولس كما نعرفه في الرسائل، ولا سيَّما خلال الرحلات الرسوليَّة. ولكنَّه نال قدرة عجيبة هو والذين معه، بحيث لم يعد إنسانًا، بل شبيهًا بالله. يعرف كلَّ شيء، يفعل كلَّ شيء، ولا يقف في وجهه عائق. ثمَّ هو وحده، ولا علاقة له برسول من الرسل ولا بتلميذ من التلاميذ. هو البداية وهو النهاية في الرسالة. أما يكون هو يسوع المسيح؟ تلك مسألة نصل إليها بعد أن نرى القرابة بينه من جهة، وبين بطرس ويوحنّا من جهة أخرى.

2- بولس، بطرس ويوحنّا

حين نقرأ أعمال الرسل، نلاحظ أنَّ كاتبها القدّيس لوقا أراد أن يقدِّم توازيًا بين بطرس وبولس. بطرس أقام كسيحًا عند الباب الجميل في الهيكل (أع 3: 1ي)، وبولس أيضًا قال لرجل عاجز كسيح في لسترة: »قُمْ وقِفْ منتصبًا على رجليك« (أع 14: 10). بطرس أقام طابيتة (أع 9: 40) على مثال ما فعل الربُّ مع ابنة يائيرس (مر 5: 41، طليتا قومي)، ومثله فعل بولس حين أقام أفتيخوس الذي سقط من الكوَّة في ترواس (أع 20: 10-12). وإذا كان الناس ينتظرون أن يمرَّ خيالُ بطرس على المرضى لكي يُشفَوا (أع 5: 15)، كذلك كان الأمر بالنسبة إلى بولس. »صار الناس يأخذون إلى مرضاهم ما لامس جسده من مناديل أو مآزر، فتزول الأمراض عنهم« (أع 19: 12).

هذه القرابة بين بطرس وبولس حاضرة في أع بو وموسَّعة أيضًا. ولكن نقص بولس أن يكون له كتاب رؤيا كما هو الأمر بالنسبة إلى رؤيا يوحنّا ورؤيا بطرس. لهذا، قدَّم لنا الأدب المنحول رؤيا بولس.

رؤيا بولس وُلدت في منتصف القرن الثالث، إن لم يكن في الثلث الأخير من القرن الثاني. إذًا هي قريبة من الأسفار القانونيَّة التي امتَّد بعضها إلى الربع الأوَّل من القرن الثاني.(23) ونقطة الانطلاق ما قاله الرسول عن نفسه في الرسالة الثانية إلى كورنتوس: »أعرفُ رجلاً مؤمنًا بالمسيح خُطف قبل أربع عشرة سنة إلى السماء الثالثة، أبجسده؟ لا أعلم. أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله يعلم. وإنَّما أعلم أنَّ هذا الرجلَ خُطف إلى الفردوس: أبجسده أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله يعلم. أعلمُ أنَّه خُطف إلى الفردوس وهناك سمع كلامًا لا يقدر بشرٌ أن ينطق به، ولا يجوز له أن يذكره« (2 كو 12: 2-4).

ما عرف الرسول أخُطف بالجسد أو بغير الجسد. أمّا رؤ بو فأكَّدت أنَّه خُطف بالجسد على ما حصل لإبراهيم في رؤيا إبراهيم.(24) وهكذا ضاع المعنى الروحيّ لنصِّ الرسالة البولسيَّة. ثمَّ هو سمع كلامًا لا يحقُّ لبشر أن ينطق به، ومع ذلك، توسَّع رؤ بو في هذا الكلام.

في هذه الرؤيا، تُطرَح مسألة الشرّ في العالم، ممّا يجعل الخليقة تتذمَّر لدى الله. يبدأ الرسول كلامه: »إذ كنتُ في جسدي، خُطفتُ إلى السماء الثالثة وتوجَّه إليَّ كلامُ الربِّ كما يلي: »قلْ لهذا الشعب إلى متى تمضون في خور الهمَّة فتضيفون خطيئة على خطيئة؟« (امتداد، ص 188). وبدأت الشمس تشتكي ثمَّ القمر والنجوم، والمياه والأرض. كان جواب الربِّ طول الأناة. قال: »أعرفُ الكلّ، وما من أحد يقدر أن يُخفي خطيئته، ولكنَّ قداستي تحتملهم كما هم إلى أن يهتدوا ويتوبوا. لكن إن لم يرجعوا إليَّ أدينهم« (امتداد، ص 190).

وبدأت الدينونة ورأى بولس فئات الناس يدانون، بحيث ما أُفلت أحد. أصحاب الجدالات العقيمة، الأساقفة، الشمامسة، القارئون. هذا على مستوى الكنيسة بمراتبها. ثمَّ يأتي المرابون والسحرة والزناة وقاتلو الأولاد والهراطقةُ والوثنيّون. وخلال مسيرة بولس يلتقي مثلاً بأخنوخ وإيليّا وغيرهما من الآباء.

فرح بولس حين التقى بالأبرار، وبالأحرى فرحوا هم حين رأوه. فهو أرفع منهم. قال الرسول: »عبرتُ أبواب الفردوس، وحين دخلتُ أتى شيخ نحوي، وجهه مشعٌّ مثل الشمس، فضمَّني وقال لي: »سلام، يا بولس حبيب الله.« وقبلني بوجه فرح«. وسأل بولس: »من هو هذا يا سيِّدي؟« فأجاب الملاك: »هو أخنوخ كاتب البر« (ص 201). ويواصل بولس كلامه: »رأيتُ إيليّا الذي حيّاني في الحال بالفرح والبهجة« (ص 202). وسوف يرى بولس الأنبياء مثل أشعيا وإرميا وحزقيال... (ص 207) الذين حيُّوه. وأطفال بيت لحم، ثمَّ إبراهيم وإسحاق ويعقوب... (ص 208).

وفي وقت من الأوقات تلتقي رؤ بو مع رؤ يوحنّا: »شاهدتُ الأربعة والعشرين شيخًا والأحياء الأربعة ساجدين قدّام الله« (ص 222)، هذا ما يعيدنا إلى رؤية العرش في السماء كما تحدَّث عنه يوحنّا (رؤ 4: 4-8). هم يهتفون أمام العرش. وبولس أيضًا سمعهم، كما تقول رؤ بو، وظهر وجه الفردوس، وتتوزَّع رؤ بو في الفردوس الذي يجمع الفردوس الأرضيّ وأرض الميعاد مع السماء. هناك نهر العسل ونهر اللبن، هناك المنشدون ليلاً ونهارًا وعلى رؤوسهم الأكاليل.

أجل، خطف الروح يوحنّا فسمع صوتًا قويٌّا يقول: »اكتب ما تراه« (رؤ 1: 10-11). وكذلك بولس. قيل له ما لا يكتب وما يكتب. تحدَّث يوحنّا عن الكنيسة في قلب الاضطهاد وعن مصيرها في نهاية الزمن. أمّا بولس فخرج من الزمن ليرى حياة الناس على ضوء الأبديَّة. ففي نداء بولس، دعوة إلى التوبة، وتنبيه إلى مختلف الفئات في الحياة الدينيَّة والاجتماعيَّة. وصوَّر بولس السماء حتّى الطبقة الثالثة، وصوَّر الأسافل بما فيها من رذائل وما ينال الناسُ هناك من عقوبات. وفي أيِّ حال، هو يسير على رأس شعب الله في العهد الجديد، في تواصل مع العهد القديم برفقة الآباء والأنبياء.

هذا السفَر إلى الآخرة يجعلنا في إطار غنوصيّ مع إشارة إلى حياة الرهبان الذين ينشدون هللويا الذي هو لفظ عبريّ يخصُّ الله والملائكة (ص 211) وهناك توسُّع في صورة الفردوس حيث يقيم أهل التوبة والعفَّة والإماتة. قال الملاك لبولس: »ما تشاهد الآن هو نصيب الزوجين اللذين حفظا العفَّة والطهارة خلال الزواج. أمّا للبتولين الذين جاعوا وعطشوا إلى البرّ، الذين أماتوا أجسادهم باسم الربّ، فالله يمنحهم سبعة أضعاف أكثر من هذا« (ص 204).

تلك مقابلة مع رؤيا يوحنّا. وهناك مقابلة ثانية مع رؤيا بطرس. ما زال الباحثون يتساءلون: هل رؤ بو سبقت رؤ بط، أم العكس هو الصحيح؟(25) هنا نتذكَّر أنَّ رؤ بو التي دوِّنت في نهاية القرن الثاني أو بداية القرن الثالث، ليست موجودة كلُّها في اليونانيَّة. بل وصلت إلينا في القبطيَّة واللاتينيَّة والسريانيَّة والأرمنيَّة، ممّا يعني أنَّ النصَّ الأخير قد يكون نال التصحيحات ولا سيَّما حين يذكر الرهبان العائشين في مصر، لأنَّ النصَّ الأصليّ، على ما يبدو، تكوَّن في مصر وبشكل خاصٍّ في الإسكندريَّة.

حاولت رؤ بط أن تضيء على مصير كلِّ إنسان، وارتبطت بشكل خاصٍّ بالرحمة التي بها يعامل الله الخطأة. هذه الوجهة لا تكون واضحة في رؤ بو الذي يُفهمه الملاكُ عدالةَ الله قبل كلِّ شيء. عرف بطرس مصيره: »ها أنا كشفتُ لك يا بطرس وشرحتُ لك كلَّ شيء. امضِ إلى المدينة التي تُشرف على الغرب واشربِ الكأس التي وعدتُك بها من يدي ابن ذاك الذي هو في الأسافل لكي يبدأ بالزوال. أمّا أنت فمختار بسبب الوعد الذي وعدتُك. فبسلام، قمْ بإعلان اسمي في العالمِ كلِّه، بحيث يبتهج. فينبوع أقوالي رجاء حياة، وفجأة خُطف العالم كلُّه.«(26) وانتهت رؤ بط على الجبل المقدَّس، كما في مشهد التجلّي حيث يكون يسوع مع موسى وإيليّا.

مع بطرس ويوحنّا يبدأ سفر الأعمال. في الهيكل وشفاء الكسيح، أمام المجلس اليهوديّ، وفي السجن قبل أن تصلّي الكنيسة من أجلهما (أع 4: 23).

فهل يكون بولس أقلَّ منهما؟ بل هو يتفوَّق، أو بالأحرى يأخذ خطٌّا أوسع حين يُري البشر ما ينتظرهم من ثواب وعقاب، ويصوِّر للأبرار وللخطأة السماء بتشعُّباتها والأسافل بعذاباتها.

3- بولس ويسوع المسيح

حين قال بعض الشارحين في القرن التاسع عشر إنَّ بولس هو مؤسِّس المسيحيَّة، كانت ردَّة الفعل قاسية. فبولس يدعو نفسه »عبد يسوع المسيح« (رو 1: 1). أو كما نقول في أسلوبنا الحديث »وزير« الملك المسيح وابن نعمته. منه نال كلَّ نعمة مع أنَّه لم يكن يستحقُّ شيئًا بعد أن اضطهد كنيسة الله (1 كو 15: 9). ولكن في العالم الغنوصيّ، بولس هو يسوع.(27)

أين كانت نقطة الانطلاق؟ سفر الأعمال. فالقدّيس لوقا حين جعل أعمال الرسل في امتداد إنجيله، أراد أن يبيِّن أنَّ يسوع ما زال حيٌّا في كنيسته. يموت إسطفانس، يعني يموت يسوع. غفر يسوع، ومثله فعل إسطفانس. سلَّم يسوع روحه بين يدي الآب، وإسطفانس قال: »أيُّها الربُّ يسوع، تقبَّل روحي« (أع 7: 59). وما قلناه عن إسطفانس نقوله عن بطرس الذي صوِّر سجْنُه وإنقاذه من السجن مثل موت وقيامة على مثال يسوع: »ثمَّ خرج وذهب إلى مكان آخر« (أع 12: 17). أمّا بولس فكان صعوده إلى أورشليم مثل صعود يسوع كما يصوِّره لوقا في لو9: 51 إلى 19: 27. ولكن إن مات يسوع في أورشليم، فبولس يموت في رومة.

أمّا أع بو فأرادت أن تبيِّن كيف أنَّ بولس هو المسيح. لا حاجة إلى ذكر اسم يسوع والعودة إلى الإنجيل. فما نقرأ من تطويبات في إنجيل متّى (5: 1-8) نجد ما يقابله في أع بو:

طوبى لأنقياء القلوب، لأنَّهم يعاينون الله

طوبى للذين يمتلكون مخافة الله، لأنَّهم يكونون ملائكة الله.

طوبى للذين يرتعدون من أقوال الله، لأنَّهم يُعزَّون.

طوبى للذين تقبَّلوا حكمة المسيح، لأنَّهم يُدعَون أبناء العليّ.

طوبى لأجساد البتولين والبتولات، لأنَّهم يكونون مرضيّين لله ولا يخسرون أجر عفَّتهم، لأنَّ كلام الآب يكون لهم عمل خلاص في يوم ابنه ويذوقون الراحة في دهر الدهور.

هناك ثلاث عشرة تطويبة (ص 24-25)، وما ذكرناها كلَّها هنا. المهمُّ أنَّها بعيدة إجمالاً عن تطويبات يسوع المسيح، وأنَّها سحرت السامعات والسامعين، بحيث تجمَّدت تقلا(28) حين سمعت بولس يتكلَّم »حول العفَّة والإيمان بالمسيح والصلاة« (ص 26). مثل هذا الكلام ينطبق عليه ما قيل في يسوع: »تعجَّبت الجموع من تعليمه، لأنَّه كان يعلِّمهم مثل من له سلطان« (مت 7: 28-29). أمّا السامعون فملأوا البيت وهو يعلِّمهم »أن يخافوا الإله الواحد وأن يعيشوا في الطهارة« (ص 27).

بولس هو المعلِّم، ولديه، عند قدميه، وقفت تقلا وغيرها كثيرات، على مثال ما نقرأ في الإنجيل. والمعجزات التي يصنع هي معجزات يسوع من شفاء المرضى وقيامة الموتى. أمّا هدوؤه فواضح لأنَّه يبدو وكأنَّه عارفٌ بالناس الآتين إلى لقائه. انتظره أونسيفورس، فسبقه بولس وابتسم له قبل أن يكلِّمه ذاك الذي ينتظره (ص 23). أما هكذا رأى يسوع زكّا قبلَ أن يراهُ زكّا ويدعوه إلى بيتِه (لو 19: 1ي). وكما قبل زكّا يسوعَ بفرح، كذلك كان الوضع مع بولس. »حين دخل بولس إلى بيت أونيسفورس، حلَّ فرح كبير« (ص 23).

بولس هو ذاك الذي يبحثون عنه كما كان التلاميذ يبحثون عن يسوع. قال التلاميذ ليسوع: »الجميعُ يطلبونك« (مر 1: 37). وتقلا شكرت الربَّ لأنَّها وجدت بولس: »أيُّها الآب الذي صنع السماء والأرض، يا أبا ابنك القدّوس، أباركك لأنَّك نجَّيتني لكي أرى بولس« (ص 33). ولمّا لم يُرد بولس أن تأتي معه تقلا، أجابته: »سأقصُّ شعري (بحيث تبدو رجلاً) وأتبعك إلى حيث تمضي« (ص 33). أما هكذا قال أحد الناس ليسوع: »أتبعك يا سيِّد« ؟ (لو 9: 61). كدنا ننسى ما قال بولس لأهل كورنتوس: »اقتدوا بي كما أنا اقتدي بالمسيح« (1 كو 11: 1). وكما قال الربُّ لآخر بأن يذهب ويبشِّر بالملكوت (لو 9: 60)، قال بولس لتقلا: »امضي وعلِّمي كلام الله« (ص 40). ومن أين أخذت تقلا النور؟« من الموضع الذي كان بولس يجلس عليه ويعلِّم« (ص 40). أمّا صلاتها فارتفعت إلى الله.

ونقدِّم آخرًا لا أخيرًا ما حصل لبولس في ميرا: »جاءه رجل معه داء الاستسقاء« (ص 42). ماذا فعل؟ ما كان الناس يفعلون تجاه يسوع: »أرتمي عند قدميك فارحمني.« هكذا فعل يائيرس رئيس المجمع حين طلب شفاء ابنه (لو 8: 41). وكذلك مريم حين طلبت من الربِّ أن يقيم أخاها (يو 11: 32). أمّا ذاك المريض فمثله شفى يسوع، وشفاه يوم السبت (لو 14: 1-4). وطريقة الشفاء تشبه ما فعل بطرس مع كسيح الباب الجميل (أع 3: 1ي): »لا أعطيك لقاء الفضَّة ما تطلب. ولكن باسم يسوع المسيح تُشفى قدّام هؤلاء جميعًا« (ص 42).

وما يدهش في النهاية هو أنَّ الناس مضوا إلى قبر بولس كما النسوة مضين إلى قبر الربّ. قال يسوع لتلاميذه: »متى قمتُ أسبقكم إلى الجليل.« وبولس أعطى موعدًا: »إذا أتيتما سَحرًا هنا إلى قبري، تجدان رجلين يصلِّيان« (ص 83). في الإنجيل هما ملاكان، أمّا هنا، فهما تيطس ولوقا، تلميذا بولس. وحين قُطع رأس بولس وجرى اللبن، كانت ردَّة الفعل هنا كما كانت ساعة موت يسوع: »مجَّدوا لله الذي أعطى بولس مثل هذا المجد« (ص 83). أجل، انطلق لونجينوس وقائد المئة سحرًا إلى قبر بولس، »فشاهدا رجلين يصلِّيان« (ص 84).

الخاتمة

ذاك هو طيف بولس، ذاك هو وجه بولس. عرفناه في سفر الأعمال وفي عدد من رسائله، وهكذا وجدناه في أع بو، ولكنَّه لبسَ وجهَ الغنوصيَّة التي تعتبر أنَّها لا تحتاج إلى التقليد الرسوليّ الرسميّ، بل تنطلق من خبرات شخصيَّة تربطها بهذا الشخص أو ذاك وكأنَّه نال وحيًا لم ينله بطرس أو أندراوس وغيرهما. وبولس يوازي بطرس ويوحنّا، بل يوازي الرسل جميعًا على ما نقرأ في 1 كو 15: 11: »أكنتُ أنا أم كانوا هم، هذا ما نبشِّر به وهذا ما به آمنتم.« صار بولس تجاه الرسل، بل تجاه المسيح نفسه. لهذا كان حكمُ الآباء قاسيًا على المنحولات البولسيَّة، ولا سيَّما رؤ بو حيثُ قال القدّيس أوغسطين: »رؤيا بولس باطلة، والكنيسة لا تتقبَّلها على أنَّها صحيحة. ولستُ أعرفُ من ثبَّتها وهي مليئة بالخرافات، فدلَّ على البلادة والوقاحة.« (المقالة 18: 8 في شرح إنجيل يوحنّا). ذاك كان موقف الكنيسة الرسميَّة، ولكن تجاه »الكنيسة الصحيحة« كما قال القدّيس أوغسطين، هناك الكنيسة الهامشيَّة، الخفيَّة، التي جعلت رؤيا بولس تنتقل في ثماني لغات ومنها السريانيَّة والعربيَّة والقبطيَّة، كما جعلت أع بو تنتشر في أماكن عديدة مع شخصيَّة تقلا التي تعيِّدها الكنيسة في الشرق والغرب. من هنا أهمِّيَّة قراءة الآثار المنحولة، لا لأنَّها تضيف لاهوتًا وعقيدة على الأسفار القانونيَّة، بل لأنَّها تعطينا صورة عن الكنيسة في وقت من الأوقات، هو هنا القرن الثاني والقرن الثالث المسيحيّ.

 
قديم 27 - 03 - 2024, 01:32 PM   رقم المشاركة : ( 155749 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,116

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة



طيف بولس في الأدب المنحول

هذا الذي أطلق الرسالة من قوقعتها في أورشليم فجعل مركز القيادة في أنطاكية بانتظار أن يصبح رومة.

هذا الذي حمل الإنجيل الذي دعاه إنجيله فوصل به إلى آسية الصغرى، إلى أوروبّا وكم تمنّى أن يصل إلى إسبانيا.

هذا الذي كتب أولى كلمات العهد الجديد، لا في آراميَّة فلسطين وإلاّ كانت كتاباته ماتت كما ماتت اللغة الآراميَّة المحكيَّة في هذا الشرق.

هذا الذي نقل فكر يسوع مع أنَّه لم يرَ يسوع بالجسد، إلى اللغة اليونانيَّة والحضارة اليونانيَّة، فوصل هذا الفكر إلى العالم المعروف آنذاك واحتلَّ قلب رومة.

هذا الذي ترك الرسائل العديدة التي دوَّنها بيده أو بيد تلاميذه، أيحتاج بعدُ أن يُكتب عنه أو تنسب إليه رسائل عديدة؟

نعم. نسبت إليه رسالة ثالثة إلى الكورنثيّين ورسالة إلى اللاودكيّين وربَّما إلى الإسكندريّين. ومع أنَّ لوقا الإنجيليّ كرَّس له ثلاثة أرباع سفر الأعمال، فقد كان لنا أعمال بولس(1) في قسم مع تقلا وفي قسم آخر بموازاة ما قالت لنا أعمال الرسل. وما اكتفى التقليد بهذا، بل جعل على اسم بولس رؤيا(2) على مثال رؤيا يوحنّا القانونيَّة(3)، وعلى مثال رؤيا بطرس(4) المنحولة.

لن نتكلَّم هنا عن هذه الآثار، بعد أن صدرت في كتاب عنوانه امتداد الأدب البولسيّ في الأسفار المنحولة(5)، بل نحاول أن نكتشف »طيف« بولس في هذه الآثار، بل الصورة التي أرادت هذه الكتابات أن تقدِّم لنا.

صورة بولس في هذه الكتابات هي صورة بولس كما نعرفه في الرسائل وفي سفر الأعمال، ولكنَّه لبسَ وجهًا غنوصيٌّا مع تشديد على الصلاة والصوم والامتناع عن الزواج وعن شرب الخمر حتّى في القدّاس بحيث يحلُّ الماء محلَّ الخمر. وهي صورة بطرس ويوحنّا، في خطِّ ما عرفه سفر الأعمال بشكل خاصّ. وأخيرًا، صورة بولس هي صورة يسوع. أمّا السؤال: لماذا هذه الكتابات المنحولة تجاه الأسفار القانونيَّة وهي كافية جدٌّا لكي تعطينا صورة عن يسوع وعن التعليم، الذي حمله العهد الجديد؟ فالجواب: هناك ردَّة فعل على السلطة في الكنيسة والعقاب الذي ينتظرها في رؤيا بولس واضح. كما أنَّ هنالك إرادة بأن يكون للغنوصيَّة وغيرها كتب مقدَّسة كما للكنيسة المنظَّمة حيث يسير عمل الروح، وحيث يكونُ للمرأة المكانة التي لا نعرفها إلاّ قليلاً في الأناجيل، لولا إنجيل لوقا، والتي نالت نصيبها من الامتداد البولسيّ في رسائل مثل تيموتاوس الأولى ومن توسَّع بولس بعد بولس في الرسائل الأولى إلى كورنتوس.
 
قديم 27 - 03 - 2024, 01:33 PM   رقم المشاركة : ( 155750 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,116

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة



بولس وبولس

فهو حاضر عند مقتل إسطفانس. لدى ذاك الفتى الذي اسمه العبريّ شاول »وضع الشهود ثيابهم أمانة« (اع 7: 58). بل كان رجم إسطفانس حلقة من اضطهاد الكنيسة (أع 8: 1-3)، وكأنَّ ذاك الذي سيكون رسولاً، بدأ يخاصم يسوع إلى أن جندله يسوعُ على طريق دمشق. وإذا جعلنا جانبًا أع 10-11، يتكرَّس سفر الأعمال كلُّه تقريبًا للكلام عن بولس، عن الرحلات الرسوليَّة حتّى وصوله إلى رومة مقيَّدًا، ولكنَّ الإنجيل كان حرٌّا (أع 28: 30-31).

من سفر الأعمال انطلق أعمال بولس فجعلنا نرافق الرسول من دمشق حيث وجد التلاميذ »مستغرقين في الصوم«(6) وهو في المخافة. إلى أنطاكية حيث كانت المحاكمة الأولى والطرد من المدينة بعد أن رموا الرسول بالحجارة وطردوه من المدينة.(7) ذاك ما حصل لبولس كما يروي أعمال الرسل (14: 19) وإذ وصل بولس إلى إيقونيوم (أو إيقونية)، بدأ الخصوم يلاحقونه. تذكُر أعمال بولس شخصين سوف يكونان في رفقة بولس في نهاية حياته: ديماس الذي كان تلميذه الحبيب (كو 4: 14؛ فلم 24) ثمَّ تركه »حبٌّا بالعالم« (2 تم 4: 10). وهرموجينيس الذي ترك بولس مع فيجلُّس (2 تم 1: 15)، فمثَّل نفسه ومثَّل أيضًا اسكندر الحدّاد (2 تم 4: 14) الذي جاء اسمه مع ديماس وهرموجينيس في مخطوطين لاتينيَّين.(8)

في لسترة، كان الناس ينتظرون بولس، كما وصفه لهم تيطس: »رجل قصير القامة، لا شعر في رأسه، ساقان مقوَّستان، شديد البأس، حاجبان مضمومان، أنف معقوف بعض الشيء، مملوء لطافة. تارة بدا بشكل إنسان، وطورًا كان وجهه وجه ملاك.«(9)

هكذا نعرفه في الإيقونوغرافيا وهكذا عرفه أونسيفورس واستقبله في بيته. ومضى بولس إلى أنطاكية بسيدية. وما نلاحظ هو أنَّ رفيقه لا يكون برنابا، ذاك الرجل الذي أرسلته أورشليم باسمها لكي يرى تقدُّم الرسالة التي بدت وكأنَّ الأمور أفلتت من يد كنيسة أورشليم، بل تقلا التي ما نالت العماد بعد.(10)

نلاحظ منذ البداية وجود المرأة في أع بو بينما عدد النساء قليل في سفر الأعمال: ليدية مع بعض النسوة (أع 16: 13-15) في فيلبّي، داماريس في أثينة (أع 17: 34)، برسكلَّة زوجة أكيلا في كورنتوس (أع 18: 2). أمّا في أع بو فدور تقلا مهمٌّ جدًا في التبشير وفي التعميد. ما عمَّدها بولس فعمَّدت نفسها. فقالت لبولس: »نلتُ المعموديَّة. فالذي عمل فيك من أجل الإنجيل، عمل فيَّ أيضًا لكي أعمَّد.« وهكذا بدا السؤال مطروحًا: »أما يحقُّ للمرأة أن تمنحَ سرَّ العماد؟« والجواب هو نعم في أع بو.(11) فبولس وافق على ما فعلته تقلا مع أنَّ الإنسان لا يحقُّ له أن يعمِّد نفسه. ثمَّ أرسلها تبشِّر، كما أرسل يسوع تلاميذه. قالت لبولس: »أنا ماضية إلى إيقونيوم.« فأجابها بولس: »امضِ وعلِّمي كلام الله.«(12) كلام بولس هو امتداد لكلام يسوع. طلب الربُّ من رجل أن يتبعه، فقال له: »دعني أذهب أوَّلاً وأدفن أبي.« فقال له يسوع: »اترك الموتى يدفنون موتاهم. وأمّا أنت فاذهب وبشِّر بملكوت الله« (لو 9: 59-60). وفي هذا ردٌّ على تيّار بولسيٍّ جاء بعد بولس: »فلتصمت نساؤكم في الكنائس، فلا يجوز لهنَّ التكلُّم« (1 كو 14: 34). ولكن إذا كان الله نجّى تقلا من الموت، فلكي يرسلها لكي تحمل الإنجيل.(13)

ومع تقلا تُذكَر نساء عديدات: أمُّها تيوقليا. ثمَّ تريفانيا التي استقبلت تقلا قبل أن تُرمى للوحوش. وفلكونيلاّ ابنة تريفانيا التي توفِّيت ولكنَّها لبثت حاضرة في حياة أمِّها. والنساء اللواتي ساعدن تقلا بالعطورِ بحيث تخدَّرت الحيوانات، وما اكتفين بأن يبكين فقط على مثال نساء أورشليم اللواتي »كنَّ يلطمن صدورهنَّ وينحن عليه (على يسوع)« (لو 23: 27). وفي النهاية، امتدحت النسوة الله الذي نجّى تقلا.(14)

أمّا الأغابّي أو عشاء المحبَّة الذي يذكِّرنا بالعشاء السرّيّ، فما هيَّأه في أع بو، تلميذان من تلاميذ يسوع، بل امرأتان هم لاما الأرملة وابنتها أميا، وهما تبعتا بولس كما التلاميذ تبعوا يسوع.(15)

في أفسس حيث أتى بولس ورُميَ للوحوش، في خطِّ ما أشار إليه هو في الرسالة الأولى إلى كورنتوس (15: 2: صارعتُ الوحوش)، كانت بقربه امرأتان: أرتيميلاّ امرأة جيروم حاكم المدينة، وأوبولا زوجة ديوفانتوس الذي حرَّره جيروم. أمّا أوبولا هذه فكانت »تلميذة بولس، فتبقى جالسة لدى الرسل ليلاَ ونهارًا.« هكذا كانت مريمُ أختُ مرتا (لو 10: 39). وكما كان يوسف الرامي تلميذ يسوع (يو 19: 38)، كذلك كانت أوبولا.(16)

وفي كورنتوس حصل لبولس ما يرويه سفر الأعمال ممّا حصل له في قيصريَّة. أمّا النبيّ فكان أغابوس (أع 21: 11ي). أمّا في أع بو فهي نبيَّة اسمها ميرتي التي وعظت في الإخوة، ثمَّ وزَّعت الخبز.(17) أتراها تعمل ما يعمل الكهنة؟

أمّا المناخ الذي تجرى فيه حياة بولس فهو مناخ الصوم والصلاة دون أن ننسى الدموع. حين كان »الشبّان والشابّات يأتون بالحطب والقشِّ لإحراق تقلا«،(18) كان بولس صائمًا مع أونيسيفورس. ولبث صائمًا أيّامًا كثيرة إلى أن جاع الأولاد. فقال أحدهم لتقلا التي كانت تبحث عن يسوع: »بولس يبكي بسببك، ويصلّي ويصوم منذ ستَّة أيّام حتّى الآن.« وبعد أيّام الصوم، نالت الجماعة النعمة المطلوبة، فصلّى بولس إلى الربّ: »أنا أباركك، لأنَّك استجبت طلبتي وسمعتَ لي« (امتداد، ص 33).

وصام لونجنس حين رأى أنَّ ابنته فرونتين ميتة. وأمُّها كانت بجانبها واسمها فيرميلا. ولكنَّ بولس أقامها كما سبق يسوع فأقام ابنة يائيرس رئيس المجمع، الذي لا يُذكر اسم امرأته ولا اسم ابنته (امتداد، ص 72). ففي فيلبّي حُكم على بولس بالموت كما نقرأ في الرسالة إلى أهل فيلبّي (فل 1: 12-14) ولكنَّه نجا. فأُرسل إلى الأشغال الشاقَّة في المناجم ونجا أيضًا »فصارت دموع بولس انفراجًا« (امتداد، ص 73). ولكنَّ الخطر الكبير الآتي، هو انطلاق بولس إلى رومة. قال الرسول: »أيُّها الإخوة، اجتهدوا في الصوم وفي المحبَّة. فها أنا ماضٍ إلى أتون النور« (امتداد، ص 73). فبواسطة »هذا الصوم الثمين« يكون الربُّ معي. يواصل أع بو كلامه عن جماعة كورتنوس الذين »كانوا مكتئبين وصائمين« (امتداد، ص 74). وما نلاحظ هو أنَّ هذا الصوم يسبق عشاء الربّ. هذا ما نقرأ في الصفحة عينها (صنع بولس قربانًا) كما بعد إقامة فرنتين (امتداد، ص 72). أمّا الطعام بعد نجاة تقلا فهو »خمسة أرغفة وبقول وماء«.(19) فلا وجود للخمر في هذه الجماعة. وعشاء الربِّ نفسه يُصنع بالماء لا بالخمر.

مثلُ هذا الكلام نقرأه في أعمال فيلبُّس الذي لا يهتمُّ بالطعام المادّيّ بل بطعام الروح(20) p. EACI, 1232)) وهكذا يحافظ على حرِّيَّته. ويقول لنفسه: »لا تبحثي عن الأطعمة لكي تنالي العزم.« وما نقوله عن الطعام، نقوله عن الزواج. ذاك ما حصل بعد خطبة توما في أعمال توما، حيث رفض العروسان أن يتجامعا. بالنسبة إلى العروس، هي تطلب »العريس الذي لا يفسد والذي ظهر لي في هذه الليلة«.(21) أمّا العريس فامتدح الربَّ لأنَّه »أبعده عن الفساد«. نحن هنا في إطار المتعفِّفين الذين يرفضون الزواج. هذا ما يجعلنا في إطار غنوصيّ عرفته مثلاً الرسالة الأولى إلى تيموتاوس التي تتحدَّث عن »مرائين كذّابين اكتوت ضمائرهم فماتت، ينهون عن الزواج وعن أنواع من الأطعمة خلقها الله« (1 تم 4: 2-3). لا شكَّ في أنَّ تقلا رفضت الزواج في مثل هذا المناخ، حين سمعت كلامًا قاله بولس، مشابهًا »لعظة الجبل«: »طوبى للذين يحفظون عفَّة جسدهم، لأنَّهم يكونون هياكل الله.« طوبى للأعفّاء لأنَّ الله يتحدَّث معهم. طوبى للذين تخلُّوا عن هذا العالم لأنَّهم يرضون الله. طوبى للذين لهم نساء كأنَّ لا نساء لهم، لأنَّهم يكونون وارثي الله«.(22) فما يقابل العفَّة هو النجاسة، فماذا يختار المؤمن والمؤمنة من أجل اتِّباع بولس أو اتِّباع المسيح؟

بولس هو بولس كما نعرفه في الرسائل، ولا سيَّما خلال الرحلات الرسوليَّة. ولكنَّه نال قدرة عجيبة هو والذين معه، بحيث لم يعد إنسانًا، بل شبيهًا بالله. يعرف كلَّ شيء، يفعل كلَّ شيء، ولا يقف في وجهه عائق. ثمَّ هو وحده، ولا علاقة له برسول من الرسل ولا بتلميذ من التلاميذ. هو البداية وهو النهاية في الرسالة. أما يكون هو يسوع المسيح؟ تلك مسألة نصل إليها بعد أن نرى القرابة بينه من جهة، وبين بطرس ويوحنّا من جهة أخرى.
 
موضوع مغلق


الانتقال السريع


الساعة الآن 02:41 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025