منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 23 - 03 - 2024, 06:24 PM   رقم المشاركة : ( 155201 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,428

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




يمكنك أن تظهر ضعف بعض المبتدعين أو الذين ينادون بآراء
غريبة حتى لا يعثروا غيرهم، ولكن ليس بغرض إظهار قوتك
أو احتقار الآخرين أو ضيقًا من آرائهم الغريبة.
فلاحظ سلامك الداخلي وعدم اضطرابك ليكون كلامك مرضيًا أمام الله.


 
قديم 23 - 03 - 2024, 06:24 PM   رقم المشاركة : ( 155202 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,428

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




† على قدر ما عرفت المسيح
وتعلمت في الكنيسة،
كن مدققًا في حياتك وأسرع إلى التوبة
والاعتراف إن أخطأت.
 
قديم 24 - 03 - 2024, 07:23 AM   رقم المشاركة : ( 155203 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,428

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

أحد التجربة



وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




لا تجرب الرب إلهك

(مت 4: 7)




 
قديم 24 - 03 - 2024, 07:56 AM   رقم المشاركة : ( 155204 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,428

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة






قتل العداوة بصليبه وأزال الحواجز

بعد عشرين سنة ونيِّف على موت بولس الرسول، ما زالت المسائل هي هي. لا في ذلك الوقت فقط، بل في أيّامنا أيضًا. العداوة. من ليس من أهلي ومن قبيلتي ومن أصلي فهو عدوّي. لهذا قيل في القديم: أحبب قريبك وأبغض عدوَّك. يعني أنَّ من ليس قريبي يجب أن يكون عدوِّي. أستطيع أن أسلبه، أنهبه، آخذ له امرأته وأولاده. أستعبده، أجرُّه إلى آرائي وأفكاري إن لم أكن أستغلُّه. وإذا لم أستطع، أجعل حاجزًا بيني وبينه. هكذا بُنيَ سور الصين في الأزمنة القديمة. وسور مصر لردِّ الغزوات الآتية من آسية أو لإبعاد الجائعين في سنوات القحط والجفاف. وسور برلين الذي سقط والحمد لله. واليوم يُبنى سور في فلسطين. أسوار مادِّيَّة. والأسوار المعنويَّة أقوى بكثير. عنها تتكلَّم الرسالة إلى أفسس. فإذا بقيَت العداوة وارتفعت الحواجز، كيف يمكن أن تتوحَّد البشريَّة؟ وماذا يفعل الله وهو الذي أرسل »المسيح ليجمع في شخصه كلَّ ما في السماوات وما على الأرض« (أف 1: 10).

من هنا ننطلق لنتحدَّث عن رسالة وصلت إلى أفسس كما وصلت إلى كولوسّي ولاودكيَّة (كو 4: 16) وهيرابوليس وغيرها من المدن. فالصعوبات هي هي في الكنائس وفي كلِّ مجتمع، لهذا نقرأ هذه الرسالة اليوم ونفحص ضميرنا على ضوء ما يقول لنا بولس وتلاميذه بحيث ندخل »السر« العظيم الذي وصل إلينا فنكون كنيسة واحدة، هي جسد المسيح وهي من »ضحّى بنفسه لأجلها« (أف 5: 25).

1- البعيدون والقريبون

البعيد هو الذي لم يصل إليه ما وصل إليّ. والقريب هو من كان رأيُه مثل رأيي. ذاك كان موقف اليهود في زمن المسيح وفي زمن بولس. البعيدون هم »الوثنيّون« أي الذين صوَّروا آلهتهم (أو: إلههم) وصنعوا لها التماثيل. ويفترقون عن اليهود على مستوى »اللحم« (لا الجسد الذي هو للقيامة): هم قلفة واليهود هم ختان. قام اليهود بعمليَّة صارت اليوم »عمليَّة طبيَّة« فنزعوا القلفة أو الغشاوة، أمّا الأمم الوثنيَّة فما نزعوا هذه الغشاوة. يا للفرق الكبير! لهذا هم بعيدون. ونقول اليوم كلُّ من لا يمارس ما نمارس فهو بعيد، فصرنا محور العالم ونسينا أنَّ الله هو أبو الجميع. وفي تاريخنا الشرقيّ، فرضنا على »الغريب« أن يلبس لباسًا يختلف عن لبسنا، كما منعناه من أمور احتفظنا بها لنفوسنا. ولا نقول شيئًا عن عالم الهند حيث لكلِّ مقاطعة تقاليدها. بل هناك ملايين من الذين لا يحقُّ لنا أن نلمسهم أو نقترب منهم. هم »سفالة«. والصراع بين »البيض« و«السود« حاضر في أذهاننا، في الولايات المتَّحدة، في أفريقيا الجنوبيَّة وفي مواضع أخرى. الحمد لله أنَّ الإيمان المسيحيّ خطا خطواتٍ واسعة، ولكنَّها ليست كافية إلى الآن. والمبدأ نادى به الرسول: لا عبد ولا حرّ، لا يونانيّ ولا بربريّ (كو 3: 11). والبربريّ هو الذي لا يتكلَّم اللغة اليونانيَّة! وبقدر ما يبتعد الإنسان عن العالم اليونانيّ يبتعد عن الحضارة. فذكر الرسول »الإسكوتيّين«، تلك القبائل البدويَّة التي أقامت شرقيّ نهر الفولغا (روسيّا)، الذين اعتُبروا آخر الناس.

وفي عالمنا العربيّ نلاحظ لفظ »عبد« تجاه »حر«. فالعبد هو الذي لون جسمه غير لون جسمنا. لهذا هو »الرقيق، المملوك من سيِّد بسبب مولده أو بالأسر أو بالبيع«، كما يقول القاموس العربيّ. ولهذا فالعبيد الذين »نشتريهم« في أيّامنا، يختلف لونهم عن لوننا. أما هم أيضًا على صورة الله ومثاله كما نحن؟ عنهم قيل في مجمع أورشليم الذي انعقد سنة 49-50: »نحن نؤمن أنَّنا نخلص بنعمة الربِّ يسوع كما هم يخلصون« (أع 15: 11). وقال الرسول: »نحن خليقة الله، خُلقنا في المسيح يسوع للأعمال الصالحة التي أعدَّها الله لنا من قبل لنسلك فيها« (أف 2: 10).

العبد بعيد والحرّ قريبٌ! كلاّ. الاثنان قريبان من الله. فمنذ إشعيا قال الربّ: »السلام للقريب والسلام للبعيد« (إش 57: 19). فالذي هو في أورشليم لا يفترق عن الذي يكون في أقاصي الأرض. اليونانيّ بعيد عن اليهوديّ، لأنَّه غير مختون! وبالتالي هو »مُبعَد عن رعويَّة إسرائيل، غريب عن عهود الموعد، لا رجاء له في هذا العالم ولا إله« (مثل إلهنا) (أف 2: 12).

ما هذا الكلام الذي نسمعه حتّى الآن؟ نحن نخلص. أمّا الآخرون فلا يخلصون. يجب أن يلحقوا بنا، أن يتبعونا، وإلاَّ هم هالكون لا محالة. ذاك ما قيل في المسيحيَّة: لا خلاص خارج الكنيسة. تركت الكنيسة هذا القول وعادت إلى كلام القدّيس بولس: »الله يريد أن يخلص جميع الناس ويبلغوا إلى معرفة الحق« (1 تم 2: 4). وقيل: »أفضل الناس عند الله هم أصحاب التقوى والعاملون بمشيئته«. وأعلن إشعيا أنَّه يكون للعبيد (للخصيان) اسمٌ أبديّ لا ينقطع ذكره، والغرباء يأتون إلى الجبل المقدَّس فيكونون عبيدًا لله (وعبّادًا) لا عبيدًا للناس (إش 56: 3-7). والذروة: »بيتي بيت صلاة لجميع الشعوب«.

كلُّ هذا تقدِّمه الرسالة إلى أفسس في توسُّع كبير، وذلك على ضوء ما حصل في أنطاكية: كان المؤمنون كلُّهم معًا حول المائدة الواحدة. ولمّا جاء أناس من أورشليم، تنحّى بطرس والذين معه وتركوا الآتين من العالم اليونانيّ وحدهم (غل 2: 11ي).

»واذكروا أنَّكم كنتم فيما مضى...« (أف 2: 13). أمّا الآن، فلم يَعُد لذلك من أثر. »ففي المسيح يسوع صرتم قريبين بدم المسيح بعدما كنتم بعيدين« (آ13). ما الذي يُبعد شخصًا عن شخص أو شعبًا عن شعب؟ الدم، الحرب، القتل. أمّا المسيح فما أراد أن يسفك دم الآخرين، بل سفك دمه من أجل البشريَّة جمعاء، التي ضمَّها ببسط يديه على الصليب. لا موضع بعدُ للسيف ولا للعنف، بل للودعاء والمتواضعين على مثال الربِّ الذي قال: »تعلَّموا منّي، أنا وديع ومتواضع القلب« (مت 11: 29).

وتواصلُ الرسالة: »فالمسيح هو سلامنا، جعل اليهود وغير اليهود شعبًا واحدًا وهدم الحاجز الذي يفصل بينهما« (آ14). من لا يتذكَّر الحواجز خلال الحروب. لا مجال للتحاور. الذين هم هناك لا يكونون مع الذين هم هنا. وفي النهاية، يصبح الحاجز »عداوة«. والعدوّ يجب أن يُقتَل. وكيف نُزيل الحواجز؟ بالحرب لكي نصل إلى السلام وأيُّ سلام؟ كانت الإمبراطوريَّة الرومانيَّة تقول: »إن شئت السلام فاستعدَّ للحرب«. وطرح أحدهم السؤال: »لماذا تنتظرون نهاية الحرب لتعقدوا معاهدة سلام؟ لماذا لا يكون تفاهم قبل الحرب؟« أمّا في المسيحيَّة، فالمسيح هو السلام. وكلُّ من يطلب الحرب، أيّا كان معتقده، لن يصل إلى السلام الحقيقيّ، السلام الذي يدوم. وهل يكون السلام لشعب دون شعب، والخير لفئة دون فئة؟

وكان الجواب: »جاء وبشَّركم بالسلام أنتم الذين كنتم بعيدين، كما بشَّر بالسلام الذين كانوا قريبين، لأنَّ لنا به جميعًا الوصول إلى الآب في الروح الواحد« (آ17-18). في الماضي »كنتم« ثمَّ »كانوا«. أمّا الآن فلا تمييز بعدُ، والعمل هو عمل الثالوث. فنهاية مسيرة كلِّ إنسان هي الآب الذي »أرسل ابنَه إلى العالم لكي يخلِّص به العالم« (يو 3: 17). وكلُّ هذا يتمُّ في الروح القدس، روح الآب والابن. إذا كان »الثالوث« هو عيلة الله الذي يستعدُّ أن يستقبل كلَّ الآتين إليه، فمن يحقُّ له أن يجعل هذا في حضن الآب، ويمنع ذاك عن السعادة؟ إذا كان الله لم يرسل ابنه »ليدين العالم« بل ليخلِّصه، فمن أنت أيُّها الإنسان؟

كان حاجز بين اليهوديّ واللايهوديّ: »شريعة موسى بأحكامها ووصاياها« (أف 2: 15). وألغاه يسوع بجسده الذي رُفع على الصليب »ليخلق في شخصه من هاتين الجماعتين إنسانًا واحدًا جديدًا«. لا موضع بعدُ للقديم. لا موضع بعد لجماعة تجاه جماعة، على مستوى الدين أو اللغة أو الطائفة. وقد وصلنا في المسيحيَّة إلى حواجز بين طائفة وطائفة: هناك مؤمنون وآخرون غير مؤمنين. هناك من يحتاجون إلى عمادٍ ثانٍ لأنَّ إيمانهم لم يكن »مستقيمًا«. يجب أن يدخلوا إلى طائفة ترتبط بفلان، لا إلى كنيسة المسيح الواحدة الجامعة المقدَّسة الرسوليَّة. كان خلاف، »فأحلَّ المسيح السلام بين فئة وفئة«. والربُّ نفسه جاء بهذه الطائفة وبتلك »فأصلح بينهما وبين الله بصليبه، فقضى على العداوة وجعلهما جسدًا واحدًا« (آ16).

لا رعايا عديدة، بل »رعيَّة واحدة« (آ19). لا كنائس عديدة بل كنيسة واحدة هي عروس المسيح، و«بيت الله« واحد هو. فلا بيوت عديدة وكأنَّ لكلِّ طائفة بيتًا خاصٌّا بها. فالسماوات العديدة تعني الآلهة العديدة. أمّا نحن فإلهنا واحد، وربُّنا واحد. ذاك ما نقرأ في الرسالة الأولى إلى كورنتوس: »وإذا كان في السماء أو في الأرض ما يزعم الناس أنَّهم آلهة... فلنا نحن إله واحد وهو الآب الذي منه كلُّ شيء وإليه نرجع، وربٌّ واحد وهو يسوع المسيح الذي به كلُّ شيء وبه نحيا« (1 كو 8: 5-6). ذاك هو السرُّ الذي أرادت الرسالة إلى أفسس أن تُدخلنا فيه.

2- سرّ المسيح، ذلك السرّ المكتوم

حين نتحدَّث عن السرِّ نعتبر أنَّنا أمام جدار لا يمكن تجاوزه. وهذا بشكل خاصّ، على مستوى الدين. نقول مثلاً: الثالوث الأقدس هو سرّ. إذًا، لا نفهمه. مثل هذا القول خطأ. فنحن أوَّلاً عرفنا الابن، الكلمة الذي صار بشرًا وسكن بيننا. والابن عرَّفنا إلى الآب: »من رآني رأى الآب«. وقال الإنجيل: »الله لم يرَهُ أحدٌ قطّ، ولكنَّ الابن الذي هو في حضن الآب قد أخبر عنه« (يو 1: 18). والروح القدس أرسله الآب، أرسله الابن منذ بداية الكنيسة. يُشبَّه بالريح العاصفة. هكذا فعل يوم العنصرة، ففتح الأبواب المغلقة وحطَّم النوافذ وأطلق الرسل في طرق البشارة. وشبِّه بنارٍ حلَّت على كلِّ واحد من الرسل وعلى جميع الحاضرين في العلِّيَّة. وهو لا يزالُ يحلُّ على كلِّ واحد منّا.

أجل، السرُّ ليس بجدار نرتطم به ونتراجع. بل هو بحر ننزل فيه ونغوص ونغوص. إلى هناك وصلت النفوس المتصوِّفة، غارت في عمق الله وغارت: امتلأ قلبها سعادة منذ الآن »مع أنَّ الصورة باهتة كما في مرآة« (1 كو 13: 12). قال الرسول: »اليوم أعرف بعض المعرفة، وأمّا في ذلك اليوم فستكون معرفتي كاملة كمعرفة الله لي« (1 كو 13: 12). تحدَّث العهد القديم عن »رؤية« الله في السحاب. هناك بعض النور وهناك بعض الظلمة. ويقول الرسول إلى أهل غلاطية: في الماضي كنتم تجهلون، »أمّا الآن فعرفتم الله، بل عرفكم الله« (غل 3: 9). وتواصل الكلام في الرسالة إلى أفسس: »أتوسَّل إلى الله... أن تدركوا مع جميع القدّيسين ما هو العرض والطول والعلوّ والعمق، وتعرفوا محبَّة المسيح التي تفوق كلَّ معرفة، فتمتلئوا بكلِّ ما في الله من ملء« (أف 3: 18-19).

إلى هذا السرّ أراد الرسول أن يدخلنا: سرّ المسيح. معه تبدَّل كلُّ شيء وفي عمله كان انقلاب في البشريَّة سيبقى حاضرًا حتّى نهاية العالم. السرّ هو أنَّنا كلَّنا عيلة الله الواحدة. ما من أحد يكون »خارج البيت« إلاَّ إذا هو أراد، كما فعل الابن الأكبر (لو 15: 28). فالمعرفة التي يتحدَّث عنها الكتاب لا تقف عند العقل والمنطق كما يحسب الناس في أيّامنا. المعرفة هي حوار بين القلب والقلب، بين العاطفة والعاطفة. المعرفة هي التصاق بالآخر واتِّحاد به. ذاك هو معنى العبارة: »الله عرفكم«. أتى إليكم، أحبّكم، اختاركم. اتَّحد بكلِّ واحد منكم اتِّحاد العريس بعروسه. فحين يقولون عن الرجل إنَّه عرف امرأته، فهم يعنون الاتِّحاد التامّ بين الاثنين. والرسول دعاه »سرٌّا« في الرسالة إلى أفسس: »لذلك يترك الرجل أباه وأمَّه ويتَّحد بامرأته فيصير الاثنان جسدًا واحدًا. هذا السرُّ عظيم، وأعني به سرَّ المسيح والكنيسة. فليحبَّ كلُّ واحد منكم امرأته مثلما يحبُّ نفسه، ولتحترم المرأة زوجها« (أف 5: 31-33).

منذ بداية الرسالة، دخلنا في السرّ »سرّ مشيئته« (أف 1: 9). وأنشد الرسول عمل الثالوث بالنسبة إلى البشر جميعًا، لا إلى فئة من الفئات، بحيث يسبِّح البشر كلُّهم مجده. فعبارة »لتسبيح مجده« تأتي في ثلاث محطّات في كلام عن الآب والابن والروح القدس. »تبارك الآب« الذي باركنا واختارنا وتبنّانا »لتسبيح مجده« (آ16). أو »تسبيح مجد نعمته« بعد أن نلنا ما نلنا من خلاص. وفي كلام عن الابن الذي »كان لنا فيه الفداء بدمه« (آ7) وغفران الخطايا. كلُّ ذلك »لتسبيح مجده« (آ13) بعدما »جعلنا رجاءنا من قديم الزمان في المسيح«. وفي كلام عن الروح القدس الذي »خُتمنا به« (آ13) كما وُعدنا. وهذا أيضًا »لتسبيح مجده« (آ14). وهو »عربون ميراثنا«.

سرٌّ ثالوثيّ دخلنا فيه. كان مكتومًا منذ الدهور (أف 3: 9). سرّ مخطَّط الله الأزليّ الذي تمَّ في يسوع المسيح وكشفته الكنيسة الآن بفضل خدمة الرسول. »بإمكانكم إذا قرأتم ذلك أن تعرفوا كيف أفهم سرّ المسيح، هذا السرّ الذي ما كشفه الله لأحد من البشر في العصور الماضية، وكشفه الآن في الروح القدس لرسله وأنبيائه القدّيسين« (أف 3: 4-5). كيف عرف بولس هذا السرّ؟ هل تفوَّقت معرفتُه على معرفة الآخرين؟ بل هو شابه بطرس حين أعلن أنَّ يسوع هو »المسيح ابن الله« (مت 16: 16). قال له الربّ: »ما كشف لك أحد من البشر هذه الحقيقة، بل أبي الذي في السماوات« (آ17). هي نعمة مجّانيَّة. وكذا نقول عن بولس: »كَشف لي (الربّ) سرَّ تدبيره بوحي« (أف 3: 3). فالرسول كرسول عرف هذا »السر« وأوصله إلى المؤمنين أو إلى الذين سوف يؤمنون على يده. الجميع هم مدعوّون. فلا تمييز بين »البسطاء« و«الكاملين«. فمنذ إرميا النبيّ نسمع الربَّ يقول: »أجعلُ شريعتي في ضمائرهم وأكتبُها على قلوبهم... فلا يعلِّم بعدُ واحدُهم الآخر، والأخ أخاه، أن يعرف الربّ. فجميعهم من صغيرهم إلى كبيرهم سيعرفونني« (إر 31: 33-34).

ماذا يتضمَّن هذا السرّ؟ أربعة أمور: دعوة الأمم الوثنيَّة إلى الخلاص؛ المصالحة بين اليهود والأمم بعد أن صارت الفتئان جسدًا واحدًا. وحدة المسيح وكنيسته في صورة بشريَّة، صورة الزواج. وأخيرًا، سلطان المسيح على الكون كلِّه. هذا ما يدخلنا في سرِّ الكنيسة التي هي عيلة الله على الأرض كما الثالوث عيلة الله في السماء.

3- بين المسيح والكنيسة

حين قرأنا رسائل بولس إلى رومة أو كورنتوس أو غلاطية، عنت الكنيسة جماعة أو جماعات مسيحيَّة في مدينة أو منطقة محدَّدة. كدت أقول رعايا تنضمّ بعضها إلى بعض. ولكن في الرسالة إلى أفسس كما إلى كولوسّي، اتَّخذ لفظ الكنيسة مفهومًا آخر. الكنيسة هي جماعة المؤمنين في كلِّ مكان. والرسول ينظر إليها من جهة المسيح. هو رأسها وهي جسده. هو يهتمُّ بها ويعتني ويضحّي بنفسه من أجلها لكي تكون مقدَّسة ولا عيب فيها.

جاء الحديث عن الكنيسة هنا في معرض الكلام عن الزواج: علاقة الرجل بالمرأة وعلاقة المرأة بالرجل: خضوع متبادل أوَّلاً، ثمَّ خضوع من جهة ومحبَّة وتضحية من جهة أخرى. ما الذي يُسند الخضوع؟ المحبَّة. فبدونها لا علاقة بين الرجل والمرأة. وينبغي هنا أن نقرأ هذا التوازي بين الخضوع والحبّ على أنَّه واجب على المرأة والرجل. فهي تحبُّ وتضحّي والرجل يحبُّ ويضحّي. وهي تخضع وهو يخضع أيضًا. فإن عدنا إلى مبدأ الخضوع والطاعة لأنَّ الرجل هو الأقوى، توقَّفنا عند عالم الخطيئة منذ البدء: »إلى زوجك يكون اشتياقك وهو عليك يسود« (تك 3: 16). هذا يعني أنَّنا لم نخرج من تفكير العهد القديم الذي ما زال ساريًا في أيّامنا. الرجل رأس المرأة إذًا هو السيِّد المطاع والقائد الذي يوجِّه الأمور كلَّها. ونتذكَّر الجدال المبنيّ على صُوّر لها معناها العميق، لا السطحيّ. يعود البعض إلى سفر التكوين أيضًا حيث المرأةَ »تولد« من الرجل، من ضلع الرجل، والمعنى الأساسيّ أنَّها جزء منه والقريبة إلى قلبه. ولكن جاء من يقول: إذًا، المرأة هي من الرجل وهو الأوَّل. بدَّل بولس هذا المنطق: »في الربِّ لا تكون المرأة من دون الرجل، ولا الرجل من دون المرأة« (1 كو 11: 11). كلاهما على صورة الله ومثاله. وردَّ على براهين قديمة: إذا كانت المرأة من الرجل (تك 2: 21-22). »فالرجل تلدُه المرأة« (1 كو 11: 12). وينهي: »والكلُّ من الله«. فالمبدأ البولسيّ الأساسيّ واضح: لا رجل ولا امرأة كما سبق وقلنا: لا عبد ولا حرّ. لا يونانيّ ولا عبرانيّ.

في خلفيَّة النظرة إلى الكنيسة، فلسفة يونانيَّة نادى بها الرواقيّون (كانوا يجتمعون عند رواق من أروقة المعبد في أثينة) الذين اعتبروا الكون مدينة أو قرية. »كلُّهم من أصل واحد« (أع 17: 26). وكما في المدينة الواحدة يتشارك الأعضاء، كذلك يكون الأمرُ في العالم. وشبَّهوا المجتمع بجسد له أعضاء مختلفة. أخذ بولس هذه الصورة وطبَّقها على كنيسة كورنتوس (1 كو 12: 12-26) وانتهى إلى القول: »فأنتم جسدُ المسيح وكلُّ واحد منكم عضو منه« (آ27).

أمّا الخلفيَّة الأعمق فهي أقوال الأنبياء بدءًا بهوشع وصولاً إلى إرميا وحزقيال وإشعيا. انطلق هوشع من حياته مع جومر امرأته، فتكلَّم على حياة الربِّ مع شعبه: الله هو العريس والشعب هو العروس. قال الربُّ بلسان نبيِّه: »لذلك سأفتنها وأجيء بها إلى البرِّيَّة وأخاطب قلبها... فتخضع لي هناك كما في صباها وفي يوم صعودها من أرض مصر... تدعوني زوجي... وأقطع لها عهدًا... وأتزوَّجكِ إلى الأبد، أتزوّجك بالصدق والعدل والرأفة والرحمة، أتزوَّجكِ بكلِّ أمانة، فتعرفين أنّي أنا الرب« (هو 2: 16-22). ويقول إرميا في الخطِّ عينه متوجِّهًا إلى »عروسه«، إلى جماعته المؤمنة: »أذكرُ مودَّتكِ في صباك، وحبَّك يوم خطبتك« (إر 2: 2). وقال إشعيا: »زوجُك خالقُك، اسمه الربُّ القدير«، ربُّ الأكوان (إش 54: 5). أمّا حزقيال فصوَّر لنا مسيرة العروس إلى عريسها في كلام نقرأه هنا في الرسالة إلى أفسس. قال: »نمَوتِ وكبرتِ وبلغتِ سنَّ الزواج... مررتُ.. دخلتُ معك في عهد فصرتِ لي. فغسلتك بالماء ونقَّيتك... وألبستُكِ ثوبًا مزخرفًا وجعلت الجلد الفاخر نعلاً لك والكتّان وشاحك والحرير كسوتك. زيَّنتك بالحليّ، ووضعتُ أساور في يديك...« (حز 16: 7-11).

ذاك هو كلام الرسول عن الكنيسة وعلاقتها بالربِّ يسوع. »قدَّسها« أي فصلها عن العالم لكي تكون له ولا تخونه، لا في شخصها بل في أولادها الذين يمكن أن يعبدوا غير الله. ثمَّ »طهَّرها بماء الاغتسال«. هكذا تستعدُّ العروس للزواج. ولكن هنا، المسيح هو الذي طهَّرها، غسلها، وذلك في ماء العماد. فحين يعتمد المؤمن يعلن »الكلمةَ«، يعلن إيمانَه، ويواظب على هذا الإعلان مهما كانت الظروف والأخطار. بعد كلِّ هذا الحبّ »زفَّها الربُّ إلى نفسه كنيسة مجيدة لا عيب فيها ولا تجعُّد ولا ما أشبه ذلك، بل مقدَّسة لا عيب فيها« (أف 5: 27). وما توقَّف العمل في بداية الطريق، بل تواصل الاهتمام والعناية. فبعد العماد هناك الإفخارستيّا، فكما الشعب الأوَّل احتاج إلى الطعام والشراب في مسيرته عبر البرِّيَّة (المنّ، الماء)، كذلك الربّ يسوع: »يغذّي جسده (أي كنيسته) ويعتني به، كما يعتني بكلِّ واحد منّا لأنَّنا أعضاء جسده« (آ29).

المرأة أمٌّ والكنيسة أمّ. والأمُّ تهتمُّ بأولادها بحيث يسيطر الحبُّ بينهم والسلام. اعتبر اليهود أنَّهم وحدهم شعب الله. أفهمتهم الكنيسة أنَّ البشريَّة كلَّها شعب الله. هم قريبون من الله لأنَّهم عرفوه. لا بأس. ودورهم أن يستقبلوا البعيدين. فبالإيمان والمعموديَّة صرنا كلُّنا قريبين من الله. ظنَّ اليهود أنَّهم وحدهم أهل البيت، فبيَّنتْ لهم الكنيسةُ أنَّ بيت الله واسع ليستقبل الآتين إليه، شرط أن يكون فيه نور يُرى من البعيد »فيستنير به الداخلون« (لو 8: 16). ولكنَّ المؤمنين الأوائل، ونحن أيضًا مثلهم حين يأتي »غريب« إلى كنيستنا، نسمع كلام الرب: »تغلقون ملكوت السماوات في وجوه الناس، فلا أنتم تدخلون ولا تتركون الداخلين يدخلون« (مت 23: 13). هل يدخل الأسود مع الأبيض ويجلسان الواحد قرب الآخر؟ هل تكون السيِّدة بجانب الخادمة وتصلِّيان معًا؟ والغنيّ مع الفقير؟ أم نسمع كلام يعقوب أخي الربّ: »الفقير يبقى واقفًا (في كنائسنا، عند الباب)، أمّا الغنيّ »فيجلس في صدر المكان« (يع 2: 2-3).

والكنيسة راعية على مثال عريسها الراعي الذي يعرف خرافه وخرافه تعرفه. وهنا نعود إلى حزقيال الذي تكلَّم بفم الربِّ فقال: »أنا أرعى غنمي، وأنا أعيدها إلى حظيرتها، فأبحث عن المفقودة، وأجبر المكسورة، وأقوّي الضعيفة، وأحفظ السمينة والقويَّة، وأرعاها كلَّها بعدل« (حز 34: 15-16). ولماذا اتَّخذ الله المبادرة، لأنَّه رأى المسؤولين في شعبه »يرعون أنفسهم« لا الخراف. »يأكلون اللبن ويلبسون الصوف ويذبحون الخراف« (آ2-3). هم لا يُقوُّون الضعيفة ولا يداوون المريضة، ولا يجبرون المكسورة، ولا يردُّون الشاردة، ولا يبحثون عن المفقودة. وينتهي حكم الربّ: »تسلَّطتم على الخراف بقسوة وعنف فتبعثرت من غير راعٍ وصارت مأكلاً لكلِّ وحوش البرِّيَّة« (آ5).

الخاتمة

قالوا: الكلمة التي توجز الرسالة إلى أفسس هي »السر«. هذا البحر الذي ندخل فيه ونغوص، سرّ الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس، تلك العيلة التي نُدعى للدخول فيها فنكون أبناء وبنات مع الابن الوحيد. هذا السرّ بقي مكتومًا وكُشف في يسوع المسيح الذي حقَّقه بدمه على الصليب وبقي على الكنيسة أن تعلنه للبشر، لا لفئة من الفئات ولا لشعب من الشعوب. تعلنه للبعيدين والقريبين، للغرباء ولأهل البيت. فمتى كان الله إلهنا وحدنا، لا إله الكون كلِّه؟ مثل هذا الإله يصبح »صنمًا« كما في الأيّام القديمة حيث كان للعمّونيّين إلههم والأدوميّين أيضًا والآراميّين. ونحن اليوم، كلُّ طائفة لها إلهها، وكلُّ طائفة لها مسيحها، وهكذا مزَّقنا المسيح كما قالت رسالة يوحنّا الأولى.

والعلاقة بين المسيح والكنيسة سرّ، حيث تخضع الكنيسة لرأسها ويبذل الرأس حياته من أجل الجسد، من أجل الأعضاء، من أجل كلِّ واحد منّا بعد أن »أفاض غنى نعمته«. في هذه الكنيسة لا تمييز، لا محاباة الوجوه. كلُّنا إخوة وأخوات. هل نقبل أن ندخل في هذا السرّ، أم نبقى في الخارج ونكون مسيحيّين بحسب »إنجيل خاصٍّ بنا«؟

والزواج سرٌّ فيه الخضوع والحبُّ وبذل الذات. هو عقدٌ على المستوى البشريّ، وكلُّ عقد يمكن أن يحلّ: أمّا في المسيح فهذا »العقد« يشبه العقد بين الله وشعبه، بين المسيح وكنيسته. هو عقد يصل إلى الموت بل يتعدَّاه لأنَّ »الحبَّ أقوى من الموت« كما قال نشيد الأناشيد.

والحياة العائليَّة سرٌّ حيث الأولاد يطيعون والديهم وحيث الوالدون يراعون أولادهم »فيربّونهم حسب وصايا الربّ وتأديبه« (أف 6: 1-4). وحيث يتآخى الأسياد والعبيد فيطيع العبيد (والخدم) أسيادهم »كما يطيعون المسيح« (آ5). ويعرف الأسياد أنَّ الله هو سيِّدهم وسيِّدُ العبيد »وهو لا يحابي الوجوه« (آ9).

والحياة المسيحيَّة كلُّها سرّ نعيشه في الربِّ فنعرف أيَّ سلاح نأخذ: لا الدرع والترس والسيف والخوذة والسهام، بل إيمانًا نطفئ به جميع سهام الشرّير المشتعلة« فننال الخلاص بالروح الذي هو كلام الله«.

لا حرب بعد اليوم، لا عداوة ولا حواجز في كنيسة الله، بين المؤمنين واللامؤمنين، ذاك هو السرّ الذي دخلنا فيه ونعيشه »إلى أن تكتمل الأزمنة فيجمع الله في المسيح يسوع كلَّ ما في السماوات وما في الأرض« (أف 1: 10).

 
قديم 24 - 03 - 2024, 07:57 AM   رقم المشاركة : ( 155205 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,428

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة






قتل العداوة بصليبه وأزال الحواجز

بعد عشرين سنة ونيِّف على موت بولس الرسول، ما زالت المسائل هي هي. لا في ذلك الوقت فقط، بل في أيّامنا أيضًا. العداوة. من ليس من أهلي ومن قبيلتي ومن أصلي فهو عدوّي. لهذا قيل في القديم: أحبب قريبك وأبغض عدوَّك. يعني أنَّ من ليس قريبي يجب أن يكون عدوِّي. أستطيع أن أسلبه، أنهبه، آخذ له امرأته وأولاده. أستعبده، أجرُّه إلى آرائي وأفكاري إن لم أكن أستغلُّه. وإذا لم أستطع، أجعل حاجزًا بيني وبينه. هكذا بُنيَ سور الصين في الأزمنة القديمة. وسور مصر لردِّ الغزوات الآتية من آسية أو لإبعاد الجائعين في سنوات القحط والجفاف. وسور برلين الذي سقط والحمد لله. واليوم يُبنى سور في فلسطين. أسوار مادِّيَّة. والأسوار المعنويَّة أقوى بكثير. عنها تتكلَّم الرسالة إلى أفسس. فإذا بقيَت العداوة وارتفعت الحواجز، كيف يمكن أن تتوحَّد البشريَّة؟ وماذا يفعل الله وهو الذي أرسل »المسيح ليجمع في شخصه كلَّ ما في السماوات وما على الأرض« (أف 1: 10).

من هنا ننطلق لنتحدَّث عن رسالة وصلت إلى أفسس كما وصلت إلى كولوسّي ولاودكيَّة (كو 4: 16) وهيرابوليس وغيرها من المدن. فالصعوبات هي هي في الكنائس وفي كلِّ مجتمع، لهذا نقرأ هذه الرسالة اليوم ونفحص ضميرنا على ضوء ما يقول لنا بولس وتلاميذه بحيث ندخل »السر« العظيم الذي وصل إلينا فنكون كنيسة واحدة، هي جسد المسيح وهي من »ضحّى بنفسه لأجلها« (أف 5: 25).

 
قديم 24 - 03 - 2024, 07:58 AM   رقم المشاركة : ( 155206 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,428

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة






البعيدون والقريبون

البعيد هو الذي لم يصل إليه ما وصل إليّ. والقريب هو من كان رأيُه مثل رأيي. ذاك كان موقف اليهود في زمن المسيح وفي زمن بولس. البعيدون هم »الوثنيّون« أي الذين صوَّروا آلهتهم (أو: إلههم) وصنعوا لها التماثيل. ويفترقون عن اليهود على مستوى »اللحم« (لا الجسد الذي هو للقيامة): هم قلفة واليهود هم ختان. قام اليهود بعمليَّة صارت اليوم »عمليَّة طبيَّة« فنزعوا القلفة أو الغشاوة، أمّا الأمم الوثنيَّة فما نزعوا هذه الغشاوة. يا للفرق الكبير! لهذا هم بعيدون. ونقول اليوم كلُّ من لا يمارس ما نمارس فهو بعيد، فصرنا محور العالم ونسينا أنَّ الله هو أبو الجميع. وفي تاريخنا الشرقيّ، فرضنا على »الغريب« أن يلبس لباسًا يختلف عن لبسنا، كما منعناه من أمور احتفظنا بها لنفوسنا. ولا نقول شيئًا عن عالم الهند حيث لكلِّ مقاطعة تقاليدها. بل هناك ملايين من الذين لا يحقُّ لنا أن نلمسهم أو نقترب منهم. هم »سفالة«. والصراع بين »البيض« و«السود« حاضر في أذهاننا، في الولايات المتَّحدة، في أفريقيا الجنوبيَّة وفي مواضع أخرى. الحمد لله أنَّ الإيمان المسيحيّ خطا خطواتٍ واسعة، ولكنَّها ليست كافية إلى الآن. والمبدأ نادى به الرسول: لا عبد ولا حرّ، لا يونانيّ ولا بربريّ (كو 3: 11). والبربريّ هو الذي لا يتكلَّم اللغة اليونانيَّة! وبقدر ما يبتعد الإنسان عن العالم اليونانيّ يبتعد عن الحضارة. فذكر الرسول »الإسكوتيّين«، تلك القبائل البدويَّة التي أقامت شرقيّ نهر الفولغا (روسيّا)، الذين اعتُبروا آخر الناس.

وفي عالمنا العربيّ نلاحظ لفظ »عبد« تجاه »حر«. فالعبد هو الذي لون جسمه غير لون جسمنا. لهذا هو »الرقيق، المملوك من سيِّد بسبب مولده أو بالأسر أو بالبيع«، كما يقول القاموس العربيّ. ولهذا فالعبيد الذين »نشتريهم« في أيّامنا، يختلف لونهم عن لوننا. أما هم أيضًا على صورة الله ومثاله كما نحن؟ عنهم قيل في مجمع أورشليم الذي انعقد سنة 49-50: »نحن نؤمن أنَّنا نخلص بنعمة الربِّ يسوع كما هم يخلصون« (أع 15: 11). وقال الرسول: »نحن خليقة الله، خُلقنا في المسيح يسوع للأعمال الصالحة التي أعدَّها الله لنا من قبل لنسلك فيها« (أف 2: 10).

العبد بعيد والحرّ قريبٌ! كلاّ. الاثنان قريبان من الله. فمنذ إشعيا قال الربّ: »السلام للقريب والسلام للبعيد« (إش 57: 19). فالذي هو في أورشليم لا يفترق عن الذي يكون في أقاصي الأرض. اليونانيّ بعيد عن اليهوديّ، لأنَّه غير مختون! وبالتالي هو »مُبعَد عن رعويَّة إسرائيل، غريب عن عهود الموعد، لا رجاء له في هذا العالم ولا إله« (مثل إلهنا) (أف 2: 12).

ما هذا الكلام الذي نسمعه حتّى الآن؟ نحن نخلص. أمّا الآخرون فلا يخلصون. يجب أن يلحقوا بنا، أن يتبعونا، وإلاَّ هم هالكون لا محالة. ذاك ما قيل في المسيحيَّة: لا خلاص خارج الكنيسة. تركت الكنيسة هذا القول وعادت إلى كلام القدّيس بولس: »الله يريد أن يخلص جميع الناس ويبلغوا إلى معرفة الحق« (1 تم 2: 4). وقيل: »أفضل الناس عند الله هم أصحاب التقوى والعاملون بمشيئته«. وأعلن إشعيا أنَّه يكون للعبيد (للخصيان) اسمٌ أبديّ لا ينقطع ذكره، والغرباء يأتون إلى الجبل المقدَّس فيكونون عبيدًا لله (وعبّادًا) لا عبيدًا للناس (إش 56: 3-7). والذروة: »بيتي بيت صلاة لجميع الشعوب«.

كلُّ هذا تقدِّمه الرسالة إلى أفسس في توسُّع كبير، وذلك على ضوء ما حصل في أنطاكية: كان المؤمنون كلُّهم معًا حول المائدة الواحدة. ولمّا جاء أناس من أورشليم، تنحّى بطرس والذين معه وتركوا الآتين من العالم اليونانيّ وحدهم (غل 2: 11ي).

»واذكروا أنَّكم كنتم فيما مضى...« (أف 2: 13). أمّا الآن، فلم يَعُد لذلك من أثر. »ففي المسيح يسوع صرتم قريبين بدم المسيح بعدما كنتم بعيدين« (آ13). ما الذي يُبعد شخصًا عن شخص أو شعبًا عن شعب؟ الدم، الحرب، القتل. أمّا المسيح فما أراد أن يسفك دم الآخرين، بل سفك دمه من أجل البشريَّة جمعاء، التي ضمَّها ببسط يديه على الصليب. لا موضع بعدُ للسيف ولا للعنف، بل للودعاء والمتواضعين على مثال الربِّ الذي قال: »تعلَّموا منّي، أنا وديع ومتواضع القلب« (مت 11: 29).

وتواصلُ الرسالة: »فالمسيح هو سلامنا، جعل اليهود وغير اليهود شعبًا واحدًا وهدم الحاجز الذي يفصل بينهما« (آ14). من لا يتذكَّر الحواجز خلال الحروب. لا مجال للتحاور. الذين هم هناك لا يكونون مع الذين هم هنا. وفي النهاية، يصبح الحاجز »عداوة«. والعدوّ يجب أن يُقتَل. وكيف نُزيل الحواجز؟ بالحرب لكي نصل إلى السلام وأيُّ سلام؟ كانت الإمبراطوريَّة الرومانيَّة تقول: »إن شئت السلام فاستعدَّ للحرب«. وطرح أحدهم السؤال: »لماذا تنتظرون نهاية الحرب لتعقدوا معاهدة سلام؟ لماذا لا يكون تفاهم قبل الحرب؟« أمّا في المسيحيَّة، فالمسيح هو السلام. وكلُّ من يطلب الحرب، أيّا كان معتقده، لن يصل إلى السلام الحقيقيّ، السلام الذي يدوم. وهل يكون السلام لشعب دون شعب، والخير لفئة دون فئة؟

وكان الجواب: »جاء وبشَّركم بالسلام أنتم الذين كنتم بعيدين، كما بشَّر بالسلام الذين كانوا قريبين، لأنَّ لنا به جميعًا الوصول إلى الآب في الروح الواحد« (آ17-18). في الماضي »كنتم« ثمَّ »كانوا«. أمّا الآن فلا تمييز بعدُ، والعمل هو عمل الثالوث. فنهاية مسيرة كلِّ إنسان هي الآب الذي »أرسل ابنَه إلى العالم لكي يخلِّص به العالم« (يو 3: 17). وكلُّ هذا يتمُّ في الروح القدس، روح الآب والابن. إذا كان »الثالوث« هو عيلة الله الذي يستعدُّ أن يستقبل كلَّ الآتين إليه، فمن يحقُّ له أن يجعل هذا في حضن الآب، ويمنع ذاك عن السعادة؟ إذا كان الله لم يرسل ابنه »ليدين العالم« بل ليخلِّصه، فمن أنت أيُّها الإنسان؟

كان حاجز بين اليهوديّ واللايهوديّ: »شريعة موسى بأحكامها ووصاياها« (أف 2: 15). وألغاه يسوع بجسده الذي رُفع على الصليب »ليخلق في شخصه من هاتين الجماعتين إنسانًا واحدًا جديدًا«. لا موضع بعدُ للقديم. لا موضع بعد لجماعة تجاه جماعة، على مستوى الدين أو اللغة أو الطائفة. وقد وصلنا في المسيحيَّة إلى حواجز بين طائفة وطائفة: هناك مؤمنون وآخرون غير مؤمنين. هناك من يحتاجون إلى عمادٍ ثانٍ لأنَّ إيمانهم لم يكن »مستقيمًا«. يجب أن يدخلوا إلى طائفة ترتبط بفلان، لا إلى كنيسة المسيح الواحدة الجامعة المقدَّسة الرسوليَّة. كان خلاف، »فأحلَّ المسيح السلام بين فئة وفئة«. والربُّ نفسه جاء بهذه الطائفة وبتلك »فأصلح بينهما وبين الله بصليبه، فقضى على العداوة وجعلهما جسدًا واحدًا« (آ16).

لا رعايا عديدة، بل »رعيَّة واحدة« (آ19). لا كنائس عديدة بل كنيسة واحدة هي عروس المسيح، و«بيت الله« واحد هو. فلا بيوت عديدة وكأنَّ لكلِّ طائفة بيتًا خاصٌّا بها. فالسماوات العديدة تعني الآلهة العديدة. أمّا نحن فإلهنا واحد، وربُّنا واحد. ذاك ما نقرأ في الرسالة الأولى إلى كورنتوس: »وإذا كان في السماء أو في الأرض ما يزعم الناس أنَّهم آلهة... فلنا نحن إله واحد وهو الآب الذي منه كلُّ شيء وإليه نرجع، وربٌّ واحد وهو يسوع المسيح الذي به كلُّ شيء وبه نحيا« (1 كو 8: 5-6). ذاك هو السرُّ الذي أرادت الرسالة إلى أفسس أن تُدخلنا فيه.
 
قديم 24 - 03 - 2024, 08:00 AM   رقم المشاركة : ( 155207 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,428

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة






سرّ المسيح، ذلك السرّ المكتوم

حين نتحدَّث عن السرِّ نعتبر أنَّنا أمام جدار لا يمكن تجاوزه. وهذا بشكل خاصّ، على مستوى الدين. نقول مثلاً: الثالوث الأقدس هو سرّ. إذًا، لا نفهمه. مثل هذا القول خطأ. فنحن أوَّلاً عرفنا الابن، الكلمة الذي صار بشرًا وسكن بيننا. والابن عرَّفنا إلى الآب: »من رآني رأى الآب«. وقال الإنجيل: »الله لم يرَهُ أحدٌ قطّ، ولكنَّ الابن الذي هو في حضن الآب قد أخبر عنه« (يو 1: 18). والروح القدس أرسله الآب، أرسله الابن منذ بداية الكنيسة. يُشبَّه بالريح العاصفة. هكذا فعل يوم العنصرة، ففتح الأبواب المغلقة وحطَّم النوافذ وأطلق الرسل في طرق البشارة. وشبِّه بنارٍ حلَّت على كلِّ واحد من الرسل وعلى جميع الحاضرين في العلِّيَّة. وهو لا يزالُ يحلُّ على كلِّ واحد منّا.

أجل، السرُّ ليس بجدار نرتطم به ونتراجع. بل هو بحر ننزل فيه ونغوص ونغوص. إلى هناك وصلت النفوس المتصوِّفة، غارت في عمق الله وغارت: امتلأ قلبها سعادة منذ الآن »مع أنَّ الصورة باهتة كما في مرآة« (1 كو 13: 12). قال الرسول: »اليوم أعرف بعض المعرفة، وأمّا في ذلك اليوم فستكون معرفتي كاملة كمعرفة الله لي« (1 كو 13: 12). تحدَّث العهد القديم عن »رؤية« الله في السحاب. هناك بعض النور وهناك بعض الظلمة. ويقول الرسول إلى أهل غلاطية: في الماضي كنتم تجهلون، »أمّا الآن فعرفتم الله، بل عرفكم الله« (غل 3: 9). وتواصل الكلام في الرسالة إلى أفسس: »أتوسَّل إلى الله... أن تدركوا مع جميع القدّيسين ما هو العرض والطول والعلوّ والعمق، وتعرفوا محبَّة المسيح التي تفوق كلَّ معرفة، فتمتلئوا بكلِّ ما في الله من ملء« (أف 3: 18-19).

إلى هذا السرّ أراد الرسول أن يدخلنا: سرّ المسيح. معه تبدَّل كلُّ شيء وفي عمله كان انقلاب في البشريَّة سيبقى حاضرًا حتّى نهاية العالم. السرّ هو أنَّنا كلَّنا عيلة الله الواحدة. ما من أحد يكون »خارج البيت« إلاَّ إذا هو أراد، كما فعل الابن الأكبر (لو 15: 28). فالمعرفة التي يتحدَّث عنها الكتاب لا تقف عند العقل والمنطق كما يحسب الناس في أيّامنا. المعرفة هي حوار بين القلب والقلب، بين العاطفة والعاطفة. المعرفة هي التصاق بالآخر واتِّحاد به. ذاك هو معنى العبارة: »الله عرفكم«. أتى إليكم، أحبّكم، اختاركم. اتَّحد بكلِّ واحد منكم اتِّحاد العريس بعروسه. فحين يقولون عن الرجل إنَّه عرف امرأته، فهم يعنون الاتِّحاد التامّ بين الاثنين. والرسول دعاه »سرٌّا« في الرسالة إلى أفسس: »لذلك يترك الرجل أباه وأمَّه ويتَّحد بامرأته فيصير الاثنان جسدًا واحدًا. هذا السرُّ عظيم، وأعني به سرَّ المسيح والكنيسة. فليحبَّ كلُّ واحد منكم امرأته مثلما يحبُّ نفسه، ولتحترم المرأة زوجها« (أف 5: 31-33).

منذ بداية الرسالة، دخلنا في السرّ »سرّ مشيئته« (أف 1: 9). وأنشد الرسول عمل الثالوث بالنسبة إلى البشر جميعًا، لا إلى فئة من الفئات، بحيث يسبِّح البشر كلُّهم مجده. فعبارة »لتسبيح مجده« تأتي في ثلاث محطّات في كلام عن الآب والابن والروح القدس. »تبارك الآب« الذي باركنا واختارنا وتبنّانا »لتسبيح مجده« (آ16). أو »تسبيح مجد نعمته« بعد أن نلنا ما نلنا من خلاص. وفي كلام عن الابن الذي »كان لنا فيه الفداء بدمه« (آ7) وغفران الخطايا. كلُّ ذلك »لتسبيح مجده« (آ13) بعدما »جعلنا رجاءنا من قديم الزمان في المسيح«. وفي كلام عن الروح القدس الذي »خُتمنا به« (آ13) كما وُعدنا. وهذا أيضًا »لتسبيح مجده« (آ14). وهو »عربون ميراثنا«.

سرٌّ ثالوثيّ دخلنا فيه. كان مكتومًا منذ الدهور (أف 3: 9). سرّ مخطَّط الله الأزليّ الذي تمَّ في يسوع المسيح وكشفته الكنيسة الآن بفضل خدمة الرسول. »بإمكانكم إذا قرأتم ذلك أن تعرفوا كيف أفهم سرّ المسيح، هذا السرّ الذي ما كشفه الله لأحد من البشر في العصور الماضية، وكشفه الآن في الروح القدس لرسله وأنبيائه القدّيسين« (أف 3: 4-5). كيف عرف بولس هذا السرّ؟ هل تفوَّقت معرفتُه على معرفة الآخرين؟ بل هو شابه بطرس حين أعلن أنَّ يسوع هو »المسيح ابن الله« (مت 16: 16). قال له الربّ: »ما كشف لك أحد من البشر هذه الحقيقة، بل أبي الذي في السماوات« (آ17). هي نعمة مجّانيَّة. وكذا نقول عن بولس: »كَشف لي (الربّ) سرَّ تدبيره بوحي« (أف 3: 3). فالرسول كرسول عرف هذا »السر« وأوصله إلى المؤمنين أو إلى الذين سوف يؤمنون على يده. الجميع هم مدعوّون. فلا تمييز بين »البسطاء« و«الكاملين«. فمنذ إرميا النبيّ نسمع الربَّ يقول: »أجعلُ شريعتي في ضمائرهم وأكتبُها على قلوبهم... فلا يعلِّم بعدُ واحدُهم الآخر، والأخ أخاه، أن يعرف الربّ. فجميعهم من صغيرهم إلى كبيرهم سيعرفونني« (إر 31: 33-34).

ماذا يتضمَّن هذا السرّ؟ أربعة أمور: دعوة الأمم الوثنيَّة إلى الخلاص؛ المصالحة بين اليهود والأمم بعد أن صارت الفتئان جسدًا واحدًا. وحدة المسيح وكنيسته في صورة بشريَّة، صورة الزواج. وأخيرًا، سلطان المسيح على الكون كلِّه. هذا ما يدخلنا في سرِّ الكنيسة التي هي عيلة الله على الأرض كما الثالوث عيلة الله في السماء.
 
قديم 24 - 03 - 2024, 08:00 AM   رقم المشاركة : ( 155208 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,428

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة






بين المسيح والكنيسة

حين قرأنا رسائل بولس إلى رومة أو كورنتوس أو غلاطية، عنت الكنيسة جماعة أو جماعات مسيحيَّة في مدينة أو منطقة محدَّدة. كدت أقول رعايا تنضمّ بعضها إلى بعض. ولكن في الرسالة إلى أفسس كما إلى كولوسّي، اتَّخذ لفظ الكنيسة مفهومًا آخر. الكنيسة هي جماعة المؤمنين في كلِّ مكان. والرسول ينظر إليها من جهة المسيح. هو رأسها وهي جسده. هو يهتمُّ بها ويعتني ويضحّي بنفسه من أجلها لكي تكون مقدَّسة ولا عيب فيها.

جاء الحديث عن الكنيسة هنا في معرض الكلام عن الزواج: علاقة الرجل بالمرأة وعلاقة المرأة بالرجل: خضوع متبادل أوَّلاً، ثمَّ خضوع من جهة ومحبَّة وتضحية من جهة أخرى. ما الذي يُسند الخضوع؟ المحبَّة. فبدونها لا علاقة بين الرجل والمرأة. وينبغي هنا أن نقرأ هذا التوازي بين الخضوع والحبّ على أنَّه واجب على المرأة والرجل. فهي تحبُّ وتضحّي والرجل يحبُّ ويضحّي. وهي تخضع وهو يخضع أيضًا. فإن عدنا إلى مبدأ الخضوع والطاعة لأنَّ الرجل هو الأقوى، توقَّفنا عند عالم الخطيئة منذ البدء: »إلى زوجك يكون اشتياقك وهو عليك يسود« (تك 3: 16). هذا يعني أنَّنا لم نخرج من تفكير العهد القديم الذي ما زال ساريًا في أيّامنا. الرجل رأس المرأة إذًا هو السيِّد المطاع والقائد الذي يوجِّه الأمور كلَّها. ونتذكَّر الجدال المبنيّ على صُوّر لها معناها العميق، لا السطحيّ. يعود البعض إلى سفر التكوين أيضًا حيث المرأةَ »تولد« من الرجل، من ضلع الرجل، والمعنى الأساسيّ أنَّها جزء منه والقريبة إلى قلبه. ولكن جاء من يقول: إذًا، المرأة هي من الرجل وهو الأوَّل. بدَّل بولس هذا المنطق: »في الربِّ لا تكون المرأة من دون الرجل، ولا الرجل من دون المرأة« (1 كو 11: 11). كلاهما على صورة الله ومثاله. وردَّ على براهين قديمة: إذا كانت المرأة من الرجل (تك 2: 21-22). »فالرجل تلدُه المرأة« (1 كو 11: 12). وينهي: »والكلُّ من الله«. فالمبدأ البولسيّ الأساسيّ واضح: لا رجل ولا امرأة كما سبق وقلنا: لا عبد ولا حرّ. لا يونانيّ ولا عبرانيّ.

في خلفيَّة النظرة إلى الكنيسة، فلسفة يونانيَّة نادى بها الرواقيّون (كانوا يجتمعون عند رواق من أروقة المعبد في أثينة) الذين اعتبروا الكون مدينة أو قرية. »كلُّهم من أصل واحد« (أع 17: 26). وكما في المدينة الواحدة يتشارك الأعضاء، كذلك يكون الأمرُ في العالم. وشبَّهوا المجتمع بجسد له أعضاء مختلفة. أخذ بولس هذه الصورة وطبَّقها على كنيسة كورنتوس (1 كو 12: 12-26) وانتهى إلى القول: »فأنتم جسدُ المسيح وكلُّ واحد منكم عضو منه« (آ27).

أمّا الخلفيَّة الأعمق فهي أقوال الأنبياء بدءًا بهوشع وصولاً إلى إرميا وحزقيال وإشعيا. انطلق هوشع من حياته مع جومر امرأته، فتكلَّم على حياة الربِّ مع شعبه: الله هو العريس والشعب هو العروس. قال الربُّ بلسان نبيِّه: »لذلك سأفتنها وأجيء بها إلى البرِّيَّة وأخاطب قلبها... فتخضع لي هناك كما في صباها وفي يوم صعودها من أرض مصر... تدعوني زوجي... وأقطع لها عهدًا... وأتزوَّجكِ إلى الأبد، أتزوّجك بالصدق والعدل والرأفة والرحمة، أتزوَّجكِ بكلِّ أمانة، فتعرفين أنّي أنا الرب« (هو 2: 16-22). ويقول إرميا في الخطِّ عينه متوجِّهًا إلى »عروسه«، إلى جماعته المؤمنة: »أذكرُ مودَّتكِ في صباك، وحبَّك يوم خطبتك« (إر 2: 2). وقال إشعيا: »زوجُك خالقُك، اسمه الربُّ القدير«، ربُّ الأكوان (إش 54: 5). أمّا حزقيال فصوَّر لنا مسيرة العروس إلى عريسها في كلام نقرأه هنا في الرسالة إلى أفسس. قال: »نمَوتِ وكبرتِ وبلغتِ سنَّ الزواج... مررتُ.. دخلتُ معك في عهد فصرتِ لي. فغسلتك بالماء ونقَّيتك... وألبستُكِ ثوبًا مزخرفًا وجعلت الجلد الفاخر نعلاً لك والكتّان وشاحك والحرير كسوتك. زيَّنتك بالحليّ، ووضعتُ أساور في يديك...« (حز 16: 7-11).

ذاك هو كلام الرسول عن الكنيسة وعلاقتها بالربِّ يسوع. »قدَّسها« أي فصلها عن العالم لكي تكون له ولا تخونه، لا في شخصها بل في أولادها الذين يمكن أن يعبدوا غير الله. ثمَّ »طهَّرها بماء الاغتسال«. هكذا تستعدُّ العروس للزواج. ولكن هنا، المسيح هو الذي طهَّرها، غسلها، وذلك في ماء العماد. فحين يعتمد المؤمن يعلن »الكلمةَ«، يعلن إيمانَه، ويواظب على هذا الإعلان مهما كانت الظروف والأخطار. بعد كلِّ هذا الحبّ »زفَّها الربُّ إلى نفسه كنيسة مجيدة لا عيب فيها ولا تجعُّد ولا ما أشبه ذلك، بل مقدَّسة لا عيب فيها« (أف 5: 27). وما توقَّف العمل في بداية الطريق، بل تواصل الاهتمام والعناية. فبعد العماد هناك الإفخارستيّا، فكما الشعب الأوَّل احتاج إلى الطعام والشراب في مسيرته عبر البرِّيَّة (المنّ، الماء)، كذلك الربّ يسوع: »يغذّي جسده (أي كنيسته) ويعتني به، كما يعتني بكلِّ واحد منّا لأنَّنا أعضاء جسده« (آ29).

المرأة أمٌّ والكنيسة أمّ. والأمُّ تهتمُّ بأولادها بحيث يسيطر الحبُّ بينهم والسلام. اعتبر اليهود أنَّهم وحدهم شعب الله. أفهمتهم الكنيسة أنَّ البشريَّة كلَّها شعب الله. هم قريبون من الله لأنَّهم عرفوه. لا بأس. ودورهم أن يستقبلوا البعيدين. فبالإيمان والمعموديَّة صرنا كلُّنا قريبين من الله. ظنَّ اليهود أنَّهم وحدهم أهل البيت، فبيَّنتْ لهم الكنيسةُ أنَّ بيت الله واسع ليستقبل الآتين إليه، شرط أن يكون فيه نور يُرى من البعيد »فيستنير به الداخلون« (لو 8: 16). ولكنَّ المؤمنين الأوائل، ونحن أيضًا مثلهم حين يأتي »غريب« إلى كنيستنا، نسمع كلام الرب: »تغلقون ملكوت السماوات في وجوه الناس، فلا أنتم تدخلون ولا تتركون الداخلين يدخلون« (مت 23: 13). هل يدخل الأسود مع الأبيض ويجلسان الواحد قرب الآخر؟ هل تكون السيِّدة بجانب الخادمة وتصلِّيان معًا؟ والغنيّ مع الفقير؟ أم نسمع كلام يعقوب أخي الربّ: »الفقير يبقى واقفًا (في كنائسنا، عند الباب)، أمّا الغنيّ »فيجلس في صدر المكان« (يع 2: 2-3).

والكنيسة راعية على مثال عريسها الراعي الذي يعرف خرافه وخرافه تعرفه. وهنا نعود إلى حزقيال الذي تكلَّم بفم الربِّ فقال: »أنا أرعى غنمي، وأنا أعيدها إلى حظيرتها، فأبحث عن المفقودة، وأجبر المكسورة، وأقوّي الضعيفة، وأحفظ السمينة والقويَّة، وأرعاها كلَّها بعدل« (حز 34: 15-16). ولماذا اتَّخذ الله المبادرة، لأنَّه رأى المسؤولين في شعبه »يرعون أنفسهم« لا الخراف. »يأكلون اللبن ويلبسون الصوف ويذبحون الخراف« (آ2-3). هم لا يُقوُّون الضعيفة ولا يداوون المريضة، ولا يجبرون المكسورة، ولا يردُّون الشاردة، ولا يبحثون عن المفقودة. وينتهي حكم الربّ: »تسلَّطتم على الخراف بقسوة وعنف فتبعثرت من غير راعٍ وصارت مأكلاً لكلِّ وحوش البرِّيَّة« (آ5).

الخاتمة

قالوا: الكلمة التي توجز الرسالة إلى أفسس هي »السر«. هذا البحر الذي ندخل فيه ونغوص، سرّ الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس، تلك العيلة التي نُدعى للدخول فيها فنكون أبناء وبنات مع الابن الوحيد. هذا السرّ بقي مكتومًا وكُشف في يسوع المسيح الذي حقَّقه بدمه على الصليب وبقي على الكنيسة أن تعلنه للبشر، لا لفئة من الفئات ولا لشعب من الشعوب. تعلنه للبعيدين والقريبين، للغرباء ولأهل البيت. فمتى كان الله إلهنا وحدنا، لا إله الكون كلِّه؟ مثل هذا الإله يصبح »صنمًا« كما في الأيّام القديمة حيث كان للعمّونيّين إلههم والأدوميّين أيضًا والآراميّين. ونحن اليوم، كلُّ طائفة لها إلهها، وكلُّ طائفة لها مسيحها، وهكذا مزَّقنا المسيح كما قالت رسالة يوحنّا الأولى.

والعلاقة بين المسيح والكنيسة سرّ، حيث تخضع الكنيسة لرأسها ويبذل الرأس حياته من أجل الجسد، من أجل الأعضاء، من أجل كلِّ واحد منّا بعد أن »أفاض غنى نعمته«. في هذه الكنيسة لا تمييز، لا محاباة الوجوه. كلُّنا إخوة وأخوات. هل نقبل أن ندخل في هذا السرّ، أم نبقى في الخارج ونكون مسيحيّين بحسب »إنجيل خاصٍّ بنا«؟

والزواج سرٌّ فيه الخضوع والحبُّ وبذل الذات. هو عقدٌ على المستوى البشريّ، وكلُّ عقد يمكن أن يحلّ: أمّا في المسيح فهذا »العقد« يشبه العقد بين الله وشعبه، بين المسيح وكنيسته. هو عقد يصل إلى الموت بل يتعدَّاه لأنَّ »الحبَّ أقوى من الموت« كما قال نشيد الأناشيد.

والحياة العائليَّة سرٌّ حيث الأولاد يطيعون والديهم وحيث الوالدون يراعون أولادهم »فيربّونهم حسب وصايا الربّ وتأديبه« (أف 6: 1-4). وحيث يتآخى الأسياد والعبيد فيطيع العبيد (والخدم) أسيادهم »كما يطيعون المسيح« (آ5). ويعرف الأسياد أنَّ الله هو سيِّدهم وسيِّدُ العبيد »وهو لا يحابي الوجوه« (آ9).

والحياة المسيحيَّة كلُّها سرّ نعيشه في الربِّ فنعرف أيَّ سلاح نأخذ: لا الدرع والترس والسيف والخوذة والسهام، بل إيمانًا نطفئ به جميع سهام الشرّير المشتعلة« فننال الخلاص بالروح الذي هو كلام الله«.

لا حرب بعد اليوم، لا عداوة ولا حواجز في كنيسة الله، بين المؤمنين واللامؤمنين، ذاك هو السرّ الذي دخلنا فيه ونعيشه »إلى أن تكتمل الأزمنة فيجمع الله في المسيح يسوع كلَّ ما في السماوات وما في الأرض« (أف 1: 10).
 
قديم 24 - 03 - 2024, 08:02 AM   رقم المشاركة : ( 155209 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,428

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة





أيُّها الغلاطيّون الأغبياء

بهذا الكلام القاسي توجَّه بولس الرسول إلى هؤلاء المؤمنين المقيمين في غلاطية، وهي منطقة جبليَّة تحيط اليوم بالعاصمة التركيَّة، أنقرة. هؤلاء الذين أتوا من بلاد »غاليا« أي فرنسا القديمة واعتادوا على ممارسات قاسية في أجسادهم، حنُّوا للعودة إلى الختان، وبعد أن اعتمدوا في المسيح أرادوا عودة إلى موسى بعد أن جاءهم أناس بشَّروهم »بخلاف« ما بشَّرهم بولس. فالرسول حدَّثهم عن الحرِّيَّة، حدَّثهم عن الشموليَّة، لا عن الانغلاق بحيث يكون حاجز بين الرجل والمرأة، بين اليهوديّ والوثنيّ، بين العبد والحرّ. قال لهم: »كلُّكم واحد في المسيح يسوع« (غل 3: 28). أمَّا الذين أتوا وراء بولس فنبَّهوهم: تأكلون من هذا الطعام وتمتنعون عن ذلك مع أنَّ كلَّ ما خلقه الله حسن ونحن نأكله بالشكر. قالوا لهم: هناك أيّام وأيّام، وكأنَّ يومًا يأتي من عند الربِّ وآخر يأتي من عند الشيطان. بدا الغلاطيّون راجعين إلى الوراء، فاستحقُّوا لوم المسيح: هم لا يصلحون لملكوت الله (لو 9: 61). كم هم أغبياء! (غلا 3: 1). أزمة كبيرة جدٌّا تعيشها هذه الكنائس: هل هناك إنجيل آخر تجاه الإنجيل؟ من أجل هذا كتب الرسول حوالى سنة 55 ويبدو أنَّه كان في أفسس.

1- إن بشَّركم أحد بإنجيل آخر

الخطر يحيق بهؤلاء المؤمنين الجدد الذين يدعوهم بولس »أبنائي الصغار« (غل 4: 19). من أين يأتي هذا الخطر؟ من المسيحيّين المتهوِّدين؟ أي الذين يريدون أن يحافظوا على الممارسات اليهوديَّة، كما يريدون أن يفرضوا هذه الممارسات على الآتين من العالم الوثنيّ. هذا ما نعرفه أوَّلاً من سفر الأعمال. فهم يقولون: »لا خلاص لكم إلاَّ إذا اختتنتم على شريعة موسى« (أع 15: 1). هم يشبهون الكثيرين في أيّامنا الذين يفرضون ممارسات وعادات وكأنَّها من صلب الإيمان، بينما هي تحجِّرُ الإنسانَ ولا تطلقه في حرِّيَّة الإنجيل. أمّا الرسول فقال: »إن بشَّركم أحد بغير ما بشَّرناكم، ولو كان ملاكًا من السماء، فليكن ملعونًا، محرومًا« (غل 1: 8). أي لا تحلُّ عليه بركة الله ويُقطَع من جسم الكنيسة. وعاد الرسول وشدَّد: قلت وأقول: ليكن محرومًا.

والخطر الأكبر هو »الحذر« تجاه الرسول: أراد أن يرضي الناس، هكذا قالوا. سهَّل عليهم الأمور. خفَّف، بل ألغى ممارسات تُقرأ في الكتاب المقدَّس فردَّ الرسول: »إن كنت أطلب رضا الناس فلست عبدًا ليسوع المسيح« (آ10) أتظنُّون أنّي أستعطف الناس لكي يسيروا ورائي. أمامي فقط يسوع المسيح ويسوع المصلوب. فهو وحده من أريد أن أرضي. لأنَّه »ضحّى بنفسه من أجل خطايانا لينقذنا من هذا العالم الشرّير« (آ4).

أ- بولس الرسول

منذ البداية وقبل أن يحيّي المؤمنين، كما اعتاد أن يفعل في الرسائل، أعلن بولس أنَّه رسول يسوع المسيح. من دعاه إلى الرسالة؟ الناس؟ كلاّ. سبق وقال إنَّه لا يحتاج إلى رسائل توصية كما يطلب بعض الذين يريدون رسولهم على قياسهم. أنا رسول »بدعوة من يسوع المسيح والله الآب« (آ1).

من أين لبولس الرسالة وهو الذي لم يعرف المسيح بالجسد؟ وهل معرفة المسيح بالجسد تكفي للخلاص؟ والذين رافقوه في طرقات الجليل والسامرة واليهوديَّة، هل آمنوا به؟ قال عنهم يوحنّا: »ما أعلنوا إيمانهم مسايرة للفرّيسيّين، لئلاَّ يُطرَدوا من المجمع« (يو 12: 42). وكيف تكون معرفة يسوع الحقيقيَّة؟ قال بولس عن نفسه: »أعرف المسيح وأعرف القوَّة التي تجلَّت في قيامته وأشاركه في آلامه وأتشبَّه به في موته« (فل 3: 10).

فكما الربُّ ظهر للرسل بعد قيامته وأرسلهم ليتلمذوا جميع الأمم (مت 28: 19)، كذلك أرسل بولس وأخبر حنانيا بذلك: »اخترتُه رسولاً لي يحمل اسمي إلى الأمم والملوك وبني إسرائيل، وسأريه كم يجب أن يتحمَّل من الآلام في سبيل اسمي« (أع 9: 15-16).

أجل، بدأ الرسول ودافع عن نفسه: كان ذاك المضطهد (غل 1: 13) قبل أن يختاره الله. وهذا الاختيار ليس وليد الساعة، بل إنَّ يسوع وضع عينيه عليه منذ طفولته. قال: »ولكنَّ الله بنعمته اختارني وأنا في بطن أمّي فدعاني إلى خدمته... وشاء أن يعلن ابنه فيَّ لأبشِّر به بين الأمم (آ15-16).

ويُطرَح السؤال: أين تعلَّم بولس تعليم المسيح؟ هل استغنى عمّا عرفه التلاميذ خلال ثلاث سنوات تقريبًا؟ هل علَّمه يسوع مباشرة بحسب ما قال: »فاعلموا، أيُّها الإخوة، أنَّ البشارة التي بشَّرتكم بها غير صادرة عن البشر، فأنا ما تلقَّيتها ولا أخذتها من إنسان، بل عن وحي من يسوع المسيح« (آ11-12). لا شكَّ في أنَّ يسوع هو المعلِّم الأكبر. »أحرق« قلب الرسول وهو في طريقه إلى دمشق، رفعه إلى السماء الثالثة وأسمعه كلامًا ساميًا (2 كو 12: 2-4). وانطلاقًا من هذه الخبرة الأساسيَّة، كتب لنا من الرسائل ما كتب، بيده أو بيد تلاميذه. لكنَّنا نفهم أيضًا من كلام الرسول أنَّه لم يبشِّر حالاً بالإنجيل، بعد اهتدائه، بل مضى إلى بلاد العرب، وهو ما يقابل حوران في جنوب سورية وشرقيّ نهر الأردنّ، حيث كان الإنجيل انتشر بسرعة كبيرة في أراضٍ قريبة من فلسطين. هناك تعلَّم الرسول مثلاً ممارسة الإفخارستيّا، وهو الذي كتب عنها قبل الأناجيل بعشرين وثلاثين سنة (1 كو 11: 23-27). وسمع في تلك الجماعات »العربيَّة« شهادات الذين تراءى لهم الربُّ بعد قيامته. فبولس تلقّى البشارة من الكنائس التي عاش فيها قبل أن يحمل هذه البشارة. هذا يدلُّ على أهمِّيَّة كلِّ كنيسة، كلِّ رعيَّة، في إيصال البشارة للآتين من الخارج.

ب - يدعو الجميع إلى الخلاص

لا حاجز بعد اليوم بين »يهود بالولادة« و»أمم خاطئين« (غل 2: 15). ما هذا الكلام الذي يحمل الكبرياء والعجرفة ويفصل المؤمن عن المؤمن؟ أنا معمَّد وأنت معمَّد، فأيُّ فضل لك عليَّ؟ هل أنت مؤمن من الدرجة الأولى وجارك مؤمن من الدرجة الثانية؟ أنت مختون! ماذا يزيد ختانك على إيمانك؟ لا شيء. أنت غير مختون، فماذا ينقص إيمانك؟ لا شيء. وسأل الرسول: »هل نحن اليهود أفضل عند الله من اليونانيّين؟ كلاّ. فاليهود واليونانيّون خاضعون جميعًا لسلطان الخطيئة« (رو 3: 9)، وبالتالي يحتاجون كلُّهم إلى الخلاص بيسوع المسيح. فما يبرِّر المؤمن ليس هذا العمل أو ذاك. ليس »العمل بأحكام الشريعة« بل »الإيمان بيسوع المسيح«.

في هذا الإطار نفهم حادثة أنطاكية كما رواها بولس في هذه الرسالة: المؤمنون كلُّهم، سواء جاؤوا من العالم اليونانيّ أو من العالم اليهوديّ، متَّكئون إلى المائدة الواحدة، ومعهم بطرس ومرافقوه، وبرنابا وبولس. من أجل عشاء المحبَّة، أغابي. وبعده يأتي الاحتفال بعشاء الربّ، بالإفخارستيّا. »لا فرق بين يهوديّ وغير يهوديّ« (غل 3: 28). ولكنَّ هذا الاجتماع مهدَّد: »قبل أن يجيء قوم من عند يعقوب أخي الربّ، الذي لبث أمينًا للممارسات اليهوديَّة«، كان بطرس يأكل مع غير اليهود. فلمّا وصلوا (= جماعة يعقوب) تجنَّبهم (= غير اليهود) وانفصل عنهم خوفًا من دعاة الختان« (غل 2: 12). هو الخوف يسيطر. هو الحياء. هو المسايرة في قضيَّة هامَّة من قضايا الإيمان. الانشقاق داخل الكنيسة، داخل الجماعة الواحدة بسبب علامة في الجسد! هو الرياء والخبث: في الخارج نحن معًا، ولكن حين تتبدَّل الظروف نتبدَّل نحن. الرياء. كلمة قاسية وصف بها يسوع الفرّيسيّين: يقولون ولا يفعلون (مت 23: 3). قال بطرس في »مجمع« أورشليم: »ما فرَّق (الله) بيننا (نحن اليهود) وبينهم (= أي الوثنيين) في شيء... خصوصًا ونحن نؤمن أنَّنا نخلص بنعمة الربِّ يسوع كما هم يخلصون« (أع 15: 9، 11). فما الذي جرى هنا؟ انفصل بطرس، »وجاراه سائر اليهود في ريائه، حتّى إنَّ برنابا نفسه انقاد إلى ريائهم« (غل 2: 13).

هذا أمرٌ لم يقبل به بولس. وهي طريق غير مستقيمة حيث 'التمييز يدمِّر الكنيسة تدميرًا. كنيسة للبيض وكنيسة للسود، كنيسة لأهل البلد وكنيسة للأغراب. والغريب عن الرعيَّة يبقى غريبًا. والغريب عن الطائفة يكون في الدرجة الثانية، هذا إذا أعطيَت له درجة. حين نتصرَّف هكذا نفعل مثل »الوثنيّين« بآلهتهم المتعدِّدة، لا مثل المؤمنين بالإله الواحد حيث الجميع إخوة وأخوات في عناية أب واحد، هو أبو ربِّنا يسوع المسيح.

رسالة بولس رسالة الانفتاح لا الانغلاق. أُرسل أوَّل ما أُرسل إلى اليونانيّين، إلى الأمم، وهو لن ينجح لدى اليهود الذين سوف يلاحقونه حتّى نهاية حياته. وهو روى عن نفسه ما رأى في رؤيا: »قال لي الربّ: »هيّا، سأرسلك إلى البعيد، إلى الأمم الوثنيَّة« (أع 22: 21). مكانك ليس في أورشليم، »قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها« (مت 23: 37)، بل في أنطاكية، تلك المدينة التي تضمُّ كلَّ الأعراق والشعوب، وتدعو المؤمنين كلَّهم »مسيحيّين« (أع 11: 26)، نسبةً إلى يسوع المسيح، لا نسبة إلى أحد آخر، إذ »ما من اسم آخر في السماء وهبه الله للناس نقدر به أن نخلص« (أع 4: 12).

اختار بولس طريق الإيمان وترك ممارسات الشريعة اليهوديَّة من أجل المسيح المصلوب »من أجلنا ومن أجل خلاصنا«. فمن اختار أن يتبرَّر بأعماله من ختان وامتناع عن أطعمة وممارسات أخرى، جعل موتَ المسيح بدون فائدة. أمّا من يقبل أن يبرِّره المسيح بحيث لا يحسب نفسه قادرًا على تخليص نفسه بنفسه، فهذا يدلُّ على أنَّ موت المسيح أثمر فيه. »مع المسيح صلبتُ، فما أنا أحيا بعدُ، بل المسيح يحيا فيَّ. وإذا كنتُ أحيا الآن بالجسد، فحياتي هي في الإيمان بابن الله الذي أحبَّني وضحّى بنفسه من أجلي« (غل 2: 20-21).

2- أمام المسيح المصلوب

الصليب حاضر وحاضر بكثافة في الرسالة إلى غلاطية، وذلك تجاه الشريعة. بالصليب وحده نخلص. وذاك ما فهمه بولس على طريق دمشق: هو لا يضطهد المسيحيّين، بل يضطهد يسوع المسيح الذي لا يزال حاضرًا يحمل كلَّ صليب، ويموت في كلِّ شهيد، ويُضطهد في كلِّ مضطهَد. العالم يرفض الصليب ويحسبه جهالة، كما يرفض الإنجيل بما هو إنجيل، فينتزع منه الأساس وهو أنَّ هذا المصلوب هو ابن الله. فكيف يتجاسر بعض كتّابنا فيقوموا بتدوين »إنجيل خامس« يعارض الأناجيل الأربعة، ويعلنون منذ البداية أنَّ يسوع هو إنسان من الناس وحسب؟ وهنا يجيب المزمور: ماذا يصنع لي الناس؟ وماذا يصنع لي يسوع إن لم يكن الله وابن الله؟ حينئذٍ يتردَّد كلام اليهود: »لا يقدر أن يخلِّص نفسه فكيف يقدر أن يخلِّص البشر؟«

أ- أنا أفتخر بصليب ربِّنا

نظرة بولس غير نظرة العالم. من يفتخر بالصليب إلاَّ المجنون؟ ولمن كان الصليب؟ للصوص الكبار، للقتلة، للعبيد، للخوَنة. ونضع يسوع بين هؤلاء؟! في الواقع، هو وضع نفسه هناك: صُلب بين لصَّين وما استحى من ذلك. وفي هذا قال الرسول للغلاطيّين: »ارتسم المسيح أمام عيونكم مصلوبًا« (غل 3: 1). فلا نبحث عن صورة أخرى. مثلاً، صورة المسيح الممجَّد الذي لا يمرُّ في الآلام. كأن يُرفَع إلى السماء بقدرة إلهيَّة، كما تصوَّروا صعود إيليّا في تلك المركبة الناريَّة. فهل اللحم والدم يرثان الملكوت؟ (1 كو 15: 50). كلاّ. فاللافاني فينا هو الذي يرث الملكوت بعد أن مات الموت على صليب الربّ.

لماذا راح الغلاطيّون في خطِّ التعليم الجديد الذي حمله المتهوِّدون؟ لأنَّه أسهل على الفهم. ما هذا الإله الذي يصير إنسانًا ويُصلَب ويكون صليبه مرفوعًا في كلِّ مكان؟ هذا مستحيل. أو أنَّ الذي صُلب لم يكن الربَّ يسوع، بل »يهوذا« (يوضاس) الذي أخذ صورته، فحسب الناس أنَّ يسوع صُلب. أخطأ الناس، شُبِّه لهم ذلك كما قالت الهرطقات منذ القديم. فيسوع ما أخذ جسدًا، بل تظاهر. أو يسوع ما كان ابن الله، كما قال أريوس، بل خليقة سامية من الخلائق، كما يقول اليوم شهود يهوه.

أمّا الإيمان فواضح. ذاك الذي في الجسد هو من نسل داود. هو إنسان. وهو ابن الله الذي برزت قدرته حين قام من بين الأموات. ذاك هو »ربُّنا يسوع المسيح« (رو 1: 3-4). فلماذا البحث عن مسيح آخر؟ لأنَّ الصليب يشكِّل عثرة لنا كما كان للرسل الذين رافقوا يسوع. بعد أن اعترف بطرس بيسوع أنَّه المسيح ابن الله الحيّ، وسمع الإنباء الأوَّل بالآلام، انفرد بيسوع وعاتبه: »حاشا لك يا ربّ أن تلقى هذا المصير!« (مت 16: 22). وبدا بطرس »شيطانًا« لأنَّه يحاول أن يعيق مسيرة الخلاص.

واليهود في غلاطية، والذين تبعوهم، يحاولون أن يُزيلوا عثار الصليب. يعتبرونه أنَّه غير موجود. يُبعدونه عن نظرهم مع أنَّ فيه خلاصهم. لهذا، يعودون إلى الممارسة اليهوديَّة والتفكير اليهوديّ، لئلاَّ يُضطهدوا. فالمعروف أنَّ الديانة اليهوديَّة كانت مقبولة لدى السلطة الرومانيَّة، بحيث لا يُفرَض على اليهوديّ أن يشارك في عبادة الأصنام، شأنه شأن جميع الخاضعين للسلطة الرومانيَّة. واليهوديّ أيضًا كان معفًى من خدمة الجيش مع الآخرين لأنَّه لا يستطيع أن يشارك الوثنيّين في طعامهم. فلماذا لا يكون »المسيحيّ« يهوديٌّا، أقلَّه بالاسم فينعم بمثل هذه الامتيازات؟

قال الرسول للغلاطيّين: تأخذون بهذه الطريق »لئلاَّ تُضطهدوا لأجل صليب المسيح« (غل 6: 12). هم يهربون. يأخذون الطريق السهلة والباب الواسع، مع أنَّ الربَّ قال: »ادخلوا من الباب الضيِّق. فما أوسع الباب وأسهل الطريق المؤدِّية إلى الهلاك، وما أكثر الذين يسلكونها. لكن، ما أضيق الباب وأصعب الطريق المؤدِّية إلى الحياة، وما أقلَّ الذين يهتدون إليها« (مت 7: 13-14).

أمّا بولس فأخذ الباب الضيِّق. ما افتخر بيهوديَّته وهو الفرّيسيّ المتزمِّت، وما تعلَّق بالشريعة فاستعدَّ للموت من أجلها، بل افتخر بالصليب وما افتخر إلاَّ به. مرَّة أجبروه على الافتخار، فافتخر أنَّه عبرانيّ، إسرائيليّ، من ذرِّيَّة إبراهيم (2 كو 11: 22) ولكنَّه قال: »كلامي كلام جاهل«. »فأنا أفتخر بضعفي« (آ30). فالمسيح بضعفه على الصليب خلَّص العالم، وهكذا يكون الرسول الذي اعتبر نفسه »مصلوبًا« (غل 5: 24). فإذا أراد أن يرافق المسيح في مجده يجب أن يرافقه في عاره. وإذا أراد أن يكون مع يسوع في القيامة، يحمل الصليب ويرافقه إلى الموت على الجلجلة.

وماذا يصلب الرسول؟ الأهواء والرغبات. أصلبُ بغضي. أصلب بحثي عن المال وطمعي على إخوتي وأخواتي. أصلب روح الزنى والحسد والخصومة. وحين يصلب المؤمن اللحم والدم فيه، العنصرَ البشريّ، يكون مصلوبًا بالنسبة إلى العالم وبالتالي يحرَّر من عبوديّاته التي صارت له بعد اليوم موتًا. حين نهرب من الصليب، نطلب الطمأنينة والهدوء، نترك أهواءنا تسير بنا كما تشاء وتستعبدنا. أمّا إذا تمسَّكنا حقٌّا بالصليب، فنحن ندلُّ على أنَّنا نستند فقط على نعمة الله ولا نريد سندًا آخر، لا الختان ولا الشريعة اليهوديَّة. لا هذا الامتياز ولا ذاك بحيث نفترق عن الآخرين. بالصليب صار العالم ميتًا بالنسبة إليَّ، وأنا صرتُ ميتًا بالنسبة له بحيث لا سيطرة له بعدُ عليَّ.

ب- فأموت معه وأقوم معه

تلك هي المسيرة التي سارها المسيح، ونحن نتبعه لأنَّنا نؤمن به. فالإيمان هو الاستسلام. هو التسليم بما يطلبه الربّ. وقدَّم الرسول مثَل إبراهيم الذي برَّره الله لإيمانه (غل 3: 6). فإذا كان الغلاطيّون يريدون العودة إلى إبراهيم، فماذا ينتظرون لكي يفهموا الطريق التي أخذها. قال له الربّ: »اترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك« (تك 12: 1). فمضى دون أن يجادل ولا أن يسأل. قال الكتاب: »فانطلق أبرام، كما قال له الربّ« (آ4). وكذا نقول عنه حين »امتحنه« الله. »بكَّر في الغد وأسرج حماره وشقَّق حطب المحرقة« (تك 22: 3). إلى أين؟ ليقدِّم ابنه ذبيحة للربِّ على ما كان يفعل الوثنيّون. أظهر محبَّته لله، ولكنَّ الله لا يريد مثل هذا التعبير عن المحبَّة، فأمَّن له كبشًا »أخذه وقدَّمه محرقة بدل ابنه« (آ13). عنه قالت الرسالة إلى العبرانيّين: »بالإيمان لبّى إبراهيم دعوة الله فخرج إلى بلد وعدَهُ الله به ميراثًا. خرج وهو لا يعرف إلى أين هو ذاهب، وبالإيمان نزل في أرض الميعاد كأنَّه في أرض غريبة« (عب 11: 8-9). ما هي الضمانة؟ لا ضمانة بشريَّة. كلمة الله تكفي . فلماذا يطلب الغلاطيّون الضمانات؟ أما يكفيهم الصليب؟

بل هم يطلبون الشريعة، تلك التي تحمل اللعنة. هنا عاد الرسول إلى سفر التثنية في الكلام عن أحكام متفرِّقة: »وإذا وجدتُم على رجل جريمةً تستوجب القتل، فقُتل وعلِّق على خشبة، فلا تتركوا جثَّته على الخشبة إلى اليوم الثاني، بل في ذلك اليوم تدفنونه لأنَّ المعلَّق معلون من الله« (تث 21: 22-23). يسير المشترع بحسب الشريعة، فيصير المعلَّق »ملعونًا«. واليهود قالوا لبيلاطس: »لنا شريعة، وهذه الشريعة تقضي عليه بالموت لأنَّه زعم أنَّه ابن الله« (يو 19: 7).

وهكذا جعلت »الشريعة« يسوع »ملعونًا«، بعد أن عُلِّق على خشبة، وكلُّ ذلك »من أجلنا« (غل 3: 13). زالت اللعنة، وحلَّت البركة محلَّها، بشكل خاصّ لغير اليهود، للأمم، بحيث ينال الجميع »بالإيمان الروحَ الموعود به«.

الإيمان نداء من قبل الله. ويتطلَّب جوابًا من قبل الإنسان. رفض اليهود أن يتجاوبوا مع هذا النداء »فعثروا بحجر العثرة«. أترى الغلاطيّون يريدون أن يتبعوا هذا السبيل؟ إن فعلوا كانوا أغبياء، ونسوا ذاك الذي ولدهم للمسيح. قال: »يا أولادي الصغار الذين أتوجَّع بهم مرَّة أخرى في مِثل وجع الولادة، حين تتكوَّن فيهم صورة المسيح« (غل 4: 19). أجابوه: والآخرون يغارون علينا، يحبّوننا. لا يزعجوننا. قال الرسول: »غيرتُهم لا صدقَ فيها« (آ17). فالهدف هو أن يفصلوكم عنّي. والسبب؟ »لأنّي قلت لكم الحقَّ، حسبتموني عدوٌّا لكم« (آ16). وفي النهاية، يعلن الرسول: »تحيَّرت في أمركم« (آ20). كيف أستطيع أن أتكلَّم معكم؟ هل تريدون أن أغيِّر لهجتي. هنا نحسُّ بألم بولس تجاه هذه الكنيسة التي استقبلته أفضل استقبال في أوَّل مرَّة جاء إلى غلاطية، وكان مريضًا. حسبوه »ملاك الله، بل المسيح يسوع« (آ14). بل استعدُّوا أن يقلعوا عيونهم ويعطوها له« (آ15).

3. أنختار العبوديَّة أم الحرِّيَّة؟

السؤال الأساسيّ في هذه الرسالة هو الخيار بين حالة وحالة: أنتم تحرَّرتم، صرتم أبناء إبراهيم، فهل تريدون الرجوع إلى العبوديَّة؟ فالحرِّيَّة الحقَّة لا تكون بارتباطنا بإبراهيم على مستوى اللحم والدم، ولا تكون بانتمائنا إلى الشعب اليهوديّ الذي يخطأ كما تخطأ الشعوب الوثنيّة بحيث إنَّ الناس يستهينون باسم الله بسبب تصرُّفات تخالف وصايا الله. »تفتخر بالشريعة وتهين الله بعصيان الشريعة« (رو 2: 23).

أ- الشريعة عبد

اتَّخذ بولس مثلاً معروفًا في العالم اليونانيّ والرومانيّ: الطفل في البيت. لا حقوق له. يأخذه العبد إلى المدرسة، ويعود به. وإن أخطأ في شيء لا يُضرَب هو بل العبد. نحن نفهم أن يتصرَّف الطفل بهذا الشكل. ولكن هل يريد المؤمن في غلاطية أن يبقى تحت سلطة العبد حتّى النهاية؟ هذا ما لا يقبل به إنسان عاقل.

الطفل قاصر. ولكنَّه يبلغ سنَّ الرشد فيتحرَّرُ من وصاية العبد. من يجعله ابنًا ويسلِّمه ماله؟ والده. والغلاطيّون كانوا قاصرين حين حمل إليهم الرسول الإنجيل. دعاهم الرسول، قال لهم إنَّ »المسيح افتداهم من حكم الشريعة« (غل 4: 5). فلماذا العودة إلى الوراء؟ »صرتم أبناء الله«، فلماذا تريدون الرجوع إلى »حكم الأوصياء والوكلاء« (آ2)؟

من يستعبد المؤمن؟ ذكرَ الرسولُ »قوى الكون الأوَّليَّة« (آ3): هناك قوى في الكون يؤلِّهها الإنسان ويخاف منها، فيجعل نفسه عبدًا لها. يخاف من الكواكب ودورانها، يخاف من الحظِّ والفأل، ويتشاءم من يوم من الأيّام وشهر من الشهور. كان الرومان ينظرون إلى طيرانِ طيرٍ يرسلونه في الهواء. أو ينظرون في إمعاء حيوان من الحيوانات. والعرّاف هو هنا. وكذلك الذي »يكتب« كتابة تقيِّد الإنسان وتمنعه من التحرُّك. أيُّها الغلاطيّون، أنتم بعدُ عبيد لهذه »القوى« التي ليست بشيء. في الماضي، صنع الإنسان الصنم وخاف منه وقدَّم له ابنه ذبيحة. وتأخَّر لكي يرى فيه بعض الحجر والخشب مع قشرة من الفضَّة والذهب.

قال بولس: »في الماضي كنتم تجهلون الله، فكنتم عبيدًا لآلهة، ما هي بالحقيقة آلهة. أمّا الآن، بعدما عرفتم الله، بل عرفكم الله، فكيف تعودون إلى عبادة قوى الكون الأوَّليَّة الضعيفة، الحقيرة، وتريدون أن تكونوا عبيدًا لها كما كنتم من قبل« (غل 4: 8-9) كيف تمزجون الله مع قوى الكون المخلوقة، سواء كانت منظورة أو غير منظورة؟ كيف تتوقَّفون عند »الأيّام والشهور والفصول والسنين؟« (آ10). كم يتوجَّه هذا الكلام إلينا في هذه الأيّام: ننظر إلى الأبراج، نجمع الأرقام والأعداد.

بعض الغلاطيّين يشاركون في أعياد تكرَّم فيها الكواكب والنجوم، ويأتي من يقرأ طالع كلِّ إنسان. ونبَّه الرسول في موضع آخر من »عبادة الملائكة وما يُرى من رؤى« (كو 2: 18). ويواصل بولس: أنتم تخلَّصتم من كلِّ هذا، فلماذا تعيشون في هذا العالم وكأنَّكم تنتمون إلى مثل هذه الفرائض؟

واليهود كانوا يعتبرون أنَّ الملائكة حملوا الشريعة (غل 3: 19)، خضعوا للشريعة الموسويَّة، وحين يأتي المسيح فهو يحرِّرهم منها، كما يحرِّرهم من تقليد نَسب إلى الملائكة قيادةَ العالم السماويِّ وخصوصًا النجوم.

المؤمن لا يخضع لأيَّة خليقة، ولا يكون عبدًا لأيَّة قوَّة مخلوقة. إنَّه يخضع فقط لخالقه بعد أن صار ابنًا لله بواسطة المسيح. قال الرسول: »ما أنتَ بعد الآن عبد، بل ابن، وإن كنتَ ابنًا فأنت وارثٌ بفضل الله« (غل 4: 7).

ب- المسيح حرَّرنا

إذا أنت ابن، أيُّها المؤمن، فلماذا تجعل نفسك بإمرة عبد؟ الله عرفك معرفة شخصيَّة حميمة، فلماذا تحاول الابتعاد عنه مثل الابن الضالّ؟ دعاك إلى وليمته، فماذا تنتظر لتدخل؟ تبنّاك، علَّمك الروح أن تناديه »أبّا« كما الأطفال ينادون والديهم، فلماذا لا تتعامل معه بدالَّة الأبناء الأحبّاء؟ إذا كان الغلاطيّون لا يعيشون على هذا المستوى، يستطيع الرسول أن يعلن: »تعبتُ عبثًا، بلا فائدة« (4: 11).

الابن حرّ. الابنة حرَّة. من حرَّرهما؟ المسيح. هو »حرَّرنا لنكون أحرارًا«. (غل 5: 1). وغريب هذا الإنسان! كم يريد أن يكون عبدًا! للأصنام. للأشخاص. للجماعات والأحزاب. لأمور عديدة لا يفهم معناها في هذا العالم. هو يشبه ولدًا يمشي في الليل وحده، يريد أن يتمسَّك بشيء، أن يستشفَّ نورًا في البعيد. وإذا كانت يد أبيه تمسك بيده، هل يخاف بعد؟ كلاّ. ونحن ننسى أنَّ الله أبونا: لا يتركنا، لا يرخي بنا الأيدي. حتّى لو تركتنا أمُّنا، فهو لا يتركنا. فلو كان لنا الإيمان العميق، تزول من رأسنا المخاوف العديدة التي نتخيَّلها. نريد أن نعرف الغد وما يخبِّئه لنا. ولكنَّ يسوع قال لنا: »لا يهمُّك أمر الغد، فالغد يهتمُّ بنفسه« (مت 6: 34).

ولكن هناك حرِّيَّة ننساها مرَّات عديدة، هي التي تجعلنا نعيش بحسب الروح. فلمذا نريد العيش بحسب العنصر البشريّ، بحسب اللحم والدم والميل إلى الخطيئة؟ فهل نكون أحرارًا حين نرضي فينا الإنسان القديم؟ هل نكون أحرارًا حين نعيش الفلتان وكأنَّ لا رادع يردعنا؟ قال الرسول: »فأنتم، يا إخوتي، دعاكم الله لتكونوا أحرارًا، ولكن لا تجعلوا هذه الحرِّيَّة حجَّة لإرضاء الشهوات البشريَّة« (غل 5: 13). نحن نميِّز بين »الجسد« الذي هو للقيامة، وبين اللحم والدم، أي العنصر البشريّ، هذا الذي يجتذبنا إلى الخطيئة.

وكيف نعرف إن كنّا أحرارًا أم عبيدًا؟ من الثمار التي نحمل. أمّا الثمرة الأولى التي هي بنت الروح فالمحبَّة. ومنها ينبع الفرح، السلام، الصبر، اللطف، الصلاح، الأناة، الوداعة، العفاف (غل 6: 22-23). من تكون له مثل هذه الثمار؟ ذاك الذي صلب بشريَّته (لا: جسده) بكلِّ ما فيها من أهواء وشهوات (آ24). وحده »المصلوب« يعرف الحياة الجديدة، وحده »المصلوب« لا يحتاج إلى »شريعة«. فشريعته هي المسيح.

وإذا كان الإنسان يعيش في »الزنى والدعارة والفجور وعبادة الأوثان والسحر والعداوة والشقاق والغيرة والغضب والدسّ والخصام والتحزُّب والحسد والسكر والعربدة« (آ19-21)، أتُرى الذين يقومون بمثل هذه الأعمال يعيشون بحسب الروح؟ أتراهم أحرارًا أم عبيدًا لشهواتهم؟ أتراهم لبسوا المسيح من أجل حياة جديدة؟ والجواب لا يمكن أن يكون نعم. بما أنَّهم جعلوا الصليب جانبًا، فماذا يبقى لهم؟ ويتابع الرسول: »الذين يعملون هذه الأعمال لا يرثون ملكوت الله« (آ21). بل »يرثون البكاء وصريف الأسنان« (مت 13: 42).

الخاتمة

جلسنا مع الجماعات المسيحيَّة في غلاطية، وقرأنا هذه الرسالة التي وصلت إليهم. عرَّفنا بولس بنفسه. هو رسول. عرَّفنا برسالته: إعلان الإنجيل إلى الأمم الوثننيَّة. وهذه الرسالة التي نالها من المسيح القائم من الموت، شأنه شأن الرسل: »كما أرسلني الآب أرسلكم أنا أيضًا« (يو 20: 21). أمّا الخلاص الذي يبشِّر به، فهو عطيَّة مجّانيَّة للبشر كلِّهم، لليهوديّ ولليونانيّ، للحرِّ وللعبد، للرجل وللمرأة، والإنجيل الذي يعلنه هو إنجيل الحرِّيَّة التي نلناها بصليب يسوع. فلا قوَّة تقيِّدنا بعد اليوم، بل حبُّ الله وحده. ولا أحد يستعبدنا، ولا شيء، إلاَّ إذا نحن طلبنا العبوديَّة: عبوديَّة الناس، عبوديَّة الأصنام، عبوديَّة الشهوات والأهواء. يبقى علينا أن نكتشف في صليب المسيح التدخُّل الذي به أعطى الله للتاريخ معناه، فيحقِّق قصده الخلاصيّ في المسكونة كلِّها.

 
قديم 24 - 03 - 2024, 08:03 AM   رقم المشاركة : ( 155210 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,304,428

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة






أيُّها الغلاطيّون الأغبياء

بهذا الكلام القاسي توجَّه بولس الرسول إلى هؤلاء المؤمنين المقيمين في غلاطية، وهي منطقة جبليَّة تحيط اليوم بالعاصمة التركيَّة، أنقرة. هؤلاء الذين أتوا من بلاد »غاليا« أي فرنسا القديمة واعتادوا على ممارسات قاسية في أجسادهم، حنُّوا للعودة إلى الختان، وبعد أن اعتمدوا في المسيح أرادوا عودة إلى موسى بعد أن جاءهم أناس بشَّروهم »بخلاف« ما بشَّرهم بولس. فالرسول حدَّثهم عن الحرِّيَّة، حدَّثهم عن الشموليَّة، لا عن الانغلاق بحيث يكون حاجز بين الرجل والمرأة، بين اليهوديّ والوثنيّ، بين العبد والحرّ. قال لهم: »كلُّكم واحد في المسيح يسوع« (غل 3: 28). أمَّا الذين أتوا وراء بولس فنبَّهوهم: تأكلون من هذا الطعام وتمتنعون عن ذلك مع أنَّ كلَّ ما خلقه الله حسن ونحن نأكله بالشكر. قالوا لهم: هناك أيّام وأيّام، وكأنَّ يومًا يأتي من عند الربِّ وآخر يأتي من عند الشيطان. بدا الغلاطيّون راجعين إلى الوراء، فاستحقُّوا لوم المسيح: هم لا يصلحون لملكوت الله (لو 9: 61). كم هم أغبياء! (غلا 3: 1). أزمة كبيرة جدٌّا تعيشها هذه الكنائس: هل هناك إنجيل آخر تجاه الإنجيل؟ من أجل هذا كتب الرسول حوالى سنة 55 ويبدو أنَّه كان في أفسس.
 
موضوع مغلق


الانتقال السريع


الساعة الآن 03:36 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025