منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 23 - 03 - 2024, 01:50 PM   رقم المشاركة : ( 155161 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,743

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




بـــولـــــس والدينونة عند مجيء المسيح

في الرسالة الأولى إلى تسالونيكي، كانت الفصول الثلاثة الأولى كلامًا عن الحاضر مع عودة إلى الماضي. يتذكَّر المؤمنون كيف بدأت البشارة، وكيف تنظَّمت الجماعة. ويفرحون الآن بما وصلوا إليه بعد أن بلغت إليهم كلمة الله فيقول لهم الرسول: »أنتم رجاؤنا وفرحُنا وإكليل افتخارنا أمام ربِّنا يسوع المسيح في مجيئه« (1 تس 2: 19).

أمّا أحداث نهاية الزمن فلا تتوقَّف عند 1 تس 4: 13-5: 11 كما يبدو في النصّ. فرجاء عودة المسيح هو يقين يتوزَّع الرسالة كلَّها (1: 10؛ 2: 19؛ 3: 13) ويؤسِّس السلوك المسيحيّ: فالمسيحيّ هو إنسان ينتظر، ويا ما أحلاه انتظارًا على مثال ما في المزمور: »فرحتُ بما قيل لي إلى بيت الربِّ ننطلق«. تحدَّث العهد القديم عن يوم الربّ، ذلك اليوم الذي فيه يتجلّى الله على أنَّه ديّان الأبرار والأشرار، كلِّ واحد بحسب أعماله. أمّا بولس فرأى فيه يوم المسيح: هو يأتي في مجده كابن الله من أجل خلاص المؤمنين وهلاك الأشرار. عندئذٍ يجب على المؤمنين أن يكونوا بلا لوم، أن لا يهتمُّوا ولا يقلقوا، بل أن يسهروا وينتظروا أطيب ضيفٍ كما انتظرت العذارى عريسهنَّ بمصابيح نيِّرة (مت 25: 1-13).

ذاك ما قرأنا في 1 تس. أمّا في 2 تس فيتبدَّل الموضوع، واهتمامات الكاتب. هنا تختلف عن اهتمامات الرسول حين كتب 1 تس. كانوا يقولون: »دُوَّن بولس 1 تس وبعد أشهر قليلة دوَّن 2 تس. غير أنَّ الدراسات أظهرت أنَّ المناخ مختلف جدٌّا بين رسالة ورسالة. في 1 تس، مجيء الربِّ قريب جدٌّا، ولا شيء يقف في وجهه. أمّا في 2 تس فيبدو أنَّ الربَّ أتى، ولا حاجة بعدُ إلى الانتظار. وكيف يكون ذاك المجيء؟ علَّمت 1 تس أنَّه عبور من سلام ظاهر إلى الهلاك والدمار (1 تس 5: 3). أمّا 2 تس، فصوَّرت تسلسل مراحل تاريخ البشر قبل تجلّي المسيح المجيد. كل هذا يقودنا إلى خمسين أو ستين سنة بعد الرسالة الأولى إلى تسالونيكي.

تحدَّث الإنجيل عن جوٍّ جليانيّ يذكِّرنا بما في سفر الرؤيا مع موضوعين اثنين: فجاءة الموت والعلامات التي تعلن النهاية: »سيجيء كثير من الناس منتحلين اسمي فيقولون: أنا هو المسيح! ويخدعون أناسًا كثيرين« (مر 13: 6). فانتبهوا أيُّها المؤمنون ولا تضلُّوا (آ5). ولا ترتعبوا ولو سمعتم بالحرب وبأخبار الحروب (آ7)، ولو قامت 'أمَّة على أمَّة ومملكة على مملكة، ووقعت زلازل وحصلت مجاعات« (آ8). كلُّ هذا لا يكون الآخرة. فلماذا أنتم معجِّلون؟ كلُّ هذا هو البداية من أجل ولادة عالم جديد. فكأنَّ الآخرة حاضرة كلَّ يوم ويُشرف عليها كلَّ يوم موتُ المسيح وقيامته.

أمّا الرسالة الثانية إلى تسالونيكي فانطلقت من هذا المناخ وتحدَّثت عن حقبة من الجحود وعن مجيء الأنتيكرست أو المسيح الدجّال كما قالت رسالة يوحنّا الأولى وكرَّرت: »يا أبنائي الصغار، جاءت الساعة الأخيرة، سمعتم أنَّ مسيحًا دجّالاً (أنتيكرست، ضدَّ المسيح) سيجيء. وهنا الآن كثير من المسحاء الدجّالين. ومن هذا نعرف أنَّ الساعة الأخيرة جاءت« (1 يو 2: 18).

ويقول يوحنّا الرسول عمَّن يحمل الكذب لكي يُضلَّ المؤمنين: »فمَن هو الكذَّاب إلاَّ الذي يُنكر أنَّ يسوع هو المسيح. هذا هو المسيح الدجّال (ضدّ المسيح) الذي ينكر الآب والابن معًا« (آ22). وفي إطار الكلام عن المسيح، يعود الكلام عن »الأنتيكرست«، المسيح الدجّال: »كلُّ روح لا يعترف بيسوع لا يكون من الله، وهذا هو المسيح الدجّال الذي سمعتم أنَّه يجيء وهو منذ الآن في العالم« (1 يو 4: 3).

متى كُتبت رسائل يوحنّا الثلاث؟ في نهاية القرن الأوَّل. هذا يعني أنَّ الرسالة الثانية إلى تسالونيكي كانت في هذا المناخ عينه. انطلق واحد من تلاميذ بولس ممّا قرأه في 1 تس، فقدَّم جوابًا »بولسيٌّا« على وضع جديد طرأ على الجماعة المسيحيَّة التي رأت أنَّ مجيء المسيح تأخَّر. فطلبت السبب فوجدته في حقبة الجحود وفي مجيء الأنتيكرست أو المسيح الدجّال. ماذا تعني هاتان العبارتان؟ هنا نقرأ نصَّ الرسالة:

3 لا يخدعكم أحد بشكل من الأشكال: يأتي الارتداد أوَّلاً ويُعتلَن إنسانُ المعصية، ابنُ الهلاك.

4 ذاك المقاوم والمرتفع على كلِّ ما يُدعى إلهًا أو معبودًا إلى أن يجلس هو نفسه في معبد الله مظهرًا نفسه أنَّه هو الله.

نفهم أوَّلاً أنَّ المؤمنين خُدعوا، بعد أن غاب عنهم رسولهم. ونحن لسنا أفضل منهم حين نسمع 'المسحاء الدجّالينب العديدين، الذين يقتلعوننا من جذورنا، ويرموننا على أمواج البحر فلا يستقرَّ لنا قرار. غاب الرسول فجاء من يعلِّم تعليمًا ضالاٌّ. وما هو هذا التعليم؟ جاء يوم الربّ، فلا حاجة بعد إلى الانتظار، وبالتالي نعيش كما نشاء. نعيش في البطالة! (2 تس 3: 6). نترك التقليد الذي تسلَّمناه والتعليم الذي تعلَّمناه. وما أكثر التعاليم في أيّامنا؟! ما الذي سلَّمنا آباؤنا؟ الجواب: هي أمور قديمة ونحن نبحث عن كلِّ جديد. ويكون الضياع إن لم يكن الهلاك. الرسول مات من زمان، فلماذا نتعلَّق بالموتى وننسى الأحياء؟ ولكن متى يكون المؤمن في عالم الموت لكي يبقى فيه؟ الرسول حيٌّ في الكنائس التي أسَّسها والتلاميذ الذين يواصلون تعليمه.

»البطالة«. حرفيٌّا: حياة لا نظام فيها ولا ترتيب. الأخ البطّال هو من لا يريد أن يعمل (آ10). الأخ البطّال هو »الذي يتشاغل بما لا نفع فيه« (آ11). الأخ البطّال هو الذي يعيش في القلق وينقل هذا القلق إلى الآخرين. نحن نحذَرُه، ونحذر تعليمه الذي ينقله من بيت إلى بيت وكأنَّ لا شغل له. إنَّه يشبه هؤلاء الأرامل اللواتي »يتعلَّمن البطالة والتنقُّل من بيت إلى بيت، كما يتعلَّمن الثرثرة أيضًا والتشاغل بما لا يعنيهنَّ والكلام بما لا يليق« (1 تم 5: 13).

ظنَّ المؤمنون أنَّ رسالة جاءتهم من الرسول؟ كلاّ. ظنُّوا أنَّ قولاً قاله الرسول وما كتب هو ينيرهم؟ كلاّ. ظنُّوا أنَّ نبوءة وصلت إليهم؟ كلاّ. لا حاجة إلى الرؤى ولا إلى التنبُّؤات وإلى معلِّمين جدد يحسبون أنَّ التعليم توقَّف عندهم. كلام الله يكفي، وهو مصباح لخطانا ومنارة سبيلنا كما قال المزمور.

أمّا الجحود فهو موقف فيه يترك الناس الله، كما يقول العالم الجليانيّ اليهوديّ، وإنسان المعصية هو ذاك الذي يعصي وصايا الله. وهو يدلُّ على عدد كبير من الناس على ما يقول متّى: »تجفُّ المحبَّة في القلوب، يعمُّ الفساد« (مت 24: 12). وابن الهلاك هو ذلك الهالك الذي يمكن أن يسمع كلامَ الربِّ مع الخاطئين: »ابتعدوا عنّي، يا ملاعين، إلى النار الأبديَّة المهيَّأة لإبليس وأعوانه« (مت 25: 41). هناك يقيم الكذّاب وأبو الكذب (يو 8: 44).

وتتذكَّر الرسالة سفرَ دانيال وما قاله عن أنطيوخس الرابع إبيفانيوس ومعنى اسمه »تجلّي الله«. و»يفعل الملك كيف يشاء، ويترفَّع ويتعاظم على كلِّ إله، ويتكلَّم الأباطيل (الأقوال المذهلة) على إله الآلهة (الربّ الإله) وينجح...« (دا 11: 36). بدا هذا الملك وكأنَّه خصم الله بالذات. ذاك ما يحدث بالنسبة إلى الملكوت وانتشار الإنجيل. أمّا الصورة الأساسيَّة في العهد الجديد فهي نيرون الذي قيل عنه إنَّه مات وقام (رؤ 13: 3)، وكأنَّه يسوع المسيح.

خطر من الداخل وخطر من الخارج يهدِّد الكنيسة. أمّا الجحود فيدلُّ على المؤمنين الذين يتراجعون عن إيمانهم بسبب الصعوبات والتجارب والمغريات والاضطهادات. وأمّا رجل المعصية الذي يجعل نفسه إلهًا فهو السلطات الرومانيَّة التي تضطهد المؤمنين ومعها النبيّ الكذّاب الذي دعاه سفر الرؤيا: وحش البرّ برؤوسه السبعة، مع أسماء التجديف على رؤوسه (رؤ 13: 1). وهذا يعني مرَّة أخرى أنَّ الرسالة الثانية إلى تسالونيكي عرفت مناخ سفر الرؤيا، الذي دُوِّن في نهاية القرن الأوَّل مع اضطهاد دوميسيان على الكنيسة. وبدلاً من أن يشدِّد المؤمنون عزائمهم، تراخوا وكان ذلك خطرًا كبيرًا لا بدَّ من التنبيه إليه. لهذا كُتبت 2 تس.

قالت لنا: إبليس ما زال يعمل في هذا العالم. والاضطهادات تقسم العالم قسمين: المؤمنين الثابتين والأشرار العاصين. كما تجعل الناس يضيعون بين الحقِّ والباطل، بين البرِّ والجور. فهلاَّ يتذكَّر المؤمنون في تسالونيكي تعاليم الرسل حول السهر وتمييز التعليم الصحيح من التعليم الكاذب؟ لا شكَّ في أنَّ المسيحيّين مدعوّون إلى مشاركة المسيح في مجده، ولكن قبل المجد هناك الألم والاضطهاد. لهذا هم يحتاجون أن ينموا في المحبَّة والإيمان والصبر. وتبقى الكلمة الأخيرة: »لكنَّ الربَّ أمين، وهو يقوِّيكم ويحفظكم من الشرّير، ولنا كلُّ الثقة في الربِّ أنَّكم تعملون ما أوصيناكم به وتتابعون عمله. هدى الربُّ قلوبكم إلى ما في الله من محبَّة وما في المسيح من ثبات« (2 تس 3: 3-5).

الخاتمة

هكذا قرأنا رسالتين بولسيتين، حُسبتا في التقليد الكنسي قريبتين، الواحدة من الأخرى، بل لا يفصل بينهما سوى بضعة أسابيع أو أشهر. ولكن المناخ المتبدّل غيّر النظرة كلها. في الأولى، المجيء قريب. في الثاني، المجيء بعيد، وربّما لا يأتي الرب، فيكون المؤمن مثل العبد الشرير الذي يعتبر أن سيّدة يتأخر »فيأخذ يضرب رفاقه ويأكل ويشرب مع السكيرين...« (مت 24: 48-49). ويلعب الكسل ويضيع الانتظار الذي نعيشه اليوم في كل احتفال نقوم به. ونسأل: إذا كان بولس وسلوانس وتيموتاوس كتبوا الرسالة الأولى، فمن كتب الثانية؟ والجواب هو المدرسة البولسية، التي ورثت فكر هذا الرسول، وتأمّلت فيه وقدّمت جوابًا جديدًا لوضع جديد. وتسلّمت الكنيسةُ الرسالتين كما تسلّمت الأسفار المقدسة، لأن كاتبها الأساسيّ هو الروح القدس الذي أرسله الابن ليذكرنا بما قاله لنا، وليعلّمنا ما لم نقدر أن نحتمله. أما الكاتب البشري فهو يد الله، ويا ما أحلاها يدًا أوصلت إلينا تعليمًا نحتاج إليه كثيرًا في أيامنا!
 
قديم 23 - 03 - 2024, 01:50 PM   رقم المشاركة : ( 155162 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,743

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة



بولس الرسول أسقف كورنتوس وكاهنها




كورنتوس، تلك المدينة التي وصل إليها بولس آتيًا من أثينة سنة 49-50، كورنتوس حيث وجد عيلة يهوديَّة، أكيلا وبرسكلّة، »فأقام يعمل عندهما، لأنَّه كان من أهل صناعتهما« (أع 18: 3)، كورنتوس حيث بدأ بولس يشهد لليهود »أنَّ يسوع هو المسيح« (آ5)، كورنتوس حيث كان يجتمع الرسول في بيت ملاصق للمجمع، يخصّ رجلاً يونانيٌّا. من هذا البيت انطلقت مسيرة الإيمان في كورنتوس، تلك المدينة التي عُدَّت نصف مليون ننسمة ونيِّف: آمن رئيس المجمع هو وأهل بيته. وواصل أعمالُ الرسل الكلام: »وكان كثيرٌ من أهل كورنتوس يسمعون كلام بولس، فيؤمنون ويتعمَّدون« (آ8). وما كان بولس وحده في حمل البشارة. فهناك الفريق الرسوليّ الذي نعرفه: سيلا وتيموتاوس اللذان التحقا ببولس »من مكدونية« بعاصمتها تسالونيكي. كما جاء أبلّوس بفصاحته المعروفة ومعرفته العميقة بالكتب المقدَّسة. وبطرس عمل أيضًا في »عاصمة آخائية«، فكان له »حزبه« أو الذين تعلَّقوا به، لأنَّه لم يقطع كلَّ رباط مع الشريعة اليهوديَّة، فراعى الذين لبثوا متعلِّقين بالختان.

في كورنتوس ومنطقة آخائية، كان بولس »الأسقف والكاهن« في مفهومنا الحديث، فقام بمهامّ »خادم الرعيَّة والأبرشيَّة«، مع أنَّه لم يكن هناك مثل هذه التقسيمات الإداريَّة. ولكنَّنا نودُّ أن نقرأ الرسالة إلى كورنتوس من هذا المنظار، في هذه السنة الكهنوتيَّة التي أعلنها قداسة البابا بنديكتس السادس عشر، فنكتشف خادم الكلمة والكارز بالإنجيل، ومدبِّر الجماعة الذي يتعامل مع المؤمنين تارة بالقساوة وطورًا بالليونة والحنان، والأب الذي ولد هؤلاء الناس في »المسيح يسوع بالبشارة التي حملها إليهم« (1 كو 4: 15).

1- الويل لي إن كنتُ لا أبشِّر

كان الجدال مرَّة بين الرسول »ورعيَّته«: من يقوم بأود المرسلين، من يؤمِّن لهم معاشهم؟ قال: أما يحقُّ للمرسَل »أن يأكل ويشرب«؟ وفي مفهومنا اليوم: أن يؤمَّن للكاهن »البيت« الذي يقيم فيه و«المال« الذي يساعده على سدِّ حاجاته. ثمَّ هناك مرسلون يستصحبون »زوجاتهم«. في الأصل »امرأة أخت«. ويمكن أن يكون هناك أولاد. فبطرس الذي كان متزوِّجًا، أخذ زوجته معه. وكذا نقول عن »إخوة الرب«، يعقوب ويهوذا وسمعان ويوسي (مر 6: 3، أي أبناء مريم وكلاوبا، يو 19: 25). قالت الرسالة: »أما لنا حقّ مثل سائر الرسل وإخوة الربّ وبطرس أن نستصحب زوجة مؤمنة؟« (1 كو 9: 5).

هو أمر عاديّ أن تؤمِّن »الرعيَّة« حياة »راعيها« أو أقلَّه الكنيسة. فهناك مرسلون من أوروبّا وأميركا، رجل وزوجته وأولاده تُرسلهم الكنيسة المحلِّيَّة ليحملوا الإنجيل، وهي تعطيهم »الزاد« الضروريّ. ولنا مثَلٌ على ذلك في أعمال الرسل. أرسلت كنيسة أنطاكية برنابا وشاول (الذي سيصبح بولس). »وضعوا أيديهم عليهما وصرفوهما« (أع 13: 3). ولمّا عادا من الرسالة، قدَّما تقريرًا. قال سفر الأعمال: »فلمّا وصلا (بولس وبرنابا) إلى أنطاكية جمعا الكنيسة وأخبرا بكلِّ ما أجرى الله على أيديهما« (أع 14: 27).

أجل، الكاهن يسلِّم نفسه للكنيسة ومستقبله وإرادته، وهي تهتمُّ به. وهذا واضح جدٌّا في الرهبنات عندنا وفي سائر بلدان العالم: لا يُترَك الراهب (ولا الراهبة) حين يشيخ، بل يكون الاهتمام به حتّى مماته، بل بعد مماته، بما يُقدَّم عنه من الصلوات والقدّاسات. أسند بولس كلامه إلى الكتاب المقدَّس: »لا تكمَّ الثور وهو يدوس الحصاد« (تث 25: 4). وشرح الكلام: »فهل بالثيران يهتمُّ الله؟ أما قال ذلك بالفعل من أجلنا؟ نعم، من أجلنا كُتب ذلك ومعناه: على الذي يفلح الأرض والذي يدرس الحبوب أن يقوما بعملهما هذا على رجاء أن ينال كلٌّ منهما نصيبه منه« (1 كو 9: 10).

ويقدِّم الرسول البراهين المأخوذة من الحياة اليوميَّة: »من هو الذي يحارب والنفقة عليه؟ من هو الذي يغرس كرمًا ولا يأكل من ثمره؟ من هو الذي يرعى قطيعًا ولا يأكل من لبنه؟« (آ7). والجواب لا أحد. لكنَّ هذا يفترض أنَّ »الجندي« يحارب ولا يختبئ حين يأتي الخطر. وكذا نقول عن »الراعي« الذي يبذل نفسه عن أحبّائه. وإلاَّ كان مثل الأجير الذي يعمل لقاء أجرة، ويتعب بقدر الأجرة التي تُعطى له: وأظنُّ أنَّ الرعيَّة التي ترى راعيها مثل »الراعي الصالح«، تعرف كيف تهتمُّ به. زرع فيهم الخيرات الروحيَّة وهو يحصد »الخيرات المادِّيَّة« (آ11).

ولكنَّ بولس أراد أن يكون »حرٌّا«، مع أنَّ له »الحق« أن يطالب كما يطالب غيره. فقال: »ولكنَّنا ما استعملنا هذا الحقّ، بل احتملنا كلَّ شيء لئلاَّ نضع عقبة في طريق البشارة بالمسيح« (آ12). وواصل كلامه: »ولا أنا أكتب هذا لأطالب بشيء منها، فأنا أفضِّلُ أن أموت من أن يحرمني أحدٌ من هذا الفخر« (آ15).

لماذا أراد الرسول أن يكون حرٌّا من كلِّ هذه الأمور؟ لماذا رفض وهو خادم المذبح »أن يأخذ نصيبه من الذبائح«؟ (لا 6: 9-19). لماذا رفض وهو خادم البشارة أن »ينال رزقه من البشارة«، مع أنَّ الربَّ قال: »إنَّ العامل يستحقُّ أجرته« (لو 10: 7)؟ لكي يتكرَّس بكلِّيَّته للبشارة. قال: »البشارة ضرورة فُرضَتْ عليّ، والويلُ لي إن كنتُ لا أبشِّر« (1 كو 9: 16). أجل، بولس هو تعيس إن لم يحمل الإنجيل. ويعتبر أنَّ حياته فاشلة إذا كان ينسى خدمة الكلمة التي هي مهمَّة مثل خدمة القربان. نحن نقوم بعمل فنطلب أجرة، أمّا بولس فيقلب المعادلة: »أجرتي هي أن أبشِّر مجّانًا وأتنازل عن حقّي في خدمة البشارة« (آ18).

كم مرَّة يكون المال عائقًا في طريق الإنجيل، فتصبح شهادتنا عقيمة، والنور الذي فينا يُضحي ظلامًا (مت 6: 23). أذكر مرَّة زرتُ كاهنًا، وأوَّل شيء قال لي: يجب أن أؤمِّن كذا مليونًا لكي أؤمِّن التعليم الجامعيّ لأولادي في أحسن جامعات البلاد. ومرَّة أخرى سمعتُ كاهنًا يقول: الرعيَّة تخدم الكاهن قبل أن يخدمها. وأحد الكهنة مضى إلى المهجر لكي يؤمِّن المستقبل لأسرته. وإذ لم يجد المستقبل الذي يريد، عاد إلى لبنان. كم نهتمّ بما نأكل وبما نشرب وبما نلبس! أمّا المسيح فقال لنا: »هذا يطلبه الوثنيّون. أمّا أنتم فأبوكم السماويّ يعرف أنَّكم تحتاجون إلى هذا كلِّه. فاطلبوا أوَّلاً ملكوت الله وبرَّه والباقي يُزاد لكم. لا يهمُّكم أمرُ الغد، فالغد يهتمُّ بنفسه. ويكفي كلَّ يوم شرُّه« (مت 6: 32-34).

لا شكَّ في أنَّ الكثيرين يبتسمون أمام هذا الكلام. فالذي يتكلَّم هكذا لا يعرف ماذا يقول ولا يحمل المسؤوليّات التي نحمل. لا شكّ، مع أنَّ المزمور قال: »إن لم يبنِ الربُّ البيت فعبثًا يتعب البنّاؤون. وإن لم يحرس الربُّ المدينة، فعبثًا يتعب الحارس. عبثًا لكم أن تبكِّروا في القيام وتتأخَّروا في النيام. فإنَّه يعطي في ذلك الوقت أحبّاءه لذّة النوم« (مز 127: 1-2). مثل هذا الموقف المتجرِّد يفترض الإيمان العميق الذي يُبعد عنّا الخوف. وإذ نحن نتذكَّر الخوري يوحنّا ماري فيانّاي، خوري آرس، بعد مئة وخمسين سنة على وفاته، نتساءل: لماذا رعايانا تموت؟ لماذا يتركنا المؤمنون ويمضون بعد أن خسروا كلَّ ثقة بنا؟ طلبوا خبزًا، فما وجدوا من يطعمهم، كما قال سفر المراثي. كما المسيح قال لتلاميذه الذين أرادوا أن يتهرَّبوا: »أعطوهم أنتم ليأكلوا« (مر 6: 37). في معنى أوَّل هو الخبز الفاني، كما قال الربُّ لليهود (يو 6: 27). وفي معنى ثانٍ، وهو الأهمّ، هو »القوت الباقي للحياة الأبديَّة«. وما يلفت انتباهنا في معجزة تكثير الأرغفة، هو أنَّ يسوع رأى الشعب الجائع، ومع ذلك ما بدأ فأطعمهم، بل أخبرنا الإنجيل: »فلمّا نزل يسوع من القارب رأى جمعًا كبيرًا، فأشفق عليهم، لأنَّهم كانوا مثل خرافٍ لا راعي لها، وأخذ يعلِّمهم أشياء كثيرة« (مر 6: 34)، أعطاهم خبز الكلمة.

والرسول هو من يعطي مثل هذا الخبز، كما طلب اليهود من يسوع (يو 6: 34)، لأنَّ من يأكل من هذا الخبز لا يجوع أبدًا (آ35). فإذا جاع المؤمنون مضوا إلى حيث يجدون الطعام. دُعيتُ مرَّة إلى بيت رجل من إحدى الشيع. تحدَّثت معه فأقنعته سريعًا. فدعا »الشيخ« الذي يعلِّمه، فمضى واقتنع الذين كانوا يلجون ذلك البيت أنَّهم يضيِّعون كنيستهم. عند ذاك سألته: أنت غنيّ ولا تحتاج إلى مال، فلماذا تبعتَ هذه الشيعة؟ وكان جوابه: أنا سريانيّ أرثوذكسيّ. لم أسمع مرَّة شرحًا للإنجيل في كنيستي، فمضيت إلى حيث أجدُ خبز الكلمة. وأنا مرتاح جدٌّا.

أين هي البشارة في رعايانا؟ ما هو مستوى العظات التي نقدِّمها للمؤمنين؟ هل هناك لقاءات حول الإنجيل؟ والأخويّات هل نطعِّمها بكلام الله، أم نتركها تكرِّر الفرض الذي لا غذاء فيه البتَّة، لأنَّ لا وجود لكلام الله. نبدِّل المزامير التي يحملها الكتاب، نكرِّر مزامير القدّيس بوناونتورا التي نتلوها كلَّها في سرعة فائقة، ولا نختار منها كلَّ مرَّة »مزمورًا«. ومرّات عديدة نرى الكهنة يهربون حين يكون الموضوع كلام الله. أو هم يعتبرون أنَّهم يعرفون، أو هم يجدون نفوسهم غرباء. اكتفوا بما درسوا في الجامعة، وذاب ما درسوه كما الثلج في زمن الصيف. قال النبيّ هوشع: »مثل سحابة الصبح، أو كالندى الذي يتبخَّر ما أن تطلع الشمس« (هو 13: 3). ونطرح سؤالاً على أنفسنا: هل نستطيع أن ندافع عن إيماننا بالحجَّة؟ بل نستعمل العنف ونُسكت محاورنا. فيمضي إلى من هو »مستعدٌّ للردِّ على كلِّ من يطلب منه دليلاً على الرجاء الذي فيه« (1 بط 3: 15). وكيف يكون كلامنا مع الذين ليسوا من رأينا؟ »بوداعة واحترام« (آ16). ولكن إذا كانت معرفتنا ضعيفة نغطّي جهلنا بالصوت العالي الذي يغطّي عجزنا.

كانوا يقولون: »عالم مثل كاهن ماروني«. ونقول هذا الكلام عن كلِّ كاهن، لأنَّ عليه أن يكون »معلِّمًا« في خطِّ المعلِّم الأوحد يسوع المسيح. كان الكاهن وحده يجيد القراءة والكتابة، فيأتي الجميع إليه. وماذا نقول عن الذين حملوا العلم إلى أوروبّا من السمعانيّ إلى الصهيونيّ إلى الدويهيّ إلى الحصرونيّ... إلى ميشال الحايك ويواكيم مبارك والمونسنيور ميخائيل الفغالي والمونسنيور جوزف الفغالي والمطران بطرس ديب الذي كتب ما كتب في »قاموس اللاهوت الكاثوليكي« الفرنسيّ، ومثله المطران اغناطيوس زياده، والأب ميشال بريدي وغيرهم وغيرهم. أين نحن من أشخاص مثل المطران يوسف الدبس الذي ارتفعت كتبه فامتدَّت فوق رأسه؟

غذاء الكاهن في رعايانا كان الكتاب المقدَّس يقرأه كلَّ يوم، ويقوله للمؤمنين بكلِّ بساطة. إلى أن جاءت الكتب التقويَّة التي فرضت نفسها لأنَّها آتية من الغرب. أذكر في بداية حياتي الكهنوتيَّة ذاك الكاهن الشيخ يقرأ بعض العظات التي عرفها الكبار منّا. وما زال غيرها يترجم، فقيل بسبب كثرة الكتب »التقويَّة«، ضاع الكتاب الكتاب، الكتاب المقدَّس. وكيف نعظه؟ نقرأه في الفصحى، ونعيده في اللغة العامِّيَّة وكأنَّ الناس لم يفهموه. أو نقول بعض الأمور الأخلاقيَّة التافهة، هذا إذا كنّا لا نتكلَّم عن الأشخاص ونبخِّرهم فيكون لنا من هذا التبخير أكثر من فائدة.

كم نحن بعيدون عن بولس الرسول! قال لنا في الرسالة إلى العبرانيّين: »كلام الله سيف ذو حدَّين، يَنفذ إلى الأعماق« (عب 4: 12). فإذا كان ما نقوله كلامًا بشريٌّا، فماذا يفيد؟ الجميع يعرفون مثلنا وأكثر. أتى اليونانيّون وقالوا لأندراوس وفيلبُّس: »نريد أن نرى يسوع« (يو 12: 21). أرونا وجهه، أسمعونا صوته، أعطونا كلامه. جاء كلام بولس قاسيًا: »نحن لا نتاجر مثل كثير من الناس بكلام الله« (2 كو 2: 17). ويمكن أن نقول: لا نشوِّه، لا نحرِّف. وقال في 1 كو 4: 2: »لا نسلك طريق المكر، ولا نزوِّر كلام الله، بل نُظهر الحقّ...«. لن أتحدَّث هنا عن شروح ضعيفة للإنجيل، أو خاطئة لأنَّنا نطلب أنفسنا، لا المسيح ربَّنا. وكم يفرح المؤمنون حين يسمعون كلمة الله، ولاسيَّما في وقت الحزن، فيجدون العزاء الحقيقيّ والشجاعة. وفي قدّاس الأحد، يكون لهم الزاد طوال الأسبوع. شكرًا لك يا ربّ على مثل هؤلاء الكهنة الذين يبشِّرون!

2. غذَّيتكم باللبن الحليب، لا بالطعام القويّ

اعتبرت الجماعة في كورنتوس أنَّها لا تحتاج إلى تعليم. فاليونان حملوا الأدب والفلسفة والفكر إلى العالم. وماذا يعطيهم هذا »الثرثار«، كما قال عنه الآثينيّون؟ ولكنَّ بولس الآتي من الشرق ما خاف أن يجادل فلاسفة من تيّارات متعدِّدة. فهو ابن الجامعة في طرسوس موطنه. والشعراء سمعوه يقول مقاطع تعود إلى القرن السادس ق.م. ما كان بولس »معقَّدًا« لأنَّه جاهل، بل كان يعرف كما يعرفون. فخطَبَ حيث خطبَ سقراط، أبو الفلاسفة الكبار. ولكنَّ تعليمه غير تعليم »الحكمة« اليونانيَّة. أذكر هنا خاطرة من حياة خوري آرس. سأل ولدًا عن الطريق إلى آرس. فدلَّه. ثمَّ قال له: »وأنا أدلُّك على طريق السماء«. ابتسم ذاك الولد: هو لا يعرف الطريق إلى آرس ويعرف الطريق إلى السماء! ويمكن أن لا يعرف الكاهن علوم الفلك والكيمياء والفيزياء، أن لا يعرف الصعود إلى القمر. لا بأس. فهذا ليس اختصاصه. اختصاصه الكلام عن يسوع. علمُ يسوع هو علمُ العلوم. معرفة يسوع هي معرفة المعارف. وهي الأولى في حياة الكاهن، وإلاَّ يقع علينا حكم سعيد عقل القاسي: »دكتور في العلوم و... في علم الله«. أناس لا يتعدَّون التعليم المسيحيّ حين المناولة الأولى، ولا نريد أن نرفعهم مرّات عديدة. نتركهم وشأنهم. فأنا الكاهن مسؤول عن أبناء رعيَّتي، عن أبناء الكنيسة. فالربُّ نفسه قال في »صلاته الكهنوتيَّة«: »حفظتهم باسمك الذي أعطيتني، فما خسرتُ منهم واحدًا« (يو 17: 12). وحزقيال النبيّ يذكِّر الرعاة بمهمَّة التدبير: »يا ابن البشر، جعلتك رقيبًا في بيت إسرائيل، فتسمع الكلمة وتنذرهم عنّي« (حز 33: 7). فإن »قصَّرتَ عن إنذاره، من يدك أطلب دمه« (آ8). ذاك هو واجب الكاهن.

جاء مرَّة إلى مدينة آرس معلِّمون كبار من باريس، وتعجَّبوا حين رأوا الجموع تحتشد في كنيسة ذاك الكاهن الذي خافوا أن يرسموه لأنَّه لم يعرف اللاتينيَّة لكي يفهم الدراسة التي تُعطى له. هم توقَّفوا عند العلوم، أمّا هو فوصل بالآتين إلى هذه الرعيَّة الصغيرة التي ما أراد أحد أن يهتمَّ بها، وصل بهم إلى يسوع. فتابوا وبدَّلوا حياتهم السابقة. هكذا قال يسوع للخاطئة: »مغفورة لك خطاياك... فاذهبي بسلام« (لو 7: 48-49). وبولس الرسول ما توقَّف في أثينة عند معارفه في الفلسفة والشعر، بل وصل بهم إلى يسوع المسيح، وهو عارف أنَّهم لن يقبلوا مثل هذا التعليم. أنهى خطبته فقال: لأنَّ الله »وقَّت يومًا يدين فيه العالم كلَّه بالعدل على يد رجل اختاره، وبرهن لجميع الناس عن اختياره بأن أقامه من بين الأموات« (أع 17: 31). والنتيجة: استهزأ به بعضهم. وآخرون قالوا: »سنسمع كلامك في هذا الشأن مرَّة أخرى« (آ32). أما كان يمكن أن يتجنَّب هذا الكلام الأخير؟ لو فعل، لشابه الأثينيّين »الذين يقضون أوقات فراغهم كلَّها في أن يقولوا أو يسمعوا شيئًا جديدًا« (آ21). جاءهم بولس بالجديد الجديد، فرفضوه. وهل يبدِّل موقفه؟ كلاّ. فهو الذي قال لأهل غلاطية: »لو كنتُ أريد أن أرضي الناس، لا أكون عبدًا ليسوع المسيح« (غل 1: 10).

هكذا يكون الأسقف، الكاهن »مدبِّرًا حكيمًا«. يهتمُّ بالمؤمنين والمؤمنات، يزورهم، يكون معم في الأفراح والأحزان. ويوصل إليهم محبَّة الله وحنانه. وخصوصًا المرضى الذين لا يزورهم بعضنا ولا يحملون إليهم القربان إذا لم يكن هناك »بعض المال«. ومرّات كثيرة يكون الكسل مسيطرًا، مع أنَّنا نعرف كم اهتمَّ يسوع بالمرضى خلال حياته الرسوليَّة. قلت مرَّة لأحد الكهنة: »هل تزور الرعيَّة؟« قال: »كلاّ«. فأجبته: »لا بأس. شهود يهوه يزورونها«. ويعرفون متى يزورون ويكوِّنون جماعة »متلاصقة« في قلب رعيَّتنا. أمّا نحن فيأتي المؤمنون ونحن لا نعرفهم. يأتون إلى القدّاس لأنَّ ذلك واجب عليهم. ولكن هل يلتقون بالكاهن؟ هل يعرفهم ويعرفونه؟ هم يأتون إليه فقط إن احتاجوا ورقة رسميَّة ويدفعون ثمنها كما في إحدى الدوائر الرسميَّة.

أمّا بولس فكان يعرف المؤمنين. يكفي أن نقرأ نهاية الرسالة إلى رومة لنكتشف عدد الأشخاص الذين يرسل سلامه إليهم. وقال لأهل فيلبّي: »أنتم دائمًا في قلبي وفي وثاقي (لأنَّه كان في سجن أفسس) وفي الدفاع عن الإنجيل« (فل 1: 7). يقول الكهنة: وكيف نزور الرعيَّة؟ هي كبيرة. قال المثل الصينيّ: مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة. ومن نزور؟ قال يسوع: المساكين يبشَّرون. أمّا نحن فتقتصر زياراتنا على بيوت دون أخرى. في رعيَّة كنت فيها، والكهنة كثيرون، زرتُ بيتًا لم يطأه كاهن منذ سبعين سنة. بيت فقير. لا كرسيّ فيه. ولا نقول شيئًا عن الذين تهجَّروا وأتوا إلى رعايانا. يعطينا الحقّ القانونيّ حدود الرعيَّة: نحن نعمِّد، نحن نحتفل بالزواج في تلك البقعة، نحن نرشّ في الغطاس وفي عيد القدّيسين بطرس وبولس. والويل لمن يدخل إلى حدودنا. بل الزواج باطل. كم نستحقّ حكم النبيّ حزقيال علينا: »تأكلون اللبن، وتلبسون الصوف، وتذبحون الخروف السمين، ولكنَّكم لا ترعون الغنم« (حز 34: 3). ويعدِّد النبيّ: الضعيف، المريض، المكسور، الشارد، المفقود. ويتواصل الكلام: »تاهت غنمي في جميع الجبال (هناك كانت تقام العبادات الوثنيَّة)، وعلى كلِّ تلَّة عالية، وتشتَّتت على وجه الأرض ولا من يسأل ولا من يبحث« (آ6). وقال الربّ: أنا أتفقَّد غنمي، أُنقذها، أجمعها، أرعاها، أعيدها إلى حظيرتها. وفي ذلك الوقت ينام رعاتها.

ويبيِّن لنا الرسول كيف تعامل مع المؤمنين. أوَّلاً، جعل أمامهم صليب المسيح: »لا أعرف فيكم سوى يسوع المسيح وإيّاه مصلوبًا«. ثمَّ أفهمهم أنَّ الحكمة البشريَّة، بما فيها من حسابات، هي جهالة لدى الله. ونزل إلى مستواهم ليرفعهم إلى مستوى كلام الله. بدأ فغذّاهم بالحليب مثل أطفال. وانتظر بعض الوقت لكي يعطيهم الطعام القويّ، طعام الناضجين (1 كو 3: 2). وترافق مع الجميع. هذا بلا شريعة (يهوديَّة)، صار معه »بلا شريعة« (مع أنَّ شريعتي هي المسيح). قال: »وصرت للضعفاء ضعيفًا لأربح الضعفاء. وصرت للناس كلِّهم كلا شيء لأخلِّص بعضهم بكلِّ وسيلة. وأعمل هذا كلَّه في سبيل الإنجيل« (1 كو 9: 22-23).

هناك خلاف في الكنيسة، لا يتركه الرسول يستفحل. لماذا التعلُّق بالأشخاص؟ فكلُّنا خدّام لكم. وكلُّ واحد منّا يعمل بحسب موهبته. وإن أنتم »تحزَّبتم« بيَّنتم أنَّكم لم تزالوا »جسديّين«. فكيف تطيقون أن يكون »الحسد والخلاف« (1 كو 3: 3) في ما بينكم؟

ويأتي الافتخار، وهو الخطر الكبير في العمل الرعائيّ، أو في ما بين الكهنة. لا أريد أن أكون مثل الآخرين، فالسرّ الذي قبلته أسمى من السرّ الذي قبلوه. أريد أن أتميَّز عن الآخرين، بالاسم، بالوظيفة، بالكرامة، بالتسلُّط. رفض بولس كلَّ افتخار بشريّ: »لا يفتخر بشر أمام الله« (1 كو 1: 29). افتخر هؤلاء »المعلِّمون« على خوري آرس، فما كان لهم من افتخارهم! دعوه »حمارًا«. لا بأس. وكان جوابه جواب الحكماء: الله يعمل بي ما يعمل. ونحن نتذكَّر جحشة بلعام، ذاك الذي اعتبر نفسه نبيٌّا. يقول سفر العدد: »رأت الجحشة ملاك الربِّ واقفًا في الطريق... فمالت عن الطريق« (عد 22: 23). أمّا بلعام فاحتاج إلى وقت طويل لكي يعرف مقصد الله. قال: »خطئتُ لأنّي ما عرفت« (آ34). أمّا الجحشة فعرفت. وقال إشعيا النبيّ: »عرف الثور قانيه والحمار معلف صاحبه، أمّا شعبي فلا يعرف، ولا يفهم شيئًا« (إش 1: 3). أمّا جواب خوري آرس فكان رائعًا. قال لهؤلاء المعلِّمين منطلقًا من خبر شمشون وفكّ الحمار الذي به قتل كثيرًا من الأعداء، قال: »بفكِّ حمار قتل شمشون ألف رجل، فماذا يفعل الله بحمار كامل؟« فمضوا يلتحفهم الخزيُ والخجل. وأذكر كاهنًا خدم بلدتنا. تعلَّم 12 شهرًا فقط في مار يوحنّا مارون. ما كان مع هذا الحزب ولا مع ذاك، بل كان فوق هذا وذاك. كان رجل الصلاة. يقضي الساعات في الكنيسة يقرأ الكتاب المقدَّس وسائر الكتب. وبعد بعض سنوات جمع الرعيَّة كلَّها حوله وحول الربّ. بتواضعه وحضوره وخدمته ربح قلوب الجميع، فتفوَّق على الكثيرين الذين نظروا إليه من فوق لأنَّهم حملوا بعض الشهادات.

في هذا قال بولس: »إن الله اختار ما يعتبره العالم حماقة ليُخزي الحكماء، وما يعتبره العالم ضعفًا ليخزي الأقوياء. واختار الله ما يحتقره العالم وما يزدريه ويظنُّه لا شيء، ليزيل ما يظنُّه العالم شيئًا« (1 كو 1: 27-28). والخلاصة: »من يفتخر فليفتخر بالرب« (آ31). ويواصل الرسول: »لا يخدع أحد نفسه. فمن ظنَّ أنَّه حكيم في هذا الدهر فليصر جاهلاً لكي يصير حكيمًا« (1 كو 3: 18). كم ننغشّ في حياتنا! كم نؤخذ بالظواهر البشريَّة! من أعظم، الخادم أم السيِّد؟ كلُّنا نقول السيِّد. أمّا يسوع فقال للرسل: أنا بينكم كالخادم. من أعظم، الأخ إسطفان نعمه أم الرئيس الذي كان في أيّامه! من أعظم، الرسل الأميُّون، أم قيافا وحنّان وعظماء الكهنة والكتبة الذين يسيرون بالحلل ويحبّون مقاعد الشرف والتحيّات في الأسواق (مت 23: 6-7). كم سوف نخجل في السماء حين نرى أنَّنا نحن الأوَّلين صرنا الآخرين، وكم دينونتنا ستكون كبيرة حين نعرف أنَّ الربَّ جعلنا »خدّامًا »للرعيَّة فأردنا أن نترأَّس ونعوِّض عمّا كنّا في العالم بسلطة روحيَّة فنشبه سيمون الساحر الذي رأى أن ينمّي سلطانه حين ينال الروح القدس (أع 8: 18-21). فجاء جواب بطرس قاسيًا. ويكون كلام بولس محذِّرًا: تذكَّروا، ما كان فيكم كثير من الحكماء بحكمة البشر ولا من الأقوياء ولا من الوجهاء« (1 كو 1: 26). ولا من الأغنياء ولا من الزعماء. وهكذا نصير من العالم (يو 15: 19) »ننتمي إلى العالم« (يو 17: 14) فنقع في حبال الشرّير. ونريد أن نقول مثل الرسول: »اقتدوا بي كما أنا أقتدي بالمسيح« (1 كو 11: 1).

3 - أنا الذي ولدكم في المسيح

من يهتمُّ بالمؤمنين مثل هذا الاهتمام، من يفتخر بأن يكون خادمهم على مثال المعلِّم الإلهيّ، من يكون على أقدامهم لكي يغسلها، فهو الأب والأمُّ معًا. وهكذا نرى الرسول يقول لأهل كورنتوس: عندكم معلِّمون كثيرون. ولكن لكم أبٌ واحد: »أنا الذي ولدكم في المسيح يسوع بالبشارة التي حملتُها إليكم. فأناشدكم أن تقتدوا بي« (1 كو 4: 15-16). وأيُّ ابن لا يقتدي بأبيه، كما قيل: »الولد سرُّ أبيه«. منذ بولس والناس يدعوننا »أبونا، أبانا«، لأنَّنا وَلدنا الأولاد العديدين في المعموديَّة، وغذَّيناهم بجسد المسيح ودمه، ورافقناهم من بداية حياتهم إلى نهايتها. فبعد حمل البشارة، وتدبير الكنيسة، ها هي وظيفة التقديس التي يقوم بها الأسقف، الكاهن. لا فقط على مستوى الأسرار التي تفعل بذات الفعل، بل على مستوى حياة من القداسة يُقال فيها عن كلِّ واحد منّا، ما قيل عن المسيح: عمل ثمَّ علَّم (أع 1: 1).

الكاهن يلد المؤمنين في جرن المعموديَّة. وهذا السرُّ هو أوَّلاً سرُّ الإيمان. ممّا يعني دعوة الوالدين والعرّابين إلى الإيمان. يذكِّرهم الكاهن بما عرفوه في الماضي وبما يجب أن يعرفوه اليوم. حين كنت في إحدى رعايا باريس، كانوا يعدُّون الوالدين لمعموديَّة أولادهم. اجتماع أو اجتماعان أو أكثر. نحن نعمِّد الطفل لأنَّنا نعتبر أنَّ والديه مؤمنان ومثلهما العرّاب والعرّابة. هنيئًا إن كانت الرعيَّة على هذا المستوى، وإلاَّ وجب على الكاهن أن يستعدَّ ويعدَّ أولاده.

وبما أنَّ الأمر ليس هكذا، لماذا لا نستفيد من ممارسة السرِّ لكي نعلِّم أبناء الرعيَّة وبناتها. أوَّلاً، نمارس السرَّ على مهل، لأنَّ ما نقرأه من نصوص فيه تعليم كبير. ثانيًا، حين نقرأ ما نقرأ من الكتاب المقدَّس، نشرحه، نفسِّره، مع عظة صغيرة. وما نقوم به من حركات وأعمال، يحتاج إلى أن نوضحه. ما معنى الكفر بالشيطان؟ والمسح بالزيت؟ ماذا يعني الماء الذي نصبُّه على رأس الطفل أو الطفلة؟ ونشير هنا وهناك إلى فكرة جميلة مرَّت في الصلوات. مثلاً، الماء هو الحشا الجديد الذي يلد البنين. كان رمز الموت فصار رمز الحياة، بفعل الروح القدس.

أذكر أوَّل مرَّة عمَّدتُ ابنة أختي. سألني الحاضرون: هذه الصلوات من عندك؟ قلت: لا. بل قرأتُها في ممارسة السرّ. قالوا: كم هي جميلة! مرَّات يكون الأهل معجَّلون، يريدون أن تنتهي الحفلة في الكنيسة لأنَّ حفلة أخرى تنتظرهم. ومرَّات يكون الكاهن معجَّلاً، لأنَّ عمادة أخرى تنتظره. أمّا في عيد الغطاس، فحدِّث ولا حرج. تتوالى العمادات في سرعة جنونيَّة. عشر دقائق كافية. لماذا لا يكون العماد جماعيٌّا؟ ويتواصل مع الذبيحة الإلهيَّة. من أطيب الذكريات في رعيَّتي كفرعبيدا، المعموديَّة بعدد من الأطفال. صورة تورد أسماء المعمَّدين كلِّهم. الضيافة لجميع الحاضرين. ويتناول الوالدون والعرّابون. تمتلئ الكنيسة بالمؤمنين، ويفهم الحاضرون ما هي المعموديَّة التي تقبَّلوها منذ سنوات لا يعودون يذكرونها.

حين نعمِّد أحد الأولاد، نقدِّسه بالماء والميرون. هو الله يفعل بأيدينا مهما كانت هذه الأيدي. والقدّيس أوغسطين قال: عمَّد بطرس المسيح عمَّد. عمَّد يهوذا المسيح عمَّد. وولكن أين دور خادم السرّ؟ هل هو دور سحريّ؟ هل تذكَّر أنَّه معمَّد وأنَّه صار منذ ذلك الوقت هيكل الروح القدس. والوالدون والعرّابون؟ هل يعرفون ماذا يعملون حين يحملون الطفل إلى جرن العماد؟ في بدايات الكنيسة كان العرّاب الشابّ يأتي بالمعمَّد الشابّ. ومعًا يستعدَّان للشهادة بإيمانهم. وربَّما بالاستشهاد. ويُحكى عن أوريجان، هذا المفسِّر الكبير للكتب المقدَّسة، أنَّه كان يقبِّل صدر ابنه: هو هيكل للثالوث الأقدس. »إليه نأتي وعنده نصنع منزلا«.

والولادة الثانية التي هي سرُّ التوبة. حين عيِّنت أوَّل مرَّة خادم رعيَّة، طُلب من المطران كاهن »يعرِّف«. لأنَّ الذين يعمِّدون ويزوِّجون ويجنِّزون كثيرون، أمّا من يعرِّف، فلا نجد... ولمّا وصلت إلى الرعيَّة، دققت الجرس الساعة الرابعة. كان ذلك في السابع من تشرين الأوَّل سنة 1963. واعتاد الناس على الاعتراف في الرعيَّة بعد أن كانوا يمضون إلى الدير القريب. أمّا في الأعياد الكبرى فكان الاعتراف يبدأ في الثانية بعد الظهر وينتهي في الثانية بعد منتصف الليل.

في رعايا كثيرة، لا كرسيّ اعتراف. وإذا وُجد كرسيّ، لا أقول ماذا نجد فيه. تلك كانت خبرتي حين أعظ الرياضات في لبنان وأبعد من لبنان. لماذا الاعتراف؟ الناس لا يعترفون. قلت: ولماذا يذهبون إلى بعض المعابد والأديرة؟ ولماذا يروحون إلى رعيَّة مجاورة؟ لا جواب.

علَّمونا حين كنّا في الجامعة أنَّ الكاهن في كرسيّ الاعتراف هو القاضي والطبيب والغافر. هو يدين؟ أمّا الربُّ فقال لنا: لا تدينوا لئلاّ تدانوا. هو الطبيب؟ ويمكن أن يقال لنا: أيُّها الطبيب طبِّبْ نفسك. وهو الغافر؟ في الأصل يقال: يحلُّك الله. الله وحده يغفر الخطايا. ونتذكَّر يسوع في شفاء المخلَّع. قال: »مغفورة لك خطاياك« (مر 2: 5). والكلام عينه قاله للخاطئة. ولمّا أتوا بالزانية إلى يسوع وأرادوا أن يحكموا عليها بالرجم، قال لهم يسوع: من منكم بلا خطيئة؟ فمضوا كلُّهم. حينئذٍ قال لها يسوع: »أما حكمَ عليك أحدٌ منهم؟« فأجابت: »لا، يا سيِّدي«. فقال لها يسوع: »ولا أنا أحكم عليك. اذهبي ولا تخطئي بعد الآن« (يو 8: 10-11).

الكاهن في كرسيّ الاعتراف هو أب وأمّ. يأخذ الآتين إليه بالوداعة، ويعرف أنَّه أوَّل خاطئ. ذاك ما قال الرسول عن نفسه: »جاء المسيح إلى العالم ليخلِّص الخاطئين، وأنا أوَّلهم« (1 تم 1: 15). وسُئل مرَّة فرنسيس الأسّيزيّ عن نفسه. قال: أنا أكبر الخطأة، ولولا نعمة الله لكنت أوَّل الهالكين. وقال القدّيس أوغسطين: ما من خطيئة إلاَّ وأستطيع أن أقع فيها لولا نعمة الله. ولا »نستلشق« بأحد ولاسيَّما بالصغار. كان الخوري مارون مطر يقول: الولد بيحرز. لا نعرِّفه بسرعة. بل نربِّيه شيئًا فشيئًا. والذين يعترفون بتواتر، لا نقبل أن يكرِّروا كلَّ مرَّة ما يقولون. نحرِّك ضميرهم ونفهمهم معنى هذا السرّ. فالله يريد أن يربّي المؤمنين في سرِّ التوبة، وهو يطلب من كهنته أن يساعدوه.

قال بولس عن نفسه إنَّه لم يعمِّد الكثيرين. »فالربُّ أرسلني لا لأعمِّد، بل لأعلن الإنجيل« (1 كو 1: 17). لماذا قال الذي قاله؟ لأنَّ المؤمنين كانوا يتعلَّقون بمن عمَّدهم، على مثال تلاميذ الفلاسفة، فبولس لا يريد المؤمنين له، بل للمسيح. لهذا قال لهم: »لا يقدر أحد أن يقول إنَّكم باسمي تعمَّدتم« (آ15).

وقال للذين أرادوا أن يتعلَّقوا به: »هل بولس هو الذي صُلب من أجلكم؟ أو باسم بولس تعمَّدتم؟« (آ13). فالكنيسة ليس كنيسة هذا الأسقف أو هذا الكاهن. الكنيسة هي كنيسة المسيح. والذي أراد أن يعمِّد الكثيرين لكي يتبعه الكثيرون، أسَّس كنيسته الخاصَّة، لا كنيسة المسيح. لهذا كثر الذين ضلُّوا وأضلّوا الكثيرين، مثل ماني مثلاً الذي أسَّس كنيسة في مواجهة »الكنيسة الكبيرة«. أمّا نحن فنريد أن نعمِّد الكثيرين لأنَّ في مثل هذا العمل فائدة. وإذا كثر الأولاد، نعرف من نختار.

وفي ما يتعلَّق بالتوبة، نتذكَّر كيف حكم بولس على ذلك الرجل »الذي يعاشر زوجة أبيه« (1 كو 5: 1). كما حذّر من الذهاب إلى المحاكم. ونبَّه من الزنى (1 كو 6: 18) الذي كان منتشرًا في كورنتوس. وقال: »أما تعرفون أنَّ الظالمين لا يرثون ملكوت الله.؟ لا تخدعوا أنفسكم، فلا الزناة... ولا السارقون (الأشخاص) ولا الفجّار ولا السكّيرون ولا الشتّامون ولا السالبون (الأموال) يرثون ملكوت الله. كان بعضكم على هذه الحال، ولكنَّكم اغتسلتم، بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الربِّ يسوع المسيح وبروح إلهنا« (آ9-11).

وننهي كلامنا على مستوى التقديس في سرِّ الإفخارستيّا. لن نطيل الكلام هنا، بل نتذكَّر أنَّ الكاهن يوزِّع خبز الكلمة، كما يوزِّع خبز القربان. والمجمع الفاتيكانيّ الثاني أعلن أنَّ مائدة الخبز مهمَّة مثل مائدة القربان. أي غذاء يعطي »الأبونا« لرعيَّته؟ هل يمجّون من طعام هو هو، لا يعطي أيَّ غذاء لحياة المؤمنين. عندئذٍ لا نتساءل: لماذا يخفُّ عدد المؤمنين الذين يشاركون في الاجتماع الأسبوعيّ. سبقتنا كنائس الغرب فرأت الكنائس فارغة ثمَّ مقفلة. فهل نتعلَّم نحن؟ نحن مثل »تجّار« جعل الربُّ في يدنا »الوزنات«. هل نعرف أن نقدِّم للمؤمنين الآتين إلينا غنى المسيح الذي لا يُستقْصى (أف 3: 8)؟ أم نخفي »الوزنة« في الأرض فنستحقُّ توبيخ الربِّ حين يأتي ويطالب بالحساب: »يا لك من خادم شرّير كسلان!« (مت 25: 26). وإن عرفنا أن نتاجر، نلنا جزاء الخدّام الأمناء.

الخاتمة

وهكذا رافقنا بولس الرسول وتعرَّفنا إليه أسقفًا وكاهنًا في كنيسة كورنتوس. هو أوَّلاً حامل الإنجيل، هو يبشِّر، ويعظ في وقته وفي غير وقته. وهو ذاك المهتمّ بكلِّ واحد من أبناء رعيَّته. حدَّثنا مرَّة عن »اهتمامه بجميع الكنائس«. قال: »فمن يضعف ولا أضعف أنا؟ ومن يقع في الخطيئة (أو: يترك الكنيسة) ولا أحترق من الحزن عليه؟« (2 كو 11: 29). وأخيرًا هو الأب الذي أُعطِيَ سلطة التقديس، وهو يوجِّه المؤمنين والمؤمنات إلى القداسة التي بدونها لا يرى أحد وجه ربِّنا. ذاك هو وجه بولس الكهنوتيّ الذي لا يعرف الكلل ولا التعب، الذي ما خاف الشدائد والمشقّات والضرب والسجن، الذي تصرَّف بالنزاهة وطول البال والرفق وروح القداسة والمحبَّة الخالصة، بالكلام الصادق وقدرة الله، وسلاح الحقّ في الهجوم وفي الدفاع (2 كو 6: 4-7). ذاك يكون برنامجنا إن أردنا أن نكون كهنة بحسب قلب الله.

 
قديم 23 - 03 - 2024, 01:51 PM   رقم المشاركة : ( 155163 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,743

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




بولس الرسول أسقف كورنتوس وكاهنها




كورنتوس، تلك المدينة التي وصل إليها بولس آتيًا من أثينة سنة 49-50، كورنتوس حيث وجد عيلة يهوديَّة، أكيلا وبرسكلّة، »فأقام يعمل عندهما، لأنَّه كان من أهل صناعتهما« (أع 18: 3)، كورنتوس حيث بدأ بولس يشهد لليهود »أنَّ يسوع هو المسيح« (آ5)، كورنتوس حيث كان يجتمع الرسول في بيت ملاصق للمجمع، يخصّ رجلاً يونانيٌّا. من هذا البيت انطلقت مسيرة الإيمان في كورنتوس، تلك المدينة التي عُدَّت نصف مليون ننسمة ونيِّف: آمن رئيس المجمع هو وأهل بيته. وواصل أعمالُ الرسل الكلام: »وكان كثيرٌ من أهل كورنتوس يسمعون كلام بولس، فيؤمنون ويتعمَّدون« (آ8). وما كان بولس وحده في حمل البشارة. فهناك الفريق الرسوليّ الذي نعرفه: سيلا وتيموتاوس اللذان التحقا ببولس »من مكدونية« بعاصمتها تسالونيكي. كما جاء أبلّوس بفصاحته المعروفة ومعرفته العميقة بالكتب المقدَّسة. وبطرس عمل أيضًا في »عاصمة آخائية«، فكان له »حزبه« أو الذين تعلَّقوا به، لأنَّه لم يقطع كلَّ رباط مع الشريعة اليهوديَّة، فراعى الذين لبثوا متعلِّقين بالختان.

في كورنتوس ومنطقة آخائية، كان بولس »الأسقف والكاهن« في مفهومنا الحديث، فقام بمهامّ »خادم الرعيَّة والأبرشيَّة«، مع أنَّه لم يكن هناك مثل هذه التقسيمات الإداريَّة. ولكنَّنا نودُّ أن نقرأ الرسالة إلى كورنتوس من هذا المنظار، في هذه السنة الكهنوتيَّة التي أعلنها قداسة البابا بنديكتس السادس عشر، فنكتشف خادم الكلمة والكارز بالإنجيل، ومدبِّر الجماعة الذي يتعامل مع المؤمنين تارة بالقساوة وطورًا بالليونة والحنان، والأب الذي ولد هؤلاء الناس في »المسيح يسوع بالبشارة التي حملها إليهم« (1 كو 4: 15).
 
قديم 23 - 03 - 2024, 01:52 PM   رقم المشاركة : ( 155164 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,743

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




بولس الرسول أسقف كورنتوس وكاهنها




الويل لي إن كنتُ لا أبشِّر

كان الجدال مرَّة بين الرسول »ورعيَّته«: من يقوم بأود المرسلين، من يؤمِّن لهم معاشهم؟ قال: أما يحقُّ للمرسَل »أن يأكل ويشرب«؟ وفي مفهومنا اليوم: أن يؤمَّن للكاهن »البيت« الذي يقيم فيه و«المال« الذي يساعده على سدِّ حاجاته. ثمَّ هناك مرسلون يستصحبون »زوجاتهم«. في الأصل »امرأة أخت«. ويمكن أن يكون هناك أولاد. فبطرس الذي كان متزوِّجًا، أخذ زوجته معه. وكذا نقول عن »إخوة الرب«، يعقوب ويهوذا وسمعان ويوسي (مر 6: 3، أي أبناء مريم وكلاوبا، يو 19: 25). قالت الرسالة: »أما لنا حقّ مثل سائر الرسل وإخوة الربّ وبطرس أن نستصحب زوجة مؤمنة؟« (1 كو 9: 5).

هو أمر عاديّ أن تؤمِّن »الرعيَّة« حياة »راعيها« أو أقلَّه الكنيسة. فهناك مرسلون من أوروبّا وأميركا، رجل وزوجته وأولاده تُرسلهم الكنيسة المحلِّيَّة ليحملوا الإنجيل، وهي تعطيهم »الزاد« الضروريّ. ولنا مثَلٌ على ذلك في أعمال الرسل. أرسلت كنيسة أنطاكية برنابا وشاول (الذي سيصبح بولس). »وضعوا أيديهم عليهما وصرفوهما« (أع 13: 3). ولمّا عادا من الرسالة، قدَّما تقريرًا. قال سفر الأعمال: »فلمّا وصلا (بولس وبرنابا) إلى أنطاكية جمعا الكنيسة وأخبرا بكلِّ ما أجرى الله على أيديهما« (أع 14: 27).

أجل، الكاهن يسلِّم نفسه للكنيسة ومستقبله وإرادته، وهي تهتمُّ به. وهذا واضح جدٌّا في الرهبنات عندنا وفي سائر بلدان العالم: لا يُترَك الراهب (ولا الراهبة) حين يشيخ، بل يكون الاهتمام به حتّى مماته، بل بعد مماته، بما يُقدَّم عنه من الصلوات والقدّاسات. أسند بولس كلامه إلى الكتاب المقدَّس: »لا تكمَّ الثور وهو يدوس الحصاد« (تث 25: 4). وشرح الكلام: »فهل بالثيران يهتمُّ الله؟ أما قال ذلك بالفعل من أجلنا؟ نعم، من أجلنا كُتب ذلك ومعناه: على الذي يفلح الأرض والذي يدرس الحبوب أن يقوما بعملهما هذا على رجاء أن ينال كلٌّ منهما نصيبه منه« (1 كو 9: 10).

ويقدِّم الرسول البراهين المأخوذة من الحياة اليوميَّة: »من هو الذي يحارب والنفقة عليه؟ من هو الذي يغرس كرمًا ولا يأكل من ثمره؟ من هو الذي يرعى قطيعًا ولا يأكل من لبنه؟« (آ7). والجواب لا أحد. لكنَّ هذا يفترض أنَّ »الجندي« يحارب ولا يختبئ حين يأتي الخطر. وكذا نقول عن »الراعي« الذي يبذل نفسه عن أحبّائه. وإلاَّ كان مثل الأجير الذي يعمل لقاء أجرة، ويتعب بقدر الأجرة التي تُعطى له: وأظنُّ أنَّ الرعيَّة التي ترى راعيها مثل »الراعي الصالح«، تعرف كيف تهتمُّ به. زرع فيهم الخيرات الروحيَّة وهو يحصد »الخيرات المادِّيَّة« (آ11).

ولكنَّ بولس أراد أن يكون »حرٌّا«، مع أنَّ له »الحق« أن يطالب كما يطالب غيره. فقال: »ولكنَّنا ما استعملنا هذا الحقّ، بل احتملنا كلَّ شيء لئلاَّ نضع عقبة في طريق البشارة بالمسيح« (آ12). وواصل كلامه: »ولا أنا أكتب هذا لأطالب بشيء منها، فأنا أفضِّلُ أن أموت من أن يحرمني أحدٌ من هذا الفخر« (آ15).

لماذا أراد الرسول أن يكون حرٌّا من كلِّ هذه الأمور؟ لماذا رفض وهو خادم المذبح »أن يأخذ نصيبه من الذبائح«؟ (لا 6: 9-19). لماذا رفض وهو خادم البشارة أن »ينال رزقه من البشارة«، مع أنَّ الربَّ قال: »إنَّ العامل يستحقُّ أجرته« (لو 10: 7)؟ لكي يتكرَّس بكلِّيَّته للبشارة. قال: »البشارة ضرورة فُرضَتْ عليّ، والويلُ لي إن كنتُ لا أبشِّر« (1 كو 9: 16). أجل، بولس هو تعيس إن لم يحمل الإنجيل. ويعتبر أنَّ حياته فاشلة إذا كان ينسى خدمة الكلمة التي هي مهمَّة مثل خدمة القربان. نحن نقوم بعمل فنطلب أجرة، أمّا بولس فيقلب المعادلة: »أجرتي هي أن أبشِّر مجّانًا وأتنازل عن حقّي في خدمة البشارة« (آ18).

كم مرَّة يكون المال عائقًا في طريق الإنجيل، فتصبح شهادتنا عقيمة، والنور الذي فينا يُضحي ظلامًا (مت 6: 23). أذكر مرَّة زرتُ كاهنًا، وأوَّل شيء قال لي: يجب أن أؤمِّن كذا مليونًا لكي أؤمِّن التعليم الجامعيّ لأولادي في أحسن جامعات البلاد. ومرَّة أخرى سمعتُ كاهنًا يقول: الرعيَّة تخدم الكاهن قبل أن يخدمها. وأحد الكهنة مضى إلى المهجر لكي يؤمِّن المستقبل لأسرته. وإذ لم يجد المستقبل الذي يريد، عاد إلى لبنان. كم نهتمّ بما نأكل وبما نشرب وبما نلبس! أمّا المسيح فقال لنا: »هذا يطلبه الوثنيّون. أمّا أنتم فأبوكم السماويّ يعرف أنَّكم تحتاجون إلى هذا كلِّه. فاطلبوا أوَّلاً ملكوت الله وبرَّه والباقي يُزاد لكم. لا يهمُّكم أمرُ الغد، فالغد يهتمُّ بنفسه. ويكفي كلَّ يوم شرُّه« (مت 6: 32-34).

لا شكَّ في أنَّ الكثيرين يبتسمون أمام هذا الكلام. فالذي يتكلَّم هكذا لا يعرف ماذا يقول ولا يحمل المسؤوليّات التي نحمل. لا شكّ، مع أنَّ المزمور قال: »إن لم يبنِ الربُّ البيت فعبثًا يتعب البنّاؤون. وإن لم يحرس الربُّ المدينة، فعبثًا يتعب الحارس. عبثًا لكم أن تبكِّروا في القيام وتتأخَّروا في النيام. فإنَّه يعطي في ذلك الوقت أحبّاءه لذّة النوم« (مز 127: 1-2). مثل هذا الموقف المتجرِّد يفترض الإيمان العميق الذي يُبعد عنّا الخوف. وإذ نحن نتذكَّر الخوري يوحنّا ماري فيانّاي، خوري آرس، بعد مئة وخمسين سنة على وفاته، نتساءل: لماذا رعايانا تموت؟ لماذا يتركنا المؤمنون ويمضون بعد أن خسروا كلَّ ثقة بنا؟ طلبوا خبزًا، فما وجدوا من يطعمهم، كما قال سفر المراثي. كما المسيح قال لتلاميذه الذين أرادوا أن يتهرَّبوا: »أعطوهم أنتم ليأكلوا« (مر 6: 37). في معنى أوَّل هو الخبز الفاني، كما قال الربُّ لليهود (يو 6: 27). وفي معنى ثانٍ، وهو الأهمّ، هو »القوت الباقي للحياة الأبديَّة«. وما يلفت انتباهنا في معجزة تكثير الأرغفة، هو أنَّ يسوع رأى الشعب الجائع، ومع ذلك ما بدأ فأطعمهم، بل أخبرنا الإنجيل: »فلمّا نزل يسوع من القارب رأى جمعًا كبيرًا، فأشفق عليهم، لأنَّهم كانوا مثل خرافٍ لا راعي لها، وأخذ يعلِّمهم أشياء كثيرة« (مر 6: 34)، أعطاهم خبز الكلمة.

والرسول هو من يعطي مثل هذا الخبز، كما طلب اليهود من يسوع (يو 6: 34)، لأنَّ من يأكل من هذا الخبز لا يجوع أبدًا (آ35). فإذا جاع المؤمنون مضوا إلى حيث يجدون الطعام. دُعيتُ مرَّة إلى بيت رجل من إحدى الشيع. تحدَّثت معه فأقنعته سريعًا. فدعا »الشيخ« الذي يعلِّمه، فمضى واقتنع الذين كانوا يلجون ذلك البيت أنَّهم يضيِّعون كنيستهم. عند ذاك سألته: أنت غنيّ ولا تحتاج إلى مال، فلماذا تبعتَ هذه الشيعة؟ وكان جوابه: أنا سريانيّ أرثوذكسيّ. لم أسمع مرَّة شرحًا للإنجيل في كنيستي، فمضيت إلى حيث أجدُ خبز الكلمة. وأنا مرتاح جدٌّا.

أين هي البشارة في رعايانا؟ ما هو مستوى العظات التي نقدِّمها للمؤمنين؟ هل هناك لقاءات حول الإنجيل؟ والأخويّات هل نطعِّمها بكلام الله، أم نتركها تكرِّر الفرض الذي لا غذاء فيه البتَّة، لأنَّ لا وجود لكلام الله. نبدِّل المزامير التي يحملها الكتاب، نكرِّر مزامير القدّيس بوناونتورا التي نتلوها كلَّها في سرعة فائقة، ولا نختار منها كلَّ مرَّة »مزمورًا«. ومرّات عديدة نرى الكهنة يهربون حين يكون الموضوع كلام الله. أو هم يعتبرون أنَّهم يعرفون، أو هم يجدون نفوسهم غرباء. اكتفوا بما درسوا في الجامعة، وذاب ما درسوه كما الثلج في زمن الصيف. قال النبيّ هوشع: »مثل سحابة الصبح، أو كالندى الذي يتبخَّر ما أن تطلع الشمس« (هو 13: 3). ونطرح سؤالاً على أنفسنا: هل نستطيع أن ندافع عن إيماننا بالحجَّة؟ بل نستعمل العنف ونُسكت محاورنا. فيمضي إلى من هو »مستعدٌّ للردِّ على كلِّ من يطلب منه دليلاً على الرجاء الذي فيه« (1 بط 3: 15). وكيف يكون كلامنا مع الذين ليسوا من رأينا؟ »بوداعة واحترام« (آ16). ولكن إذا كانت معرفتنا ضعيفة نغطّي جهلنا بالصوت العالي الذي يغطّي عجزنا.

كانوا يقولون: »عالم مثل كاهن ماروني«. ونقول هذا الكلام عن كلِّ كاهن، لأنَّ عليه أن يكون »معلِّمًا« في خطِّ المعلِّم الأوحد يسوع المسيح. كان الكاهن وحده يجيد القراءة والكتابة، فيأتي الجميع إليه. وماذا نقول عن الذين حملوا العلم إلى أوروبّا من السمعانيّ إلى الصهيونيّ إلى الدويهيّ إلى الحصرونيّ... إلى ميشال الحايك ويواكيم مبارك والمونسنيور ميخائيل الفغالي والمونسنيور جوزف الفغالي والمطران بطرس ديب الذي كتب ما كتب في »قاموس اللاهوت الكاثوليكي« الفرنسيّ، ومثله المطران اغناطيوس زياده، والأب ميشال بريدي وغيرهم وغيرهم. أين نحن من أشخاص مثل المطران يوسف الدبس الذي ارتفعت كتبه فامتدَّت فوق رأسه؟

غذاء الكاهن في رعايانا كان الكتاب المقدَّس يقرأه كلَّ يوم، ويقوله للمؤمنين بكلِّ بساطة. إلى أن جاءت الكتب التقويَّة التي فرضت نفسها لأنَّها آتية من الغرب. أذكر في بداية حياتي الكهنوتيَّة ذاك الكاهن الشيخ يقرأ بعض العظات التي عرفها الكبار منّا. وما زال غيرها يترجم، فقيل بسبب كثرة الكتب »التقويَّة«، ضاع الكتاب الكتاب، الكتاب المقدَّس. وكيف نعظه؟ نقرأه في الفصحى، ونعيده في اللغة العامِّيَّة وكأنَّ الناس لم يفهموه. أو نقول بعض الأمور الأخلاقيَّة التافهة، هذا إذا كنّا لا نتكلَّم عن الأشخاص ونبخِّرهم فيكون لنا من هذا التبخير أكثر من فائدة.

كم نحن بعيدون عن بولس الرسول! قال لنا في الرسالة إلى العبرانيّين: »كلام الله سيف ذو حدَّين، يَنفذ إلى الأعماق« (عب 4: 12). فإذا كان ما نقوله كلامًا بشريٌّا، فماذا يفيد؟ الجميع يعرفون مثلنا وأكثر. أتى اليونانيّون وقالوا لأندراوس وفيلبُّس: »نريد أن نرى يسوع« (يو 12: 21). أرونا وجهه، أسمعونا صوته، أعطونا كلامه. جاء كلام بولس قاسيًا: »نحن لا نتاجر مثل كثير من الناس بكلام الله« (2 كو 2: 17). ويمكن أن نقول: لا نشوِّه، لا نحرِّف. وقال في 1 كو 4: 2: »لا نسلك طريق المكر، ولا نزوِّر كلام الله، بل نُظهر الحقّ...«. لن أتحدَّث هنا عن شروح ضعيفة للإنجيل، أو خاطئة لأنَّنا نطلب أنفسنا، لا المسيح ربَّنا. وكم يفرح المؤمنون حين يسمعون كلمة الله، ولاسيَّما في وقت الحزن، فيجدون العزاء الحقيقيّ والشجاعة. وفي قدّاس الأحد، يكون لهم الزاد طوال الأسبوع. شكرًا لك يا ربّ على مثل هؤلاء الكهنة الذين يبشِّرون!
 
قديم 23 - 03 - 2024, 01:53 PM   رقم المشاركة : ( 155165 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,743

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




بولس الرسول أسقف كورنتوس وكاهنها




غذَّيتكم باللبن الحليب، لا بالطعام القويّ

اعتبرت الجماعة في كورنتوس أنَّها لا تحتاج إلى تعليم. فاليونان حملوا الأدب والفلسفة والفكر إلى العالم. وماذا يعطيهم هذا »الثرثار«، كما قال عنه الآثينيّون؟ ولكنَّ بولس الآتي من الشرق ما خاف أن يجادل فلاسفة من تيّارات متعدِّدة. فهو ابن الجامعة في طرسوس موطنه. والشعراء سمعوه يقول مقاطع تعود إلى القرن السادس ق.م. ما كان بولس »معقَّدًا« لأنَّه جاهل، بل كان يعرف كما يعرفون. فخطَبَ حيث خطبَ سقراط، أبو الفلاسفة الكبار. ولكنَّ تعليمه غير تعليم »الحكمة« اليونانيَّة. أذكر هنا خاطرة من حياة خوري آرس. سأل ولدًا عن الطريق إلى آرس. فدلَّه. ثمَّ قال له: »وأنا أدلُّك على طريق السماء«. ابتسم ذاك الولد: هو لا يعرف الطريق إلى آرس ويعرف الطريق إلى السماء! ويمكن أن لا يعرف الكاهن علوم الفلك والكيمياء والفيزياء، أن لا يعرف الصعود إلى القمر. لا بأس. فهذا ليس اختصاصه. اختصاصه الكلام عن يسوع. علمُ يسوع هو علمُ العلوم. معرفة يسوع هي معرفة المعارف. وهي الأولى في حياة الكاهن، وإلاَّ يقع علينا حكم سعيد عقل القاسي: »دكتور في العلوم و... في علم الله«. أناس لا يتعدَّون التعليم المسيحيّ حين المناولة الأولى، ولا نريد أن نرفعهم مرّات عديدة. نتركهم وشأنهم. فأنا الكاهن مسؤول عن أبناء رعيَّتي، عن أبناء الكنيسة. فالربُّ نفسه قال في »صلاته الكهنوتيَّة«: »حفظتهم باسمك الذي أعطيتني، فما خسرتُ منهم واحدًا« (يو 17: 12). وحزقيال النبيّ يذكِّر الرعاة بمهمَّة التدبير: »يا ابن البشر، جعلتك رقيبًا في بيت إسرائيل، فتسمع الكلمة وتنذرهم عنّي« (حز 33: 7). فإن »قصَّرتَ عن إنذاره، من يدك أطلب دمه« (آ8). ذاك هو واجب الكاهن.

جاء مرَّة إلى مدينة آرس معلِّمون كبار من باريس، وتعجَّبوا حين رأوا الجموع تحتشد في كنيسة ذاك الكاهن الذي خافوا أن يرسموه لأنَّه لم يعرف اللاتينيَّة لكي يفهم الدراسة التي تُعطى له. هم توقَّفوا عند العلوم، أمّا هو فوصل بالآتين إلى هذه الرعيَّة الصغيرة التي ما أراد أحد أن يهتمَّ بها، وصل بهم إلى يسوع. فتابوا وبدَّلوا حياتهم السابقة. هكذا قال يسوع للخاطئة: »مغفورة لك خطاياك... فاذهبي بسلام« (لو 7: 48-49). وبولس الرسول ما توقَّف في أثينة عند معارفه في الفلسفة والشعر، بل وصل بهم إلى يسوع المسيح، وهو عارف أنَّهم لن يقبلوا مثل هذا التعليم. أنهى خطبته فقال: لأنَّ الله »وقَّت يومًا يدين فيه العالم كلَّه بالعدل على يد رجل اختاره، وبرهن لجميع الناس عن اختياره بأن أقامه من بين الأموات« (أع 17: 31). والنتيجة: استهزأ به بعضهم. وآخرون قالوا: »سنسمع كلامك في هذا الشأن مرَّة أخرى« (آ32). أما كان يمكن أن يتجنَّب هذا الكلام الأخير؟ لو فعل، لشابه الأثينيّين »الذين يقضون أوقات فراغهم كلَّها في أن يقولوا أو يسمعوا شيئًا جديدًا« (آ21). جاءهم بولس بالجديد الجديد، فرفضوه. وهل يبدِّل موقفه؟ كلاّ. فهو الذي قال لأهل غلاطية: »لو كنتُ أريد أن أرضي الناس، لا أكون عبدًا ليسوع المسيح« (غل 1: 10).

هكذا يكون الأسقف، الكاهن »مدبِّرًا حكيمًا«. يهتمُّ بالمؤمنين والمؤمنات، يزورهم، يكون معم في الأفراح والأحزان. ويوصل إليهم محبَّة الله وحنانه. وخصوصًا المرضى الذين لا يزورهم بعضنا ولا يحملون إليهم القربان إذا لم يكن هناك »بعض المال«. ومرّات كثيرة يكون الكسل مسيطرًا، مع أنَّنا نعرف كم اهتمَّ يسوع بالمرضى خلال حياته الرسوليَّة. قلت مرَّة لأحد الكهنة: »هل تزور الرعيَّة؟« قال: »كلاّ«. فأجبته: »لا بأس. شهود يهوه يزورونها«. ويعرفون متى يزورون ويكوِّنون جماعة »متلاصقة« في قلب رعيَّتنا. أمّا نحن فيأتي المؤمنون ونحن لا نعرفهم. يأتون إلى القدّاس لأنَّ ذلك واجب عليهم. ولكن هل يلتقون بالكاهن؟ هل يعرفهم ويعرفونه؟ هم يأتون إليه فقط إن احتاجوا ورقة رسميَّة ويدفعون ثمنها كما في إحدى الدوائر الرسميَّة.

أمّا بولس فكان يعرف المؤمنين. يكفي أن نقرأ نهاية الرسالة إلى رومة لنكتشف عدد الأشخاص الذين يرسل سلامه إليهم. وقال لأهل فيلبّي: »أنتم دائمًا في قلبي وفي وثاقي (لأنَّه كان في سجن أفسس) وفي الدفاع عن الإنجيل« (فل 1: 7). يقول الكهنة: وكيف نزور الرعيَّة؟ هي كبيرة. قال المثل الصينيّ: مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة. ومن نزور؟ قال يسوع: المساكين يبشَّرون. أمّا نحن فتقتصر زياراتنا على بيوت دون أخرى. في رعيَّة كنت فيها، والكهنة كثيرون، زرتُ بيتًا لم يطأه كاهن منذ سبعين سنة. بيت فقير. لا كرسيّ فيه. ولا نقول شيئًا عن الذين تهجَّروا وأتوا إلى رعايانا. يعطينا الحقّ القانونيّ حدود الرعيَّة: نحن نعمِّد، نحن نحتفل بالزواج في تلك البقعة، نحن نرشّ في الغطاس وفي عيد القدّيسين بطرس وبولس. والويل لمن يدخل إلى حدودنا. بل الزواج باطل. كم نستحقّ حكم النبيّ حزقيال علينا: »تأكلون اللبن، وتلبسون الصوف، وتذبحون الخروف السمين، ولكنَّكم لا ترعون الغنم« (حز 34: 3). ويعدِّد النبيّ: الضعيف، المريض، المكسور، الشارد، المفقود. ويتواصل الكلام: »تاهت غنمي في جميع الجبال (هناك كانت تقام العبادات الوثنيَّة)، وعلى كلِّ تلَّة عالية، وتشتَّتت على وجه الأرض ولا من يسأل ولا من يبحث« (آ6). وقال الربّ: أنا أتفقَّد غنمي، أُنقذها، أجمعها، أرعاها، أعيدها إلى حظيرتها. وفي ذلك الوقت ينام رعاتها.

ويبيِّن لنا الرسول كيف تعامل مع المؤمنين. أوَّلاً، جعل أمامهم صليب المسيح: »لا أعرف فيكم سوى يسوع المسيح وإيّاه مصلوبًا«. ثمَّ أفهمهم أنَّ الحكمة البشريَّة، بما فيها من حسابات، هي جهالة لدى الله. ونزل إلى مستواهم ليرفعهم إلى مستوى كلام الله. بدأ فغذّاهم بالحليب مثل أطفال. وانتظر بعض الوقت لكي يعطيهم الطعام القويّ، طعام الناضجين (1 كو 3: 2). وترافق مع الجميع. هذا بلا شريعة (يهوديَّة)، صار معه »بلا شريعة« (مع أنَّ شريعتي هي المسيح). قال: »وصرت للضعفاء ضعيفًا لأربح الضعفاء. وصرت للناس كلِّهم كلا شيء لأخلِّص بعضهم بكلِّ وسيلة. وأعمل هذا كلَّه في سبيل الإنجيل« (1 كو 9: 22-23).

هناك خلاف في الكنيسة، لا يتركه الرسول يستفحل. لماذا التعلُّق بالأشخاص؟ فكلُّنا خدّام لكم. وكلُّ واحد منّا يعمل بحسب موهبته. وإن أنتم »تحزَّبتم« بيَّنتم أنَّكم لم تزالوا »جسديّين«. فكيف تطيقون أن يكون »الحسد والخلاف« (1 كو 3: 3) في ما بينكم؟

ويأتي الافتخار، وهو الخطر الكبير في العمل الرعائيّ، أو في ما بين الكهنة. لا أريد أن أكون مثل الآخرين، فالسرّ الذي قبلته أسمى من السرّ الذي قبلوه. أريد أن أتميَّز عن الآخرين، بالاسم، بالوظيفة، بالكرامة، بالتسلُّط. رفض بولس كلَّ افتخار بشريّ: »لا يفتخر بشر أمام الله« (1 كو 1: 29). افتخر هؤلاء »المعلِّمون« على خوري آرس، فما كان لهم من افتخارهم! دعوه »حمارًا«. لا بأس. وكان جوابه جواب الحكماء: الله يعمل بي ما يعمل. ونحن نتذكَّر جحشة بلعام، ذاك الذي اعتبر نفسه نبيٌّا. يقول سفر العدد: »رأت الجحشة ملاك الربِّ واقفًا في الطريق... فمالت عن الطريق« (عد 22: 23). أمّا بلعام فاحتاج إلى وقت طويل لكي يعرف مقصد الله. قال: »خطئتُ لأنّي ما عرفت« (آ34). أمّا الجحشة فعرفت. وقال إشعيا النبيّ: »عرف الثور قانيه والحمار معلف صاحبه، أمّا شعبي فلا يعرف، ولا يفهم شيئًا« (إش 1: 3). أمّا جواب خوري آرس فكان رائعًا. قال لهؤلاء المعلِّمين منطلقًا من خبر شمشون وفكّ الحمار الذي به قتل كثيرًا من الأعداء، قال: »بفكِّ حمار قتل شمشون ألف رجل، فماذا يفعل الله بحمار كامل؟« فمضوا يلتحفهم الخزيُ والخجل. وأذكر كاهنًا خدم بلدتنا. تعلَّم 12 شهرًا فقط في مار يوحنّا مارون. ما كان مع هذا الحزب ولا مع ذاك، بل كان فوق هذا وذاك. كان رجل الصلاة. يقضي الساعات في الكنيسة يقرأ الكتاب المقدَّس وسائر الكتب. وبعد بعض سنوات جمع الرعيَّة كلَّها حوله وحول الربّ. بتواضعه وحضوره وخدمته ربح قلوب الجميع، فتفوَّق على الكثيرين الذين نظروا إليه من فوق لأنَّهم حملوا بعض الشهادات.

في هذا قال بولس: »إن الله اختار ما يعتبره العالم حماقة ليُخزي الحكماء، وما يعتبره العالم ضعفًا ليخزي الأقوياء. واختار الله ما يحتقره العالم وما يزدريه ويظنُّه لا شيء، ليزيل ما يظنُّه العالم شيئًا« (1 كو 1: 27-28). والخلاصة: »من يفتخر فليفتخر بالرب« (آ31). ويواصل الرسول: »لا يخدع أحد نفسه. فمن ظنَّ أنَّه حكيم في هذا الدهر فليصر جاهلاً لكي يصير حكيمًا« (1 كو 3: 18). كم ننغشّ في حياتنا! كم نؤخذ بالظواهر البشريَّة! من أعظم، الخادم أم السيِّد؟ كلُّنا نقول السيِّد. أمّا يسوع فقال للرسل: أنا بينكم كالخادم. من أعظم، الأخ إسطفان نعمه أم الرئيس الذي كان في أيّامه! من أعظم، الرسل الأميُّون، أم قيافا وحنّان وعظماء الكهنة والكتبة الذين يسيرون بالحلل ويحبّون مقاعد الشرف والتحيّات في الأسواق (مت 23: 6-7). كم سوف نخجل في السماء حين نرى أنَّنا نحن الأوَّلين صرنا الآخرين، وكم دينونتنا ستكون كبيرة حين نعرف أنَّ الربَّ جعلنا »خدّامًا »للرعيَّة فأردنا أن نترأَّس ونعوِّض عمّا كنّا في العالم بسلطة روحيَّة فنشبه سيمون الساحر الذي رأى أن ينمّي سلطانه حين ينال الروح القدس (أع 8: 18-21). فجاء جواب بطرس قاسيًا. ويكون كلام بولس محذِّرًا: تذكَّروا، ما كان فيكم كثير من الحكماء بحكمة البشر ولا من الأقوياء ولا من الوجهاء« (1 كو 1: 26). ولا من الأغنياء ولا من الزعماء. وهكذا نصير من العالم (يو 15: 19) »ننتمي إلى العالم« (يو 17: 14) فنقع في حبال الشرّير. ونريد أن نقول مثل الرسول: »اقتدوا بي كما أنا أقتدي بالمسيح« (1 كو 11: 1).
 
قديم 23 - 03 - 2024, 01:54 PM   رقم المشاركة : ( 155166 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,743

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




بولس الرسول أسقف كورنتوس وكاهنها




أنا الذي ولدكم في المسيح

من يهتمُّ بالمؤمنين مثل هذا الاهتمام، من يفتخر بأن يكون خادمهم على مثال المعلِّم الإلهيّ، من يكون على أقدامهم لكي يغسلها، فهو الأب والأمُّ معًا. وهكذا نرى الرسول يقول لأهل كورنتوس: عندكم معلِّمون كثيرون. ولكن لكم أبٌ واحد: »أنا الذي ولدكم في المسيح يسوع بالبشارة التي حملتُها إليكم. فأناشدكم أن تقتدوا بي« (1 كو 4: 15-16). وأيُّ ابن لا يقتدي بأبيه، كما قيل: »الولد سرُّ أبيه«. منذ بولس والناس يدعوننا »أبونا، أبانا«، لأنَّنا وَلدنا الأولاد العديدين في المعموديَّة، وغذَّيناهم بجسد المسيح ودمه، ورافقناهم من بداية حياتهم إلى نهايتها. فبعد حمل البشارة، وتدبير الكنيسة، ها هي وظيفة التقديس التي يقوم بها الأسقف، الكاهن. لا فقط على مستوى الأسرار التي تفعل بذات الفعل، بل على مستوى حياة من القداسة يُقال فيها عن كلِّ واحد منّا، ما قيل عن المسيح: عمل ثمَّ علَّم (أع 1: 1).

الكاهن يلد المؤمنين في جرن المعموديَّة. وهذا السرُّ هو أوَّلاً سرُّ الإيمان. ممّا يعني دعوة الوالدين والعرّابين إلى الإيمان. يذكِّرهم الكاهن بما عرفوه في الماضي وبما يجب أن يعرفوه اليوم. حين كنت في إحدى رعايا باريس، كانوا يعدُّون الوالدين لمعموديَّة أولادهم. اجتماع أو اجتماعان أو أكثر. نحن نعمِّد الطفل لأنَّنا نعتبر أنَّ والديه مؤمنان ومثلهما العرّاب والعرّابة. هنيئًا إن كانت الرعيَّة على هذا المستوى، وإلاَّ وجب على الكاهن أن يستعدَّ ويعدَّ أولاده.

وبما أنَّ الأمر ليس هكذا، لماذا لا نستفيد من ممارسة السرِّ لكي نعلِّم أبناء الرعيَّة وبناتها. أوَّلاً، نمارس السرَّ على مهل، لأنَّ ما نقرأه من نصوص فيه تعليم كبير. ثانيًا، حين نقرأ ما نقرأ من الكتاب المقدَّس، نشرحه، نفسِّره، مع عظة صغيرة. وما نقوم به من حركات وأعمال، يحتاج إلى أن نوضحه. ما معنى الكفر بالشيطان؟ والمسح بالزيت؟ ماذا يعني الماء الذي نصبُّه على رأس الطفل أو الطفلة؟ ونشير هنا وهناك إلى فكرة جميلة مرَّت في الصلوات. مثلاً، الماء هو الحشا الجديد الذي يلد البنين. كان رمز الموت فصار رمز الحياة، بفعل الروح القدس.

أذكر أوَّل مرَّة عمَّدتُ ابنة أختي. سألني الحاضرون: هذه الصلوات من عندك؟ قلت: لا. بل قرأتُها في ممارسة السرّ. قالوا: كم هي جميلة! مرَّات يكون الأهل معجَّلون، يريدون أن تنتهي الحفلة في الكنيسة لأنَّ حفلة أخرى تنتظرهم. ومرَّات يكون الكاهن معجَّلاً، لأنَّ عمادة أخرى تنتظره. أمّا في عيد الغطاس، فحدِّث ولا حرج. تتوالى العمادات في سرعة جنونيَّة. عشر دقائق كافية. لماذا لا يكون العماد جماعيٌّا؟ ويتواصل مع الذبيحة الإلهيَّة. من أطيب الذكريات في رعيَّتي كفرعبيدا، المعموديَّة بعدد من الأطفال. صورة تورد أسماء المعمَّدين كلِّهم. الضيافة لجميع الحاضرين. ويتناول الوالدون والعرّابون. تمتلئ الكنيسة بالمؤمنين، ويفهم الحاضرون ما هي المعموديَّة التي تقبَّلوها منذ سنوات لا يعودون يذكرونها.

حين نعمِّد أحد الأولاد، نقدِّسه بالماء والميرون. هو الله يفعل بأيدينا مهما كانت هذه الأيدي. والقدّيس أوغسطين قال: عمَّد بطرس المسيح عمَّد. عمَّد يهوذا المسيح عمَّد. وولكن أين دور خادم السرّ؟ هل هو دور سحريّ؟ هل تذكَّر أنَّه معمَّد وأنَّه صار منذ ذلك الوقت هيكل الروح القدس. والوالدون والعرّابون؟ هل يعرفون ماذا يعملون حين يحملون الطفل إلى جرن العماد؟ في بدايات الكنيسة كان العرّاب الشابّ يأتي بالمعمَّد الشابّ. ومعًا يستعدَّان للشهادة بإيمانهم. وربَّما بالاستشهاد. ويُحكى عن أوريجان، هذا المفسِّر الكبير للكتب المقدَّسة، أنَّه كان يقبِّل صدر ابنه: هو هيكل للثالوث الأقدس. »إليه نأتي وعنده نصنع منزلا«.

والولادة الثانية التي هي سرُّ التوبة. حين عيِّنت أوَّل مرَّة خادم رعيَّة، طُلب من المطران كاهن »يعرِّف«. لأنَّ الذين يعمِّدون ويزوِّجون ويجنِّزون كثيرون، أمّا من يعرِّف، فلا نجد... ولمّا وصلت إلى الرعيَّة، دققت الجرس الساعة الرابعة. كان ذلك في السابع من تشرين الأوَّل سنة 1963. واعتاد الناس على الاعتراف في الرعيَّة بعد أن كانوا يمضون إلى الدير القريب. أمّا في الأعياد الكبرى فكان الاعتراف يبدأ في الثانية بعد الظهر وينتهي في الثانية بعد منتصف الليل.

في رعايا كثيرة، لا كرسيّ اعتراف. وإذا وُجد كرسيّ، لا أقول ماذا نجد فيه. تلك كانت خبرتي حين أعظ الرياضات في لبنان وأبعد من لبنان. لماذا الاعتراف؟ الناس لا يعترفون. قلت: ولماذا يذهبون إلى بعض المعابد والأديرة؟ ولماذا يروحون إلى رعيَّة مجاورة؟ لا جواب.

علَّمونا حين كنّا في الجامعة أنَّ الكاهن في كرسيّ الاعتراف هو القاضي والطبيب والغافر. هو يدين؟ أمّا الربُّ فقال لنا: لا تدينوا لئلاّ تدانوا. هو الطبيب؟ ويمكن أن يقال لنا: أيُّها الطبيب طبِّبْ نفسك. وهو الغافر؟ في الأصل يقال: يحلُّك الله. الله وحده يغفر الخطايا. ونتذكَّر يسوع في شفاء المخلَّع. قال: »مغفورة لك خطاياك« (مر 2: 5). والكلام عينه قاله للخاطئة. ولمّا أتوا بالزانية إلى يسوع وأرادوا أن يحكموا عليها بالرجم، قال لهم يسوع: من منكم بلا خطيئة؟ فمضوا كلُّهم. حينئذٍ قال لها يسوع: »أما حكمَ عليك أحدٌ منهم؟« فأجابت: »لا، يا سيِّدي«. فقال لها يسوع: »ولا أنا أحكم عليك. اذهبي ولا تخطئي بعد الآن« (يو 8: 10-11).

الكاهن في كرسيّ الاعتراف هو أب وأمّ. يأخذ الآتين إليه بالوداعة، ويعرف أنَّه أوَّل خاطئ. ذاك ما قال الرسول عن نفسه: »جاء المسيح إلى العالم ليخلِّص الخاطئين، وأنا أوَّلهم« (1 تم 1: 15). وسُئل مرَّة فرنسيس الأسّيزيّ عن نفسه. قال: أنا أكبر الخطأة، ولولا نعمة الله لكنت أوَّل الهالكين. وقال القدّيس أوغسطين: ما من خطيئة إلاَّ وأستطيع أن أقع فيها لولا نعمة الله. ولا »نستلشق« بأحد ولاسيَّما بالصغار. كان الخوري مارون مطر يقول: الولد بيحرز. لا نعرِّفه بسرعة. بل نربِّيه شيئًا فشيئًا. والذين يعترفون بتواتر، لا نقبل أن يكرِّروا كلَّ مرَّة ما يقولون. نحرِّك ضميرهم ونفهمهم معنى هذا السرّ. فالله يريد أن يربّي المؤمنين في سرِّ التوبة، وهو يطلب من كهنته أن يساعدوه.

قال بولس عن نفسه إنَّه لم يعمِّد الكثيرين. »فالربُّ أرسلني لا لأعمِّد، بل لأعلن الإنجيل« (1 كو 1: 17). لماذا قال الذي قاله؟ لأنَّ المؤمنين كانوا يتعلَّقون بمن عمَّدهم، على مثال تلاميذ الفلاسفة، فبولس لا يريد المؤمنين له، بل للمسيح. لهذا قال لهم: »لا يقدر أحد أن يقول إنَّكم باسمي تعمَّدتم« (آ15).

وقال للذين أرادوا أن يتعلَّقوا به: »هل بولس هو الذي صُلب من أجلكم؟ أو باسم بولس تعمَّدتم؟« (آ13). فالكنيسة ليس كنيسة هذا الأسقف أو هذا الكاهن. الكنيسة هي كنيسة المسيح. والذي أراد أن يعمِّد الكثيرين لكي يتبعه الكثيرون، أسَّس كنيسته الخاصَّة، لا كنيسة المسيح. لهذا كثر الذين ضلُّوا وأضلّوا الكثيرين، مثل ماني مثلاً الذي أسَّس كنيسة في مواجهة »الكنيسة الكبيرة«. أمّا نحن فنريد أن نعمِّد الكثيرين لأنَّ في مثل هذا العمل فائدة. وإذا كثر الأولاد، نعرف من نختار.

وفي ما يتعلَّق بالتوبة، نتذكَّر كيف حكم بولس على ذلك الرجل »الذي يعاشر زوجة أبيه« (1 كو 5: 1). كما حذّر من الذهاب إلى المحاكم. ونبَّه من الزنى (1 كو 6: 18) الذي كان منتشرًا في كورنتوس. وقال: »أما تعرفون أنَّ الظالمين لا يرثون ملكوت الله.؟ لا تخدعوا أنفسكم، فلا الزناة... ولا السارقون (الأشخاص) ولا الفجّار ولا السكّيرون ولا الشتّامون ولا السالبون (الأموال) يرثون ملكوت الله. كان بعضكم على هذه الحال، ولكنَّكم اغتسلتم، بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الربِّ يسوع المسيح وبروح إلهنا« (آ9-11).

وننهي كلامنا على مستوى التقديس في سرِّ الإفخارستيّا. لن نطيل الكلام هنا، بل نتذكَّر أنَّ الكاهن يوزِّع خبز الكلمة، كما يوزِّع خبز القربان. والمجمع الفاتيكانيّ الثاني أعلن أنَّ مائدة الخبز مهمَّة مثل مائدة القربان. أي غذاء يعطي »الأبونا« لرعيَّته؟ هل يمجّون من طعام هو هو، لا يعطي أيَّ غذاء لحياة المؤمنين. عندئذٍ لا نتساءل: لماذا يخفُّ عدد المؤمنين الذين يشاركون في الاجتماع الأسبوعيّ. سبقتنا كنائس الغرب فرأت الكنائس فارغة ثمَّ مقفلة. فهل نتعلَّم نحن؟ نحن مثل »تجّار« جعل الربُّ في يدنا »الوزنات«. هل نعرف أن نقدِّم للمؤمنين الآتين إلينا غنى المسيح الذي لا يُستقْصى (أف 3: 8)؟ أم نخفي »الوزنة« في الأرض فنستحقُّ توبيخ الربِّ حين يأتي ويطالب بالحساب: »يا لك من خادم شرّير كسلان!« (مت 25: 26). وإن عرفنا أن نتاجر، نلنا جزاء الخدّام الأمناء.

الخاتمة

وهكذا رافقنا بولس الرسول وتعرَّفنا إليه أسقفًا وكاهنًا في كنيسة كورنتوس. هو أوَّلاً حامل الإنجيل، هو يبشِّر، ويعظ في وقته وفي غير وقته. وهو ذاك المهتمّ بكلِّ واحد من أبناء رعيَّته. حدَّثنا مرَّة عن »اهتمامه بجميع الكنائس«. قال: »فمن يضعف ولا أضعف أنا؟ ومن يقع في الخطيئة (أو: يترك الكنيسة) ولا أحترق من الحزن عليه؟« (2 كو 11: 29). وأخيرًا هو الأب الذي أُعطِيَ سلطة التقديس، وهو يوجِّه المؤمنين والمؤمنات إلى القداسة التي بدونها لا يرى أحد وجه ربِّنا. ذاك هو وجه بولس الكهنوتيّ الذي لا يعرف الكلل ولا التعب، الذي ما خاف الشدائد والمشقّات والضرب والسجن، الذي تصرَّف بالنزاهة وطول البال والرفق وروح القداسة والمحبَّة الخالصة، بالكلام الصادق وقدرة الله، وسلاح الحقّ في الهجوم وفي الدفاع (2 كو 6: 4-7). ذاك يكون برنامجنا إن أردنا أن نكون كهنة بحسب قلب الله.
 
قديم 23 - 03 - 2024, 01:56 PM   رقم المشاركة : ( 155167 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,743

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة



بولس الرسول




أنتم رسالتنا المكتوبة في قلوبنا

ذاك ما كتب بولس الرسول إلى أهل كورنتوس سنة 56-57، من مكدونية. »أنتم رسالتنا المكتوبة في قلوبنا« (2 كو 3: 1). مضت بضعة أشهر على الرسالة الأولى إلى كورنتوس وفيها الحلول على الفوضى المسيطرة في الجماعة، والردود على أسئلة طُرحت على الرسول المقيم في أفسس. وها هي الرسالة الثانية التي بدت أكثر من رسالة، فحدَّثنا عن الخدمة الرسوليَّة في قلب التدبير المسيحيّ، عن المحن التي عاناها الرسول والآمال التي وضعها أمامه. هو سفير المسيح وهذا يكفيه، وفي النهاية يسير في موكبه موكب النصر (2 كو 2: 14) الذي به غلب العالم.

قيل عن الرسالة الثانية إلى كورنتوس إنَّها كُتبت على مراحل. وقيل هي ثلاث رسائل إن لم تكن أربعة جُمعت في رسالة واحدة بيد تلاميذ الرسول ولاسيَّما حين تكوَّنت المجموعة البولسيَّة التي تحدَّثت عنها رسالة بطرس الثانية فقالت فيها: »وردت فيها أمور غامضة يحرِّفها الجهّال وضعفاء النفوس، كما يفعلون في سائر الكتب المقدَّسة، لهلاك نفوسهم« (2 بط 3: 16).

وقيل عن هذه الرسالة إنَّها تكشف شخصيَّة بولس ونفسيَّته وتعطينا التفاصيل عن حياته اليوميَّة والرسوليَّة، بل الصوفيَّة فيقول لنا: »أعرف رجلاً مؤمنًا بالمسيح خُطف قبل أربع عشرة سنة إلى السماء الثالثة. أبجسده؟ لا أعلم. أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله يعلم وإنَّما أعلم أنَّه خُطف إلى الفردوس: أبجسده أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله يعلم. أنَّما أعلم أنَّه خُطف إلى الفردوس وهناك سمع كلامًا لا يقدر بشرٌ أن ينطق به ولا يجوز له أن يذكره« (2 كو 12: 2-4).

كلامنا يروح في ثلاث محطّات متَّصلة: دفاع بولس عن نفسه، دفاعه عن رسالته، انطلاقاته من الكنيسة المحلّيَّة إلى الكنيسة الجامعة انطلاقة تصل بنا إلى ما قيل في الرسالة إلى أفسس: »المسيح هو رأس الكنيسة (أف 5: 23)، وقد أحبَّها »وضحّى بنفسه من أجلها« (آ25).

1- دفاع بولس عن نفسه

ما إن ترك بولس كورنتوس حتّى جاء الخصوم إلى هذه الكنيسة التي أحبَّها واعتبر أنَّه الأب لها، بحيث يختلف عن الذين يأتون إليها: مثل »زائرين« أتوا ليزرعوا الفتنة ويطلبوا منفعتهم لا منفعة الجماعة، مثل »فلاسفة متجوِّلين« يطلبون المال حيث حلُّوا ويتَّهمون بولس بأنَّه متكبِّر لأنَّه يرفض كلَّ إعانة مادِّيَّة من كورنتوس. وهاجموا الرسول أيضًا لأنَّه »ضعيف وكلامه سخيف« (2 كو 10: 10). ثمَّ هو ما رأى الربَّ مثل سائر الرسل ولا اختبر قيامته مع الذين اختبروها، لهذا يُعدُّ رسولاً من الدرجة الثانية. إذا كان المسيح ما أرسله كما أرسل الآخرين 'الذين أعطاهم سلطانًا يطردون به الأرواح النجسة، ويشفون الناس من كلِّ داء ومرض« (مت 10: 1). بل هو عارض مشروع الرسالة الذي أطلقه الربُّ واعتبر أنَّ خبز البنين لا يُعطى للكلاب (مت 15: 27). فالربُّ قال لرسله: »لا تقصدوا أرضًا وثنيَّة، ولا تدخلوا مدينة سامريَّة بل اذهبوا بالأحرى إلى الخراف الضالَّة من بيت إسرائيل« (مت 10: 5-6). أمّا هذا الذي دعا نفسه »الرسول إلى الأمم« فيقول لليهود: »كان يجب أن نبشِّركم أنتم أوَّلاً بكلمة الله، ولكنَّكم رفضتموها، فحكمتم أنَّكم لا تستأهلون الحياة الأبديَّة، ولذلك نتوجَّه الآن إلى غير اليهود (أي: الأمم الوثنيَّة) فالربُّ أوصانا قال: »جعلتك نورًا للأمم لتحمل الخلاص إلى أقاصي الأرض« (أع 13: 46-47). وفي كورنتوس عينها حاول اليهود أن يقفوا في وجه الرسول، فعارضوه وشتموه. حينئذٍ »نفض ثوبه وقال لهم: »دمكم على رؤوسكم. أنا بريء منكم. سأذهب بعد اليوم إلى غيركم من الشعوب« (أع 18: 6). ثمَّ اشتكوا إلى غاليون، قنصل كورنتوس، فردَّهم خائبين فما استطاعوا سوى أن يصبُّوا غضبهم على رئيس المجمع سوستانيس. أمّا غاليون فما اهتمَّ لما يفعلون (آ17).

هؤلاء هم الخصوم الأوَّلون، وهجومهم عليه هجوم شخصيّ. ورافقهم من ندعوهم »اليهومسيحيّين«، أي أولئك المسيحيّون الذين أتوا من العالم اليهوديّ لا من العالم الأمميّ، أو الوثنيّ. ومن المؤسف أن يكون هناك مسيحيّون انجرُّوا في هذا التيّار ليعارضوا الرسول، ناسين أنَّهم إن »دمَّروا« الرسول دمَّروا الرسالة في الوقت عينه. قال عنهم بولس في الرسالة إلى فيلبّي: »عاقبتُهم الهلاك، وإلههم بطنهم (يهتمُّون بالأطعمة، فلا يأكلون ما هو نجس، رو 14: 1ي)، ومجدُهم (أي الختان. به يفتخرون) عارهم وهمُّهم أمور الدنيا« (فل 3: 19).

من أين جاء هذا الرسول؟ لا من قبل يسوع، ولا من قبل بطرس، وخصوصًا لا من قبل يعقوب أخي الربّ. أمّا برنابا فنفهم أنَّ كنيسة أورشليم أرسلته في مهمَّة خاصَّة إلى أنطاكية (أع 11: 22). ولكنَّ بولس يعلن بالفم الملآن: »ما استشرتُ بشرًا، ولا صعدتُ إلى أورشليم لأرى الذين كانوا رسلاً قبلي، بل ذهبتُ على الفور إلى بلاد العرب (حيث قضى ثلاث سنوات يتعرَّف إلى يسوع داخل الجماعات المسيحيَّة في حوران وفي شرقيِّ الأردنّ) ومنها عدتُ إلى دمشق« (غل 1: 16-17).

* * *

ماذا كان ردُّ بولس على هؤلاء الخصوم الآتين من العالم اليهوديّ، والمحاولين أن يدمِّروا الرسالة إلى كورنتوس، كما حاولوا أن يفعلوا في جماعات غلاطية حيث سُحرت عقولُهم ونسوا صورة المصلوب المرسومة أمامهم (غل 3: 1)؟

قالوا: هو متكبِّر فيرفض أيَّة مساعدة مادِّيَّة. تلك هي حرِّيَّة الإنجيل التي نادى بها بولس في كلِّ مكان مضى إليه لا على مستوى 'الفقرب فقط، بل على مستوى الحياة الزوجيَّة أيضًا. قال: »أما لنا حقٌّ مثل سائر الرسل وإخوة الربّ وبطرس أن نستصحب زوجة مؤمنة؟« (1 كو 9: 5). تحرَّر الرسول من واجبات الحياة الزوجيَّة، لكي »يهتمَّ بأمور الربِّ وكيف يرضي الربّ« (1 كو 7: 32). وتحرَّر من الأمور المادِّيَّة من طعام وشراب ومال، مع أنَّ له حقٌّا في ذلك. قال إلى جماعة كورنتوس: »أما لنا حقٌّ أن نأكل ونشرب؟ (1 كو 9: 3). وواصل كلامه: »أم أنا وبرنابا وحدنا لا يحقُّ لنا إلاَّ أن نعمل لتحصيل رزقنا؟ من هو الذي يحارب والنفقة عليه؟ من هو الذي يغرس كرمًا ولا يأكل من كرمه؟ من هو الذي يرعى قطيعًا ولا يأكل من لبنه؟« (آ6-7). وقدَّم الرسول شرحًا لعبارة وردت في سفر التثنية (25: 4 حول الثور الذي على البيدر) وأنهى كلامه. »من يخدم الهيكل يقتات من تقدمات الهيكل، ومن يخدم المذبح يأخذ نصيبه من الذبائح. وهكذا أمر الربُّ للذين يعلنون البشارة أن ينالوا رزقهم من البشارة« (آ13-14).

ورأى بولس أنَّ كلامه »بشريّ« (آ8). فبدا وكأنَّه يطالب بحقِّه، لأنَّ »غيرنا يأخذ« (آ12). هذا يعني أنَّ لنا حقٌّا. ويواصل الرسول: »ولكنَّنا ما استعملنا هذا الحقّ، بل احتملنا كلَّ شيء لئلاَّ نضع عقبة في طريق البشارة« (آ12).

كتب الرسول فظنُّوا أنَّه يطالب. فقال: »أنا لا أكتب هذا الآن لأطالب بشيء منها، فأنا أفضِّل أن أموت على أن يحرمني أحدٌ من هذا الفخر« (آ15). إذًا، بما أنَّه يأخذ مساعدة من غيرهم (2 كو 11: 7) ويحمل إليهم الإنجيل مجّانًا، فهذا يعني أنَّه لا يحبُّهم. وجاء جواب الرسول مليئًا بالعاطفة: »ألأنّي لا أحبُّكم، الله يعلم كم أنا أحبُّكم« (آ11). وهو سوف يقول لهم: أنا أريدكم أنتم، ولا أريد مالكم. ثمَّ إنَّ على الآباء أن يذخّروا الذخائر لأبنائهم، لا الأبناء لآبائهم.

* * *

وهاجموا بولس وهو الضعيف؟ فإلى ماذا يستند وهو الذي لم يعرف الربَّ مثلَ بطرس ويعقوب ويوحنّا الذين يُعتبرون العمد في الكنيسة؟ أوَّلاً، إن كان الربُّ ظهر للرسل، لبطرس، ليعقوب ولعدد كبير من الناس بعد قيامته. فهو أيضًا ظهر لبولس: »ظهر لي آخرًا، أنا أيضًا كأنّي سقط« (1 كو 15: 7: وُلد بشكل غير طبيعيّ فجاء هزيلاً، ضعيفًا). وقال في تواضعه: »فما أنا إلاَّ أصغر الرسل، ولا أحسب نفسي أهلاً لأن يدعوني أحدٌ رسولاً لأنّي اضطهدتُ كنيسة الله. وبنعمة الله أنا ما أنا عليه الآن، ونعمتُه عليَّ لم تكن باطلة، بل إنّي جاهدتُ أكثر من سائر الرسل كلِّهم« (آ9).

أمّا العلامات على أنّي رسول، فهي »المعجزات والعجائب والأعمال الخارقة« (2 كو 12: 12). وإذا عاملتُكم باللطف، فهل هذا يعني ضعفًا؟ كلاّ. بل سبق وقال في الرسالة الأولى: »أيُّها تفضِّلون؟ أن أجيء إليكم بالعصا أم بالمحبَّة وروح الوداعة؟« (1 كو 4: 21). وعاد في الرسالة الثانية: »فيقول أحدكم: ''رسائل بولس قاسية، عنيفة ولكنَّه متّى حضر بنفسه، كان شخصًا ضعيفًا وكلامه سخيفًا''. فليعلم هذا القائل أنَّ ما نكتبه في رسائلنا ونخن غائبون نفعله ونحن حاضرون« (2 كو 10: 10-11). ويتهكَّم الرسول بعض الشيء على الذين »يعظِّمون قدرهم« (آ12). يفتخرون بما عملوا، أو بما عمله الآخرون فينسبونه إلى نفوسهم. الافتخار يكون بالربّ »لأنَّ من يمدحه الربّ هو المقبول عنده، لا من يمدح نفسه« (آ16). واستعدَّ الرسول للمجيء إلى كورنتوس مرَّة ثالثة: »إن عدتُ إليكم فلا أشفق على أحد، ما دُمتم تطلبون برهانًا على أنَّ المسيح ينطق بلساني، والمسيح غير ضعيف...« (2 كو 13: 2-3).

* * *

وبماذا يفتخر هؤلاء الرسل الكذّابون، وهم يبشِّرون المؤمنين »بيسوع آخر غير الذي بشَّرناكم به؟« (2 كو 11: 4). هم يفتخرون بأمور بشريَّة. أجاب الرسل واعتبر أنَّه »جاهل« إن هو افتخر بهذه الأمور، فقال: »فالذي يباهون به، وكلامي كلام جاهل، أباهي به أيضًا. إن كانوا عبرانيّين فأنا عبرانيّ، أو إسرائيليّين فأنا إسرائيليّ، أو من ذرِّيَّة إبراهيم فأنا من ذرِّيَّة إبراهيم« (2 كو 11: 21-22). إذًا بماذا هم أفضل من رسولكم، أيُّها الكورنثيّون؟ »لأنَّهم يعاملونكم بقساوة«. نعم، »تحتملون كلَّ من يستعبدكم وينهبكم ويسلبكم ويتكبَّر عليكم ويلطمكم« (آ20). فيا للخجل! يا لخجلي ويا لخجلكم! وتقابلونهم بعد ذلك برسولكم بعد أن حسبتموهم »خدَّام المسيح«!

هنا أطلق بولس العنان لما قاساه من أجل الرسالة: »أنا أفوقهم في الجهاد، في السجون، في الضرب... بالجوع والعطش والبرد«. وهكذا بعد أن عرَّفنا الرسول أصله البشريّ، رسم أمامنا لوحة عمّا كابده في عمله الرسوليّ، وقد ذُكر بعضه في أعمال الرسل. وأنهى كلامه ففتح قلبه الرسوليّ: »وهذا كلُّه إلى جانب ما أعانيه كلَّ يوم من اهتمام بجميع الكنائس. فمن يضعف وأنا لا أضعف معه؟ ومن يقع في الخطيئة وأنا لا أحترق من الحزن عليه؟« (آ28-29).

2- دفاع بولس عن الرسالة

في دفاع بولس عن نفسه كان خصومه »يهودًا« انتحلوا الرسالة وراحوا يهدمون ما فعله الرسول، بحيث يصبح يسوع يهوديٌّا بين اليهود تعرَّفوا إليه أو لم يتعرَّفوا. أمّا الآن فخصوم بولس هم الغنوصيّون قبل الغنوصيَّة الرسميَّة. وماذا تقول الغنوصيَّة؟ لا حاجة إلى التقليد الرسوليّ. فالإنسان يخلص »بالمعرفة الباطنيَّة« التي يدعونها »الغنوصة« من اليونانيَّة gnwsi". لا حاجة إلى العمل بوصايا الله ولا بممارسة حياة خلقيَّة. يكفي أن »نعرف« وبعد ذلك نعمل ما نشاء. والمثل على ذلك هو ذاك الخاطئ »بزنى لا مثيل له حتّى عند الوثنيّين« (1 كو 5: 1). عنه قال الرسول كما قال عن أمثاله: »أخاف، إذا جئتكم مرَّة أخرى، أن يذلَّني إلهي في أمركم، فأبكي على كثيرين من الذين خطئوا من قبل وما ندموا على ما اقترفوه من دعارة وزنى وفجور« (2 كو 12: 21).

كيف بدا هؤلاء »الغنوصيّون« في هذه الرسالة؟ هم يعظون عن الله بل عن أنفسهم، وكأنَّهم صاروا مكان الله: انظروا إلينا. اقتدوا بنا. أمّا بولس فإن قال اقتدوا بي فلأنَّه واصل حالاً: »كما أقتدي أنا بالمسيح« (1 كو 11: 1). وإن قال بولس: »صرنا مشهدًا للعالم، للملائكة وللناس« (1 كو 4: 9)، فهو ما جعل نفسه مثل الكتبة والفرّيسيّين في »مقاعد الشرف... مع المتصدِّرين في المجامع« (مت 23: 6). بل بجانب الصليب. قال: »أرى أنَّ الله جعلنا نحن الرسل أدنى الناس منزلة كالمحكوم عليهم علانية« (1 كو 4: 9).

قال الرسول عن هؤلاء الخصوم: »فإذا كانت بشارتنا محجوبة، فهي محجوبة عن الهالكين، من غير المؤمنين الذين أعمى إله هذا العالم بصائرهم حتّى لا يشاهدوا النور الذي يضيء لهم، نور البشارة بمجد المسيح الذي هو صورة الله« (2 كو 3: 4). البشارة محجوبة لأنَّ هؤلاء أغمضوا عيونهم لئلاّ يروها. هم يعتبرون أنَّهم يعرفون كلَّ شيء، أنَّهم يملكون كلَّ شيء. وبالتالي هم لا يحتاجون شيئًا من هؤلاء الرسل »الشفعاء«. هم عميان بفعل إبليس »إله هذا العالم«. وحيث يقيم إبليس يكون موضعًا تُشرف عليه الخطيئة والانفصال عن الله. أمّا إبليس فيجعل المؤمنين في هذا العالم ويسدُّ الطريق عليهم فلا يعودون يرون العالم الآتي. قبلوا به سيِّدًا على هذا العالم ونسوا أنَّ »سيِّد هذا العالم يُطرَد اليوم« (يو 12: 31)، فلا يعود له من سلطان على الأرض بعد صليب المسيح.

هؤلاء لهم معرفتهم الخاصَّة وحكمتهم. ولكنَّها حكمة رفضها الرسول. قال: »ولكن هناك حكمة نتكلَّم عليها بين الناضجين في الروح. وهي غير حكمة هذا العالم ولا رؤساء هذا العالم، وسلطانهم إلى زوال، بل هي حكمة الله السرِّيَّة« (1 كو 2: 6-7). حكمة الله ما عرفها »رؤساء هذا العالم، ولو عرفوها لما صلبوا ربَّ المجد«. فكيف يتبع الكورنثيّون مثل هؤلاء المعلِّمين؟ إلى أين يصلون بهم؟ إلى خسارة نفوسهم.

والمعرفة »حاضرة« عند هؤلاء الحاسبين نفوسهم »أسياد هذا العالم« فيكلِّمون المؤمنين العاديّين من عليائهم. هم يشبهون عددًا من الشيع في أيّامنا، أو بعض الكنائس المسيحيَّة التي تحسب أنَّها بالمال تجتذب الناس إلى الله وتحسب نفسها وحدها »جماعة المؤمنين«. هؤلاء دعاهم بولس »غير ناضجين في الروح« و»أطفالاً بعد في المسيح« (2 كو 4: 5). الفرق شاسع بين الرسول وهؤلاء »الرسل« الذين حسبوا نفوسهم »رسلاً فوق العادة« لأنَّهم يستعبدون المؤمنين، يغسلون منهم الرؤوس ويجعلونهم يعيشون في الخوف فيتعلَّقون بهم كما الولد بثوب أمِّه. معرفتهم محصورة في هذا العالم، أمّا البشارة الحقَّة فهي نور يجعل معرفة الله تشرق في قلوبنا (آ6).

* * *

بماذا هاجم هؤلاء الخصوم بولس؟ إنَّه غيَّر خطَّة سفره. »أمرُّ بكم في طريقي إلى مكدونية، ثمَّ أرجع من مكدونية إليكم، فتسهِّلوا لي أمور السفر إلى اليهوديَّة« (2 كو 1: 16). بدَّل الرسول طريقه فاعتُبر عملُه »خفَّة ظهرت عليه« (آ17). بل حسبوه »كاذبًا« لا سمح الله. تارة يقول نعم وطورًا لا. فأجابهم بولس: »يشهد الله أنَّ كلامنا لكم ما كان بنعم ولا، لأنَّ يسوع المسيح ابن الله الذي بشَّرنا به بينكم، أنا وسلوانس وتيموتاوس، ما كان نعم ولا، بل نعم كلُّه« (آ19).

كان هذا اتِّهامًا بسيطًا وغيمة عابرة، فبدَّدها الرسول بالنسبة إلى مجمل الكنيسة، لا بالنسبة إلى الخصوم. اعتبروا أنَّه امتنع عن المجيء إليهم، ربَّما احتقارًا، أو لأنَّه يفضِّل كنيسة مكدونية (عاصمتها تسالونيكي) على أخائية (عاصمتها كورنتوس). لا هو هذا ولا هو ذاك. بل مراعاة للمؤمنين. كيف يأتي الرسول إلى كورنتوس وقلبه يعمر بالحزن، لا بالفرح؟ ومن أين جاء هذا الحزن؟ ولماذا هذه الرسالة التي كتبها في الدموع والتي بدت أنَّها ما وصلت إلينا؟ (2: 4).

أرسل بولس من قِبَله شخصًا لكي يُعيد السلام إلى الكنيسة بعد أن كادت تنقسم بين »كمّال« هم الغنوصيّون، وبين »بسطاء« وهم المؤمنون العاديّون. فاستُقبل هذا الشخص برفضٍ تامّ، وسيطرت فئة على فئة، وانقاد الضعفاء في خطِّ الأقوياء، فملأ الحزنُ قلب الرسول. فاستعدَّ للذهاب إلى كورنتوس لكي يضع الأمور في نصابها. فطُلب منه أن يمتنع. ومضى مكانه تيطس، ذاك المفاوض الماهر، الذي أعاد السلام إلى الجماعة: حزنَتْ، طلبَتْ من هذا الشخص أن يعتذر بشكل علنيّ، ففعل، فصفحَتْ عنه الجماعة.

قابلنا هذا السفيه مع الزاني في الرسالة الأولى إلى كورنتوس (5: ي). عن الزاني قال بولس: »سلِّموا هذا الرجل إلى الشيطان، حتّى يهلك جسده، فتخلص روحه في يوم الربّ« (1 كو 5: 5). في الواقع، حين خطئ انتقل من »مخيَّم« الله إلى مخيَّم« الشيطان. هو أخرج نفسه من الجماعة، روحيٌّا لا جسديٌّا، مثل يهوذا في العشاء السرّيّ. كلُّهم يتطلَّعون إلى سيِّدهم »الحزين«، وهو يفكِّر أين يجتمع مع رؤساء الكهنة. وكذلك هذا الزاني: ترك الجماعة في قلبه فما عاد يستفيد من رسائل الدفاع التي في يده. صار مثل الغصن اليابس الذي يجب أن يُجمَع مع سائر الأغصان ويُحرَق في النار (يو 15: 6). صار مثل »تينة مضرَّة« تعطِّل الأرض. ربَّما إذا خرج، عاد إلى نفسه وتاب، أقلَّه في يوم ربِّنا، في يوم الدينونة.

أمّا هنا فما أراد الرسول لهذا السفيه أن ييأس ويستسلم للشيطان. قال له الرسول بقلبه الكبير: »من صفحتُم عنه صفحتُ عنه أنا أيضًا« (2 كو 2: 10).

* * *

تلك بعض سمات الرسول كما تظهر في الرسالة الثانية إلى كورنتوس: هو الخادم وهو يخدم في المحبَّة واللطف والوداعة. هو الأب ويستعدُّ ان يغفر لأبنائه بسرعة ولا يترك في قلبه حقدًا. هو الذي يهتمُّ أوَّل ما يهتمُّ بأمر البشارة، ولا بأمرِ نفسه وكأنّ النجاح الخارجيّ هو الهدف الذي يصبو إليه. هو يتطلَّع إلى المسيح ولا يتطلَّع إلاَّ فيه، ومنه يأخذ كلَّ معرفة كما تعلَّمها في الجماعات المسيحيَّة، في بلاد العرب، فسلَّم إلى كنيسة كورنتوس ما تسلَّم هو (1 كو 11: 23؛ 15: 3). ولكنَّنا نتوقَّف أيضًا عند ثلاث سمات تعطينا صورة عن الرسول.

الأولى، الضعف في القوَّة. ما اعتدَّ بولس يومًا بنفسه. عرف ضعفه وافتخر بأوهانه. والصورة التي أعطانا: »آنية من خزف« (2 كو 4: 7). هي سريعة العطب تنكسر بسهولة حين ترتطم بأيِّ حاجز. فكيف نقدر أن نحتفظ بهذا »الكنز« الذي أعطيناه؟ مستحيل. وحدنا لا نقدر. ولكن مع ذلك، حافظنا على هذا الكنز ونحافظ. وكيف ذلك؟ »بتلك القدرة الفائقة التي هي من الله لا منّا« (آ7). الضيق، الاضطهاد، الحصار... لا شيء يقدر علينا. ولماذا الرسول لا يتراجع؟ »لا لأنَّنا ننظر إلى ما يُرى بل إلى ما لا يُرى. فما يُرى هو إلى حين، أمّا ما لا يُرى فهو إلى الأبد« (آ19).

والسمة الثانية هي صفة الرسول. في الرسالة الأولى عرفنا أنَّه »وكيل«. قال: »فليعتبرنا الناس خدَّامًا للمسيح ووكلاء أسرار الله، وكلُّ ما يُطلَب من الوكلاء أن يكون كلُّ واحد منهم أمينًا. وأنا لا يهمُّني كثيرًا أن تدينوني أنتم أو أيُّ محكمة بشريَّة، بل أنا لا أدين نفسي... ديّاني هو الربّ« (1 كو 4: 1-4). الأمانة، لمن؟ لنفسي؟ فكم مرَّة أغشُّ نفسي. للآخرين؟ كلُّ إنسان كاذب كما قالت الرسالة إلى رومة مردِّدة كلام المزمور. وفي أيِّ حال، إن أردت أن أرضي الناس لن أكون عبدًا ليسوع المسيح. فالأمانة تكون لله، لأنَّه هو وحده الثابت، والناس متقلِّبون.

أمّا هنا في الرسالة الثانية إلى كورنتوس، فنعرف أنَّ بولس هو »السفير«. قال في معرض كلامه عن معرفة يسوع معرفة بشريَّة (2 كو 5: 16): »فنحن سفراء المسيح، وكأنَّ الله يعظ بألسنتنا« (آ20). فالسفير أساسًا يرتبط بالسفر. ومن سافر كما سافر بولس الرسول؟ والسفير يمثِّل البلد ويحمل التعليمات التي تُعطى له. وكذا بولس يفعل منذ اللقاء على طريق دمشق والانقلاب الذي حصل في حياته. وما هي التعليمة الأساسيَّة التي يحملها الرسول؟ تصالحوا مع الله. قال: »الله صالح العالم مع نفسه في المسيح، وما حاسبهم على زلاّتهم، وعهد إلينا أن نعلن هذه المصالحة« (آ19).

والسمة الثالثة، الانتقال من القديم إلى الجديد، من الظاهر إلى الباطن، من خيمة أرضيَّة مصنوعة بالأيدي، إلى بناء سماويّ غير مصنوع بالأيدي. لا يبقى الرسول على مستوى القديم، ولا ينظر إلى الوراء »حين يضع يده على المحراث«. وتحدَّثَ بولس عن نفسه حين خدم »العهد القديم« أي التوراة والأنبياء والمزامير. هي وصلت إلى يسوع المسيح فوجدت فيه كمالها وغايتها. أمّا الآن فانتقل إلى العهد الجديد. قال: »هذه ثقة لنا بالمسيح عند الله، لا لأنَّنا قادرون أن ندَّعي شيئًا لأنفسنا، فقدرتنا من الله. فهو الذي جعلنا قادرين على خدمة العهد الجديد، عهد الروح لا عهد الحرف. لأنَّ الحرف يميت والروح يحيي« (2 كو 3: 4-6). فماذا نرجو من رسول، من مؤمن، يتعلَّق بالحرف ويبقى عنده؟ أمّا الرسالة التي كتبها بولس في جماعة كورنتوس فلا تشبه ما كتب »الخصوم« من رسائل. قال: »أنتم أنفسكم رسالتنا، مكتوبة في قلوبنا، يعرفها ويقرأها جميع الناس. نعم، نبيِّن أنَّكم رسالة المسيح جاءت على يدنا، وما كتبناها بحبر، بل بروح الله الحيّ، لا في ألواح من حجر، بل في ألواح من لحم ودم، أي في قلوبكم« (آ1-3). كلُّ العهد القديم جاء في هذا الكلام منذ موسى ولوحي الوصايا إلى إرميا والعهد الجديد مع كتابة الشريعة في القلوب (إر 31: 31-33).

وهناك انتقال من الظاهر إلى الباطن. فالإنسان الظاهر يبلى، يفنى. أمّا الإنسان الباطن فباقٍ إلى الأبد. هنا كانت الصورة عن »الخيمة«. فهي ليست ثابتة. تتهدَّم. أمّا البناء المصنوع بيد الله، فيبقى هو هو. في الموت نتعرَّى. ولكنَّنا حالاً نلبس جسدنا السماويّ. هنا يقول الرسول: »نحن نفضِّل أن نقترب من هذا الجسد لنقيم مع الربّ« (2 كو 5: 9).

3 - من الكنائس إلى الكنيسة الجامعة

أسَّس بولس عددًا من الكنائس. وكلُّ كنيسة أرادت أن تحتفظ به وكأنَّه مُلك لها. وكنيسة كورنتوس بشكل خاصّ أرادته أن يأتي إليها ولا يفضِّل عليها كنيسة. فعدد المؤمنين فيها كبير بحيث توزَّعوا على »بيوت« عديدة وجاؤوا في أحزاب. ثمَّ كانت قسمة أخرى، كما هي اليوم في بعض كنائس أفريقيا، حيث يؤمَّن قدَّاس لفئة من الفئات لا تقدر أو لا يحقُّ لها أن تكون مع أبناء الكنيسة. كلُّ هذا تخطّاه الرسول: فالكنيسة واحدة. هو لا يخاف أن يأخذ ممّا أرسلته كنيسة مكدونية لكي يسند كنيسة أخائية. فلا حاجز يقف في وجه الرسول، الذي يتنقَّل بين الجماعات التي أسَّس بحسب حاجات كلٍّ منها. وإذا كان شدَّد على الوحدة في الكنائس مع تعدُّد المواهب، فهو يدعو إلى الوحدة بين الكنائس بحيث تسند القويَّة الضعيفة، كما يسند الأقوياء الضعفاء في الجماعة.

فكما المؤمنون أعضاء في الجسد الواحد، كذلك الكنائس أعضاء في جسدٍ، رأسه هو المسيح. فلا يحقُّ لكنيسة أو رعيَّة أو أبرشيَّة، أن تكون غنيَّة ولا تساعد جارتها. أين هي المقاسمة؟ وبعد ذلك هل يحقُّ لنا أن نشارك في الجسد الواحد، ونعمل مثل المؤمنين في كورنتوس: »يجوع بعضكم ويسكر آخرون« (1 كو 11: 22).

كيف عاش بولس هذا التواصل بين الكنائس؟ على المستوى الروحيّ بدون شكّ، حيث التقاهُ المبشِّرون العديدون في رومة، فكتب الرسول من كورنتوس يسلِّم عليهم. ولكنَّنا ننوقَّف على المستوى المادّيّ. كتب بولس رسالتين. واحدة وجَّهها إلى الجماعات العائشة في العاصمة، كورنتوس، ورسالة أخرى إلى أخائية بشكل عامّ.

اعتاد الكورنثيّون أن يخطِّطوا من أجل غيرهم، فكتب إليهم الرسول: »ونريد أيُّها الإخوة، أن نخبركم بما فعلَتْه نعمةُ الله في كنائس مكدونية، فهم مع كثرة المصاعب التي امتحنهم الله بها، فرحوا فرحًا عظيمًا. وتحوَّل فقرهم الشديد إلى غنى بسخائهم« (2 كو 8: 1-2). سخاء من قبل مكدونية وإلحاح من أجل عطاء. أمّا مؤمنو كورنتوس وأخائية فيتأخَّرون ويتماهلون. لهذا قال لهم الرسول: »فأنا أخاف أن يجيء معي بعض المكدونيّين ويجدوكم غير مستعدِّين، فنخجل نحن، حتّى لا أقول أنتم، في ثقتنا هذه بالافتخار بكم« (2 كو 9: 4).

اهتمَّ بولس اهتمامًا كبيرًا بجمع التبرُّعات من أجل الكنيسة الأم، كنيسة أورشليم. لماذا؟ لأنَّه خاف أن تنغلق كنيسة على نفسها وعلى خصوصيّاتها وذلك على حساب المشاركة بين الكنائس. هو عمل مسكونيّ يقوم به الرسول مع نظرة إلى أورشليم »السماويَّة« التي تجمع حولها الكنائس على ما نقرأ في سفر إشعيا: »قومي استنيري (أو أنيري) فنورك أضاء، ومجد الربِّ أشرق عليك« (إش 60: 1). »ثروة البحار تنتقل إليك وغنى الشعوب إليك يعود« (آ5). أمّا المزمور 87 فيرى أنَّ جميع الشعوب وُلدت في مدينة الله، على الجبل المقدَّس. هناك ينبوع البركات (آ7).

بدأ »الشرخ« حاضرًا منذ بدايات الكنيسة: بين الذين يتكلَّمون العبريَّة، الآراميَّة، وبين الذين يتكلَّمون اليونانيَّة. فتأسَّس السبعة الذين كان أوَّلهم إسطفانس وفيلبُّس. ثمَّ كان تباعد بالرغم من كلِّ محاولات التقارب بين العنصر اليهوديّ والعنصر اليونانيّ في الكنيسة، وحادثة أنطاكية لا تحتاج إلى شرح وتأويل (غل 2: 1ي). ما العمل لدرء الخطر؟ التطلُّع إلى وضع الكنائس على المستوى المادّيّ بانتظار المعنى الروحيّ. أمّا المثال فهو يسوع المسيح: »وأنتم تعرفون نعمة ربِّنا يسوع المسيح: كيف افتقر لأجلكم، وهو الغنيّ، لتغتنوا أنتم بفقره« (2 كو 8: 9).

وما قاله بولس عن نفسه بالنسبة إلى الرسالة، تقوله أورشليم بالنسبة إلى سائر الكنائس. شاركت أورشليمُ كنائس الشتات في الروحيّات، فعلى هذه الكنائس أن تشاركها في الأمور المادّيَّة، لاسيَّما وأنَّ المجاعة حلَّت بها. وفي أيِّ حال، الكنيسة الأمّ في عوز والناس في راحة. هم يساعدونها. وقد تنتقل الأموال فتفعل الكنيسة الأمّ لسائر الكنائس ما فعلوا، وتردُّ لهم الجميل: »لا أعني أن تكونوا في ضيق (أيُّها الكورنثيّون) ويكون غيركم في راحة. بل أعني أن تكون بينكم مساواة، بحيث يسدُّ رخاؤكم ما يعوزهم اليوم، ويسدُّ رخاؤهم ما يعوزكم غدًا« (2 كو 8: 13-14).

من كنيسة الله في تسالونيكي، في كورنتوس... إلى كنائس صارت كنيسة واحدة تغطّي حوض البحر المتوسِّط والعالم الرومانيّ، وتمتدُّ إلى الشرق فتصل إلى الهند »مع توما الرسول«. ولكنَّها »كنيسة واحدة جامعة مقدَّسة رسوليَّة«. هي جسد المسيح الواحد الذي لا يمكن أن ينقسم وإن ابتعد المسيحيّون بعضهم عن بعض وإن اختلفوا في طرق الصلاة والعبادة، وإن تباينوا على مستوى الفكر اللاهوتيّ دون المساس بما يقوله قانون الإيمان. ذاك كان هدف الرسالة البولسيَّة، التي نفحها بولس بروحه منذ البداية، فكان صلة الوصل بين الجماعات المختلفة، وتواصلت مع تلاميذه. فاستطاع أن يقول لجماعة كولوسّي: »البشارة وصلت إليكم كما وصلت إلى العالم كلِّه، فأخذت تثمر وتنتشر فيه كما تثمر وتنتشر بينكم منذ سمعتم بنعمة الله وعرفتموها حقَّ المعرفة« (كو 1: 6). هل نتخيَّل كلَّ هذا التطوُّر سنة 57 أي بعد موت الربِّ بعشرين سنة تقريبًا؟ وهل نقبل أن تتفتَّت »الكنائس« المحلِّيَّة فتمزِّق الكنيسة الجامعة، حيث كلُّ كنيسة تنغلق على ذاتها، وكلّ أبرشيَّة تعتبر نفسها مركز الكون. ما الفائدة من عمل تسير فيه جماعة من الجماعات (كبيرة أو صغيرة وحدها)؟ فهو يموت سريعًا، لأنَّه يكون من الناس، لا من الله، على ما قال غملائيل حين محاكمة الرسل (أع 5: 38-39).

الخاتمة

وهكذا قرأنا الرسالة الثانية التي أرسلها بولس من مكدونية إلى كورنتوس. سواء كانت رسالة واحدة كُتبت على مراحل، أو ثلاث وأربع رسائل ضُمَّت إلى بعضها، فهي تحمل إلينا كلام الله، ونحن نترك للباحثين أن يكتشفوا الأمور العلميَّة واللغويَّة التي لا بدَّ أن نستفيد منها من أجل القراءة الروحيَّة والرعائيَّة. رسالة شخصيَّة تُبرز لنا قلبَ بولس الذي تجابهه الصعوبات كما تجابه الكنيسة اليوم وتجابه العاملين فيها، هذا إذا رضوا أن يكونوا أمناء للإنجيل، لا للعالم. فإن كنّا أمناء للعالم يُحبُّنا العالم لأنَّنا مثله. أمّا إذا كنّا أمناء للإنجيل فالعالم يبغضنا كما قال لنا الربُّ ليلة آلامه. رسالة دافع فيها بولس عن نفسه لأنَّه أحسَّ أنَّ من خلال الهجوم عليه، هو هجوم على العمل الرسوليّ الآتي من »الخصوم« العديدين: الوثنيّة تنهض بعد أن هُزمَت، والعالم اليهوديّ أحسَّ بالخطر بعد أن حلَّ »الجديد« محلَّ »القديم«. وأخيرًا »الغنوصيَّة« الصاعدة من قلب المسيحيَّة والملفَّقة »الفلسفات« والأفكار العديدة لكي تستغني عن المعرفة الوحيدة التي تطلَّع إليها بولس الرسول: »معرفة الربِّ يسوع المسيح« (فل 3: 8).

 
قديم 23 - 03 - 2024, 01:57 PM   رقم المشاركة : ( 155168 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,743

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




بولس الرسول


أنتم رسالتنا المكتوبة في قلوبنا

ذاك ما كتب بولس الرسول إلى أهل كورنتوس سنة 56-57، من مكدونية. »أنتم رسالتنا المكتوبة في قلوبنا« (2 كو 3: 1). مضت بضعة أشهر على الرسالة الأولى إلى كورنتوس وفيها الحلول على الفوضى المسيطرة في الجماعة، والردود على أسئلة طُرحت على الرسول المقيم في أفسس. وها هي الرسالة الثانية التي بدت أكثر من رسالة، فحدَّثنا عن الخدمة الرسوليَّة في قلب التدبير المسيحيّ، عن المحن التي عاناها الرسول والآمال التي وضعها أمامه. هو سفير المسيح وهذا يكفيه، وفي النهاية يسير في موكبه موكب النصر (2 كو 2: 14) الذي به غلب العالم.

قيل عن الرسالة الثانية إلى كورنتوس إنَّها كُتبت على مراحل. وقيل هي ثلاث رسائل إن لم تكن أربعة جُمعت في رسالة واحدة بيد تلاميذ الرسول ولاسيَّما حين تكوَّنت المجموعة البولسيَّة التي تحدَّثت عنها رسالة بطرس الثانية فقالت فيها: »وردت فيها أمور غامضة يحرِّفها الجهّال وضعفاء النفوس، كما يفعلون في سائر الكتب المقدَّسة، لهلاك نفوسهم« (2 بط 3: 16).

وقيل عن هذه الرسالة إنَّها تكشف شخصيَّة بولس ونفسيَّته وتعطينا التفاصيل عن حياته اليوميَّة والرسوليَّة، بل الصوفيَّة فيقول لنا: »أعرف رجلاً مؤمنًا بالمسيح خُطف قبل أربع عشرة سنة إلى السماء الثالثة. أبجسده؟ لا أعلم. أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله يعلم وإنَّما أعلم أنَّه خُطف إلى الفردوس: أبجسده أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله يعلم. أنَّما أعلم أنَّه خُطف إلى الفردوس وهناك سمع كلامًا لا يقدر بشرٌ أن ينطق به ولا يجوز له أن يذكره« (2 كو 12: 2-4).

كلامنا يروح في ثلاث محطّات متَّصلة: دفاع بولس عن نفسه، دفاعه عن رسالته، انطلاقاته من الكنيسة المحلّيَّة إلى الكنيسة الجامعة انطلاقة تصل بنا إلى ما قيل في الرسالة إلى أفسس: »المسيح هو رأس الكنيسة (أف 5: 23)، وقد أحبَّها »وضحّى بنفسه من أجلها« (آ25).
 
قديم 23 - 03 - 2024, 01:58 PM   رقم المشاركة : ( 155169 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,743

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




بولس الرسول


دفاع بولس عن نفسه

ما إن ترك بولس كورنتوس حتّى جاء الخصوم إلى هذه الكنيسة التي أحبَّها واعتبر أنَّه الأب لها، بحيث يختلف عن الذين يأتون إليها: مثل »زائرين« أتوا ليزرعوا الفتنة ويطلبوا منفعتهم لا منفعة الجماعة، مثل »فلاسفة متجوِّلين« يطلبون المال حيث حلُّوا ويتَّهمون بولس بأنَّه متكبِّر لأنَّه يرفض كلَّ إعانة مادِّيَّة من كورنتوس. وهاجموا الرسول أيضًا لأنَّه »ضعيف وكلامه سخيف« (2 كو 10: 10). ثمَّ هو ما رأى الربَّ مثل سائر الرسل ولا اختبر قيامته مع الذين اختبروها، لهذا يُعدُّ رسولاً من الدرجة الثانية. إذا كان المسيح ما أرسله كما أرسل الآخرين 'الذين أعطاهم سلطانًا يطردون به الأرواح النجسة، ويشفون الناس من كلِّ داء ومرض« (مت 10: 1). بل هو عارض مشروع الرسالة الذي أطلقه الربُّ واعتبر أنَّ خبز البنين لا يُعطى للكلاب (مت 15: 27). فالربُّ قال لرسله: »لا تقصدوا أرضًا وثنيَّة، ولا تدخلوا مدينة سامريَّة بل اذهبوا بالأحرى إلى الخراف الضالَّة من بيت إسرائيل« (مت 10: 5-6). أمّا هذا الذي دعا نفسه »الرسول إلى الأمم« فيقول لليهود: »كان يجب أن نبشِّركم أنتم أوَّلاً بكلمة الله، ولكنَّكم رفضتموها، فحكمتم أنَّكم لا تستأهلون الحياة الأبديَّة، ولذلك نتوجَّه الآن إلى غير اليهود (أي: الأمم الوثنيَّة) فالربُّ أوصانا قال: »جعلتك نورًا للأمم لتحمل الخلاص إلى أقاصي الأرض« (أع 13: 46-47). وفي كورنتوس عينها حاول اليهود أن يقفوا في وجه الرسول، فعارضوه وشتموه. حينئذٍ »نفض ثوبه وقال لهم: »دمكم على رؤوسكم. أنا بريء منكم. سأذهب بعد اليوم إلى غيركم من الشعوب« (أع 18: 6). ثمَّ اشتكوا إلى غاليون، قنصل كورنتوس، فردَّهم خائبين فما استطاعوا سوى أن يصبُّوا غضبهم على رئيس المجمع سوستانيس. أمّا غاليون فما اهتمَّ لما يفعلون (آ17).

هؤلاء هم الخصوم الأوَّلون، وهجومهم عليه هجوم شخصيّ. ورافقهم من ندعوهم »اليهومسيحيّين«، أي أولئك المسيحيّون الذين أتوا من العالم اليهوديّ لا من العالم الأمميّ، أو الوثنيّ. ومن المؤسف أن يكون هناك مسيحيّون انجرُّوا في هذا التيّار ليعارضوا الرسول، ناسين أنَّهم إن »دمَّروا« الرسول دمَّروا الرسالة في الوقت عينه. قال عنهم بولس في الرسالة إلى فيلبّي: »عاقبتُهم الهلاك، وإلههم بطنهم (يهتمُّون بالأطعمة، فلا يأكلون ما هو نجس، رو 14: 1ي)، ومجدُهم (أي الختان. به يفتخرون) عارهم وهمُّهم أمور الدنيا« (فل 3: 19).

من أين جاء هذا الرسول؟ لا من قبل يسوع، ولا من قبل بطرس، وخصوصًا لا من قبل يعقوب أخي الربّ. أمّا برنابا فنفهم أنَّ كنيسة أورشليم أرسلته في مهمَّة خاصَّة إلى أنطاكية (أع 11: 22). ولكنَّ بولس يعلن بالفم الملآن: »ما استشرتُ بشرًا، ولا صعدتُ إلى أورشليم لأرى الذين كانوا رسلاً قبلي، بل ذهبتُ على الفور إلى بلاد العرب (حيث قضى ثلاث سنوات يتعرَّف إلى يسوع داخل الجماعات المسيحيَّة في حوران وفي شرقيِّ الأردنّ) ومنها عدتُ إلى دمشق« (غل 1: 16-17).

* * *

ماذا كان ردُّ بولس على هؤلاء الخصوم الآتين من العالم اليهوديّ، والمحاولين أن يدمِّروا الرسالة إلى كورنتوس، كما حاولوا أن يفعلوا في جماعات غلاطية حيث سُحرت عقولُهم ونسوا صورة المصلوب المرسومة أمامهم (غل 3: 1)؟

قالوا: هو متكبِّر فيرفض أيَّة مساعدة مادِّيَّة. تلك هي حرِّيَّة الإنجيل التي نادى بها بولس في كلِّ مكان مضى إليه لا على مستوى 'الفقرب فقط، بل على مستوى الحياة الزوجيَّة أيضًا. قال: »أما لنا حقٌّ مثل سائر الرسل وإخوة الربّ وبطرس أن نستصحب زوجة مؤمنة؟« (1 كو 9: 5). تحرَّر الرسول من واجبات الحياة الزوجيَّة، لكي »يهتمَّ بأمور الربِّ وكيف يرضي الربّ« (1 كو 7: 32). وتحرَّر من الأمور المادِّيَّة من طعام وشراب ومال، مع أنَّ له حقٌّا في ذلك. قال إلى جماعة كورنتوس: »أما لنا حقٌّ أن نأكل ونشرب؟ (1 كو 9: 3). وواصل كلامه: »أم أنا وبرنابا وحدنا لا يحقُّ لنا إلاَّ أن نعمل لتحصيل رزقنا؟ من هو الذي يحارب والنفقة عليه؟ من هو الذي يغرس كرمًا ولا يأكل من كرمه؟ من هو الذي يرعى قطيعًا ولا يأكل من لبنه؟« (آ6-7). وقدَّم الرسول شرحًا لعبارة وردت في سفر التثنية (25: 4 حول الثور الذي على البيدر) وأنهى كلامه. »من يخدم الهيكل يقتات من تقدمات الهيكل، ومن يخدم المذبح يأخذ نصيبه من الذبائح. وهكذا أمر الربُّ للذين يعلنون البشارة أن ينالوا رزقهم من البشارة« (آ13-14).

ورأى بولس أنَّ كلامه »بشريّ« (آ8). فبدا وكأنَّه يطالب بحقِّه، لأنَّ »غيرنا يأخذ« (آ12). هذا يعني أنَّ لنا حقٌّا. ويواصل الرسول: »ولكنَّنا ما استعملنا هذا الحقّ، بل احتملنا كلَّ شيء لئلاَّ نضع عقبة في طريق البشارة« (آ12).

كتب الرسول فظنُّوا أنَّه يطالب. فقال: »أنا لا أكتب هذا الآن لأطالب بشيء منها، فأنا أفضِّل أن أموت على أن يحرمني أحدٌ من هذا الفخر« (آ15). إذًا، بما أنَّه يأخذ مساعدة من غيرهم (2 كو 11: 7) ويحمل إليهم الإنجيل مجّانًا، فهذا يعني أنَّه لا يحبُّهم. وجاء جواب الرسول مليئًا بالعاطفة: »ألأنّي لا أحبُّكم، الله يعلم كم أنا أحبُّكم« (آ11). وهو سوف يقول لهم: أنا أريدكم أنتم، ولا أريد مالكم. ثمَّ إنَّ على الآباء أن يذخّروا الذخائر لأبنائهم، لا الأبناء لآبائهم.

* * *

وهاجموا بولس وهو الضعيف؟ فإلى ماذا يستند وهو الذي لم يعرف الربَّ مثلَ بطرس ويعقوب ويوحنّا الذين يُعتبرون العمد في الكنيسة؟ أوَّلاً، إن كان الربُّ ظهر للرسل، لبطرس، ليعقوب ولعدد كبير من الناس بعد قيامته. فهو أيضًا ظهر لبولس: »ظهر لي آخرًا، أنا أيضًا كأنّي سقط« (1 كو 15: 7: وُلد بشكل غير طبيعيّ فجاء هزيلاً، ضعيفًا). وقال في تواضعه: »فما أنا إلاَّ أصغر الرسل، ولا أحسب نفسي أهلاً لأن يدعوني أحدٌ رسولاً لأنّي اضطهدتُ كنيسة الله. وبنعمة الله أنا ما أنا عليه الآن، ونعمتُه عليَّ لم تكن باطلة، بل إنّي جاهدتُ أكثر من سائر الرسل كلِّهم« (آ9).

أمّا العلامات على أنّي رسول، فهي »المعجزات والعجائب والأعمال الخارقة« (2 كو 12: 12). وإذا عاملتُكم باللطف، فهل هذا يعني ضعفًا؟ كلاّ. بل سبق وقال في الرسالة الأولى: »أيُّها تفضِّلون؟ أن أجيء إليكم بالعصا أم بالمحبَّة وروح الوداعة؟« (1 كو 4: 21). وعاد في الرسالة الثانية: »فيقول أحدكم: ''رسائل بولس قاسية، عنيفة ولكنَّه متّى حضر بنفسه، كان شخصًا ضعيفًا وكلامه سخيفًا''. فليعلم هذا القائل أنَّ ما نكتبه في رسائلنا ونخن غائبون نفعله ونحن حاضرون« (2 كو 10: 10-11). ويتهكَّم الرسول بعض الشيء على الذين »يعظِّمون قدرهم« (آ12). يفتخرون بما عملوا، أو بما عمله الآخرون فينسبونه إلى نفوسهم. الافتخار يكون بالربّ »لأنَّ من يمدحه الربّ هو المقبول عنده، لا من يمدح نفسه« (آ16). واستعدَّ الرسول للمجيء إلى كورنتوس مرَّة ثالثة: »إن عدتُ إليكم فلا أشفق على أحد، ما دُمتم تطلبون برهانًا على أنَّ المسيح ينطق بلساني، والمسيح غير ضعيف...« (2 كو 13: 2-3).

* * *

وبماذا يفتخر هؤلاء الرسل الكذّابون، وهم يبشِّرون المؤمنين »بيسوع آخر غير الذي بشَّرناكم به؟« (2 كو 11: 4). هم يفتخرون بأمور بشريَّة. أجاب الرسل واعتبر أنَّه »جاهل« إن هو افتخر بهذه الأمور، فقال: »فالذي يباهون به، وكلامي كلام جاهل، أباهي به أيضًا. إن كانوا عبرانيّين فأنا عبرانيّ، أو إسرائيليّين فأنا إسرائيليّ، أو من ذرِّيَّة إبراهيم فأنا من ذرِّيَّة إبراهيم« (2 كو 11: 21-22). إذًا بماذا هم أفضل من رسولكم، أيُّها الكورنثيّون؟ »لأنَّهم يعاملونكم بقساوة«. نعم، »تحتملون كلَّ من يستعبدكم وينهبكم ويسلبكم ويتكبَّر عليكم ويلطمكم« (آ20). فيا للخجل! يا لخجلي ويا لخجلكم! وتقابلونهم بعد ذلك برسولكم بعد أن حسبتموهم »خدَّام المسيح«!

هنا أطلق بولس العنان لما قاساه من أجل الرسالة: »أنا أفوقهم في الجهاد، في السجون، في الضرب... بالجوع والعطش والبرد«. وهكذا بعد أن عرَّفنا الرسول أصله البشريّ، رسم أمامنا لوحة عمّا كابده في عمله الرسوليّ، وقد ذُكر بعضه في أعمال الرسل. وأنهى كلامه ففتح قلبه الرسوليّ: »وهذا كلُّه إلى جانب ما أعانيه كلَّ يوم من اهتمام بجميع الكنائس. فمن يضعف وأنا لا أضعف معه؟ ومن يقع في الخطيئة وأنا لا أحترق من الحزن عليه؟« (آ28-29).
 
قديم 23 - 03 - 2024, 01:59 PM   رقم المشاركة : ( 155170 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,743

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




بولس الرسول


دفاع بولس عن الرسالة

في دفاع بولس عن نفسه كان خصومه »يهودًا« انتحلوا الرسالة وراحوا يهدمون ما فعله الرسول، بحيث يصبح يسوع يهوديٌّا بين اليهود تعرَّفوا إليه أو لم يتعرَّفوا. أمّا الآن فخصوم بولس هم الغنوصيّون قبل الغنوصيَّة الرسميَّة. وماذا تقول الغنوصيَّة؟ لا حاجة إلى التقليد الرسوليّ. فالإنسان يخلص »بالمعرفة الباطنيَّة« التي يدعونها »الغنوصة« من اليونانيَّة gnwsi". لا حاجة إلى العمل بوصايا الله ولا بممارسة حياة خلقيَّة. يكفي أن »نعرف« وبعد ذلك نعمل ما نشاء. والمثل على ذلك هو ذاك الخاطئ »بزنى لا مثيل له حتّى عند الوثنيّين« (1 كو 5: 1). عنه قال الرسول كما قال عن أمثاله: »أخاف، إذا جئتكم مرَّة أخرى، أن يذلَّني إلهي في أمركم، فأبكي على كثيرين من الذين خطئوا من قبل وما ندموا على ما اقترفوه من دعارة وزنى وفجور« (2 كو 12: 21).

كيف بدا هؤلاء »الغنوصيّون« في هذه الرسالة؟ هم يعظون عن الله بل عن أنفسهم، وكأنَّهم صاروا مكان الله: انظروا إلينا. اقتدوا بنا. أمّا بولس فإن قال اقتدوا بي فلأنَّه واصل حالاً: »كما أقتدي أنا بالمسيح« (1 كو 11: 1). وإن قال بولس: »صرنا مشهدًا للعالم، للملائكة وللناس« (1 كو 4: 9)، فهو ما جعل نفسه مثل الكتبة والفرّيسيّين في »مقاعد الشرف... مع المتصدِّرين في المجامع« (مت 23: 6). بل بجانب الصليب. قال: »أرى أنَّ الله جعلنا نحن الرسل أدنى الناس منزلة كالمحكوم عليهم علانية« (1 كو 4: 9).

قال الرسول عن هؤلاء الخصوم: »فإذا كانت بشارتنا محجوبة، فهي محجوبة عن الهالكين، من غير المؤمنين الذين أعمى إله هذا العالم بصائرهم حتّى لا يشاهدوا النور الذي يضيء لهم، نور البشارة بمجد المسيح الذي هو صورة الله« (2 كو 3: 4). البشارة محجوبة لأنَّ هؤلاء أغمضوا عيونهم لئلاّ يروها. هم يعتبرون أنَّهم يعرفون كلَّ شيء، أنَّهم يملكون كلَّ شيء. وبالتالي هم لا يحتاجون شيئًا من هؤلاء الرسل »الشفعاء«. هم عميان بفعل إبليس »إله هذا العالم«. وحيث يقيم إبليس يكون موضعًا تُشرف عليه الخطيئة والانفصال عن الله. أمّا إبليس فيجعل المؤمنين في هذا العالم ويسدُّ الطريق عليهم فلا يعودون يرون العالم الآتي. قبلوا به سيِّدًا على هذا العالم ونسوا أنَّ »سيِّد هذا العالم يُطرَد اليوم« (يو 12: 31)، فلا يعود له من سلطان على الأرض بعد صليب المسيح.

هؤلاء لهم معرفتهم الخاصَّة وحكمتهم. ولكنَّها حكمة رفضها الرسول. قال: »ولكن هناك حكمة نتكلَّم عليها بين الناضجين في الروح. وهي غير حكمة هذا العالم ولا رؤساء هذا العالم، وسلطانهم إلى زوال، بل هي حكمة الله السرِّيَّة« (1 كو 2: 6-7). حكمة الله ما عرفها »رؤساء هذا العالم، ولو عرفوها لما صلبوا ربَّ المجد«. فكيف يتبع الكورنثيّون مثل هؤلاء المعلِّمين؟ إلى أين يصلون بهم؟ إلى خسارة نفوسهم.

والمعرفة »حاضرة« عند هؤلاء الحاسبين نفوسهم »أسياد هذا العالم« فيكلِّمون المؤمنين العاديّين من عليائهم. هم يشبهون عددًا من الشيع في أيّامنا، أو بعض الكنائس المسيحيَّة التي تحسب أنَّها بالمال تجتذب الناس إلى الله وتحسب نفسها وحدها »جماعة المؤمنين«. هؤلاء دعاهم بولس »غير ناضجين في الروح« و»أطفالاً بعد في المسيح« (2 كو 4: 5). الفرق شاسع بين الرسول وهؤلاء »الرسل« الذين حسبوا نفوسهم »رسلاً فوق العادة« لأنَّهم يستعبدون المؤمنين، يغسلون منهم الرؤوس ويجعلونهم يعيشون في الخوف فيتعلَّقون بهم كما الولد بثوب أمِّه. معرفتهم محصورة في هذا العالم، أمّا البشارة الحقَّة فهي نور يجعل معرفة الله تشرق في قلوبنا (آ6).

* * *

بماذا هاجم هؤلاء الخصوم بولس؟ إنَّه غيَّر خطَّة سفره. »أمرُّ بكم في طريقي إلى مكدونية، ثمَّ أرجع من مكدونية إليكم، فتسهِّلوا لي أمور السفر إلى اليهوديَّة« (2 كو 1: 16). بدَّل الرسول طريقه فاعتُبر عملُه »خفَّة ظهرت عليه« (آ17). بل حسبوه »كاذبًا« لا سمح الله. تارة يقول نعم وطورًا لا. فأجابهم بولس: »يشهد الله أنَّ كلامنا لكم ما كان بنعم ولا، لأنَّ يسوع المسيح ابن الله الذي بشَّرنا به بينكم، أنا وسلوانس وتيموتاوس، ما كان نعم ولا، بل نعم كلُّه« (آ19).

كان هذا اتِّهامًا بسيطًا وغيمة عابرة، فبدَّدها الرسول بالنسبة إلى مجمل الكنيسة، لا بالنسبة إلى الخصوم. اعتبروا أنَّه امتنع عن المجيء إليهم، ربَّما احتقارًا، أو لأنَّه يفضِّل كنيسة مكدونية (عاصمتها تسالونيكي) على أخائية (عاصمتها كورنتوس). لا هو هذا ولا هو ذاك. بل مراعاة للمؤمنين. كيف يأتي الرسول إلى كورنتوس وقلبه يعمر بالحزن، لا بالفرح؟ ومن أين جاء هذا الحزن؟ ولماذا هذه الرسالة التي كتبها في الدموع والتي بدت أنَّها ما وصلت إلينا؟ (2: 4).

أرسل بولس من قِبَله شخصًا لكي يُعيد السلام إلى الكنيسة بعد أن كادت تنقسم بين »كمّال« هم الغنوصيّون، وبين »بسطاء« وهم المؤمنون العاديّون. فاستُقبل هذا الشخص برفضٍ تامّ، وسيطرت فئة على فئة، وانقاد الضعفاء في خطِّ الأقوياء، فملأ الحزنُ قلب الرسول. فاستعدَّ للذهاب إلى كورنتوس لكي يضع الأمور في نصابها. فطُلب منه أن يمتنع. ومضى مكانه تيطس، ذاك المفاوض الماهر، الذي أعاد السلام إلى الجماعة: حزنَتْ، طلبَتْ من هذا الشخص أن يعتذر بشكل علنيّ، ففعل، فصفحَتْ عنه الجماعة.

قابلنا هذا السفيه مع الزاني في الرسالة الأولى إلى كورنتوس (5: ي). عن الزاني قال بولس: »سلِّموا هذا الرجل إلى الشيطان، حتّى يهلك جسده، فتخلص روحه في يوم الربّ« (1 كو 5: 5). في الواقع، حين خطئ انتقل من »مخيَّم« الله إلى مخيَّم« الشيطان. هو أخرج نفسه من الجماعة، روحيٌّا لا جسديٌّا، مثل يهوذا في العشاء السرّيّ. كلُّهم يتطلَّعون إلى سيِّدهم »الحزين«، وهو يفكِّر أين يجتمع مع رؤساء الكهنة. وكذلك هذا الزاني: ترك الجماعة في قلبه فما عاد يستفيد من رسائل الدفاع التي في يده. صار مثل الغصن اليابس الذي يجب أن يُجمَع مع سائر الأغصان ويُحرَق في النار (يو 15: 6). صار مثل »تينة مضرَّة« تعطِّل الأرض. ربَّما إذا خرج، عاد إلى نفسه وتاب، أقلَّه في يوم ربِّنا، في يوم الدينونة.

أمّا هنا فما أراد الرسول لهذا السفيه أن ييأس ويستسلم للشيطان. قال له الرسول بقلبه الكبير: »من صفحتُم عنه صفحتُ عنه أنا أيضًا« (2 كو 2: 10).

* * *

تلك بعض سمات الرسول كما تظهر في الرسالة الثانية إلى كورنتوس: هو الخادم وهو يخدم في المحبَّة واللطف والوداعة. هو الأب ويستعدُّ ان يغفر لأبنائه بسرعة ولا يترك في قلبه حقدًا. هو الذي يهتمُّ أوَّل ما يهتمُّ بأمر البشارة، ولا بأمرِ نفسه وكأنّ النجاح الخارجيّ هو الهدف الذي يصبو إليه. هو يتطلَّع إلى المسيح ولا يتطلَّع إلاَّ فيه، ومنه يأخذ كلَّ معرفة كما تعلَّمها في الجماعات المسيحيَّة، في بلاد العرب، فسلَّم إلى كنيسة كورنتوس ما تسلَّم هو (1 كو 11: 23؛ 15: 3). ولكنَّنا نتوقَّف أيضًا عند ثلاث سمات تعطينا صورة عن الرسول.

الأولى، الضعف في القوَّة. ما اعتدَّ بولس يومًا بنفسه. عرف ضعفه وافتخر بأوهانه. والصورة التي أعطانا: »آنية من خزف« (2 كو 4: 7). هي سريعة العطب تنكسر بسهولة حين ترتطم بأيِّ حاجز. فكيف نقدر أن نحتفظ بهذا »الكنز« الذي أعطيناه؟ مستحيل. وحدنا لا نقدر. ولكن مع ذلك، حافظنا على هذا الكنز ونحافظ. وكيف ذلك؟ »بتلك القدرة الفائقة التي هي من الله لا منّا« (آ7). الضيق، الاضطهاد، الحصار... لا شيء يقدر علينا. ولماذا الرسول لا يتراجع؟ »لا لأنَّنا ننظر إلى ما يُرى بل إلى ما لا يُرى. فما يُرى هو إلى حين، أمّا ما لا يُرى فهو إلى الأبد« (آ19).

والسمة الثانية هي صفة الرسول. في الرسالة الأولى عرفنا أنَّه »وكيل«. قال: »فليعتبرنا الناس خدَّامًا للمسيح ووكلاء أسرار الله، وكلُّ ما يُطلَب من الوكلاء أن يكون كلُّ واحد منهم أمينًا. وأنا لا يهمُّني كثيرًا أن تدينوني أنتم أو أيُّ محكمة بشريَّة، بل أنا لا أدين نفسي... ديّاني هو الربّ« (1 كو 4: 1-4). الأمانة، لمن؟ لنفسي؟ فكم مرَّة أغشُّ نفسي. للآخرين؟ كلُّ إنسان كاذب كما قالت الرسالة إلى رومة مردِّدة كلام المزمور. وفي أيِّ حال، إن أردت أن أرضي الناس لن أكون عبدًا ليسوع المسيح. فالأمانة تكون لله، لأنَّه هو وحده الثابت، والناس متقلِّبون.

أمّا هنا في الرسالة الثانية إلى كورنتوس، فنعرف أنَّ بولس هو »السفير«. قال في معرض كلامه عن معرفة يسوع معرفة بشريَّة (2 كو 5: 16): »فنحن سفراء المسيح، وكأنَّ الله يعظ بألسنتنا« (آ20). فالسفير أساسًا يرتبط بالسفر. ومن سافر كما سافر بولس الرسول؟ والسفير يمثِّل البلد ويحمل التعليمات التي تُعطى له. وكذا بولس يفعل منذ اللقاء على طريق دمشق والانقلاب الذي حصل في حياته. وما هي التعليمة الأساسيَّة التي يحملها الرسول؟ تصالحوا مع الله. قال: »الله صالح العالم مع نفسه في المسيح، وما حاسبهم على زلاّتهم، وعهد إلينا أن نعلن هذه المصالحة« (آ19).

والسمة الثالثة، الانتقال من القديم إلى الجديد، من الظاهر إلى الباطن، من خيمة أرضيَّة مصنوعة بالأيدي، إلى بناء سماويّ غير مصنوع بالأيدي. لا يبقى الرسول على مستوى القديم، ولا ينظر إلى الوراء »حين يضع يده على المحراث«. وتحدَّثَ بولس عن نفسه حين خدم »العهد القديم« أي التوراة والأنبياء والمزامير. هي وصلت إلى يسوع المسيح فوجدت فيه كمالها وغايتها. أمّا الآن فانتقل إلى العهد الجديد. قال: »هذه ثقة لنا بالمسيح عند الله، لا لأنَّنا قادرون أن ندَّعي شيئًا لأنفسنا، فقدرتنا من الله. فهو الذي جعلنا قادرين على خدمة العهد الجديد، عهد الروح لا عهد الحرف. لأنَّ الحرف يميت والروح يحيي« (2 كو 3: 4-6). فماذا نرجو من رسول، من مؤمن، يتعلَّق بالحرف ويبقى عنده؟ أمّا الرسالة التي كتبها بولس في جماعة كورنتوس فلا تشبه ما كتب »الخصوم« من رسائل. قال: »أنتم أنفسكم رسالتنا، مكتوبة في قلوبنا، يعرفها ويقرأها جميع الناس. نعم، نبيِّن أنَّكم رسالة المسيح جاءت على يدنا، وما كتبناها بحبر، بل بروح الله الحيّ، لا في ألواح من حجر، بل في ألواح من لحم ودم، أي في قلوبكم« (آ1-3). كلُّ العهد القديم جاء في هذا الكلام منذ موسى ولوحي الوصايا إلى إرميا والعهد الجديد مع كتابة الشريعة في القلوب (إر 31: 31-33).

وهناك انتقال من الظاهر إلى الباطن. فالإنسان الظاهر يبلى، يفنى. أمّا الإنسان الباطن فباقٍ إلى الأبد. هنا كانت الصورة عن »الخيمة«. فهي ليست ثابتة. تتهدَّم. أمّا البناء المصنوع بيد الله، فيبقى هو هو. في الموت نتعرَّى. ولكنَّنا حالاً نلبس جسدنا السماويّ. هنا يقول الرسول: »نحن نفضِّل أن نقترب من هذا الجسد لنقيم مع الربّ« (2 كو 5: 9).
 
موضوع مغلق


الانتقال السريع


الساعة الآن 05:59 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024