![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 154161 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() الله أمامك في كل حين لتطمئن وتفرح ![]() |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 154162 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() رعاية الحكمة للأبرار والأشرار في الباب الأول يحثنا الكاتب على طلب الحكمة بالصلاة والتوسل إلى الله، ليس فقط باللسان، إنما بكل كياننا، حيث نطلب البرّ، فنتحول إلى لهيب نار، يتوق إلى الحكمة السماوية المقدسة. وفي الباب الثاني يدعونا الكاتب إلى اكتشاف عظمة الحكمة وقدرتها الفائقة، هذه التي فضلها سليمان الحكيم عن عرشه وعن كل غنى، فهي تهب الإنسان شركة مع الله ليحمل سمات فائقة تؤهله لتحقيق خطة الله من نحو البشرية ككل، ومن نحوه هو على وجه الخصوص، كما فعلت مع سليمان الملك باني الهيكل المقدس. أخيرًا في هذا الباب (الثالث) يكشف لنا الكاتب عن دور الحكمة عبر الأجيال من آدم إلى دخول الشعب في أرض الموعد التي تفيض لبنًا وعسلًا. يستعرض هذا القسم (حك 11-19) عمل الحكمة في حياة الشعب أثناء الخروج، ليبرز حماية الله لشعبه ورعايته لهم، مقدمًا مقابلات بين حماية الحكمة للشعب وهلاك الوثنيين الذين حادوا عن الحكمة، ولم يتمتعوا بالإيمان. لم يحدث هذا عن محاباة، إنما عن كمال حرية الإنسان، إذ يقول عن الأشرار الهالكين: "كانوا على أنفسهم أثقل من أنفسهم" (حك 17: 21). فما حلّ بهم من ظلمة خارجية ليس إلا صدى لثقل الظلمة الداخلية الأشد مرارة وتدميرًا من الظلمة الخارجية. جاءت هذه الأصحاحات تفسيرًا لما ورد عن قصة الخروج في شكل عظة تكشف عن رعاية الله لشعبه، وكيف يحول حتى الضربات التي يسقط تحتها الأشرار لخير أولاده كما لخير الأشرار أنفسهم إن تابوا ورجعوا إليه. يقدم الكتاب هذا العرض لتطبيقه في الحياة اليومية المعاصرة، سواء على مستوى الجماعة المقدسة أو العضو. يعتبر هذا القسم عظة تشرح ما وراء تاريخ الشعب، خاصة بخصوص الخروج. تظهر رعاية الله الفائقة وخطته التي تختفي وراء الأحداث. يرى بعض الدارسين أن الأصحاحين (10، 11) هما حديث تمهيدي ليهيء للحديث الوارد في الأصحاحات 12 حتى 19. لكن يمكننا القول بأن الأصحاح العاشر (حك 10: 1-14) يكشف عن دور الحكمة فيمن يقتنيها كأشخاصٍ وتكملة السفر عن دورها في الكنيسة ككل، ولا فصل بين الشخص والكنيسة، لأنه هو عضو فيها بدونها لا كيان له، وبدونه لا وجود للكنيسة. فالعضو يحتاج إلى الجسم ككل، بدونه لا يمارس حياته ووجوده كعضوٍ حي، وبدون العضو تفقد الكنيسة جمالها ودورها، حتى وإن كان فقيرًا أو ظن أنه قليل المواهب والقدرات. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفمشعر الجفن لا يساوي شيئًا إن نُزع عن الجفن، بل يلقى في المزبلة، وبدونه يفقد الإنسان كله جماله! يقدم لنا الكاتب خلال أمثلة وردت في العهد القديم كيف أن الحكمة مخَّلصة لذويها، كما يقدم عدة مقابلات. عمل الحكمة في التاريخ يقدم الكاتب أمثلة عن حكمة الله العاملة في حياة الأبرار، دون أن يذكر أسماءهم، إنما غالبًا ما أشار إلى الشخص بلقب "البار". هذا ما يشغل حكمة الله أن تجد إنسانًا بارًا فتعمل فيه لحسابه كما لحساب الآخرين. لعبت الحكمة دورًا رئيسيًا في حياة الأبرار منذ بدء الحياة البشرية. هنا يضرب أمثلة بآدم وهابيل وأخنوخ ولوط إلخ. وقد اهتم بالأحداث الواردة في الكتاب المقدس من منظار دور الحكمة في حياتهم. هذا وعدم ذكر الأسماء يعطي هذا الأمر نوعًا من الموضوعية، فالأمر لا يخص أشخاصًا معينين، بل كل إنسانٍ يمكن أن تكون له ذات الخبرة مع الحكمة. هذا مع إعطاء نوعٍ من السرائرية والإجلال لهذا الأمر. أراد الكاتب أن يركز على الحكمة ذاتها لهذا تجاهل ذكر أسماء الأبطال, الذين هم معروفون للقارئ اليهودي. الحكمة تخلص ذويها، فقدكانت سندًا لآدم، وبدونها قتل قايين أخاه، وهي التي خلصت نوحًا بخشبة الفلك، ولوطًا من نيران سدوم وعمورة... وعبرت بالشعب البحر الأحمر، ووهبتهم التسبيح لله. لأن الحكمة فتحت أفواه البُكم وجعلت ألسنة الأطفال تفصح (حك 21:10). يقدم الحكيم صورًا بهية لعمل الحكمة في حياة شخصيات رائعة في إيجابية مفرحة، كما يحذرنا من الجانب السلبي، أي الانحراف عن الحكمة وعدم اقتنائها. 1. دور الحكمة في حياة آدم 1 هِيَ الَّتِي حَفِظَتْ أَوَّلَ مَنْ جُبِلَ أَبًا لِلْعَالَمِ لَمَّا خُلِقَ وَحْدَهُ، 2 وَأَنْقَذَتْهُ مِنْ زَلَّتِهِ، وَأَتَتْهُ قُوَّةً لِيَتَسَلَّطَ عَلَى الْجَمِيعِ. هي التي سهِرت على أول من جُبِل أبي العالم، بعد أن خُلق وحيدًا، وأنقذته من زلته. [1] من الصعب أن ندرك دور الحكمة الإلهية في حماية آدم وهو في جنة عدن، لكن إعطاء آدم الأسماء للحيوانات لأول مرة دون تمتعه بخبرات لأسلافٍ له (تك 2: 18-20) يحتاج إلى حكمة عظيمة وسلطان. هذا وعندما سقط آدم بسبب عصيانه، لم يتخلَّ الله عنه بل تَبَنَّى قضيته، وقدمت له حكمة الله طريق الخلاص. * حينما تعدى آدم وصية الله، وأطاع الحية الخبيثة، صار مُباعًا أو باع نفسه للشيطان، فاكتست النفس - تلك الخليقة الحسيّة التي صورّها الله على صورته الخاصة - اكتست بنفس الشرير مثل رداء. لذلك يقول الرسول: "إذ جرَّد الرئاسات والسلاطين، ظفر بهم في الصليب" (كو 2: 15)، وهذا هو الغرض الذي من أجله الرب أتى (إلى العالم)، لكي ما يطرحهم خارجًا ويسترجع بيته وهيكله، أي الإنسان. القديس مقاريوس الكبير * حل آدم رئيس المسبيين من رباطه، لأن المخلص سمع صوت الأسير، فنزل وأنقذه من تحت الأرض، لكي يصعده إلى علو السماء. القديس يعقوب السروجي أما كونه "وحيدًا"، فربما تعني أنه الوحيد الذي خلقه لله من التراب ونفخ فيه نسمة حياة، أما حواء فجاءت من جنبه، وأبناؤهما ولدوا منهما. ولعلها تعني أنه فريد، أُعطى سلطانًا على جميع الخلائق (تك 1: 26-28؛ حك 9: 2-3).: يرى البعض أن آدم حين كان وحيدًا، قبل خلقة حواء التي قامت بدورها في تجربته. وأعطته قُوة ليتسلط على كل شيءٍ. [2] يتطلع القديس غريغوريوس النيسي إلى الإنسان ككائنٍ فريدٍ، موضع حب الله الفائق، الذي خلقه دون غيره على صورته ومثاله. أقامه ملكًا... لذا لم يجبله إلا بعد خلقة العالم كله بكونه قصرًا ملوكيًا للملك المحبوب، الإنسان! خلقه ليشهد له بمشاركته صلاحه، فيحمل شركة السِّمات الإلهية، خاصة الحب والقداسة... كما أعطاه سلطانًا. وعندما سقط بإرادته، واختار الشر الذي ليس من صنع الله بل غياب للفضيلة لم يتركه، بل جاء الكلمة الإلهي متجسدًا ليرد إليه صورته الأولى، ويدخل به إلى البنوة لله، ويعيد إليه حالته الفردوسية... إنه غاية عمل الله الخلاصي. * كل العالم متقن حسنًا وهو ينتظر الإنسان، اصدري أمرك أيتها القدرة العاملة ليأتي ويستولي على مُلكه. * وضع فوق رأسه خصلة الشعر كالتاج، ليكون معروفا من قِبل براياه بأنه ملك. * وقف (آدم) صورة [الابن] وحده، وهو مليء جمالًا، فخافت البرايا من الصورة وأطاعتها، ظهر شبه الابن في الوارث الذي تكوّن، فخضعت له الأعالي والأعماق وكل البرايا، المسيح الجديد؛آدم الذي صار صورة للابن وقف في العالم، وكل العالم ركع وسجد له. اشتاق النور إليه، لأن صورة النور كانت مصورة على وجهه، وفرحت السماء وأسرع نورها لخدمته، ابتهج به البحر فهيأ أسماكه ليقدمها له، وسُرّت الأرض وركعت وسجدت مع أشجارها، الشمس والقمر قدّما له أشعتهما، وبشروقهما كان يجملان للسيد الجديد، الزحافات الجديدة وما في المياه، والطير الطائر في الهواء، كانت تسجد له أزواجًا أزواجًا، وتتباهى به، كل البهائم والحيوانات والأجناس التي صارت، أحنت الكتف ليضع النير على رقابها، أتت المقتنيات أمام القاني جوقات جوقات، وجماعات جماعات، وأفواجًا أفواجًا، وأزواجًا أزواجًا، أتت ساجدة، وممتلئة أمانًا ومحبة، ورأس الحيوانات المفترسة منحن لتخضع له، صُورت على آدم صورة اللاهوت العظمى، وحالما رآه العالم خضع له كله، كل أجناس البهائم والحيوانات تقدمت، وسجدت له فألقى طابعه على مقتنياته. القديس يعقوب السروجي 2. دور الحكمة في حياة هابيل3 وَلَمَّا ارْتَدَّ عَنْهَا الظَّالِمُ فِي غَضَبِهِ، هَلَكَ فِي حَنَقِهِ الَّذِي كَانَ بِهِ قَاتِلَ أَخِيهِ. ولما اِرتد عنها ظالمُ في غضبه، هلك في حنَقِه الذي قَتلَ به أخاه. [3] يقصد ب "الظالم" قايين (تك 4: 8-13)، فبسبب ظلمه لأخيه وسفكه دمه مات روحيًا (هلك). رُفضت تقدمة قايين بسبب عدم نقاوة قلبه، وإذ تخلى قايين عن الحكمة، انهزم من غضبه، وجرّ على حياته شقاءً وبؤسًا. في عدم حكمة استهان قايين بحياة أخيه هابيل، وإذا به يستهين بالله نفسه في حديثه معه. فإن كل خطية تصوب نحو إخوتنا تدفعنا للخطأ في حق الله نفسه. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليته لا يحتقر أحدنا الآخر، فإن هذا عمل شرير يعلمنا الاستهانة بالله نفسه. بالحقيقة إن ازدرى أحد بالآخر، إنما يزدري بالله الذي أمرنا أن نظهر كل اهتمام بالغير. لقد احتقر قايين أخاه، وفي الحال استهان بالله.] * أنت تعلم يا عزيزي أن علامة التقدمة المقبولة من الله هي نزول نار من السماء وحرق التقدمة. عندما قدَّم هابيل وقايين تقدماتهما معًا، نزلت النار الحيَّة التي تخدم أمام الله (مز 104: 4)، والتهمت ذبيحة هابيل النقيَّة، بينما لم تمس ذبيحة قايين غير النقيَّة. وهكذا عرف هابيل قبول تقدمته وقايين رفض تقدمته. لقد عُرفت ثمار قلب قايين بعد ذلك حين اُختبر ووجد أن قلبه مملوء غشًا، حين قتل شقيقه، وهكذا فما حبل به في فكره ولدته يداه. ولكن نقاوة قلب هابيل كانت أساس صلاته. القديس أفراهاط الحكيم الفارسي لقد ارتكب قايين جريمة بشعة للغاية، ومع هذا لو أنه طلب حكمة الله لأزال عنه غباوته وقدم توبة تنقذه كما يقول القديس مار أفرام السرياني. * ظهر الله لقايين بلطفٍ، حتى إذا ما تاب يُعفى عن خطية القتل التي ارتكبتها أصابعه وذلك بندامة شفتيه. إن لم يتب. يسقط عليه الحكم بعقوبة مرة تتناسب مع غباوته الشريرة. القديس مار أفرام السرياني 3. دورها في حياة نوح4 وَلَمَّا غَمَرَ الطُّوفَانُ الأَرْضَ بِسَبَبِهِ، عَادَتِ الْحِكْمَةُ فَخَلَّصَتْهَا بِهِدَايَتِهَا لِلصِّدِّيقِ فِي آلَةِ خَشَبٍ حَقِيرَةٍ. ولما غمرَ الطوفان الأرض بسببه، عادت الحكمة فخلصتها. إذ هدَتِ البارَّ بخشبٍ تافهٍ. [4] البار هنا هو نوح الذي نجا من الطوفان بالفلك. لأول مرة يذكر الكتاب المقدس أن الطوفان نتيجة للشر الذي تضاعف في الأرض بسبب قايين، وأن الله أبقى على العالم من أجل نوح البار وعائلته بواسطة خشب حقير، أي الفلك بكونه رمزًا للصليب علامة الخزي والعار واللعنة عند اليهود. ينسب الطوفان إلى الظالم "قايين" إذ يحسبه قدوة، تمثل به الأشرار في أيام نوح. وقد جاء في يوسيفوس المؤرخ اليهودي أن الأشرار هم أبناء قايين حسب التقليد اليهودي، وإن كان هذا لم يرد في الكتاب المقدس. نسب الطوفان إلى خطية قايين يبدو أنه نوع من المغالاة, لكن الكاتب يتطلع إلى بشاعة هذه الخطية مع طول أناة الله على نسل قايين، وإذ امتلأ الكيل حدث الطوفان. إن كان الأشرار بسبب عدم تمتعهم بالحكمة الإلهية فسدوا في شرورهم وتعرضوا للطوفان، فإن نوحًا في المقابل تمسك بحكمة الله، فتمتع برمز الصليب والكنيسة، أي الفلك، وخلص من الهلاك. * كان ذلك الفلك إشارة إلى الكنيسة عروس المسيح، التي هي جماعته المقدسة، وذلك مثل الفلك المجتمع بعضه إلى بعضٍ بالمسيح من أجناس كثيرة وبلدانٍ وألسنة كثيرة. جمعهم المسيح إلى الإيمان به، وجعل الكل واحدًا بروحه، مجتمعين بمحبته وحفظهم وصاياه كاجتماع خشب السفينة بعضه إلى بعض بالتسمير ووضع القار. كذلك مخافة المسيح ومحبته لدى جمع المؤمنين الخائفين والمحبين له، ولبعضهم البعض وتسميرهم بالمحبة الروحية، واتحادهم معًا. بحفظ الوصايا، حتى يكون الجميع فلكًا واحدًا، جسدًا واحدًا للمسيح. لكل منهم كما أعطاه الله من المواهب يخدم غيره ممن لم ينلها... قال الله لنوح أن يضع القار من داخل ومن خارج، أي تكون المحبة داخل قلوبهم بعضهم لبعض، تطّهر خارجهم بخدماتهم وعنايتهم وتعزيتهم بعضهم لبعض، متسمرين بمسامير مخافة الرب، وتسترهم المحبة من دخول الشيطان إليهم، كما يحمي القار السفينة من دخول الماء إليها. وكما لا يمكن أن تجمع ألواح السفينة بعضها إلى بعضٍ إلاّ بالمسامير، كذلك لا تجتمع الجماعة بألفة إلى بعضها البعض إلاّ بخوف المسيح إلهنا... ولكون الكنيسة مؤمنة بالثالوث، أشار إلى ذكر الثالوث في السفينة مكررًا من كل ناحية الطبقات الثلاث وارتفاع الثلاث مائة والثلاثين ذراعًا. القديس مار أفرام السرياني 4. دورها في حياة إبراهيمولما أجمعتِ الأمم على الشرِّ فأُخزيَت معًا، فهي التي عرَفت البارَّ، وصانته بلا عيبٍ أمام الله، 5 وَهِيَ الَّتِي عِنْدَ اتِّفَاقِ لَفِيفِ الأُمَمِ عَلَى الشَّرِّ، لَقِيَتِ الصِّدِّيقَ وَصَانَتْهُ للهِ بِغَيْرِ وَصْمَةٍ، وَحَفِظَتْ أَحْشَاءَهُ صَمَّاءَ عَنْ وَلَدِهِ. وحفظته أقوى من عاطفته الحانية لولده. [5] يشير هنا إلى البابليين الذين تكاتفوا معًا لبناء برج بابل خوفًا من تكرار الطوفان فينجوا منه. إنهم يتطلعون إلى الله كعدوٍ، بهذا جانبتهم الحكمة، فظنوا أنهم قادرون على الهروب من الله. عالجوا الأمر بالحكمة البشرية عوض الحكمة الإلهية التي تدعونا إلى الهروب من الغضب الإلهي بالارتماء في حضن الله والتمتع برحمته بالتوبة. حرمانهم من الحكمة دفع بهم إلى الخزي، حيث تبلبلت ألسنتهم، وتشتتوا في العالم (تك 11). * صفّقت الشعوب والجموع برأي واحد للبدء في عمل الإثم بقلبٍ قاسٍ، هلموا نتسلط على البلد، ونسكنه بجبروتٍ، مثل جمع حاشد لئلا يتبدد على الأراضي، لنتمسك بعضنا مع بعضٍ لئلا نضيع في البلدان. لنصير شعبا ولا نُسمى شعوبًا على الأرض، لنبنِ قرية لا يتغلب عليها الطوفان، ولنشيّد بناءً لا تجرفه الأمواج، لنبدأ بعملٍ لا تخترقه الأنهار، ولنصنع حصنا يقدر أن ينقذ من الطوفان، لنبنِ برجا لو خرجت المياه على الأرض وتصطدم به لا تُسقطه أمواجها، لنضع أساسًا لو انفتح البحر الكبير لا يحطمه أو يؤذيه بالأمواج القوية، لنؤكد ونبنِ شيئًا جديدًا لا يسقط، ولو انفتحت اللجة لا تصله، وبالحرفة لنبنِ حصنًا كبيرًا باسم الجبروت الرهيب ونصعد إلى السماء، لنصعد ونكن جيران الشمس في موضعها العالي وليكن مسكننا عندها وقريبا منها، لنصعد ونستقر في السبيل التي يعمل فيها القمر، وننظر إلى تغيير الأزمنة وهي تدور، هلموا نصعد إلى كواكب النور في سبلها، وهلموا نصنع لنا اسمًا يشتهر أكثر من اسمها، هلموا نرتفع إلى حيث تعبر القوات، ولنكن رفاقًا للمجرة الحاملة الأزمان، لنبنِ مقصورة هي بداية ونهاية: لم يكن مثلها ولن يصير ما يعادلها قط على الأرض، هلموا نصنع لنا قرية تصل إلى السماء، ونسكن هناك في الموضع العالي عن المضرات، لنصنع مصعدًا عجيبًا بواسطة جمعنا، وبه نصعد من الأرض إلى على الهواء، لنترك الغيوم ونتسلط على مكان فوقها، ولنترك الرياح ثم نرتفع إلى الأعالي، لنصنع اللبنات ولنحرقها بالنار، ولنقم عمارة من حجر لا تنهدم. القديس ماريعقوب السروجي على نقيض ذلك عاش إبراهيم وسط شعوب وثنية، حتى قبيلته كانت تعبد القمر، لكن الحكمة حفظته ليكون أبا لكل المؤمنين (حك 10: 5). بالحكمة قدم إبراهيم ابنه ذبيحة لله، حاسبًا محبته لله أعظم من محبته لوحيده، فتمتع بالبرّ.وهب الله الإنسان العقل كعطية إلهية يليق تقديسها لبنيانه في كل جوانب حياته. لكن أهل أرض شنعار أساءوا إلى العطية لأنهم لم يطلبوا حكمة الله لتقديسهم، وفي كبرياء ظنوا أنهم قادرون على مواجهة تأديبات الله بطرق بشرية. أرادوا أن يقيموا برجًا رأسه في السماء، فانحدروا بالأكثر إلى الهاوية. صورة مؤلمة لمن يرفض حكمة الله، ويتكل على حكمته البشرية الذاتية. * انظروا ما أشر العظمة والكبرياء بالحكمة! كان الجميع مجتمعين متفقين. تعظموا ففرَّقهم الله. وهكذا تفرِّق العظمة شمل كل المفتخرين... نزل الرب ليرى فعلهم. هكذا سبق فتنبأ عن نزوله بالجسد من أجل خطايا الناس في آخر الزمان... ذكر النزول لبني إسرائيل ليدربهم على ذلك ويتدرج بهم، حتى لا ينكروا النزول الحقيقي بتجسده. القديس مار أفرام السرياني يقارن الحكيم هنا بين شعب اعتمد في كبرياء على حكمتهم البشرية فتفرقوا، وبين إبراهيم الذي آمن بالله وأحبه، فقدم ابنه الوحيد ذبيحة محرقة. عاد معه اسحق الذي منه جاء من تتبارك به كل الأمم. * بالإيمان لم يتردد إبراهيم عندما قدم وحيده، الذي فيه نال المواعيد، إذ حسب أن الله قادر أن يقيمه من الأموات (عب 11: 17- 19). هكذا يقدم لنا الرسول تقريرًا عن أفكار الإنسان المؤمن، أن الإيمان بالقيامة كان قد تثبت في ذلك الحين في إسحق. لذلك ترجى إبراهيم إقامة إسحق، وآمن بما سيحدث في المستقبل ولم يكن بعد قد حدث. الآن كيف لا يؤمن أولاد إبراهيم بما يحدث فعلًا في المسيح وقد آمن به إبراهيم أنه سيحدث وذلك في إسحق؟ بالأحرى أتكلم بأكثر وضوح أن إبراهيم عرف نفسه أنه رمز لصورة الحق المقبل. لقد عرف أن المسيح سيولد من زرعه، هذا الذي سيُقدم ذبيحة حقيقية عن العالم كله وأنه يقوم من الأموات. العلامة أوريجينوس بحكمة الله، وليس بقدراته الذاتية أو فهمه أدرك إبراهيم الأمور المقبلة كأنها حاضرة في حياته. * عندما قدم إبراهيم ابنه إسحق، كان رمزًا لله الآب، بينما كان إسحق رمزًا لربنا ومخلصنا الأب قيصريوس أسقف آرل 5. دورها في حياة لوط 6 وَهِيَ الَّتِي أَنْقَذَتِ الصِّدِّيقَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْهَالِكِينَ؛ فَهَرَبَ مِنَ النَّارِ الْهَابِطَةِ عَلَى الْمُدُنِ الْخَمْسِ. 7 وَإِلَى الآنَ يَشْهَدُ بِشَرِّهِمْ قَفْرٌ يَسْطَعُ مِنْهُ الدُّخَانُ، وَنَبَاتٌ يُثْمِرُ ثَمَرًا لاَ يَنْضَجُ، وَعَمُودٌ مِنْ مِلْحٍ قَائِمٌ تَذْكَارًا لِنَفْسٍ لَمْ تُؤْمِنْ. 8 وَالَّذِينَ أَهْمَلُوا الْحِكْمَةَ، لَمْ يَنْحَصِرْ ظُلْمُهُمْ لأَنْفُسِهِمْ بِجَهْلِهِمِ الصَّلاَحَ، وَلكِنَّهُمْ خَلَّفُوا لِلنَّاسِ ذِكْرَ حَمَاقَتِهِمْ، بِحَيْثُ لَمْ يَسْتَطِيعُوا كِتْمَانَ مَا زَلُّوا فِيهِ. 9 وَأَمَّا الَّذِينَ خَدَمُوا الْحِكْمَةَ؛ فَأَنْقَذَتْهُمْ مِنْ كُلِّ نَصَبٍ. وهي التي أنقذت البار لما هلك الأشرار، وكان هاربًا من النار الهابطة على المدن الخمس. [6] البار هنا هو لوط والمدن الخمس Pentapolis التي في السهل هي: سدوم وعمورة وأدمه Admah حبوييم وبالع أو صوغر (تك 14: 2). للقديس جيروم تعليق جميل على شخصية لوط إذ يقول إنه إذ كان إيمان لوط قليلًا ذهب إلى صوغر فأنقذ بلدًا صغيرًا من الدمار، ولو كان له إيمان أعظم لأنقذ مدنًا أكثر وأكبر. أنقذت الحكمة لوطًا من النار الهابطة والدخان الصاعد من المدن الخمس والتي لم ينجً منها سوى صوغر التي صفح عنها الله لكي يسكنها لوط. وإذ فقدت امرأته الحكمة تطلعت إلى الوراء، فصارت عمود ملح. يذكر فيلون اليهودي السكندري أنه حتى أيامه كان المكان لا يزال ينبعث منه الدخان، ويرجح أن يكون في الطرف الجنوبي من البحر الميت حيث تمتد سلسلة من الجبال إلى مسافة تبلغ 8 كم، يتراكم الملح على أغليها وتُسمى جبال سدوم، كما توجد إلى الآن بعض أعمدة ملح، يطلق على إحداها امرأة لوط. لقد عاش لوط في سدوم التي اتسم شعبها بالشرور والفساد، وكما يقول بطرس الرسول: "وأنقذ لوطًا البار، مغلوبًا من سيرة الأردياء في الدعارة، إذ كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يعذب يومًا فيومًا نفسه البارة بالأفعال الأثيمة" (2 بط 2: 7- 8). كان ساكنًا في وسطهم، لكنه كان هاربًا بقلبه منهم حتى لا يشترك في آثامهم. لهذا عندما خرج لوط لم يفكر قط أن يتطلع إلى خلف نحو شعب سدوم. هرب من شرورهم، وبالتالي هرب من النار الهابطة عليهم. وقد حثنا القديس أمبروسيوسأن نقتدي به، هاربين من محبة العالم الشرير والانغماس في الشر. * ليتنا نهرب مثل لوط الذي خاف من جرائم شعب سدوم أكثر من العقوبات التي تحل بهم. بالتأكيد الإنسان القديس يختار أن يغلق منزله أمام رجال سدوم، ويهرب من عدوَى معاصيهم. عندما سكن معهم لم يتعرف عليهم، لأنه لم يعرف شرورهم، وهرب من خزيهم. عندما هرب لم يتطلع خلفه نحوهم، إذ لم يرد أن يشترك معهم. من يعتزل الرذائل ويجحد طريق حياة مواطنيه (الأشرار) يكون في حالة هروب مثل لوط. مثل هذا الإنسان لا يتطلع خلفه، بل يدخل المدينة العليا خلال طرق أفكاره، ولا ينسحب منها حتى موت رئيس الكهنة الحامل خطايا العالم. حقًا لقد مات (مسيحنا رئيس الكهنة) مرة واحدة، لكنه يموت من أجل كل شخصٍ يعتمد في موت المسيح، حتى نُدفن مع بعضنا البعض معه، ونقوم معه، ونسلك الحياة الجديدة (كو 2: 12؛ رو 6: 4). هروبك صالح إن كان قلبك لا يعمل بمشورة الخطاة وخطهم. هروبك صالح إن كانت عيناك تهربان من رؤية الكؤوس وأواني الشرب، حتى لا تتثبتان مشتاقتين إلى الخمر. هروبك صالح أن كنت لا تجاوب الجاهل على غباوته (أم 23: 33) LXX هروبك صالح أن كانت خطواتك بعيدة عن طرق الجهلاء. حقًا سرعان ما ينحرف الإنسان بالمشورات الشريرة، لكنك إن أردت أن يكون هروبك صالحًا، لتكن طرقك بعيدة عن كلماتهم. القديس أمبروسيوس ولا تزال هُناك للشهادة على شرِّهم، أرضٌ مُقفرةٌ يسطع منها دُخان، ونبات يُثمرُ ثمرًا لا ينضج في أوانه، وعمودٌ من ملحٍ قائمٌ تذكارًا لنفس لم تؤمن. [7] دخان: ربما من أجل السديم أو الضباب الخفيف الصاعد من حوض البحر الميت، أو الصهد بسبب الجو القاري. أما عن هذا النبات فيشير إليه يوسيفوس، ويدعو تفاح سدوم، نبات يظهر في تلك المنطقة يبدو للعيان أنه يؤكل، لكن داخله بودرة سوداء لا يمكن أكلها. يقول القديس أمبروسيوسأن الشيطان وسدوم كلاهما خلف الإنسان، لذا وجب على المؤمن أن يتطلع إلى قدام، لا إلى خلف، حتى يبلغ مع لوط إلى الجبل ولا يصير مثل زوجة عمود ملح. يرى العلامة أوريجينوس في لوط رمزًا للنفس الجادة في خلاصها والتي تتطلع إلى الأمام، أما زوجته فترمز للجسد الذي يود أن يعوق النفس عن اشتيقاتها الروحية وجديتها. * عندما تسير النفس نحو الخلاص، يتطلع الجسد إلى الوراء، ويطلب الملذات. قال أيضًا الرب عن هذا: "ليس أحد يضع يده على المحراث، وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله" (لو 9: 62). يضيف: "اذكروا امرأة لوط". فإنه بالحقيقة صارت عمود ملح، يظهر كعلامةٍ واضحةٍ عن الغباوة. الملح يمثل الحكمة التي فقدتها. العلامة أوريجينوس * يتطلع الله بدقة إلى الهدف الداخلي الواقعي، وذلك مثل امرأة لوط التي كانت الوحيدة بكامل إرادتها قد اتجهت نحو شر العالم. لقد تركها جامدة بلا إحساس وجعلها شبع عمود ملح، وتركها بلا قوة عاجزة عن الحركة، كتمثالٍ، ولكن ليس بدون نفع، بل صارت (مثالًا) حتى يمكن أن تُملح من لهم مدارك روحية. القديس إكليمنضس السكندري والذين حادوا عن الحكمة، لم يقتصر ضررُهم على عدم معرفة الخير، ولكنهم تركوا خلفهم للعالم ذِكْرًا لحماقتهم، بحيث لا يستطيعون كتمان عثراتِهم. [8] لكن الحكمة أنقذت خدَّامها من أتعابهم. [9] بعد أن ذكر أمثلة عن عمل الحكمة في حياة الناس منذ آدم إلى لوط، وأثر الحرمان منها، قدم في العبارتين 8 و9 حديثًا عن خطورة عدم الحكمة الصادرة عن الحماقة وكيف أن الحكمة أنقذت خدامها من أتعابهم. على هذا المنهج جاء في قوانين الرسل حديث للقديس يعقوب بن زبدي أشبه بمناجاة لله، حيث يعلن بركات عمل (حكمة) الله في بعض رجال العهد القديم ودمار من يتجنبها: [أنت هو المعرفة الأبدية، البصيرة الدائمة، السماع غير المولود، الحكمة الطبيعة... أخضعت كل الخليقة له (لآدم) ووهبته الحرية أن يجلب الطعام لنفسه بعرقه وتعبه، بينما أنت الذي جعلت ثمار الأرض تنبت وتنمو وتنضج... دعوته للإصلاح مرة أخرى وأن تفك رباطات الموت، ووعدته بالحياة بعد القيامة. ليس له وحده فقط بل وعندما نما بفيض إلى جمع لا يُحصى فإن الذين استمروا معك مجدتهم، والذين جحدوك عاقبتهم. بينما قبلت ذبيحة هابيل (تك 4) كإنسانٍ مقدس، رذلت عطية قايين قاتل أخيه، كبائسٍ ممقوتٍ. بجانب هذا قبلت من شيث أنوش (عطيتهما)، ونقلت أخنوخ، لأنك خالق البشر وواهب الحياة وسند المحتاجين ومعطي الشرائع ومجازٍ الذين يحفظونها ومؤدب الذين يعصونها. أنت الذي جلبت الفيضان على العالم بسبب جموع الأشرار (تك 6-7)، وخلصت نوحًا البار من الطوفان بالفلك (1 بط 3: 20) مع ثماني أنفس حيث نهاية جيل سابق وبداية جيل لاحق. أنت أشعلت نارًا مخيفة ضد الخمس مدن لسدوم وحوَّل الأرض المثمرة إلى بحيرة ملح للأشرار الساكنين هناك (حك 10: 6، تك 19، مز 107: 34). لكنك انتزعت لوطًا القديس من الحريق الهائل. أنت الذي خلصت إبراهيم من شر أسلافه، وأقمته وارثًا للعالم، وكشفت له عن مسيحك، وعينت ملكي صادق مقدمًا كرئيس كهنة للعبادة لك (تك12 إلخ). أنت الذي عوضت خادمك الصبور أيوب الغالب للحية التي هي ممثلة للشر. أنت الذي جعلت اسحق ابنًا للموعد، يعقوب أبًا لاثنى عشر ابنًا..] 6. دورها في حياة يعقوب 10 وَهِيَ الَّتِي قَادَتِ الصِّدِّيقَ الْهَارِبَ مِنْ غَضَبِ أَخِيهِ فِي سُبُلٍ مُسْتَقِيمَةٍ، وَأَرَتْهُ مَلَكُوتَ اللهِ، وَأَتَتْهُ عِلْمَ الْقِدِّيسِينَ، وَأَنْجَحَتْهُ فِي أَتْعَابِهِ، وَأَكْثَرَتْ ثَمَرَاتِ أَعْمَالِهِ. 11 وَعِنْدَ طَمَاعَةِ الْمُسْتَطِيلِينَ عَلَيْهِ، انْتَصَبَتْ لِمَعُونَتِهِ وَأَغْنَتْهُ، 12 وَوَقْتَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَحَمَتْهُ مِنَ الْكَامِنِينَ لَهُ، وَأَظْفَرَتْهُ فِي الْقِتَالِ الشَّدِيدِ، لِكَيْ يَعْلَمَ أَنَّ التَّقْوَى أَقْدَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وهي التي هَدَتِ البارَّ، الهارب من غضب أخيه سُبلًا مُستقيمة، وأرته ملكوت الله، وآتته معرفة المُقدَّسات، وأنجحته في أتعابه، وكثَّرت ثمرَ أعماله. [10] لم ينسب الحكيم ليعقوب الحكمة حين استخدم وسائل الخداع لنوال البكورية والبركة أو الحصول على نصيب أوفر من خاله لابان، وإنما يتحدث عنها حين قابل غضب أخيه عيسو بروح التواضع والعطاء بسخاء. بالحكمة تمتع بالسماء المفتوحة والرؤى السماوية المعزية مقابل بغض عيسو له ومحاولة قتله. يشير هنا إلى حلم يعقوب الهارب من وجه عيسو أخيه (تك 27: 41-28: 17)، حيث رأى السماء بكونها "ملكوت الله"، وهو تعبير إنجيلي يندر استخدامه في العهد القديم. لقد تمتع يعقوب برؤيا أخروية، حيث يملك الله على المؤمنين، ويقيم منهم ملكوته الإلهي. "المقدسات": تشير إلى المقدس السماوي أو إلى السمائيين المقدسين في الرب. * تأملوا ناسكًا (يعقوب)؛ كان يجري هاربًا من إنسانٍ عنيفٍ للغاية، كان هاربًا من أخيه، ووجد عونه في حجرٍ، هذا الحجر هو المسيح. هذا الحجر هو عون لكل الذين يعانون من الاضطهاد، أما بالنسبة لليهود غير المؤمنين فهو حجر عثرة وصخرة خزي (رو 9: 33؛ 1 بط 2: 8؛ إش 8: 14؛ 28: 16). هناك رأى يعقوب سلمًا قائمًا من الأرض ورأسه تبلغ السماء، وفي السماء الرب متكئ عليه، ورأى ملائكة صاعدين ونازلين (تك 28: 12- 13). انظروا لقد رأى ملائكة صاعدين، لقد رأى بولس صاعدًا. ورأى ملائكة نازلين، يهوذا الخائن يسقط بتهورٍ. رأى ملائكة صاعدين، رأى قديسين يصعدون من الأرض إلى السماء، ورأى ملائكة نازلين الشيطان وكل جيشه منطرحين من السماء. القديس جيروم ونصرته على طمع مُضايقيه وأغنته. [11] ووقته من أعدائه، وحمته من الكامنين له، ووهبته النصرة في قتالٍ شديدٍ، لكي يعلم أن التقوى أقدر من كل شيء. [12] هنا يشير إلى فترة خدمته لخاله لابان الذي كان استغله وخدعه وكان يطمع أن يصرفه فارغًا. أما أعداؤه فهم عيسو ورجاله أو لابان واخوته (تك 31: 23). يقصد بالقتال الشديد صراعه في عبر مخاضة يبوق مجاهدًا مع الله (تك 32: 22-29). سلاح يعقوب في معركته وقتاله الشديد هو التقوى التي هي أقدر من كل شيء. يحدثنا الحكيم عن أبينا يعقوب الذي وسط أتعابه وجد حجرًا يضعه تحت رأسه. ما هو هذا الحجر إلا حكمة الله المتجسد، الذي نتكئ عليه برؤوسنا لكي يقدسها، ويرفع أفكارنا إلى السماء وسط متاعبنا في هذا العالم؟ هكذا "الحكمة أنقذت خدامها من أتعابهم" [9]. * الحجر الذي تحت رأسه كان المسيح. لم يضع حجرًا من قبل تحت رأسه، وإنما فقط عندما جاء الوقت الذي فيه كان هاربًا من مضطهده. عندما كان في بيت أبيه وتمتع بوسائل الراحة للجسد، لم يكن له حجر لرأسه. لكنه ترك بيته فقرًا ووحيدًا خرج وليس معه غير العصا، وللحال في ذات الليلة وجد حجرًا ووضعه تحت رأسه. القديس جيروم * لم نقرأ عن الطوباوي يعقوب أنه رحل ومعه خيول أو حمير أو جمال، إنما نقرأ فقط أنه حمل عصا في يده... أظهر يعقوب عصاه ليأخذ لنفسه زوجة (تك 32: 10)، وحمل المسيح خشبة الصليب ليخلص الكنيسة. إذ نام يعقوب وضع حجرًا تحت رأسه ورأى سلمًا ممتدًا إلى السماء، بينما اتكأ الرب على السلم. الأب قيصريوس أسقف آرل * السلم المُثبت على الأرض ويبلغ السماء هو صليب المسيح، خلاله وهب لنا الوصول إلى السماء، بل بالفعل يقود إلى السماء. هذا السلم يحوي درجات متنوعة من الفضائل، خلالها نرتفع نحو السماء. الإيمان والبرّ والطهارة والقداسة والصبر والتقوى وكل بقية الفضائل هي درجات هذا السلم. القديس يوحنا الذهبي الفم وهب الله يعقوب ذكاءً، واستطاع أن يحاور خاله الذي خدعه، لكن تعرض يعقوب للخطر حين تعقبه خاله ومن معه من أقربائه. هنا لم يكن ممكنًا للحكمة البشرية أن تحفظ يعقوب، إنما تدخل الله نفسه، وحذر لابان من أن يفعل يعقوب سوءً (تك 34: 24 إلخ).* عجيب هو صلاح الرب. فإذ رأى الله لابان مصممًا على محاربته والدخول مع الرجل الصالح في معركة، قال له كمن يطلب منه مراجعه نيته: "احترز من أن تكلم يعقوب بخيرٍ أو شرٍ" (تك 31: 25). يقول له لا تحاول أن تضايق يعقوب ولا بكلمة قاسية بل لاحظ نفسك، راجع هجومك الشرير، اكبح غضبك، لجِّم أفكارك الثائرة... أسألكم أن تلاحظوا رأفة الله. عوض أن يأمر الله لابان أن يرجع إلى موضعه، اكتفى بتوجيهه ألا يستخدم كلمات قاسية وعنيفة مع الإنسان الصالح. ما هو السبب لذلك؟ كي يتعلم الإنسان الصالح ويختبر مدى عناية الله به. ألا ترون أنه لو رجع لابان كيف كان يمكن للرجل الصالح وزوجته أن يعرفوا هذا؟ سمح الله للابان أن يذهب ويشهد بشفتيه بالكلمات التي قيلت له من الله... هذه بالحقيقة هي علامة حكمة الله الخلاَّقة، أن يحول أعداء الحق هم أنفسهم إلى شهودٍ للحق، فيحاربون بأفواههم لجانب الحق. القديس يوحنا الذهبي الفم * يعقوب الذي طهرَّ قلبه من كل المظاهر، مظهرًا تصرفات مملوءة سلامًا، أولًا طرد كل ماله وبقى في الخلف، وصارع مع الله (تك 32: 23- 25). لأن من يترك الأمور العالمية يقترب من صورة الله ومثاله. ما هو الصّراع مع الله سوى الدخول في صراعٍ لأجل الفضيلة، وإن يجاهد مع من هو أقوى منه يصير في حالة أفضل بإقتدائه بالله أكثر من الآخرين؟ إذ كان إيمان يعقوب وتكريسه لا يُهزمان، أعلن الرب له أسراره الإلهية بلمس حق فخذه (تك 32: 26). فإنه من نسله يولد الرب يسوع من عذراء، ويسوع ليس غير مشابه ولا بأقل من الله (الآب). القديس أمبروسيوس بالحكمة الإلهية جاهد يعقوب مع الله والناس وغلب. لقد صارع حتى الفجر حيث بدأ نور شمس البرّ يشرق عليه. أما المكافأة التي نالها فهي شهوة قلب كل مؤمن حقيقي، إذ لم يُعد يُدعى يعقوب الذي يعني "يتعقب" بل "إسرائيل" وتعني "رؤية"، وكما يقول القديس أغسطينوس "اسم عظيم يحمل بركة عظيمة". * يقول الرب قي الإنجيل: "ملكوت السماوات يغتصب والغاصبون يختطفونه" (مت 11: 12)... يقول ليعقوب: "أطلقني لأنه قد طلع الفجر" (تك 32: 26)، أجابه: "لا أطلقك إن لم تباركني". وبارك يعقوب؛ كيف؟ بتغيير اسمه... انظروا إنه إنسان واحد، من جانب لًمس وجفَّ (يعقوب)، ومن جانب آخر تبارك لينال قوة (رؤية الله). القديس أغسطينوس يرى القديس كيرلس الكبيرأننا مادمنا في ليل هذا العالم نصارع، لكن إذ يحل فجر الأبدية لا يوجد بعد مجال للصراع بل لرؤية الله. * أنتم ترون كيف أنه لم يستمر في الصراع عند بدء النهار. في الواقع لا يوجد صراع للذين بالفعل عاشوا في النور. فالذين جاءوا إلى مثل هذه العظمة يليق بهم أن يقولوا: "يا الله إلهي أترقبك من النور" (مز 62: 2) LXX. وأيضًا: "في الصباح تسمع صوتي، انتظرتك وستراني" (مز 5: 4) LXX. عندما يشرق نور البرّ، أي المسيح في عقولنا ويُقدم بهاءه في قلوبنا، عندئذ ننتظر كنفوسٍ نبيلةٍ، ونتأهل للاهتمام الإلهي: "عينا الرب على الأبرار" (مز 34: 15). عند الفجر يتوقف الصراع. القديس كيرلس الإسكندري 7. دورها في حياة يوسف 13 وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَخْذُلِ الصِّدِّيقَ الْمَبِيعَ، بَلْ صَانَتْهُ مِنَ الْخَطِيئَةِ، وَنَزَلَتْ مَعَهُ فِي الْجُبِّ. 14 وَفِي الْقُيُودِ لَمْ تُفَارِقْهُ، حَتَّى نَاوَلَتْهُ صَوَالِجَةَ الْمُلْكِ، وَسُلْطَانًا عَلَى الَّذِينَ قَسَرُوهُ، وَكَذَّبَتِ الَّذِينَ عَابُوهُ، وَأَتَتْهُ مَجْدًا أَبَدِيًّا. وهي التي لم تترك البارَّ الذي باعوه، بل نشلته ُمن الخطيئة، ونزلت معه في الجب. [13] إذ سلم يوسف نفسه للحكمة بروح التقوى، أنقذته من الجب، ونشلته من إغراءات امرأة فوطيفار وسندته في السجن، وصعدت به إلى العرش، وقدمت له مجدًا عظيمًا! لم يتعلم يوسف الحكمة البشرية والسحر، لكنه بالتقوى غلب الحكماء والمشيرين والسحرة، وصار شاهدًا لعمل حكمة الله في أرض غريبة! صار بسيرته وسلوكه، معلمًا الشيوخ الحكمة (مز 105: 17-22). ماذا يعني الحكيم بقوله إن "الحكمة لم تترك البار [13]، ولم تفارقه [14]؟ حين بيع يوسف البار وحين وضع في القيود، كانت الحكمة ملازمة له، لأنه كان رمزًا للسيد المسيح الذي بيع كعبدٍ خلال خيانة تلميذه يهوذا له، ووضع في القيود حين قُدم للمحاكمة. جاءت حياة هذا البار تحمل صورة رائعة كرمز للسيد المسيح من جوانب متعددة، يكفي أن أذكر ما كتبه القديس أفراهاطكمثالٍ لما ورد في كتابات الآباء في هذا الشأن. * كان يوسف مضطَهدًا، وكان إخوته هم المضطهِدِين. يوسف تمجد، ومضطِهدوه سجدوا له، فتحققتِ أحلامه ورؤياه. كان يوسف المُضطَهد رمزًا ليسوع المُضطَهد. يوسف ألبسه والده قميصًا بألوان كثيرة، ويسوع ألبسه أبوه جسدًا من البتول. يوسف أحبه أبوه أكثر من إخوته، ويسوع هو العزيز المحبوب لدي أبيه. رأى يوسف رؤى وحلم أحلامًا، وتحققت الرؤى والأنبياء في يسوع. كان يوسف راعيًا مع إخوته، ويسوع هو رئيس الرعاة. عندما أرسله أبوه ليفتقد إخوته رأوا يوسف قادمًا وخططوا لقتله، وعندما أرسل الآب يسوع ليفتقد إخوته قالوا: "هذا هو الوارث، هلم نقتله" (مت 21: 38). ألقي إخوة يوسف أخاهم في الجب، ويسوع أنزله إخوته ليسكن بين الموتى. يوسف صعد من الجب، ويسوع قام من بين الأموات. يوسف بعد أن قام من الجب صار له سلطان على إخوته، ويسوع بعد أن سكن بين الأموات أعطاه أبوه اسمًا عظيمًا ممجدًا (في 2: 9) ليخدمه إخوته ويخضع أعداؤه تحت قدميه. يوسف بعد أن عرفه إخوته خجلوا وخافوا واندهشوا أمام عظمته، وعندما يأتي يسوع في آخر الزمان، ويعلن عظمته سيخجل إخوته ويخافون ويرتعبون أمامه لأنهم صلبوه. علاوة على هذا فإن يوسف بيع إلى مصر بناء على مشورة يهوذا، ويسوع سُلم لليهود بيدي يهوذا الإسخريوطي. عندما باعوا يوسف لم يجب إخوته بكلمة، ويسوع أيضًا لم ينطق ولا أجاب على القضاة الذين حاكموه. يوسف سلمه سيده للسجن ظلمًا، ويسوع أدانه أبناء شعبه ظلمًا. سلم يوسف ثوبيه، واحد في أيدي إخوته، والآخر في يد زوجة سيده، ويسوع سلم ثيابه وقسمت بين الجند. يوسف إذ كان في الثلاثين من عمره وقف أمام فرعون وصار سيد مصر، ويسوع إذ بلغ الثلاثين جاء إلى الأردن ليعتمد وقبل الروح وخرج يكرز. يوسف عال مصر بالخبز، ويسوع عال العالم كله بخبز الحياة. يوسف أخذ ابنة الكاهن الشرير النجس زوجة له، ويسوع خطب لنفسه الكنيسة من الأمم النجسين. مات يوسف ودُفن في مصر، ومات يسوع ودُفن في أورشليم. عظام يوسف أصعدها إخوته من مصر، ويسوع أقامه أبوه من مسكن الموت ولبس جسده وارتفع به إلى السماء في غير فساد. القديس أفراهاط الحكيم الفارسي ولم تُفارقه في القيود، حتى أتته بصولجان المُلك، وبسلطانٍ على الذين كانوا مُتسلطين عليه، فكذَّبت الذين كانوا يأخذون عليه المآخذ، وآتته مجدًا دائمًا. [14] لازمته الحكمة في قيوده لتدخل به إلى المجد، فعوض كونه سجينًا صار صاحب سلطان، يمد الذين تسلطوا عليه بالمؤنة، ولعله يقصد هنا فوطيفار وأهل بيته، والسجان ومن معه، وأيضًا إخوته الذين كانوا يطلبون قتله وباعوه عبدًا. كان البعض يتطلعون إليه كمجرمٍ مُلقى في السجن، ويحسبون ما حلّ به علامة شره وغضب الله عليه، لكن حكمة الله (الله الكلمة) كشف عن برِّه، أعلن أن آلامه وضيقاته لم تكن إلا لمجده في هذا العالم كما في العالم العتيد، إذ "أتته مجدًا أبديًا. * انظروا كيف حدث فجأة أن السجين يصير ملكًا على كل مصر؛ الذي أُرسل إلى السجن بواسطة رئيس الشرطة رفعه الملك إلى أعلى مرتبة. تطلع سيده السابق، فرأى فجأة أن الرجل الذي ألقاه في السجن كزانٍ قد كوفئ بنوال سلطانٍ على كل مصر. ألا ترون أهمية احتمال التجارب بشكر؟ لهذا يقول بولس: "الضيق ينشئ صبرًا، والصبر تزكية، والتزكية رجاءً، والرجاء لا يخزى" (رو 5: 3- 5). لاحظوا: يوسف احتمل الضيق بصبرٍ، والصبر قدم له تزكية، والتزكية عملت في رجاءٍ، والرجاء لم يجعله يخزى. القديس يوحنا الذهبي الفم * ما هو معنى الخاتم الذي وضع في إصبعه (تك 41: 42)؟ إنه فقط لكي نفهم أن مركز الأسقفية بالإيمان قد منح له حتى يستطيع أن يختم آخرين. وماذا عن الثوب إلا أنه ثوب الحكمة؟ هذا وحده الذي التفوق في الحكمة الذي وهبه له ملك السماء. يظهر طوق الذهب ليمثل الفهم الصالح. والمركبة (تك 41: 43) أيضًا تشير إلى الأعالي المجيدة التي تأهل لها. القديس أمبروسيوس * "أسرعوا به من السجن، فحلق رأسه، وأبدل ثيابه" (تك 41: 14)، حينئذ أمكن دخوله إلى الملك. هكذا من كان مربوطًا في حبس الخطية، وأسيرًا في شهوات العالم، بعيدًا عن الله، لا يمكنه أن يصل إليه حتى يخرج من ذاك الحبس النجس، أعني يترك فعل الخطية، ويحلق فضولات شعر رأسه التي هي أفكار عقله المحبة للخطية، ويستبدل ثيابه التي هي أعماله الرديئة بأعمال صالحة. فمن نقَّى قلبه من الأفكار الرديئة هكذا، وأبدل أعماله الخاطئة بأعمالٍ بارة، يستحق الدخول إلى المسيح، ملك الملوك، والتناول من جسده ودمه الكريم. القديس أفرام السرياني 8. دورها في حياة الشعب15 وَهِيَ الَّتِي أَنْقَذَتْ شَعْبًا مُقَدَّسًا، وَذُرِّيَّةً لاَ وَصْمَةَ فِيهَا مِنْ أُمَّةِ مُضَايِقِيهِمْ. 16 وَحَلَّتْ نَفْسَ عَبْدٍ لِلرَّبِّ، وَقَاوَمَتْ مُلُوكًا مَرْهُوبِينَ بِعَجَائِبَ وَآيَاتٍ. 17 وَجَزَتِ الْقِدِّيسِينَ ثَوَابَ أَتْعَابِهِمْ، وَقَادَتْهُمْ فِي طَرِيقٍ عَجِيبٍ، وَكَانَتْ لَهُمْ ظِلاًّ فِي النَّهَارِ، وَضِيَاءَ نُجُومٍ فِي اللَّيْلِ. 18 وَعَبَرَتْ بِهِمِ الْبَحْرَ الأَحْمَرَ، وَأَجَازَتْهُمُ الْمِيَاهَ الْغَزِيرَةَ. 19 أَمَّا أَعْدَاؤُهُمْ فَأَغْرَقَتْهُمْ، ثُمَّ قَذَفَتْهُمْ مِنْ عُمْقِ الْغِمَارِ عَلَى الشَّاطِئِ؛ فَسَلَبَ الصِّدِّيقُونَ الْمُنَافِقِينَ، 20 وَرَنِّمُوا لاِسْمِكَ الْقُدُّوسِ، أَيُّهَا الرَّبُّ، وَحَمِدُوا بِقَلْبٍ وَاحِدٍ يَدَكَ النَّاصِرَةَ، 21 لأَنَّ الْحِكْمَةَ فَتَحَتْ أَفْوَاهَ الْبُكْمِ، وَجَعَلَتْ أَلْسِنَةَ الأَطْفَالِ تُفْصِحُ. يختم السفر كله بحديثٍ مسهب يوضح به كيف حفظت العناية الإلهية الشعب خلال أحداث الخروج بكونها أهم حدث في تاريخ الشعب، كرمز للخروج الذي يتمتع به العالم خلال المصلوب. أوضح الكاتب العناية الإلهية خلال أمثلة تحمل مقابلات. جاء هذا الفصل أشبه بعظة أو مجموعة عظات تفسيرية لسفر الخروج. وهي التي أنقذت شعبًا بارًا، وذرية لا عيب فيها، من أمة مضايقين. [15] بعد أن تحدث عن عمل حكمة الله في حياة الأفراد، ليكشف عن اهتمامه بكل شخص، يتحدث عن الحكمة الإلهي الذي ينقذ الشعب المقدس. يدعو الله شعبه "شعبًا مقدسًا، "ذرية لا عيب فيها"، لأنه يقدس شعبه ويطهرهم من كل خطية. ويدعو مصر التي سخرتهم وأذلتهم "أمة مضايقين". حقًا لا يكف العالم عن أن يمرر حياة الكنيسة الحقيقية بالظلم في قسوة (خر 1: 14)، لكن الله يعتز بها بكونها كنيسته المقدسة المتألمة التي بلا لوم، فيدعوها: كلكِ جميل يا حبيبتي، ليس فيك عيبه" (نش 4: 7). فإنها لن تسمع هذا المديح من الفم الإلهي ما لم تشارك عريسها - حكمة الله - آلامه وصلبه. * يقول العريس: "أذهب إلى تل المر وإلى جبل اللبان" (نش 6:4)... بعد ما ذاق المسيح الموت عن الخطاة (رو 8:5). خلصت الطبيعة البشرية من وصمة الخطية بعد أن رفع حمل الله خطية العالم وحطم الإثم (يو 29:1). لذلك يقول النشيد "كلك جميل يا حبيبتي ليس فيك عيبة" ويضيف إلى ذلك سرّ الانفعال الذي يرمز إليه المرّ ثم يذكر خليط الأعشاب العطرة والبخور التي تُشير إلى ألوهية المسيح. أن الذي يشارك المسيح في المرّ سوف يحصل على رائحة الأعشاب العطرة والبخور، لأن الذي يتألم معه سينال المجد معه (رو 17:8). وعندما يكون في المجد الإلهي سيحصل على الجمال الكامل ويكون بعيدًا جدًا عن كل عيبٍ بغيضٍ. بواسطة المسيح ومن خلال المسيح تنفصل عن الخطية. إنه مات وقام من الأموات لأجلنا. القديس غريغوريوس النيسي هكذا أنقذ حكمة الله الشعب بقبوله الصلب، حتى يُصلب الشعب معه، ويقوم معه في مجدٍ فائق، ويتأهل المؤمنون الحقيقيون للسماء. لقد أذل فرعون الشعب وسخره للعمل في الطين وبناء ثلاث مدن، مستعبدًا إياهم. وهو في هذا يمثل عمل عدو الخير مع البشرية، بني آدم. * كان فرعون يستعبد بني إسرائيل في بناء مدنٍ له. كان فرعون يوكل مسخرين من جنوده ببني إسرائيل، يستحثونهم على أعماله. وكان إبليس يوكل ببني آدم شياطين يستحثونهم على أعماله الرديئة في أعمال الخطية. كان فرعون يوكل جنوده ليستعبدوا بني إسرائيل على عمل الطوب، وكان إبليس يستحث بني آدم في الأعمال الأرضية السفلية. ذكر الكتاب المقدس أن بني إسرائيل بنوا لفرعون مدنًا عظيمة (خر 1: 11)... وتستحث الشياطين بني آدم ليقيموا خطايا عظيمة هي أصل كل الشرور: محبة الفضة، وشهوات الجسد، والمجد الباطل. القديس مار أفرام السرياني حقًا ماذا نتوقع من قلب فرعون الترابي المملوء وحلًا إلا أن يصدر أوامره بتسخير بني إسرائيل في عمل الطين؟* فإن الشيطان الذي يؤذي الناس ويفسدهم يهتم بشدة بألا يتطلع رعاياه إلى السماء، بل أن ينحنوا إلى الأرض ويصنعوا الطوب اللبن - داخل أنفسهم - من الطين. ومن الواضح للجميع أن ما ينتمي إلى المتعة المادية يتكون بالتأكيد من التراب والماء، وينطبق هذا على من يهتم بشهوة الطعام أو شهوة المال والثروة. يتحول مزيج هذين العنصرين - التراب والماء - إلى طين. ومن يشتاقون إلى الملذات يكونون كمن يشتاقون إلى الطين، ويظلون يملأون أنفسهم منه، ومع ذلك لا يمتلئون أبدًا، ويصبح المكان الذي يستقبل الطين فارغًا قبل أن تصب فيه المرة التالية. وبنفس الطريقة يظل صانع الطوب يصب مزيدًا من الطين في القالب والقالب يفرغ باستمرار. ويمكن للجميع بسهولة أن يفهموا معنى هذه الصورة البلاغية بالنظر إلى الجانب الشهواني للنفس. الذي يتبع رغباته وما يشتهيه إذا حقق رغبة له ثم تحول برغبته إلى شيء آخر يجد نفسه فارغًا مرة أخرى من ناحية هذا الشيء، وإذا امتلأ منه يعود فارغًا كإناء فارغ في طلب شيء آخر وهكذا. ونحن لا نتوقف عن هذا إلى أن نرحل من هذه الحياة المادية. وبالنسبة للقش والتبن الذي كان يجب على الخاضعين لأوامر الطاغية أن يخلطوه بالطوب اللبن، فإن كلا من الإنجيل المقدس والصوت السامي للرسول (بولس) يفسرانهما بأنهما مواد للحرق (حز 5: 4؛ مت 3: 12). القديس غريغوريوس النيسي وحلت في نفسَ عبدٍ الربَ، وقاومت مُلوكًا مرهوبين بخوارق وآيات. [16] إن كانت حكمة الله قد أقامت موسى النبي قائدًا لخلاص شعبه، فإن سرّ القوة لا في شخص موسى، وإنما في حكمة الله التي حلت في نفسه بكونه عبد الرب، أما مقاومة فرعون ورجال جيشه فلم تكن عن حكمة موسى البشرية، ولا خططه، ولا قدراته، إنما الذي صد الهجمات المستمرة هو "حكمة الله". ما حدث مع موسى النبي لتحقيق الخروج كان رمزًا لتحقيق خروجٍ من أسر إبليس إلى الحضن الإلهي. إنه رمز لما يتمتع به المؤمنون بالمسيح يسوع مخلص العالم، والنصرة الفائقة لهم على إبليس ومملكته. وما تم من آيات وعجائب مثل الضربات العشر، هي من عمل حكمة الله. أما وسيلته للتمتع بعمل الحكمة فهي الإيمان مع الصلاة. استخدم صيغة الجمع يشير إلى مقاومة الملوك المحيطين بهم أثناء تجولهم في البرية بجانب مقاومة فرعون لهم وهم في مصر وبعد خروجهم مباشرة.وربما يقصد بالملوك حكام أقاليم مصر. * بالفصح خرج هؤلاء من عبودية فرعون، ونحن في يوم الصلب نخلص من عبودية الشيطان. هم ذبحوا حملًا من القطيع، وبدمه نجوا من المفسد، ونحن خلصنا بدم ابن مختار من أعمال الفساد التي عملناها. كان لهم موسى قائدًا، ونحن لنا يسوع هاديًا ومخلصًا. شق لهم موسى البحر وأجازهم، وأما مخلصنا فشق الجحيم وحَّطم أبوابه، ودخل إلى الداخل وفتحها. ورسم الطريق أمام كل الذين يؤمنون به. وهبهم موسى الماء من الصخرة، وأجرى لنا مخلصنا الماء الحيّ من صدره. وعدهم موسى بأرض الكنعانيين ميراثًا، ووعدنا ربنا بأرض الحياة ملكًا. رفع موسى حيَّة نحاسية، كل من ينظر إليها يبقى حيًا بالرغم من لدغة الحية. وعلق يسوع نفسه وكل من يتطلع إليه ينجو من جرح الحية التي هي الشيطان. صنع لهم موسى الخيمة الوقتية ليقدموا فيها الذبائح والقرابين، فيطهروا من خطاياهم. وأقام يسوع خيمة داود الساقطة (عا 9: 10؛ أع 15: 16) وقام. وقد قال لليهود: "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه" (يو 2: 19). وقد فهم تلاميذه إنه تحدث عن جسده الذي يقيمه بعد ثلاثة أيام حين يقتلونه. ففي هذه الخيمة وعدنا بالحياة وبها تطهر خطايانا. دعا خيمتهم خيمة وقتية، لأنها تخدم زمنًا قصيرًا، ودعا خيمتنا هيكل الروح القدوس الذي يدوم إلى الأبد (1 كو 3: 16؛ 6: 19). * أخرج موسى شعبه من خدمة فرعون، وخلّص يسوع الشعوب من خدمة الشيطان. ترَّبي موسى في بيت فرعون، وتربي يسوع في مصر حين هرب به يوسف إلى هناك. وقفت مريم على حافة النهر حين طاف موسى فوق الماء، وحملت مريم بيسوع حين بشرها الملاك جبرائيل. حين ذبح موسى الحمل قتل أبكار المصريين، وصار يسوع الحمل الحقيقي حين صلبوه، وبموته مات الشعب القاتل. أنزل موسى المن لشعبه، ووهب يسوع جسده للشعوب. بالخشبة حلَّى موسى المياه المرة، وبصليبه حلَّى يسوع مرارتنا بخشبة شجرة صليبه. أنزل موسى الناموس لشعبه، ووهب يسوع عهوده للشعوب. قهر موسى عماليق عندما بسط يديه، وقهر يسوع الشيطان بعلامة الصليب. أخرج موسى لشعبه مياهًا من الصخرة، وأرسل يسوع سمعان صفا ليحمل تعليمه بين الشعوب. رفع موسى البرقع عن وجهه وتكلم مع الله، وأنتزع يسوع البرقع عن وجه الشعوب ليسمعوا تعليمه ويقبلوه. وضع موسى يده عل رسله فقبلوا الكهنوت، ووضع يسوع يده على رسله فنالوا الروح القدس. صعد موسى الجبل، ومات هناك، وصعد يسوع إلى السماء، وجلس عن يمين الآب. القديس أفراهاط الحكيم الفارسي * عندما رأى موسى أن جميع الرعية (المصريين) كانوا متفقين مع قائدهم (فرعون) في شره، أوقع ضربة على كل المصريين ولم ينجُ أحد من الكوارث (خر 7: 17 إلخ). وكانت عناصر الكون كلها - الأرض والماء والهواء والنار التي تدخل في كل شيء في الوجود - تتعاون معه في هذا الهجوم على المصريين، وكأنها جيش ينفذ الأوامر، وغيرت هذه العناصر قوانينها الطبيعية لخدمة الأغراض البشرية. ففي نفس الوقت والمكان وبنفس القوة كان الخطاة يعاقبون وغير الخطاة لا يعانون من شيء.القديس غريغوريوس النيسي وجازتِ القديسين ثواب أتعابهم، وهَدَتْهم طريقًا عجيبًا، وكانت لهم ملجأً في النهار، وضياءَ نُجومٍ في الليل. [17] يشير هنا حتى إلى الجزاء المادي حيث اخذوا الأشياء الثمينة التي للمصريين مقابل استعبادهم وحرمانهم من حقوقهم (خر 3: 21- 22؛ 11: 2-3؛ 12: 35-36). ولعله يشير بالمجازاة التحرر من العبودية. "ملجأ في النهار"، حيث كانت السحابة مرشدًا لهم وفي نفس الوقت ملجأ لحمايتهم من حرّ الشمس. "يخلق الرب على كل مكانٍ من جبل صهيون وعلى محفلها سحابة نهارًا، ودخانًا ولمعان نار ملتهبة ليلًا، لأن على كل مجدٍ غطاء؛ وتكون مظلة للفيء نهارًا من الحرّ ، وملجأ ومخبأ من السيل ومن المطر" (إش 4: 5-6). فسر الحكيم هنا ظهور ظهور الرب كسحابة تظللهم نهارًا وعمود نار يضيء لهم ويقودهم أنه هو الحكمة أو حكمة الله (الذي تجسد فيما بعد ليخلص العالم). * أرسلت القوة الإلهية سحابة تقود الشعب (خر 13: 21-22)، ولم تكن هذه سحابة عادية، لأنها لم تكن مكونة من أبخرة كالسحب العادية ولم تكن تشكيلًا ضبابيًا تكون من ضغط الرياح على الأبخرة، بل كانت شيئًا يتجاوز الفهم البشري. ويشهد الكتاب المقدس بأنه كان هناك شيء غير عادي في هذه السحابة، فعندما كانت أشعة شمس الظهيرة تسطع بحرارةٍ شديدةٍ، كانت السحابة مأوى للشعب تظلل من تحتها، وترطب حرارة الجو النارية بندى خفيف. وأثناء الليل كانت تتحول إلى نار تقود الإسرائيليين - كما في موكبٍ - بضوئها من الغروب إلى الشروق. القديس غريغوريوس النيسي وعبرت بهم البحر الأحمر، وجازت بهم غزيرَ المياه. [18] الطريق الذي اختارته الحكمة للخروج من مصر والعبور إلى أرض الموعد هو العبور بهم البحر الأحمر واجتيازهم مياه غزيرة. لم يكن هذا هو الطريق بحسب المنطق البشري، إذ وُجد طريق سهل وممهد في ذلك الحين، الذي في جهة العريش حيث يبلغون الأردن مباشرة. لم يكن يدرك أحد السرّ في ذلك، إذ لم يكن ممكنًا لهم دخول أرض الموعد إلاَّ من خلال هذا الطريق للأسباب التالية: 1. عبور البحر الأحمر كرمز للتمتع بالمعمودية، حتى يعبر المؤمنون إلى كنعان السماوية. 2. الدخول في ضيقات وحروب، فيهلك فرعون وجنوده إشارة إلى هلاك إبليس وملائكته. وينهزم عماليق وغيرهم من الأمم، بكونهم رمزًا للخطايا التي يجب أن يسحقها بقوة الصليب خلال جهادنا بنعمة الله. 3. بقاء الشعب أربعين عامًا حتى ينسوا تمامًا كل خبرة الوثنية التي تلامسوا معها في مصر 4. لكي يموت موسى ويتسلم يشوع القيادة، فإنه لا دخول إلى الأبدية ما لم تمت حرفية الناموس ونحيا بالروح تحت قيادة ربنا يسوع (يشوع). 5. التمتع بخبرة التسبيح وسط البرية. 6. التمتع بالمنّ السماوي كرمز للتناول من جسد الرب ودمه. 7. التمتع بالاحتماء تحت جناحي الرب (السحابة) والاستنارة بروحه القدوس (عمود النار ليلًا). * في ذلك العبور كان عمود السحاب مرشدًا. وقد أحسن من قبلنا بتفسير عمود السحاب على أنه رحمة الروح القدس، الذي يرشد المستحقين نحو الخير، ومن يتبع الروح القدس يعبر المياه، حيث أن المرشد يصنع له فيها طريقًا، وبهذه الطريقة يقوده بأمان إلى الحرية، أما الذي يطارده ليعيده إلى العبودية فيهلك في الماء. لا يجب أن يجهل من يسمعون هذا سرّ الماء. فالذي ينزل الماء مع جيش العدو يخرج وحده تاركًا جيش العدو يغرق في الماء. القديس غريغوريوس النيسي أما أعداؤُهم فأغرقتهم، ثُم قذفتهم من قاع العمق. [19] * كان موسى يراقب السحابة بنفسه وعلَّم الشعب كيف تظل في مجال الرؤية بالنسبة لهم (خر 14: 16-22). وبعد أن أرشدتهم السحابة طوال مسارهم، وصلوا إلى البحر الأحمر، حيث أحاط المصريون القادمون من خلفهم بكل جيشهم بالشعب. ولم يكن هناك مهرب من هذا الرعب متاحًا أمام الإسرائيليين من أي اتجاه لأنهم كانوا محصورين بين أعدائهم والمياه. وعندئذ قام موسى - مدفوعًا بقوة إلهية - بتنفيذ أعجب عمل لا يكاد يُصدق على الإطلاق، فقد اقترب من الشاطيء وضرب البحر بعصاه. وانشق البحر من الضربة، تمامًا كما يسري شرخ يحدث في الزجاج عند أية نقطة إلى الحافة. انشق البحر كله بهذه الطريقة من أعلى بفعل العصا، وسرى الشق في المياه حتى وصل الشاطيء المقابل. وفي المكان الذي انشق فيه البحر نزل موسى إلى العمق مع كل الشعب دون أن يبتلوا، وكانت أجسامهم ما زالت مغمورة بضوء الشمس. وبينما كانوا يعبرون الأعماق سيرًا على الأقدام على القاع الجاف، لم يقلقوا من منظر الماء الممتد إلى أعلى بهذا القرب منهم على الجانبين، لأن البحر كان قد ثبت مثل جدارٍ على كلا الجانبين. وعندما طاردهم فرعون والمصريون ونزلوا وراءهم في البحر في الممر الذي انشق حديثًا، انضمت جدران الماء مرة أخرى، واندفع البحر ليأخذ شكله السابق، وأصبح كتلة مائية واحدة (خر 14: 23-31). وفي ذلك الوقت كان الإسرائيليون قد بلغوا الضفة الأخرى بعد السير الطويل والمُجهِد في البحر، وعندئذ أنشدوا تسبحة النصرة لله الذي صنع فعلًا عظيمًا بدون سفك دم من ناحيتهم، حيث دمر كل جيش المصريين في الماء، كل الخيل والمشاة والمركبات. * من هو ذاك الذي لا يعرف أن الجيش المصري بجياده ومركباته وسائقيها ورماته (بالقلاع والأقواس) وجنوده المسلحين بأسلحة ثقيلة وباقي قوات العدو في خط المعركة هم رمز للأهواء المختلفة للنفس التي تستعبد الإنسان، فإن الدوافع الفكرية والميول الحسية غير المنضبطة للمتعة والألم والجشع مشابهة تمامًا للجيش الذي ذكرناه. والسباب والشتيمة هما مثل الأحجار التي تُرْمَى بالقلاع، والتهور هو سن الرمح المتحرك. أما حب المتعة فهو يتمثل في الجياد التي تجر المركبة بدافع لا يمكن مقاومته. نقرأ في التاريخ بسفر الخروج أن المركبة كان بها ثلاثة يقودونها يسمون "القادة"، وحيث أنك قد تعلمت من قبل سرّ قائمي الباب وعتبته العليا، فتدرك أن هؤلاء الثلاثة الذين تحملهم المركبة يماثلون التقسيم الثلاثي للنفس: العقلاني والعاطفي والروحي. يندفع كل الجيش في الماء مع الإسرائيليين الذين تقدموه في العبور المهلك (للجيش). عندئذ نجد عصا الإيمان تقود الطريق وعمود السحاب يعطي ضوءً، ويعطي الماء والحياة لمن يجدون فيه ملجأً، ويهلك مطارديهم. يعلمنا التاريخ (الكتاب) هنا عن نوع الناس الذين سيعبرون الماء ولا يأخذون معهم أيًا من جيش الأعداء وهم يخرجون من الماء. فإنه لو خرج العدو معهم من الماء فسيستمرون في العبودية بعد خروجهم حيث أحضروا الطاغية حيًا معهم ولم يغرقوه في الماء. وإذا أراد أحد توضيح الرمز في هذه الصورة فإن الواضح هو أن الذين يمرون في ماء المعمودية المقدس يجب أن يقتلوا جيش الشر كله، هذا الجيش الذي يشمل الجشع والرغبات غير المنضبطة وأفكار الطمع وأهواء الغرور والصلف، والتهور، والغضب، والحقد والحسد وكل هذه الأشياء. وحيث أن الأهواء بطبيعتها تتبع طبيعتنا، فإننا يجب أن نقتل في الماء الميول الوضيعة للعقل والأعمال التي تنتج عنها. القديس غريغوريوس النيسي ولذلك فالأبرار سلبوا الأشرار، وأشادوا باسمك القدوس أيها الرب. وحمدوا بقلبٍ واحدٍ يدك التي حمتهم. [20] لم يذكر سفر الخروج مصير جيش فرعون بعد غرقه في البحر. هنا يذكر أن الجثث بعد أن غاصت إلى الأعماق طفت فوق المياه, وقام الإسرائيليون بسلب ما بالجثث الميتة. جاء هذا التقليد في يوسيفوس، ألا وهو سلب العبرانيين ما كان لدى المصريين الذي ماتوا غرقى في البحر الأحمر، الأمر الذي لم يرد في سفر الخروج. * عندما طاردهم فرعون والمصريون ونزلوا ورائهم في البحر في الممر الذي انشق حديثًا، انضمت جدران الماء مرة أخرى، واندفع البحر ليأخذ شكله السابق، وأصبح كتلة مائية واحدة (خر 14: 23-31). وفي ذلك الوقت كان الإسرائيليون قد بلغوا الضفة الأخرى بعد السير الطويل والمُجهِد في البحر، وعندئذ أنشدوا تسبحة النصرة لله الذي صنع فعلًا عظيمًا بدون سفك دم من ناحيتهم، حيث دمر كل جيش المصريين في الماء، كل الخيل والمشاة والمركبات. القديس غريغوريوس النيسي لأن الحكمة فتحت أفواه الخرس، وأوضحت ألسنة الأطفال. [21] جاء في الترجوم أن بعض أطفال العبرانيين الذين هُددوا بالموت في مصر حملتهم ملائكة إلى البرية، واشتركوا فيما بعد في الرحلة في البرية. لعل الأطفال اشتركوا مع الشعب في التسبيح (خر 15). من وحي الحكمة 10 حبك فائق يا أيها الساهر على شعبك! * خلقت كل شيء لتعد القصر لأبي آدم، أتيت به إلى جنة عدن كقصرٍ ملوكيٍ. أحببته وقدمت له كل سلطان. وعندما سقط لم تتخلَ عنه. قدمت له الوعد بالخلاص. أتيت من أجله ومن أجل بنيه، وحملت صليب العار لأجل خلاصهم. لك المجد يا آدم الثاني، أب البشرية! * أرسلت نارًا التهمت ذبيحة هابيل، تنسمتها رائحة سرور ورضى. لكن أخاه التعس اعتزلك. فملك الغضب عليه، وقتل أخاه! هب لي ألا أسحب يدي من يدك. ولا أغلق باب قلبي أمامك. فأحب إخوتي حتى المقاومين لي. * فاحت رائحة الفساد والرجاسات في العالم. ولم يُعد من أملٍ للإصلاح، إذ كانت البشرية تستخف بخالقها. تطلعت من السماء فاحتضنت نوحًا البار. أعددت له فلكًا، وأغلقت عليه بنفسك. وسط الطوفان كان نوح محفوظًا في قلبك. وسط الدمار الشامل، كان الفلك موضع إعجاب السمائيين. احملني في صليبك فلك الخلاص، ليس من ينقذني سوى صليبك، يدخل بي إلى الكنيسة، سفينتك المقدسة! * أعطى الشعب ظهورهم لك، عوض الحكمة الإلهية، طلبوا المكر البشري. قرروا أن يبنوا برجًا رأسه في السماء، يحميهم من طوفانٍ قادمٍ مدمرٍ! يا للغباوة! تشتتوا وتفرقوا. عوض انطلاقهم إلى السماوي، صاروا أممًا متحاربة بلا سلام! * وسط العالم كله وُجد إبراهيم خليلك. أحبك واقتناك. بفرح أراد تقديم ابنه الوحيد ذبيحة محرقة. فأقمت من ابنه شعبًا لك. وتجسدت من العذراء مريم التي من نسله. لك المجد يا من بك تتبارك كل الأمم. * وسط سدوم الفاسدة عاش لوط وعائلته. كان البار يعذب نفسه بأعمالهم الأثيمة. اقتناك، فلم يستطع أن يشترك معهم في شرورهم. وحين أخرجته منها، وأنزلت نارًا عليها، لم يفكر قط في التطلع إليها، ولا حتى من أجل حب الاستطلاع. عاش وسطهم وقلبه في عزلة من فسادهم، فكيف بعد خروجه ينظر إليهم؟ امرأته حرمت نفسها منك. رجع قلبها إلى سدوم، ونظرت إلى خلف. فقدت كل إحساس، فصارت عمود ملحٍ. صارت تمثالًا يشهد عن كل نفس تُحرم من الاتحاد بك! في حماقتها صارت هي نفسها شهادة للحماقة والجهالة! * اقتناك أبونا يعقوب واتكأ عليك. وسط ضيقاته المرة وجدك حجر الزاوية، وضع رأسه عليك، فانفتحت بصيرته. رأى صليبك سلمًا يصعد به إلى السماء. بك تحولت البرية له إلى سماءٍ مفتوحة. أبغضه أخوه، فشاهد ملائكة نازلين إليه يرافقونه. ورأى ملائكة صاعدين به ليتمتع بك. تحولت مرارة نفسه إلى عذوبة فائقة. * لم يقتنك لابان خاله وحماه، فوضع في قلبه أن ينتقم من يعقوب. عوض روح الانتقام أقمت منه شاهدًا على حبك وعملك مع يعقوب! لم تأمره أن يرجع مع رجاله إلى حيث كان، بل أمرته أن يلتقي بيعقوب، ويشهد لك أنك ترعاه وتحفظه. يا للعجب، فإنك تحول المقاومين إلى شهود لحبك. * حولت قيود يوسف في السجن، إلى طريق للعبور إلى العرش. صار السجين الرجل الثاني في المملكة. وقف رئيس الشرطة في ذهول. ذاك الذي دخل به إلى السجن، الآن يسأله خبزًا له ولأسرته. التي أرادت أن تشبع شهوات جسدها، دخلت به إلى السجن. الآن هوذا جسدها يحتاج إلى خبزٍ، من يقدمه لها غيره؟ صيَّرت السجين مصدر شبع لكل مصر وللبلاد المحيطة بها. صار رمزًا لك يا مشبع النفوس. أشرقت عليك ليدرك مجدك الأبدي. * سمعت أنين شعبك فأنَّت أحشاؤك عليه. أرسلت لهم قائدًا، حفظته لهم في قصر فرعون نفسه، وهبته أن تتكلم على فمه، وأعطيته أن يصنع عجائب وآيات باهرة. * راعيت شعبك بنفسك. ظللتهم كسحابةٍ في النهار، وكنت قائدًا لهم كعمود نارٍ بالليل * عبرت بهم وسط البحر، وجزت بهم في موكب فريد. أما الذين رفضوك، فصار الطريق قبرًا لهم. رفضوك يا أيها الحياة فتلقفهم الموت. * حولت شعبك إلى خورس ملائكة. يسبحونك وسط البرية، ويتهللون من أجل فيض حبك! |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 154163 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() رعاية الحكمة للأبرار والأشرار في الباب الأول يحثنا الكاتب في سفر الحكمة على طلب الحكمة بالصلاة والتوسل إلى الله، ليس فقط باللسان، إنما بكل كياننا، حيث نطلب البرّ، فنتحول إلى لهيب نار، يتوق إلى الحكمة السماوية المقدسة. وفي الباب الثاني يدعونا الكاتب إلى اكتشاف عظمة الحكمة وقدرتها الفائقة، هذه التي فضلها سليمان الحكيم عن عرشه وعن كل غنى، فهي تهب الإنسان شركة مع الله ليحمل سمات فائقة تؤهله لتحقيق خطة الله من نحو البشرية ككل، ومن نحوه هو على وجه الخصوص، كما فعلت مع سليمان الملك باني الهيكل المقدس. أخيرًا في هذا الباب (الثالث) يكشف لنا الكاتب عن دور الحكمة عبر الأجيال من آدم إلى دخول الشعب في أرض الموعد التي تفيض لبنًا وعسلًا. يستعرض هذا القسم (حك 11-19) عمل الحكمة في حياة الشعب أثناء الخروج، ليبرز حماية الله لشعبه ورعايته لهم، مقدمًا مقابلات بين حماية الحكمة للشعب وهلاك الوثنيين الذين حادوا عن الحكمة، ولم يتمتعوا بالإيمان. لم يحدث هذا عن محاباة، إنما عن كمال حرية الإنسان، إذ يقول عن الأشرار الهالكين: "كانوا على أنفسهم أثقل من أنفسهم" (حك 17: 21). فما حلّ بهم من ظلمة خارجية ليس إلا صدى لثقل الظلمة الداخلية الأشد مرارة وتدميرًا من الظلمة الخارجية. جاءت هذه الأصحاحات تفسيرًا لما ورد عن قصة الخروج في شكل عظة تكشف عن رعاية الله لشعبه، وكيف يحول حتى الضربات التي يسقط تحتها الأشرار لخير أولاده كما لخير الأشرار أنفسهم إن تابوا ورجعوا إليه. يقدم الكتاب هذا العرض لتطبيقه في الحياة اليومية المعاصرة، سواء على مستوى الجماعة المقدسة أو العضو. يعتبر هذا القسم عظة تشرح ما وراء تاريخ الشعب، خاصة بخصوص الخروج. تظهر رعاية الله الفائقة وخطته التي تختفي وراء الأحداث. يرى بعض الدارسين أن الأصحاحين (10، 11) هما حديث تمهيدي ليهيء للحديث الوارد في الأصحاحات 12 حتى 19. لكن يمكننا القول بأن الأصحاح العاشر (حك 10: 1-14) يكشف عن دور الحكمة فيمن يقتنيها كأشخاصٍ وتكملة السفر عن دورها في الكنيسة ككل، ولا فصل بين الشخص والكنيسة، لأنه هو عضو فيها بدونها لا كيان له، وبدونه لا وجود للكنيسة. فالعضو يحتاج إلى الجسم ككل، بدونه لا يمارس حياته ووجوده كعضوٍ حي، وبدون العضو تفقد الكنيسة جمالها ودورها، حتى وإن كان فقيرًا أو ظن أنه قليل المواهب والقدرات. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفمشعر الجفن لا يساوي شيئًا إن نُزع عن الجفن، بل يلقى في المزبلة، وبدونه يفقد الإنسان كله جماله! يقدم لنا الكاتب خلال أمثلة وردت في العهد القديم كيف أن الحكمة مخَّلصة لذويها، كما يقدم عدة مقابلات. |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 154164 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() عمل الحكمة في التاريخ يقدم الكاتب أمثلة عن حكمة الله العاملة في حياة الأبرار، دون أن يذكر أسماءهم، إنما غالبًا ما أشار إلى الشخص بلقب "البار". هذا ما يشغل حكمة الله أن تجد إنسانًا بارًا فتعمل فيه لحسابه كما لحساب الآخرين. لعبت الحكمة دورًا رئيسيًا في حياة الأبرار منذ بدء الحياة البشرية. هنا يضرب أمثلة بآدم وهابيل وأخنوخ ولوط إلخ. وقد اهتم بالأحداث الواردة في الكتاب المقدس من منظار دور الحكمة في حياتهم. هذا وعدم ذكر الأسماء يعطي هذا الأمر نوعًا من الموضوعية، فالأمر لا يخص أشخاصًا معينين، بل كل إنسانٍ يمكن أن تكون له ذات الخبرة مع الحكمة. هذا مع إعطاء نوعٍ من السرائرية والإجلال لهذا الأمر. أراد الكاتب أن يركز على الحكمة ذاتها لهذا تجاهل ذكر أسماء الأبطال, الذين هم معروفون للقارئ اليهودي. الحكمة تخلص ذويها، فقدكانت سندًا لآدم، وبدونها قتل قايين أخاه، وهي التي خلصت نوحًا بخشبة الفلك، ولوطًا من نيران سدوم وعمورة... وعبرت بالشعب البحر الأحمر، ووهبتهم التسبيح لله. لأن الحكمة فتحت أفواه البُكم وجعلت ألسنة الأطفال تفصح (حك 21:10). يقدم الحكيم صورًا بهية لعمل الحكمة في حياة شخصيات رائعة في إيجابية مفرحة، كما يحذرنا من الجانب السلبي، أي الانحراف عن الحكمة وعدم اقتنائها. |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 154165 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() هي التي سهِرت على أول من جُبِل أبي العالم، بعد أن خُلق وحيدًا، وأنقذته من زلته. [1] من الصعب أن ندرك دور الحكمة الإلهية في حماية آدم وهو في جنة عدن، لكن إعطاء آدم الأسماء للحيوانات لأول مرة دون تمتعه بخبرات لأسلافٍ له (تك 2: 18-20) يحتاج إلى حكمة عظيمة وسلطان. هذا وعندما سقط آدم بسبب عصيانه، لم يتخلَّ الله عنه بل تَبَنَّى قضيته، وقدمت له حكمة الله طريق الخلاص. |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 154166 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() * حينما تعدى آدم وصية الله، وأطاع الحية الخبيثة، صار مُباعًا أو باع نفسه للشيطان، فاكتست النفس - تلك الخليقة الحسيّة التي صورّها الله على صورته الخاصة - اكتست بنفس الشرير مثل رداء. لذلك يقول الرسول: "إذ جرَّد الرئاسات والسلاطين، ظفر بهم في الصليب" (كو 2: 15)، وهذا هو الغرض الذي من أجله الرب أتى (إلى العالم)، لكي ما يطرحهم خارجًا ويسترجع بيته وهيكله، أي الإنسان. القديس مقاريوس الكبير |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 154167 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() * حل آدم رئيس المسبيين من رباطه، لأن المخلص سمع صوت الأسير، فنزل وأنقذه من تحت الأرض، لكي يصعده إلى علو السماء. القديس يعقوب السروجي |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 154168 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() يتطلع القديس غريغوريوس النيسي إلى الإنسان ككائنٍ فريدٍ، موضع حب الله الفائق، الذي خلقه دون غيره على صورته ومثاله. أقامه ملكًا... لذا لم يجبله إلا بعد خلقة العالم كله بكونه قصرًا ملوكيًا للملك المحبوب، الإنسان! خلقه ليشهد له بمشاركته صلاحه، فيحمل شركة السِّمات الإلهية، خاصة الحب والقداسة... كما أعطاه سلطانًا. وعندما سقط بإرادته، واختار الشر الذي ليس من صنع الله بل غياب للفضيلة لم يتركه، بل جاء الكلمة الإلهي متجسدًا ليرد إليه صورته الأولى، ويدخل به إلى البنوة لله، ويعيد إليه حالته الفردوسية... إنه غاية عمل الله الخلاصي. * كل العالم متقن حسنًا وهو ينتظر الإنسان، اصدري أمرك أيتها القدرة العاملة ليأتي ويستولي على مُلكه. * وضع فوق رأسه خصلة الشعر كالتاج، ليكون معروفا من قِبل براياه بأنه ملك. * وقف (آدم) صورة [الابن] وحده، وهو مليء جمالًا، فخافت البرايا من الصورة وأطاعتها، ظهر شبه الابن في الوارث الذي تكوّن، فخضعت له الأعالي والأعماق وكل البرايا، المسيح الجديد؛آدم الذي صار صورة للابن وقف في العالم، وكل العالم ركع وسجد له. اشتاق النور إليه، لأن صورة النور كانت مصورة على وجهه، وفرحت السماء وأسرع نورها لخدمته، ابتهج به البحر فهيأ أسماكه ليقدمها له، وسُرّت الأرض وركعت وسجدت مع أشجارها، الشمس والقمر قدّما له أشعتهما، وبشروقهما كان يجملان للسيد الجديد، الزحافات الجديدة وما في المياه، والطير الطائر في الهواء، كانت تسجد له أزواجًا أزواجًا، وتتباهى به، كل البهائم والحيوانات والأجناس التي صارت، أحنت الكتف ليضع النير على رقابها، أتت المقتنيات أمام القاني جوقات جوقات، وجماعات جماعات، وأفواجًا أفواجًا، وأزواجًا أزواجًا، أتت ساجدة، وممتلئة أمانًا ومحبة، ورأس الحيوانات المفترسة منحن لتخضع له، صُورت على آدم صورة اللاهوت العظمى، وحالما رآه العالم خضع له كله، كل أجناس البهائم والحيوانات تقدمت، وسجدت له فألقى طابعه على مقتنياته. القديس يعقوب السروجي |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 154169 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() غاية الحكمة للأبرار والأشرار يكشف المعلم الروحي الماهر عن ما وراء أحداث الخروج, مبرزًا دور الحكمة الإلهية الفائق بالنسبة للمؤمنين كما بالنسبة للوثنيين عبدة الأصنام. إن كان الله هو مصدر الحكمة، بل هو الحكمة ذاتها، ففي اقترابنا منه ننال رحمته. والبعد عنه هو حرمان من الرعاية الإلهية وفقدان للأبدية. بحكمةٍ يسقط المؤمن تحت التأديب الصادر عن أبيه، أما الشرير فيسقط تحت العقاب كما من ملك يقضي عليه (حك 10:11-11). ومع هذا فإن الله ليس عنده محاباة: "لكنك ترحم الجميع، لأنك قادر على كل شيءٍ، وتتغاضى عن خطايا الناس لكي يتوبوا، لأنك تحب جميع الكائنات، ولا تمقت شيئًا مما صنعت، فإنك لو أبغضت شيئًا لما كوِّنته... إنك تشفق على كل شيءٍ، لأن كل شيءٍ لك أيها السيد المحب للحياة" (حك 25:11-27). 1. إقامة قائدٍ 1 ثُمَّ سَدَّدَتْ مَسَاعِيَهُمْ بِإِرْشَادِ نَبِيٍّ قِدِّيسٍ، 2 فَسَارُوا فِي بَرِّيَّةٍ لاَ سَاكِنَ بِهَا، وَضَرَبُوا أَخْبِيَتَهُمْ فِي أَرْضٍ قَفْرَةٍ، 3 وَقَاوَمُوا مُحَارِبِيهِمْ، وَدَافَعُوا أَعْدَاءَهُمْ. وأنجحت مساعيهم بيد نبيٍ قديسٍ. [1] بعد أن تحدث عن عمل الحكمة في حياة الآباء الأولين يسجل لنا الآن عن عملها مع الشعب تحت قيادة موسى "نبي قديس"، قائد مسيرة الخروج. وكما قيل عنه: "إن كان منكم نبي للرب، فبالرؤيا استعلن له، في الحلم أكلمه، وأما عبدي موسى فليس هكذا، بل هو أمين في كل بيتي، فمًا إلى فمٍ وعيانًا أتكلم معه، لا بالألغاز، وشبه الرب يعاين" (عد 12: 6-8). كما تحاشى ذكر أسماء الأبرار السابقين، تجنب هنا أيضًا اسم موسى النبي القديس. في كل عصر يرسل الله قادة قلوبهم ملتهبة بالروح، يعملون على الدوام لحساب ملكوت الله. يختار الله القائد المناسب لكل عصر، كما يؤهله بسماتٍ وإمكاناتٍ تتناسب مع ظروف العصر. فأرسل موسى ليقود الشعب في رحلة الخروج. وأعدّ الله يشوع رمزًا ليسوع المسيح، ليدخل بهم إلى أرض الموعد، وأقام داود ليُصلح ما أفسده شاول، وأعدّ سليمان لبناء الهيكل، وأرسل القديس أثناسيوس لمقاومة آريوس، والقديس كيرلس الكبير لمقاومة نسطور. * بعد أن أُعطي موسى سلطانًا من الثيؤفانيا (رؤية الله) التي ظهرت له، تلقى أمرًا بأن يحرر مواطنيه العبرانيين من عبودية المصريين. ولكي يتحقق أكثر من القوة التي وضعها الله فيه، اختبر الأمر الإلهي بالأشياء التي في يديه (خر 4: 1-7)، فعندما سقطت العصا من يده دبت فيها الحياة، وعندما أمسكها بيده مرة أخرى عادت إلى ما كانت عليه. وعندما أخرج يده من صدره (عُبَّه) صارت برصاء كالثلج، وعندما وضعها مرة ثانية في صدره عادت إلى لونها الطبيعي. * بعد أن اكتسب موسى قوة من الضوء الذي تجلى له، وجاء أخوه كحليفٍ ونصيرٍ له، أعلن للشعب بجرأة بُشرَى الحرية، وذكَّرهم بعظمة آبائهم. وعبَّر عن رأيه بالنسبة للطريقة التي يمكن أن يخلصوا بها من العمل الشاق في صنع الطوب اللبن (خر6). ماذا نتعلم من هذا؟ يجب أن نتعلم أن مَنْ لم يعد نفسه بهذا النوع من التدريب الروحي ليُعَلِم الجموع لا يجب أن يتحدث إلى الناس. فإننا نرى أن موسى عندما كان ما زال صغيرًا ولم ينضج بعد ويصل إلى درجة رفيعة في الفضيلة، لم يبالِ الرجلان اللذان كانا يتشاجران بنصيحته السليمة ولم يقبلاها. ومع ذلك فبعد نزوله من الجبل خاطب عشرات الآلاف بنفس الطريقة. إن تاريخ موسى يوضح لنا بجلاء أنه يجب ألا نتجرأ على إعطاء النصائح لسامعينا في تعليمنا لهم إلا إذا اكتملت فينا القدرة على ذلك بالتدريب الطويل والشاق مثلما كان لموسى. القديس غريغوريوس النيسي فساروا في بريَّة غير مسكونة، ونصبوا خيامهم في أماكن لم تطأها قدم. [2] كان قائد رحلة الخروج الحقيقي هو حكمة الله، فلم يكن للشعب وللقائد خبرات سابقة في رحلة شعب وسط برية مقفرة فلا ضمانات، في طريق مرعبة خاوية ليس بها أثر للحياة. واجهوا في رحلتهم أعداء جبابرة مثل عماليق وغيرهم، ولم يكونوا رجال حرب، ولا معهم أسلحة، فجاءت النصرة هبة إلهية قُدمت لهم. تجنب أيضًا الإشارة إلى أسماء معينة مثل هرون ومريم وغيرهما، فإن ما قدمته حكمة الله هو لكل الجماعة إن تقدست في الرب. وقاوموا مُحاربيهم، وردُّوا أعداءهم. [3] ليس من وجه للمقارنة بين شعب عاش في عبودية، لم يمارس الحياة العسكرية مطلقًا، وليس لديه أسلحة، وبين أعداء أقوياء أصحاب خبرة في القتال. لكن حكمة الله، أو كلمة الله كان القائد الخفي، واهب النصرة. 2. المقابلة الأولى: ماء للموت في مصر وآخر للحياة في البرية 4 وَفِي عَطَشِهِمْ دَعَوْا إِلَيْكَ؛ فَأُعْطُوا مَاءً مِنْ صَخْرَةِ الصَّوَّانِ، وَشِفَاءً لِغَلِيلِهِمْ مِنَ الْحَجَرِ الْجُلْمُودِ. 5 فَكَانَ الَّذِي عُذِّبَ بِهِ أَعْدَاؤُهُمْ، إِذْ أَعْوَزَهُمْ مَا يَشْرَبُونَ، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ مُتَهَلِّلُونَ بِكَثْرَتِهِ، 6 هُوَ الَّذِي أُحْسِنَ بِهِ إِلَيْهِمْ فِي عَوَزِهِمْ. 7 فَإِنَّكَ بَلْبَلْتَ أُولئِكَ، إِذْ بَدَّلْتَهُمْ بِمَعِينِ النَّهْرِ الدَّائِمِ دَمًا صَدِيدًا، 8 عِقَابًا لَهُمْ عَلَى قَضَائِهِمْ بِقَتْلِ الأَطْفَالِ، وَهؤُلاَءِ أَعْطَيْتَهُمْ مَاءً غَزِيرًا عِنْدَ الْيَأْسِ مِنْهُ، 9 لِكَيْ تُرِيَهُمْ بِعَطَشِهِمْ هذَا، كَيْفَ عَاقَبْتَ أَضْدَادَهُمْ. إذ عطشوا دعوا إليكَ، فأُعطوا ماءً من صخرة الصوان، وشفاءً لغليلهم من حجر صلد. [4] فرغ الماء من أوعيتهم في وسط صحراء قاحلة، هؤلاء الذين عاشوا كل أيامهم يعتمدون على مياه النيل، وبالمنطق البشري ليس من سبيل للحياة، لكن حكمة الله عملت، ووُهب لهم ينبوع ماء يتفجر من صخرة صلبة ترافقهم (خر 17: 1-7؛ عد 20: 2-13)، دون مجهود بشري. إذ لم يطالبهم بحفر آبار يشربون منها. هذه العطية المجانية لا تُقدر بثمنٍ، فهي موضوع حياة أو موت؛ موضوع وجود للشعب أو دمار لهم. لذا صارت هذه الصخرة رمزًا للسيد المسيح واهب القيامة. "وجميعهم شربوا شرابًا واحدًا روحيًا، لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح" (1 كو 10: 4). إذ أراد الكاتب منا أن نعطش إلى ماء الحياة، فنشرب من ينابيع حب السيد المسيح، حكمة الله، ركز أنظارنا على التجاء الشعب إلى الله ليرتووا، ولم يشر إلى تذمرهم (خر 17: 2-3)، وأنهم كادوا أن يرجموا موسى. ما يشغل الكاتب ليس العرض التاريخي للأحداث، إنما تركيز أنظارنا على حكمة الله حتى لا نعتاز إلى شيء. يصف لنا الإنجيلي دعوة السيد المسيح البشرية كلها لتأتي إليه وتشرب، إذ يقول: "وقف يسوع ونادي قائلًا: إن عطش أحدّ فليقبل إليَّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح القدس كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه" (يو 7: 37- 39). بقوله "إن عطش أحد" يفتح الباب للجميع، ليأتوا ويشربوا. فالأمور التي عوقبَ بها أعداؤهم أصبحت تلك التي أحسن بها إليهم في ضيقهم. [5] عاقب الله المصريين غير المؤمنين بالمياه التي تلوثت بالدم (خر 7: 24)، وخلص شعبه بمياه نقية تتفجر من الصخرة في البرية. النيل الذي يُحسب مصدر حياة صار مصدر موت، والبرية التي تُحسب علة للهلاك تُقدم حياة. صار الماء عقوبة لرافضي حكمة الله، وبركة للذين يتمتعون بالحكمة. فما كان عقوبة بالنسبة لأعدائهم صار لشعبه علامة رعاية الله لهم واهتمامه بهم، إذ قدم لهم الماء، لا من نهر النيل، بل من صخرة صماء. يمكننا أيضًا القول إنه في مياه المعمودية يفقد عدو الخير إبليس سلطانه وتتحطم مملكته، وفي ذات المياه يتمتع المُعمد بالبنوة لله. * بأمر موسى تحولت كل المياه في مصر إلى دم (خر 7: 20-22)، ومات السمك بسبب تكثف المياه، ولكن بالنسبة للعبرانيين استمر الماء كما هو. واستغل السحرة الفرصة ليستخدموا فنهم في أن يجعلوا الماء الذي لم يتحول إلى دمٍ، والذي كان موجودًا عند العبرانيين يبدو كأنه دم. * من يملك عصا الفضيلة التي لا تُهزم، التي تبتلع عصا السحرة، يتقدم إلى التدريب على عجائب أعظم. ولا تحدث العجائب لكي ترهب الحاضرين، لكنها لفائدة من يتم إنقاذهم. فعن طريق عجائب الفضيلة ينهزم العدو ويتقوى الشعب. إذا علمنا أولًا القصد الروحي العام من عجائب الفضيلة، نستطيع عندئذ أن نطبق هذا المفهوم على كل معجزة في حد ذاتها. ويتفق الإيمان الحقيقي مع ميول من يسمعون الكلمة، فبالرغم من أن الكلمة تبين للجميع ما هو خير وما هو شر، إلا أن الشخص ذا الميول الحسنة لما يسمعه يستنير فهمه، بينما يظل كلام الجهل مخيمًا على الشخص ذي الميول العنيدة الذي لا يسمح لروحه بأن تبصر شعاع الحق. وإذا لم يكن فهمنا العام لهذه الأمور خاطئًا فإن كل أمر في حد ذاته لن يبدو مختلفًا، حيث أن الجزء يتم إظهاره وبيانه بالكل. لذا ليس بالأمر العجيب على الإطلاق ألا يتأثر العبراني، رغم معيشته في وسط غرباء، بشر المصريين. ويمكن أن نرى نفس الشيء يحدث الآن في المدن المزدحمة بالسكان ولأهلها آراء متناقضة. فبالنسبة للبعض فإن نهر الإيمان الذي يستقون منه بالتعليم الإلهي عذب ونقي، بينما بالنسبة للبعض الآخر الذين يعيشون مثل المصريين ويستقون بأهوائهم الشريرة، فإن الماء يصبح لهم دمًا فاسدًا. ومرات كثيرة يحاول سيد الشر والخداع أن يحول ماء العبرانيين أيضًا إلى دم بإفساده بالغش والبطلان، أي بإظهاره لنا عقيدتنا على غير الحقيقة، لكنه لا يستطيع أن يفسد الماء تمامًا بحيث لا يصلح للاستخدام بالمرة، حتى ولو حوله بسهولة إلى اللون الأحمر بخداعه، فإن العبراني الذي لا يلقي بالًا للخداع البصري يشرب الماء الحقيقي، حتى ولو نجح خصومه في تضليله. * مرة أخرى ارتفعت السحابة وقادتهم إلى مكان آخر (خر 17: 1-7). ولكن هذا المكان كان صحراء جرداء برمال محرقة، وليس به قطرة ماء. وهنا مرة أخرى أجهد العطش الشعب. ولكن عندما ضرب موسى صخرة بارزة بعصاه أخرجت ماء عذبًا وصالحًا للشرب بغزارة أكبر مما كان يحتاجه كل هذا الجمع العظيم. القديس غريغوريوس النيسي وبدلًا من ينبوع نهرٍ دائم، يعكِّره دمٌ فاسد. [6] وهبهم الله نهرًا بمياهه العذبة، لكن بفسادهم فسد ماؤه، وصار مصدر هلاك لهم لا مصدر حياة. هكذا وهبنا الله وصيته كنيرٍ حلو، لكن بشر إرادتنا يصير النير ثقيلًا، وتتحول الوصية الصالحة إلى علة إدانتنا وهلاكنا. * إذن كيف تصير حلاوة نير المسيح العجيبة مُرة إلا بسبب مرارة شرنا؟ كيف يصير الحمل الإلهي الخفيف للغاية ثقيلًا، إلا لأننا في وقاحتنا العنيدة نستهين بالرب الذي به نحمل حمله، خاصة وأن الكتاب المقدس بنفسه يشهد بذلك بوضوح قائلًا: "الشرير تأخذهُ آثامهُ، وبحبال خطيتهِ يُمسَك" (أم 22:5، حك 11: 16)؟ أقول إنه من الواضح أننا نحن الذين نجعل من طرق الرب السهلة السليمة طرقًا متعبة، وذلك بسبب حجارة شهواتنا الرديئة الثقيلة، إذ بغباوة نجعل الطريق الملوكي محجرًا، ونترك الطريق الذي وطأته أقدام كل القديسين، بل وسار فيه الرب نفسه، باحثين عن طريق ليس فيه آثار لمن سبقونا، طالبين أماكن مملوءة أشواكًا، فتعمينا اغراءات المباهج الحاضرة، ويتمزق ثوب العرس بالأشواك في الظلام.. وقد تغطى الطريق بقضبان الخطايا، حتى أننا ليس فقط نتمزق بأشواك العوسج الحادة، وإنما ننطرح بلدغات الحيات المميتة والأفاعي المتوارية هناك، لأنه: "شوك وفخاخ في طريق الملتوي" (أم 5:22). يقول الرب في موضع آخر بالنبي: "لأن شعبي قد نسيني... وقد أعثروهم في طرقهم في السبل القديمة ليسلكوا في شُعَبٍ في طريق غير مسهل" (إر15:18). ويقول سليمان: "طريق الكسلان كسياج من شوك" (أم19:15). هكذا إذ يضلون الطريق السماوي الملكي، يعجزون عن الوصول إلى المدينة التي وجهت إليها نظرتنا. وقد عبر عنها سفر الجامعة بصورة رمزية قائلًا عنها أنها أورشليم... (جا15:10). بمعنى أنها "أورشليم العليا التي هي أمُّنا (جميعًا) فهي حرَّة" (غل 26:4). أما الذي يترك هذا العالم بحق ويحمل نير المسيح ويتعلم منه، ويتدرب يوميًا على احتمال التعب، لأن الرب "وديع ومتواضع القلب" (مت29:11)، فإنه يبقى على الدوام بغير اضطراب من كل التجارب، وبالنسبة له "كل الأشياءِ تعمل معًا للخير" (رو28:8). فكما يقول النبي (ميخا) إن كلمات الله صالحةً نَحْوَ مَنْ يَسْلُكُ بِالاِسْتِقَامَة (مي 2: 7). الأب إبراهيم عقابًا على أمرٍ بقتل أطفال أعطَيتَهم على غير رجاءٍ ماءً غزيرًا. [7] لقد تحوَّل الماء الجاري في نهر النيل إلى عقوبة بالنسبة للمصريين، إذ صار دمًا (خر 7: 17-21)، لأنهم سفكوا دماء أطفال كثيرين بأمر فرعون (خر 1: 8-10)، فهدَّد الموت المصريين. جاء في خروج 7: 14-24 أن هذه الضربة جاءت لحث فرعون أن يترك شعب الله ينطلق، أما هنا فيرى في هذه الضربة تأديبًا على قرار فرعون بقتل أطفال العبرانيين (خر 1: 16، 22). يُمكن أن تخدم هذه الضربة الهدفين معًا. * في الماء كان المصريون يقتلون أطفال بني إسرائيل، وبالماء بدأ الله بعذابهم، لما صَيَّرهُ دمًا لا يمكنهم شربه. كال لهم بالكليل الذي به كالوا لغيرهم. القديس مار أفرام السرياني * في الواقع كان تحويل ماء النهر إلى دمٍ مناسبًا. النهر الذي فيه أُغرق أطفال العبرانيين بقسوةٍ ردُ لمرتكبي تلك الجريمة كأس الدم، وعندما شربوا منه قُتلوا بالمياه الفاسدة التي نجسوها بالقتل الشرير.الأب قيصريوس أسقف آرل بعد أن أريتهم بعطشهم إذ ذاك، كيف عاقبت خصومهم. [8] إن كان الله قد سمح بهذه الضربة للمصريين المقاومين للحق، فإنه أيضًا سمح للعبرانيين بالعطش في وسط البرية لكي يختبروا إلى حين مرارة الضربة التي أصابت المصريين بحرمانهم من ماء النيل النقي، فيكون لهم درسًا في وسط البرية. فإنهم لما امتُحِنوا، وإن كان ذلك تأديب رحمة، تعلموا كيف كان عذاب الأشرار، الذين حوكموا بالغضب. [9] تأديب الله لشعبه عمل تعليمي مملوء رحمة. ليس عند الله محاباة لليهود؛ لقد أدَّب المصريين غير المؤمنين بضربة الماء الذي صار دمًا، وتوالت الضربات مما يكشف عن قسوة قلوبهم، وإصرارهم على عدم الإيمان بالله الصانع العجائب. أما بالنسبة لليهود فسمح لهم بتجربة العطش لكي يؤدبهم برحمته، وإذ لجأ موسى لله قدم له الماء من صخرة حوريب. 3. الله الأب والحاكم! 10 فَإِنَّهُمْ بِامْتِحَانِكَ لَهُمْ، وَإِنْ كَانَ تَأْدِيبَ رَحْمَةٍ، فَهِمُوا كَيْفَ كَانَ عَذَابُ الْمُنَافِقِينَ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِمْ بِالْغَضَبِ. 11 لأَنَّكَ جَرَّبْتَ هؤُلاَءِ كَأَبٍ، إِنْذَارًا لَهُمْ، وَأُولئِكَ ابْتَلَيْتَهُمْ كَمَلِكٍ قَاسٍ قَضَاءً عَلَيْهِمْ. 12 وَقَدْ مَسَّهُمْ فِي الْغَيْبِ مِنَ الضُّرِّ مَا مَسَّهُمْ فِي الْمَشْهَدِ، 13 إِذْ أَخَذَهُمْ ضِعْفَانِ مِنَ الْحُزْنِ وَالنَّحِيبِ، بِتَذَكُّرِ الضَّرَبَاتِ السَّالِفَةِ، 14 لأَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ مَا كَانَ لَهُمْ عِقَابًا، صَارَ لأَعْدَائِهِمْ إِحْسَانًا، شَعَرُوا بِيَدِ الرَّبِّ. 15 وَالَّذِي قَضَوْا مِنْ قَبْلُ بِطَرْحِهِ فِي النَّهْرِ، وَاسْتَخَفُّوا بِهِ وَرَذَلُوهُ اسْتَعْظَمُوهُ فِي آخِرِ الأَمْرِ، إِذْ كَانَ عَطَشُ الصِّدِّيقِينَ عَلَى خِلاَفِ عَطَشِهِمْ. لأن هؤلاء قد امتحنتهم كأبٍ يُنذرهم، وأولئك حاسَبتَهم كمَلكٍ قاسٍ يحكُمُ عليهم. [10] ما حلّ بالمصريين كان عقابًا للردع، أما العطش الذي حلّ بالعبرانيين فكان تأديبًا أبويًا للإنذار. وسواء كانوا من بعيدٍ أو من قريب، يذوقون عذابًا على السواء. [11] عانى الطرفان من العذاب على السواء، فالعطش لحق بالطرفين، لكن الموقف في كل حالة مختلف عن الآخر. فقد أخذهَم حُزنُ مُضاعف، وأنين بتذكُّر الماضي. [12] في وجود اليهود لحق المصريين الحزن حيث تحول الماء إلى دمٍ، وبعد انطلاقهم إلى البرية تضاعف حزنهم، إذ رأوا أولئك الذين سبق فاستعبدوهم قد صاروا شعبًا عظيمًا يحملون قوة فائقة، يتغلبون على صعوبات البرية بواسطة إله المستحيلات، القادر أن يقدم لهم ماءً من صخرة جامدة تتبعهم في رحلتهم. يرى البعض أن حزن الأشرار مضاعف, حزن بسبب التأديب الذي يحل بهم , وحزن آخر بسبب البركات التي تُمنح للذين يضايقونهم ويظلمونهم. لأنهم لما سمعوا أن ما كان لهم عقابًا، كان لأعدائهم إحسانًا، شعروا بيد الرب. [13] فإن الذي سبق أن طرحوه، ورذلوه ساخرين، أدهشهم في آخر الأمر، إذ كان عطشُهم يختلف عن عطَش الأبرار. [14] يبدو أن كل الأمم المحيطة بالمنطقة - بما فيها مصر - كانت تتابع أحداث الخروج. فعندما سمع المصريون بعطش العبرانيين ثم إخراج ماء من الصخرة دُهشوا، وأدركوا أنهم سبق لهم فسخروا بالله خلال شعبه ورذلوه، الأمر الذي دمرّ ملكهم وجيشهم، أما العبرانيون فانتفعوا من العطش! موسى النبي الذي رذله المصريون واليهود أيضًا، صار موضوع دهشة الاثنين. موسى أداة استخدمها الله لعطش المصريين, وهو بعينه صار أداة لارتواء ظمأ الإسرائيليين. 4. حلم الله في معاملته مع مصر 16 وَإِذْ كَانُوا قَدْ سَفِهُوا فِي أَفْكَارِهِمِ الأَثِيمَةِ، وَضَلُّوا حَتَّى عَبَدُوا زَحَّافَاتٍ حَقِيرَةً وَوُحُوشًا لاَ نُطْقَ لَهَا، انْتَقَمْتَ مِنْهُمْ بِأَنْ أَرْسَلْتَ عَلَيْهِمْ جَمًّا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لاَ نُطْقَ لَهَا، في مقابل الأفكار الغبيَّة الظالمة، التي أضلَّتهم حتى عبدوا حيات لا نُطْق لها، وحشرات حقيرة، عاقبتَهم بأن أرسلت عليهم جمًّا من الحيوانات التي لا نُطق لها. [15] انتشرت في مصر القديمة بعض العبادات مثل عبادة التمساح والثعابين والثعلب والكبش (الإله آمون)، وعجل أبيس ![]() ![]() ![]() ![]() أما الحشرة الحقيرة فيقصد بها ربما الجعران الذي أجَّله المصريون القدماء، فنقشوه على خواتمهم وحُليِّهم وذهبهم. جاء التأديب من نفس العمل، فإذ عبدوا الحيوانات والزواحف والحشرات كآلهة ضربهم بالحشرات والضفادع التي هجمت على بيوتهم ودخلت إلى مخادعهم، ومات الكثير منها وأنتن، فكانوا يطلبون أن يتخلصوا منها (خر 8:8). ضُرب المصريون بثلاث حيوانات صغيرة أو حشرات في الضربات 2 و3 و4 وهي ضربات الضفادع والبعوض والذباب. بالنسبة للضفادع: يرى القديس أغسطينوسأنها تشير إلى كثيري الكلام الباطل غير النافع، وبرى العلامة أوريجينوس أنها تشير إلى أغاني الشعراء التي هي كنقيق الضفادع تُقدم أصواتًا ملتوية مزعجة بلا عمل. وأخذ عنه ذلك اسيذور من سيفي Isidore of Seville (مات عام 636)، إذ يقول: [في الضربة الثانية أُحضرت الضفادع. ويظن أنها ترمز لأغاني الشعراء الذين قدموا إلى هذا العالم قصصًا واهية مخادعة. بأغانيهم الفارغة المملوءة غرورًا، وذلك مثل نقيق الضفادع. فإن الضفدعة تقدم ثرثرة فارغة. هذا الحيوان لا ينفع في شيءٍ، وإنما يقدم أصواتًا مزعجة كريهة.] وبالنسبة للبعوض: فقد كان كهنة المصريين يهتمون جدًا بالنظافة ويحترسون من التدنس بالبعوض والقمل. يرى العلامة أوريجينوس أن البعوض يشير إلى الكلمات المعسولة التي تخدع الإنسان بمكرٍ، فلا يشعر بها أثناء خداعه، كالبعوض التي تلدغ ولا يشعر بها الإنسان إلا بعد اللدغة، لذا يرى الأب اسيذور من سيرفي أنها تشير إلى الهراطقة. وأما الذباب، فقد سمح به الله للكشف عن عجز آلهة المصريين، حيث كانوا يعتقدون أنها تقوم بطرد الذباب. ويقول الأب اسيذور إن الذبابة هي حشرة وقحة لا تستريح قط، وقد سمح الله للمصريين بضربهم بالذباب ليدركوا أن قلوبهم المُحبة للعالم مضروبة بإزعاج الشهوات التي لا تنقطع. 5. المقابلة الثانية: سلوى في البرية مقابل ضربة الحشرات. 17 لِكَيْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَا خَطِئَ بِهِ أَحَدٌ بِهِ يُعَاقَبُ. 18 وَلَمْ يَكُنْ صَعْبًا عَلَى يَدِكَ الْقَادِرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الَّتِي صَنَعَتِ الْعَالَمَ مِنْ مَادَّةٍ غَيْرِ مُصَوَّرَةٍ، أَنْ تَبْعَثَ عَلَيْهِمْ جَمًّا مِنَ الأَدْبَابِ أَوِ الأُسُودِ الْبَاسِلَةِ، 19 أَوْ مِنْ أَصْنَافٍ جَدِيدَةٍ لَمْ تُعْرَفْ مِنَ الْوُحُوشِ الضَّارِيَةِ، الَّتِي تَنْفُخُ نَارًا أَوْ تَبْعَثُ دُخَانًا قَاتِمًا أَوْ تُرْسِلُ مِنْ عُيُونِهَا شَرَارًا مُخِيفًا. 20 إِذَنْ لَكَانَتْ تُهْلِكُهُمْ خَوْفًا مِنْ مَنْظَرِهَا، فَضْلًا عَنْ أَنْ تُهَشِّمَهُمْ بِإِصَابَتِهَا. 21 بَلْ قَدْ كَانَ نَفَسٌ كَافِيًا لإِسْقَاطِهِمْ؛ فَيَتَعَقَّبُهُمُ الْقَضَاءُ وَرُوحُ قُدْرَتِكَ يُذَرِّيهِمْ. لكِنَّكَ رَتَّبْتَ كُلَّ شَيْءٍ بِمِقْدَارٍ وَعَدَدٍ وَوَزْنٍ. لكي يعلموا أن كل واحدٍ يعاقبُ بما خطِئَ به. [16] حلت الحشرات على المصريين مقابل عبادتهم للحيوانات مثل التمساح والحية والسحلية والضفدعة. لهذا ضربوا بالضفادع (خر 8: 1-15)، والبعوض (خر 8: 16-19)، والذباب (خر 8: 20-24)، والجراد (خر 10: 3-15). يربط بين الآلهة الباطلة وعابديها وتأديباتهم. فإذ هم أغبياء - بلا تعقل - عبدوا حيوانات غير عاقلة, وسقطوا تحت التأديب بحيواناتٍ أو حشراتٍ غير عاقلة. هكذا العابدون يشتركون مع آلهتهم في سماتهم. فمن يعبد آلهة باطلة يصير هو نفسه باطلًا , ومن يعبد محب البشرية ومخلصها يصير محبًا للبشر، ويشتهي أن يُبذل من أجل كل أحدٍ. في هذا الفصل يؤكد الكاتب أن العقوبة (أو التأديب) تحل على الشرير بذات الأمور التي أخطأ بها. فإذ عبد المصريون حيوانات عوض الله، حلَّت عليهم الضربات بحيوانات وحشرات. * ليس من السهل أن نقرر إن كان يلزمنا أن نحتقر العابدين لها أم الأشياء موضوع العبادة. الاحتمال الأكثر هو العابدون، فهم أكثر تفاهة، لأنهم وهم من طبيعة عاقلة، ونالوا نعمة من الله، أقاموا الأردأ عوض الأفضل. وهذا هو خداع الشرير، الذي أفسد ما هو صالح ليُستخدم بهدف شرير، وذلك في أغلب أعماله الشريرة. القديس غريغوريوس النزينزي ولم يكن صعبًا على يدك كلية القدرة، التي صنعت العالم، من مادةٍ لا صورة لها، أن تُرسل عليهم جمًّا من الدببة، أو الأسود الباسلة. [17] إنها رعاية الله حتى للأشرار، فكان يمكن أن يهلك المصريين دفعة واحدة بأن يرسل عليهم دببه وأسود تفترسهم، لكنه أرسل حشرات صغيرة تضايقهم دون أن تقتلهم، وذلك لتأديبهم. لم يرد هلاكهم وموتهم، بل يطلب توبتهم وحياتهم. خالق العالم من أرض خالية وخاوية (تك 1: 2) قادر أن يُعاقب بإرسال وحوش مفترسة ومرعبة كما حدث في السامرة (2 مل 17:26). * بالرغم من أنه خلق أشياءً من أشياءٍ، كما خلق الإنسان من التراب، إلاَّ أن الأرض التي جاء منها التراب خلقها من العدم. القديس أغسطينوس أو وحوشًا ضارية غير معروفةٍ ومخلوقةً جديدًا، ملؤها الغضب، وتبعثُ نفحةً نارية أو تنفُثُ دُخانًا نتنًا، أو تُرسل من أعيُنها شرارًا مُخيفًا. [18] مرة أخرى يقول إنه لم تكن هناك حاجة إلى إرسال حيوانات ضارية شرسة تفترسهم، ولا إلى خلق حيوانات جديدة مرعبة تهلكهم بمنظرها المفزع، وإنما يكفي نفسُ واحد، فيسقط الكل ولا يقومون. في عدله كان يمكن أن يطاردهم بنسمةٍ من فمه؛ يقول كلمة تصدر حكمًا بموتهم فيموتون. لكن الله لا يريد أن يُهلك، بل أن يؤدب بقدرٍ لائقٍ. فكانت تُهلكهم خوفًا من منظرها، فضلًا عن أن تُبيدهم بضررها. [19] حتى بدون هؤلاء الحيوانات، كان نفسٌ واحدة كافيًا لإسقاطهم، يُطاردهم العدل ويُبددهم بنسمة قُدرتِك. لكنك رتبت كل شيءٍ بمقدارٍ وعددٍ ووزنٍ. [20] الله الخالق كان قادرًا أن يخلق وحوشًا جديدة تهلكهم لا بافتراسهم فقط؛ وإنما أيضًا بالرعبالذي يحل عليهم من منظرها وذلك كما جاء عن ميدوسا Medusa الذي كان يهلك الناس بمنظره المرعب. فإنه حتى في تأديبه للأشرار يقدم ذلك بحكمةٍ، بمقدارٍ وعددٍ ووزنٍ، أي بتدبير إلهي دقيق، ولغايةٍ في ذهن الله من نحوهم، دون إلزامهم بالرجوع إليه عنوة. الله، إله نظام، وليس إله تشويش (1 كو 14: 33)، كل ما يفعله إنما بدقة وتدبيرٍ إلهيٍ فائقٍ. * كل خليقة، عظيمة أو صغيرة، صُنعت بواسطته. فيه خُلقت أشياء علوية وأشياء سفلية، روحية ومادية. فليس من شكلٍ ولا من ترتيب لأجزاء، ولا لمادةٍ ما أيا كان وزنها أو عددها أو مقاييسها وُجدت إلا بذاك الكلمة الخالق الذي قيل له: "رتبت كل شيء بمقدارٍ وعددٍ ووزنٍ" (حك 11: 20). * في أسفار كتابنا قيل لله: "رتَّبتَ كل شيء بمقدارٍ وعددٍ ووزنٍ" (حك 21: 20). يقول أيضًا النبي: "يدعو كلها (جند السماء) بأسماءٍ" (إش 40: 26). ويقول المخلص في الإنجيل: "وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة" (مت 10: 30). * لا نعرف عدد القديسين أو عدد الشياطين، لكننا نعرف أن أبناء الأم المقدسة التي دُعيت عاقرًا على الأرض (الكنيسة) سيحتلون موضع الملائكة الساقطين، ويقطنون إلى الأبد في ذلك المسكن المملوء سلامًا الذي سقطوا منه. أما عدد المواطنين، سواء حاليًا أو ما سيكون عليه، فهو حاضر في أفكار الخالق العظيم، هذا الذي دعا الموجودات من العدم (رو 4: 7)، ويدبر كل الأمور بقياسٍ وعددٍ ووزنٍ (حك 11: 20). القديس أغسطينوس يرى القديس أغسطينوسأيضًا أنه إن كان الله في معرفته غير المحدودة يرتب كل شيء بعددٍ معينٍ يعرفه تمامًا، فإنه يليق بنا أن نهتم بالأعداد الواردة في الكتاب المقدس، ونعرف مفاهيمها الرمزية الروحية.يرى القديس أغسطينوس أن الإنسان في حياته الروحية قد يسلك بترتيبٍ خاص، خلال أربع مراحل تطابق المراحل الأربع لتاريخ الكنيسة. فالإنسان في المرحلة الأولى يكون كمن في عمق الجهالة لا يدري ما هو عليه، أما المرحلة الثانية فهي عندما يعرف الخطية خلال الناموس، فيشعر أنه مغلوب من الخطية وعبد لها (رو 5:5)، وكما يقول الرسول إن الناموس دخل لكي ما تزداد المعصية (رو 5: 20). وإذ يهبه الله الإيمان ينال قوة الحب، فيصارع ضد شهوات الجسد، فيحيا بارًا بالإيمان، ويُحسب بارًا ما دام لا يخضع للشهوة الشريرة، إنما يغلبها بحبه للقداسة. هذه هي المرحلة الثالثة للرجاء الصالح. من يتمسك بهذا ينال أخيرًا في المرحلة الرابعة السلام، خاصة في النهاية حيث يقوم الجسد ممجدًا. هذه المراحل الأربع تطابق مراحل تاريخ الكنيسة. المرحلة الأولى ما قبل الناموس، والثانية في ظل الناموس، والثالثة في عهد النعمة حيث جاء المخلص، ثم الرابعة في القيامة. 6. ما وراء حِلم الله 22 وَعِنْدَكَ قُدْرَةٌ عَظِيمَةٌ فِي كُلِّ حِينٍ؛ فَمَنْ يُقَاوِمُ قُوَّةَ ذِرَاعِكَ. 23 إِنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ أَمَامَكَ مِثْلُ مَا تَرْجَحُ بِهِ كَفَّةُ الْمِيزَانِ، وَكَنُقْطَةِ نَدًى تَسْقُطُ عَلَى الأَرْضِ عِنْدَ السَّحَرِ. 24 لكِنَّكَ تَرْحَمُ الْجَمِيعَ، لأَنَّكَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَتَتَغَاضَى عَنْ خَطَايَا النَّاسِ لِكَيْ يَتُوبُوا. 25 لأَنَّكَ تُحِبُّ جَمِيعَ الأَكْوَانِ، وَلاَ تَمْقُتُ شَيْئًا مِمَّا صَنَعْتَ؛ فَإِنَّكَ لَوْ أَبْغَضْتَ شَيْئًا لَمْ تُكَوِّنْهُ. 26 وَكَيْفَ يَبْقَى شَيْءٌ لَمْ تُرِدْهُ؟ أَمْ كَيْفَ يُحْفَظُ مَا لَسْتَ أَنْتَ دَاعِيًا لَهُ؟ 27 إِنَّكَ تُشْفِقُ عَلَى جَمِيعِ الأَكْوَانِ، لأَنَّهَا لَكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الْمُحِبُّ لِلنُّفُوسِ. فإن قدرتك العظيمة هي دائمًا رهن إشارتك، فمن الذي يُقاوم قدرة ذراعك؟ [21] ليس من وجه للمقارنة بين قدرة الله العظيمة وقدرة الإنسان، فقدرة الله مصدرها ليس خارجًا عنه، بل يحمل في ذاته قوته وقدرته، لذا فهي رهن إشارته، يستخدمها كيفما يشاء. أما قدرة الإنسان فهي ليست من عنده، إنما هي عطية مُقدمة له حتمًا تزول عنه يومًا ما. فإن أُصيب بمرضٍ أو بفقرٍ أو فقد مركزه الاجتماعي تزول معه قوته أو تضعف، ويصبح هزيلًا. كثيرون تحطمت أذرعهم ونفسياتهم، أما الله الكلي القدرة، فلا يوجد من يقاوم ذراعه! كثيرًا ما يسيء الإنسان إلى الله بسبب عجزه عن معرفة خطة الله وأفكاره، فينسب له الضعف بسبب طول أناته. أو العجز بسبب ما يسمح به من ضيقاتٍ واضطهاداتٍ تحل بكنيسته أو أولاده. إنه القدير، يستطيع كل شيء بقوة فائقة، لكن ما أبعد أحكامه عن الفحص، وطرقه عن الاستقصاء؟ (رو 11: 33)؛ "لأن من عرف فكر الرب؟ أو من كان له مشيرًا؟" (رو 11: 34). جاء في تضرع مردخاي لله: أنت رب الجميع وليس من يقاوم عزتك (إس 13: 11). تقول يهوديت: "من أنتم حتى تجربوا الرب" (يهوديت 8: 11). ويقول الرسول بولس: "بل من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله؟ ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا؟" (رو 9: 20) لأن العالم كلَّه أمامك مثل ما ترجح به كفه الميزان، وكنقطة ندى الفجر التي تسقط على الأرض. [22] "هوذا الأمم كنقطةٍ من دلو وكغبار الميزان" (إش 40: 15) يشَّبه الله بمن يمسك بميزان ليضع العالم كله في كفة، فإذا به كقطرة ندى الصباح أو كغبار الميزان. ومن جانبٍ آخر يضع العالم كله في كفة والبشر في كفة، فلا يوجد وجه للمقارنة أو الموازنة بينهما. يقدم الله حبه للإنسان بدقةٍ شديدةٍ، حسبما هو لبنيانه. * على هذا الرجاء تلتصق نفوسنا بالأمين في مواعيده، العادل في أحكامه. لن يكذب ذاك الذي أمرنا بعدم الكذب، فإنه ليس شيء غير مستطاع لديه خارج الكذب. ليتّقد إيماننا في داخلنا لندرك أن كل شيءٍ قريب منه. فبكلمة قدرته أقام الكل، وبكلمته يقدر أن يدمّر كل شيء. "من يسأله: ماذا فعلت؟ من يقاوم قوّة سلطانه؟" (حك 12: 12؛ 11: 22) إنّه يفعل ما يريد وكما يريد، وليس شيء يخالف أمره. القديس إكليمنضس الروماني لكنك ترحم الجميع،لأنك على كل شيءٍ قدير، وتتغاضى عن خطايا الناس لكي يتوبوا. [23] رحمة الله تشمل كل الخليقة، لأنها من عمله، فكم بالأكثر يترفق بالإنسان الذي خلق كل الأشياء لأجله. الله محب للبشر حتى في تأديباته لهم، إذ غايتها التوبة metanoia، يطلبها من كل الخطاة، وليس من أمة معينة، فبابه مفتوح للجميع. نظرته للبشرية رائعة، فالبشر خليقة الله الصالحة، إنما اختيارهم للشر يعزلهم عن الله مصدر صلاحهم. لذلك يبقى الله يدعوهم للتوبة، أي للرجوع إليه، فهم موضوع حبه ورحمته. "تتغاضى" هنا تعني "تطيل أناتك"، إذ لا يشاء أن يهلك الناس، بل أن يقبل الجميع إلى التوبة (2 بط 3: 9). وإذ نرجع إليه بالتوبة يقول إنه لا يعود يذكر خطايانا. فإنك تُحب جميع الكائنات الموجودة، ولا تمقُتُ شيئًا مما صنعتَ، فإنك لو أبغضتَ شيئًا لما كوَّنته. [24] الله قدير، ولا يُمكن مقاومته، وهو الحب عينه نحو جميع الكائنات السماوية والأرضية. بهذه النظرة يهيئ الإنسان لقبول الخلاص المجاني من الله محب كل العالم ببذل الابن الوحيد الجنس (يو 3:16). * الآب السماوي يعلم ما نحتاج إليه قبل أن نسأله (مت 6: 8). إنه من المعقول أن هذا الذي هو أب المسكونة وخالقها الذي يحب جميع الكائنات ولا يمقت شيئًا مما صنع (حك 11: 24)، يقدم ما هو لنفع كل واحدٍ بدون الصلاة إليه، يفعل ذلك كأبٍ يحمي صغاره ولا ينتظر أن يسألوه، وذلك إن كانوا غير قادرين أن يسألوه نهائيًا، أو بسبب جهلهم، إذ غالبًا ما يطلبون ما هو ضد نفعهم تمامًا. العلامة أوريجينوس يتساءل القديس أغسطينوس: إن كان الله لا يبغض شيئًا صنعه، فكيف قيل أنه أبغض عيسو؟ يجيب على ذلك قائلًا: [الله صانع كل المخلوقات. كل خليقة الله صالحة. كل إنسانٍ هو مخلوق بكونه إنسانًا لا بكونه خاطئًا. الله خالق كلًا من جسم الإنسان ونفسه. ليس شيء منهما شرير، والله لا يكرههما. إنه لا يكره في الإنسان شيئًا سوى الخطية. الخطية في الإنسان هي انحراف وعدم نظام، أي ضلال عن الخالق، الذي هو الأسمى (من النفس)، والتجاء إلى المخلوقات الأقل منه (شهوات الجسد ومحبة العالم إلخ). الله يبغض عيسو ليس الإنسان، وإنما الخاطئ.]* الحب الذي يحبه الله لا يمكن إدراكه ولا يتغير. فإنه لم يبدأ يحبنا منذ الوقت الذي فيه صُولحنا معه بواسطة دم ابنه، وإنما كان يحبنا حتى قبل تأسيس العالم، لكي ما نصير له أبناء مع ابنه الوحيد الجنس، أحبنا حتى قبل أي وجود لنا. ليتنا لا نتطلع إلى حقيقة مصالحتنا مع الله خلال موت ابنه، ولا نفهمها كما لو تحققت مصالحة الابن لنا معه بهذه الكيفية: أنه قد بدأ الآن يحب من كان قبلًا يبغضهم، كما لو أن عدوًا قد تصالح مع عدوٍّ، فصارا صديقين، واحتل الحب المشترك موضع البغضة، المشتركة. إنما تصالحنا مع ذاك الذي هو بالفعل يحبنا، ولكننا نحن صرنا أعداء بسبب خطايانا. لتدركوا إني أقول الحق في هذا، فليشهد الرسول القائل: "الله بيَّن محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا" (رو 5: 8). إذن يحمل الله لنا الحب حتى حين كنا نمارس العداوة ضده، ونفعل الإثم. قيل له بالحق الكامل: "أبغضت كل فاعلي الإثم" (مز 5: 5). بهذا فإنه بطريقة مدهشة إلهية عندما أبغضناه كان هو يحبنا. فإنه أبغضنا فيما نحن عليه مما لم يخلقنا عليه... إنه يبغض ما قد فعلناه نحن في أنفسنا، ويحب ما فعله هو فينا! هذا يمكن أن يُفهم بالحق في حالة الجميع، بخصوص ذاك الذي قيل له بالحق: "لا تمقت شيئًا مما صنعت" (حك 11 24). القديس أغسطينوس وكيف يبقى شيء لم تُرِدْه، أم كيف يُحفظ ما لم تدَعُه؟ [25] يبرز هنا روعة محبة الله، فقد خلق الإنسان لكي يبقى معه، يحفظه من كل خطرٍ. فالله يريد الإنسان ويحبه ويحميه من كل ضررٍ، ويُعد له موضعًا في السماء. * إذا كانت هناك امرأة غنية تملك أموالًا كثيرة وبيتًا فاخرًا، لكنها مع ذلك لا تجد من يحميها، فكثيرون يهاجمونها راغبين أن يُلحقوا بها الأذى والخراب. فلأنها لا تستطيع أن تقبل هذا الأذى والهجوم، لذلك تبحث عن زوجٍ قويٍ يكون كفوًا لهذا الغرض، ومتدربًا من جميع الوجوه. وحينما تجد مثل هذا الرجل بعد سعيٍ كثيرٍ، تفرح به فرحًا عظيمًا، وتجد فيه حصنًا يحميها. القديس مقاريوس الكبير إنك تُشفق على كلِّ الأشياء، لأنها هي لك، أيها السيد المُحب للأحياء. [26] غاية خلقه الإنسان والهدف منها هو وجود الإنسان مع الله، بكونه الابن الذي يستريح في حضن أبيه المملوء حنانًا نحوه. الله هو الحياة، يقتني الإنسان له ويهبه الحياة. * الله يحكم كل الخليقة (الأرضية)، لكنه لم يُثبت عرشه فيها، ولا دخل في شركة معها، بل سُر بالإنسان وحده، ودخل في شركة معه، وفيه وحده استراح... النفس الحكيمة بعد مرورها على جميع المخلوقات لا تجد راحة لنفسها، إلا في الرب وحده، والرب أيضًا لا يُسر بأحدٍ سوى الإنسان وحده. القديس مقاريوس الكبير من وحي الحكمة 11هب لي حكمتك، فأدرك أسرار حبك! * حكمتك أقامت لشعبك قائدًا. وهبتهم نبيًا قديسًا يعمل بروحك! موسى في شبابه ظن أنه قادر أن يخلص شعبك! في عجزٍ لم يستطع مصالحة أخين من شعبك المُستعبد! لكن حكمتك سندته وهو شيخ في الثمانين. حركته الحكمة وجددت شبابه الداخلي. تحدى عنف فرعون وقسوة البرية. غلب الشيخ ملوكًا، وتمتع ببركات عجيبة! حكمتك يا إلهي قادرة أن تقيم من الضعيف بطلًا! حكمتك ترعى شعبك، وتهتم بكل مؤمن! حكمتك هي الراعي الصالح، الذي يقيم من المؤمنين قادة. * انهار شعبك من الظمأ وسط البرية. فتفجرت لهم المياه من صخرة صوان. ورأوا فيها حكمتك التي تفجر في بطونها- الحجارة الصلدة - ينابيع مياه حب حية. حُرم غير المؤمنين من الحكمة، فقدم لهم نهر النيل ماءً فاسدًا ممزوجًا بدم الأطفال الذي سفكوه! وتمتع المؤمنون بالحكمة، فتفجرت فيهم ينابيع مياه حية! ماء النيل تحول لغير المؤمنين إلى دم، وماء الصخر أنعش المؤمنين وهيأهم للحياة في البرية. عطش غير المؤمنين وماتوا، وعطش المؤمنون فاختبروا الحياة بك ومعك! * في غير محاباة تؤدب، هب لي أن أقبل تأديبك من يديك المحييتين فأتذوق أبوتك، وأتجاوب مع حبك لي. لأراك أبًا يؤدب لكي يحيي، وليس قاضيًا تعاقب لأنك لا تطيق الخطية. * يضطرب الأشرار ويحزنون، لأنهم يحسبون في تأديبهم قسوة خارجة من لدنك. ويراك أبرارك ويتهللون وسط الضيق، ويختبرون حبك. * عجيب أنت يا حكمة الله في حنوك، حتى مع الأشرار تترفق وتحنو، تؤدب وتعاقب، ولكن شيئًا فشيئًا. فإنك خلقت الإنسان، لا لتهلكه بل لتحييه. تنتظر حتى من الأشرار أن يرجعوا إليك. في حزمٍ تؤدب لعلهم يرجعون إلى أنفسهم، يطلبونك فيحيون. * عبد قدماء المصريين حيوانات وزحافات وحشرات. من صنوف آلهتهم عاقبتهم بذات خطاياهم، لكي ما تتمرر الخطية في أفواههم. كان يمكن أن ترسل عليهم وحوشًا تفترسهم. أو بكلمة من فمك تهلكهم. لكنك لا تشاء موت الخاطئ بل أن يرجع ويحيا. أرسلت لهم حشرات لمضايقتهم لا لقتلهم. فإنك وأنت تؤدب تشفق! لأن خليقتك محبوبة جدًا لديك. لك المجد يا محب كل البشرية! |
||||
![]() |
رقم المشاركة : ( 154170 ) | ||||
† Admin Woman †
![]() |
![]() ![]() كشف المعلم الروحي الماهر عن ما وراء أحداث الخروج, مبرزًا دور الحكمة الإلهية الفائق بالنسبة للمؤمنين كما بالنسبة للوثنيين عبدة الأصنام. إن كان الله هو مصدر الحكمة، بل هو الحكمة ذاتها، ففي اقترابنا منه ننال رحمته. والبعد عنه هو حرمان من الرعاية الإلهية وفقدان للأبدية. بحكمةٍ يسقط المؤمن تحت التأديب الصادر عن أبيه، أما الشرير فيسقط تحت العقاب كما من ملك يقضي عليه (حك 10:11-11). ومع هذا فإن الله ليس عنده محاباة: "لكنك ترحم الجميع، لأنك قادر على كل شيءٍ، وتتغاضى عن خطايا الناس لكي يتوبوا، لأنك تحب جميع الكائنات، ولا تمقت شيئًا مما صنعت، فإنك لو أبغضت شيئًا لما كوِّنته... إنك تشفق على كل شيءٍ، لأن كل شيءٍ لك أيها السيد المحب للحياة" (حك 25:11-27). |
||||