منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 16 - 12 - 2016, 06:49 PM   رقم المشاركة : ( 15351 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

القدّيس البار أفرام السوري
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة



القدّيس البار أفرام السوري ‎‏(+373م)‏:
شهدوا له:
كثيرون من القدامى تحدّثوا عن البار أفرام أو امتدحوه. شهد له القدّيسين باسيليوس الكبي والذهبي الفم، فيما امتدحه كلّ من بلاديوس وثيودوريتوس وسوزومينوس. اعتبره القدّيس فوتيوس الكبير معلّم المسكونة الإلهيّ وكتب سيرة حياته القدّيس سمعان المترجم. ولعلّ أبرز مادحيه القدّيس غريغوريوس النيصصي، الّذي أسماه "القدّيس أفرام" ولقّبه بـ "فرات الكنيسة الروحي" ودعاه "أبانا العظيم" و"قدّيسنا المشهور"، و"النبي الفائق"، و"المعلّم إفرام"، وتجرّأ فجعلّه بجانب "أعظم
المولودين في النساء" و"وسيط عهد الناموس والنعمة". ‏معلوماتنا بشأنه نستقيها، بصورة أساسية، من مؤلّفاته ومن كلّ ما قيل ‏عنه، لاسيما من مديحة النيصصي.
حداثته:‏
المعلومات الموثوقة عن حياته محدودة‏. اسمه معناه "الخصب". ولد في نصيبين على ضفاف نهر دجلة، أو ربما في جوارها، لعائلة فقيرة حوالي السنة ٣٠٦م، زمن الإمبراطور ذيوكليسيانوس قيصر. أكثر من مقال ورد في شأن والديه. قيل إنهما كانا تقيّين ومعترفين بالمسيح، وقيل كانا من نسل الشهداء، وقيل أيضاّ بل كان أبوه كاهناً وثنياً. فلما مال الصبي إلى المسيحية طرده أبوه من المنزل العائلي فلجأ إلى يعقوب، أسقف نصيبين، الذي أنشأه على محبّة الفضيلة والتأمّل في الكتاب المقدّس.

كثيرون من القدامى تحدّثوا عن البار أفرام أو امتدحوه. أبرز هؤلاء القدّيس غريغوريوس النيصصي في مديحته الخاصة به. باسيليوس الكبير شهد له وكذلك الذهبي الفم. بلاديوس وثيودوريتوس وسوزومينوس امتدحوه. فوتيوس الكبير اعتبره معلّم المسكونة الإلهي و القدّيس سمعان المترجم كتب سيرة حياته. غريغوريوس النيصصي أسماه "القدّيس أفرام" ولقبه بـ "فرات الكنيسة الروحي" ودعاه "أبانا العظيم" و"قدّيسنا المشهور" و"النبي الفائق" و"المعلم أفرام"، وتجرّأ فجعله بجانب "أعظم المولودين في النساء" و"وسيط عهد الناموس والنعمة". ‏معلوماتنا بشأنه نستقيها، بصورة أساسية، من مؤلّفاته ومن كل ما قيل ‏عنه، لاسيما من مديحة النيصصي.
أوائله: ‏
المعلومات الموثوقة عن حياته محدودة‏. اسمه معناه "الخصب". ولد في نصيبين على ضفاف نهر دجلة، أو ربما في جوارها، لعائلة فقيرة حوالي السنة ٣٠٣‏م، زمن الإمبراطور ذيوكليسيانوس قيصر. أكثر من مقال ورد في شأن والديه. قيل إنهما كانا تقيّين ومعترفين بالمسيح، وقيل كانا من نسل الشهداء، وقيل أيضاّ بل كان أبوه كاهناً وثنياً. فلما مال الصبي إلى المسيحية طرده أبوه من المنزل العائلي فلجأ إلى يعقوب، أسقف نصيبين، الذي أنشأه على محبّة الفضيلة والتأمّل في الكتاب المقدّس.
‏يُستدل من اعترافات القدّيس أنه سلك في شبابه نظير أقرانه. لم يكن يطمع في القداسة ولا كان له مثل يحتذي به. همّه كان أن يعمل ويأكل من عرق جبينه وأن يكون له صيت حسن بين الناس. كان يباهي بأنه من الشباب المفكّر ويجاهر برأيه في العناية الإلهية أن لا شأن لها في تدبير الكون، وكل ما يحدث لا يتعدّى كونه وليد الاتفاق وناتج الأقدار الطبيعية.
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
‏ولكن، حدث له، بتدبير الله، ما سفّه رأيه وفتح عيني قلبه على طرق القداسة وخدمة القريب. ‏فلقد طارد يوماً بقرة أحد المساكين لأنها دخلت حقله، ففرّت من أمامه ‏فتبعها، فدخلت في الوعر، وقيل افترستها الوحوش. ونام أفرام عن البقرة ولم يعوِّض على صاحبها، ولا اعتبر نفسه مذنباً بشأنها. ولمّا يمضِ شهر على ذلك حتى جرى القبض عليه متّهماً بسرقة قطيع أضاعه الأجير المكلّف به الذي اتفق مرور أفرام بموضعه ساعة وصول الشُرط إليه. فألقي في السجن ريثما تجري محاكمته. هناك التقى عدداً من المساجين كلّهم متّهم بما لم تقترفه يداه. وإذ شعر بضيق عظيم لأنه ألفى نفسه والمساجين الآخرين متّهمين ظلماً بما هم منه براء، بات على وشك إصدار حكم على الله أنه لا عدالة في الأرض تُرتجى والأمور تجري اتفاقاً ولا علاقة لله بها. وغفا متكدِّراً. فجاءه في الحلم صوت يقول له: إذا كنتَ بريئاً من هذا الجرم، يا أفرام، أفأنت بريء من غيره من ‏الذنوب؟ فتذكّر أفرام العجلة وعرف ذنبه فاستغفر ربّه. فلما صحا، في اليوم التالي، أخذ يسأل المساجين واحداً واحداً عما سلف من سيرتهم فتبيّن له أن على كل واحد منهم ذنباً وذنوباً لم يؤدّ عنها الحساب، فتيقّن إذ ذاك أن ما ظنّه يصيب الناس في حياتهم ظلماً هو تأديب عن معاص سبق لهم أن ارتكبوها ولمّا يُجازوا عنها. إذ ذاك أدرك أن ما يحدث للناس لا يحدث لهم اتفاقاً وليس الكون من دون مدبّر يرعى شؤونه ويسهر على كل صغيرة وكبيرة فيه وإن كان لله في أحكامه شؤون غير ما لأحكام الناس وما هم عنه غافلون. فأخذ، وهو بعد في السجن، يرجو الله بدموع أن يعفو عنه واعداً إيّاه بإصلاح سيرته لو نجّاه من هذا البلاء المبين. وكان أن أُطلق سراحه فخرج واعتمد لأنه لم يكن قد صار مسيحياً إلى ذلك الحين. وإذ انطبع الخوف من السجن والقضاة في نفسه كما بنار وبات واثقاً من عدالة ربّه وضعفه هو وفداحة خسارته إن ‏لم يلحظ نفسه ويحرص على نقاوة سيرته، زهد وخرج فنسك في القفار وأضحى للتائبين معلّماً وللمتهاونين منخساً. وله تُنسب صلاة التوبة التي طالما ردّدها المؤمنون في الكنيسة على مدى الأيام: "أيها الرب وسيّد حياتي أعتقني من روح البطالة والفضول وحبّ الرئاسة والكلام البطّال. وأنعم عليّ ‏أنا عبدك الخاطئ بروح العفّة واتّضاع الفكر والصبر والمحبّة. نعم يا ملكي وإلهي، هب لي أن أعرف ذنوبي وعيوبي وأن لا أدين إخوتي فإنك مبارك ‏إلى الأبد آمين". كان قد بلغ من العمر، آنذاك، حدود الثامنة عشرة.
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
رهبنته:
هزّت رؤى الدينونة العتيدة أعماق أفرام فهرب من العالم وهموم العالم سالكاً في ما قاله مرنّم المزامير: "هاأنذا ابتعد هارباً وآوي إلى القفار" (المزمور54‏). همّه، على حدّ تعبير النيصصي، بات موجّهاً لنفسه والله. ‏هكذا تقدّم في اكتساب الفضيلة. إنضمّ أفرام إلى شيخ مبارك اسمه يوليانوس وتتلّمذ عليه "كان يعلّم أن حياة البرّية تحرِّر الراغب فيها ‏من صخب العالم الباطل، وتجعله كليم الملائكة عن طريق السكينة وترفع ذهنه باستمرار إلى الرؤى الإلهيّة". ‏لم تكن لحميّته في النسك حدود: نوم على الأرض وصوم لأيّام بكاملها وسهر في الصلاة أكثر الليل وعمل وتعب في النهار. كان قانوناً في كل أديرة مصر وبلاد ما بين النهرين أن يبذل النسّاك أتعاباً جزيلة جزاء توبتهم وتكفيراً عن معاصيهم السالفة. وكان عليهم أن يقدّموا عن ذلك حساباً في نهاية كلّ أسبوع. ولكن كان العمل اليومي كان مقروناً بالصلاة. فكان على كل راهب أن يحفظ كتاب المزامير عن ظهر قلب. أما ما يحصّلونه فوق ما يحتاجون إليه فكانوا يوزّعونه على الفقراء. الفقر عندهم كان التزاماً. لما قربت ساعة رحيله إلى السماء قال: "لم تكن لأفرام محفظة ولا عصا ولا كيس مطلقاً. ولا امتلكت في حياتي شيئاً من الذهب أو الفضّة لأني سمعت الملك السماوي يقول لتلاميذه أن لا يقتنوا شيئاً على الأرض. لذا لم أرغب بشيء بل ازدريت المجد والمال ومِلت إلى العلويات...". ‏وكان أفرام بطبعه غضوباً، لكنه عرف، بنعمة الله والانتباه والجهد المتواصل، أن يحصِّل الوداعة حتى سرى عليه لقب "رجل الله الوديع المسالم". نقل عنه النيصصي قوله قبل موته بقليل: "لم أُهن الله في حياتي كلّها ولم يصدر عن شفتيّ كلام طائش ولا أسأت مطلقاً لأي من المؤمنين ولا تشاجرت البتّة مع أيّ منهم". في تعاطيه مع الخطاة المعاندين كان لا يلجأ سوى للبكاء والاستعطاف. مرة أمضى في الصوم أيّاماً، فجاءه أحد الإخوة بقدر فيه خضار مطبوخة ليتشدّد. ولكن قبل أن يصل الأخ إليه بقليل تعثّر في مشيته ووقع القدر من يديه وانكسر فاضطرب ولم يدر ماذا يعمل. فبادره أفرام بمحبة ووداعة: "ما دام طعامنا لم يأتِ إلينا فلا بأس أن نذهب نحن إليه!" ولما قال هذا قام وانطرح على الأرض بجانب القدر المكسور والطعام المهدور وأخذ ‏يلتقط منه ما تيسَّر ويأكل.

طروباريته
لِلبَرِيَّةِ غَيْرِ الـمُثْمِرَةِ بِمَجارِي دُمُوعِكَ أَمْرَعْتَ. وبِالتَّنَهُّداتِ التي مِنَ الأَعْماق أَثْمَرْتَ بِأَتْعابِكَ إِلى مِئَةِ ضِعْفٍ. فَصِرْتَ كَوكَباً لِلمَسْكونَةِ مُتَلأْلِئاً بِالعَجائِب. يا أَبانا البارَّ أفرام فَتَشَفَّعْ إِلى المَسِيحِ الإِلَهِ أَنْ يُخَلِّصَ نُفُوسَنا.
قنداق باللحن الثاني لما كنتَ قد سبقتَ فنظرتَ على الدوام ساعة الدينونة، فكنتَ تنوح بدموع التخشع، أيها البار أفرام، فأصبحتَ بأعمالكَ معلماً عاملاً، فلذلكَ أيها الأب الفائق العالم، أنت تُنهض المتوانين إلى التوبة.
‏قال عنه النيصصي:
إنه توصّل إلى اكتساب طهارة نفسية وجسدية إلى حدّ فائق لا يمكن للطبيعة البشريّة أن تصل إليه، ولم يسمح لنفسه أن تميل عن سيادة الأفكار القويمة الصافية. "كان كملك روحي يتحكّم بقواه النفسية ويشعّ ببهاء كليّ بحضوره الجسدي". ‏ومن أبرز ما اختصّه به ربّه لنقاوة طويّته وعمق توبته وحفظ نفسه بريئاً من الدنس موهبة الدموع. كان يبكي لخطاياه وخطايا العالمين باستمرار. لا جفّت دموعه في ليل ولا في نهار. وكما يبدو طبيعياً للناس أن يتنفّسوا، على حدّ تعبير النيصصي، كانت دموع أفرام لا تنقطع. ‏وكان أفرام يحسب نفسه أشقى الناس ويودّ لو يعامله الجميع بازدراء. لذا كان لكلمات المديح في أذنيه وقع موجع. وكلّما طرقت أذنيه كلمة مديح تألّم وتغيّرت سحنته وانحنى إلى الأرض وتصبّب عرقاً وصمت صمتاً رهيباً وقطع لسانه الحياء. ولما حانت ساعة رحيله قال موصياً: "لا ترنّموا لأفرام ترانيم الجنّاز ولا تمدحوه ولا تدفنوه بسبان فاخرة ولا تحفروا لجسده قبراً خاصاً لأني اتفقت مع الله أن أستريح في مقبرة الغرباء". ‏عاش أفرام في برّية نصيبين سنين عديدة كان خلالها كأنه خارج الجسد وخارج العالم، على حدّ تعبير القدّيس غريغوريوس اللاهوتي. وقد تعرّض لاضطهاد عدد من الرهابين الفاترين. لكنه استعان بمثال يوليانوس معلّمه وبنصائحه. كان معلّمه إليه عزاء وكذلك يعقوب أسقف نصيبين الذي احتضنه ورعاه وقدّمه وجعله رأساً للمدرسة اللاهوتية التي أسسها هناك.
من نصيبين إلى الرها:
‏وتعرّضت نصيبين لهجوم الفرس ومحاصرتهم لها فحافظ أفرام ويعقوب الأسقف، بصلاتهما، على المدينة. وقد ورد في سيرة القدّيس يعقوب (13‏كانون الثاني) إنه أصلح بصلاته سور المدينة بعدما انعطب وإن الله أرسل ‏غيمة هائلة من البعوض أزعجت المهاجمين واضطرتهم إلى الانكفاء. لكن المدينة انتقلت إلى الفرس، فيما بعد، إثر معاهدة سلام أُبرمت بين الفرس والبيزنطيين سنة 363م وقضت بتسليم المدينة بعدما فشل يوليانوس الجاحد في حملاته ضد الفرس في عمق بلادهم. على الأثر انتقل أفرام إلى الرها، على طريق أنطا كية الهند، وأقام فيها، إلى آخر حياته، أي بين العامين 363 ‏و373م، أو في 378م كما ورد في ‏غير مكان.
‏جعل أفرام في نفسه، في انتقاله إلى الرها، أمرين، أن يسجد لرفات ‏القدّيسين فيها وأن يلتقي إنساناً ينتفع من كلامه وإرشاده. لذا صلّى قائلاً: "أيها الرب يسوع المسيح، سيّدي، أعطني أن أصادف في الرها من يحدّثني بما فيه منفعتي". فلما دخل المدينة طالعته امرأة هوى وقفت أمامه وحدّقت فيه. فقال لها أفرام ليصرفها عنه:
"كيف تجرئين يا امرأة أن تنظري إليّ بمثل هذا الإصرار والوقاحة؟ ألا تخجلين من نفسك؟! فأجابته: لست بمذنبة إذا نظرت إليك لأني خرجت من جنبك. أما أنت فخليق بك أن تحدّق في الأرض التي منها خرجت، لاسيما وأنت راهب تعتبر نفسك ميتاً في الجسد. فعليك ألا تحدِّق مطلقاً في الوجوه!" فلما سمع البار كلامها فطن إلى حكمة الله وشكر ‏المرأة ومجّد الله وانصرف. ‏وقيل، لما دخل أفرام المدينة حلّ، بصورة مؤقتة، في أحد البيوت حيث أقامت بجواره امرأة ناقصة الحشمة عزمت، بإيعاز من الشيطان، على الإيقاع به. فعرضت نفسها عليه فوافقها شرط أن يكملا فعل النجاسة وسط المدينة، أمام الجميع. فقالت له: أما تخجل، يا هذا، من الناس الذين سيهزأون بنا؟‏! فأجابها: تخجلين من الناس، يا شقية، ولا تخافين الله الذي يرى ما نعمل، في الخفية والعلن، ويعاقبنا عقاباًأبدياً شديداً فيما نستسلم نحن لمتع الخطيئة؟‏! فنفذ خوف الله إلى قلبها وتابت، وقيل ترهّبت وأرضت الله بسيرة حميدة. ‏هذا وذُكر أن أفرام تردّد، في الرها، على النسّاك المنتشرين في قفارها وتعلّم منهم وأن صيته انتشر فجاءه الكثيرون يطلبون الانضمام إليه، وإنه أسّس ديراً بجوار الرها وجعل فيه مدرسة لاهوتية اشتهرت، وصار أباً لمئات من النسّاك والرهبان.
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
معلّم وشاعر:
تمتّع أفرام بمواهب طبيعية فذّة أنماها وصقلها بالدرس والتأمل في الكتاب المقدّس وكتابات الآباء. وقد حباه ربّه بموهبة التعليم فأضحى واعظاً ومعلّماً ممتازاً. أتقن الكتاب المقدّس إتقاناً عظيماً. النيصصي تحدّث عن اشتعال لهيب الكتاب المقدّس فيه وإنه بشوقه للدراسة
والتأمل ارتفع كلهيب سماوي وطالع العهدين القديم والجديد فنفذ إلى المعاني الإلهية أكثر من أي شخص أخر. ‏شرح أفرام، بدقّة، الكتاب كلّه من سفر التكوين إلى آخر سفر من عهد النعمة، كما نقل إلى النور أعماق الحقائق الإلهية غير المدركة. لم يرتشف من الكأس الروحية وحسب بل استفاد أيضاً ما كان مفيداً من كتابات الحكمة العالمية. طالع، بشهادة النيصصي، التراث الأدبي واطلع على أبعاد معانيه، إلّا أنّه طرح جانباً ما كان غير نافع منه. ‏عرف أفرام السريانية بامتياز. كان سيّد الكلمة بكل معنى الكلمة. كتب في السريانية برشاقة نفّاذة ولياقة أخّاذة. طواعية الكلمة لديه كانت خارقة. انسابت الكلمات منه كالجدول الرقراق. وكان، كذلك، كنبع دفّاق. لم تكن له صعوبة في اللغة بل في كثافة الأفكار والصور التي أغدق بها عليه ربّه. لذا توسّل أن يمسك عنه ربّه عطية الأفكار الغزيرة المختارة: "هدّئ عني يا رب أمواج نعمتك!" قال هذا، بكلام النيصصي: "لأن لسانه كان يحوي بحراً شاسعاً من التعليم لا يمكنه التعبير عن أمواجه المتراكمة". مفاهيمه كانت واضحة شفّافة. وأسلوبه صاف ممتع. تكلّم بيسر وغزارة عجيبين وبأسلوب رشيق جامع لا تكلّف فيه، مطعّم بحلاوة جزيلة وقوّة مؤثّرة ونبرة طبيعية وإحساس ‏مرهف وعاطفة جيّاشة حتى كانت الكلمات تخرج من فمه مشحونة بقوة لا تُقاوم. كل هذا حمل القدّيس غريغوريوس النيصصي على تأكيد نفاذ أقوال القدّيس إلى كل قلب بالتساؤل: "من هو ذاك الإنسان المتصلّب والقاسي القلب الذي سمع كلامه ولم يلن ولا حزن لخطاياه تاركاً قساوة طبعه؟ أم أي نفس بربرية أو أي شخص وحشي التصرّف سمع تعليمه ولم يصر للتو صالحاً، وديعاً فاضلاً؟ ‏مَن مِن الذين ينشدون فرح الملذّات المادية تاركين الدموع جانباً إذا أنصت لكلامه لا ‏يحزن ويبكي متذكّراً الجزاء الآتي؟...
‏أفرام والهرطقات:
عكف القدّيس أفرام على دراسة عقائد الكنيسة بدّقة. بتعبير النيصصي ‏"كان البار أفرام قويم الإيمان، لا يخطئ أبداً في أمور العقيدة، كما نستنتج من كتاباته ومن رأي الكنيسة فيه". وقد هدى عددًا كبيرًا من الوثنيّين إلى الإيمان وأصلح جمّاً من الهراطقة. دحض بدعة آريوس بشأن الألوهة وبدعة صباليوس القائلة بالآب والابن والروح القدس مجرّد ظواهر لإله واحد. كما طعن، بقوة، بمعتقد أبوليناريوس الذي طعن بإنسانية الرب يسوع الكاملة، وتصدّى لأتباع أفنوميوس الآريوسي الذي أكدّ لا مساواة الآب والابن في الجوهر. القدّيس إيرونيموس يوصي بكتاب أفرام ضد بدعة مقدونيوس الذي طعن بألوهية الروح القدس. ولم يقف أفرام عند هذا الحد بل تصدّى، بقوّة، للمرقيونية والمانوية والبردسانية التي تنكّرت لقيامة الجسد. يذكر أن بردسان وضع أناشيد ضمّنها قوله ونشرها بين
الناس في الرها. وقد واجه أفرام هذا ‏الأسلوب بأسلوب مثله فجعل التعليم القويم في أناشيد بديعة جرت على ألسنة الناس بيسر. ويصفه النيصصي في حماسه بأنّه "ابن الحقيقة قائلًا إنه "تصدى لما يمكن أن يبذره الشيطان الشرّير من هرطقات لاحقة بفضل رؤياه النبويّة. كل ذلك يظهر في كتاباته النثرية ‏والشعرية".
سيامته:
‏سيم أفرام شمّاساً وعُرف بشمّاس كنيسة الرها. من سامه؟ ‏قيل القدّيس يعقوب، أسقف نصيبين، وقيل القدّيس باسيليوس الكبير. أمّا كهنوته فغير مؤكّد. ورد أنه سيم كاهناً في أواخر حياته. أمفيلوخيوس القدّيس، أسقف إيقونية، وكبريانوس الراهب المرنّم يشهدان لذلك، وربما النيصصي نفسه الذي قال عنه إنه: "كاهن اقتدى بذبيحة هابيل البار الأوّل". كما ورد أنه اختير للأسقفية فارتاع، ولفرط تواضعه تظاهر بالجنون وأخذ يركض ويصيح ويأكل في الشارع فتركوه واختاروا سواه.
‏أفرام وباسيليوس وبيوس:
يرد في بعض النصوص وصف للقاء القدّيسين إفرام و باسيليوس. ونجد صدى لهذا الحدث في كتابات المؤرّخ سوزومينوس. ذهب أفرام إلى باسيليوس، إثر رؤيا، برفقة مترجم من اليونانية وإليها، وسمعه وانتفع منه، وقيل أعطاه باسيليوس، بنعمة الله، أن يتكلّم اليونانية بطلاقة وسامه كاهناً. النيصصي قال إن أفرام جاء إلى قيصرية الكبّادوك بإرشاد الروح القدس فالتقى باسيليوس الكبير، فم الكنيسة وعندليب العقائد الإلهية الذهبي، وشاهد، بعين نفسه الثاقبة، حمامة قائمة على كتف القدّيس ‏باسيليوس الأيمن تملي عليه الأقوال التعليمية وهو بدوره ينقلها إلى الشعب". ‏من جهة أخرى ورد أن القدّيس أفرام ذهب إلى القدّيس الأنبا بيوس (بيشوي)، المعيّد له عندنا في 2‏ تموز، وتبادل وإيّاه كلاماً روحياً جميلاً، ثم عاد إلى دياره على سحاب الهواء.
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
‏محبّته وخدمته:
اتصف القدّيس أفرام بفضيلة محبّة القريب فأخذ على عاتقه مهمّة توزيع القمح على الفقراء في الرها لما حلّت بها المجاعة، و قيل رتّب مستشفى بثلاثمائة سرير لمعاينة المصابين. كما عزّى الغرباء والمساكين بأقواله الخلاصية وحثّ الأغنياء على فتح خزائنهم لإعانة المعوزين. و في رأي ‏النيصصي إن المحبة، التي هي أعظم الفضائل، قد اكتسبها المغبوط أكثر من أي شخص آخر.
كتاباته:
‏إنتاج القدّيس أفرام كان ضخماً. كتب بلغة شاعرية لا مثيل لها. شملت تفا سيره الكتابية أكثر أسفار العهدي القديم والجديد. كما وضع مقالات ضدّ الهرطقات وترك أناشيد عن الفردوس و البتولية و الإيمان و الأسرار الكبرى للمخلّص و أعياد السنة. قسم كبير من أناشيده دخل في الكتب الليتورجية السريانية. و قد شهد آباء كثيرون لأهمية مؤلفاته حتى إن شروحه كانت تُقرأ في الكنيسة بعد تلاوة الكتاب المقدّس. كل هذا جعل الكنيسة تدعوه "قيثارة الروح القدس" و "معلم المسكونة". لم يصلنا من مؤلفاته إلا جزء ضئيل، و هو عبارة عن ستة أجزاء، ثلاثة منها باليونانية واللاتينية وثلاثة ‏بالسريانية واللاتينية. قيل إنه وضع بالسريانية ثلاثة ملايين بيت من الشعر. وقد عُرفت باكراً في اليونانية مؤلفاته النسكية التي هي بمثابة تعاليم روحية للرهبان الذين عرفهم و عاش بينهم. و يلاحظ ارتباط تعاليمه الروحية الوثيق بالكتاب المقدّس الذي كان يورد آياته بتصرّف و غزارة و يسر ‏في سياق كلامه.
رقاده:
‏كثيراً ما كان القدّيس أفرام يشعر بالأسى و السخط و الاضطراب متى أدرك أن الآخرين يعاملونه كقدّيس أو متى عبّروا عن إكرامهم و تقديرهم له. فلما دنت ساعته أوصى تلاميذه و أصدقاءه قائلاً: "لا ترتّلوا الأناشيد الجنائزية في دفن أفرام و لا تؤبّنوه. لا تلفّوا جثتي في كفن غالي الثمن. لا تقيموا النصب لتذكاري. فقط خصّصوا لي مكاناً كما لسائح لأني سائر وغريب كما كان آبائي على الأرض". وإذ لاحظ إن البعض كانوا قد هيّأوا أغطية ثمينة لدفنه حذّرهم من أن يفعلوا و أشار عليهم بضرورة صرف الأموال لا على الأكفان بل على الفقراء. أحد الأغنياء أبى أن يسمع و عزم، في قلبه، على تنفيذ مأربه فاستبدّ به الشيطان و لم يتركه إلاّ بعدما صلّى عليه القدّيس و كشف له فكر قلبه و صرفه عما كان مزمعاً أن يقوم به. ‏كذلك اعترف القدّيس بكونه رجلاً خاطئاً بطّالاً وطلب من الحاضرين ألا يجعلوا رماده الآثم تحت المذبح ولا يأخذ أحد شيئاً من أسماله للبركة ولا يعامله أحد بكرامة لأنه كان خاطئاً و آخر الجميع. "بل ألقوا جسدي بسرعة على أكتافكم و ارموني في المقبرة كأني السقط. لا يمدحنّني أحد لأني أخسّ الناس. و لكي تعاملوني كما استأهل ابصقوا عليّ. لو قُيِّد لكم أن تشتموا نتانة أعمالي لفررتم مني و تركتموني بلا دفن". كل المدينة اجتمعت عند بابه. الكل بكى وسعى للدنو منه ليسمع ولو نصيحة أخيرة من فمه. ثم توقّف أفرام عن الكلام واستمر في صلاته بصمت إلى أن أسلم الروح. ‏وقد حفظت مدينة الرها ذكره وأخذت تعيّد له بعد موته مباشرة. هناك، في عيده، يبدو أن القدّيس غريغوريوس النيصصي ألقى مديحته بناء لطلب شخص يدعى أفرام أسره الإسماعيليون وقيّدوه فاستجار بالقدّيس أفرام فأجاره. ‏يصور طويل القامة، محدودباً من ثقل الأيام، عذباً، جميل المحيّا، ذا عينين سابحتين بالدمع وفي نظرته وهيئته سمات القداسة.
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
قديم 16 - 12 - 2016, 06:52 PM   رقم المشاركة : ( 15352 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

نقل رفات أبينا الجليل في القدّيسين يوحنا الذهبي الفم إلى القسطنطينية
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

‏‏(438م):

‏أخيرًا بلغ النعش كنيسة الرسل القدّيسين حيث مدافن الأباطرة والبطاركة. فلما أُجلس القدّيس، هنا أيضًا، على العرش الأسقفي سُمع صوته يقول: "السلام لجميعكم!".


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
بعدما رقد القدّيس يوحنّا الذهبي الفم في منفاه في كومانا الكبّادوكية، ووري الثرى بقرب القدّيسين الشهيدين باسيليسكوس ولوقيانوس هناك كما كانا قد كشفا له في الحلم قبل وفاته بقليل. ولم تمرّ سنة على ذلك، أي في العام 408م، حتى توفي الإمبراطور البيزنطي أركاديوس وزوجته أودكسيّا واعتلى العرش ثيودوسيوس الصغير.


الإمبراطورة أودكسيّا هي التي كانت وراء نفي القدّيس يوحنّا إلى تلك الأصقاع. إثر ذلك أخذ أتباع القدّيس وأنصاره يستعيدون كراسيهم واعتبارهم بصورة تدريجيّة.

البطريرك الإسكندري ثيوفيلوس الإسكندري كان لهم بالمرصاد، وأبقى، هو وأتباعه، الوضع مشدودًا، أولاً لمناهضته للقدّيس يوحنّا، وبالتالي لمن ينتمي إليه، وثانيًا محاولة منه للاستئثار بالكلمة الفصل في شؤون الكرسي القسطنطيني.

حالة التضاد هذه دامت إلى أن تولّى سدة البطريركيّة القسطنطينية بروكلس (٢٠ ‏تشرين الثاني) الذي كان أحد تلامذة القدّيس الذهبي الفم. وقد تمكّن القدّيس بروكلس من إقناع الإمبراطور بصوابيّة استقدام رفات معلّمه إلى القسطنطينية من كومانا.

صعوبة في نقل الرفات:

فلما خرج المرسلون والجنود إلى ‏هناك لنقل الرفات، واجهتهم مشكلة لم يتمكّنوا من معالجتها. بدا كأن النعش ملتصق بالأرض. تعذّرت زحزحته رغم كلّ المحاولات. كأنما القدّيس أبى أن يغادر المكان. لماذا؟


‏كانت ثمة عقبة! ولم يلبث الإمبراطور ثيودوسيوس الصغير أن شعر إنّه هو السبب، وإن الذهبي الفم غير راضٍ عنه لأنّه لم يبد عن والديه لا توبة ولا اتضاعًا كافيين. لذا لجأ إلى أسلوب كان القدامى يتبعونه، فيما يبدو، تعبيرًا عن توبتهم وحسن نواياهم حيال الراقدين.

رسالة الإمبّراطور آلى جسد القدّيس الراقد يطلب منه المسامحة:

كتب رسالة إلى القدّيس يوحنّا، كما لو كان حيًّا في الجسد، سأله فيها العفو والمسامحة لما اقترفه والداه حياله، ورجّاه أن يقبل العودة إلى المدينة المتملّكة لسرور وعزاء الكثيرين من الذين طال انتظارهم له بشوق كبير.

فلمّا حمل الموفدون الرسالة ووضعوها على صدر القدّيس انحلّت المشكلة وتزحّزح النعش فأمكن نقله إلى القسطنطينية بسهولة.


نقل النعش:



‏نُقل النعش من كومانا بإكرام عظيم. فلمّا بلغ الموكب خلقيدونية،غطّى الشعب المياه الفاصلة بين خلقيدونية والمدينة المتملّكة في مراكب مزيّنة ومضاءة بالمشاعل حتى بدت كأنّها اليابسة.

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

هبوب العاصفة:

فجأة هبّت عاصفة هوجاء أربكت السفن الملكيّة ومالت بالسفينة التي كانت تقلّ النعش إلى نقطة من البرّ استقرّت فيها وأبت أن تتزحزح. فلمّا استطلع المعنيّون الأمر تبيّن لهم أن هذه البقعة من الأرض تخصّ إمرأة أرملة اسمها كاليتروبي كانت الإمبراطورة أودكسيّا وضعت عليها اليد بالقوّة لمناصرنها للقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم.


على الأثر صدر أمر بإعادة الأرض إلى الأرملة. إذ ذاك فقط هدأ عجيج البحر وتابعت السفينة الملكيّة سيرها بسلام.


اهتزاز قبر أودكسيّا:


‏أخيرًا وصل النعش إلى القسطنطينية فأُدخل أوّلاً كنيسة القدّيس الرسول توما في أمنتيوس. هناك كانت أودكسيّا الإمبراطورة مدفونة وكان ضريحها عرضة للاهتزاز المتواصل لعشرين سنة خلت. فلمّا دخل نعش القدّيس يوحنّا الذهبي الفم استكان ضريح أودكسيّا.


سٌمع صوت القدّيس مباركًا الشعب:

‏بعد ذلك أُدخل النعش إلى كنيسة القدّيسة إيريني حيث أُجلس القدّيس على العرش وصرخ الشعب بفرح عظيم: "استعدْ عرشك يا قدّيس الله!".

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة ‏أخيرًا بلغ النعش كنيسة الرسل القدّيسين حيث مدافن الأباطرة والبطاركة. فلما أُجلس القدّيس، هنا أيضًا، على العرش الأسقفي سُمع صوته يقول: "السلام لجميعكم!".



وقد جُعلت الرفات تحت المائدة وأُقيمت الذبيحة ‏الإلهّية فجرت بالرفات عجائب جمّة.
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
قديم 16 - 12 - 2016, 06:54 PM   رقم المشاركة : ( 15353 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

تذكار نقل رفات أبينا الجليل في القدّيسين يوحنا الذهبي الفم إلى القسطنطينية
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة


(438م)
بعدما رقد القدّيس يوحنا الذهبي الفم في منفاه في كومانا الكبّادوكية، ووري الثرى بقرب القدّيسَين الشهيدَين باسيليسكوس ولوقيانوس هناك كما كانا قد كشفا له في الحلم قبل وفاته بقليل. ولم تمرّ سنة على ذلك، أي في العام 408 م، حتى توفي الأمبراطور البيزنطي أركاديوس وزوجته أودكسيا واعتلى العرش ثيودوسيوس الصغير.
الأمبراطورة أودكسيا هي التي كانت وراء نفي القدّيس يوحنا الذهبي الفم إلى تلك الأصقاع.
إثر ذلك أخذ أتباع القدّيس وأنصاره يستعيدون كراسيهم واعتبارهم بصورة تدريجية. البطريرك الإسكندري ثيوفيلوس الإسكندري كان لهم بالمرصاد وأبقى، هو وأتباعه، الوضع مشدوداً، أولاً لمناهضته للقدّيس يوحنا، وبالتالي لمن ينتمي إليه، وثانياً محاولة منه للإستئثار بكلمة الفصل في شؤون الكرسي القسطنطيني.
حالة التضاد هذه دامت إلى أن تولّى سدة البطريركية القسطنطينية بروكلس (20 تشرين الثاني) الذي كان أحد تلامذة الذهبي الفم. وقد تمكّن القدّيس بروكلس من إقناع الأمبراطور بصوابية استقدام رفات معلّمه إلى القسطنطينية من كومانا.
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
استحالة نقل الرفات ورسالة الإعتذار:
فلما خرج المرسلون والجنود إلى هناك لنقل الرفات واجهتهم مشكلة لم يتمكّنوا من معالجتها. بدا كأن النعش ملتصق بالأرض، تعذّرت زحزحته رغم كل المحاولات. كأنما القدّيس أبى أن يغادر المكان.
لماذا؟ كانت ثمة عقبة!
ولم يلبث الأمبراطور ثيودوسيوس الصغير أن شعر أنه هو السبب وأن الذهبي الفم غير راض عنه لأنّه لم يبد عن والديه لا توبة ولا اتضاعاً كافيين. لذا لجأ إلى أسلوب كان القدامى يتبعونه، فيما يبدو، تعبيراً عن توبتهم وحسن نواياهم حيال الراقدين، فكتب رسالة إلى القدّيس يوحنا، كما لو كان حيّاً في الجسد، سأله فيها العفو والمسامحة لما اقترفه والداه حياله ورجاه أن يقبل العودة إلى المدينة المتملّكة لسرور وعزاء الكثيرين من الذين طال انتظارهم له بشوق كبير.
فلما حمل الموفدون الرسالة ووضعوها على صدر القدّيس انحلّت المشكلة وتزحزح النعش فأمكن نقله إلى القسطنطينية بسهولة.

إنحراف السفينة:
نقل النعش من كومانا بإكرام عظيم. فلما بلغ الموكب خلقيدونية، غطّى الشعب المياه الفاصلة بين خلقيدونية والمدينة المتملّكة في مراكب مزيّنة ومضاءة بالمشاعل حتى بدت كأنها اليابسة، فجأة هبّت عاصفة هوجاء اربكت السفن الملكية ومالت بالسفينة التي كانت تقلّ النعش إلى نقطة من البرّ استقرّت فيها وأبت أن تتزحزح. فلما استطلع المعنيّون الأمر تبيّن لهم أن هذه البقعة من الأرض تخصّ امرأة أرملة اسمها كاليتروبي فرغبت فيها الأمبراطورة أفدوكسيا ووضعت عليها اليد بالقوة.
ولكن انتصر الذهبي الفم للأرملة فحقدت عليه الملكة، ولما سنحت لها الفرصة أبعدته إلى كومانا، على الأثر صدر أمر بإعادة الأرض إلى الأرملة. إذ ذاك فقط هدأ عجيج البحر وتابعت السفينة الملكية سيرها بسلام.

وصول الرفات إلى القسطنطينية:
أخيراً وصل النعش إلى القسطنطينية فأُدخل أولاً كنيسة القدّيس الرسول توما في أمنتيوس.
هناك كانت أودكسيا الأمبراطورة مدفونة وكان ضريحها عرضة للإهتزاز المتواصل لعشرين سنة خلت، فلما دخل نعش الذهبي الفم استكان ضريح أودكسيا.
بعد ذلك أُدخل النعش إلى كنيسة القديسة إيريني حيث أُجلس القدّيس على العرش وصرخ الشعب بفرح عظيم: "استعدْ عرشك يا قدّيس الله!".
أخيراً بلغ النعش كنيسة الرسل القدّيسين حيث مدافن الأباطرة والبطاركة. فلما أُجلس القدّيس، هنا أيضاً، على العرش الأسقفي سُمع صوته يقول:"السلام لجميعكم!".
وقد جُعلت الرفات تحت المائدة وأقيمت الذبيحة الإلهية فجرت بالرفات عجائب جمّة.
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
قديم 16 - 12 - 2016, 06:55 PM   رقم المشاركة : ( 15354 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

القدّيس البارّ كسينوفوندوس مع زوجته ماريّا وولديه أركاديوس ويوحنّا
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
القدّيس البارّ كسينوفوندوس مع زوجته ماريّا وولديه أركاديوس ويوحنّا ‎‏(القرن6م)‏:
كسينوفون هو أحد رجال المشيخة المعروفين في مدينة القسطنطينية، أيام الإمبراطور البيزنطي يوستينيانوس الأول (527-565‏م). زوجته مريّا، امرأة فاضلة، وله ولدان أركاديوس ويوحنا.
نعم الصبيّان بفرص تعليمية جيّدة يسَّرها لهما وضع العائلة. فلما بلغا أرسلهما والدهما لتلقّي العلم القانوني في مدرسة بيروت الشهيرة، في تلك الأيام. ولم يمرّ على ذلك زمان قصير حتى مرض كسينوفون وشارف على الموت، فاستدعى ولديه.
ولكن، وبصورة غير متوقّعة، استعاد كسينوفون عافيته، بنعمة الله، فركب الشابان البحر من جديد طالبين بيروت.
في الطريق، ضربت المركب عاصفة مجنونة فتكسّر. وإذ لم تكن إرادة الله أن يهلك الصبيّان، نجيا، ولكن وُجد كل منهما في موضع لا يدري به أخوه، وظنُّه أن أخاه قضى وهو وحده ‏باق على قيد الحياة. ليس الموضع الذي انكسر فيه المركب ونجا إليه الأخوان محدّداً بدقة. في بعض المراجع إن ذلك حدث في نواحي صور. ولكن ورد عندنا إن الموضع هو رأس الشقعة، مقابل دير النورية، ولعلّ هذا هوالأصح ‏جغرافياً. ‏
أنّى يكن الأمر، فإن أحدهما، يوحنا، ترهّب في أحد أديرة لبنان، فيما ‏انتقل الثاني، أركاديوس، إلى الأرض المقدّسة حاجّاً، وهناك التقى شيخاً قدّيساً له موهبة التبصّر، فاحتضنه وطمأنه إلى أخيه ووالديه ووعده بأنه سيلتقيهم، بنعمة الله، في الوقت المناسب، ثم أخذه ورهبنه في دير القدّيس خاريطون، المدعو سوقا، جنوبي بيت لحم وغربي البحر الميت. ‏
ومرّت سنتان لم يتلقّ كسينوفون خلالهما أية رسالة من ولديه فانشغل ‏باله وأوفد أحد خدّامه يستطلع حالهما.
بلغ الرسول بيروت وسأل عن الشابين فلم يجدهما ولا أخبره أحد عنهما شيئاً فترك إلى أثينة وهو يضرب أخماساً بأسداس. وإذ حدث، بتدبير الله، إن نزل خاناً، التقى أحد الخدّام السابقين للشابين وكان في حلّة رهبانية. فأخبره الراهب بأن المركب غرق وإنه هو صار راهباً ولا يعرف من أمر يوحنا وأركايوس شيئاً. أغلب الظن أنهما هلكا في البحر.
عاد الرسول إلى القسطنطينية وأطلع مريّا على ما اجتمع لديه من ‏معلومات فاضطربت، لكنها أمسكت نفسها لأنها امرأة مؤمنة تعرف أن تلقي حملها على الله. فلما عاد كسينوفون، زوجها، عند المساء وعلم بعودة خادمه طلب أن يرى الرسالة التي لا بد أن يكون قد حملها معه. فانفجرت ماريّا بالبكاء وأخبرته بأن ولديها غرقا في طريق عودتهما إلى بيروت، منذ سنتين. فصمت كسينوفون من هول المفاجأة، ثم تنهّد وقال: "الرب أعطى ‏والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركاً!" (أيوب21:1‏).
‏في تلك الليلة لبس الزوجان المسوح وأقاما في الصلاة طول الليل. في الصباح الباكر جاءهما حلم رأيا فيه ولديهما واقفين أمام المسيح ورأس كل منهما مزيّناً بالذهب والحجارة الكريمة. على الأثر قرّرا الحجّ إلى الأماكن المقدّسة في فلسطين. ‏
بلغ كسينوفون ومريّا أورشليم فالتقاهما الشيخ القدّيس الذي التزم أركاديوس راهباً، وعرفهما بالروح، فقال لهما عن ابنيهما أنهما ما زالا على قيد الحياة وسوف يلتقيانهما بعد عودتهما من زيارة أديرة الأردن. وإذ لم يفصح الشيخ أكثر من ذلك ترك الأبوين بين مهابة ورجاء.
الشيخ، فيما يبدو، كان معروفاً من الكثيرين. ‏في تلك الأثناء خرج يوحنا من ديره طالباً وجه الأرض المقدّسة حاجّاً، وكذا فعل أركاديوس، فالتقيا في الجلجثة عند الشيخ الذي جاءاه مستبرِكَين مسترشّدَين. ثم بعد يومين عاد كسينوفون ومريّا ورغبا في زيارة الشيخ. فلما وصلا إلى هناك لاحظا شابين، هما اللذان قاما بخدمة المائدة، وكان هذان ‏الشابان لطيفين، هادئين، متماسكين، فلم يعرفاهما لأنهما كانا قد تغيّرا من النسك والسهر وأتعاب الرهبنة. فلما سأل الأبوان عن الشابين من يكونا ومن أين أتيا عرفا أنهما ولداهما فانفجرا فرحاً وشكرا الله جزيلاً على لطفه وتدبيره. ‏
ثم إن الأخوين خرجا، برفقة الشيخ، بعد حين، إلى الصحراء ليتمِّما نذرهما، فيما وزّع الزوجان ثروتهما على الفقراء وترهّبا. ‏وقد أتمّ الأربعة سعيهم رهابين إلى أن تكمّلوا في الفضيلة وانضمّوا إلى معشر القدّيسين.
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
قديم 16 - 12 - 2016, 07:08 PM   رقم المشاركة : ( 15355 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

الْقِدِّيسِ غريغوريوس اللاهوتي رئيس أساقفة القسطنطينيّة
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

أبونا الجليل في القديسين غريغوريوس اللاهوتي (+ 329/390م):

طروباريّة القدّيس غريغوريوس اللاهوتي إنَّ المزمار الرِّعائي لتكلُّمِكَ في اللاهوت، قد قهر أبواقَ الخطباء وغلبها، فبما أنك التمستَ أعماق الروح قد أُضيف إليكَ حسنُ النُّطق، أيها الأب غريغوريوس،
فتشفَّع إلى المسيح الإله أن يخلِّصَ نفوسنا


هو المعروف أيضاً بلقب النزينزي نسبة إلى مدينة صغيرة اسمها نزينزة قريبة من قيصرية في بلاد الكبّادوك.
في هذه المدينة نشأ قدّيسنا وترعرع. ويبدو أن ولادته كانت في مزرعة قريبة من المدينة تدعى أرينزة ملكتها العائلة. تاريخ ولادته غير محدّد تماماّ. يظنّ أنه قريب من السنة 329 ‏/ 330م. ‏أبوه هو القدّيس غريغوريوس الشيخ المعيّد له في أول كانون الثاني.
انتمى والده منذ الصغر إلى نحلة تعرف بـ "عبّاد العليّ" أو "الهيبسيستاري" جمعت بعض الوثنية إلى بعض اليهودية وأكرمت النور والنار. لكنه كان رجل استقامة بحسب الناموس الطبيعي.
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
اهتدى واعتمد بتأثير زوجته المؤمنة وسلك في الفضيلة. لوحظ لفضله وحكمته وغيرته على الكنيسة فاختير أسقفاً على نزينزة. أحبّ الفقير حباً كبيراً وعاش إلى مئة عام.
‏أما أمّه فهي القدّيسة نونّة المعيد لها في 5آب. كانت زينة النساء ‏المسيحيات، تقيّة، مصلّية، فاضلة، صلبة، حكيمة، صبورة. أكثر ما في تنشئة غريغوريوس على حب الله والسير في الفضيلة مردّه نونّة. هي نحتت اسم الله في قلبه أولاً. بفضل صلاتها ودموعها ارتدّ غريغوريوس الشيخ عن غيّه. ولمّا يأت قدّيسنا إلى الحياة إلاّ بعد الصلوات الحارّة لنونّة ‏ونذرها إيّاه لله حتى قبل أن يبصر النور. فلما أنجبته جعلت يديه كلتيهما على الإنجيل علامة تكريسها إيّاه لخدمة الله. ‏
وإلى غريغوريوس أنجب الزوجان الفاضلان بنتاً وصبياً، وكلاهما قديس: ‏غرغونية، يعيّد لها في 23شباط، وقيصاريوس ويعيد له في 25شباط. ‏وإذ تمتّعت العائلة برفعة الشأن وبحبوحة العيش تسنّى لغريغوريوس، إلى التقوى، أن يحصّل من العلم والثقافة القدر الوافر، مما يسّر له أن يؤدي لربّه شهادة مميّزة وخدمة مباركة من حيث تطويعه علوم عصره وسوق كل فكر إلى طاعة المسيح على حسب قول الرسول المصطفى: "هادمين ظنوناً وكل علو يرتفع ضد معرفة الله ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح" (2‏كور5:10).


حلم الصبا:
هذا وقد نقل غريغوريوس في وقت متأخر من حياته إنه حين كان فتى أتاه حلم انطبع في نفسه أن عذراوين جاءتا إليه مجلّلتين بالبياض، اسم إحداهما "طهارة"، واسم الثانية "عفة" وأخبرتاه إنهما ترافقان الرب يسوع على الدوام وكذا الذين يلتمسون الحياة السماوية. كما دعتاه إلى توحيد قلبه وروحه بهما حتى إذا ما امتلأ من بهاء البتولية قدّمتاه إلى نور الثالوث القدّوس.


تحصيله العلوم:
بقي غريغوريوس في نزينزة إلى حدود الثالثة عشرة من العمر حصّل خلالها ما أمكنه من العلم والمعرفة. ثم انتقل إلى قيصرية الكبّادوك حيث التقى القدّيس باسيليوس الكبير الذي أضحى، فيما بعد، ربيب عمره وأليف نفسه. ثم ترك إلى قيصرية فلسطين فإلى الإسكندرية، إلى سن السابعة عشرة تقريباً، ومن هناك ارتحل إلى أثينا ليدرس البلاغة والشعر والأدب والفلسفة على أشهر معلّمي ذاك الزمان. أثينا كانت يومها أبرز مواطن العلوم والآداب قاطبة. هناك التقى غريغوريوس وباسيليوس من جديد ونمت الصداقة بينهما إلى أبعد الحدود. وقد تابعا الدراسة سويّة سنوات.


حادثة مصيرية: ‏
في الطريق من الإسكندرية إلى أثينا، وتحديداً في مياه جزيرة قبرص، تعرّض المركب الذي استقلّه غريغوريوس لمتاعب جمّة. ضربته العواصف واستبدّت به الأهواء وتلهّت به الرياح عشرين يوماً ويزيد. نفذ ماء الشرب ولاح شبح الموت ثقيلاً كل يوم. ارتعب غريغوريوس وارتجّت نفسه حتى العظم. السبب إنه لم يكن، إلى ذلك الوقت، قد اعتمد. المعمودية، يومذاك، كانت، تتأخر، أحياناً كثيرة، إلى سن الثلاثين، وهو العمر الذي اعتمد فيه السيّد في الأردن. وإذ خشي غريغوريوس أن يُقضى عليه من دون أن يعتمد ركع وصلّى بدموع وعاهد ربّه على خدمته ما حيي لو قُيّد له أن ينجو من هذا الخطر الجسيم. للحال استكانت العاصفة فسار المركب إلى رودس ومنها إلى أثينا بسلام.
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

الصديقان:
جمع الصديقين في أثينا همّ واحد مشترك: محبّة الله ثم محبّة البلاغة والأدب والفلسفة. لذا اجتنبا معاً عشرة المعلّمين ذوي السيرة المتفلّتة واقتصرا على التعاطي مع ذوي الحرص والفضيلة. لم يكن لهما في التسليات البطّالة والمجون نصيب، ولا عرفا في إقامتهما سوى طريقين: ذاك الذي يفضي إلى الكنيسة وذاك الذي يؤدّي إلى المدرسة. نبذا الغنى وحسباه أشواكاً. اكتفيا من مخصّصاتهما بما يسدّ ضرورات الجسد والباقي درجا على توزيعه للفقراء. لم يكن للحسد مكان فيهما. الحب الخالص جعل كلا منهما يحسب كرامة صاحبه ومنفعته ككرامته ومنفعته هو. كل واحد كان لأخيه منخساً للصلاح، وكل واحد اقتدى بأخيه في إتمام الصوم والصلاة وكل فضيلة.


العودة:
بقي غريغرريوس في أثينا إلى سن الثلاثين تقريباً (359م) ثم عاد إلى نزينزة. أول ما فعله أن اقتبل المعمودية من يد أبيه مكرِّساً نفسه بالكلّية لله. قال: "قد أعطيتُ كل ما هو لي ذاك الذي أعطاني إيّاه فأضحى هو لي كلّ ما أملك. كرّست له خيراتي واعتباري وصحّتي ولساني ومواهبي. والثمرة التي جنيتها من كل هذه الامتيازات هي الغبطة التي أشعر بها من جرّا اعتباري لها جميعاً كلا شي، من أجل المسيح".
من تلك اللحظة، وبتصميم لا هوادة فيه، مات غريغوريوس عن الطموحات العالمية والغنى والشهرة ومتع الحياة الدنيا. وحده الله أضحى له الكل ووحده اللاهوت أضحى المتعة. بات طعامه الخبز القاسي مع الملح والماء. أخذ ينام على الأرض ولا يلبس إلاّ الخشن والحقير. صار يعمل النهار بطوله ويصرف سحابة هامة من ليله في تمجيد الله والتأمل في الإلهيات.
وإلى الغنى أعرض غريغوريوس عن الآداب العالمية، تلك التي أنفق الكثير من الوقت والجهد في تحصيلها. قدّم نفسه قرباناً لله، فيما هجر المؤلفات الكلاسيكية اليونانية وكُتب الشعر والبلاغة "طعماً للدود والعثّ" على حدّ تعبيره. باتت أعظم الكرامات العالمية لعينيه أحلاماً خاوية ينخدع بها الناس. لم يعد شيء، في نظره، يداني حياة الإنسان الذي مات عن نفسه وعن أمياله الحسيّة وصار يعيش كما لو كان خارج العالم، ولا حديث ‏له يستهويه إلاّ إلى ربّه (الخطبة 29).
اهتمّ، لبعض الوقت، بإدارة شؤون بيت أبيه، لكنه مرض مرّات بسبب نسكه المتشدّد وبكائه وقلّة خلوده إلى النوم. وإذ اعتاد في فتوّته القهقهة استعاض عنها الآن بالبكاء. لم يعد للغضب سلطان عليه وخلدت نفسه إلى الهدوء. سخاؤه في العطاء للفقير جعله خلواً من خيرات الأرض كأفقر الناس، فيما استحال بيته وأرضه إلى ما يشبه الميناء للمسافرين في البحر. حبّه للخلوة والصمت كان كبيراً. وكان يرثي للمبالغات المتأتية من إقبال الناس على كثرة الكلام، وللّهف الشقي الذي يستبدّ بالناس لأن يصبحوا معلّمين لغيرهم.


منسك مشترك: ‏

لم تدم إقامة غريغوريوس في نزينزة طويلاً. كان يتوق إلى حياة التوحّد. في تلك الأثناء كانت بين الصديقين، باسيليوس وغريغوريوس، مراسلات. فلما عرض باسيليوس تأسيس منسك لاقى عرضه صدى طيّباً في نفس صديقه. لكن، وببراءة أخّاذة، اختلف الرأي في أي مكان يكون الأوفق.
اقترح غريغوريوس أن يكونا في تيبيرينة على نهر أرينزة، وهي من ممتلكات أبيه، فيما تمسّك باسيليوس بإيبوره مقابل مختلى والدته في أنّيسي، وهي أيضاً من ممتلكات عائلته. كل شدّ الحبل إلى صدره. عن تيبيرينة قال باسيليوس إنها موحلة، قذرة ولا شيء فيها يُشتهى. وعن إيبوره التي لم يكن غريغوريوس قد شاهدها بعد ولكن كانت له فكرة عنها، قال إن جبالها شديدة الانحدار والوعورة، مشوكة، ولا زهور فيها. الهواء فيها مقطوع والشمس بالكاد تنفذ إليها لأن الصخور هناك أدنى إلى الستائر الثقيلة، والمرء بحاجة لأن يكون بهلواناً ليصل إلى المكان، فيما النهر يزأر زئيراً وفيه حجارة أكثر مما فيه سمك ويضرب الصخور ضرباً يصمّ الآذان.
‏رغم ذلك كله ربح باسيليوس الجولة. فلما زار غريغوريوس المكان راق له مع إنه لم يشأ أن يقرّ لصديقه بجمالية الموضع. والحق إن الموضوع كان أبعد من موضوع مكان. غريغوريوس كان متعلقاً بباسيليوس. فعن أيام أثينا قال: "في أثينا بحثت عن البلاغة فوجدت السعادة لأني وجدت باسيليوس"! كما كتب إليه مرة يقول له: "أنت نفَسي أكثر من الهواء وعلى قدر ما أكون برفقتك أشعر بالحياة". ‏
في إيبوره، أقام غريغوريوس قرابة السنتين. سهر وصام وصلّى ودرس الكتب المقدّسة ورنّم المزامير وعمل بيديه واشتغل وصديقه في جمع مختارات من كتابات أوريجنيس المعلّم أسمياها الفيلوكاليا وتساعدا في وضع قانون الحياة الرهبانية للشركة الناشئة. ‏ثم قبل ميلاد العام 361م اضطر غريغوريوس للعودة إلى نزينزة.


كاهناً بالقوة: ‏
والد القدّيس غريغوريوس كان قد جاوز الثمانين وكان بحاجة إلى ابنه معيناً له في تدبير شؤون الرعية في نزينزة. لهذا السبب عاد قدّيسنا ليكون بجانب أبيه. لكن الأجواء في نزينزة كانت مشدودة لأن غريغوريوس الشيخ وقّع، من دون انتباه، بياناً توفيقياً لا يخلو من الآراء الآريوسية. نتيجة ذلك تصدّى له العديدون، لاسيما الرهبان، وأرادوا التخلّص منه. فلما وصل قدّيسنا أصلح الحال وهدّأ النفوس، فعاد السلام إلى نزينزة وأكبر المؤمنون عمل غريغوريوس إكباراً عظيماً.
‏ثم في ميلاد العام 361 ‏حدث ما شكّل لغريغوريوس صدمة. فجأة أمسكوه وحملوه إلى الكنيسة حملاً وألزموه أن يصير كاهناً. لم يكن بإمكانه لا أن يرفض ولا أن يهرب فسلّم أمره لله ورضخ للأمر الواقع الذي أسماه، فيما بعد، "عمل استبداد روحي".
لكنه لم يثبت أكثر من اثني عشر يوماً هرب بعدها إلى صديقه في إيبوره، فأقنعه صديقه بضرورة العودة فعاد صاغراً في عيد الفصح من السنة التالية 362‏م. وقد دافع عن نفسه في خطبة تعتبر من أجلّ ما قيل في الكهنوت ومنها استقى القدّيس يوحنا الذهبي الفم مقالته في الموضوع نفسه.


كيف دافع غريغوريوس عن موقفه؟:
تحدّث عن رفعة الكهنوت وواجباته ومخاطر الخدمة الكهنوتية. القداسة شرط الدنو من الهيكل والمثول أمام الله، سيّد الطهارة. ليس أقسى من أن يسوس المرء ضمائر الناس ويعالج أدواء النفوس. لا بد من الفضيلة والعلم للقيام بهذه الأعباء المقدّسة وتلبية حاجات المؤمنين ودحض المفاسد. فمن حق غريغوريوس أن يضطرب إزاء جسامة المسؤولية وأن يسعى إلى إعداد نفسه لخدمة الهيكل بالصلاة والنسك والتأمل. "لا بد للمرء أن ينقّي نفسه قبل أن ينقّي غيره، وأن يصبح حكيماً قبل أن يحمل الآخرين إلى الحكمة، وأن يصير نوراً قبل أن يعطي النور، وأن يدنو من الله قبل أن يحملهم إليه وأن يتقدّس قبل أن يقدّس الآخرين، وأن تكون له يدان قبل أن يقود الآخرين باليد وأن تكون له حكمة قبل أن يتكلم بحكمة".
وقد أفصح غريغوريوس أن شعوره بعدم الاستحقاق هو السبب الأول لفراره وإنه إذ يعود ليقبل الكهنوت، لا يعود لشعوره بأنه بات مستحقاً بل لاشتياقه إلى شعب نزينزة ولوالديه المسنّين ولأنه لا يجوز أن يقاوم أحد دعوة الله له. فها قد عاد كيونان راجياً أن تشدّده الطاعة وتزوِّده بالنعمة اللازمة لإتمام خدمته. ‏بقي غريغوريوس في نزينزة ما يقرب من السنوات العشر يعمل بصمت مكتفياً بممارسة نسكه على طريقته.
أسقفاً رغماً عنه:
‏سنة370‏م أضحى باسيليوس رئيس أساقفة على قيصرية الكبّادوك. أحد الذين لعبوا دوراً بارزاً في حمله إلى سدّة رئاسة الكهنوت كان غريغوريوس الشيخ. أما قدّيسنا فعمل من بعيد وسعى لأن يبقى خارج صورة الاحتفالات وتحرّكات أنصار باسيليوس. خلوته من ناحية وحرصه على الابتعاد عن الأضواء من ناحية أخرى أبقياه بعيداً عن باسيليوس.
عرض عليه صديقه بعد حين أن يكون متقدّماً في كهنة قيصرية فرفض العرض. ومرّت أشهر فإذا بمشكلة كأداء تطرأ. فالنس، الإمبراطور ذو الأميال الآريوسية، أراد إضعاف سلطة باسيليوس وإيهان شأنه، فأصدر مرسوماً قضى بتقسيم ولاية الكبّادوك إلى مقاطعتين، الأولى عاصمتها قيصرية والثانية عاصمتها تيانا. وحيث إن التقسيم الكنسي كان يتبع التقسيم الإداري المدني، فقد خسر باسيليوس أكثر من نصف أبرشيته. وحتى لا تضعف سلطته في مواجهة فالنس ورئيس أساقفة الأبرشية الجديدة أنثيموس، فقد سعى، وبسرعة، إلى تحويل عدد من القرى المغمورة إلى أسقفيات جعل عليها أساقفة من أنصاره.

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة


أحد الذين شملتهم التدابير الجديدة كان غريغوريوس. أراده باسيليوس على زاسيما المتاخمة لحدود أبرشية تيانا. زاسيما كانت محطة للخيل على ملتقى ثلاث طرق، وصفها غريغوريوس بأنها مكان صغير كريه لا ماء فيه ولا عشب ولا شيء من معالم الحضارة. وأضاف: لا يوجد هنا غير الغبار والضجيج والصراخ والأنين والموظفين الأشقياء والسلاسل وأدوات التعذيب، والسكان ‏جلّهم من التجار المسافرين والغرباء. ‏
لم يشأ غريغوريوس أول الأمر أن يستجيب. شعر بأن صديقه خانه واختار للأسقفية الجديدة أشقى موضع في الأرض. الصداقة بين الرجلين كانت على المحك. أخيراً، وكالعادة، لم يكن أمام غريغوريوس إلاّ الرضوخ فسيم أسقفاً على زاسيما في نزينزة. كان ذلك سنة 372م. في المقابل رأى غريغوريوس نفسه أنه كالعظم يلقى للكلاب. وقد عزم على التوجّه إلى زاسيما والبقاء فيها طالما كان ذلك نافعاً. لكنه لما ذهب إلى هناك، والبعض يقول إنه لم يذهب إليها البتّة، أدرك أنه لا شيء يُرتجى من إقامته فيها فعاد أدراجه إلى نزينزة، مساعداً لأبيه. كانت زاسيما على بعد أربعة وعشرين ‏ميلاً من نزينزة. مذ ذاك أصاب علاقته بباسيليوس الفتور.

سلسلة نكبات:
‏بقي غريغوريوس في نزينزة إلى حوالي العام 375م، حلّت به خلالها محن قاسية، لاسيما لرهافة حسّه. أبوه وأمه وأخوه وأخته كلّّهم رقدوا في غضون سنوات قليلة، فيما مرض هو وقرب من الموت. كما حلّت النكبات الطبيعية بنزينزة، الطاعون أصاب البقر والبرد خرّب المحاصيل. الفلاّحون تضايقوا وعمّال الضرائب ضغطوا فكانت شبه ثورة أخمدها العسكر وخلّفت مآس وضيقات. انحطّت نزينزة كمدينة وهدّد الحاكم بهدمها بالكامل. أجواء القلق والخوف سيطرت. غريغوريوس وعظ وشدّد كما فعل الذهبي الفم حين ساد الخوف أنطاكية إثر تحطيم التماثيل الملكية. هنا أيضاً لم ينفّذ الحاكم تهديده، لكن النفوس أقامت مشوّشة مضطربة متضايقة سنوات.
‏وكما ضغطت الأحداث على غريغوريوس من الخارج، ضغطت عليه أحزانه من الداخل، فلم يجد لنفسه مهرباً إلاّ الخلوة والهدوء، فغادر إلى سلفكية إيصفرية حيث بقي ما يقرب من السنوات الأربع كما لو كان في مقبرة منعزلاً عن العالم. ‏وكان يمكن لغريغوريوس أن ينهي حياته في سلفكية على هذا المنوال. لكن كان لربه في شأنه تدبير آخر. ‏سنة 378م قُتل الإمبراطور الآريوسي فالنس ولاحت في سماء الكنيسة تباشير فجر جديد. وسنة 379م رقد في الرب عمود الأرثوذكسية، في ذلك الزمان، القديس باسيليوس الكبير.
‏كلا الحدثين حملا غريغوريوس على العودة إلى أرينزة. ‏لما وصله خبر وفاة باسيليوس انصدم ومرض. كتب لصديق له يدعى أفدوكسيوس يقول: "تسأل عن حالي فأخبرك. أنا كأس تفيض مرارة. خسرت باسيليوس. خسرت قيصاريوس الذي كان أخي في الجسد وأخي في الروح. صحتي ضعيفة. الشيخوخة تحوم حولي وتكدّني الهموم. أصدقائي لا أمانة فيهم والكنيسة بلا رعاة. كل الكرامة بادت. الإثم يربض سافراً أمام العيون. نسافر في الظلمة ولا منارة بعد. المسيح راقد! ماذا سيحدث لنا؟ لست أتطلّع إلى النياح من هذه النكبات إلا بالموت. وإذا كان لي أن أحكم باعتبار ‏ما هو قائم هنا فإني أرتعد من الآتي بعد القبر!"


أسقفاً للقسطنطينية:
إثر وفاة فالنس الإمبراطور تلحلح الرضع الكنسي وتنفّس الفريق ‏الأرثوذكسي الصعداء. الأرثوذكس في القسطنطينية كانوا قلّة مبعثرة. مائة كنيسة في المدينة كانت في يد الآريوسيين. ولا واحدة كانت للأرثوذكس. لقد أقامت المدينة في السبي الآريوسي أربعين سنة كاملة. والآن بعد أن أطلّ فجر جديد جالت العيون في من تُرى يجمع شمل الرعية المتبدّدة ويشدّ أزرها. وكان غريغوريوس الخيار فاستجاب بعزم وحميّة لم يعهدهما أحد فيه من قبل. كيف لا والقضية قضية الثالوث القدّوس! الأمانة والغيرة أخرجاه مرارة نفسه إلى حلاوات النور، ومن الانكفاء إلى طليعة خراف المسيح.
فجأة وُجد في القسطنطينية. لا نعرف كيف ولا الظروف. كان قد صلع وانحنى وارتسمت على محيّاه معالم النسك واحتفرت في وجهه مجاري الدموع. كان فقير الثوب، فقير الروح، لا هيأة له ولا جمال. لكن روح الرب ‏كان فيه قوياً أخّاذاً والكلمة في فمه خلاّبة. ‏لم يجد غريغوريوس في القسطنطينية كنيسة واحدة يلتقي فيها ‏المؤمنين أحد أقربائه فتح له داره فحوّل أحدى القاعات فيها كنيسة "دعيت "كنيسة القيامة".
في هذا المكان بالذات، فيما يبدو، تفوّه قدّيسنا بخطبه اللاهوتية الخمسة الشهيرة، تلك التي أهّلته للقب اللاهوتي". لم يكن أحد، ‏إلى ذلك الزمان، قد لُقب بـ "اللاهوتي" إلاّ القدّيس يوحنا كاتب الإنجيل الرابع. وغيّرت مواعظه الموازين. انقلب الشعب إليه وانقلب الهراطقة عليه. الآريوسيون والأبوليناريون سعوا جهدهم للتخلّص منه. ألقوا عليه الحجارة. حاولوا تدنيس مقامه. رهبان هراطقة ونساء مولولات كمنوا له وهاجموه ‏بالعصي وجمر النار. لكنه صمد وثبت. حقّق في أقل من سنتين ما لم يحقّقه في مجمل حياته إلى ذلك الحين. ولما أقام مشبوهون رجلاً يعكّر عليه ويغتصب القسطنطينية من يديه، اسمه مكسيموس الكلبي سيم أسقفاً على المدينة زوراً، ودّ غريغوريوس لو يعود إلى خلوته وهدوئه فطالعه الشعب المؤمن قائلاً: إذا غادرتنا غادرت الثالوث القدّوس فبقي ولم يتزحزح! الثالوث كما قال كان غاية القصد والنيّة والزينة. ‏
أخيراً في 24كانون الأول سنة 380‏م دخل ثيودوسيوس المدينة قيصراً. وإذ كان أرثوذكسياً، طرد الآريوسيين وأسقفهم ديموفيلوس من القسطنطينية في أيام. أخيراً سادت الأرثوذكسية ولم تقم للآريوسية من بعد قائمة. بعد يومين رافق ثيودوسيوس غريغوريوس إلى كنيسة آجيا صوفيا، فيما ارتفعت أصوات المؤمنين، عشرة آلاف، تنادي: غريغوريوس أسقفاً! ثيودوسيوس بارك. لكن الأمر كان بحاجة إلى مجمع قانوني يصدّق. في أيار 381م ‏التأم مجمع عام في القسطنطينية برئاسة ملاتيوس الأنطاكي صادق على التعيين.
‏ولكن في غضون أيام تغيّرت المعطيات من جديد.
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
القدّيس غريغوريوس ينسحب:
‏ما إن جرى افتتاح المجمع المسكوني الثاني حتى رقد رئيسه ملاتيوس بالرب فاختير غريغوريوس رئيساً محلّه. كان على المجمع أن يعالج موضوع خلافة ملاتيوس على أنطا كية. وكان هناك حزبان أنطاكيان: حزب ملاتيوس وحزب بولينوس. غريغوريوس دعا إلى القبول ببولينوس أسقفاً بعدما رقد ملاتيوس.
لم يرق العرض للعديدين من أساقفة الشرق. اضطرب حبل الوفاق. وصل أساقفة الإسكندرية ومقدونية بعد أيام. دخلوا في الصراع. لم يتمكّن غريغوريوس من ضبط الأمور. شبّه الأساقفة بسرب من القوق الهاذر وبعاصف من الدبابير اللاسعة. حلّت الخيبة بغريغوريوس كبيرة. لم تعد المشكلة مع الهراطقة بل بين أفراد الأسرة الواحدة.
الحسد وحب السلطة بانا أشد خطراً على الكنيسة وإيلاماً من الهرطقات. وارتفعت الأصوات، لاسيما من جماعة الإسكندرية ومقدونية، إن أسقفية غريغوريوس على القسطنطينية مخالفة للقوانين لأنه سيم على زاسيما. غريغوريوس بان مستهدفاً وكأن القوم أرادوه كبش محرقة. لم ترق رفعته لكثيرين، لاسيما لهذا المظهر الفقير الحقير الذي كان عليه. رئيس الأساقفة يعامل في نظرهم كالملوك ويسلُك كالملوك وله عزّ وجاه. لا يليق أن يكون على كرسي العاصمة رجل مريض، أصلع، رثّ الثياب كهذا الرجل لذا تحوّل الموضوع فجأة من موضوع معالجة قضية الكرسي الإنطاكي إلى معالجة قضية الكرسي القسطنطيني. وقد دفع الحسّاد أحد الرجال إلى محاولة قتل غريغوريوس، فلما كان على وشك تنفيذ جريمته انهار واعترف تائباً. ‏
لم يدافع غريغوريوس عن نفسه وعن مركزه. نفسه توّاقة، في كل حال، إلى الخلوة والهدوء ولا يجد سلاماً لنفسه في فوهة وكر الدبابير هذا. لذا اعتبر أنها بركة من عند الله أن يُعفى من مهامه ولو استقرت المرارة في نفسه على رتاتة نفوس من استودعوا أمانة رعاية خراف المسيح. فعرض التنحّي والمغادرة واستجيب طلبه.


خطبة الوادع:
‏ألقى القدّيس غريغرريوس خطبة وداعية طويلة. دونك بعض ما جاء فيها نسوقه تعبيراً عما كان يجول في نفسه وعما كان عليه الواقع آنذاك:
"... إن هذا الحقل كان وقتاً ما قليلاً وفقيراً... هذا الشعب أصبح عديدا بعد أن كان زهيداً، ومجموعاً بعد أن كان متبدّداً، ونشيطاً بعد أن ‏كان خاملاً وهو ‏محسود الآن بعد حال يرثى لها... أيها الرعاة الزملاء الأحباء! ها أنذا والأولاد ‏الذين أعطانيهم الله، بهم أتحفكم... أمام الملائكة والبشر... لتعرفوا أننا فقراء ‏ونغني كثيرين... إذا كان عملي يستحق المديح فشكراً لله... ما طمعت في شيء من هذا الشعب... ولا أحزنت الكنيسة في أمر ما... حفظت الكهنوت نقياً بغير دنس... إن كنت قد شُغِفتُ بالسلطة والمركز، أو بسمو العروش والكراسي... أو غرّني توطّؤ أعتاب الملوك فلأُحرَم من كل مجد في الآخرة... فإذا كانت لي غاية من خدمتي، وإذا كان لي حق في المكافأة على أتعابي فكافئوني مشكورين جداً بإعفائي وإراحتي من تعبي الطويل... أكرموا غربتي ورحيلي. نصِّبوا غيري في مكاني.
نصّبوا من عنده الاستعداد لأن يُضطهد من أجلكم ويداه طاهرتان وكلامه متزن... أما أنا فعاينوا جسدي ووفاضي وما أنا فيه من الوهن والضعف والانحلال... أعييت وتعبت مقاوماً كلام الحسّاد الأعداء والأخصّاء. فبعضهم يقرع الصدر ويصرف الأسنان، وهو أقلّ خطراً لأن اتقاء العدو الظاهر غير عسير. وأما العدو غير الظاهر فأضرّ وأفتك... الشرق والغرب انقسما جهتين متعارضتين... محبة الخصام تقذف بنا على التوالي من حال إلى حال... اليوم نتحزّب ونتعصّب لهذه الجهة حسب تلقين زعمائنا، وغداً تهبّ ريح معارضة فتبدّل الأهواء والاتجاهات... كم من مسيء إلينا محسوب علينا؟!... أية مصائب لم نكابد... على يد الآريوسيين... ألم نشهد الإهانات والتهديدات والطرد... وإحراق الكهنة على البحر... ألم نرّ الهياكل ملطّخة بدم القدّيسين، وبعضها تحوّل إلى مقابر... ألم نرى الجمهور يذبح الكهنة والأساقفة... ألم يكن التجوّل ممنوعاً على الأرثوذكسيين وحدهم... ألم نُطرد من الكنائس... ونلاحق حتى في البراري... وماذا كان بعد ذلك؟
صرنا أقوياء والظالمون انهزموا! لكن الحسد ضدّنا ظهر أفظع من هذا وأنفذ والكنيسة تضطرب من الداخل. فإذا كنت أنا يونان المسبّب هيجان البحر والعاصفة والمهدِّد بخطر الغرق فاطرحوني في قلب اليم ونجّوا السفينة من الغرق وأعيدوا السكينة والراحة إلى الكنيسة... ‏ربما أُلام أن ليس عندي مائدة غنيّة بالمآكل ولا ثياب لائقة بالرتبة ولا ‏أبّهة الظهور ولا عظمة الوجاهة والتصرّف. لم أكن أعلم إنه يلزمني أن أعاشر القناصل والولاة... وكل أولئك الذين لا يدرون أين يبذّرون غناهم. لم أعلم إنه كان ينبغي لي أن أعيش الترف من مقتنى المساكين وأتخم معدتي بالمآكل. لم أعلم إنه يجب أن أركب العربات المذهّبة تجرّها الجياد المطهّمة، وأن أُلاقى واُستقبل بخضوع وخنوع... فإذا كنتم قد استثقلتم شيئاً من هذا... فنصّبوا عليكم آخر يرضى الشعب عنه. أما أنا فأعيدوا لي حرّيتي وبرّيتي وربّي... الوداع أيها الشرق والغرب... حبذا لو اقتفى أثري وابتعد ابتعادي ولو قليل من الرؤساء... المبتعدون عن الكراسي لهم الله وما يعد به من عروش ‏عالية أعلى بكثير من عروش العالم وأسلم من الخطر... ‏أيها الأبناء تمسكوا بالعادات الشريفة والتقاليد التي تسلمناها. نعمة ربّنا يسوع المسيح معكم أجمعين.


‏أيامه الأخيرة:
‏سنوات قدّيسنا الأخيرة من حياته قضاها في أرينزة يكتب الرسائل ‏والشعر ويدافع عن الإيمان من وقت لآخر، ويتابع، بأمانة، الصلاة والممارسات النسكية قدر طاقته. كان أحياناً يغور في أحد الكهوف ينام على المسوح ويصادق الحيوانات. وقد أوصى بكل ما بقي له للفقراء. أما وفاته فكانت في السنة 389 ‏أو 390م عن عمر ناهز الستين.

كيف كانت هيأته؟
‏كان حيوياً قصير القامة، أصلع، ذا لحية ورموش حمراء، متجعّداً، يعاني ‏من الأوجاع بصورة شبه متواصلة، مضنى من الأسهار والأصوام، فقيراً، رثّ الثياب. يتكلّم بعفوية. قاطعاً في كلامه. لا يخشى أحداً. ساخراً بشكل غير منضبط. هو الوحيد الذي كان يسخر من باسيليوس أحياناً. وكان حاد الطبع متجهّم الوجه لا تسرّه صحبة أكثر الناس. يميل إلى الابتعاد عن العالم بشكل حاد. وكان شاحب الوجه، له ندب فوق عينه اليمنى. بقي يقرأ ويكتب طيلة أيامه. هو أول شاعر مسيحي بمعنى الكلمة وكان يكتب النثر ملائكياً. أحبّ الله أولاً، ثم البلاغة، ثم الناس، بهذا الترتيب. ‏نُقلت رفاته، بعد قليل من موته، إلى القسطنطينية حيث بقيت إلى زمن الصليبيين الذين أخذوها إلى رومية سنة 1204‏م.
وهي اليوم في الفاتيكان، في كنيسة القديس غريغوريوس التي صمّمها مايكل أنجلو.


مؤلفاته:

أمضى غريغوريوس حياته يتحدث ويكتب وكانت مصنفاته عميقة وقلبية، وكتاباته تميّزت بالسمو والقوة والحرارة والخيال الخصب، ومعرفته بالخطابة والبلاغة جعلته خطيباً من الدرجة الأولى من حيث الصور والأمثال والاستعارة، حتى أنه كذّب المثل الشائع في عصره والقائل : “إنه يستحيل على المرء أن يجد خطيباً أو غراباً أبيضاً في كبادوكية”.
.وبعد رقـاد القديس باسيليوس الكبير في 1/ك2/ 379م أصبح غريغوريوس الناطق الرسمي
[11]، البارز، في آسيا الصغرى من أنصار مجمع نيقية ودُعي آنذاك بـ “معلّم المسكونة”.
يمكن تقسيم مؤلفاته إلى ثماني فئات:
1. تجاربه المثيرة (الدفاع عن إعتزاله في البنط ، حيث يصوّر ببراعة مثال الإكليركي. “من هنا نهل الذهبي الفم ليكتب عن الكهنوت”).
2. إدارة الكنيسة.
3. مقاومة الآريوسيين: -يصف الآريوسيين فيقول:

“طُعم محلّى للبسطاء يخفي شصّ التجديف
وجه جذّاب يتلفت يميناً ويساراً ليوقع بالعابرين!،
حذاء لائق لكل قدم!، بذور تبذر في كل ريح!،
كتابات اكتسبت قوتها من دناءتها وتحايلها ضدّ الحق،
كانوا حكماء في صنع الشرّ، ولكن في الصالح لم يكن لهم معرفة أو نصيب”
[12]
4. كلمات أُلقيت في الأعياد: (في الفصح، الظهور الإلهي، العنصرة، أحد توما).
5. كلمات اجتماعية وخلقية.
6. مدائح.
7. تأبينية : (أخيه قيصر، أخته غريغوريا، أبيه غريغوريوس، باسيليوس الكبير).
8. الكلمات اللاهوتية.

في الكلمات اللاهوتية الخمس يقاوم اعتقادات القائلين بعدم التشابه بين الآب والإبن. في الأولى، يتحدث عن حدود التكلم باللاهوت بطريقة سليمة، فيشدد على الإيمان والطهارة وعجز الجدالة (dialctique). في الثانية، يشدد على أن في العالم نشاهد عظائم الله فقط. في الثالثة، والرابعة يحارب مخلوقية الإبن عند آريوس. وفي الكلمة الخيرة يؤكد أن الروح القدس سرمدي كالإبن والآب.
– رسائله:
كتب غريغوريوس رسائل عديدة وصلنا منها 245 رسالة أكثرها شخصية، وقد تبادل الرسائل ليعبّر في الدرجة الأولى عن أفكاره ومواقفه وليجيب أيضاً عن حاجات كنسية واجتماعية. هذه الرسائل صورة صادقة عن إنسان شريف لا يتردد في قول الحقيقة. تتحلى رسائله بالإيجاز والتماسك والجمال.

– شِعره:
تنسب إليه أكثر من 400 قصيدة، كتب الشعر ليعبّر عن إحساسه وخبرته وليقدم للشباب ومحبي العلم والقراءة وليظهر أن المسيحيين لا ينقصون بشيء عن الوثنيين، وليقاوم قرار يوليان ويواجه شعر أبوليناريوس وتعاليمه.
قصائده تعبّر عن نفس دقيقة تطلب الراحة في أحضان الله. قصائده كلاسيكية في لغتها أيّ أنه يستعمل لغة يونانية قديمة جداً (لغة هوميروس)
[13]، وشعره مصدر مهم عن حياته.
كتب غريغوريوس اللاهوتي معظم أبياته في أرينـز في سنواته الأخيرة حفظ منها 18000 بيت ذات فحوى عقدي، أخلاقي، تاريخي.

– مسرحيته:
ترك لنا القديس مسرحية بعنوان “صبر المسيح” وهي اقدم مسرحية مسيحية وصلتنا. أشخاص المسرحية البارزون هم يسوع والعذراء مريم ويوسف ومريم المجدلية ونيقوديموس وبيلاطس البنطي.

– “في الهرب”:
يبدأ غريغوريوس كتابه في الهرب بقوله أن افضل مثال للراعي هي سيرة يسوع الناصري الذي بذل نفسـه من أجل الآخرين وهذا يتطلب جهاداً في الصلاة والإغتذاء من الكلمة الإلهية. ينكب الكاهن على الكتب المقدسة فتفيض منه ينبوع حياة فيشفي ويعزّي ويخلّص.
يقول: “أنا لم أتوار في برية البنط، سوى لأنني غير مؤهَّل لسيرة قداسة مثل هذه وخوفاً من أن أُعثر الرعية إن قبلت كرسي الرعاية وأنا بعد لم أسلّم نفسي كلياً للمسيح، تواريت لأُسلِّم ذاتي للذي أَحَبَني، ليقدسني هو بنعمته، يعلمني كيف أصمت في الكنيسة وأكلّم نفسي والله (1كو 28:14) إلى أن أُمنح موهبة النبوة. أُصمت فيَّ كل اهتمام دنيوي، أُغلق أبواب حواسي وشهواتي لأنمو في النعمة فأستحق أن أكون مرآة صافية تعكس وجه السيد للآخرين.

ثم أنني خشيت إن تقبّلت المسؤولية قبل أن أدع السيد نفسه يؤهلني لها، خشيت أن أسير في خطى البعض الذين يُقبلون إلى خدمة المذبح بلا استحقاق كأن هذه الخدمة باب للارتزاق، وكأنها سلطان عوض أن تكون مثالاً للفضيلة يجتذب الآخرين بالمحبة (1بط 2 : 5) … إن أقبل أحد إلى الكهنوت، عليه أولاً أن ينقَّى بالنار مثل المعدن الثمين (1كو12:3). حياة الفضيلة أمر شاق ولكن مَن أقدم على خدمة القدسات من دون أن يقدِّس ذاته فهو لا يجلب فقط دينونةً لذاته بل دينونةً للآخرين أيضاً.
كيف نطبب الآخرين من دون أن نشفى نحن أولاً؟ ثم ماذا نقدّم للآخرين إن لم نُعط من عند الآب أن نتقدّم بالفضيلة؟ لا يكفي أن نبتعد عن الشرّ، علينا أيضاً كما يوصي الكتاب أن نسعى لفعل الخير.
العمل الرعائي يشبه عمل الطبيب ولكن النفوس تقاوم شفاءها لأن المرض الروحي خفي على خلاف الأمراض الجسدية ولأن الكاهن يستهدف ليس فقط حفظ الصحة واستعادتها ولكنه يسعى ليؤلِّه كل من يأتي إلى المضيف الإلهي. ثم أن الكاهن الطبيب يعالج نماذج مختلفة من البشر، من هنا عليه أن يغيّر اسلوبه وفقاً للزمن والظروف. البعض يعالجون ببسط العقيدة لهم وآخرون بحاجة إلى مثال حيّ يتبعونه، البعض بحاجة إلى رأفة وآخرون بحاجة إلى صرامة، البعض بطيئون في الفهم وآخرون يلتهمون التعليم التهاماً، البعض يبنون بالمديح وآخرون بالتأنيب، البعض بحاجة إلى احتضان وآخرون ليسوا بحاجة إليه، للبعض نضع لهم حدوداً ولآخرين نترك ملء الحرية. كل حسب شخصيته وظروفه ومجتمعه.
الراعي هو أمام آلة موسيقية لها عدّة أوتار ، عليه أن يضبط الأوتار فتتناغم معاً وتتوافق في لحن شجيّ.
الكاهن لا يُصنع بيوم واحد لما يقولب الخزاف إناء الخزف ، الكاهن يكتسب مهارة في الرعاية بفضل الممارسة والخبرة.
لا يجوز للكاهن أن يكون جاهلاً ولكنه أيضاً لا يتعلّم بحشو المعلومات وبنظريات لاهوتية فقط، فالرجاء بالجاهل أكثر من المحشو علماً (مع كبرياء)، الكاهن معلّم وشارح للكلمة وعليه أن يكتسب مهارة التعليم أي أن يحرر الناس من أفكارهم المسبقة ، عليه أن يهدم ما في النفوس ومن ثم يبني النفس ليقودها إلى صورة المسيح . فشفتاه تذرّان بالمعرفة الإلهية لأن الرب يضيء سراجه وبه يقتحم جيوشاً وأعضاؤه تصبح أداة بيد الله…”[14].
تعليمه
– الإيمان والعرفان:
يوصف الآباء الكبادوكيون بأنهم أفلطونيو المذهب لكن إذا درسنا فكر غريغوريوس فإننا نكتشف في النهاية أنه ليس أفلاطونياً ولا أرسطياً ولا رواقياً، أخذ من الأفلاطونية “العقاب” كوسيلة تربوية، وأخذ مبدأ التطهير ووجود عالمين مادي وروحي واعتبار الإنسان بأنه “عالم صغير – Mikrokosmos” واستعمل ألفاظاً رواقية مثل الفضيلة والرذيلة والألم والإمساك وأخذ من أرسطو بأن الله هو المسبب الأخير للكون.

لا يواجه غريغوريوس العرفان وكأنه قائم بذاته إنما يواجهه مواجهة اختيارية لأن العرفان لا يمكن أن يكون خالياً من التناقض والأخطاء. هناك عناصر إيجابية في العرفان لكنها لا تكتمل إلاّ بالكشف أي بالإعلان الإلهي. المشكلة ليست مشكلة العرفان بحدّ ذاتها إنما مشكلة الاختيار الموفّق له، واستخدامه الاستخدام الصحيح.
بناءً عليه، لا يعتبر غريغوريوس أن الفلسفة ضرورية بشكل مطلق فأحياناً الإنسان البسيط يكون مغتبطاً في حياته أكثر من الفيلسوف.

المسيحي البسيط هو فيلسوف، لأن العرفان الذي بحسب العالم يقاوم صليب المسيح،ولذلك فالفلسفة الحقيقية هي الفلسفة بحسب المسيح. بالتعليم المسيحي لا يكتمل العرفان المسيحي فقط إنما تكتمل أيضا حكمة العهد القديم التي كانت تستند إلى الخوف، بالإعلان المسيحي تتجاوز الحكمة الخوف وترفعه إلى المحبّة، تجعلنا أصدقاء الله وابناءه بدل أن نكون عبيداً: “الحكمة التي بالمسيح يسوع أعظم من حكمة أهل هذا الدهر، حكمة المسيح نتشربها من خلال العيش في التقليد الشريف الذي يكشف لنا الحقيقة الأزلية المعلنة في الكتاب المقدس”.
المقياس الأخير ليس الإستدلال المنطقي إنما الوجود بحد ذاته، فالإنسان الذي يقوده المنطق فقط هو إنسان ارضي لأن العقل لا يحرر الإنسان ولا يقدّم له الحقيقة كاملة. الإيمان وحده يكمّل الإنسان ويجعله قادراً على رؤية الواقع الساقط. عندما يستنير العقل بقوة الإيمان يعي ما هو فوق العقل ويدرك جهله لذلك قال: “ليقِدْنا الإيمان أكثر من العقل”.
– معرفة الله: “معرفة الله ممكنة لكنها محصورة بأنقياء القلوب”
تتميز معرفة الله بشَكلَيْن : معرفة طبيعية ومعرفة فوق الطبيعية. مصادر الكشف الطبيعي هي الطبيعة والتاريخ ووعي الإنسان. والعرفان الذي يجيء من الكشف الطبيعي هو عرفان ناقص لأن الله البسيط واللامحدود يبقى غير مدرك، فعقل الإنسان يحاول أن يدرك الله بالجمال وبالتنظيم الذي يراه في الخليقة. لذلك تتعلّق معرفة الله الطبيعية بخصائص عمل الله، أما العرفان فوق الطبيعي فهو أسمى لأن الإيمان يدعمه.

اللاهوت ليس منهجاً عقلياً ولا يمكن أن يُحدّ ضمن الجسم العقلي ولذلك على الإنسان أن يُعيد صياغة فكره وأحاسيسه من خلال علاقته بالله، ومع ذلك فهو لا يتكلّم باللاهوت في شؤونٍ تخصُّ جوهرَ الله إنما فيما يدور حول الله أي أعمال الله وقواه.
الله لا يدرك بالعقل فما هو مدرك فيه هو لامحدوديته، يمكن أن يقول الإنسان عن الله أنه غير مدرك، لا بدء له، لا مولود، أي أن يظهر ما هو ليس الله[15].
عمل اللاهوتي محدود بطبيعة بحثه وبقناعته بأن معرفته لا تكتمل، حتى بولس الرسول أكّد على عدم الإدراك الكامل لله، يقول غريغوريوس: “إيليا كما نعرف من التاريخ لم يرَ طبيعة الله بل ظلالها، وبولس الرسول إذا كان يستطيع أن يعبّر عما رأى وسمع في السماء الثالثة، وبالصعود حتى ذلك المكان يمكننا أن نعرف شيئا أكثر عن الله، فلماذا لم يخبرنا عما هنالك إذا كان يعرف شيئاً من غاية الاختطاف؟
ذلك لأن بولس نفسه لم يدرك شيئاً. بل ترك لنا أن نكرّم بصمت ما عاينه وذكره، أي انه سمع كلمات سرية لا ينطق بها … إننا كمن يحاول أن يغرف ماء البحر بالوعاء … بكلامي حاولتُ أن أُبرهن أن العقل لا يستطيع أن يدرك طبيعة الملائكة فكم بالأحرى طبيعة الله التي تفوق كل شيء؟ له المجد والإكرام إلى أبد الدهور آمين”
[16].
تكلّم غريغوريوس كثيراً عن الثالوث وقال أن الله واحد في ثلاثة أقانيم وإن هذه الأقانيم تتميز عن بعضها، فالآب مساوٍ للإبن دون أن يعني ذلك أن الابن هو الآب. الآب هو علّة الوجود، علة وجود الإبن وهو علّة انبثاق الروح القدس، وإن ما للآب هو للإبن والروح القدس : “لنا ربٌ واحدٌ الآب، الذي منه كل شيء، وربّ واحدٌ يسوع المسيح الذي به كل شيء، وروح قدوس واحد فيه كل شيء”[17].
ويشهد غريغوريوس كما باسيليوس وأثناسيوس (والدمشقي فيما بعد)، أن النشيد المثلث التقديس لا يقال في الإبن فقط بل في الثالوث الأقدس، فإن السارافيم القديسين في تقديسهم يظهرون لنا الأقانيم الثلاثة للاهوت الفائق الجوهر وعليه يقول غريغوريوس: “… وهكذا إذاً، فإن أقداس الأقداس التي هي محجوبة عن السارافيم أيضاً وتتلقى التمجيد بتقديسات مثلّثة تجتمع في سيادة واحدة ولاهوت واحد”[18].
القدرة الإدراكية للعقل محدودة والكائنات التي تقع تحت تأثير الحسّ لا تستطيع أن تدخل إلى أعماق العقليات ، يقول غريغوريوس: “قل لي ما هي عدم الولادة وأنا سأعلّمك عن ولادة الإبن وانبثاق الروح القدس، الإنسان تتكاثر أسئلته مع كثرة معرفته، وهو يشبه من استنار لحظة واحدة ولكنه بقي في الظلام”. إلى جانب محدودية العقل وعدم قدرته على الدخول إلى سرّ الله، هناك الجسد الإنساني الذي يعيق القوّة النسبية الموجودة في العقل. فالجسد بعد السقوط صار أكثر كثافة والعقل نفسه صار كثيفاً ومادياً لكن هذه المحدودية في الجسد ليست عقاباً لإنسان بل تربية له.
– الخليقة والخالق:
يقسم غريغوريوس الخليقة إلى ثلاثة أقسام، فيقول أولاً، أقرب إلى الله الطبائع العقلية وأبعد منه الطبائع الحسّية، وابعد شيء هو الوجود الذي لا نفس لهولا حسّ، وأما أول الخلائق بالنسبة له فكانت الملائكة الذين وُجدوا قبل الخليقة كلها “لأن الله فكّر بالقوات الملائكية والسماوية فكان تفكيره عملاً”
[19].
الإنسان مخلوق على صورة الله، ولا يقول رأي أوريجنس بان النفوس مخلوقة قبل الأجساد وإنما هو يؤمن أن النفس تأتي إلى الإنسان عند الحبل به، وإن هذه النفس لا تموت لحظة الموت وإنما ترتفع وتعود إلى خالقها. بسبب السقوط صار الإنسان يموت .الخطيئة أدخلت الموت، والموت بدأ يجعل الخطيئة عذبة وحلوة.
كل شيء في الكون يتغير من ساعة إلى أخرى، وكل شيء يجري ويفنى، فالحياة والموت اللذان يعتبران فكرتان متناقضتان هما يتواجدان ويتبادلان الدور. فالحياة تبدأ بالفساد والإنسان ينتقل من فساد إلى فساد حتى تنقضي حياته الأرضية، فالفساد هو انتصار الزمان لأن الحياة تمر عبر الولادة في اتجاه معيّن لا يمكن إعادته.
لكن الموت في حدّ ذاته يحمل عناصر إيجابية لأن الموت الحقيقي ليس انفصال النفس عن الجسد وإنما هو دمار النفس والمشكلة الأساسية عند الإنسان هو مشكلة التمييز بين الواقع والظاهر أي انه يخاف مما هو ليس مخيفاً.

المؤمنون في مسيرتهم نحو السيد الصالح يمكن أن يتحرروا من سيطرة الزمن الدائري لأنهم يتجهون نحو واقع ثابت متحرر من كل تشوّش أي نحو تجاوز العالم الحاضر. هذا لا يعني أن غريغوريوس يقلل من أهمية العالم وقيمته فالعالم الحاضر ليس عائقاً يحول دون اقتناء ما هو قائم وثابت، فما يجري ويتبدّل يمكن أن يكون وسيلة لاكتساب الحياة الجديدة.
أما المأساة الحقيقية فهي أن يصبح الإنسان محصوراً ضمن دائرة الولادة والموت، أي انه يصبح حلماً غير موجود في الواقع. لذلك يقول غريغوريوس على الإنسان أن يترك الأحلام والظلال وينعم بالحياة على أكمل وجه.

الفرق بين الإنسان والملائكة هو أن الكائنات اللاجسدانية لا تخضع للزمن الذي يحدّ الإنسان، فالزمن غير موجود بالنسبة للكائنات الروحية، لأن في الزمن يتحوّل الحاضر إلى ماضٍ ميْت.
– أسباب التربية:
إن المنطلق الأساسي للاهوت التنـزيهي هو ردّ على المسعى الهرطوقي الذي يهدف إلى تغيير الكشف المسيحي إلى تعليم فلسفي. فمعظم الهراطقة كآريوس، افنوميوس، صابيليوس، حاولوا أن يدرسوا الإعلان الإلهي ويبرهنوا بمقولات عقلانية البحتة، لكن هذا التطوير العقلي للأمور يُنزل الإعلان إلى المستوى الإنساني، فوجود الظلام الإلهي ضروري وليس له صفة سلبية فالظلام القائم بين الله والإنسان هو مثل الغمام الذي دخل فيه موسى وهذا الظلام يحميه من نار الالوهة مثلما يحمي الظلّ الإنسانَ من نار الشمس.

الإنسان مدعو للدخول في هذا الغمام الإلهي لكن هذا الأمر يتطلّب استعداداً خاصاً.
– في المعمودية:
إن خدمة تقديس المياه وصلوات طرد الشياطين (الإستقسامات)، لاغنى عنها في حياة الكنيسة فهي إلى جانب فعاليتها كصلاة تحوي أيضاً تعاليم أساسية تساعد المقبل إلى المعمودية (الموعوظ) على فهم بعض الحقائق اللاهوتية الضرورية وتعكس رغبة وصبر هذا الأخير يقول غريغوريوس ” لا تحتقروا دواء طرد الشياطين ولا تتعبوا من طول الصلوات لأن كل هذه هي إمتحان لصدق النفوس وإخلاصها وطلبها المعمودية باشتياق”
[20].
لكن هذه الخدم والأسرار الكنسية لا تكشف إلا في حينها ولمن هو أهل لسماعها، يقول واعظاً للشعب: “لقد سمعت كثيراً عن السر حسبما هو مسموح لنا أن نتحدّث علناً وأمام الكل أما باقي الحديث فسوف تسمعونه في السرّ لكي يبقى هذا الكلام خاصاً بكم”[21]. وفي أيامه، ومع أنه وصديق العمر باسيليوس الكبير تأخرا في نيل سرّ المعمودية، كما شاع بعصرهم، إلا أن غريغوريوس يرفض أن تتأجّل مهما كانت الأسباب، يقول في ذلك:
“المسيح هو الله لذلك لم يكن محتاجاً للمعمودية ولكنه إعتمد لأجلنا نحن البشر، وحتى إذا أجّل معموديته لم يكن هذا خطراً عليه. كان للمسيح أسباب جعلته يعتمد في سنّ الثلاثين وليس أي من هذه الأسباب تخص البشر. وقد فعل الرب أموراً كثيرة لا يمكن لأيّ منا أن يقلّدها أو يتخذها مقياساً فليس كلما فعله الرب يمكن تقليده
[22] ..البعض يقول إنه سوف ينتظر عيد الظهور الإلهي، أي اليوم الذي إعتمد فيه المسيح وظهر للعالم، والآخر يقول أنه يهتم بالفصح أكثر من غيره من الأعياد والثالث إنه سوف ينتظر العنصرة[23]. لا يجب أن يؤخر أحد المعمودية طالما هو مستعد لها لئلا يفاجئهم الموت في يوم لم يستعدّوا له وفي ساعة لا يعرفونها.المعمودية تسمى عطية لأنها أعطيت لنا دون أن ندفع فيها ثمناً، وتدعى ختماً لأنها ختم يؤكد ملكيتنا والسلطان الذي يملكنا ولأنها عربون الحياة الأبدية[24]. ولأننا من طبيعتين أعني الجسد والنفس، الأول منظور والثاني غير منظور لذلك التطهير، ليطال الكل، هو أيضاً مركّب من الماء والروح، التطهير المنظور من الماء للجسد والثاني المصاحب له غير منظور ولا يخص الجسد، الأول ظاهر والثاني حقيقي ويطهر الأعماق[25]“.


الحواشي[1]-[11]- راجع :Encyclopaedia Britanica 1998 (CD).
[12]- القديس أثناسيوس الرسولي، الأب متى المسكين، دير القديس أنبا مقار، ص 256.
[13]- لسبب صعوبتها لم تحتل مكانة كبيرة لدى الشعب.
[14]- الرسالة، سنة 1985، عدد 1و2، ص 46-49.
[15]- هذا ما يسمى بالإتجاه السلبي في الحديث عن الله (apophatic) وهناك الإتجاه الإيجابي ( Cataphatic)، الثاني يسمح بالحديث عن الله والأول يصحح وينزع عن الإنسان الصوَر والخيالات التي تترسب في عقله عن الله… راجع المدخل إلى اللاهوت الأرثوذكسي، د. جورج بباوي، ص149-153.
[16]- مختارات من القديس غريغوريوس اللاهوتي، سلسلة آباء الكنيسة (8)، منشورات النور ص 108-110.
[17]- القديس يوحنا الدمشقي: مئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي، البولسية، ص 168.
[18]- المرجع السابق ص 169.
[19]- القديس يوحنا الدمشقي ، مئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي، ص 92.
[20]- عظة على المعمودية: 15…راجع: المعمودية، الجزء الأول، د. جورج بباوي ص 54.
[21]- المرجع السابق ص 82.
[22]- المرجع السابق ص 92.
[23]- مقالة 40 عن المعمودية…المرجع السابق ص 88.
[24]- مقالة 40… المرجع السابق ص 97.
[25]- المقالة 41… المرجع السابق ص 124.



وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
قديم 17 - 12 - 2016, 05:24 PM   رقم المشاركة : ( 15356 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

القدّيسة البارة كساني الرومية وخادمتها
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة


القرن 5م
اسمها في المعمودية كان أفسافيا أي «التقية».
ولدت ونشأت في رومية لوالدين من الأشراف. فلما بلغت سنّ الزواج رغب أبواها في زفّها إلى شاب يليق بها، فلم تلق الفكرة لديها ترحيباً لأن رغبة قلبها، عبر السنوات، كانت أن تصير راهبة.
لكنها سكتت ولم تبد اعتراضاً، فيما استقرّ في نفسها أن تغادر أبويها سرّاً قبل حلول يوم الزفاف. وإعداداً لساعة المغادرة، اختارت اثنتين من خادماتها كشفت لهن ما في نفسها ودعتهن إلى مرافقتها فوافقنها. وإذ تدفّقت الهدايا الزوجية على أفسافيا، ذهباً وفضة و آنية وملابس فاخرة، سعت أمة الله إلى تحويل ما أمكن منها إلى خادمتيها ليعملن في السرّ على توزيعها على الأرامل والأيتام.
وإذ اكتملت عدّة الزواج اكتملت معها استعدادات النسوة الثلاث للرحيل فغادرن فرحات باكيات لأن الرب الإله حسبهن مستأهلات للتخلّي عن كل شيء من أجل اسمه القدّوس
كانت أفسافيا تعلم جيّداً أن والديها سوف يبحثان عنها في كل مكان، لذا اختارت التوجّه إلى مكان بعيد، وحرصت ومرافقتيها على حفظ السرّ حتى الممات.
استقلّت النسوة الثلاث مركباً وافقته الأهوية فحلّ في الإسكندرية ‏بعد أيام، ومنها انطلقن في مركب آخر إلى جزيرة كوس اليونانية في الناحية الجنوبية الشرقية من البحر الإيجي. فلما حططن هناك‏ بحثن لأنفسهن عن منزل يأوين إليه فوقعن على بيت معزول موافق لهن فاستأجرنه.
مذ ذاك غيّرت أفسافيا اسمها وصارت تدعى «كساني» التي تعني «غريبة» لأنها اختارت، بنعمة الله، أن تخرج كإبراهيم أبي المؤمنين، إلى أرض غريبة كانت موقنة أن الرب الإله سوف يشملها برحمته فيها. ‏الخطوة التالية في رحلة كساني كانت أن تجد لنفسها ورفيقتيها أباً يرشدها في أصول الحياة الروحية.
أين تجد أباً كهذا؟ الله أتى بها إلى هذا الموضع والله يدبّرها! لذا لجأت إلى الصلاة: «يا إلهي، يا من تعرف الجميع وتضبط الكل، لا تخلنا نحن الذين هجرنا بيوتنا وأرضنا وذوينا محبّة بك، بل أرسل لنا إنساناً على قلبك يحفظنا ويرشدنا إليك كما أرسلت بولس الرسول لأولى شهيداتك تقلا!».
ولم يطل الوقت حتى أطلّ عليهن رجل بانت عليه سمات التقى، وقوراً، ملائكي الطلعة، فتحرّك قلب فتاة الله نحوه. كان راهباً، رئيس دير، اسمه بولس، وكان عائداً من أورشليم إلى ديره في ميلاسا، شمالي شرقي جزيرة كوس. فاستجارت به النسوة الثلاث فعرض أخذهن معه إلى ديره فرافقنه بفرح.
‏في ميلاسا، بقرب دير بولس الشيخ، أقامت المتبتّلات الثلاث في منسك وبنين لأنفسهن كنيسة كرّسنها لأول الشهداء أستفانوس. وقد أضحى المنسك ‏فيما بعد ديراً حين ذاع صيت كساني وأقبلت النسوة إليها يطلبن الحياة الملائكية على يديها.
‏ثم إن بولس الراهب اختير أسقفاً لميلاسا فجعل كساني شمّاسة رغم تحفّظها الشديد. ‏
يقول كاتب سيرتها، وهو كاهن راهب مجهول الهوية، إن كساني الشمّاسة ضاهت بسيرتها الملائكة وتكبّدت من أجل ربّها مشاقاً عظيمة. حتى الأبالسة خافت الدنو منها. كانت تأكل مرة كل ثلاثة أيام، وفي زمن الجهاد مرة واحدة في الأسبوع. طعامها اقتصر على الخبز اليابس. وإذ كانت تبلّل الخبز بالماء، كان يختلط بالدموع والرماد وفق القول المزموري: «أكلت الرماد مثل الخبز ومزجت شرابي بدموعي» (مز1-9:1).
لم تخلف كساني في قانونها مرة واحدة بشهادة رفيقتيها اللتين سعيتا إلى الاقتداء بها قدر إمكانهما. كانت كساني تجاهد في الصلاة والسجود الليل بطوله. وكثيرات شاهدنها تركع في الصلاة من ساعة غياب الشمس إلى ساعة ضرب الناقوس صبيحة اليوم التالي. وكانت أحياناً تمضي الليل في الصلاة ببكاء لا ينقطع.
والحق إنها لم تكن تصلّي البتّة من دون دموع في عينيها. سيرتها انعجنت بالوداعة والمحبّة الفائقة. ‏هكذا عاشت كساني وهكذا استمرت إلى آخر أيّامها. ‏فلما دنت ساعة مفارقتها، وهي عالمة بما يأتي عليها، دعت راهباتها وزوّدتهن بإرشاداتها وبركتها، ثم أقفلت على نفسها في الكنيسة إلى أن أسلمت الروح. وقد ذكر شهود عيان أن الطيب فاح ساعتئذ من الكنيسة، كما ‏ذكر آخرون أن مرضى عديدين شفوا برفاتها.
‏أما خادمتا كساني فلم تلبثا طويلاً حتى فارقتا كما ليكون الثلاثة معاً في الممات بعد أن كن معاً في الحياة.
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
قديم 17 - 12 - 2016, 05:25 PM   رقم المشاركة : ( 15357 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

القدّيس تيموثاوس الرسول
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة


تيموثاوس، الاسم، يوناني معناه "عابد الله" أو من يكرم الله". من أب وثني وأم يهودية تدعى أفنيكي (أعمال1:16‏:2 ‏تيمو5:1) وله جدّة اسمها لوئيس. كان لأمه وجدّته، بشهادة الرسول بولس، إيمان عديم الرياء أخذه تيموثاوس عنهما (2 ‏تيمو5:1‏). عرف الكتب المقدّسة منذ الطفولية (2‏تيمو15:3‏) لكنّه لم ينضمّ إلى أمّة اليهود بدليل إنه لم يختتن (أعمال1:16-3‏) إلا بإيعاز من الرسول بولس لضرورات بشارية. ‏أغلب الظّن أن تيموثاوس كان من لسترة. أغلب الظنّ أيضاً أن أمّه وجدّته قبلتا الإيمان بالرب يسوع إثر قدوم الرسول بولس إلى دربة ولسترة خلال رحلته التبشيرية الأولى. متى انجذب تيموثاوس نفسه إلى الإيمان بالمسيح؟ ‏لا نعلم تماماً. ولكن ثمّة ما يشير إلى أنه تتبّع الرسول بولس وتأثّر بتعليمه وآلامه، ربما في أنطاكية وربما في إيقونية ولسترة لأن الرسول المصطفى قال في رسالته الثانية له: "أما أنت فقد تبعت تعليمي وقصدي وإيماني وأناتي ومحبّتي وصبري واضطهاداتي وآلامي مثل ما أصابني في أنطا كية وإيقونية ولسترة، أيّة اضطهادات احتملت" (2تيمو‏10:3-11). أنّى ‏يكن الأمر فإن بولس، لما أتى إلى دربة ولسترة، سمع من الإخوة في لسترة وإيقونية شهادة حسنة عن تيموثاوس. فلما كان بحاجة إلى رفيق معاون له في أسفاره وكرازته فقد أخذ تيموثاوس معه. تيموثاوس، إذأ، كان قد اقتبل الإيمان وكان ناشطاً في كنيسة المسيح قبل ذلك. ولعل الرسول بولس هو الذي عمّده. هو كان في كل حال أحد أو من وضع يده عليه بعدما استبانت موهبة الله فيه وسبق عليه بعض النبوءات (1‏تيمو18:1-19، 12:4-16‏).
‏جال تيموثارس مع الرسول المصطفى في فيرجيا وغلاطية وتسالونيكية وبيرية وأثينا وسواها وتبعه إلى قيصرية فلسطين وإلى رومية. وكان له ‏موفداً شخصياً إلى أماكن عدّة كتسالونيكي وكورنثوس وفيليبي وأفسس. كان لتيموثاوس في كل هذه الجولات دور فاعل. لأهل كورنثوس قال عنه بولس إنه يعمل عمل الرب كما هو أيضاً (1‏كور16‏:10-11‏) ولأهل تسالونيكي قال إنه العامل معنا في إنجيل المسيح. كذلك كان لتيموثاوس دور تثبيت الكرازة (1تسا2:3-3‏) والتذكير بطرق الرسول بولس في المسيح (1‏كور17:4).
‏في كل شيء أبدى تيموثاوس أمانة للرسول المصطفى لا ‏غش فيها. لذا قال عنه الرسول إنه الأمين في الرب ويعلّم كما يعلّم هو نفسه في كل مكان وفي كل كنيسة (1‏كور17:4‏). ولم يكن للإناء المصطفى من يتّكل عليه بالكامل غير تيموثاوس. في بعض الحالات اعتبره كنسخة عنه، فقد قال لأهل فيليبي إنه ليس له أحد آخر نظير نفسه يهتم بأحوالهم بإخلاص (فيليبي2‏:19-22).
‏إذن كانت علاقة بولس بتيموثاوس دافئة مميّزة. كولد مع أبيه خدم معه ‏لأجل الإنجيل (فيليبي أيضاً). من هنا طريقة مخاطبته الخاصة له. أسماه "تيموثاوس الأخ" (2 ‏كور1:1‏) و"إنسان الله" (1‏تيمو11:6‏) ودعاه "ابني (2‏تيمو1:2‏) و"ابني الحبيب" (1‏كور17:4‏) و"الابن الصريح في الإيمان" ‏(1‏تيمو2:1‏). وخاطبه بكثير من العطف والحنان والمحبة. في رسالته الثانية إليه قال له: "أذكرك بلا انقطاع في طلباتي ليلاً ونهاراً مشتاقاً أن أراك ذاكراً دموعك لكي امتلئ فرحاً" (3:1-4‏). وعندما كان بولس في المعتقل في رومية وتخلى عنه الكثيرون، إلى تيموثاوس اتّجه ذهنه ليكون بقربه. "بادر أن تجيء إليّ سريعاً... الجميع تركوني... لوقا وحده معي...".
‏وقد حرص بولس على تزويد تلميذه بكل ما رآه محتاجاً إليه من الوصايا ‏والنصائح والدعم. تيموثاوس كان شاباً معرَّضاً لكل أنواع الشهوات والنزوات والنزاقة الشبابية. لذا حثّه على الهرب من الشهوات الشبابية والمباحثات الغبيّة لأنها تولّد الخصومات (2‏تيمو22:2-23‏) ودعاه إلى الصحو في كل شيء (2‏تيمو4‏:5‏) وإلى الإعراض عن الكلام الباطل الدنس (1‏تيمو20:6) وإلى التعامل مع الشيوخ كآباء والأحداث كإخوة والعجائز كأمّهات والحدثات كأخوات بكل طهارة (1‏تيمو1:5-2)، وإلى اجتناب حبّ المال الذي هو أصل الشرور وطعن للنفس بأوجاع كثيرة (1‏تيمو10:6-11‏). كما دعاه، بعامة، ‏لأن يكون قدوة للمؤمنين في الكلام والتصرّف والمحبّة والروح والإيمان والطهارة وإلى الانكباب على القراءة والوعظ وملاحظة نفسه والتعليم (12:4-16). وحثّ المؤمنين على احتضانه وإكرامه والتعاون معه (1‏كور10:16-11‏).
‏هذا ويبدو إن صحة تيموثاوس كانت، أقلّه في وقت من الأوقات، رقيقة ولعله كان متشدِّداً في إمساكه. قال له الرسول المصطفى: "لا تكن في ما بعد شرّاب ماء بل استعمل خمراً قليلاً من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة" (1‏تيمو23:5).
‏ثم يبدو إن تيموثاوس كان إنساناً حييّاً وكان عرضة، لحداثته، أن يستخفّ الآخرون به. لهذا السبب نبّهه: "لا يستهن أحد بحداثتك" (1‏تيمو12:4‏) ودعاه لأن يوبّخ وينتهر ويعظ المخالفين (2تيمو2:4‏). "الذين يخطئون وبّخهم أمام الجميع لكي يكون عند الباقين خوف"(1‏تيمو5‏:20‏)، على أن يكون هذا بلا غرضيات ومن دون محاباة (21).
‏والظاهر من كلام الرسول بولس إن تلميذه تعرّض للسجن ثم أُطلق سراحه. هذا حدث في إيطاليا. وثمّة إشارة إلى ذلك في الرسالة إلى العبرانيين التي كُتبت على يد تيموثاوس (انظر عبرانيين23:13‏).
‏أما الرسالتان اللتان وجّههما رسول الأمم إلى تيموثاوس فكانت أولاهما في حدود السنة 64‏. يومها كان قد تمّ إطلاق سراحه من سجنه الأوّل في رومية بعدما اشتكى عليه أهل أمّته كما هو مبيّن في سفر أعمال الرسل (الإصحاح 21 ‏وما يتبعه). أما الرسالة الثانية، فكانت بعد القبض على الرسول المصطفى للمرة الثانية، نحو السنة 67‏، إثر حرق نيرون لرومية. في الأولى عالج بعض الصعوبات التي تعرّض لها التلميذ وبسط لصفات معلّمي الكنيسة وخدّام الإنجيل وواجباتهم. أما في الثانية فشدّد تلميذه وحضّه على الثبات في البشارة والتمسّك بالأمانة عارفاً ممن تسلّمها (14:3‏)، والاشتراك في المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح (2‏تيمو1:2-3‏). ويشير رسول الأمم إلى قيوده وإلى ارتداد العديدين عنه بسبب ذلك (15:1‏)، ويعلن عن قرب حضور وقت انحلاله. "أنا الآن أسكب سكيباً ووقت انحلالي قد حضر. جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان. أخيراً وُضع لي إكليل البرّ الذي يهبه لي في ذلك اليوم الربّ الديّان العادل" (6:4-8)‏. ثم يطلب منه أن يوافيه سريعاً ‏قبل الشتاء (16:4-21).
لا نعرف بالضبط ماذا حدث بعد ذلك التاريخ. ولكن ورد في التراث إن تيموثاوس التقى في أفسس القديس يوحنا الحبيب وأخذ منه بركة ونعمة. فلما تمّ نفي يوحنا، ساس تيموثاوس الكنيسة في أفسس بروح بولس ويوحنا معاً. ثم ذات يوم، فيما كان الوثنيون، في المدينة، يحتفلون بأحد أعيادهم حاول تيموثاوس ردّهم عن ضلالهم فثاروا عليه كالوحوش وضربوه بشدّة، فجاء بعض تلامذته وسحبوه من بينهم نصف ميت، لكنه ما لبث أن رقد بعد قليل. كذلك ورد أن تيموثاوس دُفن غير بعيد عن ضريح القديس يوحنا الحبيب. ثم في حدود السنة 356م نُقلت رفاته إلى القسطنطينية وأُودعت كنيسة الرسل القدّيسين هناك. وقد جرت بها عجائب جمّة وبقيت إلى أن اختلسها الصليبيّون إثر نهب القسطنطينية في السنة 1204‏م.

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
قديم 17 - 12 - 2016, 05:34 PM   رقم المشاركة : ( 15358 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

القِدِّيسِ مكسيموس المعترف
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة


سألوه: ‬من* ‬أيّة* ‬كنيسة* ‬أنت؟* ‬من* ‬القسطنطينية؟* ‬من* ‬رومية؟* ‬من* ‬أنطاكية؟* ‬من* ‬الإسكندرية؟* ‬من* ‬أورشليم؟* ‬فها* ‬هم* ‬جميعًا* ‬متّحدون* ‬فيما* ‬بينهم*. ‬فأجاب* ‬مكسيموس*: ‬*«‬إن* ‬الكنيسة* ‬الجامعة* ‬هي* ‬الاعتراف* ‬بالإيمان* ‬الصحيح* ‬والخلاصي* ‬بإله* ‬الكون*».
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
ولادته* ‬ونشأته*:‬
ولد* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* ‬المعترف* ‬سنة* ‬580م* ‬في* ‬عائلة* ‬مرموقة* ‬في* ‬القسطنطينية*. ‬
كان* ‬على* ‬ذكاء* ‬خارق* ‬وتمتّع* ‬بقدرة* ‬خارقة* ‬على* ‬التأمّلات* ‬الفلسفيّة* ‬الساميّة*. ‬درس* ‬فلمع* ‬وانخرط* ‬في* ‬السلك* ‬السياسي*. ‬عندما* ‬تولّى* ‬الإمّبراطور* ‬هيراكليوس* ‬العرش،* ‬سنة* ‬*٦١٠‬م،* ‬أُعجب* ‬بالقدّيس* ‬مكسيموس* ‬وبما* ‬كان* ‬يتمتّع* ‬به* ‬من* ‬فهمٍ* ‬وعلمٍ* ‬وفضيلةٍ* ‬فاختاره* ‬أمين* ‬سرّه* ‬الأوّل*.‬

تخلّي* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* ‬عن* ‬وظيفته* ‬وترهّبه*:‬

لم* ‬يرغب* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* ‬بالمجد* ‬الأرضي* ‬ولم* ‬يقع* ‬بحب* ‬السلطة،* ‬بل* ‬كان* ‬قلبه* ‬يشتهي* ‬ملكوتًا* ‬آخر،* ‬فتخلّى* ‬عن* ‬وظيفته* ‬بعد* ‬ثلاثة* ‬أعوام* ‬وترهّب* ‬في* ‬دير* ‬والدة* ‬الإله* ‬في* ‬خريسوبوليس* ‬القريبة* ‬من* ‬القسطنطينية*. ‬‏

عشق* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* ‬قرأة* ‬الكتاب* ‬المقدّس* ‬وكتابات* ‬الآباء،* ‬وسعى* ‬بكلّ* ‬كد* ‬وجهد* ‬تسلّق* ‬سلّم* ‬الفضائل* ‬رغبةً* ‬باللاهوى*. ‬فعاش* ‬حياة* ‬نسكيّة* ‬بامتياز* ‬مغذيًّا* ‬ذهنه* ‬بالصلاة* ‬القلبية*.‬
أتقن* ‬*«‬فن* ‬الفنون*»‬* ‬أي* ‬استنارة* ‬*«‬النوس*»‬* ‬فشرح* ‬بإسهاب* ‬سرّ* ‬الخلاص* ‬وإتّحاد* ‬الله* ‬فينا* ‬لشفاء* ‬طبيعتنا* ‬المنقسمة* ‬على* ‬نفسها* ‬بسبب* ‬عشقها* ‬لذاتها*.‬* ‬فقال*:‬*«‬دافعُ* ‬السيّد* ‬هو* ‬حبّه* ‬للّناس* ‬بلا* ‬حدود،* ‬وقصده* ‬استعادة* ‬المحبّة* ‬الأخويّة* ‬بينهم،* ‬
وأن* ‬يفتح* ‬لهم* ‬سبيل* ‬الاتّحاد* ‬بالله* ‬لأن* ‬الله* ‬محبّة*»‬*. ‬‏


صعابات*:‬

أمضى* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* ‬حياته* ‬في* ‬الهدوئية* ‬وانتقل* ‬برفقة* ‬تلميذ* ‬له* ‬يدعى* ‬أنستاسيوس* ‬إلى* ‬دير* ‬صغير* ‬للقدّيس* ‬جاورجيوس* ‬في* ‬كيزيكوس*. ‬

هناك* ‬باشر* ‬بكتابة* ‬أولى* ‬مؤلّفاته،* ‬وكانت* ‬عبارة* ‬عن* ‬مقالات* ‬نسكيّة* ‬تناولت* ‬الصراع* ‬ضد* ‬الأهواء،* ‬والصلاة،* ‬واللاهوى* ‬والمحبّة* ‬المقدّسة*. ‬لكن* ‬أحداثًا* ‬عسكريّة* ‬أجبرت* ‬الرهبان* ‬على* ‬مغادرة* ‬أديرتهم* ‬في* ‬القسطنطينية* ‬والجوار* ‬بعدما* ‬تعرّضت* ‬المنطقة* ‬لهجمات* ‬الآفار* ‬والفرس*. ‬
‏مذ* ‬ذاك* ‬سلك* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* ‬في* ‬التشرّد*. ‬‏أقام* ‬في* ‬جزيرة* ‬كريت* ‬لبعض* ‬الوقت* ‬حيث* ‬شرع* ‬يقاوم* ‬لاهوتيّين،* ‬من* ‬أصحاب* ‬الطبيعة* ‬الواحدة،* ‬دفاعًا* ‬عن* ‬الإيمان* ‬الأرثوذكسي* ‬القويم*. ‬
ثم* ‬انتقل* ‬إلى* ‬قبرص* ‬ووصل* ‬أخيرًا* ‬إلى* ‬قرطاجة،* ‬عام* ‬632م،* ‬فالتقى* ‬القدّيس* ‬صفرونيوس* ‬الأورشليمي* ‬وانضمّ* ‬إليه*. ‬القديس* ‬صفرونيوس* ‬كان* ‬أحد* ‬كبار* ‬العارفين* ‬بالتراث* ‬الرهباني* ‬واللاهوتي،* ‬ومشهودًا* ‬له* ‬بأرثوذكسيته*. ‬
كان،* ‬يومذاك،* ‬مقيمًا* ‬هو* ‬وعدد* ‬من* ‬رهبان* ‬فلسطين* ‬في* ‬دير* ‬أوكراتا* ‬حيث* ‬التجأوا* ‬إثر* ‬استيلاء* ‬الفرس* ‬على* ‬أورشليم*. ‬
‏في* ‬تلك* ‬الفترة* ‬الممّتدة* ‬بين* ‬العامين* ‬626* ‬‏و* ‬634م،* ‬تسنّى* ‬للقدّيس* ‬مكسيموس* ‬أن* ‬‏يعرض* ‬بعمق،* ‬لم* ‬يسبقه* ‬إليه* ‬أحد،* ‬لعقيدة* ‬التألّه* ‬مقدّمًا* ‬الأسس* ‬الفلسفيّة* ‬واللاهوتيّة* ‬للروحانيّة* ‬الأرثوذكسيّة*. ‬


كتابات*:‬
ففي* ‬مقالات* ‬عميقة* ‬صعبة* ‬طالت* ‬مقاطع* ‬غامضة* ‬في* ‬الكتاب* ‬المقدّس،* ‬وتعاطت* ‬الصعوبات* ‬الواردة* ‬في* ‬كتابات* ‬ديونيسيوس* ‬المنحولة* ‬والقدّيس* ‬غريغوريوس* ‬اللاهوتي،* ‬وكذلك* ‬سرّ* ‬الشكر،* ‬تمكّن* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* ‬من* ‬وضع* ‬حصيلة* (‬Synthèse*) ‬لاهوتيّة* ‬فخمة* ‬بشأن* ‬تألّه* ‬الخليقة*. ‬
ركّز* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* ‬أن* ‬الله* ‬جعل* ‬الإنسان* ‬في* ‬العالم* ‬كاهنًا* ‬يُقيم* ‬سرّ* ‬الشكر* ‬الكوني،* ‬وهو* ‬مدعو* ‬إلى* ‬جمع* ‬الكائنات* ‬المخلوقة* ‬كلّها* ‬لتقّريبها* ‬إلى* ‬الكلمة* ‬الإلهي*. ‬كلّ* ‬خليقة،* ‬في* ‬لغّته،* ‬تُعرف* ‬بتسمية* ‬*«‬كلمة*»‬،* ‬ومجموع* ‬الخلائق* ‬*«‬كلمات*»‬*. ‬وفي* ‬فهمه* ‬إن* ‬الإنسان* ‬يرفع* ‬*«‬الكلمات*»‬* ‬إلى* ‬*«‬كلمة* ‬الله*»‬،* ‬الذي* ‬هو* ‬مبدأها،* ‬في* ‬حوار* ‬محبّة* ‬حرّ* ‬من* ‬كل* ‬قيد*. ‬إذ* ‬يحقِّق* ‬الإنسان* ‬القصد* ‬الذي* ‬من* ‬أجله* ‬خُلق،* ‬وهو* ‬الاتّحاد* ‬بالله،* ‬يأتي* ‬بكل* ‬الكون* ‬أيضًا* ‬إلى* ‬الكمال* ‬في* ‬المسيح* ‬الذي* ‬هو* ‬إله* ‬وإنسان* ‬معًا. ‬

هيراكلوس* ‬والبدعة*:‬
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
منذ* ‬أن* ‬ارتقى* ‬الإمبّراطور* ‬هيراكليوس* ‬سدّة* ‬العرش* ‬سعى* ‬إلى* ‬إعادة* ‬تنظيم* ‬الإمّبراطورية* ‬البيزنطيّة* ‬المتزعزعة،* ‬فقام* ‬بإصلاحات* ‬إدارية* ‬وعسكرية* ‬وسعى* ‬لهجوم* ‬معاكس* ‬ضد* ‬الفرس*. ‬

فكان* ‬لا* ‬بد* ‬من* ‬إعادة* ‬اللحمة* ‬بين* ‬المسيحيّين* ‬تجنبًا* ‬لتحوّل* ‬أصحاب* ‬الطبيعة* ‬الواحدة* ‬نحو* ‬‏الفرس* ‬أو* ‬العرب*. ‬
فكلّف* ‬الإمبراطور* ‬هيراكلوس* ‬البطريرك* ‬القسطنطيني* ‬سرجيوس* ‬إعداد* ‬صيغة* ‬لاهوتية* ‬وسطية* ‬تكفل* ‬كسب* ‬رضى* ‬أصحاب* ‬المشيئة* ‬الواحدة* ‬دون* ‬أن* ‬تتنكّر* ‬للمجمع* ‬الخلقيدوني*.‬
وقد* ‬اقترح* ‬البطريرك* ‬سرجيوس،* ‬في* ‬هذا* ‬الإطار،* ‬صيغة* ‬تقوم* ‬على* ‬أساس* ‬وحدانية* ‬الطاقة* ‬في* ‬المسيح* ‬يسوع*. ‬
لكن* ‬الصيغة* ‬التوّفيقية* ‬المقترحة،* ‬اعتبرت* ‬طبيعة* ‬الرّب* ‬يسوع* ‬البشريّة* ‬منفعلة* ‬لا* ‬فاعلة،* ‬ومحايدة* ‬لا* ‬مقدامة،* ‬فيما* ‬اعتبرت* ‬طاقتها* ‬الخاصة* ‬مستوعّبة* ‬من* ‬طاقة* ‬كلمة* ‬الله*. ‬وهذا* ‬يعني،* ‬على* ‬أرض* ‬الواقع،* ‬القول* ‬بالطبيعة* ‬الواحدة* ‬للرّب* ‬يسوع* ‬لكن* ‬بشكل* ‬مموّه،* ‬إذ* ‬قضى* ‬باستبدال* ‬لفظة* ‬*«‬الطبيعة*»‬* ‬بلفظة* ‬*«‬الطاقة*»‬*. ‬
في* ‬السنة ٦٣٠ م عيّن* ‬الإمبراطور* ‬هيراكليوس* ‬كيرُس* ‬بطريركًا* ‬على* ‬الإسكندرية*. ‬وكلّفه* ‬بتحقيق* ‬الوحدة* ‬مع* ‬أصحاب* ‬الطبيعة* ‬الواحدة* ‬الذي* ‬كان* ‬عددهم* ‬في* ‬مصر* ‬كبيرًا*.
وما* ‬إن* ‬جرى* ‬توقيع* ‬اتّفاق* ‬الوحدة* ‬هناك،* ‬حتى* ‬خرج* ‬رفض* ‬القدّيس* ‬صفرونيوس* ‬الأورشليمي* ‬هذه* ‬البدعة* ‬ودافع* ‬عن* ‬القول* ‬بالطبيعتين* ‬في* ‬المسيح* ‬يسوع* ‬بحسب* ‬مجمع* ‬خلقيدونية*.‬
كما* ‬توجّه* ‬القدّيس* ‬صفرونيوس* ‬إلى* ‬الإسكندرية* ‬ومن* ‬ثم* ‬إلى* ‬القسطنطينية،* ‬وتناقش* ‬والبطريركين* ‬كيرُس* ‬وسرجيوس* ‬دون* ‬جدوى.
على* ‬الأثر* ‬عاد* ‬القدّىيس* ‬صفرونيوس* ‬إلى* ‬أورشليم* ‬حيث* ‬استقبله* ‬الشعب* ‬المؤمن* ‬كمدافعٍ* ‬عن* ‬الأرثوذكسيّة* ‬وجرى* ‬انتخابه* ‬بطريركًا* ‬جديدًا* ‬في* ‬الوقت* ‬الذي* ‬اجتاح* ‬المسلمون* ‬العرب* ‬البلاد.
كما* ‬أصدر* ‬القدّىيس* ‬صفرونيوس* ‬رسالة* ‬حبريّة* ‬حدّد* ‬فيها* ‬أن* ‬كلتا* ‬الطبيعتين* ‬في* ‬المسيح* ‬لها* ‬طاقتها* ‬الخاصة* ‬بها،* ‬وإن* ‬شخص* ‬المسيح* ‬واحد،* ‬فيما* ‬طبيعتاه* ‬اثنتان* ‬وكذلك* ‬طاقتاه*. ‬

تدخّل* ‬الإمّبراطور* ‬هيراكلوس*:‬

صدر* ‬أمر* ‬إمبراطوري* ‬بعدم* ‬القول* ‬بالطبيعتين* ‬وكلّ* ‬مخالفة* ‬لهذا* ‬القرار* ‬يُعتبر* ‬مس* ‬بأمن* ‬البلاد* ‬ويتعرّض* ‬صاحبه* ‬للعقاب*.‬

رغم* ‬ذلك* ‬دافع* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* ‬من* ‬مقرِّه* ‬في* ‬قرطاجة* ‬عن* ‬قول* ‬القدّيس* ‬صفرونيوس* ‬معلّمه،* ‬بطريقة* ‬حاذقة* ‬فقال*: ‬*«‬يحقّق* ‬المسيح* ‬بشريًّا* ‬ما* ‬هو* ‬إلهي،* ‬من* ‬خلال* ‬عجائبه،* ‬ويحقّق* ‬إلهيًّا* ‬ما* ‬هو* ‬بشري،* ‬من* ‬خلال* ‬آلامه* ‬المحيّية*».
ولكن* ‬ما* ‬أن* ‬أصدر* ‬هيراكليوس* ‬مرسوم* ‬الاكتيسيس* ‬سنة ٦٣٨م* ‬وأكدّ* ‬حظر* ‬الكلام* ‬على* ‬الطاقتين* ‬فارضًا* ‬على* ‬الجميع* ‬الاعتراف* ‬بإرادة* ‬واحدة* ‬في* ‬‏المسيح* (‬مونوثيليتية*)‬،* ‬حتى* ‬خرج* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* ‬عن* ‬صمته* ‬وجاهر* ‬بالحقيقة* ‬جهرًا. ‬

توجّه* ‬الأنظار* ‬نحو* ‬القدّيس* ‬مكسيموس*:‬
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
توفّى* ‬القدّيس* ‬صفرونيوس* ‬في* ‬السنة* ‬نفسها* ‬واتجهت* ‬الأنظار* ‬نحو* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* ‬الذي* ‬أخذ* ‬الجميع* ‬يعتبرونه* ‬كأبرز* ‬المتحدّثين* ‬رسميًّا* ‬بلسان* ‬الأرثوذكسيّة.

وكما* ‬حدث* ‬في* ‬زمن* ‬القدّيس* ‬أثناسيوس* ‬الكبير* ‬ومن* ‬بعده* ‬القدّيس* ‬باسيليوس* ‬الكبير،* ‬استقر* ‬حِمل* ‬الإيمان* ‬القويم* ‬بالدرجة* ‬الأولى* ‬على* ‬كاهل* ‬رجل* ‬واحد* ‬هو* ‬القدّيس* ‬مكسيموس.
‏راسل* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* ‬أسقف* ‬رومية* ‬والإمبراطور* ‬هيراكلوس* ‬وذوي* ‬الشأن* ‬في* ‬الإمبراطوريّة* ‬موضحًا* ‬لهم،* ‬في* ‬مقالات* ‬عميقة* ‬قيّمة،* ‬أن* ‬كلمة* ‬الله،* ‬لمحبّته* ‬وتوقيره* ‬اللانهائيين* ‬لخليقته،* ‬اتّخذ* ‬الطبيعة* ‬البشريّة* ‬في* ‬كلّيتها* ‬دون* ‬أن* ‬يغيّر* ‬شيئًا* ‬في* ‬حرّيتها*. ‬لذلك* ‬إذ* ‬كان* ‬هو* ‬حرًّا* ‬في* ‬التراجع* ‬أمام* ‬الآلام،* ‬أخضع* ‬نفسه،* ‬بملء* ‬إرادته* ‬كإنسان،* ‬للإرادة* ‬والقصد* ‬الإلهيّين* ‬فاتحًا* ‬لنا* ‬بذلك* ‬سبيل* ‬الخلاص* ‬بالخضوع* ‬والطاعة*. ‬وإذ* ‬اتّحدت* ‬الحرّية* ‬الإنسانيّة* ‬بحريّة* ‬الله* ‬المطلقة* ‬في* ‬شخص* ‬الرّب* ‬يسوع* ‬المسيح،* ‬وُجدت* ‬مستعادة* ‬في* ‬حركتها* ‬الطبيعية* ‬نحو* ‬الاتّحاد* ‬بالله* ‬والناس* ‬بالمحبّة*. ‬
سمحت* ‬خبرة* ‬الصلاة* ‬والتأمّل* ‬للقدّيس* ‬مكسيموس* ‬أن* ‬يشرح* ‬عقيدة* ‬تألّيه* ‬الإنسان* ‬على* ‬قاعدة* ‬لاهوت* ‬التجسّد.
رقد* ‬البطريرك* ‬سرجيوس* ‬القسطنطيني،* ‬هو* ‬أيضًا،* ‬سنة ٦٣٨م ،* ‬فكان* ‬خلفه* ‬بيروس* ‬مروّجًا* ‬متحمّسًا* ‬للهرطقة* ‬الجديدة.

ورغم* ‬كلّ* ‬الضغوط* ‬التي* ‬مورست* ‬فإن* ‬فريقًا* ‬لا* ‬يستهان* ‬به* ‬من* ‬المسيحيّين* ‬قاوم* ‬المرسوم* ‬الإمبراطوري* ‬حتى* ‬إن* ‬هيراكليوس* ‬اعترف،* ‬قبل* ‬قليل* ‬من* ‬موته،* ‬سنة *‬٦٤١م،* ‬إن* ‬سياسته* ‬الدينية* ‬باءت* ‬بالفشل.

أصرّ* ‬البطريرك* ‬بيروس* ‬الإكمال* ‬ببدعة* ‬سلفه،* ‬فهرب* ‬من* ‬وجه* ‬المؤمنين* ‬المنادين* ‬بالإيمان* ‬القويم* ‬متوّجهًا* ‬إلى* ‬إفريقيا* ‬حيث* ‬كانت* ‬له* ‬مواجهة* ‬علنيّة* ‬والقدّيس* ‬مكسيموس* ‬في* ‬قرطاجة* ‬في* ‬شأن* ‬شخص* ‬الرّب* ‬يسوع في عام ٦٤٥م.

المناظرة*:‬
عرض* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* ‬سرّ* ‬الخلاص* ‬بحجج* ‬دامغة،* ‬ونجح* ‬في* ‬تبيان* ‬أضاليل* ‬البطريرك* ‬بيروس* ‬الذي* ‬اقترح* ‬أخيرًا* ‬التوجّه* ‬شخصيًّا* ‬إلى* ‬رومية* ‬ليلقي* ‬الحرم* ‬على* ‬القول* ‬بالمشيئة* ‬الواحدة* (‬المونوثيليتية*) ‬عند* ‬قبر* ‬الرسل* ‬القدّيسين.
ولكن* ‬لم* ‬يحفظ* ‬البطريرك* ‬بيروس* ‬كلمته،* ‬بل* ‬عاد* ‬إلى* ‬قيئه* ‬وفرّ* ‬إلى* ‬رافينا.
فقام* ‬ثيودوروس،* ‬أسقف* ‬رومية* ‬بقطع* ‬بيروس* ‬من* ‬الشركة،* ‬وتبعه* ‬في* ‬ذلك* ‬بولس* ‬في* ‬القسطنطينيّة*.‬
إزاء* ‬هذا* ‬التطوّر* ‬خشي* ‬الإمبراطور* ‬البيزنطي* ‬قسطنديوس* ‬الثاني* ‬العاقبة،* ‬وأن* ‬يفضي* ‬تطوّر* ‬الأحداث* ‬إلى* ‬انشقاق* ‬الغرب* ‬عن* ‬الإمبراطورية،* ‬لاسيّما* ‬بعد* ‬سقوط* ‬مصر* ‬في* ‬يد* ‬العرب،* ‬فعمد* ‬إلى* ‬نشر* ‬مرسوم* ‬التيّبوس* م٦٤٨ ‬الذي* ‬حرّم* ‬فيه* ‬على* ‬كلّ* ‬مسيحي،* ‬تحت* ‬طائلة* ‬العقاب* ‬الصارم،* ‬مناقشة* ‬موضوع* ‬الطبيعتين* ‬والمشيئتين.

الملاحقة*:‬

عليه* ‬بوشر* ‬بملاحقة* ‬الفريق* ‬الأرثوذكسي* ‬واضطهاده،* ‬لاسيّما* ‬الرهبان* ‬وأصدقاء* ‬القدّيس* ‬مكسيموس.
فما* ‬كان* ‬من* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* ‬أن* ‬إلتحق* ‬بالقدّيس* ‬بمرتينوس* ‬الأول،* ‬أسقف* ‬رومية،* ‬الذي* ‬عزم* ‬على* ‬دعم* ‬الإيمان* ‬القويم* ‬ودعا* ‬إلى* ‬عقد* ‬المجمع* ‬اللاتراني ٦٤٩م ‬الذي* ‬أدان* ‬القول* ‬بالمشيئة* ‬الواحدة* ‬ونبذ* ‬المرسوم* ‬الإمبراطوري.

فلما* ‬وصلت* ‬أخبار* ‬ما* ‬حدث* ‬للإمبراطور،* ‬اغتاظ* ‬واعتبر* ‬أن* ‬في* ‬الأمر* ‬تمرّدًا،* ‬فبادر* ‬إلى* ‬إرسال* ‬جيش* ‬إلى* ‬رومية* ‬لوضع* ‬حدّ* ‬للتدهور* ‬الحاصل ٦٥٣م.‬
أوقف* ‬العسكر* ‬القدّيس* ‬مرتينوس* ‬الأسقف،* ‬وكان* ‬مريضًا* ‬عاجزًا،* ‬واستاقوه* ‬كمجرم* ‬إلى* ‬القسطنطينية* ‬حيث* ‬أُهين* ‬أمام* ‬الملأ،* ‬وحُكم* ‬عليه* ‬بالنفي،* ‬ثم* ‬اقتيد* ‬إلى* ‬شرصونه* ‬حيث* ‬قضى* ‬شهيدًا* ‬في* ‬حالٍ* ‬يرثى* ‬لها،* ‬في* ‬أيلول* ‬من* ‬السنة ‬٦٥٥م*.‬

توقيف* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* ‬ومحاكمته*:‬
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
جرى* ‬توقيف* ‬‏القدّيس* ‬مكسيموس،* ‬وكذلك* ‬تلميذه* ‬الأمين* ‬أنستاسيوس،* ‬ومندوب* ‬أسقف* ‬رومية* ‬الذي* ‬كان* ‬يُدعى* ‬أنستاسيوس* ‬أيّضًا.

أودع* ‬الثلاثة* ‬السجن* ‬أشهرًا* ‬طوالاً* ‬قبل* ‬أن* ‬يمثلوا* ‬للمحاكمة*. ‬وُجِّهت* ‬إلى* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* ‬تهمًا* ‬سياسية* ‬بالدرجة* ‬الأولى*. ‬قالوا* ‬إنه* ‬ناهض* ‬السلطة* ‬الرسمية* ‬وبارك* ‬اجتياح* ‬العرب* ‬لمصر* ‬وإفريقيا*. ‬وقيل* ‬أيضًا* ‬إنّه* ‬تسبَّب* ‬في* ‬بذر* ‬الشقاق* ‬في* ‬الكنيسة* ‬بسبب* ‬عقيدته*. ‬أجاب* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* ‬بهدوء،* ‬ولكن* ‬بثبات* ‬عزم،* ‬إنّه* ‬يؤثر* ‬قطع* ‬الشركة* ‬وسائر* ‬البطاركة* ‬والموت* ‬على* ‬أن* ‬يخون* ‬الإيمان* ‬القويم*. ‬وقد* ‬حُكم* ‬عليه* ‬بالنفي،* ‬واستيق* ‬إلى* ‬بيزيا* ‬في* ‬تراقيا* ‬فيما* ‬استيق* ‬أنستاسيوس* ‬وأنستاسيوس* ‬الآخر* ‬إلى* ‬موضعين* ‬آخرين*.‬

‏القدّيس* ‬مكسيموس* ‬في* ‬المنفى*:‬

بقي* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* ‬في* ‬المنفى* ‬طويلاً* ‬وكابد* ‬الأمرّين*. ‬أخيراً* ‬قرّر* ‬الإمبراطور* ‬فتح* ‬باب* ‬الحوار* ‬معه* ‬عسى* ‬أن* ‬يكسبه* ‬لأنه* ‬أدرك* ‬أنّه* ‬ما* ‬لم* ‬ينجح* ‬في* ‬إقناع* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* ‬بالانضمام* ‬إلى* ‬حزبه* ‬فلن* ‬ينجح* ‬في* ‬كسب* ‬الرأي* ‬العام* ‬الأرثوذكسي*.‬


القدّيس* ‬مكسيموس* ‬في* ‬العذابات* ‬واستشهاده*:‬

أوفد* ‬الإمبراطور* ‬وفدًا* ‬من* ‬ثلاثة* ‬أشخاص،* ‬أسقفًا* ‬يدعى* ‬ثيودوسيوس* ‬ونبيلين* ‬آخرين*. ‬فلما* ‬التقوه* ‬وجدوه* ‬سيّد* ‬قواه،* ‬ثابتًا* ‬على* ‬قناعته* ‬الأولى.

ولمّا* ‬دخلوا* ‬معه* ‬في* ‬بحث* ‬لاهوتي* ‬في* ‬الموضوع* ‬المطروح،* ‬فنّد* ‬حججهم* ‬ودحض* ‬مزاعمهم،* ‬فثارت* ‬ثائرتهم* ‬عليه* ‬وأمطروه* ‬شتمًا* ‬وضربًا* ‬وانصرفوا.
‏بعد* ‬ذلك* ‬جرى* ‬نقل* ‬مكسيموس* ‬إلى* ‬بربريس* ‬حيث* ‬بقي* ‬محتجزًا* ‬وتلميذه* ‬أنستاسيوس* ‬ست* ‬سنوات،* ‬بانتظار* ‬محاكمتهما* ‬من* ‬جديد.
وفي* ‬السنة ‬٦٦٢م* ‬مثل* ‬أمام* ‬بطريرك* ‬القسطنطينية* ‬ومجمعه*.


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة ‬سألوه* :‬من* ‬أيّة* ‬كنيسة* ‬أنت؟* ‬من* ‬القسطنطينية؟* ‬‏من* ‬رومية؟* ‬من* ‬أنطاكية؟* ‬من* ‬الإسكندريّة؟* ‬‏من* ‬أورشليم؟* ‬فها* ‬هم* ‬جميعًا* ‬متّحدون* ‬فيما* ‬بينهم*. ‬فأجاب* ‬القدّيس* ‬مكسيموس* :‬*«‬إن* ‬الكنيسة* ‬الجامعة* ‬هي* ‬الاعتراف* ‬بالإيمان* ‬الصحيح* ‬والخلاصي* ‬بإله* ‬الكون*».



‬هُدِّد* ‬بالموت* ‬فأجاب*: ‬*«‬ليتحقق* ‬فيّ* ‬ما* ‬رسمه* ‬الله* ‬من* ‬قبل* ‬الدهور* ‬لأعطي* ‬لله* ‬المجد* ‬الذي* ‬له* ‬من* ‬قبل* ‬الدهور*!‬*»‬* ‬فلعنوه* ‬وأهانوه* ‬وسلّموه* ‬لحاكم* ‬المدينة* ‬الذي* ‬حكم* ‬عليه* ‬بالجلد،* ‬وقطع* ‬لسانه* ‬ويده* ‬اليمنى* ‬اللذين* ‬بهما* ‬اعترف* ‬بإيمان.
وبعدما* ‬استاقوه* ‬في* ‬شوارع* ‬المدينة* ‬مدمّى* ‬كلّه،* ‬أودعوه* ‬قلعة* ‬في* ‬أقاصي* ‬القوقاز،* ‬في* ‬لازيكوس.
هناك* ‬لفظ* ‬أنفاسه* ‬الأخيرة* ‬في* ‬١٣آب ٦٦٢م* ‬عن* ‬عمر* ‬ناهز* ‬الثانية* ‬والثمانين*. ‬وقد* ‬نُقل* ‬أن* ‬ثلاثة* ‬قناديل* ‬زيت* ‬كانت* ‬تشتعل* ‬على* ‬قبره* ‬من* ‬ذاتها* ‬كلّ* ‬ليلة*.‬

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
قديم 17 - 12 - 2016, 05:44 PM   رقم المشاركة : ( 15359 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

القدّيس مكاريوس الكبير
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة



ولادته* ‬ونشأته*:

وُلد* ‬هذا* ‬القدّيس* ‬في* ‬مصر* ‬من* ‬أبوين* ‬صالحين* ‬بارين*.‬

والده* ‬إبراهيم* ‬لم* ‬يكن* ‬له* ‬ولد* .‬فحدث* ‬في* ‬إحدى* ‬الليالي* ‬أن* ‬أبصر* ‬شخصًا* ‬من* ‬قِبَل* ‬الرّب* ‬يقول* ‬له* ‬أن* ‬الرّب* ‬سيرزقه* ‬ولدًا* ‬يكون* ‬ذكره* ‬شائعًا* ‬في* ‬أقطار* ‬الأرض،* ‬ويُرزَق* ‬أبناء* ‬روحيّين.

وبالفعل،* ‬إبراهيم* ‬رُزِق* ‬ولدًا* ‬فدعاه* ‬*«‬مقار*»‬* ‬من* ‬μακάριο* ‬Makarios* ‬التي* ‬تعني* ‬الطوبى* ‬والغبطة*.‬

لمع* ‬بتقواه* ‬منذ* ‬أن* ‬كان* ‬صغيرًا،* ‬فأقيم* ‬مكاريوس* ‬الشاب* ‬المحبوب* ‬من* ‬الكهنة* ‬ومن* ‬شعب* ‬القرية* ‬قارئًا* ‬*«‬أغنسطس*»‬* .
‬
ولمّا* ‬كملت* ‬قامته* ‬زوّجه* ‬والده* ‬بغير* ‬إرادته،* ‬فتظاهر* ‬بالمرض* ‬أيّامًا،* ‬ثم* ‬استسمح* ‬أباه* ‬أن* ‬يمضي* ‬إلى* ‬البريّة* ‬لتبديل* ‬الهواء* ‬فسمح* ‬له.*

‬فمضى* ‬وصلى* ‬إلى* ‬الرّب* ‬يسوع المسيح* ‬أن* ‬يساعده* ‬على* ‬عمل* ‬ما* ‬يرضيه*.‬


الرؤيا* ‬في* ‬البريّة*:


‬
فلمّا* ‬أصبح* ‬في* ‬البريّة،* ‬أبصر ‬رؤيا* ‬كأن* ‬كاروبًا* ‬ذا* ‬ستة* ‬أجنحة* ‬قد* ‬أمسك* ‬بيده* ‬وأصعده* ‬على* ‬رأس* ‬الجبل* ‬وأراه* ‬كلّ* ‬البريّة* ‬شرقًا* ‬وغربًا* ‬وشمالاً* ‬وجنوبًا،
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
*‬وقال* ‬له*:‬*
"‬يقول* ‬لك* ‬الله* ‬أنّه* ‬منحك* ‬أنت* ‬وأولادك الروحيّين* ‬هذا* ‬الجبل* ‬كلّه* ‬لتكرّس* ‬كلّ* ‬وقتك* ‬للعبادة.* ‬كثير* ‬من* ‬القادة* ‬يأتون إلى* ‬هذه* ‬البريّة.* ‬اسهر* ‬وتذكّر* ‬ما* ‬أقوله* ‬لك*:‬"إن* ‬سلكت* ‬بكمال،* ‬أظهر* ‬لك* ‬وأعلن* ‬لك* ‬كلمات* ‬الله".
وقد* ‬قيل* ‬أن* ‬الكاروب* ‬صحبه* ‬كلّ* ‬حياته* ‬تقريبًا.

لمّا* ‬عاد* ‬من* ‬البرية* ‬وجد* ‬زوجته* ‬قد* ‬ماتت* ‬وهي* ‬بعد* ‬عذراء،* ‬فشكر* ‬السّيد* ‬المسيح* ‬كثيرًا.
‬وبعد* ‬ذلك* ‬مات* ‬أبواه* ‬فوزع* ‬كلّ* ‬ما* ‬خلَّفاه* ‬له* ‬على* ‬المساكين،* ‬ورأى* ‬أهل منطقته،* ‬شبشير،* ‬طهره* ‬وعفافه* ‬فأخذوه* ‬إلى* ‬أسقف* ‬أشمون* ‬فرسمه* ‬قسًا* ‬عليهم،* ‬وبنوا* ‬له* ‬موضعًا* ‬خارج* ‬البلد ‬وكانوا* ‬يأتون إلىه* ‬ويتقربون* ‬منه،* ‬وعيّنوا* ‬له* ‬خادمًا* ‬ليبيع* ‬له* ‬شغل* ‬يديه* ‬وقضاء* ‬ما* ‬يحتاج إليه.

‬بعد* ‬فترة* ‬قصيرة* ‬من* ‬سيامته* ‬كاهنًا* ‬ذهب* ‬إلى قرية‬ أخرى* ‬إذ* ‬حسب* ‬نفسه* ‬غير* ‬أهل* ‬للكهنوت* ‬ولتكريم* ‬شعبه* ‬له.*

‬تذكر* ‬بعض* ‬المخطوطات* ‬أنّه* ‬لم* ‬ينل* ‬نعمة* ‬الكهنوت* ‬إلّا* ‬بعد* ‬ذهابه إلى* ‬الاسقيط*.‬


تجربة* ‬الفتاة*:

‬

لما* ‬رأى* ‬الشيطان* ‬تعاليمه* ‬في* ‬الفضيلة* ‬جلب* ‬عليه* ‬تجربة* ‬شديدة،* ‬وذلك* ‬أنّه* ‬أوعز* ‬إلى* ‬فتاة* ‬كانت* ‬قد* ‬ارتكبت* ‬شرًا* ‬مع* ‬شاب* ‬بأن* ‬تدَّعي* ‬بأن* ‬القدّيس* ‬مكاريوس* ‬هو ‬الذي* ‬أتى* ‬معها* ‬هذا* ‬الشر.* ‬فلمّا* ‬علم* ‬أهلها* ‬بذلك،* ‬أهانوه* ‬وضربوه* ‬ضربًا* ‬موجعًا،* ‬فتحمّله* ‬وهو* ‬صامت.

وعندما* ‬حان* ‬وقت* ‬ولادتها،* ‬لبثت* ‬أربعة* ‬أيّام* ‬معذّبة* ‬ولم* ‬تلد* ‬حتى* ‬اعترفت* ‬بكذبها* ‬على* ‬القدّيس،* ‬وذكرت* ‬إسم* ‬الشاب* ‬الذي* ‬أغواها.


فلمّا* ‬سمع* ‬ذلك* ‬أهل* ‬الفتاة،* ‬توجّهوا إليه* ‬يستغفرونه* ‬عما* ‬حصل* ‬منهم* ‬له،* ‬فهرب* ‬منهم* ‬تنكّرًا* ‬لمجد* ‬العالم،* ‬وكان* ‬له* ‬من* ‬العمر* ‬وقتئذ * ‬٣٠‬عامًا،* ‬وإذ* ‬فكّر* ‬ألا* ‬يعود* ‬إلى* ‬قلايته،* ‬ظهر* ‬له* ‬ملاك* ‬الرّب* ‬وسار* ‬معه* ‬يومين* ‬حتى* ‬وصلا* ‬إلى* ‬وادي* ‬النطرون*.‬

ثم* ‬قال* ‬له* ‬القدّيس مكتريوس:* ‬*«‬حدد* ‬لي* ‬يا* ‬سيّدي* ‬مكانًا* ‬أسكن* ‬فيه*»‬،* ‬فأجابه*: ‬*«‬لا* ‬لئلّا* ‬تخرج* ‬منه* ‬فيما* ‬بعد* ‬فتكون* ‬مخالفًا* ‬لقول* ‬الرّب،* ‬بل* ‬البريّة* ‬كلّها* ‬لك،* ‬فأي* ‬موضع* ‬أردت،* ‬أسكن* ‬فيه*».

فسكن* ‬في* ‬البريّة* ‬الداخليّة* ‬حيث* ‬الموضع* ‬الذي* ‬فيه* ‬دير* ‬القدّيسين* ‬مكسيموس* ‬ودوماديوس،* ‬وهو* ‬المعروف* ‬الآن* ‬بدير* ‬البراموس.

زيارته* ‬للقدّيس* ‬أنطونيوس:
‬

عندما* ‬ذهب* ‬لزيارة* ‬القدّيس* ‬أنطونيوس* ‬قال* ‬عنه* ‬حينما* ‬رآه*: ‬*"‬هذا* ‬إسرائيلي* ‬حقًا* ‬لا* ‬غش* ‬فيه*»‬،* ‬ثم* ‬ألبسه* ‬الإسكيم* ‬المقدّس* ‬وعاد* ‬مكان".*
‬ولمّا* ‬تكاثرت* ‬عنده* ‬الأخوة* ‬بنى* ‬لهم* ‬كنيسة* ‬وذاع* ‬صيته* ‬وسمع* ‬به* ‬الملوك* ‬لكثرة* ‬العجائب* ‬التي* ‬كان* ‬يعملها.
وظهر* ‬له* ‬ملاك* ‬الرّب* ‬وأتى* ‬به* ‬إلى* ‬رأس* ‬الجبل* ‬عند* ‬البحيّرة* ‬الغربية* ‬المالحة* ‬الماء،* ‬وأعلمه* ‬أن* ‬يتّخذ* ‬له* ‬هذا* ‬المكان* ‬مسكنًا،* ‬وبنى* ‬له* ‬قلاية* ‬وكنيسة* ‬لأن* ‬شعبًا* ‬كثيرًا* ‬سيجيء إليه.


القدّيس* ‬والبريّة* ‬والسرداب*:‬

أكّد* ‬القدّيس* ‬مكاريوس* ‬أن* ‬بريّة‬ الإسقيط ‬تفقد* ‬قيمتها* ‬الرهبانية* ‬عندما* ‬تدخل إليها* ‬المدنّية.
‬قال:*‬*«‬عندما* ‬ترون* ‬القلالي* ‬اتّجهت* ‬نحو* ‬الريف،* ‬إعرفوا* ‬أن* ‬نهاية* ‬الإسقيط* ‬قد* ‬اقتربت.* ‬وعندما* ‬ترون* ‬أشجارًا* ‬فأعلموا* ‬أنّها على الأبواب، ‬وإذا* ‬رأيتم* ‬أطفالاً* ‬أحملوا* ‬ثيابكم* ‬الجلدية* ‬وأهربوا*».

حتى* ‬في* ‬بريّة* ‬الإسقيط،* ‬اعتاد* ‬القدّيس* ‬مكاريوس* ‬أن* ‬يهرب* ‬من* ‬ازدحام* ‬الشعب*.‬ ويخبرنا القدّيس* ‬بالاديوس* ‬أنّه* ‬حفر* ‬سردابًا* ‬تحت* ‬الأرض* ‬يمّتد* ‬من* ‬قلايته* ‬إلى* ‬حوالي* ‬نصف* ‬ميل،* ‬وينتهي* ‬بمغارة* ‬صغيرة.* ‬فإذا* ‬ما* ‬جاءت إلىه* ‬جموع* ‬كثيرة،* ‬يترك* ‬قلايّته* ‬سرًّا* ‬إلى* ‬المغارة* ‬فلا* ‬يجده* ‬أحد.

وقد* ‬أخبرنا* ‬أحد* ‬تلاميذه* ‬الغيّورين* ‬أنّه* ‬اعتاد* ‬أن* ‬يتلو ٢٤‬صلاة* ‬في* ‬طريقه* ‬إلى* ‬المغارة،* ‬و٢٤*‬صلاة* ‬في* ‬العودة*.‬



رجل* ‬المحبّة:*

‬

اكتشف* ‬القدّيس* ‬مكاريوس* ‬أن* ‬الفهم* ‬الحقيقي* ‬للتوحّد،* ‬ليس* ‬هو* ‬مجرد* ‬العزلة* ‬عن* ‬البشر،* ‬بل* ‬هو* ‬الرغبة* ‬الصادقة* ‬للاتّحاد* ‬مع* ‬الله* ‬محب* ‬البشر.*

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة ‬المتوحّد* ‬الحقيقي* ‬يهرب* ‬بالجسد* ‬عن* ‬البشر،* ‬لكنه* ‬عمليًا،* ‬يحب* ‬كلّ* ‬إنسان.

كان* ‬روح* ‬الحب* ‬والحنو* ‬يسود* ‬بين* ‬رهبانه* ‬كانعكاس* ‬لحب* ‬القدّيس* ‬لهم*. ‬وقد* ‬روي* ‬لنا* ‬روفينوس* ‬قصة* ‬عنقود* ‬العنب* ‬الذي* ‬قُدم* ‬للقدّيس* ‬فقدّمها* ‬بدوره* ‬لراهبٍ* ‬مريضٍ،* ‬وعبر* ‬هذا* ‬العنقود* ‬من* ‬راهبٍ* ‬إلى* ‬آخر* ‬في* ‬كلّ* ‬القلالي* ‬دون* ‬أن* ‬يمسّه* ‬أحد* ‬منهم* ‬ليقدّمه* ‬للغير*.‬


ستر* ‬الخطايا* :‬



عُرف* ‬القدّيس* ‬بسمته* ‬الخاصة* ‬بستر* ‬الخطايا* ‬فقيل* ‬عنه: «‬صار* ‬إلهًا* ‬على* ‬الأرض،* ‬فكما* ‬أن* ‬الله* ‬يحمي* ‬العالم* ‬ويحتمل* ‬خطايا* ‬الناس* ‬هكذا* ‬كان* ‬القدّيس* ‬مكاريوس* ‬يستر* ‬الأخطاء* ‬التي* ‬رآها* ‬أو* ‬سمعها* ‬كأنّه* ‬لم* ‬يرَ* ‬أو* ‬يسمع* ‬شيئًا*».

كسبه* ‬للوثنيّين:*


‬
بحبّه* ‬كسب* ‬وثنيّين* ‬للإيمان،* ‬فقد* ‬جاء* ‬عنه* ‬أنّه* ‬إذ* ‬كان* ‬ذاهبًا* ‬من* ‬الاسقيط* ‬إلى* ‬نتريا،* ‬مع* ‬تلميذه* ‬سبقه* ‬التلميذ* ‬الذي* ‬التقي* ‬بكاهن* ‬للأوثان* ‬كان* ‬يجري.*
‬فقال* ‬له* ‬التلميذ*:‬*«‬إلى* ‬أين* ‬أنت* ‬تجري* ‬أيّها* ‬الشيطان؟*»‬* ‬فاستدار* ‬الكاهن* ‬وصار* ‬يضربه* ‬حتى* ‬تركه* ‬بين* ‬حيّ* ‬وميت.
‬وإذ* ‬التقي* ‬بالقدّيس* ‬مكاريوس* ‬مدحه* ‬القدّيس*:‬* «‬لتصحبك* ‬المعونة* ‬يا* ‬رجل* ‬النشاط*».‬* ‬دُهش* ‬الكاهن* ‬ونُخس* ‬قلبه* ‬ولم* ‬يترك* ‬القدّيس* ‬مكاريوس* ‬حتى* ‬جعله* ‬راهبًا*.‬

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

بعض* ‬من* ‬أخباره*:

- ‬ذات* ‬يوم* ‬ذهب* ‬القدّيس* ‬مكاريوس* ‬ليقطع* ‬الخوص،* ‬وكان* ‬الأخوة* ‬معه. ‬فقالوا* ‬له* ‬في* ‬اليوم* ‬الأول*:‬"هلمّ* ‬وكل* ‬معنا* ‬يا* ‬أبانا،*. ‬فمضى* ‬وأكل*. ‬وفي* ‬اليوم* ‬التالي* ‬طلبوا* ‬منه* ‬أن* ‬يأكل* ‬معهم* ‬أيضًا. ‬فأبى* ‬أن* ‬يأكل،* ‬وقال* ‬لهم*:‬*«‬أنتم* ‬تحتاجون* ‬إلى* ‬الطعام* ‬يا* ‬أولادي،* ‬لأنّكم* ‬ما* ‬تزالون* ‬جسدًا،* ‬لكن* ‬أنا* ‬لا* ‬أريد* ‬أن* ‬أكل* ‬الآن*».
- ‬زار* ‬القدّيس* ‬مكاريوس* ‬القدّيس* ‬باخوميوس* ‬الطابنسيني،* ‬فسأله* ‬الأخير*:‬*«‬عندما* ‬يكون* ‬عندنا* ‬إخوة* ‬بطّالون،* ‬هل* ‬يحسن* ‬أن* ‬نعاقبهم؟* ‬أجابه* ‬القدّيس* ‬مكاريوس:"*‬عاقب* ‬وأحكم* ‬بعدل* ‬من* ‬هم* ‬تحت* ‬أمرك* ‬،*‬لكن* ‬لا* ‬تدن* ‬أحدًا* ‬من* ‬خارج،* ‬لأنّه* ‬قد* ‬كتب*:‬*«‬ماذا* ‬لي* ‬أن*
‬ادين* ‬الذين* ‬من* ‬خارج* .‬ألستم* ‬أنتم* ‬تدينون* ‬الذين* ‬من* ‬داخل* .‬أمّا* ‬الذين* ‬من* ‬خارج* ‬فالله* ‬يدينهم*‬*»‬* ‬1*) ‬كو12*:‬5*‬).


-* ‬كان* ‬القدّيس* ‬مكاريوس* ‬يزور* ‬أحد* ‬الاخوة* ‬يوميًّا* ‬لمدّة* ‬أربعة* ‬أشهر.* ‬فلم* ‬يجده* ‬ولا* ‬مرة* ‬قد* ‬فرغ* ‬من* ‬الصلاة،* ‬فتعجّب* ‬وقال* ‬له*:‬*«‬أنت* ‬ملاك* ‬أرضي* ‬حقًا*»‬*.‬

- يشير* ‬*«كتاب* ‬الآباء* ‬القدّيسين*»‬* ‬إلى* ‬صراعه* ‬ضد* ‬الشياطين.* ‬كما* ‬روى* ‬لنا* ‬القدّيس* ‬بالاديوس* ‬عن* ‬إقامته* ‬ميّتًا* ‬لكي* ‬يٌهدي* ‬هرطوقيًّا* ‬لا* ‬يؤمن* ‬بقيامة* ‬الأجساد.* ‬كما* ‬نال* ‬موهبة* ‬صنع* ‬المعجزات*.‬


القدّيس* ‬وإمرأتان:

* -‬طلب* ‬يومًا* ‬من* ‬الرّب* ‬أن* ‬يريه* ‬من* ‬يضاهيه* ‬في* ‬سيرته،* ‬فجاءه* ‬صوت* ‬من* ‬السماء* ‬قائلاً*: ‬*«‬إنك* ‬إلى* ‬الآن* ‬لم* ‬تبلغ* ‬ما* ‬بلغت* ‬إلىه* ‬امرأتان* ‬في* ‬مدينة* ‬الإسكندرية*»‬،* ‬وسأل* ‬حتى* ‬وصل* ‬إلى* ‬منزلهما،* ‬فلمّا* ‬دخل* ‬رحّبتا* ‬به* ‬وغسلتا* ‬قدميه،* ‬ولما* ‬استعلم* ‬منهما* ‬عن* ‬سيرتهما،* ‬قالت* ‬له* ‬إحداهما*:‬*«‬لم* ‬تكن* ‬بيننا* ‬قرابة* ‬جسدية،* ‬ولما* ‬تزوّجنا* ‬هذين* ‬الأخوين،* ‬طلبنا* ‬منهما* ‬أن* ‬يتركانا* ‬لنترهَّب،* ‬ولمّا* ‬لم* ‬يسمحا* ‬لنا* ‬عاهدنا* ‬أنفسنا* ‬أن* ‬نقضي* ‬حياتنا* ‬بالصوم* ‬إلى* ‬المساء* ‬والصلاة* ‬الكثيرة* .‬وقد* ‬رُزِقت* ‬كلٍّ* ‬منّا* ‬بولد،* ‬متى* ‬بكى* ‬أحدهما* ‬تحضنه* ‬الواحدة* ‬وترضعه* ‬حتى* ‬وإن* ‬لم* ‬يكن* ‬ولدها،* ‬ونحن* ‬في* ‬عيشة* ‬واحدة،* ‬ووحدة* ‬الرأي* ‬رائدنا،* ‬واتّحاد* ‬القلوب* ‬غايتنا،* ‬وعمل* ‬زوجينا* ‬رعاية* ‬الغنم* ‬ونحن* ‬فقراء،* ‬ونكتفي* ‬بقوت* ‬يومنا* ‬وما* ‬يتبقّى* ‬نوزعه* ‬على* ‬المساكين*»‬*.‬
فحينما* ‬سمع* ‬القدّيس* ‬هذا* ‬الكلام* ‬هتف* ‬قائلاً*: ‬*«‬حقًا* ‬إن* ‬الله* ‬ينظر* ‬إلى* ‬استعداد* ‬القلوب،* ‬ويمنح* ‬نعمة* ‬روحه* ‬القدّوس* ‬لجميع* ‬الذين* ‬يريدون* ‬أن* ‬يعبدوه*»‬،* ‬ثم* ‬ودّعهما* ‬وانصرف* ‬راجعًا* ‬إلى* ‬البريّة.


* -‬أضل* ‬راهب* ‬قومًا* ‬بقوله* ‬أنّه* ‬لا* ‬قيامة* ‬للأموات،* ‬فحضر* ‬إلى* ‬القدّيس* ‬مكاريوس* ‬أسقفه* ‬وشكا* ‬إليه* ‬أمر* ‬هذا* ‬الراهب* ‬الذي* ‬كان* ‬يُدعى* ‬*«‬أوسيم*»‬،* ‬فذهب إليه* ‬ولم يتركه* ‬حتى* ‬أرجعه* ‬عن* ‬ضلاله*.‬


رقاده*:

‬

في* ‬يوم* ‬نياحته* ‬رأى* ‬القدّيسين* ‬أنطونيوس* ‬وباخوميوس* ‬وجماعة* ‬من* ‬القدّيسين* ‬والملائكة،* ‬وأسلم* ‬الروح* ‬بالغًا* ‬من* ‬العمر* ‬سبعًا* ‬وتسعين* ‬سنة،* ‬وكان* ‬ذلك* ‬في* ‬اليوم* ‬السابع* ‬والعشرين* ‬من* ‬برمهات* ‬سنة٣٩٢م،*) ‬برمهات* ‬هو* ‬الشهر* ‬السابع* ‬من* ‬التقويم* ‬المصري. ‬وفي* ‬التقويم* ‬الغريغوري* ‬يبدأ* ‬من* ‬١٠* ‬آذار* ‬إلى * ‬٨نيسان)*.
كان* ‬قد* ‬أوصى* ‬تلاميذه* ‬أن* ‬يخفوا* ‬جسده،* ‬فأتى* ‬قوم* ‬من* ‬أهل* ‬شبشير،* ‬المنطقة* ‬التي* ‬وٌلد* ‬فيها،* ‬وسرقوا* ‬جسده* ‬وبنوا* ‬له* ‬كنيسة* ‬ووضعوه* ‬فيها.* ‬بقي* ‬جسده* ‬هناك* ‬حوالي* ‬المئة* ‬سنة* ‬ثم* ‬أعيد* ‬إلى* ‬ديره*.‬

* ‬
من* ‬أقواله:

* ‬

*- ‬إن* ‬كنت* ‬وأنت* ‬تنتهر* ‬أحدًا* ‬يتحرّك* ‬فيك* ‬الغضب،* ‬فأنت* ‬تشبع* ‬هواك،* ‬ففي* ‬خلاص* ‬أخيك* ‬لا* ‬تخسر* ‬نفسك*.‬
* - ‬إن* ‬احتفظنا* ‬بتذكّر* ‬الأخطاء* ‬التي* ‬ارتكبها* ‬الناس* ‬ضدنا،* ‬فإنّنا* ‬نحطّم* ‬القدرة على تذكّر الله.‬
* - ‬إن* ‬طول* ‬الروح* ‬هو* ‬الصبر*... ‬والصبر* ‬هو* ‬الغلبة*... ‬والغلبة* ‬هي* ‬الحياة*... ‬والحياة* ‬هي* ‬الملكوت*... ‬والملكوت* ‬هو* ‬الله*.‬
* - ‬البئر* ‬عميقة،* ‬ولكن* ‬ماءها* ‬طيّب* ‬عذب*.‬
* - ‬الباب* ‬ضيّق،* ‬والطريق* ‬كَرِبَة،* ‬ولكن* ‬المدينة* ‬مملوءة* ‬فرحًا* ‬وسرورًا*.‬
* - ‬البرج* ‬شامخ* ‬حصين* ‬ولكن* ‬داخله* ‬كنـــوز* ‬جليلة*.‬
* - ‬الصوم* ‬ثقيل* ‬صعب،* ‬ولكنّه* ‬يوصِّل* ‬إلى* ‬ملكوت* ‬السموات*.‬
* -‬فعل* ‬الصلاح* ‬عسير* ‬شاق،* ‬ولكنّه* ‬ينجِّي* ‬من* ‬النار* ‬برحمة* ‬ربّنا* ‬الذي* ‬له* ‬المجد*.‬

بشفاعة* ‬القدّيس* ‬مكاريوس* ‬يا* ‬مخلّص* ‬خلصّنا*.‬


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
قديم 17 - 12 - 2016, 06:01 PM   رقم المشاركة : ( 15360 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

القدّيس أثناسيوس الكبير
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة



القديس أثناسيوس الكبير معلّم المسكونة (+373م):
⁜ في الخدمة الليتورجية: ‏في خدمتنا الليتورجية اليوم تبرز ملامح صورة معبِّرة ترسمها الكنيسة لهذا القديس العظيم. فهو ذوالجلادة والراعي الحقيقي والقاعدة غير المتزعزعة لكنيسة المسيح. وهو الملهم من الله وخادم الأسرار والذهب الخالص الذي كانت لهالأحزان ومصارعات الأعداء بودقة كريمة، والذي صاغته كلمة الله خاتماً ليمينها المقدّسة. وهو بوق الكنيسة وقاطع مواكب البدع بقوةالروح والمتكلّم باللاهوت شاروبيمياً. وهو روْض أقوال الكتب الملهمة من الله الذي نقّى نفسه وجسده من كل دنس فظهر هيكلاً لائقاً بالله.في قانون السحر قال عنه ثاوفانس المرنم: "إنني بتقديمي المديح لأثناسيوس، كأني أمدَحُ الفضيلة، أظهرُ بالحري مقدِّماً النشيد لله،الذي من لدنه قد مُنح هو للبشر موضوعاً مستوجباً الثناء للفضيلة التي أصبح لها مثالاً حيّاً ونموذجاً". وقد أحرز المسيح وتكلّمبلسانه وجلا كلمة الإيمان ونفى الضلالة لما نُفي بتواتر من أجل الثالوث. دافع عن مساواة الابن والروح القدس للآب في الجوهروأقصى ضلالة آريوس ذات الإلحاد. وهو بهجة رؤساء الكهنة وعمود النور وقاعدة الكنيسة والكاتب المدقِّق عن شريعة العيشةالانفرادية. ‏فمن هو، تفصيلاً، هذا الذي استحق أن تسبغ عليه الكنيسة المقدّسة كل هذه الأوصاف الجليلة وأكثر؟
⁜ وسطه ونشأته: ‏لا نعرف تماماً متى كانت ولادته. نعرف فقط إنها كانت في حدود العام 295‏م. كذلك لا نعرف أين كانت. ثمة ما يبعثعلى الظن إنه ربما ولد في مكان ما بقرب مدينة الإسكندرية، مما يفسِّر إلفته بآباء البرِّية وتعلّقه بمثالهم. أنّى يكن الأمر فالبادي أنهكان قبطياً أكثر مما كان يونانياً. وقد أشار القدامى إلى السمرة غير العادية لبشرته. كان يقرأ ويكتب ويعظ بالقبطية. هذا لا شك فيه. لميعرض لاضطهاد المسيحيّين في سنواته الخمسة العشر الأولى من حياته. حملة ذيوكليسيانوس قيصر على المسيحيّين امتدَّت منالسنة 303 ‏إلى السنة 311 ‏م. ماذا كان وقعها عليه؟ لا نعلم بالتدقيق، لكن، هناك من يميل إلى الربط بعامة بين تشبّث الشهداء بالإيمانوصلابتهم، من ناحية، وما أبداه أثناسيوس في صراعه ضد الآريوسية، من ناحية أخرى، من أمانة وصلابة وطول باع. فالواضح أننفسه كانت مطبوعة على روح الشهادة للرب يسوع. وقد سرى عنه، عبر العصور، في هذا الشأن، قول جرى مجرى المثل الشائع يومكادت الآريوسية تبلع العالم: "أثناسيوس ضد العالم". Athanasios contra mundum.
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
⁜ ‏ماذا عن علمه وثقافته؟ ‏لا نعرف الكثير. يبدو أنه لم يتثقّف بثقافة اليونانيين نظير كبار القدّيسين كباسيليوس الكبير والذهبي الفموغريغرريوس اللاهوتي. الكنيسة تعلّمها، بصورة خاصة، من الكأس المقدّسة، من المعلّمين المسيحيّين وأوساط المؤمنين والدوائرالأسقفية في الإسكندرية حيث يبدو أنه انضمّ حدثاً إلى حاشية القديس ألكسندروس، أسقف المدينة. بعض معلّميه، على ما أورد هوعبوراً، قضى في زمن الاضطهاد. هذا ربما فسّر حدَّة روح الشهادة لديه.
‏وقد شاعت عن كيفية التصاقه بأسقف الإسكندرية، ألكسندروس، رواية مفادها أنه فيما كان الأسقف، يوماً، في دارته المطلّة على البحر،لاحظ، في المدى المنظور، على الشاطئ، حفنة من الأولاد يلعبون. كان واحد منهم يقف في الماء فيما كان رفاقه يتقدّمون واحداً واحداً كمافي زيّاح، فيصبّ عليهم الماء وينصرفون. فأخذ الأسقف يتساءل: ترى ماذا يفعلون؟ وبدافع الفضول أرسل في طلب الولد وسأله ماذايعمل؟ لماذا يصبّ الماء على رؤوس الأولاد الآخرين؟ فأجابه: أعمّدهم!
- وهل تعلم كيف؟ - نعم! علّمتهم أسرار إيماننا ولقّنتهم الصلواتوكيف يستعدّون لاقتبال المعمودية ثم عمدّتهم! الأولاد، بالمناسبة، كانوا وثنيّين. فتعجّب الأسقف وأكبر ما فعله الصبي. وإذ مال إليهورغب في تبنّيه استأذن والديه وضمّه إليه. وبعد سنوات قليلة أضحى مقدَّماً عنده كابن لأبيه وحافظ سرّه.
⁜ ملامحه: ‏كيف بدا للعيان ذاك الذي أبدى من الجرأة والصلابة ما أدهش العالم؟ كان نحيف البنية، قصير القامة. أعداؤه دعوه قزماً.وكان معكوف الأنف، صغير الفم، ذا لحية قصيرة محمرّة وبشرة تميل إلى السواد وعينين صغيرتين... وقد اعتاد أن يمشي بانحناءةبسيطة إلى الأمام ولكن برشاقة ولباقة كأنه أحد أمراء الكنيسة.
⁜ أثناسيوس وآريوس: أول الغيث! ‏سنة 318‏م، وبناء لطلب ألكسندروس، كتب أثناسيوس، وهو بعد في أوائل العشرينات من عمره،مقالتين إحداهما ضدّ الوثنيّين والأخرى بشأن تجسّد كلمة الله. تضمّنت المقالتان لبّ الرسالة التي شاء الرب الإله لأثناسيوس أن يفتّقهاوينقلها إلى العالم. وحدث في السنة 319 أن دعا ألكسندروس إلى اجتماع لكهنته عرض فيه لوحدة الآب والابن والروح القدس فيالجوهر، فلم يرق كلام الأسقف لأحد الكهنة الحاضرين، وهو آريوس، الذي اعترض وطعن في وحدة الجوهر الإلهي قائلاً:
"إذا كان الآبقد ولد الابن فلا بد من أن يكون المولود ذا بداءة في الوجود، وهذا معناه أنه كان هناك وقت لم يكن فيه الابن موجوداً. ومعناه أيضاً أنالابن اقتبل جوهراً من العدم". قول آريوس هذا استتبعه اعتبار الابن دون الآب ولو سما على الإنسان، ومن جوهر غير جوهر الآب، وأندوره بين الله والإنسان لا يتعدّى دور الوسيط. وكل ما أُسبغ عليه من تسميات، كالسيّد والمخلّص والإله، إنما أُسبغ عليه مجازاً، من بابالتوسّع. ألكسندروس استفظع وحاول ردّ آريوس عن غيّه عبثاً. كثيرون، محلياً، تدخّلوا ولكن على غير طائل. آريوس عاند وتمادى.وقليلاً قليلاً بدأ أثناسيوس يلعب الدور الأبرز في الصراع. تكلم عن ألكسندروس. واجه آريوس بقوة ودون هوادة. أما ألكسندروسفأطال أناته على آريوس بما فيه الكفاية، ولما تبيّن له أنه لم يعد هناك مجال للعلاج جمع أساقفة مصر وليبيا وحكم بقطع آريوس. كانالموضوع خطيراً. كل وحدة الله كانت مهدّدة. كل التدبير الخلاصي بيسوع المسيح أضحى بلا معنى. استقامة الرأي باتت في خطر!
‏منكان آريوس؟ ‏كان آريوس ليبياً، راعياً لكنيسة بوكاليس. لا نعرف عنه الكثير. كتاباته أكثرها أتلف أو ضاع. كان حاد الذهن، ضليعاً فيالفلسفة، خبيراً في الاستدلال المنطقي. وقد وُصف بأنه طويل القامة، نحيف، متنسّك، واثق من نفسه، يتكلّم كمن له سلطان. كان فيالثالثة والستين حين قاوم الأسقف ألكسندروس. وقد سبق له أن التصق، لبعض الوقت، بجماعة منشقّة تمتّ إلى أسقف يدعىملاتيوس بلبلت الكنيسة في الإسكندرية. وثمة من يقول إنه كان رجل طموحات ويطلب المعالي، فلما خاب عن بلوغ سدّة الأسقفيةالأولى على مصر، تحوّل إلى مقاوم ومعاند إثباتاً لنفسه. أنّى يكن الأمر فقد تعاطى آريوس الحقائق الإيمانية كما لو كانت مسائلفلسفية. الموضوع بالنسبة إليه كان موضوع منطق واستنتاجات منطقية، على مذهب بعض التيّارات الفلسفية في زمانه. ولكي يجعلآراءه على كل شفة ولسان نظم بعضها على الموسيقى فأضحت أغان تردِّدها العامة في كل مكان.
⁜ ‏البدعة تنتشر: ‏وشاعت البدعة هنا وثمة. كان فيها ما يستهوي. كثيرون تعاطوا المسيحية أو كانوا مستعدّين لأن يتعاطوها كفلسفةجديدة. وكثيرون سعوا إلى المزاوجة بين المسيحية وهذا التيار الفلسفي أو ذاك وفشلوا. عشرات الهرطقات تولّدت وعشرات المذاهبنشأت كان يمكن أن تودي بالكنيسة الفتيّة إلى التهلكة أو تجنح بها إلى الفساد لو لم يكن روح الرب حافظها وعاصمها. هذا إذن كانالمناخ الفكري العام، آنذاك، لاسيما في أوساط المفكّرين المسيحيّين. فلما نزلت هرطقة آريوس إلى سوق الأفكار، وهي أسوأ وأخطر ماظهر، تلقّفها العديدون. تجدر الإشارة، على رأي بعض الدارسين، أن للآريوسية بصورة أساسية، علاقة بالغنوصية التي يبعد فيهاالكائن الأعظم عن المخلوقات، وبالأفلاطونية الجديدة التي تبدو فيها الكلمة في وضع الوسيط بين الواحد والمتعدّد، بين الروح والمادة،وبالمخفضين، أمثال أوريجنيس المعلّم، الذين خفّضوا مرتبة الابن ومرتبة الروح القدس فقالوا بثالوث متدرّج غير متساوٍ في الجوهرالواحد. إلى ذلك احتضن آريوس وقدّمه عددّ من المتنفّذين نظير أفسافيوس، أسقف قيصرية فلسطين، وأفسافيوس أسقف نيقوميذية،العاصمة الشرقية للإمبراطورية قبل القسطنطينية، وبولينوس، أسقف صور، وأثناسيوس، أسقف عين زربة، وغريغوريوس، أسقفبيروت، وماريس، أسقف خلقيدونية. آريوس خرج من مصر إلى قيصرية فلسطين ومنها إلى نيقوميذية. ومن هناك أخذ يبثّ سمومهيميناً ويساراً فاحتدم الصراع. مصر، ليبيا، فلسطين، آسيا الصغرى وسواها كلها اضطربت. قطبا الصراع كانا مصر ونيقوميذية. لكن،شيئاً فشيئاً كل الأساقفة دخلوا في جدل فيما بينهم. دخلوا في صراع. والصراع طال الشعب. في بعض الأمكنة تحوّل الجدل إلى صدامفتضارب الناس وتقاتلوا وسالت الدماء. هكذا لاح في الأفق، بصورة جدّية، خطر الحرب الأهلية، فكان لا بد للسلطة الحاكمة من أنتتحرّك لتحسم الأمر وتضع حدّاً للجدل.
⁜ ‏مجمع نيقية: ‏بلغت أصداء الصراع الناشب أسماع قسطنطين الملك فتنبّه وتخوّف. لم يدرِ تماماً ما الذي كان القوم يتجادلون فيشأنه. استعان ببعض أصدقائه ومستشاريه العارفين أمثال هوسيوس، أسقف قرطبة. وبعد التداول معهم استقرّ رأيه على الدعوة إلىمجمع يضمّ أساقفة المعمورة يكون دورهم، بصورة أساسية، أن يحدِّدوا له موقف الكنيسة الجامعة من المسائل المطروحة ‏وهو يلتزمهويكفل فرضه بالقوّة. همّ قسطنطين الأول كان الحفاظ على الهدوء والنظام ووحدة الإمبراطورية. ‏على هذا الأساس، تقرّر أن يكون مكانالاجتماع مدينة صغيرة تدعى نيقية، وهي إزنيق الحديثة، في القسم الشمالي من آسيا الصغرى، على بعد أميال قليلة من مدينةنيقوميذية. كما وجِّهت الدعوة إلى ألف وثمانمائة ‏أسقف لحضور المجمع، ووضعت وسائل النقل الرسمية في تصرّفهم. لا نعرف تماماًعدد الذين لبّوا. في تراثنا إنهم 318 ‏على عدد الخدّام الذين تمكّن إبراهيم الخليل بهم من فك أسر ابن أخيه لوط، في سفر التكوين(14:14).
‏التأم المجمع في 14حزيران سنة 325‏م. عدد كبير من الكهنة والشمامسة رافقوا الأساقفة. ستة أساقفة وكاهنان أتوا من الغرب والباقونكانوا شرقيين. بعض الذين حضروا كانوا معترفين حملوا في أجسادهم سمات الآلام لأجل اسم الرب يسوع: بولس أسقف قيصرية مابين النهرين، ذو اليدين المحروقتين المعطوبتين، وبفنوتيوس الصعيدي المقلوع العين اليمنى والمعطوب الرجل اليسرى، وبوتامونالهرقلي الأعور. كما حضر أساقفة عرفوا بقداسة السيرة كسبيريدون القبرصي ويعقوب النصيبيني. القديس أثناسيوس الكبير كانرئيس شمامسة ورافق أسقف الإسكندرية ألكسندروس وتكلّم باسمه. من رأس المجمع؟ لا نعرف تماماً. ربما هوسيوس أسقف قرطبةوربما أفستاتيوس، أسقف أنطا كية. في خطبة افتتاحية، دعا قسطنطين الملك الحاضرين لإزالة أسباب الشقاق من بينهم وتوطيدالسلام.
‏عرض آريوس أفكاره، فتصدّى له الفريق الأرثوذكسي. أثناسيوس، ولو شماساً، كان الأبرز في الردّ على آراء آريوس والتصدّيلحججه وتبيان عطبها. ساد اللغط. تبلبلت الآراء. احتدم الجدال. اقترح هوسيوس وضع دستور إيمان يكون أساساً للإيمان القويم. فيضوء تعاليم الآباء، جرى اعتماد نص يشكّل أساس دستور الإيمان النيقاوي القسطنطيني الذي نتلوه اليوم. الفريق الآريوسي تقزّم.استبانت مفسدة آريوس جلية للعيون. حكم المجمع بقطع آريوس. تبنّى قسطنطين الملك قرارات المجمع وأصدر قراراً، على ما ورد عندالمؤرّخ سقراط، قضى بحرق كتب آريوس وحذّر من يقتنيها سراً ويروّج لها بالموت. انفضّ المجمع بعد حوالي سبعة أسابيع منانعقاده، يوم الخامس والعشرين من تموز. ‏يومها ظُنّ أن ملف آريوس طوي وإن الكنيسة استراحت والإمبراطورية استكانت إلىوحدتها من جديد. ولكن، أثبتت الأيام إن ما جرى لم يكن سوى حلقة في مسلسل الآلام التي حلّت بالكنيسة الجامعة وبالقديسأثناسيوس الكبير كرمز لها، إن لم يكن رمزها الأوحد، على امتداد سنين طويلة.
⁜ قول أثناسيوس: ‏التركيز في دفاع أثناسيوس كان على تراث الكنيسة وتعليمها وإيمانها كما سلّمه السيد وكرز به الرسل وحفظهالآباء. في مقابل ميول مناهضيه العقلانية قدّم قدّيسنا الإيمان على العقل. أرسى أسس الفكر اللاهوتي القويم كما لم يفعل أحد منقبله. من هنا فضله ومن هنا تسميته في تراثنا بـ "أب الأرثوذكسية" أو كما دعاه القديس غريغرريرس اللاهوتي "عمود الكنيسة". كلمةالله، عند آريوس مولود فهو إذن مخلوق، من نتاج مشيئة الآب السماوي. عند أثناسيوس، كلمة الله مولود ولكنه غير مخلوق لأنه نابعمن جوهر الآب لا من مشيئته. هو منه كالشعاع من الضوء. ليس فقط إن كل ما للابن هو للآب بل كل ما للآب هو للابن أيضاً. كل مل ءاللاهوت هو في الابن كما في الآب. الواحد لا ينفصم عن الآخر. من رآى الابن فقد رأى الآب في آن. ليس الآب من دون الابن ولا الابن مندون الآب. كما الضوء والشعاع واحد، الآب والابن واحد. لذلك لم يكن هناك وقت أبداً لم يكن فيه الابن موجوداً وإذا كان الآب والابنواحداً فالآب مميّز عن الابن والابن مميّز عن الآب. ثم وحدانية الآب والابن في الجوهر مرتبطة بتجسّد الابن وبالتالي بخلاصنا لأن الذياتخذ بشرتنا واتحد بها إنما أعطانا أن نتّحد به وأن نتّخذ ألوهته. من هنا كلام القديس بطرس في رسالته الثانية (4:1‏) عن صيرورتنا"شركاء الطبيعة الإلهية"، وكلام القديس أثناسيوس نفسه عن كون: "الله صار إنساناً لكي يصير الإنسان إلهاً". لو لم يكن الابن منجوهر الأب لما كان بإمكانه أن يجعلنا على مثال الآب. وكما الابن كذلك الروح القدس. الروح ‏القدس أيضاً من جوهر الآب وإلاّ ما أمكنهالبتة أن يؤلهنا، أن يجعلنا شركاء الطبيعة الإلهية.
‏الموضوع، بالنسبة للقديس أثناسيوس، كان موضوع الخلاص برمّته. قول آريوس يتعدّى كونه مجرّد رأي لأن اقتباله معناه ضربالمسيحية في الصميم. فلا مجال للمساكنة أو المهادنة. الزغل في الآراء، في هذا الشأن، قضاء على الكنيسة. أثناسيوس وعى دقّةالمسألة وخطورتها حتى العظم، فأتت حياته، في كل ما عانى على مدى ست وأربعين سنة، تعبيراً عن تمسّك لا يلين بكلمة حقّ الإنجيلوالإيمان القويم.
⁜ أثناسيوس بطريرك: ‏إثر انفضاض مجمع نيقية، عاد ألكسندروس الإسكندري إلى دياره فسام أثناسيوس كاهناً وسلّمه مقاليدالإرشاد والوعظ وشرح تعاليم المجمع النيقاوي. ثم بعد ثلاث سنوات رقد ألكسندروس (328‏) فاختير أثناسيوس ليحلّ محلّه. لم يكنالاختيار من دون صعوبات. أثناسيوس كان له مناهضوه، لأسباب عديدة بينها أسباب شخصية كفتوّته. كان في الثلاثين يومذاك. ثم إنالبعض اعتبروه متصلباً قاسياً تنقصه المرونة في التعاطي مع الآخرين. أنّى يكن الأمر فقد ورد أن قديسنا لجأ إلى أحد الديورة هرباًمن الأسقفية لكنه رضخ، بعد لأي، للأمر الواقع.
‏أولى مهام أثناسيوس كرئيس أساقفة على الإسكندرية وتوابعها، كانت استعادةالوحدة والنظام في أبرشيته الشاسعة التي عانت لا من الهرطقة الآريوسية وحسب بل من جماعة ملاتيوس المنشقّة أيضاً وكذلك منالانحطاط الخلقي وانحلال الانضباط الكنسي. وعلى مدى سنوات جال أثناسيوس في كل الأنحاء المصرية، حتى الحدود الحبشية،يسيم الأساقفة ويختلط بالمؤمنين الذين اعتبروه، إلى النهاية، أباً لهم. كما تفقّد الأديرة، حتى التي في برّية الصعيد، وأقام، لبعضالوقت، في دير القديس باخوميوس (15‏أيار). باخوميوس كان يقدّر أثناسيوس كثيراً، وقد سمّاه "‏أب الإيمان الأرثوذكسي بالمسيح". ‏أقام أثناسيوس الأسقف في شيء من الهدوء يرعى شعبه سنتين. ثم ‏انفجر الصراع مع الآريوسية من جديد وعلى أخطر مما كان قبلمجمع نيقية.
⁜ مسلسل النفي: الحلقة الأولى: فيما كان القديس أثناسيوس يتابع اهتمامه بشعبه كأسقف جديد عليهم، كان الآريوسيون يحيكونخيوط المؤامرة عليه. حقدهم تفاقم وكيدهم لم يخبُ. أفسافيوس النيقوميذي كانت له معارفه في البلاط. أبرز معارفه قسطنسيا، أختقسطنطين الملك. فسعى لديها لتسعى لدى أخيها لردّ الاعتبار لآريوس. وكان أن صوّر المصوِّرون لقسطنطين أن قرارات مجمع نيقية لمتأتِ بالثمار المرجوّة لها لا على صعيد استتباب الأمن ولا على صعيد شيوع السلام والاتفاق. لذلك من الأوفق للعرش أن يكون متسامحاًويدعو إلى التسامح. هذا يهدِّئ النفوس ويساهم في الحفاظ على وحدة الشعب بشكل أفضل. تبنى قسطنطين هذا المنطق وأعادلآريوس الاعتبار وسمح له بمزاولة نشاطاته من جديد. إزاء هذا الموقف الإمبراطوري المفاجئ، كان رد أثناسيوس فورياً وحاسماً: لا! هذامرفوض! في جوابه إلى الإمبراطور قال:
"من المستحيل للكنيسة أن تستعيد من يقاومون الحقيقة ويشيِّعون الهرطقة وقد سبق لمجمععام أن قطعهم". قسطنطين استاء لأنه ظنّ أن كلمته لا ترد، بالنسبة للدولة كما بالنسبة للكنيسة. أما أثناسيوس فلم يكن همّه الطاعةلقيصر دون قيد أو شرط بل الطاعة لله أولاً وأخيراً. كان مستعداً للتعاون مع القيصر طالما كان قيصر في خط الحقيقة الإلهية. أما وقدحاد عنها فهو الملوم. ليس أثناسيوس مستعداً للرضوخ للأمر الواقع. الحقيقة الإلهية فوق كل اعتبار.
‏على هذا نجح الآريوسيون فينقل الصراع من المستوى اللاهوتي إلى ‏المستوى السياسي. لم ينجحوا في محاربة أثناسيوس باللاهوت فتحوّلوا إلى محاربتهبالسلطة السياسية. أخذوا يصوّرونه كمشاغب، كمن يشكّل خطراً على أمن الدولة. فلا عجب إن قال عنه قسطنطين الملك إنه "رجل وقحومتعجرف ومفسِد". وطبعاً عرف الآريوسيون بما أوتوه من حقد وكيد كيف يغيرون صدر قسطنطين عليه بالأكثر. قالوا عنه إنه يعرقلنقل القمح المصري إلى القسطنطينية، وقالوا إنه يفرض الضريبة على السفن المسافرة إلى هناك ليدفع لكهنته. وإمعاناً في تشويهصورة أثناسيوس أمام القيصر والعامة، وجّهوا إليه تهماً عدّة بينها الزنى والسِحر والقتل. قالوا إنه اغتصب امرأة واستبدّ بعفافها.وقالوا إنه قتل أسقفاً من المنشقّين الملاتيين يدعى أرسانيوس. والآريوسيون تظاهروا وهم يحملون ذراعاً سوداء يابسة قالوا إنهالأرسانيوس.
‏وإذ صادف مرور ثلاثين سنة على تولي قسطنطين العرش، أراد الاحتفال ‏بالمناسبة بتكريس كنيسة القيامة في أورشليم.ثم تمهيداً لذلك دعا الأساقفة إلى مجمع يُعقد أولاً في صور للنظر في التّهم الموجّهة إلى أثناسيوس. لم يكن أمام أثناسيوس أي خيار،فركب إلى صور هو وخمسون من أساقفته. لكن المجمع لم يكن مجمعاً بل محكمة. لذلك لم يسمح للأساقفة المصريين بالدخول. فقطأثناسيوس دخل، ودخل كمتّهم وعومل كذلك. كل أعدائه اجتمعوا عليه. وُجّهت إليه شتّى التّهم. ظنّوا أنهم قضوا عليه. الخناق كانشديداً. لم يأتوا به ليستمعوا إليه بل ليدينوه. لكن نعمة الله أعانته. قالوا إنه زان وأتوا بامرأة قالت إنه اعتدى عليها. لكن المرأة فشلتفي الدلالة عليه،‏ وتبيّن أنه لم يسبق لها أن شاهدته في حياتها. قالوا إنه قتل أرسانيوس، فإذا بأرسانيوس الذي وصل إلى صور فياليوم السابق لانعقاد المحكمة، يظهر ذاته فتظهر التهمة باطلة. قالوا إن اليد اليابسة التي حملوها هي يد أرسانيوس، فإذا بأرسانيوسيظهر كامل اليدين. إزاء هذه الشهادات انحلّ عقد المجتمعين على أثناسيوس دون أن ينحل حقدهم. وهكذا تمكّن قدّيسنا من التواريقبل أن يصدروا في شأنه حكمهم الأخير.
‏واختفى أثناسيوس. ثم فجأة ظهر في القسطنطينية. أقام في منزل في الشارع المؤدّي إلى القصر الملكي. وإذ كان قسطنطين عائداً،ذات يوم، إلى قصره، نزل أثناسيوس إلى الشارع وتقدّم منه، وقسطنطين غير منتبه، وقبض على زمام الجواد الذي امتطاه وأوقفه عنسيره. لم يكن قسطنطين معتاداً أن يوقفه أحد، فنظر مستغرباً متعجباً منزعجاً، فإذا به أمام الرجل القصير القامة الذي لم يعرفه أولالأمر يقول له:
"الله يحكم بيني وبينك بعدما انضممت إلى صفوف المغترين عليّ!" وبدا قسطنطين كأنه لا يريد أن يسمع المزيد لكن،أردف أثناسيوس:
"أطلب منك فقط إما أن تدعو إلى مجمع شرعي أو أن تدعو محاكميّ إلى مواجهتي في حضورك". وانصرفقسطنطين. بعد أيام طلب ملف القضية على أثناسيوس ومعرفة الحكم الصادر في حقّه، كما دعا عدداً من متّهميه لمواجهته لديه،فحضروا وحضر أثناسيوس. أكالوا له تهماً عدّة لاسيما فيما يختص بالقمح والسفن المسافرة إلى القسطنطينية. دافع أثناسيوسبمنطق رجل الله لا بمنطق أهل العالم. ولكن بدا قسطنطين أكثر استعداداً للإصغاء لمنطق من يتحدثون بلغة السياسة والأمن والدولة وماإلى ذلك. موقف أثناسيوس بان ضعيفاً. لم يرد ‏قسطنطين أن يبتّ في أمره بصورة نهائية، فأبقى عليه أسقفاً للإسكندرية لكنه حكمبنفيه إلى "تريف" عاصمة بلاد الغال (فرنسا) حيث بقي إلى أن رقد قسطنطين في أيار 337‏م.
‏يذكر أن آريوس، أثناء غياب أثناسيوسعن الديار المصرية، حاول العودة إلى الإسكندرية فصدّه الشعب الحسن العبادة فتحوّل إلى القسطنطينية. هناك رغب أفسافيوسالنيقوميذي ومن لفّ لفّه في حشد الجموع احتفالاً بإعادة الاعتبار لآريوس. وإذ خرج آريوس وأصحابه إلى الشارع قاصدين الكنيسةبزهو وأبّهة وحماس، حدث فجأة ما لم يكن في الحسبان. شعر آريوس بألم في أحشائه، فانتحى جانباً لقضاء حاجة نفسه فوقعمغشياً عليه ومات.
⁜ الحلقة الثانية: ‏في غضون سنة من وفاة قسطنطين عاد أثناسيوس إلى كرسيّه. القديس غريغوريرس اللاهوتي كان حاضراً ووصفما جرى. كل الإسكندرية استقبلته. مشى على السجّاد. اشتعلت أمام البيوت قناديل الزيت. صدحت المدينة بالعيد والتمجيد. "لا شيءيفصلنا عن المسيح". هكذا علّق أثناسيوس. الصلاة والعبادة اجتاحت مدن مصر في حركة عفوية جامعة شاملة. وفي طفرة الحماسمئات وآلاف الإسكندرانيين خرجوا ليترهّبوا. الجيّاع أطعموا. اليتامى احتُضنوا. واستحال كل بيت كنيسة.
‏ومع ذلك، وفي أقل من ثلاث سنوات (340‏م)، عاد أثناسيوس إلى المنفى من جديد.
‏فإثر وفاة قسطنطين الملك توزّعت الإمبراطورية علىأولاده الثلاثة، فملك قسطنطين الثاني على بريطانيا وغاليا وأسبانيا، وقسطنس على ‏اليونان وإيطاليا وإفريقيا وقسطنديوس علىآسيا وسوريا ومصر. الأولان ‏مالا إلى الأرثوذكسية والأخير إلى الآريوسية. وقع تحت تأثير أفسافيوس النيقوميذي الذي جرى نقله إلىالقسطنطينية وصار أسقفاً عليها. قسطنديوس كان شاباً في العشرين ملأته شهوة السلطة. قال عنه مرسلّينوس المؤرّخ أنه كان يربكالكنيسة بخرافاته وأوهامه. وقال عنه أثناسيوس: "إنه قُلَّب لا رأي له من ذاته. يأخذ بنصيحة الخصي إذا حدث إن كان قريباً منه. لذلك لاأظنه سيّئاً. فقط عاجز وسخيف".
‏وصدر لأثناسيوس من القسطنطينية أمر بمغادرة الإسكندرية، كما جرى تعيين أسقف آريوسي جديدمحلّه هو غريغوريوس الكبّادوكي. دخل غريغوريوس بمواكبة عسكرية. وصل في آذار 340‏م. وبوصوله شاع جو إرهابي. فدُنِّستالكنائس ولُوِّثت المذابح وأُوقف رهبان وعذارى وأودعوا السجون وعُذِّبوا. الإسكندرية الكنيسة خضعت للاحتلال العسكري. أماأثناسيوس فتوارى. استقل سفينة برفقة أمونيوس وإيسيدوروس الراهبين وارتحل. إلى أين؟ ‏إلى رومية حيث استقبله يوليوس الأولأسقفها استقبالاً طيّباً. هذا فيما أُوعز لحكّام الإسكندرية أن يقطعوا رأس أثناسيوس إذا تجرّأ ‏فعاد إلى الديار المصرية.
‏بقي قدّيسنا فيالمنفى ست سنوات. تلك كانت سنوات مخصبة. أخذ ‏ينتقّل في الغوب بحرّية. كان محترماً ومقدَّراً من الجميع. وعظ، خاطب الأساقفة،علّم عن نيقية، وقيل كتب، آنذاك، سيرة القديس أنطونيوس الكبير التي كان لها أثر بارز على الغرب وعلى شيوع الرهبنة فيه. وتأكيداًلدعم يوليوس الأسقف لأثناسيوس، دعا إلى مجمع في رومية في تشرين الثاني 342
‏زكّى الإيمان النيقاوي وأعلن أنه لا يعترف بغيرأثناسيوس أسقفاً على الإسكندرية. ولم يطل رد فعل الآريوسيين حتى ورد، فعقدوا مجمعاً مضاداً في أنطاكية وضع دستور إيمان جديدواتخذ تدابير قانونية خاصة للحؤول دون إمكان عودة أثناسيوس إلى كرسيّه. على هذا بدا العالم المسيحي مقسّماً إلى غربأرثوذكسي وشرق يرزح تحت نير الآريوسية. أخيراً، سنة 345‏، اندلعت الثورة في الإسكندرية وقُتل غريغوريوس المغتصب. وإذ تنبّهقسطنديوس إلى خطر اندلاع حرب أهلية هناك تراجع وسمح لأثناسيوس بالعودة، فعاد خلال العام 346م وقيل 348م.
⁜ الحلقة الثالثة: ‏ولم ينم الآريوسيون على الضيم ولا نام قسطنديوس الملك. خيوط المؤامرة كانت ما تزال بعد قيد الحياكة. همّ الفريقالآريوسي ما فتئ تصوير أثناسيوس كعنصر شغب وأن استمراره في سدّة المسؤولية الكنسية خطر على أمن الدولة. فبقيقسطنديوس مشدوداً. سنة 353م أُطيح بقسطنس، الإمبراطور في الغرب، وكان قد أًطيح بقسطنطين الثاني قبله، فخلت الساحةلقسطنديوس بالتمام والكمال. أضحى إمبراطور الشرق والغرب معاً. هاجسه كان أن يحفظ الوحدة السياسية للإمبراطورية بأي ثمن.هذه الوحدة، بنظره كانت آريوسية الطابع، وأثناسيوس أحد الذين يتهدّدونها. فجأة وجّهت التهمة إلى أثناسيوس بالتآمر على سلامةالدولة من جديد. فلقد زعموا أن أثناسيوس كاتب أحد الساعين إلى اغتصاب إمبراطورية الغرب، وأن رسالة، في هذا الشأن، وقعت فيأيدي عملاء قسطنديوس. عليه وصل، صيف العام 355م، إلى الإسكندرية مبعوث ملكي وطلب من أثناسيوس تسليم سلطاته فرفض.استمرّت محاولات إقناعه ستة أشهر من دون نتيجة. قالوا لأثناسيوس: اخرج لتسلم مصر، فأجاب: لن يكون لها سلام إذا غادرتها! أخيراًوصلت الأزمة إلى حد المواجهة العسكرية. دخل الجنرال سيريانوس الإسكندرية على رأس خمسة آلاف عسكري. جاء ليخرج أثناسيوس بالقوة. وفي 9شباط 356‏م كان أثناسيوس ورعيته يقيمون السهرانة في كنيسة القديس ثيوناس استعداداً لسر الشكر في اليوم التالي.فجأة أحاط العسكر بالكنيسة واقتحموها. كان أثناسيوس في كرسيِّه والترانيم تملأ المكان. انبعثت الأصوات. تعالى الصراخ. التمعت السيوف. وسقط قتلى وجرحى وديسوا. وقف سيريانوس أمام الهيكل فيما انتشر عسكره بين الناس يميناً ويساراً. همّهم الأوّل كانالتعرّف إلى أثناسيوس والقبض عليه. لكن الجند استباحوا سرقة الأواني الذهبية وتعرّضوا للعذارى. أما أثناسيوس فإذ كان صغيرالقامة فقد غطّاه عدد من الرهبان والإكليروس وحملوه ثم خرجوا به من الباب دون أن يلاحظهم العسكر وسط المعمعة واختفوا تحتجنح الظلام. خرج أثناسيوس إلى الصحراء. الرهبان حفظوه، وعامة المؤمنين أيضاً. لكنه أخذ يظهر من وقت إلى آخر في الإسكندريةطلباً لرعاية شعبه بصورة خفيّة. في تلك الفترة بدا كأن الكنيسة، شرقاً وغرباً، وقعت تحت نير الآريوسية بالكامل لاسيما وأن قسطنديوس كان قد سعى إلى عقد مجمع لصالحها في ميلان ونفى، على أثره، 147 ‏أسقفاً أرثوذكسياً رفضوا الرضوخ له. القديس إيرونيموس كتب عن تلك المرحلة قائلاً:
"العالم كلّه كان يئن ‏ويعجب لأنه ألفى نفسه آريوسياً!".
‏ست سنوات قضاها أثناسيوس متخفياً، لا شك أنها تركت بصماتها عليه. فلقد شاخ! لكنه لم يلن ولم يحد عن قوله الأول، عن إيمان الكنيسة القويم، عن عقيدة نيقية، شعرة واحدة. قدرته، بنعمة الله، على الصمود كانت خارقة. كانت فيه شعلة إلهية لا تخبو. أخيراً مات قسطنديوس وعاد أثناسيوس مظفّراً، بعون الله، إلى الإسكندرية في 21‏شباط 362‏م. يوليانوس الوثني الجاحد تولّى العرش. وفي سعيه إلى ضرب المسيحية أعاد الأساقفة الأرثوذكسيين إلى ديارهم آملاً في تأجيج الصراع بين الأرثوذكسيين والآريوسيين، ومن ثم في إضعافهما معاً لتقوى الوثنية على حسابهما وتعود إلى الواجهة من جديد. لكن حساب البيدر لم يكن على حساب الحقلة، فكان نصيب أثناسيوس التواري والنفي مرة أخرى.
⁜ الحلقة الرابعة: ‏بين شباط وخريف العام 362‏م، حقّق القديس أثناسيوس نجاحات ملفتة.
‏التفّ الشعب الأرثوذكس حوله. أقام اتصالات بعدد من الأساقفة الأرثوذكسيين. بدى لناظريه كلولب لتوحيد الكنيسة. أقام جسوراً مع الفريق نصف الآريوسي الذي وقفوسطاً بين الأرثوذكسية والآريوسية. أبدى حياله مرونة وتفّهماً عميقين. لمّا فهموا حقيقة موقفه تغيّروا وانضمّوا إليه. كل هذا وغيره أقلقي وليانوس الجاحد. وحتى لا يفسح لأثناسيوس في المزيد من المجال لإفساد خططه عليه اتخذ في حقّه تدابير احترازية. وجّه إلى شعب الإسكندرية رسالة ذكّر فيها بأن أثناسيوس سبق أن صدر في حقّه عدد من المراسيم الملكية التي قضت بنفيه. سجل الرجل، إذاً، غير نظيف، وها هو الآن يهين القانون والنظام ويتصرّف كأنه لا قانون. كذلك أكدّ يوليانوس إنه لم يسمح لا لأثناسيوس ولا لسائر من أسماهم بـ "الجليليّين"، وعنى بهم المسيحيّين، بالعودة إلى كنائسهم بل إلى بيوتهم وحسب. وبعد أن أشار إلى ما اعتبره "الوقاحة المعهودة" لأثناسيوس الذي اغتصب، على حد قوله، "ما يدعى بالكرسي الأسقفي"، أنذره بمغادرة الإسكندرية حال تسلّمه إشعاراً بذلك، وإلا فإن عقاباً صارماً سوف يُتخذ بحقّه.
‏لم يجد قدّيسنا أمامه خياراً غير الانسحاب من الإسكندرية. تركها في ‏تشرين الأول 362‏م. وإذ رأى الرهبان الذي رافقوه إلى المركب يبكون قال لهم: "لا تحزنوا! ليست هذه سوى غيمة صغيرة وتعبر!" أحد مراكب العسكر الملكي لاحقه واقترب منه. سألوا "أينأثناسيوس؟" أجاب: "ليس بعيداً عنكم!" ولكن بدل أن يفتّشوا المركب انصرفوا. أما أثناسيوس فوُجد بين رهبان صعيد مصر، لكنه كان ينزل إلى الإسكندرية حيثما دعته الحاجة. عملاء ‏يوليانوس كانوا يعرفون ذلك لذلك لاحقوه. مرة كان في مركب يصلّي وكاد أن يقع فيأيدي مضطهديه. قال للأنبا بامون الذي رافقه: "أشعر بالهدوء في زمن الاضطهاد أكثر مما أشعر في زمن السلم". وإذ أردف موجِّهاً كلامه إلى صحبه: "إذا ما قُتلت..." قاطعه بامون قائلاً: "في هذه اللحظة بالذات قضى ‏يوليانوس عدوّك في الحرب الفارسية!" هذا، كما تبيّن فيما بعد، كان صحيحاً. ففي تموز 323‏م خرج يوليانوس إلى الحرب ضد الفرس فقضى بسهم طائش من أحد عسكريّيه ولم يعد.
⁜ الحلقة الخامسة والأخيرة: ‏بعد يوليانوس الجاحد تولّى الحكم الإمبراطور جوفيانوس الذي كان ‏أرثوذكسياً. هذا ثبّت أثناسيوس على كرسي الإسكندرية وعامله بإجلال كبير. لكن عمر جوفيانوس كان قصيراً. ففي أوائل العالم التالي، 364‏م، خرج على رأس عسكره إلى حدود بيثينيا، حيث قضى مسموماً بدخان الفحم الذي أُشعل في غرفة نومه لتدفئته. على الأثر تولّى الحكم إمبراطوران:والنتنيانوس على الغرب ووالنس على الشرق. والنس كان آريوسياً. والفريق الآريوسي كان أضعف من ذي قبل. انتظر والنس إلى العام 367م ليبادر إلى نفي الأساقفة الأرثوذكسيين من جديد. أثناسيوس كان من بينهم. توارى مرة أخرى. وقيل اختبأ أربعة أشهر في مقبرة. ولكن اهتاجت مصر فتوجّس والنس خيفة وأمر باستعادة أثناسيوس فعاد، هذه المرة، ليبقى.
‏ساس قدّيسنا رعيّته بسلام سبع سنوات إلى أن رقد في الرب في 2أيار عام 373م. جملة سنواته أسقفاً كانت ستّاً وأربعين، قضى عشرين منها في المنفى. لم يعاين نصرة الأرثوذكسية في كل مكان، لكنها تحقّقت بعد سنوات قليلة من وفاته، زمن الإمبراطور ثيوديوس الكبير.
⁜ حياة المغبوط أنطونيوس الكبير: ‏من أهم ما ترك لنا القديس أثناسيوس، كتابة، سيرة القديس أنطونيوس ‏الكبير الذي قال إنه رآه مراراً ولازمه طويلاً وسكب في يديه الماء. تاريخ السيرة حدود العام 357م، بعد وفاة القديس أنطونيوس بقليل. الكتاب موجّه إلى رهبا نغير مصريّين، ربما غربيّين، طلبوا من أثناسيوس أن يكتب لهم عن حياة المغبوط لأنهم رغبوا في أن يعرفوا منه كيف بدأ نسكه، من كان قبل ذلك، كيف كانت نهاية حياته، وهل إن كل ما يروى عنه صحيح. غرضهم، كما بدا لأثناسيوس، كان الإقتداء بغيرة أنطونيوس. وقد قبل أثناسيوس طلبهم ولبّى رغبتهم لأن ربحه كبير حتى لمجرد ذكر اسم أنطونيوس، على حد تعبيره، ولأن حياة المغبوط، كما ورد في مقدّمته، "نموذج كاف للنسك". ويبدو أن مراسلي أثناسيوس ضمّنوا كتابهم إليه بعض الأخبار التي سمعوها عن أنطونيوس. هذه أكدّأ ثناسيوس صحّتها مشيراً إلى أنها مجرّد غيض من فيض. كما حرص أثناسيوس على جمع معلومات إضافية عن أنطونيوس من الرهبان الذين اعتادوا زيارته بشكل متواتر، أولاً ليتعلّم وينتفع هو نفسه وثانياً ليكون له أن يكتب عنه المزيد. كذلك سعى أثناسيوس إلى التدقيق في أخبار المغبوط ما أمكنه لكي تكون كل الأمور بشأنه حقيقية، على حد تعبيره. ثم ختم بالقول: "إذا ما سمع أحدكم شيئاً أكثر فلا يشك في الرجل، أما إذا سمع أقلّ فعليه ألا يحتقره". ‏هذا والسيرة أهم وثيقة معروفة عن بداءة الحياة الرهبانية. علّق القديس غريغوريوس اللاهوتي عليها بالقول إنها "قاعدة للحياة الرهبانية في شكل سردي". كتبت أول ما كتبت باليونانية وترجمها أفغريوس الأنطاكي إلى اللاتينية تحت عنوان "من أثناسيوس الأسقف إلى الإخوة الذين في البلاد الأجنبية". هذا ربما كان إشارة إلى الرهبان الغربيّين. أنّى تكن حقيقة الأمر فإن السيرة ساهمت مساهمة فعّالة في نشر المثال الرهباني وأدخلت الرهبنة إلى الغرب. أوغسطينوس المغبوط أشار في اعترافاته إلى التأثير الحاسم الذي كان للسيرة عليه، بالنسبة لهدايته، كما أشار إلى اجتذابها العديدين إلى الحياة الرهبانية. ‏والى السيرة باليونانية واللاتينية وردت أقدم نصوصها بالسريانية والقبطية أيضاً.
⁜ قالوا عنه: ‏لقد قيل الكثير عن أثناسيوس الكبير. القديس غريغوريوس اللاهوتي قال "إن الله به حمى الإيمان الأرثوذكسي وحفظه،في حقبة من أشد الحقب التاريخية حرجاً". وعن كتاباته قال يوحنا موخوس، في القرن السادس‏ للميلاد، "إذا وجدت مقطعاً للقديس أثناسيوس ولم يكن لديك ورق لتنقله فاكتبه على ثيابك". كذلك كتب القديس غريغوريوس اللاهوتي عنه قائلاً:
"إذا كنت أثني علىالقديس أثناسيوس فإنما أثني على الفضيلة نفسها لأنه حوى كل أنواع الفضائل. كان عمود الكنيسة ولا يزال مثال الأساقفة. ليس‏إيمان أحد صادقاً إلا بقدر ما يستنير بإيمان أثناسيوس". هكذا وصف غريغوريوس خُلقَه: "كان متواضعاً حتى لم يجاره أحد في تلك الفضيلة... حليماً، لطيف المعشر يسهل على الجميع الوصول إليه... طيِّب القلب حنوناً عطوفاً على الفقراء... أحاديثه لذيذة تأخذ بمجامع القلوب. توبيخاته بلا مرارة. ومتى أثنى على أحد فلحمله على الكمال... كثير التسامح من دون ضعف، شديد الحزم من دون قسوة... كثير الحرارة والمواظبة على الصلاة، شديداً في حفظ الأصوام. لا يكلّ عن الأسهار ولا عن تلاوة المزامير... يعطف على الصغار ولا يهاب مقاومة عظماء الدنيا وما يأتون من مظالم".
‏أثناسيوس، بكلمة، مصارع. لم يخش الضربات وكان مستعداً أن يتقبّلها. دافع عن الإيمان القويم في وجه الأباطرة كما في وجه اللاهوتيين السياسيين. كان واثقاً من ربّه وغلبته، ثابتاً في إيمانه وعزمه. لم يردّه عن قول الحق ضيق ولا أسكتته عن الشهادة قوّة. تمثّل الأرثوذكسية قولاً وعملاً. قريباً من الشعب كان لا أرستقراطياً. أسقفاً للمقاومة، بتعبير عصري. حريصاً على إتمام رعايته وتقدّم سامعيه في سبل الحياة الإنجيلية. لا يتسّم لاهوته بالتأملية الفلسفية بل بالصلابة العقدية. لاهوته تأكيد للحق الإلهي لا تفكّر نظري فيه. لاهوته حي. حتى البلاغة عنده مظهر من مظاهر الالتزام بعمل الله الخلاصي. كان أثناسيوس كلّياً في قولته وتصميمه. اتهموه بالتصلّب وقلّة المداراة. والحق إنه كان صلباً لا متصلّباً. أحدياً في توجّهه على نحو حادواضح، لا يراوغ ولا يناور ولا يداور. الشعب المؤمن والرهبان أدركوا أنه يقول الحق. لم ‏يؤخذوا بفتنته. أخذوا بشهوة الحق لديه. أقنعهملا بمنطقه، بل لأنهم وثقوا به. هذا كان سر بلاغته النفّاذة. صنع أثناسيوس الكثير. ترك على الفكر اللاهوتي عبر العصور بصمات لاتمّحى. ولعلّ أبرز ما تركه أنه حال دون تحوّل المسيحية عن خطّها الخلاصي ‏التأليهي إلى فلسفة. كما حرّر الكنيسة من ربقة القوى السياسية، لاسيما وقد اعتاد الأباطرة الرومان، إلى زمانه، الاستبداد بشؤون العبادة كما بشؤون العباد. كذلك ربط اللاهوت بالتأله وبالنسك، وقدّم في شأنه أنطونيوس ‏المغبوط نموذجاً للإنسان الجديد، فكان أثناسيوس مفصلاّ بين الكنيسة كما آلت إليه بكلا لتحديات التي نزلت بها، والكنيسة كما استودعها سيّدها حقّه ونفسه لمئات السنين، بعدما انفتح بابها للدنيا على مصراعيه، حتىإلى يومنا هذا.
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
موضوع مغلق


الانتقال السريع


الساعة الآن 07:29 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024