منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 30 - 06 - 2016, 01:58 PM   رقم المشاركة : ( 13371 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,381

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

سيرة القديس العظيم الانبا سمعان الاخميمي
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
هو من اولاد الانبا توماس السائح وعاش فى القرن الرابع الميلادى فى الجبل الغربى بسوهاج وكان له موهبة اخراج الارواح الشريرة وشفاء المرضى وعمل المعجزات وقد نال اكليل الشهادة على يد الامبراطور دقلديانوس فى القرن الرابع الميلادى وكان ضمن 8140 شهيدا فى ذلك الوقت وصل جسد القديس سمعان الاخميمى الى كنيسة السيدة العذراء مريم بمم مركز تلا -منوفيه سنه 1977 واخذت هذه الجوهره المقدس التى هى جزء من رفات القديس الشهيد العظيم ابونا سمعان الاخميمى من اديرة اخميم وبعد ما استلم راعى الكنيسه الجسد ودخل به الكنيسة فاحت رائحة البخور عطرة جدا وملئت المكان وابتداء القديس سمعان الاخميمى يعمل بقوة فى اخراج الارواح الشريرة وشفاء المرضى وعمل المعجزات بركه وشفاعة القديس تكون معنا امين. +ويقال أن هذا القديس هو الذى ظهر قداسة البابا شنودة الثالث وهو ماسكا برأسه ناظرا إليها
+كلمات تمجيد القديس أبونا سمعان الأخميمي *:
===========================
فى كنيسة الابرار الشهداء الاطهار قائم بكل وقار بنيوت افا سمعان بصلاة روحانية وحياة الهية مع إله البرية الجهاد فى الصلوات وخشوع بمطانيات عشرات السنوات عشرات القداسات ومداومة عشيات على مر السنوات يا سائح من السواح معطى الكل بسماح بالبركة والنجاح يا كنيسة الايمان شهدائك فى كل مكان ضمنهم ابونا سمعان الناس كانت كتير تسابقوا صغير وكبير على نيل الاكاليل 8140 شهيد فى ثلاثة أيام اتحملو الالام اتعذبت ايام وتلذذت بالالام بجهاد الى الامام فى عصرك نالوا الاكاليل مارجرجس الامير وأبانوب الصغير وهبك رب السموات عطايا كتير ومعجزات لكل جيل آت وفات وقال تقبل الشفاعات وكمان اى صلوات فى كل الاوقات بسلطان الكهنوت واكليل على الراس محطوط جعلت الشيطان مربوط ده لجم كل الشياطين وله اصبحوا امطيعين وللهاوية مطروحين فرح الانبا توماس ورنت الاجراس وباركت كل الناس اذكرنا فى صلواتك وفى كل طلباتك مع كل ميطانياتك شفاعته تكون معنا ولصلواتنا تسمعنا ليكون الرب معنا تفسير اسمك فى فى افواه كل المؤمنين الكل يقولون ياله ابونا سمعان اعنا اجمعين. +بركه وشفاعة القديس تكون معنا امين.

 
قديم 30 - 06 - 2016, 04:39 PM   رقم المشاركة : ( 13372 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,381

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

من هو موسي الأسود ، ولماذا لُقب بالقوي ؟
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية غداً بعيد تذكار إستشهاد القديس الأنبا موسي الأسود ، ففي 24 بؤونة ، إستشهد القديس العظيم الأنبا موسى الأسود صاحب السيرة العجيبة. هذا الذي إغتصب ملكوت السموات حقا كما قال الإنجيل: “ملكوت الله يغصب والغاصبون يختطفونه” (مت 11: 12) .
كان في حياته الأولي عبدا لقوم يعبدون الشمس جبارا قويا كثير الإفراط في الآكل وشرب الخمر يقتل ويسرق ويعمل الشر ولا يستطيع أحد أن يقف في وجهه أو يعانده وكان في أكثر أوقاته يتطلع إلى الشمس ويخاطبها قائلا: “أيتها الشمس أن كنت أنت الإله فعرفيني” ثم يقول “وأنت أيها الإله الذي لا اعرفه عرفني ذاتك”.
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
فسمع يوما من يقول له: “أن رهبان وادي النطرون يعرفون الله فاذهب إليهم وهم يعرفونك ” فقام لوقته وتقلد سيفه وأتي إلى البرية. فالتقي بالقديس ايسيذوروس القس، الذي لما رآه خاف من منظره فطمأنه موسى قائلًا أنه إنما أتي إليهم ليعرفوه الإله فأتي به إلى القديس مقاريوس الكبير وهذا وعظه ولقنه الأمانة وعمده وقبله راهبًا وأسكنه في البرية فاندفع القديس موسى في عبادات كثيرة تفوق عبادة كثيرين من القديسين وكان الشيطان يقاتله بما كان فيه أولاً من محبة الآكل والشرب وغير ذلك فيخبر القديس ايسيذوروس بذلك فكان يعزيه ويعلمه كيف يعمل ليتغلب علي حيل الشيطان ويروي عنه أنه كان إذا نام شيوخ الدير يمر بقلاليهم ويأخذ جرارهم ويملأها من الماء الذي كان يحضره من بئر بعيدة عن الدير وبعد سنين كثيرة في الجهاد حسده الشيطان وضربه بقرحة في رجله أقعدته وطرحته مريضا. ولما علم أنها من حرب الشيطان ازداد في نسكه وعبادته حتى صار جسده كخشبه محروقة فنظر الرب إلى صبره وأبرأه من علته وزالت عنه الأوجاع وحلت عليه نعمة الله ثم بعد زمان اجتمع لديه خمسمائة أخ فصار أبا لهم وانتخبوه ليرسموه قسًا.
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
ولما حضر أمام البطريرك لرسامته أراد أن يجربه فقال للشيوخ: “من ذا الذي أتي بهذا الأسود إلى هنا. اطردوه “فأطاع وخرج وهو يقول لنفسه: “حسنًا عملوا بك يا أسود اللون” غير أن البطريرك عاد فاستدعاه ورسمه ثم قال له: “يا موسى لقد صرت الآن كلك أبيض”.
واتفق أن مضى مع الشيوخ إلى القديس مقاريوس الكبير فقال القديس مقاريوس: “أني أري فيكم واحدا له إكليل الشهادة” فأجابه القديس موسى الأسود لعلي أنا هو لأنه مكتوب: من قتل بالسيف فبالسيف يقتل ” ولما عاد إلى ديره لم يلبث طويلا حتى هجم البربر علي الدير. فقال حينئذ للأخوة الذين كانوا عنده:” من شاء منكم أن يهرب فليهرب ” فقالوا له: “وأنت يا أبانا لماذا لا تهرب؟” فقال: “أنا أنتظر هذا اليوم منذ عدة سنين ” ودخل البربر فقتلوه وسبعة أخوة كانوا معه غير أن أحد الاخوة اختفي وراء حصير. فرأي ملاك الرب وبيده إكليل وهو واقف ينتظره فلم يلبث أن خرج مسرعا إلى البربر فقتلوه أيضا.
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
فتأملوا أيها الأحباء قوة التوبة وما فعلت. فقد نقلت عبدا كافرا قاتلا زانيا سارقا وصيرته أبا ومعلما ومعزيا وكاهنا وواضع قوانين للرهبان ومذكورا علي المذابح ويوجد جسد هذا القديس بدير القديسة العذراء “البرموس” الآن حيث يحتفل.
صلاته تكون معنا. ولربنا المجد دائمًا. آمين.
 
قديم 30 - 06 - 2016, 04:52 PM   رقم المشاركة : ( 13373 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,381

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

الاعلان والتفسير


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
“فماذا إن خان بعضهم؟ أتبطل خيانته
وفاء الله”؟ (رو 3: 3)
رسالة وشهادة:
ما هو الكتاب المقدس؟ هل هو كتاب كالكتب الأخرى المعدَّة للقارئ العادي الذي ننتظر منه أن يستوعب معناه مباشرة؟ إنه بالأحرى كتاب شريف موجَّه إلى المؤمنين أولاً. وممَّا لا شك فيه أن المرء يقدر أن يقرأ أي سفر مقدَّس كما يقرأ “النصوص الأدبية” عادة. لكن هذه القراءة لا علاقة لها بهدفنا المباشر، فنحن لا نهتم بالحرف بل بالرسالة. هذا ما عبَّر عنه بقوة القديس إيلاريون في قوله: “الكتاب المقدس ليس بقراءته، بل بفهمه” (Scriptura est non in legendo, sed in intelligendo). هل نجد في الكتاب المقدَّس، مأخوذاً كلاًّ، وكتاباً واحداً، رسالة معيَّنة؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فإلى من تكن هذه الرسالة موجَّهة بشكل خاص؟ أ إلى أشخاص مؤهَّلين لفهم الكتاب وتفسير رسالته؟ أم إلى الجماعة والأشخاص بصفة كونهم أعضاء في هذه الجماعة؟
مهما كان أصل النصوص التي يشتمل عليها الكتاب المقدس فمن الواضح أنه في مجمله من خلق الجماعة في التدبير القديم والكنيسة المسيحية على حد سواء. فهو لا يشتمل على كلِّ النصوص التاريخية والتشريعية والتعبّدية الموجودة، بل على نخبة منها. وهذه النخبة أصبحت ذات سلطان من خلال استعمالها -وعلى الأخص في الليتورجيا- وفي وسط الجماعة ومن خلال القيمة التي أعطتها لها الكنيسة. لقد كان هناك هدف واضح يحدِّد هذه “النخبة” ويعيِّنها: “وصنع يسوع أمام تلاميذه آيات أخرى غير مدوَّنة في هذا الكتاب. أمَّا الآيات المدوَّنة هنا، فهي لتؤمنوا بأن يسوع هو المسيح ابن الله. فإذا آمنتم نلتم باسمه الحياة” (يوحنا 20: 30-31). ينطبق هذه الهدف على الكتاب كلِّه. فما حصل هو أن بعضاً من الكتابات اختير وجُمع وسُلِّم بعد ذلك إلى المؤمنين ليكون نسخة عن الرسالة الإلهية يجد اعتمادها. إن الرسالة إلهية وآتية من الله، بل إنها كلمته، لكن المؤمنة هي التي سلَّمت بصحة الكلمة التي قيلت وهي التي شهدت لحقيقتها. لذلك فإننا نؤكد الصفة المقدسة للكتاب بواسطة الإيمان. ولأن الكتاب أُلِّف ضمن الجماعة بهدف بنيانها، فلا نقدر أن نفصل الكنيسة عن الكتاب المقدس. فالكتاب والعهد متصلان اتصلاً وثيقاً، والعهد يفترض وجود شعب، ولذلك ائتُمن الشعب على كلمة الله (رو3: 2) في التدبير القديم. أمَّا في التدبير الجديد فائتُمنت كنيسة الكلمة المتجسد على رسالة الملكوت. فالكتاب هو حقاً كلمة الله، لكنه يستند إلى شهادة الكنيسة التي وضعت قانون الكتاب وثبتته.
على المرء ألاَّ يغفل الخلفية التبشيرية للعهد الجديد الذي تجسَّدت ودُوِّنت فيه “البشارة الرسولية” بهدفيها: بنيان المؤمنين وهدي العالم. إذن، العهد الجديد ليس كتاب الجماعة حصراً كما كان العهد القديم. فهو ما زال كتاباً تبشيرياً، لكنَّه يبقى مع ذلك في حمىً عن الغرباء. كان موقف ترتليان من الكتاب المقدس نموذجياً، لأنه لم يكن مستعداً للبحث مع الهراطقة على أسس كتابية في المواضيع الإيمانية التي لم يكونوا على اتفاق فيها. فالكتاب يخصّ الكنيسة، ولذلك كان احتكام الهراطقة إليه غير شرعي، إذ لا حقّ لهم في ملك غريب. هذه الحجَّة الرئيسة نجدها في مبحثه الشهير “معارضة الهراطقة” (De praescriptione haereticorum) حيث يؤكد أن غير المؤمن لا يحقّ له لمس الرسالة، لأنه لم “يستلمها”. فلا “رسالة” له في الكتاب المقدس.
لم يكن مصادفةً إعتبار منتخبات متعدَّدة ومدوَّنة في أوقات مختلفة وعلى يد مؤلفين عديدين كتاباً واحداً. فلفظة ta biblia بصيغة الجمع، في حين أن لفظة Bible (الكتاب) بصيغة المفرد. وهذا دليل على أن هذه الأسفار تؤلف كتاباً مقدساً واحداً، ذا موضوع رئيسي واحد ورسالة واحدة، بل تؤلف رواية العلاقات بين الله وشعبه المختار، ومدوَّناً يودر أفعال الله وعظائمه (Magnalia Dei). فالله ابتدأ بالمسيرة، إذ هناك بداءة ونهاية تكون الهدف والغاية، أي هناك نقطة إنطلاق كامنة في كلام الله “في البدء” (تكوين 1: 1) ونهاية يشير إليها كلام الرؤيا الختامي: “تعالي أيها الرب يسوع” (رؤيا 22: 20). إذن، هناك قصة كاملة تبتدئ من سفر التكوين وتنتهي بسفر الرؤيا، وهذه القصة هي تاريخ، ومسيرة تتحرك بين هاتين النقطتين. ولهذه المسيرة إتجاه معيَّن. وهناك هدف أساسي ورجاء إكتمال سيتحقق في آخر الأزمنة. فهذه القصة ذات مراحل وكل مرحلة ترتبط بطرفي المسيرة ولها مكانة صحيحة وفريدة في القصة كلِّها. لذلك تُفهم كلّ مرحلة من السياق كلِّه والمنظور كلِّه.
كلَّم الله آباءنا “مرَّات كثيرة وبمختلف الوسائل” (عبر 1: 1) وكشف عن نفسه خلال العصور باستمرار قائداً شعبه من حقيقة إلى حقيقة. فهناك مراحل في إعلانه واستزادة (per incrementa). وهذا التنوع يجب ألا يُهمل أو يُغفل. ولكن يبقى الله في هذا الإعلان المتعدِّد الأنواع هو هو ورسالته السامية هي هي. فتماثل الرسالة هو الذي يعطي الكتابات المختلفة وحدتها الحقيقية، رغم تنوع أساليبها. لقد أُدرجت في الكتاب روايات مختلفة دون أن تُغيَّر، حتى أن الكنيسة عارضت كلّ المحاولات لاستبدال الأناجيل الأربعة بإنجيل واحد يؤلِّف بينها، أي عارضت تحويل “الأناجيل الأربعة” (Tetraevangelion) إلى “الإنجيل الرباعي” (Diatessaron)، رغم الصعوبات الناجمة عن “الاختلافات بين الإنجيليين” (التي تصارع معها المغبوط أوغسطين). والسبب هو أن الأناجيل الأربعة تثبّت وحدة الرسالة تثبيتاً تاماً، ربما بشكل أكثر تماسكاً من أي جامع يجمعها.
إن الكتاب المقدس سِفر عن الله، لكّن إله الكتاب ليس مخفيّاً (Deus absconditus) بل معلن (Deus revelatus) يكشف عن ذاته ويفعل في صميم الحياة الإنسانية. فما الكتاب مجرّد مدوَّن إنساني عن أعمال الله وأفعاله، بنوع من التدخل الإلهي نفسه. فالكتاب يحمل في طيّاته الرسالة الإلهية. وبما أن أعمال الله تؤلّف رسالة، فإننا لا نحتاج إلى تجاوز الزمان أو التاريخ حتى نلاقي الله. فهو يلاقي الإنسان في التاريخ، أي في العنصر الإنساني، في وسط وجود الإنسان اليومي. فالتاريخ ينتسب إلى الله، والله يدخل التاريخ الإنساني. إن الكتاب المقدس في جوهره مرلَّف تاريخي يدوّن أعمال الله، من غير أن يكشف أسراره الأزلية، لأن هذه الأسرار لا تُدرك إلاّ عن طريق التاريخ: “ما من أحد رأى الله. الابن الأوحد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه” (يوحنا 1: 18). وأخبرنا عنه بدخوله التاريخ، أي بتجسده المقدّس. ولذلك يجب ألاّ نتخلّص من الإطار التاريخي للإعلان، لأننا لا نحتاج إلى تجريد الحقيقة المعلَنة لنا عن الإطار الذي حصلت فيه الإعلانات. فتجريد كهذا يلغي الحقيقة ذاتها التي ليست فكرة بل شخص هو الرب المتجسد.
ما يستوقفنا في الكتاب هو تلك العلاقة الخالصة بين الله والإنسان، فهي أُلفة العهد، أُلفة اختيار وتبنٍّ. وهي تبلغ أوجها في التجسد عندما “أرسل الله ابنه مولوداً لامرأة، مولوداً في حكم الشريعة” (غلاطية 4: 4). في الكتاب لا نرى الله وحده، إذ نرى الإنسان أيضاً. إنه إعلان الله، لكن ما أُعلن هو اهتمام الله بالإنسان. فالله يعلن للإنسان عن نفسه ويظهر له ويكلّمه، ويكشف له عن المعنى الخفي لوجوده وعن الهدف الأسمى لحياته. إننا نرى الله آتياً ليعلن عن نفسه ونرى الإنسان يلاقيه ويسمع صوته ويجيبه، أي إننا لا نسمع صوت الله فقط، بل صوت الإنسان مجيباً بكلام الصلاة والشكر والعبادة والرهبة والمحبة والحزن والنم والتهليل والأمل واليأس. ففي العهد شريكان، الله والإنسان، يجتمعان في سرّ اللقاء الإلهي – الإنساني الحقيقي، الموصوف والمدوَّن في قصة العهد، حتى إن الإجابة الإنسانية تندمج في سرّ كلمة الله. في الكتاب حوار يشترك فيه الله والإنسان، لأنه ليس مونولوجاً إلهياً. فهما يتكلمان، ولكن تكون صلوات كاتب المزامير وتضرعاته، مع ذلك، “كلمة الله”. فالله يريد ويتوقع ويطلب هذا الجواب أو الاستجابة من الإنسان، لأنه يكشف له عن نفسه ويحاوره ويقيم العهد مع أبناء الناس، من دون أن تعرَّض هذه المودة والأُلفة تعالي الله للخطر. “فمسكنه نور لا يُقترب منه” (1 تيمو 6: 16). لكن هذا النور “حاء العالم لينير كلّ إنسان” (يوحنا 1: 9). هذا هو سرّ الإعلان و”غرابته”.
ولأن الإعلان تاريخ للعهد، فالإعلان المدوَّن -الكتاب المقدَّس- هو قبل كلّ شيء تاريخ. فالشريعة والأنبياء والمزامير والنبوءات أمور محبوكة في النسيج التاريخي الحيّ. إن الإعلان الإلهي ليس مجموعة أقوال إلهية وحسب بل هو في الأساس بيان عن الأعمال الإلهية وممرّ لله إلى التاريخ. وهذا الإعلان بلغ أوْجَه عندما تجسَّد كلمة الله وتأنَّس. لكنَّ كتاب الإعلان مصنَّف عن المصير الإنساني أيضاً، لأنه يقص حوادث خلق الإنسان وسقوطه وخلاصه. وبما أن الكتاب يقصّ تاريخ الخلاص فالإنسان ينتمي عضوياً إلى هذه القصة، فيظهره لنا الكتاب في طاعته وثورته العنيدة وفي سقوطه ونهوضه. ويتلخَّص المصير الإنساني كلّه في مصير إسرائيل القديم والجديد الذي هو شعب الله المختار. إن لحدث الاختيار أهميَّة بالغة، لأن شعباً قد اختير وفٌرز عن الأمم الأخرى وصار واحة مقدسة وسط الفوضى الإنسانية. فالله أقام عهده مع شعب واحد وأعطاه شريعته المقدسة. ومن هذا الشعب برز كهنوت حقيقي وإنْ كان كهنوتاً مؤقتاً، ومنه ظهر أنبياء حقيقيون نطقوا بكلمات ملهمَة من روح الله. فكان هذا الشعب مركزاً مقدَّساً وإن كان مركزاً خفيّاً للعالم كلّه، وواحة حبْتنا بها رحمة الله في عالم ساقط وخاطئ وضال وغير مخلَّص. كل هذه الأمور لا تشكِّل حرف الرسالة الكتابية، بل قلبها، فهي لم تكن عملاً بشرياً، بل أتت من الله. لكنها كانت “من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا”. إن الميزات التي أُعطيت لإسرائيل القديم خضعت لهدف أسمى وهو الخلاص الكوني “لأن الخلاص يجيء من اليهود” (يوحنا 4: 22). كونيٌّ هدف الخلاص، لكنه يتمّ عن طريق الفرز والاختيار، عندما يُوجِد الله في وسط السقوط والدمار الإنسانيين واحة مقدَّسة. فالكنيسة أيضاً هي واحة مفروزة لكنها غير منفصلة عن العالم، لأنها ليست ملجأ وحمى فقط، بل حصن أماميّ وطليعة جيش الله.
في الكتاب المقدس هناك خط الأحداث الزمنية مركز أو نقطة حاسمة تكوِّن بداءة جديدة، لكنها لا تقسم المسيرة إلى مرحلتين، بل تزيدها تماسكاً واتحاداً، حتى إن التمييز بين العهدين ينتمي إلى وحدة الإعلان الكتابي. يجب أن نميِّز بين العهدين تمييزاً واضحاً دون أن نخلط بينهما، رغم ارتباطهما العضوي. وهذا الإرتباط لا يقوم فقط على كونهما منهجين، بل أساساً على شخص يسوع المسيح. إن يسوع المسيح ينتمي إلى العهدين كليهما. فهو يُتمّ التدبير القديم ويكمل “الشريعة والأنبياء” ويدشِّن العهد الجديد، وبالتالي يكمل العهدين، أي الكل. هو مركز الكتاب المقدس نفسه لأنه هو البدء (arche) والنهاية (to telos). هذه الوحدة السرِّية بين البدء والمركز والنهاية تعطي المسيرة الزمنية بشكل غير متوقَّع واقعيتها الأصيلة ومعناها التام، من دون أن تهدم الحقيقة الوجودية للزمن. فلا يوجد مجرَّد أحداث تعبر، بل وقائع ومآثر وأمور جديدة تبرز دوماً إلى الوجود: “ها أنا أجعل كلّ شيء جديداً” (رؤيا 21: 5).
في النهاية يجب أن نعتبر العهد القديم “كتاباً لميلاد يسوع المسيح، ابن داود، ابن إبراهيم” (متى 1: 1)، لأنه كان فترة وعود وانتظار وزمن عهود وتنبوءات. فلم يكن الأنبياء وحدهم الذين يتكلَّمون بالنبوءات، بل الأحداث. كان التاريخ كلّه نبوياً و”نموذجياً” وعلامة نبوية تشير إلى الاكتمال المستقبلي. أمَّا الآن فقد انتهت فترة الانتظار وتحقَّق الوعد وجاء الرب ليقيم مع شعبه إلى الأبد. انتهى تاريخ اللحم والدم وظهر تاريخ الروح: “وأمَّا بيسوع المسيح فوهبنا النعمة والحق” (يوحنا 1: 17). إنه إكمال للقديم وتحقيق له وليس هدماً. “إن العهد القديم يمتد إلى العهد الجديد” (Vetus Testamentum in Novo patet). والفعل “patet” يعني “أُعلن” و”أُكمل”. وهكذا تبقى أسفار العبرانيين مقدَّسة حتى عند إسرائيل المسيح الجديد، ويجب ألاَّ نتخلَّى عنها أو نهملها، لأنها ما زالت تروي لنا قصة الخلاص وعظائم الله (Mangnalia)، وتشهد للمسيح. ولذلك يجب أن تُقرأ في الكنيسة ككتاب تاريخ مقدَّس، من دون أن تتحوّل إلى مجموعة من النصوص الإثباتية والشواهد أو المواقع اللاهوتية (Loci theologie) أو إلى كتاب أمثال وحِكَم. فالنبوءات تحققت والنعمة حلَّت محلّ الشريعة، لكن لم يزُل أيّ شيء، لأن “الماضي” في التاريخ المقدَّس لا يعني ما “انقضى” أو “زال”، بل أساساً ما أُنجز وأُكمل. “والإكمال” هو المقولة الأساسية في الإعلان الإلهي. فكلّ ما تقدَّس يبقى مكرَّساً إلى الأبد وحاملاً ختم الروح القدس الذي ما زال ينفخ في الكلمات التي أوحى بها. وقد يصح أن نقول إن العهد القديم ليس أكثر من كتاب عندنا وعند الكنيسة، لأن الإنجيل أخذ مكان الشريعة والأنبياء. أمَّا العهد الجديد فهو أكثر من كتاب، لأننا ننتمي إليه، مؤلِّفين شعب الميثاق الجديد. ولذلك نحن نفهم الإعلان في العهد القديم ككلمة الله “ونشهد للروح الذي تكلَّم بواسطة الأنبياء”. لأن الله تكلَّم بواسطة ابنه في العهد الجديد، ونحن نُدعى لا لأن نسمع فقط، بل لأن ننظر إليه: “الذي رأيناه وسمعناه نبشِّركم به” (1 يوحنا 1: 3). فنحن نُدعى لأن نكون “في المسيح”.
إن ملء الإعلان الإلهي هو يسوع المسيح، والعهد الجديد هو تاريخٌ كالعهد القديم. فهو التاريخ الإنجيلي عن الكلمة المتجسد وبدء التاريخ الكنسي، وهو التنبؤ الإعلاني (apocalyptic) أيضاً. الإنجيل تاريخ والأحداث التاريخية هي أساس الإيمان ومصدره وقاعدة الرجاء المسيحي، لأن العهد الجديد يقوم على وقائع وأحداث وأعمال وليس على تعاليم ووصايا وكلمات فقط. منذ البدء، في يوم الخمسين، عندما شهد القديس بطرس، بصفته شاهد عيان، على أن ملء الخلاص قد تمَّ بالرب الناهض قائلاً: “ونحن كلُّنا شهود (martyres) على ذلك” (أعمال 2: 32)، كانت للبشارة الرسولية صفة تاريخية أكيدة. وعلى أساس هذا الشاهد التاريخي تقوم الكنيسة. إن للعقائد المسيحية بنية تاريخية أيضاً، لأنها ترجع دائماً إلى الأحداث والواقع التي تشكّل التاريخ المقدس. وفي سرّ المسيح “يحل ملء الألوهية كلّه حلولاً جسدياً” (كولوسي 2: 9). هذا السرّ لا يُفهم على الصعيد الأرضي فقط، لأن له بعداً آخر، لكنَّ الحدود الأرضية لا تُلغى، بل تظهر بعض العوامل التاريخية بجلاء في صورة المسيح المقدسة. كان التبشير الرسولي دوماً سرداً لما حصل، هنا وفي هذه اللحظة (Hic et nunc)، وما حصل كان جديداً وجوهرياً، لأن “الكلمة صار بشراً” (يوحنا 1: 14). فالتجسد والقيامة والصعود هي أحداث تاريخية، لكنَّها لا تحمل معنى أحداث حياتنا اليومية نفسها ولا تكون على المستوى نفسه. لكنَّها لم تكن أقل تاريخية وواقعية، لأنها كانت تزخر بالواقعية أكثر من تلك. من الطبيعي ألا نستطيع تأكيدها إلاَّ عن طريق الإيمان. لكن هذا التأكيد لا يبعدها عن إطارها التاريخي. فالإيمان يكتفي بالكشف عن بعد جديد ويفهمنا المعطى التاريخي في عمقه وحقيقته الكاملة. إن الإنجيليين والرسل لم يكونوا مؤرخين عاديين حتى حتى يوردوا كل أعمال يسوع وأفعاله يوماً فيوماً وسنة فسنة. إنهم دوَّنوا سيرة حياته وسردوا أعماله ليقدِّموا لنا صورته التاريخية والإلهية بوقت واحد. فهذه الصورة لم تكن صورةً لملامح جسده، بل أيقونة تاريخية للإله المتجسد. الإيمان لا يخلق قيماً جديدة، بل يكشف عن قِيَمٍ موجودة. إنه نوع من الرؤيا “وتصديق ما لا نراه” (عبرانيين 11: 1). (يفسِّر الذهبي الفم لفظة elenchos “التصديق” أو “الإيقان” مثلما يفسِّر لفظة opsis “وجه”). فما “لا يُرى” لا يقلّ واقعية عمّا “يُرى” ولعلّه أكثر واقعية. “لا يقدر أحد أن يقول إن يسوع رب إلاّ بإلهام من الروح القدس” (1 كور 12: 3). أي إننا لا نقدر أن نستوعب عمق المعاني الإنجيلية إلا عن طريق الخبرة الروحية. وما يكشفه الإيمان يُعطى بحقّ. ولأن الأناجيل كُتبت في الكنيسة فهي شهادة الكنيسة ومدوّنات خبرتها وإيمانها، كما أنها سرد لأحداث تاريخية وشهادة لوقائع حدثت فعلاً في مكان معيَّن وزمن محدَّد. وإذا كنَّا نكتشف “بالإيمان” أكثر ممّا نكتشف “بالحواس” فهذا دليل واضح على عدم كفاية الحواس في معرفة الأمور الروحية، خصوصاً أن ما حدث كان عملاً جبَّاراً قام به إلهنا المنقذ، وتدخلاً إلهياً في مجرى الأحداث التاريخية. لكن يجب ألاَّ نفصل بين “الحدث” و”معناه” لأنهما يقدِّمان لنا الحقيقة.
بما أن الكنيسة تحفظ الإعلان فهي تفسِّره تفسيراً صحيحاً. ولا شك أن الإعلان يُصان بالكلمات المدوَّنة، لكنَّ هذه الكلمات لا تستنفد الإعلان كله، لأن الكلمات البشرية ليست سوى علامات ومدلولات لا تحييها إلاَّ شهادة الروح. إننا لا نعني بهذا إنارة الروح القدس لعدد من البشر في وقت معيَّن، بل العون الدائم الذي يهبه الروح القدس لكنيسة الله، “عمود الحق ودعامته” (1 تيمو 3: 15). يحتاج الكتاب المقدس إلى تفسير وشرح، لأن الشيء الجوهري هو رسالة الكتاب لا كلامه. هنا يقوم عمل الكنيسة التي أقامها الله لتشهد دائماً للحقيقة المطلقة وللمعنى الكامل للرسالة، لأنها تنتمي إلى الإعلان بكونها جسد الرب المتأنس. بل إن نشر الإنجيل والتبشير بكلمة الله ينتميان كلاهما إلى جوهر (esse) الكنيسة التي تعتصم بشهادتها. وما هذه الشهادة رجوعاً إلى الماضي أو تذكراً لأحداث غابرة وحسب، بل كشف مستمر عن الرسالة المعلنة إلى القديسين والمصونة بالإيمان. فالرسالة تتحقَّق من جديد في حياة الكنيسة حيث يكون المسيح حاضراً كمخلِّص وكرأس لجسده، مكملاً عمله الخلاصي فيها. ولذلك، لا يُعلن الخلاص في الكنيسة فقط، بل يتحقَّق فيها، لأن التاريخ المقدس ما زال مستمراً وعظائم الله باقية. هذه العظائم (magnalia Dei) لا تقتصر على الماضي، بل يستمر حضورها ووجودها في الكنيسة وبواسطتها في العالم. الكنيسة جزء لا يتجزأ من رسالة العهد الجديد وهي قسم من الإعلان الإلهي وقصة “المسيح التام” (“المسيح التام، رأس وجسد”، totus Christus caput et corpus على حد تعبير أوغسطين) والروح القدس. لكنَّ نهاية (telos) الخلاص لم تبرز إلى حيِّز الوجود بعد. إن خبرة الكنيسة وحدها تُبقي العهد الجديد حيّاً، لأن تاريخ الكنيسة هو قبل كل شيء تاريخ الخلاص. ولذلك تُعلَن وتُثَبَّت حقيقة الكتاب بنمو الجسد الذي هو الكنيسة.
تاريخ ومنهج:
يجب أن نقبل مباشرة كون الكتاب المقدس صعباً ومختوماً بسبعة أختام. وكلَّما مرَّ الزمان أصبح أكثر صعوبة. ولكنَّ صعوبته لا ترجع إلى أنه مدوَّن “بلغة مجهولة” أو إلى احتوائه “كلمات سرِّية لا يُسمح لنا بتلاوتها”. فبساطته التامة هي حجر عثار لنا، لأن أسرار الله موضوعة في قوالب الحياة اليومية عند الإنسان العادي، حتى إن التاريخ كلّه يظهر بشرياً مثلما كان الرب المتجسد.
الكتاب “موحى به” من الله، فهو كلمته. لكنَّ بحث ماهية الوحي بدقة أمر مستحيل، لأنه محاط بسر، بسر مواجهة الله للإنسان. إننا لا نستطيع أن نفهم الطريقة التي سمع بها “قديسو الله” كلمة سيدهم، ولا كيفية تعبيرهم اللغوي عمَّا أوحى به الله إليهم. وحتى في عملية تعبيرهم الإنسان كان صوت الله معهم. هذه هي معجزة الكتاب وأسراريته: إنه ظهور كلمة الله مدوَّنة في لغة بشرية. ومهما كانت الطريقة التي نفهم بها الوحي الإلهي فعلينا ألاَّ تغفل عاملاً أساسياً وهو أن الكتاب ينقل إلينا كلمة الله في لغة بشرية. فالله كلَّم الإنسان بالفعل، وهذا يفترض وجود من يسمع الكلمة ويعيها. ولذلك ترتبط “التشبيهية” (anthropomorphism خلع الصفات الإنسانية على الله) بهذا الأمر، لأنه لا مجال هنا لانزلاق نحو الضعف البشري، لأن اللسان البشري لا يفقد خصائصه الطبيعية عندما يصير عربة للإعلان الإلهي. فإذا ما أردنا أن تكون كلمة الله مدوِّية، فلساننا يجب أن يبقى لساناً بشرياً. إن الإلهام الإلهي لا يمحو العنصر البشري، بل يغيِّر وجهه فقط. فكل “ما يفوق الطبيعة” لا يهدم “ما هو طبيعي”: “ما هو فوق الطبيعة” (hyper physin) لا يعني “ما هو بخلاف الطبيعة” (para physin). واللغة الإنسانية لا تخون الإعلان الإلهي ولا تقلِّل من شأنه أو تقيِّد قوة كلمة الله. وما دام الإنسان مخلوقاً على صورة الله ومثاله فهو يقدر أن يعبِّر عن كلمة الله بكلماته البشرية بشكل كافٍ وصحيح، لأن كلمة الله لا تخفت عندما ينطق بها لسان بشري. أمَّا قبول الله مخاطبة الإنسان فقد أكسب الكلمة البشرية قوة وعمقاً جديدين، وأعطاها شكلاً مختلفاً.
وعندما ينفخ الروح في نظام اللغة البشرية يقدر الإنسان أن ينطق بكلام الله وأن يتحدَّث عن العلي، أي يكون “اللاهوت” ممكناً. فاللاهوت (Theologia) هو كلام على الله (Logos peri Theou). وهو ممكن من خلال الإعلان الإلهي فقط. إنه استجابة بشرية لما تكلَّم به الله أولاً، وشهادة إنسانية لله الذي كلَّمه ولمن سمع كلمته وحفظها. وهو يدوِّنها ويردِّدها الآن. تبقى طبعاً هذه الاستجابة غير كاملة، لأن اللاهوت يتكوَّن باستمرار. لكنَّ منطلقه يبقى هو هو: كلمة الله والإعلان. يرجع اللاهوت دائماً إلى الإعلان الإلهي ويشهد له بطرق متعدِّدة: بقوانين الإيمان والعقائد والطقوس والرموز الكنسية. فالكتاب هو بمعنى من المعاني كلمة الله والاستجابة الإنسانية بآن واحد، أي كلمة الله المعبَّر عنها من خلال استجابة الإنسان الإيمانية. لذلك نعثر دائماً على تفاسير بشرية في العرض الكتابي لكلمة الله، لأن هذا العرض يتأثر دوماً بالظروف التي يتكوَّن فيها. فهل يقدر الإنسان أن يفلت من وضعه البشري؟
لخصت الكنيسة رسالة الكتاب المقدس في دساتير إيمانها وفي طرق أخرى، فأصبح الإيمان المسيحي منهجاً من القناعات والاعتقادات. وفي منهج كهذا تتضح البنية الداخلية للرسالة الأساسية وتظهر كلّ البنود الإيمانية في علاقاتها المتبادلة. إننا نحتاج إلى منهج للإيمان مثلما نحتاج إلى خارطة في أسفارنا، ونحتاج إلى ربط المنهج العقيدي بالإعلان الإلهي مثلما ترشدنا الخارطة إلى أرض واقعية. ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ أن الكنيسة لم تفكِّر يوماً في أن منهجها العقيدي يقدر أن يحلّ محلّ الكتاب المقدس. بل آمنت أنه يجب حفظهما جنباً إلى جنب. إذن، عندنا من جهة عرض عام للرسالة الأساسية في إطار منهجي أو في دستور إيماني، وعندنا من جهة أخرى كلّ المراجع الخاصة التي تشير إلى مراحل معيَّنة من مراحل الإعلان. يمكن القول إنه لدينا المنهج والتاريخ.
هنا تظهر لنا مشكلة مُهمة وهي إلى أي مدى نقدر أن نضع التاريخ في قالب منهجي؟ وكيف نستخدم الكتاب المقدس إستخداماً لاهوتياً؟ وكيف نستخدم الشواهد المتعدِّدة التي تغطي مئات السنين لرسم شكل واحد؟ يجب أن نتذكر دائماً أن الكتاب المقدس واحد، رغم كونه مجموعة من الأسفار. فحلّ هذه المشكلة يعتمد على فهمنا للتاريخ ورؤيتنا للزمن. والحلّ الأسهل هو محاولة إغفال تعددية الأزمنة وتجاوز الحقبة الزمنية التي وقعت فيها العملية كلّها. هذه التجربة واجهت المسيحية منذ زمن مبكر. فإننا نجدها متأصلة في جذور التفاسير الاستعارية منذ أيام فيلون الإسكندري وبرنابا المنحول (Pseudo-Barnabas) إلى أيام ما بعد الإصلاح البروتستانتي، عند إحياء النزعات الاستعارية. كما واجهت هذه التجربة جميع الصوفيين. لقد نظروا إلى الكتاب كمجموعة من الأمثال المقدَّسة المدوَّنة بأسلوب رمزي خاص. لذلك كانت مهمة التفسير الكشف عن المعاني الخفية والإفصاح عن الكلمة الإلهية التي عُبِّر عنها بأساليب متعدِّدة وأُخفيت تحت حجب مختلفة. أمّا الحقيقة التاريخية والمنظور التاريخي فلا صلة لهما بالأمر. كما أن الملموسية التاريخية عندهم هي إطار تصويري أو خيال شعري، لأن ما يهمَّهم هو المعنى الأبدي. هذه النظرة تحوِّل الكتاب المقدس إلى مصنَّف لأمثال بنَّاءة ورموز عظيمة تشير إلى الحقيقة الأبدية. أوَليست حقيقة الله هي هي على الدوام وإلى الأبد؟ في هذه الحال يكون البحث في العهد القديم عن شواهد لكل المعتقدات المسيحية البارزة أمراً طبيعياً. فيذوب بذلك كلّ عهد في الآخر وتنطمس ميزاته الخاصة. إن عيوب المنهج التفسيري ومخاطرة ظاهرة بوضوح، لذلك لا تتطلَّب دحضاً مطوَّلاً. أمَّا علاجه فهو تصحيح النظرة التاريخية. فالكتاب تاريخ وليس منهجاً إيمانياً ويجب ألاّ يُستعمل “كخلاصة لاهوتية” (Summa Theologiae). كما أن ليس تاريخ الإيمان البشري، بل تاريخ الإعلان الإلهي. لكن المشكلة الأساسية تبقى من غير حلّ وهي: لماذا نحتاج إلى تاريخ ومنهج؟ ولأي سبب حفظتهما الكنيسة معاً؟ هنا أيضاً الجواب الأسهل هو الأقل إرضاء. وهو أن نزعم بأن الكتاب المقدَّس هو النص الأوحد الذي يعوَّل عليه بالنسبة للإعلان وبأن كلّ ما تبقَّى هو تفسير له فقط علماً أنه لا يمكن أن يكون للتفسير السلطان الذي للنص الأصلي. هناك شيء من الحقيقة في هذا الكلام. لكنَّ الصعوبة الحقيقية التي نواجهها هي: لماذا تبطل المراحل الحديثة في الإعلان المراحل القديمة؟ وهل نحتاج في عهد المسيح إلى الشريعة والأنبياء؟ وهل تظلّ تحتفظ بالسلطان الذي تتمتَّع به الأناجيل وكتابات العهد الجديد الأخرى؟ إنها ما زالت فصولاً أساسية في الكتاب الواحد كما كانت سابقاً، لأنها لم تُدرج في قانون الكتاب المقدَّس كوثائق تاريخية فقط، أو كأسفار تتعلَّق بمراحل تاريخية عابرة. وهذا الشيء يصحّ في العهد القديم خاصة: “فإلى أن جاء يوحنا كان هناك نبوءات الأنبياء وشريعة موسى” (متى 11: 13). إذن، لماذا نحتفظ بالشريعة والأنبياء؟ وما هو الاستخدام الصحيح للعهد القديم في كنيسة المسيح؟
أولاً يجب أن نستخدمه استخداماً تاريخياً إلاَّ أن هذا التاريخ مقدَّس، لأنه ليس تاريخ قناعات بشرية وتطوراتها، بل تاريخ أعمال الله وعظائمه. فأعمال الله هذه ليست تدخلاً إليهاً وعشوائياً في الحياة البشرية، بل أعمال متكاملة قادت الشعب المختار إلى هدف الله السامي، أي إلى المسيح. لذلك نرى الأحداث الأولى تنعكس على الأحداث اللاحقة، لأن هناك استمراراً في العمل الإلهي ووحدة في الهدف والقصد. هذا الاستمرار هو أساس المنهج التفسيري الذي يرتكز على دراسة رموز الكتاب (Typology). فالمصطلحات الآبائية كانت وفيرة في هذا المنهج التفسيري. لكن يبقى التمييز بين منهجين تفسيريين واضحاً، لأن الاستعارة (allegory) منهج تفسيري أيضاً. فيه يسعى المفسِّر إلى البحث في النصوص والمقاطع والجمل وحتى الكلمات ليتوصل إلى المعنى الخفي الذي يوجد فيها، “وراء الحرف”. أمَّا في منهج “دراسة الرموز” فيسعى إلى شرح الأحداث وتفسيرها دون شرح النص نفسه. ولذلك ما كانت منهجاً فيلولوجياً فقط، بل كانت منهجاً تاريخياً يهدف إلى إبراز التوافق الضمني بين الأحداث في العهدين، الذي يجب كشفه وتثبيته وتقويمه. إن المفسِّر “الرمزي” لا يسعى إلى بحث الأمور المتشابهة، لأننا لا نجد لكلّ أحداث العهد القديم “ما يُشبهها” في العهد الجديد، مع أن بعض الأحداث الأساسية في التدبير القديم كانت صوراً ورموزاً أو “نماذج” لأحداث أساسية في العهد الجديد. وكانت نتيجة قصد إلهي لأنها تشير إلى مراحل التدبير الخلاصي الواحد. مارس بولس الرسول نوعاً من هذا التفسير حين قال في غلاطية (4: 24): “في ذلك رمز” (estin allegoroumena Hatina). هناك غاية واحدة إلهية وراء أفعال الله وقد أُعلنت كلّها في يسوع المسيح. يقول أوغسطين في هذا الصدد: “يجب أن نفتِّش عن السرّ في الفعل نفسه، وليس في الكلمة فقط” (In ipso facto non solum in dicto, mysterium requirere debemus) (العظة 6، 2 في المزمور 68). كان المسيح “سرّ” العهد القديم، لا لأن موسى والأنبياء “تحدَّثوا” عنه فقط، بل لأن مجرى التاريخ المقدس كلّه يتجِّه إليه. وبهذا المعنى كان تتمَّة لكل النبوءات. ولذلك لا نقدر أن نفهم العهد القديم بدقّة أو أن نكشف عن “أسراره” إلاَّ على ضوء المسيح، وقد كُشفت فعلاً بمجيء “المنتظر”. فالمعنى النبوي الحقيقي للنبوءات لا يُرى بوضوح إلاّ بعد أن تتحقق، لأن النبوءة التي لم تتحقق تظل مبهمة وغامضة (كما هو الحال في سفر الرؤيا الذي تشير نبوءاته إلى ما سيأتي “في النهاية”). هذا لا يعني إضافة معنى جديد إلى النص القديم، فالمعنى موجود فيه، لكننا لا نراه بوضوح. فمثلاً، عندما نماثل في الكنيسة الخادم المتألم في سفر أشعيا بالمسيح المصلوب، فإننا لا “نطبِّق” رؤية من رؤى العهد القديم على حدث من أحداث العهد الجديد، إنما نوضح معناها الذي لم يكن ممكناً أن يُفهم بوضوح قبل المسيح. فالذي كان أولاً رؤية (أي “توقّعاً أو حدساً”) أصبح الآن واقعاً تاريخياً.
نقطة أخرى مهمة وهي أن “الصوَر” في نظر المشتغل بتفسير الاستعارات ليست سوى انعكاسات للنموذج الأصلي الموجود سابقاً أو وصف “لحقيقة” أزلية مجرَّدة، أي أنها تدلّ على ما يفوق الزمان. أمَّا دراسة الرموز فتتجه إلى المستقبل، لأن “الرموز” توقعات وتصورات مسبقة لأمور ستحدث في المستقبل. لذلك، كانت دراسة الرموز منهجاً تاريخياً أكثر منها منهجاً فيلولوجياً، لأنها تفترض وجود حقيقة تاريخية موجَّهة من الله وترتبط بفكرة العهد. فيرتبط الماضي والحاضر والمستقبل بالهدف الإلهي الأوحد الذي هو المسيح. لدراسة الرموز إذن معنى خريستولوجي (أي ذو صلة بالكنيسة أيضاً كونها جسد المسيح وعروسه). لكن من حيث التطبيق لم يُحفظ التوازن الحقيقي بشكل دقيق. فحتى في الاستخدام الآبائي أٌفسدت دراسة الرموز كثيراً بانحرافات استعارية وإضافات خارجية خاصة بالعبادة والوعظ. والمهم أنه في تقليد الكنيسة الأولى التعليمي الذي يرتبط بإقامة الأسرار حٌفظ هذا التوازن الأسراري. هذا هو تقليد الكنيسة، أمَّا الانحرافات فنعزوها إلى فضول العلماء الشخصية وتخيُّلاتهم. لقد وعت الكنيسة الأمور تاريخياً، ولذلك قُرئ الكتاب المقدَّس دائماً في الكنائس مع عرض العقيدة (أي المنهج) لكي يذكِّر المؤمنين بالأسس التاريخية لإيمانهم ورجائهم.
يعتقد أوغسطين أن الأنبياء تكلَّموا على الكنيسة بشكل أوضح من كلامهم عن المسيح أي ماسّيا (في المزمور 30، 2 و ennaratio 2، مجموعة الآباء اللاتين مين 36، 244). كان هذا بمعنى من المعاني أمراً طبيعياً، لأن الكنيسة كانت موجودة بادئ ذي بدء. فإسرائيل، شعب الله المختار وشعب الميثاق، كان كنيسة أكثر منه أمَّة “كالأمم” الأخرى. في الكتاب -وفيما بعد- استعملت اللفظتان ta ethne وgentes (الأمم) لتصفا الأمميين أو الوثنيين، بخلاف الشعب الواحد (أو الأمة) الذي كان أيضاً وأساساً كنيسة الله. إن الشريعة أُعطيت لإسرائيل بوصفه كنيسة كي تشمل الحياة “الروحية” “والزمنية” للشعب، لأن الوصايا الإلهية تضبط الوجود الإنساني كله وتنظِّمه. وبذلك يكون تقسيم الحياة بين ما هو “روحي” وما هو “زمني” تقسيماً لا أساس له. كان إسرائيل جماعة مؤمنين أقامها الله، متَّحدة بالشريعة الإلهية والإيمان الحقيقي والطقوس المقدسة والسلطة الكهنوتية. هنا نجد كلّ عناصر التحديد التقليدي للكنيسة. لكنَّ التدبير القديم وجد كماله في التدبير الجديد، عندما أقام الله عهداً جديداً ورفض إسرائيل القديم لقلة إيمانه. وهذا ما جعله يخسر يوم الرب أو يوم الافتقاد. وأتت كنيسة المسيح لتكون الاستمرار الحقيقي الأوحد للعهد الذي أقامه الله قديماً. (فلنتذكر أن لفظتي “الكنيسة” و”المسيح” هما من أصل عبري. “الكنيسة” هي qahal و”المسيح” يعني Messiah). فهي إسرائيل الحقيقي بحسب الروح (Kata Pneuma). وبهذا المعنى رفض القديس يوستينوس رفضاً قاطعاً الفكرة التي تقول إن العهد القديم هو صلة الوصل بين الكنيسة والمجمع اليهودي. فالعكس هو الصحيح في نظره، ولذلك يجب أن نرفض الإدِّعاءات اليهودية من أساسها، لأن عدم إيمانهم بيسوع المسيح جعل العهد القديم لا ينتمي إليهم، وجعله ملك الكنيسة وحدها. فلا يحق لأي شخص بعد أن يدَّعي الانتماء إلى موسى أو الأنبياء، إذا لم يكن أولاً مع يسوع المسيح. فالكنيسة هي إسرائيل الجديد والوارث الأوحد للوعود القديمة. في هذا الكلام العنيف الذي صرَّح به هذا المدافع المسيحي القديم نجد مبدأً تفسيرياً ذا أهمية بالغة وهو أننا يجب أن نقرأ العهد القديم ونفسِّره بكونه كتاب الكنيسة وربما يجب أن نضيف إلى هذا فنقول أنه كتاب عن الكنيسة.
اتُّخذ الحق بدلاً من الشريعة، لأنها وجدت فيه كمالها. ولهذا أٌبطلت الشريعة ولم يبقَ حفظها واجباً على المهتدين حديثاً. فإسرائيل الجديد كان له دستوره الخاص. وصار هذا الجزء من العهد القديم وكأنه مهجور، لأنه يرتبط أساساً بالوضع التاريخي -لكن لا بمعنى النسبية التاريخية العامة، بمقدار ما هو بمعنى التدخل الإلهي والعناية الإلهية. فالرب أوجد الوضع الافتدائي الجديد ودشَّنه، فهو أوْجَدَ وضعاً جديداً في المنظور المقدّس للخلاص. كلّ ما انتمى إلى الحالة السابقة فَقَدَ معناه، وإذا ما احتفظ بهذا المعنى فكسابق تصوّر فقط. حتى إننا لا نستثني الوصايا العشر من هذه القاعدة لأن “الوصية الجديدة” قد نسختها. والآن يجب أن نستخدم العهد القديم من خلال علاقته بالكنيسة فقط. ففي التبرير القديم اقتصرت الكنيسة على أمَّة واحدة. أمَّا في التدبير الجديد فأُبطلت الفوارق القومية وزال التفريق بين اليوناني واليهودي وصار الجميع واحداً في المسيح الواحد. وبكلام آخر، لا يجوز أن نُبعد بعض أجزاء العهد القديم التي تتعلَّق بحياة الكنيسة، ولكن لا يحق لنا في الوقت ذاته أن نجعل منها نماذج كتابية لحياة الشعوب الزمنية. فإسرائيل القديم كان كنيسة مؤقتة، لكنه لم يكن نموذجاً للأمم. طبعاً، إننا نقدر أن نتعلَّم الشيء الكثير من الكتاب المقدس عن العدالة الاجتماعية التي كانت جزءاً من رسالة الملكوت الآتي، وعن التنظيم السياسي والاجتماعي والاقتصادي عند اليهود عبر العصور. وقد تكون هذه الأمور عوناً لنا في مناقشاتنا الاجتماعية. لكن لا يجوز أن نجد في الكتاب المقدس وخاصة العهد القديم نموذجاً مثالياً ودائماً للتنظيم السياسي والاقتصادي في عصرنا هذا أو في أي عصر آخر. ولعلَّنا نتعلَّم أموراً كثيرة من التاريخ العبري، لكنها تبقى درساً تاريخياً، وليس درساً لاهوتياً، لأن الكتاب ليس مرجعاً للعلم الاجتماعي أو العلم الفلكي. فالدرس الاجتماعي الأوحد الذي نأخذه منه هو حقيقة الكنيسة التي هي جسد المسيح. لذلك لن نقول إن الاستناد إلى الكتاب في الأمور “الدنيوية” هو “شاهد كتابيّ”، لأن “الشواهد الكتابية” هي في الأمور اللاهوتية فقط. هذا لا يعني عدم وجود توجيهات وإرشادات في الكتاب، لأن بحثاً من هذا النوع لا يمكن أن يُعتبر “استعمالاً لاهوتياً للكتاب المقدس. ولعلَّ أمثولات التاريخي العبري القديم لا تفوق أمثولات الشعوب الأخرى. إذن، يجب أن نميِّز بكثير من الانتباه، الوقتي (المرتبط بحالة معيَّنة) عن الدائم في الميثاق القديم (وعلينا قبل كل شيء أن نتجاوز حدوده القومية)، وإلاَّ فإننا نقع في خطر إغفال ما هو جديد في الميثاق الجديد. وعلينا في العهد الجديد أن نميِّز بوضوح الوجهين التاريخي والنبوي، لأن موضوع الكتاب الرئيسي هو المسيح وكنيسته، وليس الأمم والمجتمعات ولا السماء والأرض. كان إسرائيل القديم رمزاً للجديد الذي هو الكنيسة الجامعة، وليس رمزاً لأي أمة معيَّنة. فشمولية الخلاص ألغت الإطار القومي لكنيسة العهد القديم. وصارت هناك بعد المسيح “أمة” واحدة، الأمة المسيحية (genus christianum) – وبتعبير قديم “أمة ثالثة” (tertium genus) – أي الكنيسة شعب الله الأوحد. وكل وصف قومي آخر لن يجد ضمانة كتابية له. فالفروقات القومية تنتمي إلى نظام الطبيعة، لكنها لا تتعلق بنظام النعمة.
الكتاب المقدس كامل وتام، لكنَّ التاريخ المقدس لم يكتمل بعد. فقانون الكتاب يحوي سفر الرؤيا النبوي، وهذا دليل على أن هناك ملكوتاً سيأتي واكتمالاً سيتحقَّق. ففي العهد الجديد إذاً نبوءات، كما في العهد القديم، بل إن كيان الكنيسة كلَّه نبوي بمعنى من المعاني، لكنَّ للمستقبل معنى مختلفاً “بعد مولد المسيح” (post Christum natum). إن التوتر بين الحاضر والمستقبل يأخذ في كنيسة المسيح معنى وصفة غير اللذين اتخذهما في التدبير القديم لأن المسيح لا ينتمي إلى المستقبل فقط، بل إلى الماضي أيضاً وبالتالي إلى الحاضر. هذا المنظور الانقضائي له أهمية بالغة لفهم الكتاب بشكل صحيح. بل يجب أن نفحص كل “مبادئ” التفسير و”قوانيه” من خلا هذا المنظور. لكن علينا أن نتجنَّب خطرين كبيرين:
أولاً: إننا لا نقدر أن نقول بوجود تشابه دقيق بين العهدين، لأن “الوضع الميثاقي” الجديد يختلف جذرياً عن القديم، فصلة الواحد بالآخر كصلة “الصورة” بـ “الحقيقة”. والفكرة التي تسود الشرح الكتابي عند الآباء تدور حول كون كلمة الله تكشف عن نفسها باستمرار وبمختلف الوسائل في العهد القديم بمجمله. لكن يجب ألاَّ نضع هذه الظهورات الإلهية (theophanies) على مستوى تجسد الكلمة وحجمه، خوفاً من أن يتحوَّل حدث الخلاص العظيم إلى ظل استعاري. “فالرمز” ليس سوى “ظل” أو صورة. ففي العهد الجديد نجد الفعل نفسه، لأنه أكثر من “صورة” عن الملكوت الآتي. فهو في جوهره حقل للإنجازات الإلهية.
ثانياً: من السابق لأوانه أن نتحدَّث عن “الانقضائية المحقَّقة” (realized eschatology). فالانقضاء (eschaton) لم يأت بعد والتاريخ المقدَّس لم ينته إلى الآن. لذلك نفضِّل عبارة “الانقضائية المدشَّنة” (inaugurated eschatology)، لأنها تصف بكل دقة تحليل الكتاب المقدس، ألا وهو أن الحدث الحاسم في الإعلان الإلهي وقع في الماضي. “الحاسم” (أو “الجديد”) قد دخل التاريخ، وإن كانت المرحلة الأخيرة لم تحدث. في العهد الجديد ما عدنا في عالم الرموز، بل في عالم الحقيقة، ولكن تحت علامة الصليب. الملكوت دُشِّن، لكنه لم يتحقق كلياً. إن قانون الكتاب الثابت نفسه يرمز إلى إنجاز. فالكتاب المقدس أُغلق، لأن كلمة الله تجسَّد، وأصبح مرجعنا شخصاً حيّاً وليس كتاباً. مع هذا يحتفظ الكتاب المقدس بسلطانه ليس فقط كمصنَّف عن الأحداث الماضية، بل كمؤلف نبوي مليء بالإشارات إلى المستقبل والنهاية.
ما زال تاريخ الفداء مستمراً حتى يومنا الحاضر، لأنه تاريخ الكنيسة التي هي جسد المسيح. والروح-المعزِّي يقيم فيها دائماً. لكننا لا نقدر أن نجد منهجاً كاملاً للإيمان المسيحي، لأن الكنيسة مازالت في محجتها. أمَّا الكتاب فقد احتفظت به الكنيسة كمصنَّف تاريخي يذكِّر المؤمنين بطبيعة الإعلان الإلهي الفاعل “مرَّات كثيرة وبمختلف الوسائل” (عبر 1: 1).
كُتب هذا المقال عام 1951
الأب جورج فلوروفسكي


من كتاب :الكتاب المقدس والكنيسة والتقليد
 
قديم 30 - 06 - 2016, 05:02 PM   رقم المشاركة : ( 13374 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,381

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

جامعية الكنيسة


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الاتحاد الإلهي – الإنساني والكنيسة:
انتصر المسيح على العالم، ونصره هو في خلق الكنيسة، لأنه وضع في فراغ التاريخ البشري وفقره وضعفه ومعاناته أسس “الكائن الجديد”. الكنيسة هي عمل المسيح على الأرض وهي صورة حضوره ومقامه في العالم. فعندما انحدر الروح القدس في يوم الخمسين على الكنيسة التي مثَّلها آنذاك الاثنا عشر والمجتمعون معهم، دخل العالم كي يسكن بيننا وكي يكون عمله فعَّالاً فينا أكثر منه فيما مضى: “ما كان الروح أُعطي حتى الآن” (يوحنا 7: 39). لقد انحدر الروح مرَّة انحداراً دائماً. وهذا سرّ عظيم لا يُسبر غوره. وبما أن الروح يقيم دائماً في الكنيسة، فإننا نقتني فيها روح التبني (رو 8: 15)، ونصبح أخصَّاء الله عندما نبلغ الروح ونقبله. ففي الكنيسة يكتمل خلاصنا ويتقدَّس الجنس البشري ويتغيَّر وجهه ويحصل على التأله (Theosis).
“لا خلاص خارج الكنيسة” (Extra Ecclesiam salus). كل القوة القاطعة لهذا القول هو في الترداد الذي يوجد فيه. لا خلاص خارج الكنيسة، لأن الخلاص هو الكنيسة. فالخلاص إعلان عن الطريق القويم لكل من يؤمن باسم المسيح. وهذا الإعلان يوجد في الكنيسة فقط، ففيها، أي في جسد المسيح وفي الجسم (التعضّي organism) الإلهي – الإنساني، يتمّ باستمرار سرّ التجسد، سرّ اتحاد “الطبيعتين”. في تجسد الكلمة يتمّ ملء الإعلان الإلهي والإنساني على حد سواء. يقول القديس ايريناوس: “صار ابن الله ابناً للإنسان، لكي يصير الإنسان ابناً لله” (ضد الهراطقة 3، 10، 2)، لأنه لم يُعلن في المسيح، الإله-الإنسان، معنى الوجود الإنساني وحسب، بل إنه بلغ غايته. ففيه بلغت الطبيعة الإنسانية كمالها وتجدَّدت وأُعيد بناؤها وخلقها. والمصير الإنساني وصل إلى هدفه وصارت الحياة الإنسانية “مستترة مع المسيح في الله” (كولو 3: 3) على حد تعبير بولس الرسول. بهذا المعنى يكون المسيح ” آدم الأخير” (1كور 15: 45) والإنسان الحقيقي، الذي فيه مقياس الحياة الإنسانية وحدودها. فإنه قام من بين الأموات “بكراً للراقدين” (1كور 15: 20-22)، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب. فكان مجده مجداً للوجد البشري، لأنه دخل وهو إنسان المجد الأزلي ودعا الجميع لكي يقيموا معه وفيه. “ولكن الله بواسع رحمته وفائق محبته لنا أحيانا مع المسيح بعدما كنَّا أمواتاً بزلاتنا. فبنعمة الله نِلْتُم الخلاص، وفي المسيح يسوع أقامنا معها وأجلسنا في السماوات” (أفسس 2: 4-6). هنا يكمن سرّ الكنيسة بكونها جسد المسيح. الكنيسة هي الملء (to pleroma)، أي الإنجاز والاكتمال (أفسس 1: 23). بهذه الطريقة يفسر الذهبي الفم كلمات الرسول، فيقول: “تكون الكنيسة ملء المسيح مثلما يكون الجسد ملء الرأس والرأس ملء الجسد. أنظر أيَّ ترتيب يستخدم بولس… لأنه يقول الملء. فمثلما يكتمل الرأس بالجسد هكذا يتألف الجسد من كل الأعضاء ويحتاج إلى كلٍّ منها. أنظر كيف جعل المسيح نفسه محتاجاً إلى جميع الأعضاء، لأننا لو لم نكن أعضاء كثيرين، أي لو لم يكن بعضنا يداً وبعضنا رجلاً وبعضنا أعضاء أخرى لما اكتمل الجسد كلُّه. إذن، الجسد يكتمل بجميع أعضائه. ونحن عندما نكون متحدين بعضاً ببعض ومتلاصقين يكتمل الرأس ويصبح الجسد كاملاً”. يكرِّر الأسقف ثيوفانس شرح الذهبي الفم فيقول: “تكون الكنيسة ملء المسيح، مثلما تكون الشجرة ملء الحبَّة. فكل ما هو موجود في الحبَّة على نحو مكثَّف يكتمل نموه في الشجرة… الله تام في ذاته وكليّ الكمال، لكنه لم يجتذب إلى نفسه الجنس البشري اجتذاباً نهائياً. فالجنس البشري يتحد به تدريجياً، وبهذا يعطي كمالاً جديداً إلى عمله فيبلغ الإنجاز التام”.
الكنيسة هي في حدِّ ذاتها الملء، واستمرار للإتحاد الإلهي-الإنساني واكتماله. وهي الجنس البشري الذي يتجدَّد ويتغيَّر وجهه. ومعنى هذا التجدد أن الجنس البشري يصبح في الكنيسة واحداً، في “جسد واحد” (أفسس 2: 16). فحياة الكنيسة وحدة واتحاد، لأن جسدها يتماسك بالأوصال و”ينمو” (كولو 2: 19) بوحدة الروح وبوحدة المحبة. عالم الكنيسة هو عالم الوحدة الداخلية والعضوية، وحدة الجسم الحي ووحدة الكيان العضوي. الكنيسة هي اتحاد لا لأنها واحدة وفريدة، بل لأنها تعيد في كيانها اتحاد الجنس البشري المفكَّك. هذه الوحدة تؤلِّف جماعية (Sobornost) الكنيسة وجامعيتها (Catholicity). ففي الكنيسة ترتفع الإنسانية إلى مقام آخر، وتبدأ حياتها بنمط جديد وتصبح الحياة الجديدة الحقة والكاملة والجامعة ممكنه “في وحدة الروح برباط السلام” (أفسس 4: 3). فيبدأ وجود جديد ومبدأ جديد للحياة: “ليكونوا واحداً فينا، أيها الآب مثلما أنت فيَّ وأنا فيك… ليكونوا واحداً مثلما أنت وأنا واحد” (يوحنا 17: 21-23).
هذا هو سرّ إعادة الاتحاد النهائي الذي هو على صورة اتحاد الثالوث الأقدس والذي يتحقَّق في حياة الكنيسة وبنيتها. إنه سر الجماعيّة (Sobornost) وسر الجامعية.
الميزة الداخلية في الجامعية:
يغيب عن الجامعيَّة المفهوم الكمِّي أو الجغرافي، لأن الجامعيَّة لا تتوقَّف أبداً على مدى انتشار المؤمنين في العالم. فمسكونية الكنيسة نتيجة وإظهار لها، وليست سبباً أو أساساً لها. أي أن انتشار الكنيسة الواسع هو سمة خارجية وأمر غير ضروري بكل ما في هذه الكلمة من معنى. فالكنيسة كانت جامعة، حتى عندما كانت الجماعات المسيحية جزراً منعزلة في بحر الوثنية وعدم الإيمان. وستبقى جامعة حتى انتهاء الزمان، عندما يظهر سرّ “الارتداد” وعندما تتقلَّص الكنيسة لتصير مرة أخرى “قطيعاً صغيراً”: “أيجد ابن الإنسان إيماناً على الأرض يوم يجيء” (لوقا 18: 8). يقول المتروبوليت فيلاريت في هذا الصدد: “إذا ما ارتدَّت مدينة أو منطقة عن إيمانه الكنيسة العالمية، فإن الكنيسة ستبقى من غير ريب جسداً كاملاً غير منتقص ولا فانٍ” .”فجامعية الكنيسة لا تُقاس بمدى انتشارها العالمي، لأن لفظة Katholiki التي تشتق من Kath olou تعني بالدرجة الأولى الاكتمال الداخلي لحياة الكنيسة. إننا نتحدَّث عنا عن الاكتمال وليس عن المشاركة، وفي أي حال إننا لا نتكلَّم على المشاركة الاختباريَّة. فلفظة Kath olou لا ترادف لفظة Kath pantos لأنها لا تنتمي إلى مستوى الحواس أو إلى مستوى الاختبار، بل إلى المستوى الكياني والمفهوم الذاتي، لأنها لا تصف الظواهر الخارجية، بل الجوهر نفسه. نجد هذه الألفاظ مستخدمة بهذا المعنى في العصور التي تسبق ابتداء من سقراط. فإذا دلَّت الجامعيَّة على المسكونيَّة أيضاً فإنها بكلّ تأكيد لا تدلّ على مسكونية اختبارية، بل على مسكونية مثالية. أي إنها تشير إلى المشاركة في الأفكار وليس إلى المشاركة في الوقائع. عندما استعمل المسيحيون الأوَّلون عبارة “الكنيسة الجامعة” (Ekklesia Katholiki) ما عنوا بها كنيسة ذات انتشار عالمي. والحق، أن هذه العبارة أظهرت أرثوذكسية الكنيسة وحقيقة “الكنيسة العظمى”، لأنها تغاير روح الانشقاق الطائفي وروح التخصصية، وتوضح فكرة الكمال والطهارة. هذه الكفرة عبّر عنها بقوة القديس إغناطيوس الإنطاكي عندما قال: “حيثما يكون الأسقف فهناك يجب أن تكون الجماعة، كما أنه حيث يسوع المسيح، فهناك الكنيسة الجامعة” (إغناطيوس الإنطاكي، الرسالة إلى أهل إزمير، 8: 2). هذه العبارات تعبِّر عن الفكرة نفسها التي ترد في إنجيل متى: “فأينما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، كنت هناك بينهم” (متى 18: 19-20). فلفظة “الجامعيَّة” تعبِّر عن سرّ الاجتماع (Mystirion tis sinakseos). يفسِّر القديس كيرلّس الأورشليمي عبارة “الكنيسة الجامعة” الواردة في دستور الإيمان وفقاً لتقليد كنيسته فيقول إن عبارة “كنيسة” تعني “اجتماع الكل في شركة واحدة” ولذلك تسمَّى “اجتماع” (ekklesia)، وإنها تسمَّى “جامعة” لأنها منتشرة في العالم كلّه ولأنها تخضع الجنس البشري إلى البرّ والحق، ولأن كلّ العقائد تعلَّم فيها بصورة “شاملة، وكاملة، وجامعة” (katholikos kai anelipos)، ولأنها تعالج وتشفي “جميع أنواع الخطايا” . هنا تُفهم الجامعيَّ’ أيضاً كصفة داخلية. لكن لفظة Catholica استُعملت في الغرب لتشير إلى “الكونية” أثناء الصراع ضد الدوناتيين، حتى تقاوم الاتجاه المحلِّي والجغرافي عندهم . وفي الشرق أيضاً أصبحت فيما بعد مرادفة لكلمة “المسكونيَّة”. لكن هذا الترادف جعل معناها في آخر الأمر محدوداً وأقل فاعليَّة، لأنه يلفت النظر إلى الشكل الخارجي دون المضمون الداخلي. غير أن الكنيسة جامعة بسبب امتدادها الخارجي أو على كل حال ليس فقط لهذا السبب، بل لأنها كيان يجمع الجميع تحت كنفه. الكنيسة ليست جامعة لأنها تجمع كلّ أعضائها إلى اتحاد واحد وتجمع كلّ الكنائس المحليِّة فقط، بل لأنها جامعة في أكثر أقسامها صغراً وفي كل عمل أو حدث في حياتها. فطبيعتها جامعة ونسيج جسدها جامع. هي جامعة لأنها جسد المسيح الواجد، ولأنها الوحدة في المسيح والوحدة في الروح القدس، ووحدتها هذه هي الكمال الأسمى. ومقياس هذه الوحدة الجامعة هو “أن جماعة المؤمنين كانوا قلباً واحداً وروحاً واحدةً” (أعمال 4: 32). وحيثما يكن الأمر مخالفاً لهذا الشيء تصبح حياتها محدودة. لذلك يجب أن يحصل الائتلاف الكياني للأشخاص في جسد المسيح حتى يزول الانغلاق والتمييز بين “ما لي” و”ما لك”.
فنموّ الكنيسة يتحقَّق في نموّ الميزة الداخلية الجامعيَّة للكنيسة وفي “اكتمال الجميع”: “لتكون وحدتهم كاملة” (يو 17: 23).
تغيير وجه الشخصية:
إن لجامعيَّة الكنيسة وجهين: وجهاً موضوعياً ووجهاً ذاتياً. موضوعياً، تدل جامعيَّة الكنيسة على وحدة الروح: “نحن كلّنا قبلنا المعمودية بروح واحدة لنكون جسداً واحداً” (1كور12: 13). فالروح القدس الذي هو روح محبة وسلام لا يجعل الأفراد المنعزلين واحداً فقط، بل يكون في نفس كلّ واحد مصدر سلام داخلي وكمال. ذاتياً، تدلّ على أن الكنيسة وحدة حياة، وأخوَّة أو شركة، ووحدة حب، و”حياة مشتركة”. وما صورة الجسد الواحد سوى وصيَّة محبة: “فبولس يطلب منّا محبة كهذه، محبة تشدّ الواحد إلى الآخر إلى حدٍّ يجب فيه ألا ينفصل الواحد عن الثاني فيما بعد … أي يطلب أن يكون اتحاداً كاملاً، مثل اتحاد أعضاء الجسد الواحد” . الجديد في وصيَّة المحبة المسيحية هو أن نحب قريبنا مثلما نحب أنفسنا. وهذا أمر أسمى من أن نضع قريبنا على مستوى مساوٍ لنا وأن نعتبره كائناً مماثلاً لنا، أي أن نرى أنفسنا في الآخر، في المحبوب، وليس في أنفسنا… هنا تقع حدود المحبة، لأن المحبوب هو “أنا آخر”، أنا عزيزة على القلب أكثر من الذات. في المحبة نندمج لنكون شخصاً واحداً: “في هذه المحبة لا يبقى المحب والمحبوب شخصين، بل يصيران شخصاً واحداً”. إن المحبة المسيحية الحقيقية ترى في كل واحد من إخوتنا “المسيح نفسه”. وهذا يتطلَّب إنكاراً للذات واحتفاظاً بالشخصية. وهذا لا يتحقق إلاَّ في تغيير النفس وانفتاحها “الجامع”. تُعطى وصيَّة “الجامعية” لكل إنسان مسيحي، فيكون مقياس الجامعيَّة مقياساً لقامته الروحيَّة. فالكنيسة جامعة في كل فرد من أفرادها، لأن الجامعيّة الكلية لا تُبنى إلا على جامعيَّة الأعضاء، ولأن مجموعة كبيرة من الأفراد لا تكون أخوَّة واحدة، إذا انغلق كلّ فرد على ذاته. الوحدة لن تكن ممكنة إلاَّ عن طريق المحبة الأخوية المتبادلة عند جميع الأخوة. فالرؤية التي ظهرت فيها الكنيسة برجاً قيد الإنشاء تعبِّر بقوة عن هذه الفكرة (راجع الراعي هرماس). هذا البرج يُبنى بحجارة مختلفة ترمز إلى المؤمنين الذين هم “الحجارة الحيّة” (1بطر 2: 5). عندما شُيِّد البرج انتظمت الحجارة كلّها، لأنها كانت ملساء ومنسجمة ومتناسقة، حتى أصبحت أطرافها غير مرئية. ولذلك ظهر البرج وكأنه قد شُيِّد من حجر واحد. وهذا رمز الوحدة والاكتمال. إننا نلاحظ أن الحجارة المربَّعة الملساء وحدها تصلح لهذا البناء، أمَّا الحجارة الأخرى النيِّرة لكن المستديرة فلم يفد منها البناء، لأنها كانت لا تنتظم بعضها مع بعض. ولذلك وضعت على مقربة من الحائط لأنها غير مناسبة (mi armazintes) (هرمس الراعي، الرؤية الثالثة 2، 6، 8). “فالاستدارة” في الرمزية القديمة كانت إشارة إلى الانعزال وإلى الاكتفاء والرضا بالذات (teres atque rotundus). فروح الرضا بالذات يعيقنا عن دخول الكنيسة. أولاً، يجب أن يكون الحجر أَملس حتى يكون ملائماً لحائط الكنيسة، أي يجب أن ننكر أنفسنا حتى نتمكَّن من أن نلتحق بجامعيَّة الكنيسة. ويجب أن نسيطر على أنانيتنا ونكتسب فكراً جامعاً حتى نستطيع الدخول إلى الكنيسة. ففي اشتراكما الكامل فيها يتحقق التغيير “الجامع” لوجه الشخصية الإنسانية.
لكنَّ نكران الذات لا يعني القضاء على الشخصية وذوبانها في الجماعة، لأن الجامعيَّة لا تقوم على مبدأ جسداني أو جماعي. فنكران الذات يوسِّع مدى شخصيتنا، حتى نضمّ الجماعة إلى ذاتنا ونضعها في أنانتنا، وهكذا تشابه وحدتنا وحدة الثالوث المقدس. إن الكنيسة بكونها جامعة تصبح صورة مخلوقة عن الكمال الإلهي. ولقد تحدَّث آباء الكنيسة بعمق كبير عن هذا الموضوع. في الشرق تحدَّث القديس كيرلّس الإسكندري وفي الغرب القديس إيلاريون . أمَّا في اللاهوت الروسي المعاصر فتحدَّث المتروبوليت أنطوني على نحو ملائم فقال: “إن وجود الكنيسة لا يقارَن بأي شيء آخر على الأرض، لأننا لا نجد على الأرض اتحاداً، بل نجد انفصاماً. في السماء وحدها هناك ما يشبهها، لأن الكنيسة وجود كامل وفريد (unicm) على الأرض. لذلك لا نقدر أن نحدِّد هذا الوجود بفكرة نستقيها من حياة هذا العالم. هي صورة عن الثالوث الأقدس، صورة يكون فيها الكثيرون. لماذا يكون هذا الوجود جديداً وغير مفهوم عند الإنسان القديم مثلما يكون وجود الثالوث الأقدس؟ لأن الوجود الشخصي في وعيه الجسماني سجين ذاته ومختلف كلياً عن أية شخصية أخرى”. “يجب على المسيحي أن يحرِّر نفسه وفقاً لحجم التطور الروحي الذي بلغه، وأن يميِّز بين الأنا واللاأنا، وأن يبدِّل بصورة جذرية الخصائص الأساسية للوعي الذاتي الإنساني” . في هذا التغيير يكون التجديد “الجامع” للفكر.
إن للوعي الذاتي وجهين، وجهاً فردياً منعزلاً ووجهاً جامعيّاً فالجامعيّة لا تنكر الوجود الشخصي، والوعي الجامع لا علاقة له بعرق أو بقومية، وليس وعياً مشتركاً ولا وعياً جماعياً أو عاماً أو االـ “Bewusstsein uebergaupt” التي تكلَّم عليها الفلاسفة الألمان. الجامعيَّة لا تتحقَّق بالقضاء على الشخصية الحيَّة أو بالانتقال إلى عالم الكلمة المجرَّد. فهي اتحاد واقعي في الفكر والشعور، وأسلوب أو وضع من الوعي الذاتي الذي يرتفع إلى “مستوى الجامعيّة”. وهي “نهاية” (telos) الوعي الذاتي الذي يتحقَّق بالنموّ الخلاَّق، لا بمحق للشخصية. في التحوّل الجامع تكتسب الشخصية قوة للتعبير عن وعي الجميع وعن حياتهم. وهذا لا يتمّ بطريقة غير شخصية، بل بفعل بطولي خلاَّق. يجب ألا نقول: “إن كلّ فرد في الكنيسة يبلغ مستوى الجامعيَّة”، بل: “إنه قادر على بلوغه ومن واجبه أن يبلغه، وإنه مدعو إلى ذلك”. ولكن لا يبلغ كلّ إنسان هذا المستوى. أمَّا الذين بلغوه فنسمِّيهم آباء ومعلِّمين. فمنهم لا نسمع المجاهرة الشخصية بالإيمان فقط، بل نسمع شهادة الكنيسة، لأنهم يكلِّمونا من كمالها الجامع ومن كمال الحياة الممتلئة بالنعمة.
المقدَّس والتاريخي:
الكنيسة هي وحدة الحياة المواهبية، أمَّا مصدر هذه الوحدة فمحتجب في سرّ العشاء الربّاني وفي سرّ يوم الخمسيين الذي هو النزول الفريد لروح الحق إلى العالم. فالكنيسة إذن رسولية، لأنها خُلقت وخُتمت بالروح القدس في الاثني عشر. والتعاقب الرسولي هو خيط روحي سرِّي يصل الملء التاريخي لحياة الكنيسة باكتمال جامع. هنا نرى أيضاً وجهين: الوجه الموضوعي الذي هو التعاقب السرّي غير المنقطع والاستمرار الهيرارخي. فالروح القدس لا ينحدر على الأرض مرة تلو المرة، بل يقيم في الكنيسة التاريخية “المنظورة” وينفخ فيها ويرسل أشعته إليها. هذا هو ملء اليوم الخمسيني وجامعيَّته.
أمَّا الوجه الذاتي فهو الوفاء للتقليد الرسولي، أي العيش وفق هذا التقليد الذي هو عالم حيّ وحامل الحقيقة. هذا هو مطلب أساسي ومبدأ للفكر الأرثوذكسي، لأنه يفترض إنكار الانفصالية الفردية ويلحّ بقوة على الجامعيَّة. إن الطبيعة الجامعة للكنيسة تُرى بكل حيويَّة في كون خبرة الكنيسة تنتمي إلى كل العصور. ففي حياة الكنيسة ووجودها يتمّ تخطي الزمن والسيطرة عليه بشكل سرِّي، أو، إذا جاز التعبير، يبقى الزمن في توقف تام. وهذا لا يعود إلى قوة الذاكرة التاريخية أو إلى تخيُّل يقدر أن “يتجاوز حاجزي المكان والزمان”، بل إلى قوة النعمة التي تجمع في وحدة الحياة الجامعة ما فصلته الجدران التاريخية. فالوحدة في الروح تجمع بطريقة سرِّية قاهرة للزمن جميع المؤمنين في كل العصور. وهي تظهر وتتجلَّى في خبرة الكنيسة وخاصة في خبرتها في سرّ الشكر، لأن الكنيسة هي الصورة الحيَّة للأبدية في الزمن. فالزمن لا يقدر أن يوقف خبرة الكنيسة وحياتها. والسبب ليس في استمرارية تدفُّق النعمة الذي يفوق الشخص فقط، بل في الدمج الكامل والجامع لكلّ ما كان موجوداً في الملء السرِّي للزمن الحاضر. لذلك لا يقدِّم تاريخ الكنيسة تغييراً متعاقباً فقط، بل وحدة وتماثلاً. بهذا المعنى الاشتراك مع القديسين هو “شركة القديسين” (communio sanctorum). والكنيسة تعرف أنها وحدة العصور كلِّها وأنها تبني حياتها على هذه الشركة. فهي لا تفكر في الماضي وكأنه قد عبر وولَّى، بل على أنه أُنجز وتمَّ وهو موجود في الملء الجامع لجسد المسيح الواحد. والتقليد الكنسي يعكس هذا الانتصار على الزمن. إن التعليم من التقليد أو بالأحرى التعليم “في التقليد”، تعليم من ملء خبرة الكنيسة التي تقهر الزمن، والتي يقدر أن يتعرَّف إليها كلّ عضو في الكنيسة وأن يملكها وفقاً لقياس رجولته الروحية، ولنموِّه الجامع، أي أننا نتعلَّم من التاريخ مثلما نتعلَم من الإعلان. فولاؤنا للتقليد ليس ولاء لأزمنة ماضية ولسلطان خارجي، بل ارتباط حيّ بملء خبرة الكنيسة. إذن، العودة إلى التقليد لا تكون بحثاً تاريخياً، لأن التقليد لا يحصره علم آثار الكنيسة، ولأنه ليس شهادة خارجية يمكن أن يقبلها كل إنسان لا ينتمي إلى الكنيسة. الكنيسة وحدها هي الشاهد الحيّ للتقليد. ونحن نقبله ونحسّ به كحقيقة لا تقبل الشك من داخل الكنيسة فقط، فهو شهادة للروح ولإعلانه غير المنقطع وبشارته. ما التقليد سلطة خارجية تاريخية لأعضاء الكنيسة الأحياء، بل هو صوت الله الأبدي المستمر، أي إنه صوت الأزلية لا صوت الماضي فقط. فالإيمان لا يجد أساسه في أمثولات الماضي ووصاياه فقط، بل في نعمة الروح القدس الذي يحمل الشهادة الآن وإلى أبد الآبدين.
يقول خومياكوف: “لا الأفراد ولا مجموعاتهم ضمن الكنيسة حفظوا التقليد أو كتبوا أسفار الكتاب المقدَّس، بل روح الله الذي يحيا في جسد الكنيسة كلَّه” . “موافقة الماضي” نتيجة لولائنا لهذا “الكل” وتعبير عن ثبات الخبرة الجامعة وسط أزمنة متغيِّرة. يجب أن نعيش في الكنيسة، وأن نعي حضور الرب الواهب نعمته فيها، وأن نحسّ بتنفس الروح القدس فيها حتى نقبل التقليد ونفهمه، لأن جسد الكنيسة جسده الذي لا ينفصل عنه. ولذلك لا يكون الولاء للتقليد موافقة للماضي فقط، بل بمعنى من المعاني تحرُّر منه مثلما نتحرر من قياس خارجي شكلي. التقليد هو أولاً مبدأ تجدّد ونموّ، وليس فقط مبدأ للمحافظة على القديم والدفاع عنه، ولا مبدأ للنضال من أجل إعادة الماضي، بحيث يكون الماضي مقياساً للحاضر. هذا المفهوم يرفضه التاريخ نفسه ووعي الكنيسة أيضاً. التقليد سلطان للتعليم (potestas magisterii) وسلطان للشهادة للحق. فالكنيسة لا تشهد للحق بالتذكّر أو بكلام الآخرين، بل بخبرتها الحيَّة المستمرَّ’ وبملئها الجامع… هذا هو “تقليد الحقيقة” (traditio veritatis) الذي تحدَّث عنه القديس ايريناوس (ضد الهراطقة 1، 10، 2). التقليد عنده يرتبط “بموهبة الحق الأصلية” (charisma veritatis certum) (ضد الهراطقة 4، 26، 2)، “وتعليم الرسل” ما كان مجرَّد مثل ثابت يجب أن نعيده ونقلِّده وكأنه ينبوع للحياة ووحي يبقى إلى الأبد من دون أن ينفد. فالتقليد سكنى الروح المستديمة لا تذكّر للكلام فقط. فهو مبدأ قائم على المواهب وليس مبدأ تاريخياً.
الخطأ هو أن نقيِّد “مصادر التعليم” بالكتاب والتقليد وأن نفصل الكتاب عن التقليد وكأن التقليد مجرَّد شهادة شفويّة أو تعليم الرسل. فكلاهما أُعطيا في الكنيسة وقُبلا بملء قيمتهما المقدَّسة ومعناهما، لأنهما يحويان حقيقة الإعلان الإلهي التي تعيش في الكنيسة. لكنَّ الكتاب والتقليد لا يستنفدان خبرة الكنيسة هذه، بل إنهما تنعكس فيهما فقط. ففي الكنيسة وحدها يحيا إذاً الكتاب ويُعلن من دون أن يجزَّأ ويصير نصوصاً متفرقة ووصايا وأمثالاً، أي إن الكتاب أُعطي في التقليد، لكنه لا يُفهم وفق أحكام التقليد فقط، وكأنه تدوين للتقليد التاريخي أو للتعليم الشهي، لأنه يحتاج إلى تفسير. فهو مُعلن في اللاهوت. وهذا يصبح ممكناً من خلال خبرة الكنيسة الحيّة فقط. لا نقدر أن نقول إن الكتاب المقدس يتمتع باكتفاء ذاتي، لا لأنه ناقص أو غير تام أو غير دقيق، بل لأنه في جوهره لا يدَّعي أنه هكذا. لكن نقدر أن نقول إن الكتاب نظام أوحى به الله أو أيقونة الحق وليس الحق نفسه. والغريب أننا غالباً ما نضع حدّاً لحرية الكنيسة ككل من أجل توسيع حرية المسيحيين، أي إننا ننكر ونحدّ الحرية المسكونية والجامعة للكنيسة باسم الحرية الفردية، فتقيِّد حرية الكنيسة بمقياس كتابي ابتغاء تحرير الوعي الفردي من المتطلبات الروحية التي تفرضها خبرة الكنيسة. هذا رفض للجامعيَّة وتهديم للوعي الجامع. وهذا هو خطأ الإصلاح البروتستانتي. يقول دين اينج بدقة عن المصلحين البروتستانت: “وُصفت عقيدتهم بأنها رجوع إلى الإنجيل بروح القرآن” . عندما نعلن أن الكتاب مكتف بذاته نجعله عرضة لتفاسير غير موضوعية وكيفيَّة ونفصله عن مصدره المقدس. فقد أُعطيِنَاه في التقليد، وهو مركزه الحيوي والمتبلور. إن الكنيسة التي هي جسد المسيح تتقدَّم الكتاب سرّياً، لأنها أكمل منه. وهذا الأمر لا يقلِّل من شأن الكتاب ولا يجعل صورته قاتمة، لكن المسيح لم يعلن الحقيقة في التاريخ فقط، لأنه ظهر وما زال يكشف عن نفسه لنا بثبات في الكنيسة التي هي جسده وليس في الكتاب فقط. في أيام المسيحيين الأوائل لم تكن الأناجيل المصدر الأوحد للمعرفة، لأنها كانت غير مدوَّنة بعد. لكنَّ الكنيسة عاشت وفق روح الإنجيل، بل إن الإنجيل نفسه برز إلى الوجود في الكنيسة عن طريق سرّ الشكر. فمن مسيح سرّ الشكر تعرَّف المسيحيون إلى مسيح الأناجيل. وهكذا صارت صورته حيَّة عندهم.
هذا لا يعني أننا نجعل الكتاب مصنَّفاً يناقض الخبرة، بل يعني أننا نجعلهما واحداً مثلما كانا منذ البدء. يجب ألا نفكر في أن كل ما قلناه ينكر التاريخ، لأننا نعترف بالتاريخ بكل واقعيته المقدَّسة. فنحن لا نقدِّم خبرة دينية ذاتية تناقض الشاهد التاريخي الخارجي، ولا وعياً سرياً فردياً، ولا خبرة لمؤمنين منعزلين، بل خبرة حيَّة كاملة للكنيسة الجامعة وللخبرة الجامعة وللحياة الكنسية. هذه الخبرة تشمل الذاكرة التاريخية أيضاً، فهي ممتلئة من التاريخ. وما هذه الخبرة تذكراً لأحداث قديمة فقط، بل رؤية لما تمَّ واكتمل ورؤية للانتصار السرِّي على الزمن ورؤية للجامعيَّة في كل زمان. الكنيسة تعرف عدميَّة النسيان. لذلك تصل خبرتها التي تهب النعمة إلى كمالها في ملئها الجامع.
هذه الخبرة لا يستنفدها الكتاب أو التقليد الشفوي أو التحديدات (الإيمانية)، ويجب ألاّ يستنفدها، ولا يمكن أن تستنفد، لأن الكلمات والصور يجب أن تتجدَّد في خبرتها، لا في “نفسانيات” (psychologisms) الشعور الذاتي، بل في خبرة الحياة الروحية. هذه الخبرة مصدر لتعليم الكنيسة. لكن لا تبدأ كلّ الأشياء في الكنيسة من أيام الرسل. وهذا لا يدلّ على أنه أُعلنت أمور “مجهولة” عند الرسل وأن كلّ ما هو متأخر يقل شأناً وإقناعاً. فكل شيء أعطاه الله وأعلنه منذ البدء. ففي يوم الخمسين اكتمل الإعلان ولذلك لن يقبل أي اكتمال آخر يوم الدينونة ويوم تحقيقه الأخير. إن الإعلان الإلهي لم يتَّسع والمعرفة لم تزد. فالكنيسة اليوم لا تعرف المسيح أكثر مما كانت تعرفه في أيام الرسل. لكنها تشهد لأمور أكثر. وفي تحديداتها (الإيمانية) تصف الأمر نفسه من دون تغيير، لكن تبرز دائماً في الصورة التي لا تتغيَّر ملامح جديدة. لكن الكنيسة لا تعرف الحقيقة بصورة أقل أو بطريقة مختلفة عن معرفتها لها في الأيام القديمة. فوحدة الخبرة هي الولاء للتقليد. أمَّا الولاء للتقليد فلم يمنع آباء الكنيسة عن “خلق أسماء جديدة” (كما قال القديس غريغوريوس النزينزي) عندما كان ذلك ضرورياً للحفاظ على الإيمان الذي لا يتبدَّل. فكلّ ما قيل بعد ذلك كان من الملء الجامع، وهو مساوٍ في قيمته وقوته لكلّ ما نُطق به في البدء. وإلى يومنا هذا بقيت خبرة الكنيسة محفوظة ومثبَّتة في العقيدة دون أن تُستنفد. فهناك أمور كثيرة لا تثبِّتها الكنيسة في العقيدة، بل في الليتورجيا ورمزية الأسرار وفي التعابير الصورية التي تستعمل في الصلوات والاحتفالات والأعياد السنوية. إن الشهادة الليتورجية شرعية كالشهادة العقيدية. وأحياناً تكون ملموسية الرموز أكثر وضوحاً وحيوية من أي مفهوم منطقي، كما توحي صورة الحمل الرافع خطيئة العالم.
تخطئ النظرة اللاهوتية التي تدعو إلى الاكتفاء بالحد الأدنى من الأشياء (minimalism) والتي تريد انتقاء التعاليم والخبرات الكنسية “الأكثر أهمية ووثوقاً وارتباطاً”. فهذا طريق خاطئ وطرح غير سليم للمسألة. طبعاً، لم تكن كلّ الأنظمة التاريخية في الكنيسة لها أهمية متساوية، ولم تكن كلّ أمورها التجريبية مقدّسة. فهناك أمور كثيرة تاريخية فقط. لكننا لا نملك مقياساً خارجياً لتمييزها، لأن مناهج النقد التاريخي الخارجي لا تكفي. فمن داخل الكنيسة فقط نقد أن نميِّز التاريخي وأن نميِّز المقدَّس. من داخلها نرى ما هو “جامع” وصالح لكلّ الأجيال وما هو مجرَّد “رأي لاهوتي” أو حتى حدث تاريخي عَرَضي. فالأهم في حيا الكنيسة هو كمالها وملء جامعيَّتها. وفي هذا الملء هناك حرية أكبر ممَّا في التحديدات الشكلية التي تقدِّمها النظرة التي تريد الاكتفاء بالحد الأدنى. ففي هذه النظرة نفقد أهمّ الأشياء أي الاستقامة والكمال والجامعيَّة.
أعطى مؤرخ كنسي روسي تحديداً ناجحاً جداً للصفة الفريدة التي تتحلّى بها خبرة الكنيسة فقال إن الكنيسة لا تعطينا منهجاً، بل مفتاحاً، لا تعطينا خارطة لمدينة الله، بل طريقة لدخولها. وقد يضلّ المرء بطريقه، لأنه لا يملك خارطة، لكنه يرى كلّ الأمور مباشرة وبواقعية وبلا وسيط. أمَّا مَنْ درس الخارطة فقط فجازف بالبقاء خارجاً من دون أن يجد شيئاً.
نقائص القانون الفكندياني:
تبقى الصيغة الشهيرة التي قدَّمها فكنديوس الليرنسي (Vincent of Lerins) في وصفه طبيعة الجامعة لحياة الكنيسة غير دقيقة. فالصيغة تقول: “ما آمن به الجميع في كلّ مكان وزمان” (Quod ubique, quod semper, quod ab omnibus creditum est). أولاً، إننا لا نعرف بوضوح إذا كان هذا المقياس تجريبياً أم لا. فإذا كان تجريبياً ثبت أنه خاطئ، لأنه عن أي “جميع” (omnes) يتحدَّث؟ وهل يجب أن نسال جميع المؤمنين عن إيمانهم، وحتى الذين لا يحسبون أنفسهم سوى مجرَّد مؤمنين؟ في جميع الأحوال يجب أن نقضي ضعفاء الإيمان والمشككين والثائرين على الإيمان. لكن هذا القانون لا يعطينا أي مقياس للتمييز والاختيار. فالكثير من الخلافات تُثَار حول الإيمان، وأكثر منها حول العقيدة. فكيف نفهم عبارة “الجميع” (omnes)؟ ألا نكون متهوِّرين إذا ما عالجنا كلَّ الأمور المشكوك فيها وفق الصيغة التي نسبت خطأ إلى أوغسطين، أي إذا تركنا القرار “للحرية في الأمور المشكوك فيها” (in dubiis libertas). في الواقع، نحن لا نحتاج إلى أن نسأل جميع المؤمنين، لأن مقياس الحق تشهد له في أكثر الأحيان الأقلية. والكنيسة الجامعة قد تجد نفسها في يوم من الأيام “قطيعاً صغيراً” ولعلَّ اللاأرثوذكسيي الفكر سيكونون أكثر عدداً من الأرثوذكسيين. وقد ينتشر الهراطقة “في كل مكان” (ubique) وتنكفئ الكنيسة إلى خلفية التاريخ وتنسحب إلى الصحراء. وهذا ما حدث أكثر من مرة في التاريخ، ومازالت إمكانية حدوثه قائمة. ونقول بدقة إن في القانون الفكندياني نوعاً من الحشو والتكرار. فلفظة “الجميع” (omnes) يجب أن نفهمها وكأنها تشير إلى الأرثوذكسيين. في هذه الحالة يفقد هذا المقياس أهميته، إذ نكون قد عرَّفنا “الذات” (idem) “عن طريق الذات” (per idem). وعن أية ديمومة وعن أي حضور كلِّي يتحدَّث هذا القانون؟ وبِمَ ترتبط لفظتا “المكان” (ubique)، و”الزمان” (semper)؟ هل ترتبطان بخبرة الإيمان أم بالتحديدات الإيمانية التي تشير إليها؟ في الحالة الأخيرة تكون هذه الصيغة خطيرة، لأنها تخفِّض الإيمان إلى حدّه الأدنى ولأن التحديدات العقيدية لا تفي بمقتضيات “المكان” (ubique)، و”الزمان” (semper) بدقة.
فهل يكون التقيُّد بحرف الكتابات الرسولية ضرورياً؟ يبدو أن هذا القانون فرضية للتبسيط التاريخي ولبدائية ضارّة، أي إنه يجب أن لا نبحث عن مقاييس خارجية وشكلية للجامعيَّة ولا نفسِّرها بموجب شمولية تجريبية. إن التقليد القائم على المواهب شامل لأنه يضمّ كل أنواع “المكان” و”الزمان” ويوحِّد “الجميع”، لكن قد لا يقبله الجميع عملياً. في جميع الأحوال يجب أن لا نبرهن حقيقة المسيحية عن طريق “قبول الجميع” (أو الإجماع) (per consensum omnium)، لأن “الإجماع” لا يُثبت عادةً الحقيقة. فتكون هذه العملية بمثابة حالة نفسية حادة تحتل مكاناً في الفلسفة أكثر من اللاهوت.
بل إن الحق نفسه هو المقياس الذي نقوِّم به أهمية “الرأي العام”. يقدر عدد قليل من الناس، ربما بعض المعترفين بالإيمان فقط، أن يعبِّروا عن الخبرة الجامعة، وهذا يكفي. ونقول بالتحديد إننا لا نحتاج إلى اجتماع عام ومسكوني، ولا إلى اقتراح أو تصويت، ولا حتى إلى “مجمع مسكوني” لكي نعبِّر عن الحقيقة الجامعة ونعترف بها. فالكرامة المقدّسة للمجمع لا تكون في عدد الأعضاء الذين يمثِّلون كنائسهم فيه. فقد يظهر مجمع “عام” كبير نفسه أنه مجمع لصوصي أو مجمعٌ مرتدّ عن الإيمان. وفي أكثر الأحيان يبطله “شتات الكنيسة” (ecclesia sparsa) بمعارضته الصامتة. فعدد الأساقفة (numerus episcoporum) لا يحلّ المشكلة. إن الوسائل التاريخية والعلميَّة للاعتراف بتقليد مقدس وجامع قد تكون عديدة، ومنها دعوة المجامع المسكونية، إلى الانعقاد، ولكنَّها ليست الوسيلة الفريدة. هذا القول لا يشير إلى عدم ضرورة عقدة المجامع والمؤتمرات، فلعلّ الأقلية تحمل في كثير من الأحيان لواء الحق أثناء انعقاد المجمع، والأهم هو أن الحقّ يُعْلن في الكنيسة حتى من دون أن يلتئم أي مجمع. وكثيراً ما تحمل آراء آباء الكنيسة ومعلِّمي المسكونة قيمة روحية أكبر من تحديدات بعض المجامع. فهذه الآراء لا تحتاج إلى إثبات أو إلى “إجماع” بل إنها المقياس وأداة البرهان. ولذلك تشهد الكنيسة لها بقبولها (receptio) الصامت. وأهميتها الكبرى هي في الجامعيَّة الداخليَّة، لا في شمولية تجريبية. نحن لا نقبل آراء الآباء كخضوع شكلي لسلطان خارجي، بل لأنها الدليل الداخلي على حقيقتها الجامعة. بل لأنها الدليل الداخلي على حقيقتها الجامعة. إن جسد الكنيسة كلّه له حقّ إثبات الأمور، بل له واجب الشهادة لصحتها. بهذا الروح كتب البطاركة الشرقيون منشور عام 1848 وقالوا إن “الشعب نفسه” (o laos)، أي جسد الكنيسة، هو “المدافع عن الدين” (hyperaspistis tis thriskias). وقبل صدور هذا المنشور قال المتروبوليت فيلارت في كتابه عن التعليم المسيح، عندما أجاب عن هذا السؤال: “هل في التقليد المقدَّس كنز حقيقي؟” فقال: “إن الله يبني كلّ المؤمنين المتحدين جميعاً عبر الأجيال بواسطة تقليد الإيمان المقدس ليكونوا كنيسة واحدة. وهذه الكنيسة هي الكنز الحقيقي للتقليد المقدس أو عمود الحقيقة وقاعدته كما قال بولس الرسول” (1تيمو 3: 15).
إن قناعة الكنيسة الأرثوذكسية بأن الشعب بمجمله، أي جسد المسيح، هو “المدافع” عن التقليد والدين لا تقلِّل أبداً من قوة التعليم المعطاة للإكليروس. فهذه القوة المعطاة لهم هي وظيفة من وظائف الملء الجامع في الكنيسة. فهي قوّة تثبّت الإيمان وتوطّد التعبير عنه والنطق به وتقوّي خبرة الكنيسة التي حُفظت في الجسد كلّه. فالتعليم الذي يبشّر به الإكليروس هو فم الكنيسة: “إننا نركن إلى كلام المؤمنين، لأن روح الله ينفخ في كلّ واحد منهم” . لقد أُعطي لهم وحدهم أن يعلِّموا “بسلطان”، لأنهم لم ينالوا هذه القوة من جمهور المؤمنين، بل من رئيس الكهنة يسوع المسيح عندما وُضعت عليهم الأيدي. لكنَّ هذا التعليم تُعْرَف حدوده في تعبير الكنيسة كلّها. فالكنيسة مدعوة لأن تشهد لهذه الخبرة التي لا تُستنفد، لأنها رؤية روحية. يجب على الأسقف في الكنيسة (episcopus in ecclesia) أن يكون معلِّماً، لأنه تسلَّم سلطان التكلُّم باسم القطيع. والقطيع تسلَّم حق التكلّم من خلال الأسقف. وعلى الأسقف أن يحتضن كنيسته وأن يظهر خبرتها وإيمانها، حتى يحقِّق هذا الأمر. وعليه أن لا يتكلَّم من عنده، بل باسم الكنيسة “وعبر إجماعها” (ex consensu ecclesiae). وهذا القول يناقض الصيغة الفاتيكانيَّة التي تقول: “من ذاته لا من إجماع الكنيسة” (exsese, non autem ex consensu ecclesiae).
إن الأسقف لا يتلَّقى قوة التعليم من رعيته، بل من المسيح عبر التعاقب الرسولي. لكن أُعطيت له قوة الشهادة للخبرة الجامعة التي لجسد الكنيسة. فهو يلتزمها، ولذلك يحتكم المؤمنون إلى تعليمه فيما يخص مسائل الإيمان. أمَّا واجب الطاعة فيزول عندما ينحرف الأسقف عن القاعدة الجامعة، فللشعب حقّ اتّهامه، وحتى حقّ خلعه .
حرية وسلطة:
في الكنيسة الجامعة تزول الثنائية المؤلمة وينتفي التوتُّر القائم بين الحرية والسلطة، لأن السلطة الخارجية غير موجودة في الكنيسة. فالسلطة لا تقدر أن تكون مصدراً للحياة الروحية، لذلك تلجأ السلطة المسيحية إلى الحرية والإقناع عوضاً عن الإكراه، لأن الإكراه يبطل الوحدة الحقيقية في الفكر والقلب. لكنَّ هذا لا يدلُّ على أن كل ّ شخص قد تلقَّى حرية غير محدودة في التعبير عن رأيه الشخصي. “فالآراء الشخصية” يجب ألاَّ تكون موجودة في الكنيسة ولا يمكنها أن توجد فيها. وكلّ عضو في الكنيسة يواجه مشكلة مزدوجة. أولاً، يجب أن يسود ذاته وأن يحرِّرها من حدوده النفسية وأن يرفع مستوى ووعيه إلى ملء القياس “الجامع”. ثانياً، يجب أن يفهم ويتحسَّس روحياً الاكتمال التاريخي لخبرة الكنيسة. إن المسيح لا يُعلن عن نفسه لأفراد منعزلٍ بعضهم عن بعض، ولا يقتصر عمله على توجيه مصيرهم الشخصي. فهو لم يأت إلى الخراف المبعثرة، بل إلى الجنس البشري بأجمعه. وهكذا يتمّ عمله في ملء التاريخ، أي في الكنيسة.
كلّ التاريخ مقدّس في معنى من معانيه، لكن تاريخ الكنيسة مأساوي أيضاً. فالجامعيَّة أُعطيت للكنيسة ولذلك كانت مهمتها الأولى أن تحقِّقها. الحقيقة لا تُدرك من دون ألم وجهاد، لأن تجاوز الذات والأخصّاء ليس أمراً سهلاً. والشرط الأول في البطولة المسيحية هو الانسحاق أمام الله وقبول إعلانه. وقد أعلن الله عن نفسه في الكنيسة. هذا هو الإعلان النهائي الذي لا يزول. فالمسيح لا يُعلن نفسه لنا في عزلتنا، بل في علاقتنا الجامعة وفي اتحادنا. وهو يكشف عن نفسه ويُعلن أنه آدم الجديد ورأس الكنيسة ورأس الجسد. لذلك يجب أن ندخل حياة الكنيسة بتواضع وثقة وأن نحاول أن نكتشف أنفسنا فيها. ويجب أن نؤمن بأن ملء المسيح هو فيها وأن كل واحد منَّا أن يواجه صعوباته وشكوكه. لكننا نرجو ونؤمن بأن هذه الصعوبات ستنحلّ بجهد جامع موحَّد وبطولي وبعمل جريء. وكلّ عمل من أعمال الإلفة والوئام ممرّ نحو تحقيق الملء الجامع للكنيسة. وهذا يكون مرضياً في عيني الرب: “فأينما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، كنت هناك بينهم” (متى 18: 20).
الأب جورج فلوروفسكي
من كتاب :الكتاب المقدس والكنيسة والتقليد
 
قديم 30 - 06 - 2016, 05:05 PM   رقم المشاركة : ( 13375 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,381

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

سر الثالوث المقدس بحسب إعلان العهد الجديد

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
في العهد الجديد يعلن سر الثالوث الإلهي بجلاء تام من خلال آيات كثيرة وواضحة يمكن تقسيمها إلى المجموعات التالية التي تظهر:
1. ثلاثة أقانيم حقيقيين معاً.
2. ألوهية كل من الأقانيم الثلاثة.
3. وحدانية جوهر الأقانيم الثلاثة.
1. ثلاثة أقانيم حقيقيين معاً.
a. في كلمات الملاك جبرائيل للعذراء مريم حين بشّرها بالحبل بيسوع نجد الإشارة الأولى للأقانيم الثلاثة معاً في العهد الجديد “الروح القدس يحل عليكِ وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله” (لو1: 35).
b. تحدثنا الأناجيل الأربعة عن معمودية يسوع وتأتي أهمية هذه المعمودية بالدرجة الأولى بسبب ظهور سر الثالوث الأقدس ممثلاً بأشخاصه الثلاثة المتميّزين فيما بينهم بصورة جلية واضحة: الابن المتجسد الذي تعمّد، الروح القدس الذي ظهر بهيئة حمامة نازلاً على الابن، الآب الذي أعلن عن ذاته وعن أبوته للابن بصوته من السماء (متى3: 16، مر1: 10-11، لو3: 21-22، يو1: 33-34).
c. في خطبة يسوع الوداعية الموجهة للرسل بعد عشائه معهم نجده يحدثهم مراراً عديدة عن الآب وعن الابن وعن الروح القدس، نستشهد خاصة بهاتين الآيتين اللتين يذكر في كل منهما الأقانيم الثلاثة معاً وبصورة متميّزة. “وأما المعزي روح القدس الذي يرسله الآبباسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم” (يو14: 26) كذلك في (يو14: 16-17).
d. “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (متى28: 19). في هذه العبارة التي يوجز بها المخلّص رسالة الرسل قبل إنطلاقهم للبشارة تظهر أسماء الأقانيم الثلاثة معاً وبدون شرح إضافي مما يؤكد عل أن الرسل كانوا يعلمون عن سر الثالوث الأقدس بما فيه الكفاية من تعليم الرب يسوع وأن هذا السر هو قمة وجوهر هذا التعليم.
e. نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله الآب وشركة الروح القدس مع جميعكم (2كو13: 14) هذا ما يختم به بولس الرسول رسالته إلى أهل كورنثوس طالباً من أجلهم بركة الأقانيم الثلاثة المذكورة معاً بوضوح تام.
f. والقديس بولس يبدأ رسالته الأولى بطلبه من أجل المرسل إليهم يظهر فيها أسماء الأقانيم الإلهيين الثلاثة بتميّز جلي ” بِمقتضى عِلْمِ اللهِ الآب السَّابِقِ، فِي تَقْدِيسِ الرُّوحِ لِلطَّاعَةِ، وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. لِتُكْثَرْ لَكُمُ النِّعْمَةُ وَالسَّلاَمُ” (1بط1: 2).
2. ألوهة كل من الأقانيم الثلاثة:
• ألوهة الآب: ليس من حاجة لتقديم آيات كتابية كدليل على اعتراف الكتاب المقدس البديهي بألوهة الآب. لأن جميع من قبلوا هذا الكتاب، بما فيهم الهراطقة، أقرّ،ا بدون جدال، بهذه الحقيقة لذا من بين الآيات التي لا حصر لها، نكتفي هنا بإيراد آيتين صغيرتين تلخصان أبوة الآب للابن، كذلك أبوته للمؤمنين وألوهته لجميع البشر بمن فيهم ابنه الإلهي المتجسد كابن للبشر “مبارك أبو ربنا يسوع المسيح…” (أف1: 3). “اذهبي إلى أخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم” (يو20: 17).
• ألوهة الابن: رأينا في دروسنا السابقة أن يسوع المسيح الابن الوحيد للآب وكلمته المتجسد، هو مركز العهد الجديد كما كان مركز العهد القديم قبل أن يتجسد. إذ أن كل ظهور للثالوث الأقدس وكل إعلان عن مشيئته تم به “الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبّر” (يو1: 18).
لذا فمن البديهي أن الشواهد التي تؤكد ألوهيته كثيرة للغاية وقاطعة وأن التسبت بهذه الألوهة على بعض الهراطقة بسبب نسبة الكتاب المقدس إليه في بعض الأماكن صفات الطبيعة البشرية المخلوقة التي اتحد بها. في السطور الآتية نقدّم بعض هذه الشواهد:
a. بنوة حقيقة للآب وليست مجازية:
إن إعلان العهد القديم الجازم لبنوة الابن الحقيقية “… الرب قال لي أنت ابني أنا اليوم ولدتك” (مز2: 7) “من البطن قبل كوكب الصبح أنا ولدتك” (مز106: 13) (أش9: 6 ). يلتقي مع إعلان العهد الجديد لبنوة الابن ذاته الذي تجسد. والتي يقصد بها في العهد الجديد صدور طبيعة الابن أزلية عن طبيعة الآب ولهذا فهذه البنوة تختلف جوهرياً عن تسمية الملائكة أو البشر المؤمنين أحياناً كأبناء لله (ايوب1: 6) و (لو3: 38، مز82: 6) و (1يو3: 1) ومن يقرأ الكتاب المقدس بموضوعية يظهر له سريعاً الفرق الواضح بين البنوتين فمثلاً الرسالة إلى العبرانيين وهي تؤكد ألوهة الابن تنفي صفة البنوة الحقيقية عن الملائكة “لأنه لمن من الملائكة قط قال أنت ابني وأنا اليوم ولدتك…” (عبرانيين1: 5) كذلك تُظهر الرسالة إلى أفسس أن بنوة القديسين لله هي مجرد تبني بيسوع المسيح (أف1: 5) بينما تؤكد جميع شهادات الكتاب المقدس بنوة الرب يسوع الطبيعية والفريدة لله الآب “الروح القدس يأتي عليك وقدرة العلي تظللك، من أجل ذلك فالقدوس الذي يولد منك يدعى ابن الله” (لو1: 35).
o الآب يعترف ليسوع وحده من بين كل البشر أثناء معموديته وتجليه أنه ابنه الحبيب (متى3: 17، مر1: 19، متى17: 5، لو9: 35). المسيح ذاته يجيب بالإيجاب على سؤال رئيس الكهنة “أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله” (متى26: 64) وهو يعلم تماماً أن قيافا يقصد من طلبه هذا أن يسلمه إلى الموت بسبب اعترافه ببنوة وضعية طبيعية وليست مجازية. كما أنه لو كانت بنوة المسيح مجازية لما كان سأل الأعمى أتؤمن بابن الله؟ ولما كان أكّد له عندما سأله من هو يا سيد لأومن به: “قد رأته والذي يتكلم معك هو هو” (يو9: 35-38).
o القديس بطرس ينال مديح السيّد “طوبى لك يا سمعان بن يونا. إن لحماً ودماً لم يعلنا لك لكن أبي الذي في السموات” عندما أجاب “أنت هو المسيح ابن الله الحي” (متى16: 15-17).
o الإنجيلي يوحنا يشدّد وفي أكثر من مناسبة على فرادة بنوة الابن حين يضيف إليها حصراً كلمة “الوحيد” “لأنه هكذا أحب الله والعالم حتى يبذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 16: 18 أنظر أيضاً يو1: 14، 18، يو20: 30، 31).
b. تأكيدات مشدّدة على حقيقة ألوهته:
o إله حقيقي “ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية” (1يو5: 50).
o إله عظيم “منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد إلهنا العظيم ومخلصنا يسوع المسيح” (تيطس2: 13).
o إله حكيم “وملك الدهور الذي لا يفنى ولا يرى الإله الحكيم وحده له الكرامة والمجد إلى دهر الدهور أمين” (1تيمو1: 7).
o إله مبارك “ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد” (رو9: 5).
o هو الله نفسه “في البدء كان الكلمة وكان الكلمة عند الله وكان الكلمة الله” (يو1: 1)
…………….”لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه” (أع20: 28).
…………….”… عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد” (1تيمو3: 16).
o ربّ الأرباب “والحمل يغلبهم لأنه ربّ الأرباب وملك الملوك” (رؤ17: 14 قارن تثنية 10: 17).
c. مساواة تامة مع الآب:
o لأنه لم ينقض السبت فقط بل قال أيضاً أن الله أبوه معادلاً نفسه بالله (يو5: 18).
o إذ كان في صورة الله لم يحسب نفسه خلسة (غنيمة) أن يكون معادلاً لله (فيليبي2: 6).
o أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل (يو5: 33).
o كل ما للآب هو لي (يو16: 15 أنظر أيضاً 17: 10).
o لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك (يو5: 19).
o لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب (يو5: 23).
d. صفات وأعمال إلهية تامة:
o حياة في ذاته “لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته” (يو5: 26).
o الأزلية “الحق الحق أقول لكم قبل أن يكون ابراهيم أنا كائن” (يو8: 58) قارن كلمة “كائن” هنا مع كلمة الله لموسى حين تجلى له في العليقة “الكائن أرسلني إليكم” (خروج3: 13-14) أنظر (ميخا5: 3) “ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل”.
o السرمدية “هي تبيد وأنت تبقى وكلها كثوب تبلى وكرداء تطويها فتتغير ولكن أنت أنت وسنوك لن تفنى” (عب1: 11-12).
…………” وملك الدهور لا يفنى ولا يرى الإله الحكيم وحده له الكرامة والمجد إلى دهر الداهرين” (1تيمو1: 17).
o الحضور في كل مكان “لم يصعد أحد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء” (يو3: 13).
o الخلق والعناية الإلهية “وأنت يا رب في الأرض والسموات هي عمل يديك” (عب1: 10).
………………………”فإن فيه خلق الكل ما في السموات وما على الأرض وما لا يرى سواء أكان عروشاً أم سلاطين أم سيادات أم رئاسات الكل به وله قد خلق. الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل” (كولو1: 16-17).
o المعرفة التامة “أما يسوع فلم يأتمنهم على نفسه لأنه كان يعرفهم جميعاً ولم يكن مفتقراً إلى شهادة أحد عن الإنسان لأنه هو نفسه كان عالماً بما في الإنسان” (يو2: 24-25).
…………….”… والمسيح المذخّر به جميع كنوز الحكمة والعلم” (كولو2: 2-3 أنظر متى 11: 27).
o السلطة الإلهية الكاملة – السلطة التشريعية “قد سمعتم أنه قيل للقدماء… أما أنا فأقول لكم” (متى5: 21: 43). واضح أن الذي قال للقدماء هو الله نفسه الذي أعطاهم الوصايا التي ذكرها يسوع (خرو20) ولذلك فسلطة يسوع الذي يكمل هذه الوصايا مساوية لسلطة الذي أعطاها.
o السلطة على مغفرة الخطايا “ولكن لكي تعلموا أن ابن البشر له سلطة على الأرض لكي يغفر الخطايا…” (لو5: 24).
o السلطة على الحياة والموت “لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحي كذلك الابن أيضاً يحي من يشاء” (يو5: 21).
o الدينونة “لأن الآب لا يدين أحداً بل أعطى كل الدينونة للابن” (يو5: 22).
• ألوهة الروح القدس: تتوضح حقيقة شخصانية الروح القدس الإلهية بشكل قاطع في العهد الجديد، فهو من جهة يحمل كل الصفات التي تميز الأشخاص-الأقانيم-، ومن جهة أخرى يحمل كل الصفات والأعمال التي تميز الله.
a. صفات لا يمكن أن تطلق إلا على شخص-أقنوم:
o يعزّي، يعلّم، يذكّر: “وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم” (يو14: 26).
o يرشد، يتلكم، يتنبأ “وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع به يتكلم به ويخبركم بأمور آتية” (يو16: 13).
o يشهد “ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي” (يو15: 26).
……..”غير أن الروح القدس يشهد في كل مدينة قائلاً ً: إنَّ وثقاً وشدائد تنتظرني…” (أع20: 23).
……..”الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله” (رو8: 16).
o يقيم أساقفة “احترزوا إذن لأنفسكم وعلى جميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة…” (أع20: 28).
o يشفع “ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنّات لا ينطق بها” (رو8: 26).
b. صفات وأعمال إلهية تامة:
o هو الله ذاته “لماذا ملأ الشيطان قلبك لتكذب على الروح القدس أنت لم تكذب على الناس بل على الله” (أع5: 3-4).
………….. في الرسالة إلى أهل كورنثوس يقول القديس بولس: “وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل” (1كو12: 6). ثم يعدد هذه الأعمال ويختمها يقوله: “ولكن هذه كلها يعملها الروح القدس بعينه قاسماً لكل واحد كما يشاء” (اكو12: 11) مما يدل على أن الروح القدس بنظر بولس هو الله. لزيادة التأكيد أنظر العدد 28 في نفس الإصحاح.
o الحضور في كل مكان “وأنتم فلستم بالجسد بل فيالروح إن كان روح الله ساكن فيكم” (رو8: 9، 11: 14).
……………………..”أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله” (اكو6: 19).
o الولادة الروحية والخلق “إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو3: 5).
………………………..”روح الله صنعني ونسمة القدير أحيتني” (أيوب 3: 5).”
………………………..”ترسل روحك فيخلقون وتجدد وجه الأرض” (103: 30).
o المعرفة التامة “أما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء…” (يو14: 26).
………………”هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله” (1كو2: 11).
o الكرامة الإلهية التامة “الحق أقول لكم أن جميع الخطايا تُغفر لبني البشر والتجاديف التي يجدفونها، ولكن من جدّف على الروح القدس فليس له مغفرة إلى الأبد بل هو مستوجب دينونة أبدية” (مر1: 28-29) و (متى12: 31-32).
o القدرة على كل شيء “فإنه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة والآخر كلام علم بحسب الروح الواحد… ولأخر عمل قوات ولأخر نبوة ولآخر تمييز الأرواح ولأخر أنواع ألسنة ولآخر ترجمة ألسنة. ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه قاسماً لكل واحد بمفرده كما يشاء” (1كو12: 8-11).
o السلطة على الحياة والموت “وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم” (رو8: 44).
3. وحدانية جوهر الأقانيم الثلاثة:
سر الله الأبعد عن الإدراك ليس في التثليث بمقدار ما هو في وحدانية جوهر الأقانيم الثلاثة. الله واحد. وهذه الوحدة حقيقة مطلقة لا تقبل انقساماً أو انفصالاً. ولذلك مع أن كلاًّ من الأقانيم الثلاثة هو إله حق إلا أنه بسبب وحدة الجوهر التي ينتج عنها: وحدة الطبيعة وحدة الصفات وحدة الإرادة، وحدة الأعمال، فالأقانيم الثلاثة معاً هم إله واحد بكل ما في هذه الكلمة من معنى.
a. وحدانية جوهر الابن مع الآب:
إن بنوة الابن الطبيعية للآب ليست بمفهوم الكنيسة سوى وحدة الطبيعة الإلهية عند الآب والابن أو تماثل جوهرهما “نور من نور، إله حق من إله حق” وهو مفهوم الكتاب المقدس ذاته “أنا والآب واحد” (يو10: 30)، “الذي رآني فقد رأى الآب” (يو14: 9) هاتان الآيتان مع كثير غيرهما (راجع يو5: 18، 10: 38، 14: 10-11، 16: 15، 17: 10 الخ…) نطق بها يسوع لإثبات وحدانية جوهره مع الآب وهي ذات معنى حقيقي لا مجازي كما يدّعي البعض، والدليل أنه حين قال العبارة الأولى لم ينكر عليهم هذا التفسير بل ثبته إذ قال: “إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي ولكن إن كنت أعمل فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيّ وأنا فيه” (يو10: 37-38).
إذن ما رأيناه أيضاً من تشديد على ألوهة الابن في العهد الجديد لا يعني بالنتيجة سوى أن اللاهوت أو الجوهر ذاته الذي للآب، وهو ما يتوضح كذلك من عبارات كتبها الرسل بمناسبات مختلفة عن الرب يسوع “فإن فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً” (كولو2: 9)، “الذي وهو بهاء مجد ورسم جوهره” (عبرانيين1: 3)، “صورة الله غير المنظور” (كولو2: 5) (فيلبي2: 6) الخ…
b. وحدانية جوهر الروح القدس مع الآب:
إن ما ينطبق على الابن في علاقته مع الآب ينطبق على الروح القدس في علاقته مع الآب ذاته. مع الفارق أن الابن يولد من الآب بينما الروح القدس ينبثق منه (يو16: 26) هذا ما تثبته بصورة خاصة العبارة التالية للرسول بولس: “لأن مَنْ مِنَ الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله” (اكو2: 11) والتي تشدّد على أن الروح القدس وحده عنده معرفة كاملة عن الله بينما نجد في الأناجيل أنه “ليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن” (متى11: 27/ لو10: 22، يو1: 18، 6: 46، 10: 15). إذاً فالروح القدس كالابن مساوٍ للآب أو عنده الجوهر الإلهي الواحد، وخصوصاً أن كلمة “روح الله” نفسها تدل على أنه ليس من العدم بل هو من جوهر الله ومستقر فيه.
c. وحدانية جوهر الأقانيم الثلاثة معاً:
نجد ذلك في إشارة الرسل إلى رؤيا أشعياء النبي التي تحدثنا عنها سابقاً. أشعياء يسمي السيد الجالس على العرش رب الجنود (اش6: 5) بينما يوحنا الإنجيلي يعلن أن أشعياء قد رأى مجد الابن (يو12: 41) أمّا بولس الرسول فيقول أن من كلّم أشعياء النبي كان الروح القدس (أع28: 25) هذا كله لا يمكن تفسيره إلا بأن من رآه أشعياء كان مجد الإله الواحد المثلث الأقانيم.
كما أن عبارة “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (متى28: 19) والتي أشرنا إليها سابقاً تبرز أيضاً حقيقة الجوهر الإلهي الواحد، لأن الرب يسوع عندما ذكر الأقانيم الثلاثة المتميزين فيما بينهم لم يقل عمدوهم بأسماء الآب والابن والروح القدس كثلاثة آلهة منفصلين بل استعمل تعبير باسم أي بقوة أو سلطان الله الوحيد الثلاثي الأقانيم الذي عنده الطبيعة الإلهية الواحدة.
d. وحدانية قوى وأعمال الأقانيم الثلاثة:
.إن ما يؤكد كذلك وحدانية جوهر الأقانيم الثلاثة، هو الإعلان الإلهي لوحدة قوى (مواهب) وأعمال هذا الجوهر الواحد وهو ما يلخصه بولس الرسول بقوله “فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد وأنواع خدم موجودة ولكن الرب واحد وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل” (1كو12: 4: 6)
الاب الدكتور: جورج عطية
 
قديم 30 - 06 - 2016, 05:09 PM   رقم المشاركة : ( 13376 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,381

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

الفكر الكتابي المفقود

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
“موافقاً للحقيقة التي في يسوع”
(افسس 4: 21)

يُفترض بكهنة المسيح ألا يبشِّروا، من منبر الوعظ على الأقل، بأفكارهم الخاصة لأن الأيدي تُوضع عليهم في الكنيسة للتبشير بكلمة الله. فيُسلَّم إليهم إنجيل يسوع المسيح وتُودع عندهم الرسالة الخالدة والفريدة. لذلك يُنتظر منهم نشر “الإيمان الذي أُعطي للقديسين” وحفظه. لكنَّ التبشير بكلمة الله يجب أن يكون “فعلاً” وأن يحمل القناعة والولاء لكلِّ جيل ولكلِّ جماعة. ولذلك قد تُصاغ كلمة الله من جديد، إذا ما تطلَّبت الظروف ذلك. ولكن يجب المحافظة، قبل كل شيء، على هويَّة هذه الرسالة.
على المرء أن يتحقَّق أنه يبشِّر بالإنجيل نفسه الذي سُلَّم إليه وأنه لا يأتي “بإنجيل غريب” من عنده، لأنه لا يقدر أن يكيِّف كلمة الله بسهولة، وفق عادات عصر سريعة الزوال ووفق مواقف عصر معيَّن، بما في ذلك عادات عصرنا ومواقفه. فكثيراً ما ننزع، مع الأسف، إلى قياس كلمة الله بمقياس منزلتنا وقامتنا، بدل أن نفحص أفكارنا ونقيسها بمنزلة المسيح الرفيعة، إذ إن “الفكر الحديث” نفسه خاضع لحكم كلمة الله.
الإنسان المعاصر والكتاب المقدس:
إن المصاعب الكبيرة تنشأ من ذات هذه النقطة. فأكثرنا فَقَدَ استقامة الفكر الكتابي المفقود، رغم محافظته على بعض أساليبه. إن الإنسان المعاصر يتذمَّر كثيراً، لأن الحقيقة الإلهية تُقدَّم له في مصطلح “قديم” – أي في لغة الكتاب المقدس – لم يعد يستخدمه بشكل عفوي. ولذلك اقترح بعضهم مؤخراً أن “ينزع العنصر الأسطوري” (demythologize) عن الكتاب وأن تُبدَّل أساليبه القديمة بأخرى حديثة. لكن السؤال الذي لا نقدر أن نهرب منه هو: هل لغة الكتاب المقدس غلاف خارجي عَرَضي تستخرج منه “أفكار أبدية”، أم أنها عربة أبدية للرسالة الإلهية التي أُعلنت مرّة وإلى الأبد؟
إننا سنقع في خطر خسارة فرادة كلمة الله أثناء عملية “إعادة التفسير” المستمرة. ومهما كانت الطريقة، فكيف نقدر أن نفسِّر الكتاب المقدَّس ما دمنا قد نسينا لغته الأصلية؟ أوَلا تنبعث فينا ثقة أكبر، إذا ما وجَّهنا تفكيرنا إلى البنى الفكرية الموجودة فيه، وتعلَّمنا لغته من جديد؟ إن الإنسان لا يقدر أن يتلقَّى الإنجيل ما لم يتب، ما لم “يغيِّر ذهنه”، لأن التوبة (metanoia) في لغة الكتاب لا تعني الإقرار بالخطايا والندم عليها فقط، بل تعنى “تغيير الذهن”، أي تغييراً عميقاً لفكر الإنسان وموقفه العاطفي وتجديد ذاته الذي يبدأ بنكران الذات ويتحقَّق بختم الروح القدس.
إننا نعيش اليوم في عصر من الفوضى الفكرية والتفسّخ. ولعلَّ موقف الإنسان المعاصر غير محدَّد بعد، لأن تعدَّد أفكاره تبعده عنه كل أمل في التوفيق بينها. ولذلك قد يكون “الإيمان الذي سُلِّم إلى القديسين” المَعْلَم الوحيد الذي يمكنه أن يرشدنا وسط الضباب الفكري في عصرنا اليائس، على الرغم من أن هذا الإيمان سيظهر لنا مُماتاً ومهجوراً مثل لغة الكنيسة الأولى، إذا ما حكمنا عليها بمقاييسنا الزائلة.
بشِّروا بدساتير الإيمان:
بِمَ سنبشّر؟ وبِمَ سأعلِّم أبناء عصري “في عصر كهذا”؟ لا مجال للتردد: إني سأبشِّر بيسوع مصلوباً وقائماً من بين الأموات وسأعلِّم الذين دعاني الله أن أنقل لهم رسالة الخلاص كما وصلتني عبر التقليد غير المنقطع في الكنيسة الجامعة. لن أحصر نفسي في تعاليم عصري، أي أنني سأعلِّمهم “عقائد دستور الإيمان”.
أَعْلَم عِلْم اليقين أن دساتير الإيمان عقبة أمام الكثيرين في جيلنا الحاضر، “لأن الدساتير رموز تُحترم قدر الاحترام الأعلام البالية على حوائط الكنائس المحلِّية ولأنها مفيدة لنضال الكنيسة اليوم في آسيا وأفريقيا وأوربا وأميركا بمقدار ما يكون الفأس أو “القرابينة” مفيدين في يدي جندي حديث”. هذا ما كتبه منذ سنوات باحث بريطاني شهير وقسيس ورع. وقد لا يكتب اليوم هذه الكلمات، لكننا نجد من يتبنَّى من أعماق القلب تصريحاً كهذا لأنه يجب علينا ألاَّ ننسى أن دساتير الإيمان الأولى تستخدم أسلوب الكتاب المقدس مما يجعلها صعبة على الإنسان المعاصر.
ما زلنا إذاً نواجه في أيامنا المشكلة نفسها: ماذا نقدر أن نقدِّم بدل الكتاب المقدَّس؟ أنا أُفضِّل لغة التقليد، لا “لمحافظةٍ” كسولة أو ساذجة ولا “لطاعةٍ” عمياء “لسلطان خارجي”، بل لأنني لا أقدر أن أجد طريقة أفضل للتعبير. إنني مستعد أن أعرِّض نفسي لتهمة لا مفرَّ منها وهي أنني متعلق “بكلِّ قديم” ومؤمن “بالعصمة الحرفية” (fundamentalist)، لكنني سأجيب عن هذه التهمة وأقول إنها خاطئة ولا مبرِّر لها، لأنني أحافظ على “عقائد الإيمان” وأتمسَّك بها بكلِّ ضمير حي من كل قلبي، وأدرك عن طريق الإيمان أنها تلائم دائماً كل الأمكنة والعصور، بما في ذلك “عصر كهذا”، وأؤمن بأنها قادرة على إعادة جيل يائس كجيلنا إلى الشجاعة والرؤية المسيحيتين.
التقليد حيّ:
“ما الكنيسة متحفاً للودائع الميتة أو جمعية للبحث العلمي”، لأن ودائعها حيَّة (depositum juvenescens) على حدِّ تعبير القديس ايريناوس. فإيمانها ليس من بقايا الماضي، بل هو “سيف الروح”. وما يجب أن بنشِّر به اليوم هو إعادة العالم إلى المسيحية. فهو المخرج الأوحد من هذا الطريق المسدود الذي سيق إليه العالم من جرَّاء إخفاق المسيحيين أن يكونوا مسيحيين حقيقين.
إن العقيدة المسيحية لا تعطي جواباً مباشراً على أيِّ سؤال عملي في حقل السياسة أو الاقتصاد، تماماً كما يفعل إنجيل المسيح. غير أن تأثيرها في مجرى التاريخ الإنساني كان عظيماً. فإن الإعتراف بكرامة الإنسان وقيمته وبالرحمة والعدالة تنبع كلُّها من الإنجيل. حتى إننا لا نقدر أن نبنى العالم الجديد إلا ببناء الإنسان الجديد.
ماذا عنى مجمع خلكيدونية؟:
ما هو المدلول الحقيقي لعبارة “وصار بشراً”؟ وبكلام آخر، من كان يسوع، المسيح والرب؟ وماذا عنى مجمع خلكيدونية عندما قال إن المسيح “إنسان تام” “وإله تام”، ولكنه “أقنوم واحد”؟ ينزع “الإنسان المعاصر” إلى انتقاد هذا التحديد الذي أورده مجمع خلكيدونية، لأنه يخفق في أن يحمل له أي معنى. فما هذه “اللغة الإيمانية” إلاَّ قطعة أدبية عنده، ولعلَّها لا تعني له شيئاً. إنني أعتقد بأن كلَّ هذا الموقف خاطئ، لأن “تحديد” هذا المجمع ليس تحديداً ما ورائياً. ولم يُعتبر هكذا قط، لأن سرَّ التجسد ليس “معجزة ميتافيزيقية”. إن تحديد مجمع خلكيدونية تحديد إيماني، ولذلك لن يُفهم إذاً ما اقتُطع من خبرة الكنيسة. فهو “تحديد وجودي”.
إن صيغة مجمع خلكيدونية كِفاف عقلي للسرّ الذي يُدرَك عن طريق الإيمان. فمخلصنا ليس إنسان فقط، بل الإله نفسه. هنا يقع التشديد الوجودي لصيغة هذا المجمع. إن مخلصِّنا الذي “تنازل”، والذي “صار بشراً” قد وحَّد نفسه مع الناس مشاركاً في الحياة والطبيعة الإنسانيتين. فالمبادرة لم تكن إلهية فقط، بل أن زعيم الخلاص كان شخصاً إلهياً. وكمال طبيعة المسيح الإنسانية يشير إلى حقيقة هذا الاتحاد الخلاصي واستقامته، أي إن الله دخل التاريخ البشري وصار شخصاً بشرياً.
هذا الأمر يبدو غريباً ومحاطاً بسرٍّ. “ولا شك أن سرَّ الألوهة عظيم، لأن الله ظهر بالجسد”. لكنَّ هذا السرَّ إعلان إلهي، لأن سرّ شخص الله أُعلن في التجسد. فاهتمَّ الله بمصير الإنسان إهتماماً صميماً (وخاصة مصير كلٍّ من “هؤلاء الصغار”)، حتى إنه دخل بشخصه فوضى الحياة الضائعة وبؤسها. وما العناية الإلهية مجرَّد هيمنة قوية على الكون تصدر عن بعد، بل إفراغ الله لمجده “وتجرّد عن ذاته”. فهناك علاقة شخصية بين الله والإنسان.
مأساة تحت ضوء جديد:
تظهر المأساة الإنسانية كلّها تحت ضوء جديد، لأن سرّ التجسد كان سرّ المحبة الإلهية، سرّ الاندماج الإلهي في الإنسان الضال. قمة هذا التجسد هو الصليب الذي كان نقطة تحوِّل في مصير الإنسان. والسرّ الرهيب لهذا الصليب لا يُفهم إلاَّ من منظور خريستولوجي واسع، أي إذا آمنّا بأن المصلوب كان حقاً “ابن الله الحي”. وموت المسيح كان دخول الإله شخصياً بؤس الموت الإنساني وشقاءَه وكان نزولاً إلى الجحيم. وهذا يعني نهاية الموت وتدشين حياة الإنسان الأبدية.
مذهلٌ الترابط الذي نجده في جسم العقيدة التقليدي والذي لن ندركه إلاَّ بالإيمان الحي وبالمشاركة الشخصية مع الإله الشخصي. فالإيمان وحده يجعل الصيغ الإيمانية مقنعة ويعطيها الحياة. “يبدو هذا الأمر غريباً، لكنَّ خبرة متتبعي الأمور الروحية تقول إن الإنسان لا يكتسب فائدة من الأناجيل ما لم يكن أولاً في حب مع المسيح”، لأن المسيح ليس نصّاً، بل شخصاً حيّ يقيم في جسده، أي في الكنيسة.
نسطورية جديدة:
يبدو اقتراح التبشير بعقيدة خلكيدونية في “عصر كهذا” سخيفاً. لكنني أؤمن بأن الحقيقة التي تشهد لها هذه العقيدة بنفسها قادرة على أن تغيِّر نظرة الإنسان المعاصر الروحية، لأنها تعطيه حرَّية حقيقية. فالإنسان ليس وحيداً في هذا العالم، لأن الله يهتم بأحداث التجسد. وهذا ما يبطل الزعم بأن المجادلات الخريستولوجية لا تمتُّ بصلة إلى الأوضاع الحاضرة. والحق، أنها تتردَّد وتتكرَّر في خلافات عصرنا. فالإنسان المعاصر مجرَّب بوعي وبغير وعي في الوصول إلى التطرف النسطوري، أي في عدم إلتزام التجسد بجدٍّ واهتمام. فهو لا يجرؤ على الإيمان بأن المسيح شخص إلهي، ولذلك يطلب مخلِّصاً إنسانياً يتلقى العون من الله. إنه يصرف إهتمامه إلى السيكولوجية الإنسانية عند المخلِّص، ولا يبالي بسرّ المحبة الإلهية، لأنه في التحليل الأخير يؤمن بكل تفاؤل بمنزلة الإنسان الرفيعة.
مونوفيزية جديدة:
في النقيض الثاني هناك اليوم إحياء للميول “المونوفيزية” في اللاهوت والدين، وذلك عندما يُعتبر الإنسان كائناً سلبياً، أي عندما يُسمح له أن يسمع ويصغي ويأمل فقط. فالتوتر القائم اليوم بين “التحرريَّة” (Liberalism) والأرثوذكسية الجديدة (Neo-orthodoxy) هو تكرار للصراع الخريستولوجي القديم على صعيد وجودي جديد وبطريقة روحية جديدة. وهذا الصراع لن يُحسم في الحقل اللاهوتي إلاَّ باكتساب رؤية أوسع.
كانت بشارة الكنيسة الأولى لاهوتية، ولم تكن تأملاً فكرياً عقيماً. فالعهد الجديد كتاب لاهوتي. ولذلك كان إهمال اللاهوت في التربية المعطاة للعلمانيين في أيامنا هذه مسؤولاً عن فقدان الوعي الديني عندهم وعن الإحساس بالخيبة التي تسود المزاج المعاصر. ما نحتاج إليه في المسيحية “في عصر كهذا” هو اللاهوت الوجودي السليم، لأن الإكليروس والشعب يتعطشان إلى اللاهوت. فالناس يلجأون إلى تبني “إيديولوجيات غريبة” ويدمجونها بمعتقدات إيمانية تقليدية، لأننا لا نبشِّر عادة باللاهوت الصحيح. واللجوء إلى “أناجيل منافسة” في أيامنا يعود إلى كونها تقدِّم لاهوتاً كاذباً ومنهجاً عقائدياً منحولاً. ومع ذلك يتقبلها بسرور أولئك الذين لا يجدون أي لاهوت في المسيحية المخفّضة و”المنقوصة” ذات الأسلوب “الحديث”. قال لاهوتي إنكليزي عن الخيار الوجودي الذي يواجهه الكثيرون في أيامنا إنه خيار بين “العقيدة والموت”. وبما أن الزمن اللاعقيدي وعصر الفلسفة الذرائعية قد ولّيا فيجب على الكهنة أن يبشِّروا من جديد بعقائد الإيمان أي بكلمة الله.
الأزمة المعاصرة:
إن المهمة الأولى للمبشّر في عصرنا هي “إعادة بناء الإيمان” الذي لا يتحقق بمسعى عقلي، لأن الإيمان مصوَّر جغرافي عن العالم الواقعي يجب ألاَّ نخلطه بالواقع. وبما أن الإنسان المعاصر متعلِّق بأفكاره وقناعاته ووجهات نظره وردَّات فعله فقد عجَّلت الإنسانويّة (Humanism) في حدوث الأزمة، التي يرجع سببها إلى إعادة اكتشاف العالم الواقعي الذي نؤمن به. والوجه الحاسم لهذه الواقعية الروحية الجديدة هو اكتشاف الكنيسة من جديد، حيث لا يُحجب الحقيقية وراء حائط أفكارنا، بل تكون سهلة المنال. وهكذا يدرك الإنسان أن الكنيسة ليست جماعة مؤمنين فحسب، بل “جسد المسيح”. وهذا اكتشاف لأبعاد جديدة ولحضور دائم للمخلِّص الإلهي وسط قطيع المؤمنين. هذا الاكتشاف يلقى فيضاً من النور على بؤس وجودنا المفكَّك في عالم قد تعلمن “وتَدَنْيا” كلياً. أخذ كثيرون من الناس يوقنون أن الحلّ الحقيقي لكل المشاكل الاجتماعية يكمن في إعادة بناء الكنيسة. لذلك، يجب علينا أن نبشِّر في “عصر كهذا” “بالمسيح التام”، “بالمسيح والكنيسة” touts Christus, caput et corpus على حد تعبير أوغسطين. قد يكون هذا النوع من التبشير غير مألوف، لكنني أعتقد بأنه الأسلوب الأوحد للتبشير الفعلي بكلمة الله في عصر من اليأس والتشاؤم كعصرنا الحاضر.
صلة الآباء الوثيقة بعصرنا:
يعتريني شعور غريب عندما أقرأ مؤلفات آباء الكنيسة، إذ أجدها وثيقة الصلة بمشاكل عصري، أكثر من مصنفات اللاهوتيين الحديثين، لأنهم كانوا يتصارعون مع المشاكل الوجودية ومع إعلانات الله الأزلية التي دُوِّنت ووُضعت في الكتاب المقدس. إنني أجازف باقتراح يقول إن القديس أثناسيوس والمغبوط أوغسطين هما عصريان أكثر بكثير من لاهوتيين معاصرين. والسبب بسيط: فهما يتناولان الأمور نفسها ولا يتناولان الخرائط ولا يشدِّدان على معتقدات الإنسان قدر تشديدهما على هبات الله الممنوحة للإنسان. واجبنا في “عصر كهذا” أن نوسِّع منظورنا ونعترف بمعلِّمي الماضي ونحاول أن نجد تأليفاً وجودياً للخبرة المسيحية.
كُتِبَ هذا المقال عام 1951
الأب جورج فلوروفسكي
من كتاب :الكتاب المقدس والكنيسة والتقليد
 
قديم 30 - 06 - 2016, 05:12 PM   رقم المشاركة : ( 13377 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,381

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

التعليم الآبائي عن سر الثالوث

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
سر الثالوث الأقدس الذي تؤمن به الكنيسة لم يكن إذاً نتاج فكر بشري ولا حصيلة تأثيرات دينية أو فلسفية خارجية متأخرة، وإنما كان أساس بشارة الرسل ذاتها التي عاشوها ونقلوها هم أنفسهم كخبرة تأله وحياة “الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً” (1يو1: 3-4).
1. تعليم كنيسة القرون الأولى:
دليلنا على هذا الكلام ليس فقط آيات الكتاب المقدس التي قدّمت نماذج عنها، بل أيضاً كل ما وصل إلينا من تعليم كنسي خلال القرون الأولى.
a. دساتير الإيمان القديمة:
o وهي الصيغ المختصرة التي كان يلفظها الذين كانوا يتقدّمون من سر العماد المقدس أو الذين كانوا يريدون أن يعبّروا بطريقة أو بأخرى عن إيمانهم المسيحي. وبالرغم من كثرة الدساتير بسبب تعدد الكنائس، إلا أن هناك قاسماً واحداً مشتركاً يجمع بينها وهو الإيمان بالثالوث الأقدس والخلاص بيسوع المسيح. أقدم هذه الدساتير التي وصلت إلينا الدستور الرسولي والدستور الأثناسيوسي.
b. أسرار وعبادة الكنيسة الأولى:
o كانت المعمودية تمنح من أقدم العهد “باسم الآب والابن والروح القدس” بشهادة كتاب تعليم الرسل الاثني عشر وآباء أولين -مثل يوستينوس وايريناوس وترتليانوس. لا بل إن طريقة التعميد بالتغطيس ثلاثاً تدل على هذا الإيمان. لأن كل غطسة تصير باسم أحد الأقانيم الإلهية. أمّا بخصوص العبادة فأهم ما كان يميّزها “التمجيد” الذي كان يرفع للثالوث الأقدس. أقدم هذه التمجيدات المعروفة صيغةً “المجد للآب والابن والروح القدس” ونشيد الغرب “يا نوراً بهياً”.
c. اعترافات شهداء قبل موتهم:
o من بين هذه الاعترافات التي وصلت إلينا والتي تشهد عن إيمان الشهداء الراسخ بالثالوث صلاة القديس بوليكاريوس (أسقف أزمير) الموجهة إلى الآب قبل أن يجروه حياً “أمدحك من أجل هذه النعمة ومن أجل كل شيء، وأباركك وأمجدك بواسطة رئيس كهنتك الأبدي والسماوي يسوع المسيح ابنك الوحيد الذي لك معه ومع الروح القدس المجد من الآن وإلى دهر الدهور آمين”.
d. آباء الكنيسة:
o من الطبيعي أن يستمر تعبير الكنيسة عن إيمانها بالثالوث بهد الرسل من خلال بشارة وكتابة آبائها الرسوليين. من بين مؤلفات هؤلاء الآباء التي تتسم بالبساطة. وصلت إلينا رسالة القديس (اقليمندس الروماني) إلى أهل كورنثوس والتي يقول فيها: “أليس لنا إله واحد ومسيح واحد وروح قدس واحد انسكب علينا” (46: 6). كذلك من بين الإشارات الكثيرة للثالوث والتي وردت في رسائل القديس أغناطيوس الأنطاكي نذكر “حاولوا أن تتبعوا في عقائد الرب والرسل حتى تنجحوا في أفعالكم في الجسد والروح في الإيمان والمحبة في الآب والابن والروح القدس” مغنيسية 13: 1.
o أما الآباء المدافعين: فقد اضطروا أن يتكلموا أكثر عن سر الثالوث لكي يدافعوا عن المسيحية ويدحضوا الهرطقات. فأشاروا بصورة خاصة غلى الكلمة الإلهي وعلاقته بخلق العالم. لكن عباراتهم اتسمت أحياناً بعدم الدقة. وذلك بسبب عدم الاتفاق النهائي في ذلك الحين على الاصطلاحات التي يمكن من خلالها التعبير عن الأسرار الإلهية؟ فمثلاً يدحض (اثيناغوراس) تهمة الإلحاد الموجهة إلى المسيحيين قائلاً: “كيف يدعى ملحدين الذي يعترفون (بالله الآب والله الابن والروح القدس) ويقرون بقدرتهم في الوحدة (وحدة الجوهر) وبتمايزهم في النظام. في حين يهاجم (ايريناوس) ثنائية الغنوسيس-الغنوسيين معلناً أنه يوجد إله واحد فقط كل القدرة الذي خلق الكل بواسطة كلمته وروحه.
o وعموماً ظهرت أحياناً لدى الآباء المدافعين نزعة تعبّر عن عدم مساواة بين الأقانيم كخضوع الابن للآب فهذا يمكن تفسيره إما من باب التشديد على كون الآب في الثالوث هو المصدر والمبدأ، وإما للرغبة في دحض الهراطقة الذين كانوا يشددون على وحدانية أقنوم الله مثل الطابليوسيين. وقد ازداد اهتمام الآباء بإيجاد التعابير المناسبة لشرح سر الثالوث الأقدس مع نمو الهرطقات المضادة لهذا السر كالمونارخيين الذين أنكروا حقيقة الأقانيم، والآريوسيين وأعداء الروح القدس الذين هاجموا وحدتها في الجوهر وقد برز بصورة خاصة ضد المونارخيين ترتليانوس والقديس غريغوريوس العجائبي وديونيسيوس بابا رومية. بينما لمع في دفاعهم ضد الآريوسيين القديسون اثناثيوس الكبير والكباردوكيون الثلاثة (باسيليوس الكبير وغريغوريوس النزينزي وغريغوريوس النيصصي) وايلاريوس أسقف بواتييه والقديس امبروسيوس وتلميذه اوغسطينوس.
2. الاصطلاحات المتعلقة بسر الثالثوث Η Αγία τριάς:
إنه لمن المستحيل أن نعبّر بلغتنا البشرية المخلوقة والقاصرة عن سر الثالوث الفائق على كل إدراك وتعبير. ومع ذلك كان لا بد بسبب الهرطقات التي نمت غالباً في أجواء فلسفية من أن تحارب بسلاحها. فنستخدم كلمات كانت لها سابقاً معانٍ معينة لتحمل الآن معانٍ جديدة يتفق عليها. فتكون بمثابة السدود المحددة لسريان طوفان البدع. وكما هو معروف فاصطلاح ثالوث (Τριάς) نفسه لم يرد في الكتاب المقدس. وكان أول من استخدمه من الآباء في الشرق ثيوفيلوس الأنطاكي (158+) أمّا الكلمة التي تقابلها باللاتينية وهيTrinitas فكان ترتليانوس (220+) أول من استخدمها.
يمكن تقسيم الاصطلاحات المختصة بسر الثالوث إلى نوعين:
A. ماله علاقة الجوهر الإلهي.
B. ما له علاقة بالأقانيم الإلهية.

وبديهي جداً أنّ هذه المصطلحات لم تقبل في البداية بسهولة، بل أثار تداولها عاصفة من سوء التفاهم. لأن ما كان يعتبر عند البعض له علاقة بالجوهر فُهم عند البعض الآخر كمختص بالأقانيم. والعكس بالعكس، ولهذا احتاج الأمر إلى وقت طويل حتى تمّ الاتفاق نهائياً على التحديدات الدقيقة التي يحملها كلّ منها.
A. الاصطلاحات التي تشير إلى وحدة الجوهر الإلهي:
1. جوهر ουσία:
تعني قاعدة أو أساس حقيقة ما، أي هي ما يجعل شيئاً ما أن يكون هو نفسه وليس شيئاً آخر مثلاً جوهر الإنسان هو في كونه حيواناً عاقلاً. وقد استعمل هذا الاصطلاح في الفلسفة الأغريقية بصورة خاصة عند أرسطو وقد ورد بمعنيين:
أ- جوهر فعلي ما، أي وجود فردي ما. موضوع ما لخبرة مباشرة مثلاً: فلان شخص بشري ما، أي حنا، سعيد، وهذا ما يسميه أرسطو الوجود الأول (πρώτη ουσία).
ب- وجود مجرّد، طبيعة خاصة محققة في أفراد كثيرين من هذا النوع أي ما هو عام في الجميع مثال إنسان، حيوان. وهذا ما يسميه أرسطو جوهراً ثانياً (δευτέρα ουσία).
فلو طبق الآباء القديسون كلمة جوهر (ουσία) بالمعنى الأول على الثالوث لوجب أن يقولوا بأنه يوجد ثلاثة آلهة. ولو طبقوها بالمعنى الثاني لوجب القول أن الوجود الإلهي موزّع بين ثلاثة أشخاص. لكنهم فضّلوا أن يكونوا أمينين للإعلان الإلهي ويضربوا عرض الحائط بالمفاهيم الفلسفية معبّرين عن الثالوث الأقدس بجهالة الحكمة، فقالوا أنه لا يوجد ثلاثة آلهة بل الله واحد في أقانيم ثلاثة وليس عند الأقنوم الكيان الإلهي موزعاً ولا مكرراً كما عند الأفراد ولا هو أكبر عند واحد مما هو عند الآخرين ولا حتى أصغر مما هو عند الثلاثة معاً إن لكل من الأقانيم الثلاثة الجوهر الواحد ذاته والذي ليس مقسّماً فيما بينها. من هنا فوحدة الثالوث وحدة حقيقية فعلية وليست مجردة كما عند البشر.
إذاً في الله يوجد جوهر وحيد هو بالذات الألوهة، وهنا الكيان أو الجوهر هو كامل في كل واحد من الأقانيم الثلاثة.
كلمة (ομοούσιος) والتي هي تعبير مشتق من كلمتين (ομο) و(ούσιος) تُظهر ليس فقط أن الكيان الإلهي مشترك بين ثلاثة أقانيم بل وأيضاً وحدة هذا الكيان الذي هو واحد ووحيد، إذ يوجد كيان الآب بكليته في الابن وفي الروح القدس لكن كلمة (ομοούσιος) لا تظهر فقط الوحدة بل التمايز أيضاً، لأنها تعبر كذلك عن وجود شخص يتحد مع آخر في الجوهر.
لقد مرّت فترة عبّر فيها البعض عن جوهر أو كيان الله بكلمتين (ούσιος) و (υπόστασις) دون تميز. وكان من الذين لم يميزوا في البداية بين هاتين الكلمتين، القديسان اثناثيوس الكبير وابيفانيوس حتى المجمع المسكوني الأول ذاته، لكن مع الوقت صارت كلمة υπόστασις معتبرة عند الأغلبية في الشرق كأقنوم. ولهذا حدث كثير من الإشكال في هذا الموضوع لأن الغربيين كانوا يفهمون هذه الكلمة بمعنى الجوهر. إذ ترجموها بكلمة Substantia ولهذا اتهموا اليونان الذين تكلموا عن ثلاثة (υπόστασις) بالآريوسية لاعتقادهم أنهم يتكلمون عن ثلاثة جواهر. وكانت النتيجة لصالح الكنيسة الجامعة إذ تنبه الآباء لضرورة تحديد وتوضيح معاني الاصطلاحات الثالوثية. وكان من ضمن التدابير التي اتخذوها عقدهم لمجمع سنة 362 في الإسكندرية توصلوا فيه إلى الإعلان عن تطابق الإيمان بالثالوث في الشرق والغرب بالرغم من استعمال ممثلي كل منهما اصطلاحات بمدلولات مختلفة. إذاً فالحقيقة التي يعبّر عنها الشرقيون بقولهم جوهر واحد (ούσιος) وثلاثة أقانيم υπόστασις هي ذاتها التي يعبّر عنها الغربيون بـ (Substantia ) والتي تترجم حرفياً بـ (υπόστασις).
كان الكبادوكيين الثلاثة وعلى رأسهم القديس باسيليوس الكبير في رسالته التي وجهها إلى أخيه غريغوريوس النيصصي، أظهر فيها أن ούσιος هي قاعدة الطبيعة الإنسانية لأشخاص كثر، بينما υπόστασις هي الفرد القائم بحد ذاته أي بطرس، بولس… ثم بين كذلك الاختلاف بين البشر والثالوث في تطبيق هذه الاصطلاحات… وهكذا مع الزمن صارت الـ ούσιος اصطلاحاً يخص الجوهر والكيان الإلهي، بينما الـ υπόστασις تعني الأقنوم أو الشخص.
Substantia (اللاتينية):
تعتبر في الغرب مطابقة لفحوى اصطلاح (ούσιος) كما رأينا. هذه الكلمة في الأساس لها معنيان.
القاعدة التي تستند عليها الخواص أو التي فيها مجذرة، وهو ما يوافق تركيبها اللغوي الحرفي (تقف تحت) أو الذي يقف في الأساس أو في الجذور أو في القاعدة، وهو أيضاً ما يقابل حرفياً (υπόστασις ) اليونانية.
المعنى الثاني هو الجوهر الذي يوجد في شيء قائم بذاته من أجل ذاته.
Natura المقابلة ل (φύσις) (طبيعة):
اعتبر هذا الاصطلاح متماثلاً في أكثر الأحيان مع الجوهر ولهذا ف natura أو essentia أو substantia هي المادة التي يتألف منها ما هو واقع وحقيقي مثال: الخشب هو المادة التي صنعت منها المنضدة. إذاً فالطبيعة ما هو عام لكل الأفراد أو الأشياء من هذا النوع أو الصنف وعلى وجه التحديد الطبيعة هي الجوهر ذاته لأنه معتبرة موضوع الخواص أو المبدأ الداخلي المحدد للأشياء.
B. الاصطلاحات التي تشير إلى الأقانيم الإلهية:
1. πρόσωπον – Persoane
2. υπόστασις

πρόσωπον : تعني الجوهر الذي ليس جزءاً من مجموع (كرجل، يد…) بل الجوهر الفرد التام الموجود في ذاته ومن أجل ذاته، موجود في ذاته يعني أنه مختلف عن أي πρόσωπον آخر. أو هو طبيعة في صورة فردية قائمة بحد ذاتها. باختصار هو الطريقة التي توجد فيها الطبيعة أو موضوع أو حامل الطبيعة.
υπόστασις : يعني شخصاً من طبيعة عقلانية مثال نبيل، أسعد… أو وجود مستقل للطبيعة العقلانية.
وفي حين أن υπόστασις هو اسم عام لكل الموجودات الفردية إن كانت عاقلة أو غير عاقلة فالشخص πρόσωπον يحوي عنصري الفردية والعقلانية معاً. أو يمكن القول أنه وجود فردي لطبيعة عقلانية. ويعرّف الدمشقي ال πρόσωπον بأنه الموضوع الذي يعبّر عن ذاته بأعماله وخواصه فيتميّز عن كيانات أخرى من الطبيعة ذاتها، ولهذا يمكن القول أن الشخص عنده وعي لذاته، قوة أن يقرّر، وإرادة أن يكّون شركة مع أشخاص آخرين. أو بعبارة مختصرة عنده فكر وإرادة ومحبة. وبالنسبة للثالوث الأقدس فلا يفرّق القديس باسيليوس أو أكثر الآباء القديسيين بين اصطلاحي πρόσωπον وال υπόστασις .
الاب الدكتور: جورج عطية
 
قديم 30 - 06 - 2016, 05:14 PM   رقم المشاركة : ( 13378 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,381

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

سر الثالوث المقدس بحسب إعلان العهد القديم

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

مقدمة:
ما يميز الكنيسة الأرثوذكسية أو المسيحية بصورة رئيسية عن سائر الديانات هو اعتقادها بسر الثالوث الغريب (صلب الإيمان) كما يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي والذي عليه ترتكز بقية عقائدها. لا بل إن اللاهوت ذاته بحسب الآباء هو سر الثالوث. وحتى الإعلان الإلهي ما هو إلا إعلان بصورة خاصة لسر الثالوث ولهذا فسرّ الثالوث ليس فقط الأساس بل هو الهدف الأسمى للاهوت. لأنه بحسب تعبير القديس مكسيموس المعترف “أن نعرف كلياً سر الثالوث معناه أن نصير في وحدة كلية مع الله، أي أن نصل إلى تأله الكائن البشري، إلى الحياة الإلهية التي هي بحد ذاتها حياة الثالوث الأقدس، عندئذ فقط نصبح بحسب ما عبّر عنه القديس بطرس”شركاء الطبيعة الإلهية”. في دراستنا لهذا السر سوف نتبع ما أُعلن عنه بالتدريج في الكتاب المقدس ومن ثم نقدم ملخصاً عما علّلته الكنيسة في هذا الصدد.
سر الثالوث المقدس بحسب إعلان العهد القديم:
• “وظهر له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار فرفع عينيه ونظر وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه. فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض. وقال يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك” (تكوين18: 1-3).
• “وظهر ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة. فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترق. فقال موسى لأميلن الآن لأنظر هذا المنظر العظيم لماذا لا تحترق العليقة، فلما رأى الرب أنه مال لينظر ناداه الله من وسط العليقة وقال موسى موسى فقال ها أنذا” (خروج3: 2-4).
• “في سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد جالساً على كرسي عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل والسيرافيم واقفون فوقه لكل واحد ستة أجنحة باثنين يغطي رجليه وباثنين يغطي وجهه وباثنين يطير… وهذا نادى ذاك وقال قدوس قدوس قدوس مجده ملء كل الأرض… ثم سمعت صوت السيد قائلاً من أرسل من يذهب من أجلينا” (أشعياء6: 1-10).
• “كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحاب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه. فأعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي لن يزول وملكوته لا ينقرض” (دانيال7: 13-14).
جوهرياً ليس من فرق بين تعليم العهد القديم وتعليم العهد الجديد عن سر الثالوث الأقدس. لأن الله الثلاثي الأقانيم الواحد في الجوهر وغير المنقسم، والذي أعلن عن ذاته في العهد الجديد هو ذاته الله الثلاثي الأقانيم الواحد في الجوهر وغير المنقسم والذي أعلن عن ذاته في العهد القديم، صحيح أن العهد القديم يشدد بالأكثرية على وحدانية الله، ولا يتكلم بوضوح كافٍ عن سر الثالوث، ولعل السبب كما يرى بعض الآباء، أن العبرانيين كانوا محاطين بشعوب وثنية قد يسقطون نتيجة لذلك في شرك تعدد الآلهة. إلا أن هذا لا يعني أن البطاركة وأنبياء العهد القديم لم يعرفوا سر الثالوث الأقدس. وبالطبع فهذه المعرفة كمعرفة رسل وقديسين العهد الجديد لهذا السر ليست عقلانية حسية، بل تفوق العقل والحس، إذ تمت عبر سر التأله، أي سر ظهور مجد الثالوث الإلهي أمام من أُهلوا لذلك بواسطة النعمة الإلهية.
وفي الواقع فالعهد القديم يحفل بإشارات متعددة إلى الثالوث الأقدس، والتي كان دورها التهيئة لقبول هذا السر عند مجيء الإعلان الكامل بيسوع المسيح، إلا أنها على ضوء تفسير العهد الحديد والآباء تتجلي كدلائل واضحة عن سر الثالوث.
آ – الظهورات الإلهية:
نعطي كمثال عنها ظهور الله لإبراهيم عند بلوطات ممرا (تك18). إبراهيم يرى ويستقبل ثلاثة رجال، ولكنه يسجد لهم ويخاطبهم كما لو كانوا فرداً واحداً. “وقال يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك” (تكوين18: 3)”. من هنا فالأيقونة الأرثوذكسية التي تعبّر عن سر الثالوث هي أيقونة للملائكة الثلاثة الذين استقبلهم إبراهيم. في رأي المغبوط اوغسطين أن إبراهيم لما رأى الثلاثة فهم سر الثالوث. ولما سجد لواحد فقط أقرّ بالإله الواحد المثلث الأقانيم. أما الآباء عامة فيرون أن الملائكة الثلاثة كانوا ظهوراً رؤيوياً للأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس في الروح القدس والذي عرفه إبراهيم فسجد له كإله، وحاوره بعد انصراف الملاكين (تك18: 22، 19: 1). وأن هذا الأقنوم الثاني أي الابن هو صاحب كل الظهورات الإلهية في العهد القديم لأنه هو الكلمة والمخبر عن الآب الذي لم يره أحد قط (يو1: 1-18). مهما يكن من أمر تبقى صيغة الظهور الثلاثي لإبراهيم إشارة واضحة إلى ثلاثية الأقانيم ووحدة جوهرهم، ومصادقة الآب والروح القدس على ظهور الابن. وفي الواقع فإن العهد القديم حافل بظهورات لملاك خاص متميز عن الملائكة العاديين المخلوقين لأنه تكلّم ليس كمجر ناقل لكلام الله، بل بصفته الله نفسه ولأنه كان هناك دائماً خوف وشعور عند من ظهر لهم بأنهم قد رأوا الله نفسه “أنا إله أبيك إله إبراهيم. إله اسحق وإله يعقوب. فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله” (خر3: 1-15). (انظر تك 16: 7-14، 21: 17-19، 22: 11-18، 48: 15-16. قض6: 11-25 إلخ… وهنا لا يجب أن يغيب عن البال أن كلمة ملاك في اللغتين العبرانية واليونانية تعني رسولاً أو مرسل، فأي رسول أفضل من “كلمة الله” (يو1: 1)، “وبهاء رسم جوهره وحامل كل الأشياء بلكمة قدرته” (عبرانيين1: 3) ومن غيره يستطيع أن يصنع مشيئة الله ويعلنها بسلطان إلهي وأن يظهر بهيئات متنوعة تتناسب مع ظروف الرؤى المختلفة؟
هذا الملاك المرسل الإلهي غير المخلوق هو الذي قال عنه الله نفسه “إن اسمه فيه” “ها أنا مرسل ملاكاً أمام وجهك ليحفظك في الطريق، وليجيء بك إلى المكان الذي أعددته، احترز منه واسمع لصوته ولا تتمرد عليه، لأنه لا يصفح عن ذنوبكم لأن اسمي فيه” (خروج23: 20-22 ) و عدد20: 16.
فصرخنا إلى الرب فسمع صوتنا وأرسل ملاكاً وأخرجنا من مصر… خرو3: 2 و 14: 19 و23: 20 و33: 2. وسمّاه في مكان آخر “وجهه” وقال موسى للرب… أنظر إن هذه الأمة شعبك، فقال وجهي يسير فأريحك. فقال إن لم يسر وجهك فلا تصعدنا من ههنا” (خروح33: 12-17). وهو نفسه قال لنوح “لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب” (قض13: 16-22). أي الصفة ذاتها التي وصف بها النبي اشعياء الابن المتجسد. “لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابناً وتكون الرئاسة على كتفه ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً…” (اش9: 6).
ملاك العهد القديم، إذن أي المرسل الذي عرف بأنه الرب والله ويهوه، وقاد الشعب في البرية، وأرض الميعاد والسبي وهو نفسه الذي وصفه ملاخي بـ “ملاك العهد” الذي يرسل لينقي شعبه (ملا3: 1-6)، أي نفسه هو عمانوئيل “الله معنا” في العهدين القديم والجديد، والذي كانت ظهوراته قبل التجسد مقدمات وتهيئات لتجسده وخلاصه (1كو10: 1-4).
ولا يخفى بأن مفهوم الآباء للظهورات الإلهية ليس كمفهوم الآريوسيين الذين يدّعون بأن الابن هو مرسل من الآب كإله من درجة ثانية، بل الآباء يشددون بأن كل ظهور إلهي هو ظهور غير منفصل للأقانيم الثلاثة معاً عبر مجدها الواحد. أي أنّ كل ظهور للابن هو أيضاً ظهور للآب فيه بالروح القدس، لأن الابن هو صورة الآب (يو14: 6)، ولأن الروح اشترك ويشترك في كل عمل إلهي إن كان في العهد القديم (حج2: 5) وفي العهد الجديد (1كو12: 4-6).
هذا الرأي يشبه بصورة خاصة في العهد القديم تجلي الرب بمجده لأشعياء النبي في الهيكل. والسيرافيم واقفون حول عرشه وصارخون فيما بينهم قدوس، قدوس، قدوس رب الجنود مجده ملء الأرض (اش6: 3). لأن بتثليث السيرافيم للتقديس إشارة إلى أقانيم الثالوث، وبقولهم رب الجنود تأكيد لوحدة الجوهر. الرسولان يوحنا الإنجيلي وبولس يستشهدان بهذه الرؤيا، الأول ليظهر أن أشعياء قد رأى مجد المسيح أي الابن (يو12: 14). أما الثاني فليبيّن أن من كلّم أشعياء النبي كان الروح القدس (أع28: 25-26). فإذ أخذنا بعين الاعتبار ما قاله السيد في الرؤيا ذاتها أمام أشعياء مستعملاً صيغة المفرد والجمع معاً: “من أرسل ومن يذهب من أجلنا” (اش6: 8) ألا يصبح هذا دليلاً أكيداً على وحدة السيّد مثلث الأقانيم؟
ب – نبؤات تشير إلى ألوهية الابن المتجسد:
1. ها إن العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل أي الله معنا (اش7: 14؛ أنظر متى1: 23).
2. ها أيام تأتي يقول الرب وأقيم لداود غصن برّ فيملك ملك وينجح ويجري حقاً وعدلاً في الأرض. في أيامه يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمناً وهذا هو اسمه الذي يدعونه به: الرب بِرَّنا (أر23: 5-6 أنظر 1كو1: 30).
3. أما أنتِ يا بيت لحم أفراتة، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يحرج الذي يكون متسلطاً على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل (ميخا5: 2 أنظر متى2: 5-6).
4. هلموا نرجع إلى الربّ… لأنه افترس فيشفينا، ضرب فيجبرنا يحينا بعد يومين، وفي اليوم الثالث يقيمنا فنحيا (هو6: 1-2).
5. ارفعن رؤوسكن أيتها الأبواب وارتفعن أيتها المداخل الأبدية فيدخل ملك المجد. من هذا ملك المجد؟ رب الجنود هو ملك المجد (مز23 أو 24: 7-10، أنظر مر16: 19، 1كو2: 8).
6. كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحاب السماء مثل ابن الإنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدّامه. فأعطى سلطاناً ومجداً وملكوته لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول ما لا ينقرض (دانيال7: 13-14).
هذه الآيات الست، والتي هي نموذج عن نبوءات العهد القديم الماسيانية تشدد من خلال إشارتها إلى تجسد المخلص وميلاده وقيامته وصعوده وانتشار سلطانه ومجده، على ربوبيته فتسميه “الله معنا” و “الرب برّنا” والأزلي والرب وملك المجد الذي هو رب الجنود (يهوه) وصاحب سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته لا ينقرض.
ج – آيات تشير إلى أكثر من أقنوم واحد معاً:
• آيات تشير إلى الآب والابن
1. من صعد إلى السموات ونزل؟ من جمع الريح في حفنتيه؟ من صرّ المياه في ثوب؟ من ثبّت جميع أطراف الأرض؟ ما اسمه وما اسم ابنه إن عرفت (أمثال30: 4 أنظر يو3: 13)
2. من البطن قبل كوكب الصبح ولدتك (مز109: 3) سبعينية يقابلها “من رحم الفجر لك طل حداثك” (مز110: 3) عبرية.
3. قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معاً على الربّ وعلى مسيحيه… أما أنا فقد مسحت ملكي على صهيون جبل قدسي (مز2: 2). إني أخبر من جهة قضاء الرب قال لي أنت ابني أنا اليوم ولدتك (مز2: 7).
4. لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابناً وتكون الرئاسة على كتفه ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام (اش9: 6).
5. كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك أحببت البرّ وأبغضت الاثم من أجل ذلك مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج أكثر من رفقائك (مز45: 6) (أنظر عبر1: 5-14).
6. قال الرب لربي أجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موطئاً لقدميك (مز110: 1).
ففي الآيتين الأولى والثانية يشير العهد القديم بالنبؤة إلى الآب والابن المولود من قبل كل الدهور. في الأول يسأل عن اسميهما، ولكن يعطينا علامات لا تخطئ عنهما. كالصعود إلى السموات والنزول، والخلق. وكما نعلم من العهد الجديد لم يصعد أحد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء (يو3: 13) أي الابن الذي تمجّد بالجسد بصعوده إلى السموات، واشترك مع الآب والروح في الخلق (يو1: 1-2، 2كولو1: 16-17). أما في الآية الثانية فيشدّد على أزلية ولادة الابن من الآب مستعملاً عبارتي “من البطن” و “قبل كوكب الصبح” في الترجمة السبعينية “من رحم الفجر” بحسب النسخة العبرية.
الآيتان الثالثة والرابعة تتحدثان عن ولادة الابن الثانية في الزمن بالجسد ومسحته وملكوته. لكنهما لا تهملان الإشارة إلى ولادته الأولى من الآب والتي تفوق الزمن. لأن الآب لا يكتفي بأن يقول في الآية الثالثة للابن المتجسد “أنت ابني” مشيراً إلى ولادته له قبل كل زمان بل يشدد على حقيقة ولادته الفعلية الدائمة له، وفي الزمان “أنا ولدتك” هذه الحقيقة تؤكدها الآية الرابعة إذ تسمي المولود إلهاً قديراً أباً أبدياً ولا يمكن لمن هو إله قدير وأبدي إلا أن تكون ولادته أزلية وأبدية.
الآيتان الخامسة والسادسة تطلقان كلمتي الله والرب على الآب والابن مظهرتين بجلاء لا لبس فيه ألوهية وربوبية الاثنين معاً. فالخامسة تطلق كلمة الله نفسها على الابن وعلى الآب مشيرة إلى الملك الدهري للابن وسح الله الآب له بسبب قداسته واستقامته (أعمال10: 38). وبالطبع فهذا المسح حصل أثناء تجسده، ولهذا فهو المسيح والآب الآب هو إلهه، لأنه اتخذ، كطبيعة ثانية له، جسداً مخلوقاً.
• آيات تشير إلى الآب والروح القدس
1. وكانت الأرض خربة وحالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرفّ على وجه المياه (تكوين1: 2).
2. روح الرب تكلم بي وكلمته على لساني (2صم23: 2)
3. لا تطرحني من أمام وجهك وروح القدوس لا تنزعه مني (مز51: 11 عبري، 50: 11 سبعينية).
4. فنزل الرب في سحابة وتكلّك معه وأخذ من الروح الذي عليه وجعل على السبعين رجلاً الشيوخ (عدد11: 25).
5. جعلوا قلوبهم ماساً لئلا يسمعوا الشريعة والكلام الذي أرسله رب الجنود بروحه عن يد الأنبياء (زكريا7: 12).
6. روحك الصالح يهديني في أرض مستقيمة (مز143: 10).
7. فيحل عليك روح الرب فتتنبأ معهم وتتحول إلى رجل آخر (1صمو10: 6).
8. يا ليت كل شعوب الرب كانوا أنبياء. إذ جعل الرب روحه عليهم (عدد11: 21).
9. ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله ويحل عليه روح الرب روح الحكمة والفهم روح المشورة والقوة روح المعرفة ومخافة الرب (اشعيا11: 1-2).
10. أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب. إن صعدت إلى السموات فأنت هناك…. (مز139: 7-8).
11. حسب الكلام الذي عاهدتكم به عند خروجكم من مصر وروحي قائم في وسطكم (حج2: 5).
12. ويكون بعد ذك أني أسكب روحي على بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاماً ويرى شبابكم رؤى (يوئيل2: 28-29).
13. وأجعل روحي في داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها… وتكونون لي شعباً وأما أكون لكم إلهاً (خر36: 27).
14. روح الله صنعني ونسمة القدير أحيتني (أيوب33: 4).
15. ترسل روحك فيخلقون وتجدد وجه الأرض (مز104: 30).
من بين آيات كثيرة، قدمنا هذه كنماذج عن إيمان أنبياء العهد القديم بمن سمّوه روح الله أو روح الرب أو روحه القدوس… (آيات 1، 2، 3) هذه التسميات بالذات تظهر الاتحاد الكياني بين الله وروحه لأن الروح كما يقول القديس بولس الرسول يفحص كل شيء حتى أعماق الله لأن مَنْ مِنَ الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله (1كو2: 9-11). لكن بالرغم من هذا الاتحاد الصميمي فالله متميز عن روحه كما تظهرها هذه التسميات ذاتها. وهذا الروح المتميز عن الله والمتحد به في آن هو شخص قائم بحد ذاته في الله وليس مجرد قوة إلهية كما يدّعي البعض لأن الشخص العاقل والواعي وحده، وليس القوة، يستطيع أن يهدي البشر “آية 6”. وأن يجعلهم يتكلمون “آية 2” ويتنبأون ويتحولون إلى رجال آخرين “آية 7 و8” وأن يتصفوا بالحكمة والفهم والمشورة والقوة والمعرفة ومخافة الرب “آية 9”. واضح كذلك أن هذا الروح هو شخص إلهي وليس شخصاً مخلوقاً. لأنه روح الله غير المخلوق الحاضر في كل مكان وزمان “آيتين 10 و 11” والخالق “آيتين 14 و15” والمسؤول عن إعطاء كنيسة الله كل المواهب الإلهية التي سوف تتمتع بها وخصوصاً في قرنها الأول “آيتين 12 و13″، وهنا لا بد أن نميّز بين الروح كشخص أو أقنوم وبين المواهب أو القوى الإلهية غير المخلوقة التي تصدر عن الروح ولا تنفصل عنه والتي يمكن أن تعطى وتوزع وأن تسمّى في كثير من الأحيان بالروح (آيات 3، 4، 7، 8، 12، 13) وهو ما يحتاج إلى توضيح أكثر من خلال معطيات العهد الجديد.
• آيات تشير إلى الآب والابن والروح معاً:
1. روح السد الرب عليّ، لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب منكسري القلب … (اش61: 1).
2. كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الإثم من أجل ذك مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج أكثر من رفقائك (مز45: 6، عبر1: 8).
3. بكلمة الرب صنعت السموات وبروح فمه كل جنودها (مز33: 6).
4. أين أذهب من روحك، ومن وجهك أين أختبئ… (مز 139: 7-8)
في الآية الأولى هناك ذكر للروح القدس الذي هو روح السيد الرب. وبالطبع فالسيد الرب هو الآب الذي مسح الابن المتجسد وأرسله بالروح القدس الذي استقر عليه بحسب طبيعته البشرية. الابن المتجسد بيسوع يوضح بحسب رواية البشير لوقا (لو4: 18) إنه هو بالذات المعني بكلمة عليّ والذي تمت فيه هذه الكلمات.
في الآية الثانية هناك إعلان جلي عن الابن وعن الآب، كما شرحنا سابقاً وإعلان ضمني عن الروح القدس. لأن الله الآب قد مسح الله الابن عند تجسده بالروح القدس (انظر أع10: 38)، كما رأينا في الآية الأولى، وبالتالي فكلمة زيت الابتهاج تعني ضمناً الروح القدس، لأن المسح لم يتم بزيت مادي بل بالروح القدس منذ لحظة تجسده، (لو1: 53، يو3: 43) أكثر بما لا يقاس من جميع رفقائه بالطبيعة البشرية التي قَبِلَ أن يتخذها. ولهذا السبب فهو المسيح أي ممسوح الروح القدس بالمعنى المطلق للكلمة.
الآية الثالثة تذكر الأقانيم الثلاثة معاً من خلال اشتراكهم في الخلق. لأن الرب أي الآب قد خلق السموات وكل جنودها بواسطة كلمته أي الابن (أنظر أم 30: 4، يو1: 1-2، كولو1: 16-17) وبمشاركة روح فمه أي الروح القدس (أنظر أيوب 33: 4، مز 104: 30).
لا تختلف الآية الرابعة كثيراً عن الآية الثالثة، لأن كلمة روحك تشير إلى روح الآب أي إلى الروح القدس. أما وجهك فقد وجدنا سابقاً أنها تشير بشكل خاص إلى الملاك غير المخلوق الذي كان يظهر في العهد القديم والذي هو الكلمة أو الابن (أنظر خر23: 20-23 و33: 12-17).
د – تكلم الله بصيغة الجمع:
1. وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا (تك1: 26).
2. وقال الرب الإله هوذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر (تك3: 22).
3. وقال الرب هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم.. (تك: 11: 6-7).
4. ثم سمعت صوت السيد قائلاً من أُرسل ومن يذهب من أجلنا (أش 6: 8).
في هذه الآيات الأربع ظاهرة غريبة إذ يقدم الرب الإله متحدثاً بصيغة المفرد “وقال الله” ومع ذلك يستعمل في حديثه صيغة الجمع.
• أوريجنس يرى كما اليهود بأن الله يتكلم هنا مع الملائكة لكن هذا الرأي لا يثبت أمام النقد الصحيح. لأن الملائكة لا يمكن أن يوضعوا في مستوى واحد مع الله، فمثلاً في الآية الأولى يصبح الملائكة شركاء لله ليس فقط في الصورة والشبه بل وفي المشيئة والخلق، وهذا ما يجعلهم متمتعين بالصفات الإلهية وبالتالي بالجوهر الإلهي ذاته مما يتناقض جذرياً مع الإعلان الإلهي (أنظر عبر1: 5-14).
• كذلك لا تثبت الفكرة القائلة بأن الله يتكلم في هذه الآيات بصيغة جمع التعظيم، لأن هذه الصيغة، بشهادة كتب العهد القديم، لم تكن معروفة عند الأقدمين. فلا الله استعملها عند مخاطبته للبشر (أنظر مثلاً تك15: 1-18، خر3: 4-21، أر10: 4-19) ولا الملوك والعظماء (أنظر مثلاً تك41: 39-41، دا2: 5-1) والحقيقة إننا إذا تمعنا في هذه الآيات الأربع نجد القاسم المشترك بينها هو مشورة بين عدة أشخاص (أقانيم)، قبل الإقدام على عمل ما. وهؤلاء الأشخاص قائمون في الله ذاته. لأن أفعال الله توضع في صيغة المفرد ليس فقط قبل المباشرة بالعمل وأثناءه وبعده (أنظر تك1: 27-31، 3: 23، 11: 8-9) مما دل على وحدة جوهر الله رغم تعدد أقانيمه وبالطبع فهذا التفسير المسيحي يعوزه البرهان الأكيد، إذا أخذت هذه الآيات الأربعة لوحدها. لكننا إذا نظرنا إليها على ضوء ما تقدم من آيات وشروحات فسنجد أنها تتناغم وتتآزر جميعاً ضمن مفهوم ثالوثي واضح. مكونة أشعة نور السحر الذي يسبق إنبلاج ضياء شمس الثالوث المقدس في العهد الجديد.
الاب الدكتور: جورج عطية
 
قديم 30 - 06 - 2016, 05:19 PM   رقم المشاركة : ( 13379 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,381

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

ملخص تعليم الكنيسة عن سر الثالوث

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
قديم 30 - 06 - 2016, 05:32 PM   رقم المشاركة : ( 13380 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,381

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

مهمة التقليد في الكنيسة القديمة


وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
“لو لم يحرّكني سلطان الكنيسة الجامعة لما أمنت بالإنجيل”
القديس أوغسطين، ضد الرسائل المانيّة، 1، 1)

القديس فكنديوس والتقليد:
كان قول القديس فكنديوس الليرنسي الشهير: “يجب أن نحفظ ما آمن الجميع به دائماً وفي كل مكان” (Commonitorium،2) ميزة رئيسة في موقف الكنيسة القديمة من الأمور الإِيمانيَّة. وهذا القول كان مقياساً مبدأ في الوقت نفسه. وكان التشديد الحاسم يقع هنا على استمرار التعليم المسيحي. والحق، أن القديس فكنديوس احتكم إلى “المسكونية” المزدوجة في الإيمان المسيحي -في المكان والزمان. فهذا الرؤية الكبيرة هي التي ألهمت القديس إيريناوس في أيامه: لقد انتشرت الكنيسة الواحدة في أرجاء العالم، لكنَّها تتكلَّم بصوت واحد وتحفظ الإيمان نفسه في كلّ مكان، كما سلَّمه الرسل الأطهار وحفظه وتعاقب الشهود، هذا الإيمان “الذي حُفظ في الكنيسة من أيام الرسل بواسطة تعاقب القسوس”. هذان الوجهان للإيمان، بل بعدهما، لن ينفصلا، لأن “المسكونية” (universitas) و”القِدَم” (antiquitas) و”الإجماع في الرأي” (consensios) أمور متكاملة وليس أحد منها مقياساً صالحاً في حدِّ ذاته.
لم يكن “القِدَم” في حدِّ ذاته ضمانة كافية للحقيقة إذا لم يثبِّته “الإجماع في الرأي” عند “القدماء”. و”الإجماع” في حد ذاته لم يكن باتّاً ما لم ترجع جذوره بشكل مستمر إلى الرسل. يقول القديس فكنديوس: نحن نعترف بالإيمان الحقيقي عن طريق الالتجاء إلى الكتاب المقدَّس والتقليد، “عن طريقين… أولاً عن طريق سلطان الكتاب المقدس، ومن ثمّ عن طريق تقليد الكنيسة الجامعة”. لكن هذا الأمر لا يشير إلى وجود مصدرين للعقيدة المسيحية، لأن قانون الكتاب كان “تاماً” و”كافياً” في حدِّ ذاته ولأن “كل الأشياء (في الكتاب) كاملة وأكثر من كافية”. فماذا يجب أن يُكمَّل “بسلطان” آخر؟ ولماذا كان الرجوع إلى سلطان “الفهم الكنسي” ضرورياً؟ لقد كان السبب واضحاً وهو أن كلّ مسيحي شرع في تفسير الكتاب بشكل مختلف، “لدرجة أن المرء يكاد يصل إلى الانطباع بأن هناك معاني مختلفة بمقدار عدد الناس”. ولذلك قاوم القديس فكنديوس تعدّد الأفكار “الخاصة” بفكر الكنيسة “الواحد”، فكر الكنيسة الجامعة، فقال إنه يجب أن “نوجِّه تفسير كتب الأنبياء والكتابات الرسولية وفق قاعدة التفسير الكنسي الجامع”. فلم يكن للتقليد عنده وجود مستقل، ولم يكن مصدراً مكمِّلاً للإيمان. “فالفهم الكنسي” لا يضيف شيئاً إلى الكتاب المقدَّس، لكنه كان الوسيلة الواحدة للتحقق من المعنى الصحيح للكتاب ولكشفه. كان التقليد التفسير الموثوق به، وبهذا المعنى يمتد امتداد الكتاب. وكان التقليد “الكتاب المفهوم بشكل صحيح”. وكان الكتاب، عند القديس فكنديوس، القانون الأوحد والرئيسي والنهائي للحقيقة المسيحية (Commonitoriun الإصحاح 2 و28).
المسألة التفسيرية في الكنيسة القديمة:
في هذا المجال وافق القديس فكنديوس كلياً التقليد القائم في الكنيسة. فعبارة القديس إيلاريون واتيه الرائعة التي تقول : “إن الكتاب ليس في قراءته، بل في فهمه” (إلى كونستانس، 2، 9، مجموعة الآباء اللاتين، مين 10، 570) كرَّرها القديس إيرونيموس “جيروم” (الحوار ضد لوكيفاروس، 28، مجموعة الآباء اللاتين مين 23، 190-191). ولقد ظلّت مشكلة التفسير الصحيح للكتاب المقدس حادّة حتى القرن الرابع أثناء صراع الكنيسة مع الآريوسيين، وما خفَّت حدَّتها عماّ كانت عليه في القرن الثاني أثناء مقاومة العرفانيين والصباليوسيين والمونتانيين. فكلّ أطراف النزاع احتكمت إلى الكتاب، حتى إن الهراطقة والعرافايين والمانويين استشهدوا بفصوله وآياته واحتكموا إلى سلطانه. وكان التفسير في تلك الفترة أهمّ منهج لاهوتي ولعلَّه كان المنهج الأوحد، وكان سلطان الكتاب مطلقاً وسامياً. وكان الأرثوذكسيون يتّجهون إلى طرح السؤال التفسيري الحاسم: ما هو مبدأ تفسير الكتاب؟ لكنَّ لفظة “الكتاب المقدس” أشارت في القرن الثاني بصورة أساسية إلى العهد القديم، ولذلك اعترض مركيون (مرقيون) بقوة على سلطان أسفار العهد القديم رفض الاعتراف بها. بناء عليه أصبح برهان وحدة العهدين ضرورية. ما هو أساس الفهم المسيحي والخريستولوجي “للنبوءة”، أي للعهد القديم وما هو مبرِّره؟ ففي تلك الحقبة أُثير أولاً سلطان التقليد. فالكتاب ينتمي إلى الكنيسة ولذلك يُفهم بشكل وافٍ ويُفسَّر بشكل صحيح فيها وضمن جماعة الإيمان القويم فقط. أمَّا الهراطقة، أي الذين خارج الكنيسة، فلم يملكوا مفتاح فكر الكتاب، لأنه لم يكن الاستشهاد بكلام الكتاب كافياً إذ يجب على الإنسان أن يَشرح معنى الكتاب الحقيقي والقصد منه بشكل كليّ وأن يُدرك مسبقاً نموذج الإِعلان الكتابي ومخطط عناية الله المخلِّصة. وهذا لن يتحقَّق إلاَّ بالرؤية الإيمانية. فبالإيمان كان “الإقرار بالمسيح” (Christiuszeugniss) في العهد القديم مفهوماً. فبالإيمان أُكِّدت بشكل صحيح وحدة الأناجيل ذات الأشكال الأربعة لكنَّ هذا الإيمان لم يكن تأملاً فردياً كيفياً، بل كان إيمان الكنيسة المتأصل في البشارة الرسولية وفي الكرازة (kerygma) أمَّا الذين خارج الكنيسة فتعوزهم هذه الرسالة الأساسية، التي هي قلب الإنجيل. فالكتاب عندهم حرف ميت ومجموعة من النصوص والسير غير المترابطة. إنهم حاولوا ترتيبها وفق طريقتهم الخاصة التي استقوها من مصادر غريبة. فأتى إيمانها مختلفاً. هذه هي حجة ترتليان في مبحثه “معارضة الهرطقة” (De praescriptione). فهو لم يشأ أن يبحث الكتاب مع الهراطقة، إذ لا حقّ لهم في استعماله لأنه لا يخصّهم. الكتاب ملك الكنيسة. ولذلك أكّد ترتليان بشدة على أولوية “قانون الإيمان” (regula fidie) الذي هو المفتاح الأوحد لفهم معاني الكتاب. وهذا “القانون” كان رسولياً ومتأصّلاً في تعليم الرسل ومستمداً منه. وصف تُرنير (C.H.Turner) بشكل صحيح معنى هذا الاحتكام إلى “قانون الإيمان” وغاية الرجوع إليه في الكنيسة الأولى، فقال: “عندما تحدَّث المسيحيون عن “قانون الإيمان”بكونه قانوناً “رسولياً”… لم يعنوا به أن الرسل اجتمعوا لصياغته… بل عنوا به أن الاعتراف بالإيمان الذي علَّمه الرسل وأودعوه تلاميذهم ليعلِّموه هم من بعدهم”. كان هذا الاعتراف هو هو في كل مكان، رغم أن أسلوب التعبير قد يتغيَّر من مكان إلى مكان وكان دوماً وثيق الصلة بدستور المعمودية وخارج هذا “القانون” لا يمكن إلاَّ أن يفسَّر الكتاب تفسيراً خاطئاً. فالكتاب والتقليد، عند ترتليان، متلازمان دون انفصال: “حيثما يتّضح التعليم المسيحي الحقّ والإيمان المسيحي القويم نجد الكتاب المقدَّس الحقيقي والتفسير القويم والتقليد المسيحي الحقيقي” (19، 3). فتقليد الإيمان الرسولي كان المرشد الضروري لفهم الكتاب والضمانة الأساسية للتفسير الصحيح. لكنَّ الكنيسة لم تكن سلطة خارجية مهمتها أن تحكم على الكتاب، بل أن تحفظ الحقيقة الإلهية المودعة فيه
القديس إيريناوس و”قانون الحقيقة”:
عندما دحض القديس إيريناوس سوء استعمال العرفانيين الغنوصيين للكتاب المقدَّس أورد تشبيهاً رائعاً، فقال: صنع فنَّان موهوب صورة جميلة لأحد الملوك من الجوهر الثمينة، لكنَّ شخصاً آخر فكَّ هذه الحجارة وأعاد ترتيبها بأسلوب آخر ليقدِّم صورة كلب وثعلب. ثم زعم أن هذه الصورة هي الصورة الأصلية التي صنعها الفنَّان الأول، وتعلَّل قائلاً إن الحجارة (أو الفسيفساء psiphides) أصلية. والحق أن التصميم الأصلي قد تهدَّم و “ضاع نموذج الإنسان الموضوع”. هذا بالضبط ما يفعله الهراطقة بالكتاب المقدس. فهم يتجاهلون ويمزِّقون “الترابط والترتيب” الموجودين في الكتاب المقدس، “ويقطعون أوصال الحقيقة”. إن كلماتهم وتعابيرهم وأمثالهم أصيلة، لكنَّ قياسهم (أو تصميمهم) (hypothesis) كيفيّ وخاطئ (ضد الهرطقة 1، 8، 1). ثمّ أورد هذا القديس تشبيهاً آخر. كانت مختارات من شعر هوميروس متداولة في تلك الأيام، لكنها استخدمت جزافاً وبعيداً عن سياقها وأُعيد ترتيبها بشكل كيفيّ. فكانت الأبيات كلُّها هوميروسية، لكنَّ القصة الجديدة التي اخترعها الناس بسبب إعادة ترتيب الأبيات لم تعد هوميروسية أبداً. وكذلك ينخدع الإنسان بسهولة بهذا الأسلوب الذي يبدوا هوميروسياً (1، 9، 4). ويجدر بنا أن نشير إلى أن ترتليان ذكر أيضاً هذه المختارات الشعرية (centones) من أبيات هوميروسية وفرجيلية (معارضة الهراطقة 39). ويبدو أن هذا الأسلوب كان مألوفاً في الأدب الدفاعي آنذاك. أمَّا النقطة التي أراد القديس إيريناوس أن يوضحها فهي أن للكتاب نموذجه وبنيته الداخلية وتآلفه، لكنَّ الهراطقة ينكرون هذا النموذج وبالأحرى يستبدلونه بنموذجهم الخاص. وبكلام آخر، إنهم يعيدون ترتيب الشواهد الكتابية على أسس غريبة عن الكتاب نفسه. فأكد القديس إيريناوس أن الذين يحفظون بقوة “قانون الحقّ” الذي تسلَّموه في المعمودية لن يجدوا صعوبة في “إعادة كلّ عبارة إلى مكانها الصحيح”، ولن يعجزوا عن مشاهدة الصورة الحقيقية. إن العبارة الواقعية التي استعملها القديس إيريناوس فريدة وخاصة به وهي “الملائم لجسم الحقيقة” (prosarmosas tis alithias somation) وترجمتها اللاتينية القديمة غير المتقنة: (corpusculum veritatis) أمَّا معناها فواضح جداً، لأن لفظة (Somation) “جسم” ليس تصغيراً، بل تشير إلى “الجسم” (corpus) إلى السياق الصحيح والبنية الأصلية و”الصورة الصحيحة” والترتيب الأولى للحجارة (أو الفسيفساء) والأبيات. ولذلك يجب أن يرشدنا “قانون” الإيمان، في رأيه، إلى قراءة الكتاب المقدَّس، لأن المؤمنين يلتزمونه باعترافهم به في المعمودية، ولأن هوية الرسالة الأساسية و”حقيقة” الكتاب تعيّنان به بصورة صحيحة. أم العبارة الفضَّلة لدى القديس إيريناوس فكانت “قانون الحقّ” (Kanon tis alitheias، Regula veritatis). والواقع أن هذا “القانون” لم يكن سوى شهادة الرسل وكرازتهم وبشارتهم، التي “أودعت” في الكنيسة وعُهد بها إليها من الرسل وحُفظت بصدق وسُلِّمت بإجماع عام في كلّ الأمكنة عبر تعاقب الرعاة “الذين تسلَّموا موهبة الحقيقة الثابتة إلى جانب التعاقب الرسولي”. ومهما كان المدلول الدقيق والمباشر لهذه العبارة التي تزخر بالمعاني فلن يعترينا الشك في أن هذه الحفظ الدائم للإيمان المودَع ونقله تحققا، عند القديس إيريناوس، بحضور الروح القدس في الكنيسة. لقد كان مفهوم الكنيسة عنده قائماً على “المواهب” و”المؤسسة” بآن واحد. وكان “التقليد”، في مفهومه، “وديعة حيَّة” (Juvenescens depositum) أعطيت للكنيسة لتكون نسمة جديدة للحياة، مثل نسمة الحياة التي أُسبغت على الإنسان الأول (aspiration plasmationis quemadmodum 1، 24، 3). والأساقفة و”القسوس” كانوا حرَّاساً مفوَّضين في الكنيسة وخدَّاماً للحقيقة التي أُدعت فيها. “حيثما تودع posita sunt” مواهب (charismata) الرب يحسن تعلّم الحقيقة ممن عندهم التعاقب الكنسي الآتي من الرسل (successio apud quos est ea quae est ab apostolis ecclesiae) وممن عندهم التصرف اللائق الذي لا عيب فيه وممن ينطقون بكلام طاهر لا غش فيه. فهؤلاء يحفظون أيضاً إيماننا هذا بالإله الواحد الذي خلق كلّ شيء، ويكثرون محبتنا لابن الله الذي أتمَّ تدبيراً عظيماً كهذا من أجلنا، ويفسرون لنا الكتاب من دون خطر ولا يجدِّفون على الله ولا يزدرون البطاركة ولا يحتقرون الأنبياء” (5، 26، 4).
قانون الإيمان (Regula fidei):
كان التقليد في الكنيسة الأولى مبدأ تفسيرياً ومنهجاً تفسيرياً أيضاً، لأننا لا نقدر أن نفهم الكتاب فهماً صحيحاً وكاملاً إلاَّ على ضوء التقليد الرسولي الحيّ وفي إطاره. وهذا التقليد كان عاملاً أساسياً في الوجود المسيحي، لا لأنه يقدر أن يضيف شيئاً إلى ما أعلن في الكتاب، بل لأن يزوِّد بالإطار الحيّ وبالمنظور الواسع اللذين يُكتشف ويُفهم بهما “القصد” الحقيقي من الكتاب والإعلان الإلهي و”تصميمهما” الكامل. كانت الحقيقة عند القديس إيريناوس “منهجاً راسخ الأساس” و”جسماً حيّاً” (corpus) (ضد الهراطقة 2، 27، 1) “ولحناً متآلف النغمات” (3، 38، 2). لكننا لا ندرك هذا “التآلف” إلاَّ بالرؤية الإيمانية. الحق، أن التقليد لم يكن مجرَّد نقل لعقائد متوارثة “على الطريقة اليهودية”، بل كان الحياة المستمرة في الحقيقة . ولم يكن قلباً بلا حراك ومُركباً من القضايا الملزمة، بل كان تبصرا في معنى الأحداث المعلَنة وتأثيرها في كشف “الإله الفاعل”.لقد كان هذا الأمر حاسماً في حقل التفسير الكتابي. إن ج.ل.برستيج أحسن في قوله: “إن صوت الكتاب يُسمع بوضوح إذا ما فُسِّرت نصوصه برؤية واسعة وبطريقة منطقية وباتفاق مع الإيمان الرسولي ومع دليل الممارسة التاريخيَّة للمسيحية. فالهراطقة هم الذين عوَّلوا على نصوص منعزلة والمسيحيون الأصيلون تنبَّهوا أكثر من المبادئ الكتابية». وعندما لخَّصت الدكتورة إلين فليسيمانفان لير تحليلها الدقيق لاستعمال التقليد في الكنيسة الأولى، قالت: “إن الكتاب من دون تفسير ليس كتاباً على الإطلاق، وعندما نستخدمه ويصير حياًّ يكون كتاباً مفسَّراً”. فيجب أن نفسِّر الكتاب وفقاً “لمضمونه الأساسي” المعلَن في “قانون الإيمان” (Regula fidei). وهكذا يكون هذا “القانون” مَثَلاً يوجّه تفسير الكتاب. “فالتفسير الحقيقي للكتاب هو التقليد وبشارة الكنيسة”.
القديس أثناسيوس و”غاية الإيمان”:
في القرن الرابع لم تتبدَّل الأحوال، لأن الصراع مع الآريوسيين دار أيضاً حول مسألة تفسير الكتاب، على الأقل في المرحلة الأولى من هذا الصراع. فجاء الآريوسيون وأنصارهم بمجموعة كبيرة من النصوص الكتابية ليدافعوا عن موقفهم العقيدي، وأرادوا حصر البحث اللاهوتي في المجال الكتابي وحده. ولذلك كانت مواجهتهم في هذا الإطار ضرورية في بادئ الأمر. ومنهجهم التفسيري أي طريقة معالجتهم للنص، كان مطابقاً لمنهج الذين انشقوا عن الكنيسة في القرون الأولى. فهم اهتموا بالنصوص التي اختاروها لتأييد موقفهم، من غير أن يلتفتوا إلى السياق العام للإعلان. ولذلك اضطر الأرثوذكسيون إلى الاحتكام إلى فكر الكنيسة، إلى “الإيمان” الذي أُعلن مرة وحُفظ بصدق. وهذا كان اهتمام القديس أثناسيوس الأساسي ومنهجه الاعتيادي. لقد استشهد الآريوسيون بمقاطع كثيرة من الكتاب ليقيموا الدليل على ما ناضلوا من أجله وهو أن المخلِّص مخلوق. في جواب القديس أثناسيوس كان الاحتكام إلى “قانون الإيمان” واضحاً في قوله: “لنصلح، نحن الذين اقتنينا غاية الإيمان (to Skopon tis pisteos) المعنى الصحيح (orthisn tin dianian) لما فسَّروه بشكل خاطئ” (ضد الأريوسيين 3، 35). وأكَّد القديس أثناسيوس أن التفسير “الصحيح” لنصوص معيَّنة يصبح ممكناً من خلال المنظور الإيماني كله فقط: “ما يتعلَّلون به من الأناجيل يفِّسرونه بشكل خاطئ، إذا ما قبلنا نحن المسيحيين غاية الإيمان (Himas tous christianous pisteos ton skopon tis Kath) وقرأنا الكتاب مستعملين هذه الغاية قانوناً (osper Kanoni chrisameni)”.
من جهة ثانية يجب أن نهتمّ اهتماماً شديداً بالسياق المباشر لكلّ جملة وتعبير وبإبراز قصد الكاتب الصحيح بدقة (1، 54). وعندما كتب القديس أثناسيوس إلى الأسقف سرابيون عن الروح القدس أكَّد له أن الآريوسيين يجهلون “غاية الكتاب المقدس” (إلى سرابيون 2، 7 وإلى أساقفة مصر، 4) “لأنهم يهتمون بما يُقال ويتجاهلون معناه”. كانت لفظة (skopos) “لغاية” عند أثناسيوس موازنة لفظة (hypothesis) عند إيريناوس للإشارة إلى “الفكرة” الأساسية والتصميم الصحيح والمعنى المقصود وكانت لفظة (skopos) مألوفة في اللغة التفسيرية عند عدد من المدارس الفلسفية، وخاصة عند الأفلاطونية الحديثة. إن التفسير قام بدورٍ كبير في المحاولات الفلسفية في ذلك الوقت ولذلك كان إثارة السؤال عن المبدأ التفسيري ضرورياً. فالفيلسوف إيامفليخوس كان نموذجياً في هذه النقطة. لقد كان من واجب الإنسان أن يكتشف “النقطة الرئيسية” والموضوع الأساسي في البحث الذي يدرسه وأن يحفظها في ذهنه دائماً . ومن الجائز أن يكون القديس أثناسيوس ملماً بالاستخدام التقني لهذه اللفظة، ولذلك أكَّد أن الاستشهاد بفصول ومقاطع معزولة من الكتاب المقدَّس بعيداً عن قصد الكتاب الإجمالي أمر مضلِّل. ونخطئ إذا فسَّرنا لفظة (skopos) عند أثناسيوس بأنها “المعنى العام” للكتاب. “فغاية” الإيمان و “غاية” الكتاب هي الفحوى العقيدي الموجود بكثافة في “قانون الإيمان”، كما حفظته الكنيسة وكما “انتقال من “أب إلى أب” في وقت لا نجد فيه “آباء” عند الآريوسيين (في قوانين مجمع نيقية، 27)”. ولاحظ الكاردينال نيومان (Newman) أن القديس أثناسيوس عدَّ “قانون الإيمان” المبدأ الأسمى للتفسير و”عارض أفكار الهراطقة الخاصة في طريق الفكر الكنسي” (ضد الآريوسيين 1، 44)(10). فكان يوجز المرة تلو المرة معتقدات الإيمان المسيحي الأساسية عند تدقيقه في الحجج الآريوسية قبل أن يمتحن النصوص التي يتعللون بها في براهينهم، حتى يعيد النصوص إلى منظورها الصحيح، أمَّا تُرنير (H.E.W.Turner) فوصف طريقة أثناسيوس التفسيرية فقال : “أصرَّ (أثناسيوس) على اتخاذ مرمى إيمان الكنيسة العام قانوناً للتفسير ضد التقنية الآريوسية المفضَّلة التي يؤكد المعنى المنطبق على قواعد اللغة من غير أن تنظر إلى سياق الكلام وإلى الإطار العام لتعليم الكتاب بكلِّيته. فتعامى الآريوسيون عن المدى الواسع الذي يتمتع به اللاهوت الكتابي. ولذلك اخفقوا في النظر إلى سياق الكلام الذي تقع فيه نصوصهم الإثباتية. فيجب أن يُحسب معنى الكتاب نفسه كتاباً (مقدَّساً). وهذا المبدأ عُدَّ تخلِّياً عن الاحتكام إلى الكتاب واستبداله ببرهان مأخوذ من التقليد. ومن الأكيد أنه اذا وُضع في أيدِ لا تحرص عليه، فإنه يؤدي إلى تقييد كليّ للكتاب المقدس، كما حاولت عَقَديّة (دوغماتيّة) الآريوسيين والعرفانيين أن تفعل. ولكن هذا الأمر لم يكن قصد القديس أثناسيوس نفسه، الذي حسب الاحتكام إلى التقليد انتقالاً من تفسير ثمِل إلى تفسير صاح، ومن تشديد حرفي قصير النظر إلى معنى غاية الكتاب” .
ولكن يبدو أن البروفسور تُرنير (Turner) ضخم الخطر، لأن. البرهان كان كتابياً، فالقديس أثناسيوس قبل مبدئياً كفاية الكتاب المقدس الموحى به للدفاع عن الحقيقة (ضد الوثنيين 1). إن الكتاب يجب تفسير في إطار التقليد الإيماني الحيّ، بتوجيه من “قانون الإيمان”. أمَّا هذا “القانون” فلم يكن أبداً سلطة “غريبة” “تُفرض” على الكتاب المقدس. فهو “البشارة الرسولية” نفسها، المدوَّنة باختصار (in epitome) في أسفار العهد الجديد.
كتب القديس أثناسيوس إلى الأسقف سرابيون : “لننظرنّ إلى تقليد الكنيسة الجامعة وتعليمها وإيمانها، الذي أعطاه الرب وبشَّر به الرسل وحفظه الآباء، لأن الكنيسة أسِّست عليه” (إلى سرابيون 1، 28). هذا المقطع هو من ميزات القديس أثناسيوس، فهناك ثلاث ألفاظ متطابقة فيه “التقليد” (Paradosis) هو من المسيح نفسه، و”التعليم” (Didascalia) هو بواسطة الرسل، و”الإيمان” (Pistis) هو من الكنيسة الجامعة. وهذا هو أساس الكنيسة -الأساس الأوحد والفريد . الكتاب نفسه ينتمي إلى هذا “التقليد” الذي يأتي من الرب. وفي الفصل الختامي من رسالته الأولى إلى سرابيون يعود القديس أثناسيوس مرة ثانية إلى النقطة نفسها فيقول: “إنني سلَّمت التقليد وفق الإيمان الرسولي الذي تسلَّمته من الآباء، من غير أن أبتدع شيئاً من الخارج. فسلّمته مثلما تعلّمته من الكتب المقدسة” (1، 33). وأشار مرة القديس أثناسيوس إلى الكتاب نفسه هو “التقليد” (paradosis) رسولي (إلى أدلفيون 6). والشيء المميَّز هو أنه لم يذكر أبداً لفظة التقليد بصبغة الجمع في نقاشه مع الآريوسيين. فكان يرجع دائماً إلى لفظة “تقليد” – أي “التقليد”، التقليد الرسولي، الذي يحوي كلّ فحوى البشارة الرسولية، والذي كان موجزاً في “قانون الإيمان”. وكانت وحدة التقليد وتماسكه النقطة الأساسية والحاسمة في كلّ البرهان الذي قدَّمه.
هدف التفسير و”قانون العبادة”:
كان الاحتكام إلى التقليد احتكاماً إلى فكر الكنيسة، لأنه افتُرض أن الكنيسة كانت تملك معرفة الحقيقة وفهمها، إي حقيقة الإعلان و”معناه”. فالكنيسة كان عندها السلطان لنشر الإنجيل وتفسيره. لكن هذا لا يدلّ على أن الكنيسة كانت “فوق” الكتاب، فهي كانت تقف بجانبه مؤيِّدة إياه من دون أن تتقيَّد “بحرفه”. فالهدف الأول للتفسير كان في إظهار معنى الكتاب المقدس وغايته وبالأحرى معنى الإعلان و”تاريخ الخلاص” (Heilsgeschichte). كان واجب الكنيسة أن تبشِّر بالمسيح لا “بالكتاب” فقط. ولذلك لا نقدر أن نفهم استعمال التقليد في الكنيسة القديمة بشكل صحيح إلاَّ في إطار الاستعمال الفعلي للكتاب. فالكلمة حُفظت بشكل حيّ في الكنيسة فانعكست على حياتها وبنيتها، لأن الإيمان والحياة تلاحما عضوياً. ويحسن أن نذكر في هذا المجال مقطعاً شهيراً من “النعمة الإلهية” (de gratia Dei Indiculus) المنسوب خطأً إلى البابا كلستينوس، لأن وضعه الحقيقي هو القديس بروسبر من أكويتانيا : “هذه هي قرارات الكرسي الرسولي المقدس التي لا يمكن نقدها، والتي قضى بها آباؤنا على الابتداع المهلك… لننظر إلى الصلوات المقدسة التي يرفعها كهنتنا بتماثل في كل كنيسة جامعة في العالم كلّه وفقاً للتقليد الرسولي. وليؤكد قانون العبادة قانون الإيمان”. ويصحّ القول أن هذه العبارة في سياقها المباشر لم تكن صبغة لمبدأ عام، لأن القصد المباشر منها كان محصوراً في نقطة أساسية واحدة وهي أن معمودية الأطفال شاهد يدلّ على حقيقة الخطيئة الجدية. والحق أنه ما كان إعلاناً بابوياً جازماً، بل رأي خاص للاهوتي صرح به في جو من الصراع الحار . لكن لم تؤخذ هذه العبارة خارج سياقها المباشر ولم تغيَّر قليلاً، غفو ونتيجة لسؤ فهم، لتعبر عن المبدأ التالي: “يجب أن يبنى قانون العبادة قانون الإيمان” (crededi statuat lex orandi ut legem). “فالإيمان” وجد تعبيره الأول في الصِيغ الليتوجية والأسرارية والطقسية، و”دساتير الإيمان” برزت أولاً كجزء أساسي من خدمة إدخال المؤمنين الجدد إلى الكنيسة. يقول كيلي (J.N.D.Kelly): “إن الملخصات العقيدية الخاصة بالإيمان، تصريحيَّة كانت أم استفهامية، هي حصيلة الليتوجيا، ولذلك عكست ثباته وطواعيتها». لقد كانت “الليتورجيا” بمعناها الواسع الشامل القاعدة الأولى للتقليد الكنيسي. أمَّا البرهان الواسع الشامل القاعدة الأولى للتقليد الكنسي. أمَّا البرهان المتخذ من “قانون الصلاة” (Lex orandi) فكان يُستخدم دائماً في النقاشات التي دارت في أواخر القرن الثاني. فعبادة الكنيسة كانت تعبيراً احتفالياً عن إيمانها. ولعلَّ استدعاء اسم الله في المعمودية كان الصبغة الثالوثية المبكِّرة، مثلما كان سرّ الشكر الشاهد الأول لسرّ الخلاص في مثله. والعهد الجديد نفسه برز إلى حيِّز الوجود “ككتاب مقدس” في الكنيسة المصلية، لأنه كان يُقرأ أولاً في جو العبادة والتأمل.
القديس باسيليوس و”التقليد غير المدوَّن”:
اعتاد القديس إيريناوس أن يرجع دائماً إلى “الإيمان” كما سُلّم في المعمودية. وكان ترتليان والقديس كبريان يستخدمان البراهين الليتورجية . والقديس أثناسيوس والكبادوكيون استخدموا البرهان نفسه. لكن توسيع هذا البرهان القائم على التقليد الليتورجي نجده عند القديس باسيليوس. ففي مواجهته للآريوسيين بصدد الروح القدس بنى برهانه الأساسي على تحليله للمجدلات كما كانت تُستخدم في الكنائس. وكتابه “في الروح القدس” دوِّن بشكل اقتضائي، أي في نار الصراع اليائس، فخاطب ظرفاً تاريخياً خاصاً، لكنه عُني بمبادئ البحث اللاهوتي ومناهجه. في مبحثه هذا سعى القديس باسيليوس إلى البرهنة على نقطة حاسمة في عقيدة الثالوث الأقدس وهي مساواة الروح القدس في القيمة والكرامة (Homotimia) للأقنومين الأخرين. أمَّا مرجعه الأساسي فكان الشهادة الليتورجية أي المجدلة التي تحوي عبارة “مع الروح” والتي برهن أنها استُخدمت كثيراً في الكنائس. هذه العبارة غير موجدة في الكتاب المقدس لكنَّ التقليد صدَّق عليها. أمَّا أخصامه فلم يقبلوا إلاَّ بسلطان الكتاب المقدس، ولذلك حاول أن يبرهن شرعية الاحتكام إلى التقليد. فهو أراد أن يثبت مساواة الروح القدس في القيمة والكرامة، أي ألوهيته التي آمنت بها الكنيسة دائماً والتي كانت جزءاً من الاعتراف بالإيمان أثناء المعمودية. وكما أشار بحق الأب ب. بروش (Benoit Pruche)، كانت لفظة (homotimos)، عند القديس باسيليوس، معادلة للفظة “الواحد في الجوهر” (homoousios) (16). ولم يكن هناك الكثير من الجدة في هذا المفهوم للتقليد، إذا استثنينا الدقة واتساق الكلام. ولكنَّ للعبارة ميزة خاصة. يقول : “إن العقائد والتعاليم التي حُفظت في الكنيسة حصلنا على بعض منها من التعليم المكتوب وعلى بعض الآخر في سرّ (en mystirio) سُلّم إلينا من تقليد الرسل. ولهما نفس الفاعلية بالنسبة إلى التقوى” (في الروح القدس 66). يظن المرء في النظرة الأولى أن القديس باسيليوس أدخل هنا سلطتين وقاعدتين أي الكتاب والتقليد. والحق، أنه كان بعيداً كلّ البعد عن هذا الأمر، لأن استخدامه للألفاظ كان خاصاً. فلفظة (kerygmata) تشير عنده إلى ما يسمَّى اليوم “بالعقائد” أي التعليم الرسمي الذي يُعتمد عليه في أمور الإيمان، والتعليم العلني. ولفظة (domata) كانت عنده مجموعة الأعراف و”العادات غير المدوَّنة” وبنية الحياة الليتورجية والأسرارية. لا ننسى مفهوم لفظة (dogma) لم يكن ثابتاً وأن هذه اللفظة لم تكن قد أخذت مدلولاً ثابتاً ودقيقاً في أيامه (17). في أي حال يجب أن لا نرتبك في رأي القديس باسيليوس الذي يقول إن الـ (dogmata) سلَّمها الرسل “في سرّ” (en mystirion). ونخطئ إذا ترجمناها بلفظة “الخفية”. فالترجمة الصحيحة هي “عن طريق الأسرار”، أي تحت شكل الاستخدامات الليتورجية والطقوس و”العادات” الليتورجية. هذا ما قاله بالضبط باسيليوس الكبير نفسه عندما كتب أن “معظم الأسرار وصلتنا بطريقة غير مكتوبة”. أمَّا لفظة “الأسرار” (ta mystica) فتشير هنا بالتأكيد إلى سرَّي المعمودية والشكر الذين يرجعان، في رأي القديس باسيليوس، إلى أصل “رسولي”. في هذا الصدد يستشهد باسيليوس بالرسول بولس عندما يذكر “التسليم” التي تسلَّمها المؤمنون “مشافهة وكتابةً إليهم” (2 تسا2 : 15، كور 11: 2). فالمجدلة التي تحدثنا عنها هي الواحدة من هذه “التقاليد” (71، أنظر أيضاً 66): “شرع الرسل والآباء منذ البدء في الاهتمام بكل ما يختص بالكنائس، فحفظوا في السّر والصمت هيبة الأسرار”). والحق، أن كل المقاطع التي يستشهد بها القديس باسيليوس في هذا المجال لها طبيعة ليتورجية وطقسية، كرسم إشارة الصليب في خدمة قبول الموعوظين والاتجاه إلى الشرق أثناء الصلاة، وعادة الوقوف المستمر أثناء صلاة الآحاد، واستدعاء الروح القدس في القداس الإلهي، وتبريك الماء والزيت، ورفض الشيطان وكلّ مجده، والتغطيس في الماء ثلاث مرَّات في خدمة المعمودية. ويقول باسيليوس إن هناك العديد من “أسرار الكنيسة غير المدوَّنة” (66 و67) لم تُذكر في الكتاب، لكنها ذات أهمية وسلطة كبيرتين، وهي وسائل ضرورية للشهادة والاتحاد وأمور لا بدَّ منها لحفظ الإيمان الصحيح، وتأتي، كما يشير، من التقليد “الصامت” و”الخاص” : “من التقليد الصامت والصوفي ومن التعليم الذي لا يُعلن ولا يُقال”. لم يكن هذا التقليد “الصامت والسرّي (mystical) وغير المعلَن” عقيدة باطنية مخصَّصة للنخبة، لأن “النُخبة” كانت الكنيسة. “فالتقليد” الذي يحتكم إليه القديس باسيليوس هو الممارسة الليتورجية في الكنيسة. إن القديس باسيليوس يلجأ هنا إلى ما نسمِّيه اليوم “نظام الكتمان” (disciplina aracni) الذي كان سائداً في القرن الرابع والذي دافعت عنه الكنيسة ودعمته. فكان ذا صلة بتأسيس رتبة الموعوظين وذا هدف تعليمي وتثقيفي. وهناك، على حدّ قول القديس باسيليوس، بعض “التقاليد” التي يجب أن تُحفظ بشكل “غير مدوَّن” لئلا تدنسها أيادي الهراطقة. هذه الإشارة تعود بوضوح إلى الطقوس والممارسات، ويجب أن نذكِّر هنا أن “دستور الإيمان” و”الصلاة الربَّانية” كانا في القرن الرابع جزئين من “نظام الكتمان” هذا، وأنه لم يكن جائزاً أن يعرضا لمن هم خارج الإيمان. كان دستور الإيمان مدخَّراً للذين يقبلون إلى المعمودية، في آخر مرحلة التعليم، أي بعد أن توافق الكنيسة عليهم وتدرجهم بكل إجلال في عداد “المستعدِّين للاستنارة”. وكان الأسقف يقوم “بنقل” دستور الإيمان إليهم مشافهة، وكانوا هم يتلونه غيباً أمامه في خدمة “نقل” (traditio) و”ترداد دستور الإيمان” (redditio symboli). وكان يحثّ الموعوظين على عدم إفشاء دستور الإيمان لغير المؤمنين وعلى عدم تدوينه. فهو يجب أن يُحفر في قلوبهم. وهنا يكفي أن نستشهد “بمقدمة التعليم الديني” (Procatechesis) للقديس كيرلّس الأورشليمي في الفصلين 12و 17. وفي الغرب أيضاً أحسَّ روفينوس وأغوسطين بأنه لا يليق بالمسيحيين أن يدونوا دستور الإيمان على الورق. ولذلك لم يذكر سوزمنوس في تاريخه نص الدستور النيقاوي “الذي كان يحق للمتنصرين وللمسارّين (mystagogues) تلاوته وسماعه” (التاريخ الكنسي 1: 20). أمام هذه الخلفية وضمن هذا المحتوى التاريخي يجب أن نقوِّم ونفسر برهان القديس باسيليوس. فهذا أكد بقوة أهمية الاعتراف بالإيمان في المعمودية، الذي يتضمن التزام الإيمان بالثالوث الأقداس، الآب والابن والروح القدس. كان هذا الاعتراف “تقليداً” يُسلم “في سرّ” إلى الذين تنصروا حديثاً ويُحفظ “بصمت”. ويتعرض المرء إلى خطر زعزعة “أساس الإيمان بالمسيح” إذا رفض وتجاهل هذا “التقليد غير المكتوب”. فالفارق الأوحد بين العقيدة (dogma) و”التعليم” (kerygma) كان في طريقة نقلها: العقيدة تُحفظ “بصمت” أمَّا التعاليم “فتُنشر وتُعلن”. لكنَّ هدفها واحد، لأنهما يقدمان الإيمان نفسه ولو بطرق مختلفة. لكن هذه العادة الخاصة لم تكن مجرد تقاليد الآباء – لأن تقليداً كهذا لا يكون كافياً. فالآباء استقوا مبادئهم من “قصد الكتاب وغايته”. “إنهم اتبعوا رأي الكتاب واستقوا مبادئهم من شواهده”. إذن، لا يضيف “التقليد غير المكتوب” في طقوسه ورموزه، شيئاً إلى محتوى الإيمان الكتابي: فهو يكتفي بالتركيز على الإيمان في بعده المحرقي .
كان احتكام القديس باسيليوس إلى “التقليد غير المكتوب” احتكاماً إلى إيمان الكنيسة وإلى “المعنى الجامع” (sensus catholicus) وإلى “الفكر الكنسي”. لذلك اضطر إلى أن يزيل المأزق الذي خلقه أعداؤه الآريوسيون، الضيِّقو الأفق والمتمسكون تمسكاً كاذباً بحرف الكتاب المقدس. فرد على زعمهم قائلاً اننا لا نقدر أن نفهم قصد الكتاب وتعليمه بعيداً عن قانون الإيمان “غير المكتوب”. لقد كان القديس باسيليوس كتابياً في لاهوته بكلّ ما في الكلمة من معنى. فالكتاب عنده كان المقياس الأسمى للعقيدة (الرسالة 189، 3). وتفسيره للكتاب كان رصيناً ومتَّزناً. إن الكتاب نفسه سر “للتدبير” الإلهي وسر للخلاص الإنساني، عمقه لا يُسبر غوره، لأنه كتاب “مُلهَم”، كتاب من الروح القدس. ولذلك يجب أن يكون تفسيره الصحيح روحياً ونبوياً. فموهبة التمييز الروحي ضرورية لفهم صحيح للكلمة المقدسة، “لأن ناقد الكلمات يجب أن ينطلق من الإستعداد الذي ينطلق منه المؤلف نفسه… وأرى أنه من المستحيل على كلّ إنسان أن يأخذ على نفسه التدقيق في كلمات الرب، ما لم يملك الروح الذي يهب قوة التمييز” (الرسالة 204). ويُعطَى الروح في أسرار الكنيسة، لذلك يجب أن يُقرأ الكتاب تحت ضوء الإيمان وسط جماعة المؤمنين. ولهذا السبب كان تقليد الإيمان، كما سُلِّم من جيل إلى جيل، بالنسبة للقديس باسيليوس، المرشد الضروري والدليل في دراسة الكتاب المقدس وتفسيره. إذن حذا القديس باسيليوس حذو القديس إيريناوس وأثناسيوس في هذا المجال. وكذلك أغسطين استخدم التقليد بطريقة مشابهة ولا سيما الشاهد الليتورجي
الكنيسة مفسِّر للكتاب:
كان للكنيسة سلطان تفسير الكتاب، لأنها المستودع الحقيقي الأوحد للتعليم الرسولي (Kerygma). فهذا التعليم حُفظ بطريقة حية في الكنيسة، لأن الروح أعطي لها. والكنيسة كانت تعلِّم “مشافهة” (viva voca) مودعة كلمة الله وموطدة إياها في النفوس “فصوت الإنجيل الحيّ” (viva vox Evangelu) لم يكن مجرد تلاوة لكلمات الكتاب، بل كان إعلاناً لكلمة الله كما سُمعت وحُفظت في الكنيسة بقوة الروح الذي يفعل فيها دائماً ويحييها. أمَّا خارج الكنيسة وخارج خدمتها الكهنوتية القانونية “المتعاقبة” من أيام الرسل فلم يتمّ إعلان صحيح للإنجيل ولا تبشير قويم ولا فهم حقيقي لكلمة الله. إذن إن التفتيش عن الحقيقة في مكان آخر، أي خارج الكنيسة الجامعة الرسولية، سيكون بلا فائدة. هذا كان الإيمان المشترك في الكنيسة القديمة، من أيام القديس إيريناوس وحتى مجمع خلقيدونية وما بعده. فالقديس إيريناوس كان نوذجياً في هذا المضمار، لأن الرسل، في رأيه، هم الذين حملوا ملء الحقيقة في الكنيسة : “فكل ما يتصل بالحقيقة أودع في أيديهم بأكثر وفرة” (ضد الهراطقة 3، 4، 1). والحق، أن الكتاب ألَّف القسم الأكبر من هذه “الوديعة” الرسولية، مثلما ألَّفت الكنيسة. فالكنيسة والكتاب لا ينفصلان ولا يتناقضان. فالكتاب، أي فهمه الصحيح، موجود في الكنيسة فقط، لأن الروح القدس يوجهها ويرشدها. ولذلك أكد أوريجنس وحدة الكنيسة والكتاب. وكانت مهمة المفسر، عنده، الإعلان عن كلمة الروح: “يجب أن ننتبه عندما نعلم لئلاّ نقدم تفسيرنا الخاص بدلاً من تفسير الروح القدس” (في تفسير رومية 1، 3، 1). هذا الأمر يبقى مستحيلاً خارج التقليد الرسولي المحفوظ في الكنيسة. فأوريجنس شدد على التفسير “الجامع” للكتاب، كما هو مقدم في الكنيسة: “لنصغ في الكنيسة إلى كلمة الله التي تقدم على نحو جامع” (في تفسير اللاويين، العظة 4، 5). أما الهراطقة فيتجاهلون في تفسيرهم “قصد” الكتاب الحقيقي: “فالذين يقدمون كلام الله من دون أن يقرنوه بقصد الكتاب وبحقيقة الإيمان ويزرعون قمحاً ويحصدون شوكاً” (في تفسير إرميا العظة 7، 3). إن “قصد” الكتاب المقدس يرتبط بقوة “بقانون الإيمان”. هذا هو موقف الآباء في القرن الرابع والقرون اللاحقة الذي ينسجم كلّياً مع تعليم الأقدمين. فالقديس إيرونيموس، رجل الكتاب العظيم، أورد الفكرة نفسها بأسلوبه القوي الحاد، فقال: “إن ماركيون وفاسيليدس وهراطقة آخرين… لا يملكون إنجيل الله، لأنهم لا يمكلون الروح القدس، الذي من دونه يصبح الإنجيل المبشَّر به إنسانياً. فنحن لا نعتبر أن الإنجيل (أي البشارة) يتألَّف من كلام الكتاب المقدس فغايته في معناه، لا في سطحه، في لبِّه وجوهره، لا في أوراق العظات، بل في أصل معناه. في هذا الحال يصبح الكتاب نافعاً حقاً للسامعين عندما يُبشَّر به مع المسيح وعندما يُقدم ويُعرض مع الآباء وعندما يُقدِّمه المبشِّرون به مع الروح… كبير هو خطر التكلم في الكنيسة، لأن التفسير المنحرف يحول إنجيل المسيح إلى إنجيل إنساني” (في تفسير غلاطية 1، 1، 2، مجموعة الآباء اللاتين، مين 26، 386).
نجد هنا الاهتمام نفسه بالفهم الصحيح لكلمة الله مثلما نجده في أيام إيريناوس وترتليان وأوريجنس. وبما كان إيرونيموس يقوم بإعادة صياغة كلام أوريجنس عندما قال إن “الإنجيل الإلهي” لا يوجد خارج الكنيسة، بل يوجد بديل إنساني منه. إننا لا نقدر أن نستقصي المعنى الحقيقي للكتاب (sensus Scripturae) أي الرسالة الإلهية، إلاَّ في ارتباطه بحقيقة الإيمان (veritatem juxta fidei)، وتحت توجيه قانون الإيمان. و”حقيقة الإيمان” (verias fidei) هي الاعتراف الإيماني بالثالوث. وهذه هي طريقة القديس باسيليوس. فالقديس إيرونيموس يتحدث هنا أولاً عن إعلان الكلمة في الكنيسة “لمن يصغي إليها” (andientibus utilis est).
أوغسطين والسلطان الجامع:
بهذا المعنى يجب أن نفسر قول أوغسطين الشهير والمدهش حقاً : “لو لم يحركني سلطان الكنيسة الجامعة لما آمنت بالإنجيل” (V.f.epistolum fundaminti 6). يجب علينا أن نقرأ هذا العبارة ضمن سياقها. فأوغسطين لم ينطق بهذه العبارة بالأصالة عن نفسه، إنما بالأصالة عن الموقف الذي كان على المؤمن العادي أن يتخذه عندما يواجه الهراطقة، الذين يزعمون أنهم أصحاب السلطان. في هذا الحال، يليق بالمؤمن البسيط أن يحتكم إلى سلطان الكنيسة، التي تلقى فيها ومنها الإنجيل نفسه (أي البشارة) : “إنني آمنت بالإنجيل نفسه، لأن مبشرين “جامعيين بشروني”. فالإنجيل وتعليم الكنيسة الجامعة لا يفصلان. وأوغسطين لم يسمع إلى “إخضاع” الإنجيل للكنيسة، بل أراد أن يشدد على أننا نتلقى “الإنجيل” في إطار التبشير الجامع في الكنيسة، لأنه لا ينفصل عنها. في هذا الإطار وحده يأخذ الإنجيل مكانه ويُفهم فهماً صحيحاً. والحق، أن شهادة الكتاب بينة وواضحة كل الوضوح عند المؤمن الذي وصل إلى نضج “روحي”، وهذا ممكن في الكنيسة فقط. لذلك قاوم أوغسطين الأوهام التي يتعلل بها التفسير المانوي عبر هذا التعليم وعبر سلطان (auctoritas) البشارة اللذين يتصلان بالكنيسة الجامعة. فالإنجيل لا يخص المانويين. أما “سلطان الكنيسة الجامعة” فلم يكن مصدراً مستقلاً للإيمان، بل كان مبدأً ضرورياً للتفسير الصحيح. إننا نقدر أن نقلب هذه العبارة فنقول: يجب أن لا يؤمن المرء بالكنيسة ما لم يحركه الإنجيل. فالعلاقة متبادلة بنيهما بشكل تام
الأب جورج فلوروفسكي
من كتاب :الكتاب المقدس والكنيسة والتقليد
 
موضوع مغلق


الانتقال السريع


الساعة الآن 11:24 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024