منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 28 - 06 - 2016, 06:12 PM   رقم المشاركة : ( 13351 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

القديس غريغوريوس بالاماس وتقليد الآباء

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
إتِّباع الآباء:
كان استهلال التحديدات العقيدية بعبارات مشابهة لعبارة “إتِّباع الآباء القديسين” مألوفاً في الكنيسة القديمة. فجمع خلكيدونية استهل قراراته بهذه الكلمات. والمجمع المسكوني السابع ابتدأ قراره المتعلق بالأيقونات المقدسة بطريقة موسّعة فقال: “إننا نتبع تعليم الآباء القديسين الذي أوحى به الله ونتَّبع تقليد الكنيسة الجامعة”. فتعليم (didaskalia) الآباء هو المرجع النموذجي والرسمي.
لكن هذا كان أكثر من “احتكام إلى القِدَم”، لأن الكنيسة شدّدت منذ البدء على ديمومة إيمانها واستمراريته على مر العصور. هذه الوحدة منذ أيام الرسل كانت إشارة جلية إلى الإيمان الصجيج وأمارة له. لكنَّ “القِدَم” في حدّ ذاته لم يكن برهاناً كافياً للإيمان الحقيقي، بل إن الرسالة المسيحية كانت “الجِدة” المؤثرة في “العالم القديم” والدعوة إلى التجديد الجذري. فالقديم زال وانقضى وصار كل شيء جديداً. أمّا الهرطقات فكانت قادرة على الاحتكام أيضاً إلى الماضي وعلى الاستشهاد بسلطان بعض “التقاليد”. والواقع أنها تمسكت في أغلب الأحيان بالماضي، إذ إن الصيغ القديمة كثيراً ما تكون مضلِّلة بشكل خطير. يكفي أن نقتبس هذا المقطع المهم من مصنفات القديس فكنديوس الليرنسي الذي وعى هذا الخطر وعياً كلياً: “والآن، يا له من انقلاب مدهش للوضع! فأصحاب الرأي الواحد اعتُبروا مستقيمي الرأي، أما أتباعهم فاعتُبروا هراطقة؟ الزعماء غُفر لهم أمّا التلاميذ فأُدينوا؟ سيكون واضعو الكتب أبناء الملكوت، أمّا أتباعهم فسيذهبون إلى جهنم” (commonitorium،cap 6). لا شك، أن فكنديوس فكّر في ما وقع بين القديس كبريانوس والدوناتيين، وكان كبريانوس القديس قد واجه الحالة نفسها فقال: “قد يكون القِدَم في حد ذاته ضرراً كبيراً” (الرسالة74)، أي أن “العادات القديمة” في حد ذاتها لا تضمن الحقيقة. فما الحقيقة عادة.
التقليد الحقيقي هو “تقليد الحق” (traditio veritatis) الذي يستند، عند القديس إيريناوس، إلى “موهبة الحق الأكيدة” (charisma veritatis certum) التي “أُودعت” في الكنيسة منذ البدء والتي حفظها تعاقب الأساقفة غير المنقطع. فما “التقليد” في الكنيسة استمراراً للذاكرة الإنسانية وللأعراف والطقوس لأنه تقليد حيّ و”وديعة حيّة” (depositum juvenescens)، كما قال القديس ايريناوس. ولذلك لا نقدر أن ندرجه “بين الشرائع المميتة” (inter mortuas regulas). فهو استمرار لحضور الروح القدس المقيم في الكنيسة واستمرار للتوجيه الإلهي والإنارة الإلهية. إن الكنيسة لا تُقيّد “بالحرف”، لأن الروح يحركها دائماً. فالروح نفسه، أي روح الحق، الذي “تكلم من خلال الأنبياء” وأرشد الرسل هو يستمر في قيادة الكنيسة إلى فهم أكمل للحق الإلهي، فيقودها من مجد إلى مجد.
ليست عبارة “إتِّباع الآباء القديسين” إشارة إلى تقليد مجرّد ذي صيغ وافتراضات، بل هي أولاً احتكام إلى شهود قديسين. فنحن نحتكم إلى الرسل لا إلى “رسولية” مجردة. ونرجع إلى الآباء على نحو مشابه، لأن شهادتهم تنتمي عضوياً إلى بنية الإيمان الأرثوذكسي. فالكنيسة ائتمنت على بشارة (Kerygma) الرسل وعقيدة (Dogma) الآباء في آن. إننا نقدر أن نقتبس هنا ترنيمة قديمة رائعة (لعلّها من قلم القديس رومانوس المرنم) تقول: “ولأن الكنيسة تحفظ بشارة الرسل وعقائد الآباء فهي تختم الإيمان الواحد، ولأنها ترتدي حلّة الحق والقماش المنسوج في اللاهوت السماوي فهي تمدح باستقامة سر التقوى العظيم”.
فكر الآباء:
إن الكنيسة “رسولية” بالطبع ولكنها آبائية أيضاً. فهي أساساً “كنيسة الآباء”. وهاتان “السمتان” لا نقدر أن نفصلهما، ولكونها “آبائية” فهي “رسولية” حقاً. وشهادة الآباء هي أكثر من ميزة تاريخية وأكثر من صوت من الماضي. ولنقتبس هنا ترنيمة أخرى من خدمة الأقمار الثلاثة (باسيليوس الكبير وغريغوريوس النزينزي ويوحنا الذهبي الفم): “إنكم بكلمة المعرفة ألّفتم العقائد التي وضعها الصيادون قبلاً بكلام بسيط عبر معرفة من قوة الروح فاكتسب تقاناً البسيط بهذا تركيباً”. هناك مرحلتان أساسيتان في إعلان الإيمان المسيحي. “كان على إيماننا البسيط أن يكتسب تركيباً”. ففي الانتقال من البشارة (kerzgma) إلى العقيدة (dogma) وُجد دافع داخلي ومنطق داخلي وضرورة ضمنية. والحق، أن تعليم الآباء وعقيدة الكنيسة مازالا “الرسالة البسيطة” نفسها التي سلّمها وأودعها الرسل مرة وإلى الأبد. أمّا الآن فهي مترابطة بكل اتساق وانتظام. ليست البشارة الرسولية محفوظة في الكنيسة فقط، بل هي حيّة فيها. بهذا المعنى يكون تعليم الآباء مقولة دائمة للوجود المسيحي ومقياساً ثابتاً وسامياً للإيمان القويم. فما الآباء شهوداً للإيمان القديم فقط (testes antiquitatis)، بل هم شهود للإيمان الحقيقي (testes veritatis). إن “فكر الآباء” مرجع حقيقي للاهوت الأرثوذكسي لا يقل شأناً عن كلمة الكتاب المقدس ولا ينفصل عنه أبداً. وكما قال أحدهم بحق: “فإن الكنيسة الجامعة في كل العصور ليست ابنة لكنيسة الآباء فقط، بل إنها كنيسة الآباء وستبقى كذلك»
الطابع الوجودي في اللاهوت الآبائي:
كان الطابع “الوجودي” علامة مميِّزة للاهوت الآبائي إذا جاز لنا أن نستعمل بصددهم هذا التعبير الحديث. وكما قال القديس غريغوريوس النزينزي، تكلَّم الآباء لاهوتياً “على طريقة الصيَّادين (الرسل) لا على طريقة أرسطو” (العظة 23، 12). فلاهوتهم بقي “بشارة” (kerygma) رغم أنه مرتَّب ترتيباً منطقياً مزوَّد ببراهين عقلية، لأن مرجعهم الأخير كان الرؤية الإيمانية والمعرفة الروحية والخبرة. فاللاهوت لا يحمل قناعة خارج الحياة في المسيح، أمّا إذا فُصل عن حياة الإيمان فإنه يتحوّل إلى ديالكتيك فارغ وإلى كلام كثير باطل (polyogia) لا قيمة روحية له. لقد كان اللاهوت الآبائي متأصلاً تأصلاً وجودياً في التزام الإيمان، من غير أن يكون “نظاماً” يفسِّر نفسه بنفسه ويعرض عرضاً برهانياً وجدلياً أي أرسطوطاليسيا (aristotelikos) بدون أي التزام روحي مسبق. والآباء الكبادوكيون الكبار احتجوا على استخدام الديالكتيك القائم على المقاييس الأرسطية، في عصرهم الذي تميَّز بالنزاع اللاهوتي والنقاشات المستمرة، وحاولوا إعادة اللاهوت إلى الرؤية الإيمانية. ونحن نقدر أن “نعظ” باللاهوت الآبائي من منبر الوعظ فقط، وأن “نعلنه” في كلام الصلاة والخدم المقدسة، ونظهره في بنية الحياة المسيحية. هذا اللاهوت لا يكمن فصله أبداً عن حياة الصلاة وعن ممارسة الفضيلة. “فقمة الطهارة هي أساسا اللاهوت” على حد قول يوحنا السلَّمي (السلم، الدرجة 30).
هذا اللاهوت هو، من جهة أخرى، “تعليم إعدادي”، لأن هدفه الأسمى هو الاعتراف بسر الله الحيّ والشهادة له قولاً وفعلاً. ليس “اللاهوت” غاية في حد ذاته، بل هو دائماً طريقة، لأنه لا يقدِّم-وكذلك “العقائد”- سوى “إطار فكري” عن الحقيقة المعلنة، وشهادة “عقلية” (noetic) لها. بالإيمان فقط يمتلئ هذا “الإطار” محتوى. فالصيغ الخريستولوجية تأخذ معناها الكامل فقط عند الذين لاقوا المسيح الحيّ واعترفوا به ربّاً ومخلِّصاً ويقيمون فيه بالإيمان وفي جسده الذي هو الكنيسة. بهذا المعنى لا يكون اللاهوت نظاماً يفسِّر نفسه بنفسه، لأنه احتكام دائم إلى الرؤية الإيمانية : “إننا نعلن لكم ما رأيناه وسمعناه”. وخارج هذا الإعلان تبقى الصيغ اللاهوتية فارغة لا أهمية لها. ولذلك لن نأخذها “بشكل تجريد”، أي خارج إطار الإيمان. إننا نخطئ إذا اقتطعنا من النصوص الآبائية قطعاً وفصلناها عن المنظور الذي وُضعت فيه. وهذا يشبه خطأ استخدام آيات من الكتاب المقدس بعد نزعها من إطارها. ولذلك تبقى عادة “اقتباس” أقوال الآباء وعباراتهم خطرة إذا عزلناها عن المحيط الذي تأخذ فيه معناها الحقيقي وتصبح مليئة بالحياة. “إتِّباع الآباء” لا يعني فقط “اقتباس” أقوالهم والاستشهاد بها، بل يعني اقتفاء “فكرهم” وعقلهم (phronema).
معنى “عصر” الآباء:
والآن، وصلنا إلى النقطة الحاسمة. فإن اسم “آباء الكنيسة” يقتصر عادة على معلِّمي الكنيسة القديمة، ويفترض البعض أن سلطانهم يستند إلى “قِدَمهم” وإلى قربهم النسبي من “الكنيسة الأولى”، أي من “عصر” الكنيسة الأولى. لكن القديس ايرونيموس سبق فأنكر هذه الفكرة. ونحن لا نجد تناقضاً في “السلطان” ولا تناقضاً في الأهلية والمعرفة الروحيتين على مرّ التاريخ المسيحي. ففكرة “التناقض” هذه أثَّرت في تفكيرنا اللاهوتي الحديث. ولذلك غالباً ما نفترض بوعي أو بغير وعي أن الكنيسة الأولى كانت أكثر قرباً من مصدر الحقيقة. إن هذا الافتراض مفيد وصحيح كإقرار بفشلنا وبعدم قدرتنا وكنقد ذاتي متواضع. لكن جعله نقطة انطلاق أو قاعدة “للاهوت تاريخ الكنيسة” أو حتى للاهوت الكنيسة يبقى خطراً. في الواقع، يجب أن يحتفظ عصر الرسل بمكانه الفريد، لكنه ليس سوى بداءة. ولقد افترض الناس كثيراً أن “عصر الآباء” قد انتهى، ولذلك نظروا إليه ككيان قديم “عتيق الزيّ” و”ميت”. فحاول كلّ واحد أن يسعى إلى وضع حدود له. فألِف الناس أن يُعتبر يوحنا الدمشقي “آخر” أب في الشرق وأن يوضع غريغوريوس الذيالوغور (المحاور) أو ايسيدرس السفيلي “آخر” أب في الغرب. ولكن البعض ابتدأ برفض هذا التصنيف الزمني. أما يجب أن ندرج مثلاً القديس ثيوذورس رئيس دير الستوديوم بين “الآباء”؟ فمابيلون اقترح أن يكون برنارد الكليرفو، المعلِّم “المعسول اللسان”، “آخر الآباء ومساوياً لأقدمهم”.
في الواقع، إنّ المسألة تتجاوز تصنيف أدوار زمنية. فمن وجهة نظر الغرب حلَّ “عصر المدرسين” محلّ “عصر الآباء” واعتبر هذا التطور خطوة إلى الأمام. فمنذ ظهور السكولاستيكية اعتُبر “اللاهوت الآبائي” عتيق الزيّ وصار ينتمي إلى العصور الغابرة وكأنه مقدمة موسيقية متناهية في القدم. لكن وجهة النظر هذه، الشرعية في الغرب، قَبِلَها، ويا للأسف، كثيرون في الشرق على نحو أعمى وغير نقدي. إذن، يجب أن يواجه المرء الخيار فيما إذا كان عليه أن يتأسّف على “تخلّف” الشرق الذي لم يظهر أية “سكولاستيكية” خاصة به أو أن ينكفئ عائداً إلى “العصور القديمة” بشكل أثري تقريباً ويمارس ما وصفه البعض ببراعة “بلاهوت التكرار” علماً بأن هذا اللاهوت ليس سوى شكل خاص للسكولاستيكية المقلِّدة.
واليوم يقال كثيراً إن “عصر الآباء” ربما انتهى قبل القديس يوحنا الدمشقي بوقت طويل. فغالباً ما يقف الفرد عند عصر يوستينيانس أو عند مجمع خلكيدونية. إلا يُعتبر ليوندوس البيزنطي “أول السكولاستيكيين”؟ يُفهم هذا الموقف من وجهة نظر نفسية، لكن لا يمكن تبريره لاهوتياً. والواقع أن آباء القرن الرابع كانوا أكثر تأثيراً من الآخرين وعظمتهم الفريدة لا تُنكر، لكن الكنيسة بقيت حيِّة بعد مجمعي نيقية وخلكيدونية. فالمغالاة في التأكيد على “القرون الخمسة الأولى” تشوِّه بشكل خطير الرؤية اللاهوتية، وتحول دون الفهم الصحيح لعقيدة خلكيدونية نفسها. وكثيراً ما ينظر الناس إلى قرارات المجمع المسكوني السادس وكأنها ملحق بقرارات مجمع خلكيدونية، يثير اهتمام الإخصائيين في اللاهوت فقط. وكذلك فإن شخصية مكسيموس المعترف أُهملت تقريباً في الكنيسة. وهكذا تُحجب الأهمية اللاهوتية للمجمع المسكوني السابع حتى أن المرء يتساءل: لماذا يجب أن يُربط “أحد الأرثوذكسية” بإحياء ذكرى انتصار الكنيسة على محاربي الأيقونات؟ ألم يكن هذا مجرَّد خلافٍ في الطقس؟ غالباً ما ننسى أن الصيغة الشهيرة التي تتعلق “باتفاق القرون الخمسة الأولى”، أي حتى مجمع خلكيدونية، كانت صيغة بروتستانتية تعكس لاهوتاً بروتستانتياً عن التاريخ. فهي صيغة مقيِّدة، رغم أنها تظهر شاملة عند الذين يريدون أن يكتفوا بالعصر الرسولي. والصيغة الشرقية الرائجة عن “المجامع المسكونية السبعة” لا تكون أفضل كثيراً إذاً اتجهت إلى حصر السلطان الروحي في الكنيسة ضمن القرون الثمانية الأولى، وهذا ما تفعله عادة. فيظهر كما لو أن “العصر الذهبي” للمسيحية قد ولَّى وأننا صرنا في عصر حديدي أدنى منه على صعيد القوة والسلطة الروحية. فكرنا اللاهوتي الحديث تأثر بشكل خطير بنمط الانحطاط الذي تبنّاه الغرب من أيام الإصلاح البروتستانتي من أجل تفسير التاريخ المسيحي. مذ ذاك فُسِّر كمال الكنيسة بشكل جامد فتشوَّه الموقف تجاه القِدَم وأُسيء فهمه. وفي النهاية، لا فرق بين حصر سلطان الكنيسة بقرن واحد أو بخمسة قرون أو بثمانية قرون، إذ يجب ألا نضع له أي حدّ أو تحديد، لأنه لا يوجد أي مجال “للاهوت الترداد”. إن الكنيسة ما زالت تتمتَّع بسلطانها الكامل كما تمتَّعت به قديماً، لأن روح الحق يُحييها كما أحياها قديماً.
تراث اللاهوت البيزنطي:
إن إحدى نتائج تحديدنا الكيفي للأدوار الزمنية هي جهلنا التراث اللاهوتي البيزنطي. لكننا أصبحنا الآن مستعدِّين أكثر من العقود الماضية لأن نقبل سلطان “الآباء” الدائم، خاصة عندما ظهر إحياء الدراسات الآبائية في الغرب. ومع ذلك فنحن ما زلنا نتجه إلى تضييق مجال قبولنا لها، لأن الكثيرين غير مستعدين لإدراج اللاهوتيين البيزنطيين بين الآباء، ولأننا مازلنا نميل إلى اعتبار العصر البيزنطي متمّماً للعصر الآبائي بشكل يكون فيه أقل شأناً، ولأننا مازلنا نشك في وثاقة صلته المعيارية بالتفكير اللاهوتي. لقد كان اللاهوت البيزنطي أكثر بكثير من ترداد للاهوت الآبائي، فالجديد الذي برز فيه لم يكن اقل أهمية من “القِدَم المسيحي”. والحق، أن اللاهوت البيزنطي استمرار عضوي لعصر الآباء. فهل حصل أي انقطاع؟ وهل تغيَّرت روح (ethos) الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية في حقبة تاريخية معيّنة، علماً بأن شيئاً من هذا لم يلاحظ قط، بحيث ما ظهر فيها من تطور لاحق كان ذا سلطة متدنية عما سبقه؟ قبولنا بهذا الشيء يُستنتج ضمناً من التقليد الحصري بالمجامع المسكونية السبعة. فنحن بهذا نهمل القديس سمعان اللاهوتي الحديث والقديس غريغوريوس بالماس والمجامع الكبيرة التي أيّدت الحياة الهدوئية والتي عُقدت في القرن الرابع عشر. فما هي أهميتهم وسلطانهم في الكنيسة؟
مازال القديس سمعان اللاهوتي الحديث والقديس غريغوريوس بالماس معلِّمين كبيرين يلهمان الذين يجاهدون في الكنيسة الأرثوذكسية من أجل الكمال الروحي والذين يعيشون حياة الصلاة والتأمل، إمّا في جماعة رهبانية أو في التوحد في الصحراء أو حتى في العالم. هؤلاء المؤمنون لا يعون أي “انقطاع” مزعوم بين العصر الآبائي والعصر البيزنطي. فالفيلوكاليا، التي هي دائرة معارف كبيرة عن التقوى الشرقية والتي تجمع كتابات من قرون متعددة أصبحت في أيامنا كتاباً يهدي كل من يرغب في ممارسة الأرثوذكسية في وضعنا الحاضر. والكنيسة اعترفت بسلطان نيقوديموس الآثوسي جامع هذه المؤلفان وأعلنت قداسته. بهذا المعنى نذهب إلى القول أن “عصر الآباء” يستمر في “الكنيسة المصلَّية”. أفما يجب أن يستمر أيضاً في سعينا اللاهوتي وفي دراستنا وبحثنا وإرشادنا؟ أما يجب أن نستعيد “فكر الآباء” أيضاً في تفكيرنا اللاهوتي وفي تعليمنا؟ فاستعادته لا تُشكل أسلوباً قديماً ولا ذخراً كريماً، هي موقف وجودي واتجاه روحي. بهذه الطريقة وحدها يستعيد لاهوتنا مكانه في كمال وجودنا المسيحي. فلا يكفي أن نحافظ على “الليتورجيا البيزنطية” -كما نفعل- وأن نعود إلى الاهتمام بالأيقونة والموسيقى البيزنطيتين – ونحن مازلنا محجمين عن فعله بصورة دائمة- وأن نمارس بعض أساليب التقوى البيزنطية، بل يجب علينا أن نعود إلى جذور هذه التقوى التراثية وأن نستعيد “الفكر الآبائي”، وإلا وقعنا في خطر الانقسام الداخلي، كما حدث في أوساطنا، بين أشكال التقوى “التقليدية” وبين عادتنا اللاتقليدية في التفكير اللاهوتي. وهذا خطر حقيقي. فنحن “كمصلِّين” مازلنا نحافظ على “تقليد الآباء”. أما يجب أن نقف بضمير حيّ وبمجاهرة في هذا التقليد أيضاً “كلاهوتيين” وكشهود ومعلِّمين للأرثوذكسية؟ هل نقدر أن نحتفظ باستقامتنا بطريقة أخرى؟
القديس غريغوريوس بالماس والتألّه
تتصل كلّ هذه الاعتبارات التمهيدية بهدفنا المباشر وهو: ما هو التراث اللاهوتي عند القديس غريغوريوس بالماس؟ إن القديس غريغوريوس لم يكن لاهوتياً منظِّراً، بل كان راهباً وأسقفاً. ولذلك لم يهتمّ بالمسائل الفلسفية المجرّدة، مع أنه كان مثقفاً جداً في هذا الحقل، لأن همّه الأوحد ارتبط بمسائل الوجود المسيحي. فهو بوصفه لاهوتياً قام بترجمة خبرة الكنيسة الروحية، لأنه كتب معظم مصنَّفاته باستثناء عظاته لمواجهة المشاكل الطارئة. فصارع مشاكل عصره الذي كان حرجاً ومشحوناً بالجدل والقلق ومتَّسماً أيضاً بالتجديد الروحي.
اتَّهمه أعداؤه بالابتداع المدمِّر، وحتى هذا اليوم ما برح الغربيون يقذفونه بهذا الاتهام. أمَّا هو فمتأصل في التقليد، حتى إننا لا نجد صعوبة في إرجاع أكثرية أرائه ودوافعه إلى الآباء الكبادوكيين (باسيليوس الكبير وغريغوريوس النزينزي وغيريغوريوس النيصصي) وإلى القديس مكسيموس المعترف الذي كان أكثر معلِّمي الفكر والإيمان البيزنطيين شعبية. وكان القديس غريغوريوس يعرف أيضاً فكر ديونيسيوس الآريوباغي. كان متأصلاً في التقليد، لكن لاهوته لم يكن “تكرارياً”، بل كان امتداداً خلاّقاً للتقليد القديم. وكانت نقطة انطلاقه هي الحياة في المسيح.
من بين المواضيع المتعددة التي تناولها لاهوت القديس غريغوريوس نكتفي ببحث موضوع واحد يثير الكثير من الجدل وهو ما هي الصفة الأساسية في الوجود المسيحي؟ إن الهدف الأسمى من الحياة البشرية قد حدّده الآباء في تقليدهم من خلال لفظة “التألّه” (Theosis). لا شك أن لفظة “التأله” مزعجة للأذن المعاصرة. حتى إننا لا نقدر أن نترجمها بدقة إلى أية لغة معاصرة ولا نقدر أن نترجمها حتى إلى اللاتينية. وفي اليونانية تبقى اللفظة ثقيلة ومتكلّفة. والحق، أنها لفظ جريئة، لكنَّ معناها واضح وبسيط. هذه اللفظة كانت تعبيراً حاسماً في المصطلح الآبائي. يكفي أن نقتبس أقوال القديس أثناثيوس: “فهو أصبح إنساناً حتى يؤلِّهنا في ذاته” (إلى أدلفيوس 4)، “لقد تأنس حتى نتألَّه نحن” (في التجسد 54). هكذا يلخَّص القديس أثناثيوس فكرة القديس ايريناوس الشهيرة: “هو بمحبته العظيمة صار مثلنا حتى يرفعنا إلى ما هو عليه” (ضد الهرطقات 5، المقدمة). هذه كانت قناعة الآباء اليونانيين عامة. ويقدر المرء أن يقتبس بتفصيل أقوال القديس غريغوريوس النزينزي وغريغوريوس النيصصي وكيرلس الإسكندري ومكسيموس المعترف وسمعان اللاهوتي الحديث.
فالإنسان يبقى دائماً هو هو، أي إنه كائن مخلوق. لكنه في يسوع المسيح، الكلمة المتأنس، وعده الله وأعطاه المشاركة الفعلية في ما هو إلهي، أي في الحياة الأبدية غير الفاسدة. إن الميزة الرئيسية للتألّه، عند آباء الكنيسة، هي الخلود واللافساد، إذ لله “وحده الخلود” (1تيمو6: 16). لكن الإنسان يُقبل الآن في “اتحادٍ” صميم بالله بواسطة المسيح وبقوة الروح القدس. وهذا الاتحاد هو أكثر بكثير من اتحاد “خلقي” ومن كمال بشري. وحدها لفظة “التألّه” تقدر أن تُترجم ترجمة وافية فرادة الوعد والعطاء. فهي تعيقنا وتربكنا إذا ما فكّرنا فيها من خلال المقولات “الوجودية” والكيانية. الإنسان لا يقدر أن “يصير” إلهاً، لكنَّ الآباء كانوا يفكرِّون على المستوى “الشخصي” ويرجعون إلى سرّ الاتحاد الشخصي. “التألّه” مواجهة شخصية، إنه هذا الاتصال الحميم للإنسان بالله الذي يخترق فيه الحضور الإلهي كل الوجود الإنساني.
لكن المشكلة الباقية هي: كيف تنسجم هذه العلاقة مع التعالي الإلهي، وهل يلاقي الإنسان الله حقاً في هذه الحياة على الأرض؟ وهل يلاقي الإنسان الله حقاً ويقيناً في حياة الصلاة الحاضرة؟ أم هل نحن فقط بصدد “مقدرة مستقبلية” (action in distans)؟ ما قاله الآباء الشرقيون هو أن ارتقاء الإنسان في العبادة يوصله إلى ملاقاة الله وإلى مشاهدة مجده الأزلي. لكن إذا كان الله “يسكن في النور الذي لا يُدنى” فكيف نقدر أن نلاقيه؟ كانت المفارقة الظاهرية حادة بصورة خاصة في اللاهوت الشرقي الذي التزم دوماً الاعتقاد بأن الله “لا يُدرك” كلياً (akataliptos) وأنه لا يُعرف في طبيعته أو جوهره. هذا الاعتقاد عبّر عنه بقوة الآباء الكبادوكيون، في صراعهم ضد الأفنوميين، وعبّر عنه القديس يوحنا الذهبي الفم في مباحثه الرائعة “في عدم إدراكنا لله” (Peri Akataliptou). فإذا كان الإنسان لا يقدر أن يدنو من الله في جوهره، وإذا كان اتحاده بجوهره مستحيلاً فكيف يكون “التأله” ممكنا؟ يقول الذهبي الفم: “من يبتغِ إدراك جوهر الله يشتمه”، والقديس أثناثيوس ميّز بين جوهر الله وقواه فقال: “هو موجود بصلاحه في كل الأشياء، لكنه يبقى خارجها بطبيعته الخاصة” (في مقررات مجمع نيقية 2). هذا المفهوم وسّعه بدقة الكبادوكيون. فقال القديس باسيليوس إن الإنسان لا يقدر أن يدنو من “جوهر الله” (ضد أفنوميوس 1: 14). إننا نعرف الله في قواه فقط ومن خلالها: “نحن نقول إننا نعرف إلهنا من قواه وأفعاله لكننا لا نعطي وعداً بأننا ندنو من جوهره، لأن قواه تنحدر إلينا، أمّا جوهره فيبقى بعيداً” (الرسالة 234 ضد أمفيلوخيوس). لكنّ هذه المعرفة لا تكون حدساً أو استدلالاً، إذ إن قواه تنحدر إلينا. وفي تعبير القديس يوحنا الدمشقي، هذه القوى إعلان عن الله نفسه: “الإشراق الإلهي والقوة” (العرض الدقيق للإيمان الأرثوذكسي 1: 14). فحضوره حقيقي ولا يكون فقط مثل “حضور الممثِّل فيما يفعله”. ورغم التعالي المطلق في الجوهر الإلهي تعلو هذه الطريقة السرية للحضور الإلهي على كل فهم، لكنّ هذا التعالي لا يجعلها غير أكيدة بالنسبة للعقل.
في هذا المجال يستند القديس غريغوريوس بالاماس إلى تقليد قديم. فالله الذي لا يُدانى يدنو من الإنسان “بقواه” سرِّياً. هذه الحركة الإلهية تُحدث اللقاء، فهي “حركة نحو الخارج” على حدّ قول مكسيموس المعترف (تعليق على كتاب الأسماء اللإلهية 1، 5).
يبدأ القديس غريغوريوس التمييز بين “النعمة” و “الجوهر” فيقول : “لا تكون الإنارة الإلهية المؤلِّهة جوهر الله، بل قوته” (الفصول الفلسفية واللاهوتية 68- 69). هذا التمييز اعترفت به الكنيسة رسمياً في المجمعين الكبيرين اللذين عُقدا في القسطنطينية سنة 1341 وسنة 1351. حتى إنها أبسلت من ينكر هذا التمييز. وهذه الإبسالات التي أصدرها مجمع سنة 1351 أُدرجت في خدمة أحد الأرثوذكسية في كتاب التريودي. فاللاهوتيون الأرثوذكسيون إذاً مُلتزمون بهذا القرار. بما أن الجوهر الإلهي لا يُدانى فمصدر التأله الإنساني وقوته لا يعودان إلى الجوهر الإلهي، بل إلى “نعمة الله”، لأن “القوة الإلهية المؤلِّهة التي يتألَّه بها المشاركون فيها هي نعمة إلهية لا جوهر إلهي” (المصدر نفسه 92-93). فما النعمة (Kharis) جوهراً (Ousia)، بل هي “النعمة الإلهية غير المخلوقة والقوة غير المخلوقة” (المصدر نفسه 69). لكنَّ هذا التمييز لا يحمل انقساماً أو انفصالاً (المصدر نفسه 127). إن القوى تصدر عن الله وتظهر كيانه ووجوده ولفظة “تصدر” (proiene, προιεναι) تشير إلى التمييز لا إلى الانفصال. “وإن اختلفت نعمة الروح عن طبيعته، لكنها لا تنفصل عنها” (ثيوفانيس ص. 940).
يفترض تعليم القديس غريغوريوس عمل الله الشخصي، أي إن الله يتحرك باتجاه الإنسان ويحتضنه “بنعمته” وفعله، من دون أن يغادر “النور الذي لا يُدانى” المقيم فيه أبداً. فكان الهدف الأسمى من تعليمه اللاهوتي الدفاع عن حقيقة الخبرة المسيحية، لأن الخلاص أكثر من غفران، فهو تجديد حقيقي للإنسان. وهذا التجديد لا يتمّ من خلال التحرر من بعض القوى الطبيعية الموجودة في طبيعة الإنسان المخلوقة، بل من خلال “قوى” الله نفسه الذي يلاقي الإنسان ويوحِّده مع ذاته. والحق، أن تعليم القديس غريغوريوس يؤثِّر في كل المنهج اللاهوتي وفي جسم العقيدة المسيحية. فهو يبدأ بالتمييز الواضح بين “طبيعة” الله و”إرادته”. وهذا التمييز كان من ميزات التقليد الشرقي، على الأقل ابتداء من القديس أثناثيوس. في هذا المجال يمكن طرح السؤال التالي: هل ينسجم هذا التمييز مع “بساطة” الله؟ أم هل ننظر إلى هذا التمييز كتخمينات عقلية ضرورية لنا، لا أهمية وجودية لها؟ لقد هاجمه أعداءه من هذه الزاوية، لأنهم كانوا يعتبرون أن كيان الله بسيط وأن كل صفاته متطابقة. وأوغسطين ابتعد أيضاً عن التقليد الشرقي في هذا المجال، ولذلك يظهر تعليم بالاماس غير مقبول إذا قسناه بالفرضيات الأوغسطينية. وبالماس نفسه توقّع الاعتراضات التي يمكن أن تنتج عن تمييزه الأساسي فقال إنه إذا لم يقبله المرء لاستحال التمييز بوضوح بين “ولادة” الابن و”خلق” العالم، كونها من أعمال الجوهر. وهذا يقود إلى خلط وتشويش عقيدة الثالوث. وكان القديس غريغوريوس بالماس متشدداً في هذه النقطة إذ قال: “إذا لم تختلف القوة الإلهية في شيء عن الجوهر الإلهي، كما يعتقد أعداؤنا الذين يهذون ومن يشاطرهم الرأي، فلن يختلف فعل الخلق الذي ينتمي إلى الإرادة في شيء عن الولادة والانبثاق اللذين ينتميان إلى الجوهر. وإذا لم يختلف الخلق عن الولادة والانبثاق فلن تختلف المخلوقات في شيء عن المولود والمنبثق. وبهذه الطريقة لن يختلف ابن الله والروح القدس عن المخلوقات، وتصبح المخلوقات كلّها “من مواليد الله ومبثوقاته” وتتألَّه الخليقة ويُدرج الله بين المخلوقات. لذلك عندما أظهر كيرلس الموقَّر الفرق بين جوهر الله وقوته قال إن الولادة تنتمي إلى الطبيعة الإلهية حين أن الخلق ينتمي إلى قوته الإلهية. وهذا ما أظهره بوضوح عندما قال: “ما الطبيعة والقوة شيئاً واحد”. إذا كان الجوهر الإلهي لا يختلف عن الخلق والصنع. إن الله الآب يخلق بالابن في الروح القدس. ولذلك يلد الله ويبثق، وفق رأي أخصامنا ومن يوافقهم، بالابن في الروح القدس” (الفصول 96-97). هنا اقتبس بالماس مقطعاً من كيرلس الإسكندري، لكنَّ القديس كيرلّس كان يردد ما قاله القديس أثناثيوس الذي أكَّد، في دحض الآريوسية، الفارق الكبير بين الجوهر (أو الطبيعة) والإرادة. الله موجود قبل أن يفعل وهناك نوع من “الضرورة” في الكيان الإلهي، لكنها لا تكون ضرورة إكراه أو قدر، بل ضرورة الوجود نفسه، الله هو ما هو، فهو حرّ الإرادة كلياً. هو لا يُكرِهُهُ أحد على فعل الأشياء التي يقوم بها. لذلك تكون الولادة دائماً “بحسب الطبيعة”، أمَّا الخلق فيكون “عمل الإرادة” (ضد آريوس 3، 64-66). هذان البعدان، بُعد الوجود وبُعد الفعل، يختلفان، بل يجب أن نميِّز بينهما بوضوح. ومما لا شك فيه هو أن هذا التمييز لن يعرِّض “البساطة الإلهية” للخطر، لأنه تمييز حقيقي لا مجرَّد صورة منطقية. لقد وعى بالماس أهمية هذا التمييز فكان في هذا المجال خليفة أثناثيوس الكبير وخليفة أساقفة كبادوكية الكبار حقاً.
اقترح البعض مؤخراً أن نَصِفَ لاهوت القديس غريغوريوس بعبارات حديثة كعبارة “اللاهوت الوجودي”. والواقع أن لاهوته يختلف جذرياً عن كل المفاهيم الحديثة التي تدلّ عليها عادة هذه العبارة. وفي أي حال فإنه قاوم بقوة كل أنواع “اللاهوت الجوهري” (Essentialist) الذي فشل في تفسير حرية الله ودينامية إرادته وحقيقة عمله الإلهي، وأرجع هذه النزعة إلى أوريجنس. فهذا هو المأزق الكبير الذي وقع فيه الميتافيزيقيون اللاشخصانيون اليونانيون. وإذا كان هناك مجال لميتافيزيقيا (ماورائية) مسيحية فيجب أن تكون ميتافيزيقية الأشخاص. انطلق بالماس من تاريخ الخلاص ومن التاريخ الكتابي القائم على الأعمال الإلهية، هذا التاريخ الذي بلغ أوجه في تجسد الكلمة وفي تمجيده بالصليب والقيامة. أمّا إذا تحدَّثنا عن تاريخ الإنسان المسيحي الذي يسعى إلى الكمال فإننا نراه يرتقي درجة درجة حتى يلاقي الله في رؤية مجده. كان وصف لاهوت القديس ايريناوس “بلاهوت الوقائع” مألوفاً. ولذلك نقدر أن نصف لاهوت بالماس بأنه “لاهوت الوقائع” أيضاً، وذلك بقوة التبرير نفسه.
وفي أيامنا هذه نحن نقتنع أكثر فأكثر بأن “لاهوت الوقائع” هو وحده اللاهوت الأرثوذكسي السليم. فهو لاهوت كتابي وآبائي يلائم كليّاً فكر الكنيسة.
لذلك يمكننا أن نعتبر القديس غريغوريوس بالماس مرشدنا ومعلِّمنا في سعينا إلى التكلّم في اللاهوت من قلب الكنيسة.
كُتبت هذه المقالة في عام 1960
الأب جورج فلوروفسكي
من كتاب :الكتاب المقدس والكنيسة والتقليد
 
قديم 28 - 06 - 2016, 06:15 PM   رقم المشاركة : ( 13352 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

خدمة الكنيسة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الكاهن خادم في الكنيسة. إنه في الكنيسة ويقوم بالخدمة من قبل الكنيسة. ذلك لأن الكنيسة هي مؤسسة خدمة، إذ أن مؤسسها أرادها كذلك وعاشها كذلك وأسسها كذلك على مثاله. فإن ابن الإنسان جاء “ليَخدُم”… والكنيسة جسده إنما تمدّ خدمته هذه. هذا وإنها لتجربة كبرى أن تحوِّل الكنيسة هذه الخدمة المعهودة إليها إلى مصدر حقوق لها وامتيازات.. ولما كانت الكنيسة في الواقع كثيراً ما تسقط بشرياً في هذه التجربة وبأيسر مرام فالعالم يرفضها ويبتعد عنها. فالخدمة إذن هي في الوقت نفسه علّة وجود الكنيسة وحقيقتها ومصدر صعوبة تبنيها كل التبني في ملئها: أي كمؤسسة للخدمة.
أما في الكهنوت فالأمران يتطابقان إذ أن الكاهن هو للكنيسة: هو تحديداً من يخدم الكنيسة وقد كرس لها طاقاته وحياته وكيانه. إنه يحيا من أجلها (على أن يراها في كل سموها وقوتها كما في واقع ضعفاتها البشرية). هو من ناحية ثانية من تستخدمه الكنيسة لخدمة البشر والعالم تحقيقاً لمشيئة الله “بأن يرجع الخاطئ ويحيا” (حزقيال33: 11).
ويجب أن نميز هنا وجهي خدمة الكاهن في وصفه أداة للكنيسة: إنه أولاً أداة فائقة الطبيعة ينسكب من خلالها الروح القدس. فأنهار المياه الحيّة تنسكب من أحضان الثالوث القدّوس وتحيي العالم عبر الكاهن. ولكن في الوقت نفسه لا ننسيّن أنه في هذه الخدمة التي تتم من خلاله يبقى إنساناً من لحم ودم، بشرياً ذا إحساس ذاتي، ومخلوقاً معرضاً لكل ضعفات الطبيعة البشرية المجروحة التي لا تزال في طريقها نحو الشفاء الكامل ومجد اليوم الأخير.. فهذا هو وضع خدمة الكاهن على حقيقته.
ولنأتِ الآن إلى التعمق في مفهوم معنى كلمة “خدمة”. إن فعل “خدم” ليس ذا مفهوم تافه عادي. نعم إنه يستعمل كثيراً في كل اللغات وفي كل الأوضاع والظروف الممكنة، ولكنه من أعمق كلمات تاريخ الخلاص. وذلك لأنه قد تقدّس بقصد الله من وراءه بل بخدمة الله المتجسد. ويمكن التعبير عن كل تاريخ الخلاص والإعلان الإلهي في إطار الخدمة وداخل مفهوم الخدمة. فيمكن القول مثلاً إن سر الخلاص إنما هو انتقال الإنسان من وضع العبودية إلى وضع الخدمة، من عبد إلى خادم طوعي، أي من العبودية إلى الحرية. فحتى على الصعيد النفساني الصليب هو أساس خلاص الإنسان. ذلك أن في الإنسان مهما جهل نفسه تناقضاً ومشادةً بين العبودية والحرية: إننا نشعر كلنا أننا مشدودون بين الاثنتين، بين قدرة غامضة تريد إخضاعنا لقوات وسلاطين هي غريبة عنا وفينا في آن واحد، وبين ميل يدفعنا إلى أن نصير نحن، أن نطابق أنفسنا، أن نتحرر. وهذه المشادة الكيانية في الإنسان لم تجد حلاً لها إلا على صليب الجلجلة، صليب الإله الإنسان، يسوع المسيح. من خلال صليبه فقط تسنى أن يتحرر الإنسان الخاضع للخطيئة والفاقد حريته وحقيقته وروحه والمائل إلى العبودية.
أما العبودية فهي نوعان: أن نكون عبيداً أو أن نبتغي استعباد الآخرين لنا. إما أن نكون نحن عبيداً، فاقدي الحرية، بمنزلة أشياء مادية، وذلك بفعل هوى يأسرنا أو بفعل قوى مادية أقوى منا تفقدنا هويتنا(12)، بكلمة واحدة بقبولنا وخضوعنا للقوة التي تريد إخضاعنا، وأما أن نريد نحن إخضاع قريبنا لنا والتسلط عليه فنفرض عليه العبودية في شكل من الأشكال (سواء عن طريق المال أو الضغط الاجتماعي أو التفوق الثقافي أو الترؤس المستبِد الخ…) ونجعله بمثابة شيء، وبذا نصبح بدون انتباه منا عبيداً لعبيدنا، لأن من يستعبد الأخرين هو أول من يستولي عليه روح العبودية فيصير أسيراً لرغبته (على مثال مأساة الأهواء كلياً). ولذلك نطلب في صلاة أفرام السرياني أن «أعتقني من حب الرئاسة».
هذا وقد فهمنا ذلك بمجيء المسيح فقط. لم يكن الإنسان من قبل منطبقاً مع ذاته، لم يكن حراً، كان عبداً غير قادر على أن يَخدُم، ذلك لأن الخدمة لا تتم إلا في الحرية، أعني في عطاء الذات والتفاني والطاعة. إننا نرى رسماً لهذه الخدمة في العهد القديم في الخروج من مصر، إذ أعتق الله شعبه من العبودية المصرية ليجعله خادماً له. فالله لا يقبل خدماً له إلا أناساً أحراراً مفتدين. ولكن من يخدم الله يملك معه. يقول أحد اللاهوتيين: “انتبه أيها الإنسان فالله لا يقبل في ملكوته إلا الآلهة”. إن الخدمة تجعلنا مشابهين لله ومعاونين له، نجلس “على اثني عشر كرسياً…” (متى19: 28). لقد وعد يسوع بطرس بذلك عندما قال له بطرس: “ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك (لنخدمك) فماذا يكون لنا؟” فأجابه يسوع “تجلسون معي…”. هذا هو معنى الخدمة: المساهمة في ملكوت المسيح ومجده، بما فيه الصليب. “لم يخطر على قلب إنسان ما أعده الله للذين يحبونه” (1 كور2: 9).
إذن بالرب يسوع نبدأ فنفهم أن الخدمة هي الاشتراك في حياة الله. الخدمة عمل تضحية وطاعة أفضل من كل ذبيحة (1 صموئيل15: 22). منذ العهد القديم بدأوا يفهمون أن الخدمة المادية الخارجية لا معنى لها إلا بالتضحية الداخلية وبالطاعة: “أريد حباً (رحمة) لا ذبيحة” (هوشع6: 6). إن خدمة الله إذن تحررنا، تُفهمنا أن الله نفسه هو حرية خدمة وعطاء كامل بدافع المحبة، وإننا بهذه الخدمة والمحبة نحقق أنفسنا وذلك بقدر ما نعطي وليس بقدر ما نأخذ، لأنه “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ” (أع20: 35). ولذا نجد بإزاء الله “ممون” إله المال في قول يسوع: “لا تستطيعون أن تخدموا ربين” (متى6: 24). الرب الإله يقابله المال كرب أيضاً، ولكننا بينما في خدمة الإله الحي نتحرر وننموا ونتحقق إذ لا نخاف من بذل الذات، خادمين وباذلين أنفسنا مع الله إلى المنتهى، نحن في خدمة ممون، نعبد صنماً لا حياة له، إذ كلما اكتسبنا، واقتنينا، وجمعنا ارتباطنا بالأرض وأُسرنا وضقنا بدلاً من أن ننعتق ونتسع ونزداد وجوداً.
هذا وإن المسيح هو خادم الله الأول، “عبد” الله المنوه عنه في سفر أشعياء (أش52: 13 والإصحاح 53)، هو الذي أتى “ليخدِم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين” (مز10: 45). “إن الذين يحسبون رؤساء الأمم يسودونهم وإن عظماؤهم يتسلطون عليهم، فلا يكون هكذا فيكم بل من أراد أن يصير فيكم أولاً يكون للجميع عبداً” (مر10: 42-44)، “ومن أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً” (متى20: 26). إن ملكوت الله هو ملكوت خدمة وتضحية وذبيحة: “خذوا كلوا هذا هو جسدي… هذا هو دمي الذي يهراق من أجل كثيرين…” (مر14: 22-24). “أنا بينكم كالذي يَخدُم” (لو22: 27). وقد أعطانا الرب مثالاً في ذلك غسله لأرجل التلاميذ (يو13: 3-5). لم يكتفِ بالحث على الخدمة بل قام بالفعل وقد سبق غسل الأرجل مباشرة العشاء السري فكان إعداداً للذبيحة الكبرى. إن في هذا الحادث لجَّة عجيبة من الحكمة والكشف الإلهيين، إذ أن السيد يتخذ أبسط الأشياء وأتفهها “غسل الأرجل” ويرفعه إلى مرتبة الذبيحة الكبرى جاعلاً إياه نوعاً من إفخارستيا تقريباً. وهذا يعني أنه في سبيل الدخول إلى الخدمة الكهنوتية علينا أن نمر دائماً في الخدمة المتواضعة على منوال غسل الأرجل وأن نفهم إن الأمور الصغيرة، منذ التجسُّد، تحتوي الله أكثر من الكبيرة. أو بالحري لم يعد هناك من أمور صغيرة، لأنها على صغرها تمكننا من أن نخدم الله أكثر وبصورة أفضل.
هكذا فهم الرسل رسالتهم وحققوها: بمثابة خدمة. عندما تكلموا عن يهوذا الإسخريوطي بعد خروجه من صف الاثني عشر ذكروه بأنه كان له “نصيب في هذه الخدمة” (أع1: 17). وعندما اختير متياس ليحلّ محلّه اختير “ليأخذ هذه الخدمة والرسالة” (أع1: 25). أما بولس الرسول فيتكلم عن “الخدمة التي أخذتها من الرب يسوع لأشهد ببشلرة نعمة الله” (أع20: 24) وعن “كل ما فعله الله بين الأمم بواسطة خدمته” (أع21: 19). ويشير إلى نفسه كخادم الله للمصالحة (2 كو15: 18) وكخادم المسيح (2 كو11: 23). هذا هو إطار الخدمة وتقليدها في الكنيسة منذ البدء. إن خدمتنا لله أعمق الأمور كلها. هي عميقة كحقيقة الإنسان لأنها سبيل اتساع الإنسان وازدهاره في حقيقته، وذلك بالمحبة وبذل الذات والتضحية المؤدية إلى الغلبة والمجد.
أما الكاهن فيقوم بتلك الخدمة بدخوله في الكنيسة وتكريس الكنيسة له كأداة للروح لخدمتها. وليست الكنيسة هنا شيئاً مجرداً وهمياً بل هي أناس معينون، رعية ما يقيم فيها الكاهن علاقات واقعية مع بشر من لحم ودم. إننا نفهم كل سر التجسّد الإلهي من خلال ذلك، لأن كل هذه الحقائق وأمثالها تُعطى لنا معرفتها في أشياء صغيرة غير ظاهرة يكون الله مخفياً وراءها. فالرسل لم يعرفوه لما كلمهم بعد القيامة ولكنه كان هو حاضراً. وقد عرفه تلميذا عمواس “عند كسر الخبز” (لو24: 35) الذي يرمز ويعبر عن ملء خدمته الكهنوتية.
هذا وإن خدمة الكاهن في الكنيسة تتم في ثلاثة أوجه أو صعد:
1- في الشفاعة والوساطة
الشفيع الوسيط هو من يقف في الوسط بين فريقين يصل بينهما ويحاول جمعهما عن طريق إقامة علاقات وحدة بينهما. والفريقان هنا هما الله الخالق والإنسان المخلوق. أما الله فهو في علاقته مع الإنسان أمين أمانة أبدية، ولكن الإنسان ابتعد عن الله في مأساة الحرية التي خُلق عليها. ولذا عمد الله إلى إيجاد وسطاء، أناساً أكثر أهلية من غيرهم للتكلم معه والتوسط لديه لصالح الفريق المخِل المخطئ. وكان هؤلاء الوسطاء “آباء العهد القديم وأنبياؤه” رسماً وظلاً لمن كان عتيداً أن يأتي وهو يسوع ابن الله الوسيط الوحيد، لأن الطرفين قد اتّحدا به وفيه في شخص واحد إلهاً وإنساناً معاً. إذ أن ألوهيته اتّحدت بإنسانيته وقبلت الوضع البشري الذليل. ووساطته هذه ذهبت حتى النهاية، حتى الصليب، متّخذة بذلك نهج الخدمة القصوى التي ليس بعدها من خدمة، خدمة المحبة الإلهية.
أما يسوع فمنذ بداية كرازته على الأرض اختار معاونين له وهم الرسل (أنظر الإصحاح العاشر من إنجيل متى). إلا أن مهمتهم لم تنحصر في هذا العالم ولم تقتصر عليه، فمعاونو الرب هم معه حيث هو، يشتركون في سلطانهم (متى28: 18) وما يحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء (متى16: 19 و يو20: 23). وفي سفر الرؤيا الذي هو سفر الكهنوت السماوي (أنظر الإصحاح الخامس من) نراهم يغلبون غلبة من يتألمون معه ويتشفعون في الآخرين قائلين: “حتى متى أيها السيد القدوس” (رؤ6: 9-11). وهذا هو وضع الكاهن الوسيط في خدمته للكنيسة. فالكاهن وسيط لدى الروح أيضاً بمعنى أن الروح هو الذي يجعل جسد الكنيسة واحداً وهو بوساطة الكهنة يعطي ويسكب ويبني الكنيسة. الكاهن يقف في آن واحد من جهة الله ومن جهة الناس، فيمثل الشعب لدى الله ويمثل الله لدى الشعب. ولذا هو “ملح الأرض”، الملح الذي يمنع الفساد في العالم (وقد قيل أن الكاهن القدّيس يصنع الشعب الفاضل والكاهن الفاضل يصنع الشعب غير الشرير، والكاهن غير الشرير يصنع الشعب الملحد). الكاهن وسيط في خدمة الأسرار يقرّبها لله عن الشعب، وهو أمام الشعب شاهد لله بكلامه ومثاله وحياته. فعلى الكاهن أولاً أن يكون مؤمناً بالديانة التي يخدم. وإلا فالخدمة الطقسية التي يقوم بها بانتظام، إذا اقتصرت على الصعيد الخارجي ولم “يتخذها” في حياته، لا تعبُر من خلالها قوة السر، مع كونها خدمة حقيقية فاعلة. إنها لا تكون مشعة بقدر السر نفسه ما دام الكاهن يقاومها ولا يسكب فيها طاعته. الكاهن يظهر للشعب دائماً بأيسر مرام “ودون أن يشاء” أي إله يخدم: الإله الحي أو “ممون” أو رباً آخر.. لا ننسى أننا كهنة المسيح وورثة الله معه (أنظر رو8: 14-17). الكاهن صورة حية لمحبة الآب للعالم لأنه “مُسَلَّم” (بتشديد اللام وفتحها) للناس كالمسيح (من قبل الآب) لينقل إليهم محبة الله: لا أيَّة محبة (محبة مجردة أو بشرية) بل محبة فاعلة، عاملة، تتحسس أحوال الناس وتتألم معهم، تبحث وتفتش لتُخلِّص “ما قد هلك” (متى18: 11). بكلمة واحدة على الكاهن أن يكون المسيح في العالم. لا لم يُمسح الكاهن بمسحة الروح من أجل تأمين الطقوس الخارجية فقط “فهذا يكون أمراً فظيعاً” بل نحن ككهنة مكرسون ومفروزون للمسيح، عبيده وأعضاؤه المختارون الذين من خلالهم يبذل نفسه للعالم.. ومن الطبيعي أن تواجه الكاهن في هذا المضمار صعوبات وعقبات وصدمات شتى لأن هذا العالم ما زال يتمخض متوقعاً الخلاص.
ثمّ لا ننسى أن الكاهن أيضاً نبيٌّ: ليس بمعنى من يتنبأ بالمستقبلات بل من ينبئ بالله ويعلنه و “بصرخة” في وجه الناس، من يكلم شعباً أصم لا إحساس له وقد تقسَّى قلبه. وفي هذا الإعلان والصراخ لا يلتمس صالحه ومجده الذاتي بل يخدم وحسب. إن النبيَّ الحقيقي الوحيد هو المسيح الذي أجْلَت فيه النبوءات عن سرها. فكان عند ظهوره نبيُّ محبة الآب للناس ونبيُّ الاتضاع يؤدي خدمة ابن الله الذي أتى لخاصته وخاصته لم تقبله، ولكنه أحبها إلى المنتهى. وهذا يعني أن الكاهن على مثال المسيح سوف يصطدم دائماً بعادات الناس المتحجرة وعماهم. ولكن الوسيط ضروري رغم كل شيء لكي يحول دون سقوط ديانة الروح في النمطيّة الماديّة والاجتماعية والخارجيّة، فعلى الكاهن أن “يصدم” شعبه دائماً إلى حدًّ ما ليوقظ ويجدّد فيهم همّ “بتشديد الميم” الكنيسة الحقيقيّة الحيّة، لكي لا ينطفئ الروح.
2- اقتبال الجميع
إن اقتبال الكاهن للناس يجب أن يكون اقتبالاً جامعاً يشمل الجميع ولا يحتمل أي رفض لأي كان، وذلك لأن الكاهن لا يجذب الناس إلى نفسه بل إلى من يمثله ويخدمه. ليس من السهل بشرياً أن لا نرد أحداً، أن نقبل الكل بدون استثناء أحد، إذ سريعاً ما يظهر عدم صبرنا وانفعالنا عند إزعاج الناس لنا. فعلى الكاهن أن يستقبل الكل برحابة صدر وقلب مفتوح، أن يصير نوراً، أن يستقر في الهدوء والصفاء والشفافية إزاء الناس (دون أن يكون في ذلك أية لا مبالاة). كل إنسان نلتقيه إنما يعلن لنا الله، يعبر عن نية الله الخالقة، فالله خالقه قد أراده أن يكون وعرفه قبل إنشاء العالم، وجعلني أعرفه، فكيف يمكنني أن أرفضه، وذلك رغم انزعاجي أو تألمي منه؟ الكاهن مسؤول في الكنيسة، هو رجل الله فلا يملك ذاته من بعد بل هو لله، والله هو للآخرين، إذن الكاهن هو للآخرين أيضاً. إن الله يوزَع “بفتح الزين” دون انقطاع في الإفخارستيا، وعلى الكاهن أيضاً أن يكون قرباناً حيّاً، في وضع توزيع واقتبال للجميع، في حالة “آمين” دائم. نعم إن هذا مؤلم أحياناً كثيرة ومضنن يصلب الكاهن صلباً، ولكن رغم ذلك فليكن دائماً واثقاً مطمئناً، يكسر ذاته في إقدام وصبر وفي الفرح بالآخرين. إن بذل الذات هو في الحقيقة أفضل سبيل ليتجدّد المرء ويربح ذاته والعكس بالعكس. “من أراد أن يُهلك نفسه يُخلِّصها ومن أراد أن يُخلِّص نفسه يُهلكها” (متى16: 25).. بهذا الاقتبال الشامل وعطاء الذات للجميع نبلغ إلى النضج: فالآخر حينذاك لا يعود يخيفنا، لا يعود حضوره مصدر قلق واضطراب لنا بل يصبح بالعكس مصدر فرح. وما دمنا لم نصل إلى هذا فلسنا بعد “بالغين” في المسيح. ما دام فينا إرث الخوف والتردد وعدم الثقة أمام الناس لا تُتِمّ خدمة المسيح من خلالنا بكاملها.
3- في المحبة المصلوبة
تَتِمُّ خدمة الكاهن دائماً، من البداية حتى النهاية، في “المحبة المصلوبة”. أن نخدم الناس يعني أن نحيا من محبة الله للناس، ومحبتنا هذه مصلوبة لأن هذا هو واقع خدمتنا. نحن مصلوبون على عدم اكتراث الناس وعلى رفضهم لخدمتنا. إن خطايا هذا العالم ترفض وتقاوم ما نحمله فينا من فوق لا منا. إن المسيح صُلب لما رفضه الذين أحبهم وأتى إليهم: “إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله” (يو1: 11)، بالإضافة إلى أنه صُلب بالجسد أيضاً.. فلا نستطيع نحن أن ننجو من الصلب. “إذا كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم أيضاً” (يو15: 20)، “ليس عبد أعظم من سيده” (يو13: 16). وإلى جانب ذلك نحن مصلوبون أيضاً على ضعفاتنا ونقائصنا والفساد الذي فينا، فلنتجاوزها لا بالسعي نحو كمال نظري نتصوره في ذهننا (إن كمالاً مثل هذا غير موجود. هذه تجربة “الكمالية” العقيمة) بل بمزيد من بذل ذواتنا قرابين حيّة وذلك كما نحن، على علاتنا. فالمسيح سلّمنا جميعاً إلى الناس ومن خلالنا سلّم نفسه إليهم..
هذا وإن الله يخلق لنفسه أبناء عبر صلبنا: “يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضاً إلى أن يتصور المسيح فيكم” (غلا4: 19)، ومن خلال هذا المخاض يحقق المسيح ذاته في الكنيسة “التي هي جسده، ملء الذي يملأ الكل في الكل” (أفسس1: 23). “أفرح في آلامي لأجلكم وأكمل نقائص شدائد المسيح في جسمي لأجل جسده الذي هو الكنيسة” (كو1: 24). الكاهن في خدمته هو إذن في نضال ونزاع. يريد أن يعطي أكثر مما ينتظره الناس منه: ليس آيات وعجائب بل أبوة روحية. خدمة الكاهن هي أن يلد أبناء لله. إنه يتألم لأجل أبنائه وبسببهم كما يتألم معهم في نموهم كأولاد لله.
وهو أيضاً راعٍ لرعيته يستمد خدمته هذه من الراعي الوحيد الرب يسوع المسيح. وهو كراعٍ يسير مع قطيعه أينما رحل ومهما حلّ به ويشاركه ظروف حياته. إنه في آن واحد الرفيق والقائد الذي بدونه تتشتت الرعية. أما إذا تشتت “فسيُضرب (بضم الياء) كثيراً” (لو12: 48).
ولذا علينا أن نعطي حياتنا في كل شيء نقوم به. خدمة الكاهن للكنيسة أن يعطي حياته للكنيسة. إنه لا يستطيع أن يلد حياة دون أن يبذل حياته. ولكن الأمر العجيب البديع هو أنه لا يبذل حياته هو، بل إن حياة المسيح هي التي تبذل وتنسكب من خلاله. وبقدر ما نبذل أنفسنا حباً بالمسيح تكون الغلبة لحياة المسيح التي تعمل في أولاد الله وتحييهم ونحن معهم لحياة أبدية.
رهبنة دير مار جرجس الحرف
 
قديم 28 - 06 - 2016, 06:23 PM   رقم المشاركة : ( 13353 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

التأصل في الله: الخدمة الرسولية في الكهنوت

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة


دعوة وإرسال: الخدمة الرسولية في الكهنوت
لقد تحقق قصد الله عندما أتمّ المسيح ذبيحته وصار “كل شيء جديداً” (رؤ21: 5) بعد القيامة. والكهنوت إذ يمدُّ ذبيحة المسيح وقيامته هو عيد دائم: عيد جدة الفصح. إن الكاهن في الحقيقة يقيم باستمرار فصح الرب، الفصح الذي يجدد الحياة حولنا وفينا على الدوام. ليس من كهنوت إذن خارج المسيح الذي قام من بين الأموات، وكل كهنوت يستمد قوته وحقيقته من كهنوت المسيح. هذا هو سر الكنيسة. إنها “تتألف” حول هذا الكهنوت. إنها بمثابة وضع أو حالة ليتورجية، موجودة وكائنة بارتباطها واتحادها بحياة المسيح المصلوب والقائم من بين الأموات. بل يمكن القول أن الكنيسة هي ليتورجيا دائمة، وذلك على صورة رئيسها ومؤسسها الذي هو في السماء في حالة ليتورجيا دائمة كما رأينا أعلاه. غاية الكهنوت بالنتيجة هي أن يفتح هذا العالم على الأبدية. وأن لا يقتصر وجود الإنسان على الأرض على ما في هذه الدنيا وحسب ويحرم من الحياة. “إن هيئة هذا العالم تزول”، وبدون الكهنوت الإنسان منذور أيضاً مع هذا العالم للفناء والموت. ولكن “الليتورجيا” قد تمّت. المسيح بذل نفسه فانفتح الزمن للأبدية أو بالحري انفتحت الأبدية على الزمن. والكاهن هو الإنسان الذي بنعمة المسيح يقف دوماً بين عالمين هما واحد في المسيح الذي “جمعهما” في ذاته. فانظروا ما أعظم سر الكنيسة وسر حياتنا فيها: نحن من هذا العالم وفي الوقت نفسه لسنا من هذا العالم. إننا نقرِّب إلى الرب هذا العالم الذي هو له، وذلك في حالة أفخارستيا دائمة. ولأننا نقرِّب هذا العالم إليه فهو يرسل إلينا عالمه، العالم الإلهي، نعمة الروح القدس، أي نعمة الحياة الإلهية. عندما قال يسوع لتلاميذه “أنتم ملح الأرض” لم يكن يقصد ملحاً أخلاقياً، على نحو ظهور نخبة من الأدباء والحكماء لإصلاح العالم بمثالهم الصالح وما إلى ذلك، بل كان يعني ملحاً آخر بالكلية إذ أنه يمنح العالم الملح الحقيقي الذي هو الروح القدس. “لأن كل واحد يملَّح بنار”(مر9: 49). سيملح هذا العالم بالنار، هي نار الروح القدس. الملح العادي يحفظ الطعام من الفساد ويعطيه طعماً جاعلاً إياه قابلاً للأكل ولحفظ الحياة. والملح الذي يحفظ العالم من الفساد ويعطيه معنى هو الروح القدس الذي نناله مقابل ذبيحة الليتورجيا. لقد أحبنا الله أولاً، ونحن تجاوباً مع حبه نُعطي ذواتنا له في الليتورجيا فيعطينا هو ذاته: يعطينا روحه القدّوس وذلك بواسطة الكهنة. فالكاهن بالتالي يحمل رسالة بل يُجسد رسالة، إنه لا يمثل نفسه بل يمثل أعظم منه: إنه مبعوث من قبل آخر: هو رسول. إننا لا نستطيع أن نفهم دور الكهنوت في الكنيسة ما لم نعمق مفهومنا لمعنى الوظيفة الكهنوتية، ولوضع الكاهن على حقيقته، في أصوله ما وراء المنظور، أي في أعماق الله حيث جذور الكهنوت: الكاهن رسول الله. إننا بالكهنوت نعود لأحضان الثالوث الأقدس لأن الكاهن يقبل ويلبي دعوة تأتيه من قلب الثالوث وبها يمدُّ رسالة المسيح المبعوث إلى العالم من حضن الثالوث. هذا أساس خدمة الكاهن الرسولية وهذا معناها: إن لفظة رسول تحتمل معنيين: الأول يدلّ على نوع من همة ونشاط “رسوليين” ولكنه قد بدَّل المدلول الأصلي للكلمة وحطَّ من فحواها في وجدان الناس. فعبارة حياة “رسولية” أصبحت تعني حياة نشيطة، متّجهة نحو خدمة الآخرين. ليس هذا المدلول خطأ ولكنه يبقى جزئياً وخارجياً، كأن يقال مثلاً عن طبيب متفان مخلِّص أو عن مدرس أنه “رسول” أو أنه يتحلّى بروح “الرسولية”. فمن البديهي أن رسولية رسل المسيح تتجاوز هذا المعنى إذ أنهم يدعون رسلاً ليس لقيامهم بنشطات وخدمات شتى بل لقيامهم بأعمال قد أرسلهم آخر أعظم منهم لكي يعملوها. هذا أساس “الرسولية” وكنهها، لا ما نقوم به من خدمة إذ قد يستطيع أي إنسان أن يقوم بأية خدمة حتى بذل الذات دون أن يكون رسولاً. إن الرسولية تضفي معنى جديداً على أعمال الرسول لأن المسيح قال لرسله بعد القيامة: “كما أرسلني الآب أنا أرسلكم” (يو 20: 21). إن لفظة كما ليست هنا للمقارنة والتشبه بل هي تعني أن الرسل يواصلون عمل المسيح المرسل من الآب إلى العالم، إذ أضاف يسوع وقال لهم: “خذوا الروح القدس” (يو20: 22)، روح الله. إن المسيح هو الرسول الأول، رسول الآب للعالم بمعنى مطلق وفريد إذ أن الرسول هنا –ولأول مرة- لا يمثل من أرسله وحسب بل هو عينه إياه. فيه كل حضرة المرسِل بكامل فعلها وقوتها، بل فيه كل المرسِل. هنا يكمن ربما قلب سر الكنيسة الأرضية إذ أن رسوليتها هي انعكاس وامتداد للرسولية التي في داخل الثالوث الأقدس. ففي الثالوث الأقدس الآب الساكن “في نور لا يدنى منه” (1 تي 6: 16) هو بحسب تعليم الآباء مصدر الثالوث أي لجة المحبة والخصب الدائم والحضرة الغنية القصوى حتى أن اللامنظور الأول يعتلن مظهراً ذاته في الأقنومين الآخرين: “من رأني فقد رأى الآب” يقول المسيح (يو13: 9). إن إرسال الآب للابن ناتج عما في داخل الحياة الإلهية من ألفة حميمة جوهرية قصوى. في حياة الله الأكثر داخلية وسرية، خروج من الذات بدافع المحبة. فالله الآب الأزلي يلد أزلياً ابناً أزلياً هو صورة الآب الكاملة. إنه “كلمة” الآب يحمل في ذاته كل ما للآب. أما الآب الذي لا يحتفظ لنفسه بشيء يعطي الابن أيضاً تلك الإمكانية اللامحدود من المحبة. فمحبة الله هذه تستقر في الابن والابن يرتضيها. ولكنه أيضاً لا يحتفظ بها لنفسه (دون أن “يحتسبها اختلاساً”) فيسكبها بدوره داخل الثالوث حباً روحياً، يذهب نحو الروح، كفي دهش، فيتقبل الروح حب الآب للابن الواصل إليه ليرده بدوره للآب… غير أن هذا الفيض من الحب ضمن الثالوث يفيض إلى الخارج إذا جاز القول. فالحب بطبيعته لا يحدُّ بل يعبر عن ذاته تلقائياً حتى وإن في صمت. “الله سكوت” حسب قول المعلم أكهرت، ومن لجة السكوت هذه نبع الكلام. هكذا نور البرق قبل أن يضيء يكمن في السحب السوداء. وبقدر ما يكون التعبير عن المحبة متواضعاً تكون المحبة أقوى. فكان تعبير محبة الله التجسد والصليب بعُريه. المحبة لا تستطيع أن “تنفخ” بل تعرف بالعكس أن تبقى داخل القلب، في ذلك الصغر الحميم. الله اللامحصور يصير بدافع حبه محصوراً وقابلاً للحصر. إن بعض الآباء تكلموا في تأملهم في تدبير الله عن “انتزاع” الابن من الثالوث. إن كلمة الله يُنتزع من أحضان الثالوث، يخرج من حضن الآب إلى حضن العذراء. إذ وَجَد على الأرض تواضعاً قادراً على أن يسعه. والحقيقة أنه ليس تواضعاً ولا كبرياء بل هو تسليم. وهذه أولى صفات الرسولية وشروطها: حالة التسليم الكامل لله حتى يستطيع الله أن يأتي: فأتى المسيح إلى العالم كرسول الآب. وبذل ذاته عن البشر طاعة للآب وبهذا عَبَرَ اللجة التي تفصل بين الله وخليقته وملأها، فوجدت الخليقة فيه حضور خالقها، حضوراً محيياً وممجداً. وهذه الحضرة الإلهية فينا حقيقية وأصلية لدرجة أن بولس الرسول يقول: “فإنْ كنا أبناء فنحن ورثة أيضاً، ورثة الله وارثون مع المسيح” (أنظر رو8: 14-17). نحن ورثة بالتبنّي. أما المشترِك بالطبيعة في إرث الآب ومجده فيدعى أولاً رسول الآب وهو يدعو بدوره أناساً ليكونوا رسلاً له كما هو رسول الآب.
إن هذه الدعوة يدعوها الله منذ البدء. “من أرسل ؟” يقول الله في (أش6: 8). يدعو فيجيب أشعياء: “هائنذا فأرسلني”: إنها سرعة التلبية، وذلك على منوال إبراهيم أبي المؤمنين عندما قال له الله: “يا إبراهيم” فأجاب هائنذا فطلب إليه أن يُصعِد ابنه اسحق محرقة (تك22: 1 و2). أما الآن فقد جاء المسيح وأرسل أولاً الاثني عشر رسولاً الذين دعاهم دعوة فريدة خاصة. اضطرهم تقريباً إلى ترك حياتهم السابقة قائلاً لهم: “اتركوا شباككم فأجعلكم صيادي الناس…”. أما هم فسيرسلون بدورهم رسلاً بعد أن يمنحوهم نعمة الآب بوضع الأيدي فيبثوا فيهم كل معرفتهم وتسليمهم واضطرام إيمانهم.. وهكذا كانت الكنيسة “رسولية”. ولكن هؤلاء الرسل الأخيرين لا يمثلون الرسل الاثني عشر تمثيلاً خارجياً بشرياً وحسب. ليسوا رسل أناس لأناس ولا رسلاً كيفما اتفق بل بقوة المسيح بفعل الروح القدس نفسه، الأقنوم الخفي في الثالوث الأقدس. الروح القدس لا يظهر ذاته بل يحي وراء الإنسان ويحييه من الداخل على منوال إحياء النفس للجسد، إذ نحس بأننا واحد لا نفس وجسد. بالروح القدس يصبح الإنسان “روحياً” وذلك دون أن يشعر: أنه سر سكنى الروح فينا منذ المعمودية، أو منذ السيامة الكهنوتية: يحل فينا ليجعل منا رسلاً لله. هو الذي يصلي فينا، ويئن أو يتكلم. وبالتالي الإنسان غير مهم هنا. الإنسان مهم بقدر عدم أهميته، أعني بقدر ما يعرف أن يمحي ويتخلى عن ذاته ليفسح مكاناً للآب. إن الاثني عشر رسولاً كانوا شهوداً للرب حتى النهاية، حتى الموت. الكنيسة مبنية على “الرسل” ولكنهم أيضاً شهداء. بل من مقومات الرسول أن يكون شهيداً. فقد أرسلهم الرب “كخراف وسط ذئاب” (متى10: 16). وهم يشهدون لا بكلامهم أولاً بل بكيانهم المملوء ممن يشهدون له: الله هو الذي يشهد للسر فيهم وموت الشهادة ذروة وتتويج للحب وحسب…”ليس من حب أعظم من أن يبذل المرء نفسه عن أحبائه” (يو15: 33): بهذه البساطة. فالكنيسة بالنتيجة لم تنتصر عن طريق الكرازة الشفهية بل عن طريق الدم المهراق ثمناً للظفر: “الكنيسة التي اشتريتها بدمك الكريم” (نشيد كنسي). وانسكاب دم الشهداء هو مواصلة وامتداد لانسكاب دم المسيح، لأن دم المسيح فينا، نأخذه في سري المعمودية والشكر، وعندما نستشهد نسكب دم المسيح. وقد قال ترتوليانس: “كلما قتلتم أناساً منا كلما ازددنا وانتشرنا لأن دم الشهداء هو بمثابة زرع…” فالراهب راهب لأنه يعتنق الصليب لا ككلام بل كأداة تحويل كياني. يروى أنه لما بلغ المبشرون المسيحيون إلى سويسرا في القرن الثاني كان أحدهم “وقد أصبح أول شهيد وقديس فيها” يردد أمام الشعب إن الفرح الأعظم هو أن يموت الإنسان من أجل المسيح فقتله الشعب إرضاء له وتلبية لرغبته.. ثم تأثروا بشهادته واهتدوا إلى الإيمان بالمسيح.. ما هو كنه شهادة الرسل للرب أمام الناس؟ هو الشهادة لحياته على الأرض بل الشهادة لقيامته، بأنه قام من بين الأموات. وهذه القيامة التي يشهدون لها ليست أمراً عاماً مجرداً بل هي قيامة شخص معين، قيامة واحد من الناس هو المسيح. لما ظهر الرب لبولس على طريق دمشق قال له: «أنا يسوع الذي أنت تضطهده”. فعاين بولس الرب القائم من بين الأموات ومنذ تلك اللحظة صار رسولاً. والكاهن الذي هو أحد رسل المسيح يكمن سره كله في أنه يحيا في ألفة المسيح القائم من بين الأموات. إنه يشهد للمسيح عن طريق حياته الصميمية مع المسيح المنبعث من الموت. وعندئذ يتحقق القول: “الذي يسمع منكم يسمع مني والذي يرذلكم يرذلني” (لو10: 16). ذبيحة المسيح قد ولدت الكاهن وهو مدعو لأن يكمل تلك الذبيحة. إنه يرفع بيديه القرابين المقدّسة التي هي تقدمات الكنيسة وفي الوقت نفسه هبة الله أي روحه القدوس، وهكذا يكمل “الرسالة” بصيرورته رسولاً للآب وللابن وللرسل أي أن رسالته هي استمرار مباشر لرسالة الابن والرسل، والتي هي خدمة المجد الأخروي الأبدي (أنظر2كو3: 7-11).
غير أن التناقض الأخير هو الكاهن في خدمة لذلك المجد الإلهي الذي خبر عنه الابن الآتي من حضن الآب وأعلنه بذبيحته وقيامته يواصل باتضاع سكبه ونشره سرياً في العالم. إنه مجد خفي لا يعرفه العالم. ولكنه يسطع من وقت لآخر إذ هو في العالم. فنشعر حينذاك “بالسلام الذي يفوق كل عقل”، سلام “السبت”، يوم الراحة، سلام “اليوم الثامن”. إننا نعاين بالإيمان منذ الآن في لحظات النعمة مجد سكنانا المقبلة مع الآب. وهذا هو فرح الكاهن العميق. ولكن هذا هو أيضاً صليبه، إذ الفرح والصليب لا ينفصلان إلى الأبد. إن الكاهن لا يستطيع أن يستولي على تلك القوة وذلك المجد، بل هو دائماً مرذول ومضطهد، يسلَّم للموت لكي تعطى الحياة للناس، إذ له هذا الكنز في إناء خزفي ليكون فضل القوة لله لا منه، مكتئباً في كل شيء لكن غير متضايق، متحيراً لكن غير يائس، مضطَهداً لكن غير متروك، مطروحاً لكن غير هالك، حاملاً في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع… (أنظر2 كو4: 7-12). ذلك هو سر “الرسولية”، سر الله..
3-روح وحياة: سر الكهنوت والحياة الداخلية
نصل الآن إلى وجه آخر من أوجه الملكوت، إلى وجه عميق وقريب منا نفهم معه حقَّ الفهم روحانية الكهنوت والكاهن: فرحة وتضحيته، كرامته وهزالته، خدمته وأبعادها…
أ-ثمار كهنوت المسيح هي الروح والحياة
لقد أعطانا المسيح الروح، ولم يكن هذا العطاء الإلهي الأخير سوى ثمرة ذبيحة المسيح على الصليب، أي ثمرة كهنوت المسيح: “إن الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد لأن يسوع لم يكن قد مُجِد بعد” (يو7: 39): أي أنه لم يكن قد صلب بعد: “أتت الساعة، مَجِد ابنك” (يو17: 1). ولقد تمّ هذا الكشف الأخير عن ألفة الله مع الناس من خلال جسد المسيح على الصليب. كان المسيح مملوءاً من الروح. فكل كلمة من كلماته كان يقولها بالروح وكل عمل من أعماله كان يعمله في “الروح”، وذلك طبيعياً: لقد نال “مسحة” الروح منذ تجسده. إن “المسحة” وردت في العهد القديم بمثابة علامة لكرامة جديدة تنسكب على الرأس ومنه على كل الكيان فالدهن الذي يمسح به المرء ينسكب عليه وهذا رسم لقوة الروح السرية أعني الانسكاب والانسياب والتغلل.. أما الآن فنرى الروح لأول مرة في كل ملئه في جسد المسيح. لم يكن الروح قبلاً في ملئه في العالم (بعد الخطيئة الجدية) إذ لم يكن هناك كائن نقي وشفاف، مطواع ومتواضع يستطيع أن يستقر فيه الروح. كان الروح يعمل من الخارج وبطريقة عنيفة أحياناً إذ يضطر خدام الرب إلى العمل بوحيه رغماً عنهم. فالخطيئة في الأساس هي “ضد الروح”، ولذلك نتيجتها الموت. لقد تقسّى آدم ضد الله واختار ذاته عوض خالقه، فانسحب الروح. أما الروح المنسحق “فلا يرذله الله” (مز50: 17). هناك في العهد القديم رسوم “ظلِّية” للروح: مثال مرنم المزمور الخمسين ومثال “عبد يهوه” المنسحق في سفر أشعياء (الإصحاح 53). فالروح ثمرة الانسحاق وانكار الذات والتخلي عنها ولذا هو ثمرة الصليب. فقد انسحب قديماً لما أراد آدم الأول أن يرفع نفسه متعظماً، ثمّ عاد فأتى لما وضع نفسه يسوع آدم الجديد. اتضع طوعاً حتى موت الصليب فأفاض الروح. إن الروح والتواضع كما نرى متلازمان على الدوام.
ب- إن ثمر كهنوت المسيح السماوي أيضاً هو الروح
بعد ما قال الرب يسوع في انسحاق أقصى وأخير: “أنا عطشان” وأعطوه خلاً ليشرب (والخل عكس ما يروي العطش) قال: “قد أكمل ونكس رأسه وأسلم الروح” (يو19: 28-30) لفظ النفس الأخير الذي يسبق انسكاب الروح. فقد أسلم روحه للآب الذي منه ينبثق الروح. أما جسده (وهذا يبقى سراً) فقد قام من بين الأموات مليئاً بالروح وصعد بمجد إلى السماء. وهذا الصعود المجيد هو الاستمرار والتكملة المباشرة للانسحاق وإفراغ الذات على الصليب. إن مجد يسوع يبدأ عند كمال انسحاقه. الصليب والصعود متداخلان: “وأنا متى ارتفعت عن الأرض جذبت إليّ الجميع” (يو12: 32). فإن أقصى التنازل والاتضاع يؤول إلى أقصى التمجيد. إننا هنا أمام حقيقة من نار وهي أنه منذ أن “صعد” الرب إلى السماء (بحسب مفهومنا الأرضي وتعبيرنا) ببشريته الممجدة تمّ السر الكبير فصار “المقرِب (بكسر الراء) والمقرَب (بفتح الراء)” وبدأ كهنوته السماوي أعني عمل الذبح السري المستيكي “دونما ألم جسدي”. ففي مجده يتشفع بنا متعطفاً، وآلامنا كلها فيه ليست بعد بشرية فقط بل إلهية وبشرية. المسيح هناك في السماء لأنه صعد ولكنه هنا أيضاً لأنه بكهنوته السماوي أرسل لنا روحه. وهكذا نفهم قوله إلى تلاميذه قبل الآلام: “خير لكم أن أنطلق” (يو16: 7)، “لقد ملأ الحزن قلوبكم” (يو16: 6) “ولكن إن كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني ذاهب إلى الآب” (يو16: 16)، وإن انطلقت أرسل اليكم المعزي (أنظر يو16: 7). وهذا الروح “يشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها” (1 بط1: 11). فالروح إذن استمرار للرب، إنه يمده إلينا، يبقيه حاضراً، بل يجعله حاضراً حضوراً أكثر حقيقة وألفة من حضوره السابق في الجسد. يمكن القول إنه منذ صعود الرب وانحدار الروح صارت حضرة الرب أكمل وأنقى من حضرته أثناء حياته على الأرض وذلك لأن الروح الذي فينا الآن يجعلنا نطلب المسيح حيث يجب أن نطلبه أعني فوق، في السموات جالساً مع الآب (وليس مادياً وعالمياً). “طوبى للذين لم يروا وآمنوا” (يو20: 29) وذلك لأن إيمانهم أنقى، إذ ليس هو مبنياً على براهين حسية تبقيني هنا على الأرض بل هو إيمان من نوع آخر يتجاوز الإيمان نفسه. وحينئذ ذلك الإيمان “يغلب العالم” (1 يو5: 5). “من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ” (يو7: 38) الذي هو الروح القدس. ولذا فالأفضل لكم أن أنطلق. ولذا لا تضطرب قلوبكم.. بالروح القدس يدخلنا الرب في وضع جديد، في وضع من القوة والنور والحضرة الجديدة…
ج-الروح استمرار للمسيح بيننا
«أما الرب فهو الروح” (2 كو3: 17). والروح هو الذي يعطينا المسيح إذ “لا يقدر أحد أن يقول أن يسوع رب إلا بالروح القدس” (1 كو: 3): أما حضور الرب هذا بالروح فهو أولاً في الكنيسة حضرة بواسطة الأسرار المقدّسة. إنها حضرة بشرية وإلهية في آن واحد على مثال الرب نفسه. ففي الكنيسة (كما هو واضح) واقع إنساني منظور لأن الكنيسة قائمة من أجل الخطأة ومع الخطأة. ولكنها تغلب الخطيئة لأنها تقتني روح الرب. لقد تأسست يوم الصعود: عندما عاين الرب الكنيسة قد ائتلفت على الأرض فصعد إلى السماء، ثمّ يوم العنصرة: عندما نزل الروح ليوحد جسد المسيح الجديد هذا ويؤلهه فألف من البشرية الكنيسة. فكما كان الروح يستقر في المسيح فهو يستقر الآن في الناس في جماعة الكنيسة، ولذا فالكنيسة هي سر بل هي محل الأسرار، هي السر الأصلي والأول. يقول القديس لاون الكبير: “إن ما كان في المسيح جسدياً هو قائم الآن في الأسرار الكنسية”. ويقول كبازيلاس: “الأسرار الكنسية هي الطريق الذي رسمه الرب والباب الذي فتحه بمجيئه، ولما عاد إلى الآب لم يغلقه بل بمروره فيه أعده للناس. بل المسيح هو بيننا بروحه كل الأيام إلى انقضاء الدهر، وذلك تتميماً لوعده وأمانة له”. فالروح هو ختم وعد المسيح.
د-الروح هو الذي يُجري عرس الحمل والعروس
هو الذي “يرتب” العرس فيفرح العريس. في سفر الرؤيا نشاهد عرس الحمل المذبوح (رؤ4 و5): إنه بالتالي عرس الذبيحة، عرس حب، “والخدر هو الصليب” على حدِّ قول الذهبي الفم. أما العروس فهي الكنيسة (وذلك بالمعنى المزدوج أعني جماعة الجسد الواحد، وأيضاً كل نفس شخصيّاً لأن كل منا هو الكنيسة: هي واحدة في كثيرين وكلها في كل واحد بصورة سرية). في أيقونة الشفاعة (يوم القيامة والدينونة العامة، حيث علامة الصليب هي المجد الذي يحيط بالمسيح، لأن المسيح “يدين” العالم في اللقاء الأخير النهائي بين الله والخليقة كونه ذُبح من أجل العالم) نرى يوحنا المعمدان “صديق العريس” واقفاً إلى جانب المسيح والعذراء: فمقابل العذراء التي تمثل الخصب الكامل وتحقيق ملء الكيان بالاتحاد الكلي مع الله، يوحنا يمثل العري الكامل وهو الذي “ينقص” ويتوارى أمام الإله الآتي مع أنه الصديق الأليف. فدوره فريد، يمثل الصورة الأخرى للشفاعة في التخلي والتواري (إنه صورة الراهب المنسحق المسكين يشفع بالكنيسة منطبقاً مع الروح).
هـ-عمل الروح في الحياة الشخصية، داخل هيكل القلب (في الكنيسة بمعنى كل شخص)
ليس للروح في عمله هذا أسم نسميه به من أسماء البشر: إننا لا نعرف من أين يأتي وهو يهبُّ حيث يشاء (يو3: 8). فالله هو روح (يو4: 24) أي أنه لا يُمسك ولا يُضبط. وتلك الحرية هي حرية الرب نفسه، حرية العطاء الكامل، حرية عشقية يعطي الله ذاته بموجبها للإنسان عطاء أخيراً، عطاءً عميقاً لدرجة أن الله في الروح وبالروح ينطبق مع من يتقبل العطية، الله يمحي وراء عطيته الروحية. ولذا فالروح مقيم دائما في شخص آخر ومن هناك يغيره، من الداخل فقط. إننا بالروح نحيا وبه نعرف وبه نحتفل ونبتهج بالرب. “وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم» (يو14: 17). إن روح الله يزور روح الإنسان ويسكن فيه فيتجدد: “أن تتجددوا بروح ذهنكم” (أفسس4: 23)، (رو8: 16) أي يتّحد مع روحنا ليشهد، “ويشفع فينا بأنات لا ينطق بها”” (رو8: 26)، “وبه نصرخ يا أبا الآب” (رو8: 15)، لأن “من التصق بالرب فهو روح واحد” (1 كو6: 17). وذلك الالتصاق هو التصاق كلي لدرجة أننا لا نعود نفرق بين روح الله وروح الإنسان فينا، فيحتار المفسرون مثلاً في تفسير العبارة “حارين بالروح” في الرسالة إلى أهل رومية (رو12: 11) أو العبارة الواردة في الرسالة الثانية إلى أهل كورونثوس: “نظهر أنفسنا كخدام الله.. في الروح القدس” (2 كو6: 6).. ولذا ينبغي علينا أن نميز الأرواح وألا نطفئ روح الله فينا. إذ هناك أرواح تقاوم الروح، تقاوم حرارته ومحبته.. فتطفئه. في حين أن كل طريق الإنسان الروحي يمر بالروح لا محالة. من البديهي أن الإنسان الروحي ينمو بالروح علماً بأن عمل الروح فينا عمل رقيق كل الرقة، فعلينا أن نقابله بثقة واستسلام واطمئنان لكيما نولد بالروح. هكذا تتم ولادة الإنسان الروحي في الكنيسة، أي بالنتيجة ولادة الكنيسة، ولادة الروح في الكنيسة (إن دعوة الراهب هنا أيضاً تجد لها مكاناً إذ عليه أن يكون متشحاً بالصليب ومن خلاله بالله، حاملاً الصليب وحاملاً روح الله).
و- عمل الروح في جماعة الكنيسة
الكنيسة تولد بالروح، ومن خلالها تتم ولادة البشرية الجديدة التي أشار إليها الرب يسوع في حديثه مع نيقوديموس (يو 3: 1-8). عند خلق البشرية في البدء نفخ الله من روحه في آدم. أما مجيء الرب يسوع آدم الثاني فالروح يأتي ويحي لا إنساناً فرداً بل البشر كجماعة، وذلك على الدوام وإلى الأبد. إن الروح يحقق عمله التوحيدي هذا في الكنيسة لأنه يحولنا فيها إلى المسيح فنصير فيه جسداً واحداً وروحاً واحداً (أفسس4: 4). إن المسيحي الذي يسكن فيه الروح يكون متّحداً مع كل الناس، لا يستطيع أن يبغض أحداً ولا أن يفصل ذاته عن أحد ولا أن يحتقر أحد.. إن إحساسنا بمشاعر البغض وأمثاله في سياق نضالنا الروحي ضد الأهواء لا يؤلف بحد ذاته خطيئة بل يعني بالعكس أننا في طريق التغلب عليها، نحن في مسيرتنا نتغير إلى صورة الرب “كما من الرب الروح” (2 كو3: 18). فهذا التغيير هو من مواهب الروح. والروح في عمله هذا يتطابق من الداخل مع مختلف مواهب الطبيعة ليجعلها فائقة الطبيعة، وبذا تسهم بأجمعها في بناء ملء جسد المسيح. وليس كل ما يتقلده الكاهن بكهنوته سوى خدمة الروح هذه بغية إبقاء حضور الرب في الكنيسة، وذلك بواسطة الأسرار المقدّسة، والكرازة، وحضرة الإنسان الجديد، بالروح المحيي الذي يجب أن يكون فاعلاً فيه. وهذا هو بالضبط معنى وضع الأيدي على الكاهن عند سيامته: دعوة للحياة بالروح لأجل خدمة الروح. فالكاهن يتولى خدمة الروح في علامة بركة وتكريس على منوال وضع الأيادي على الكبش في ذبائح العهد القديم بغية جعل الخطيئة في الكبش. إنها علامة توحيد الكاهن مع المسيح الرافع خطيئة العالم، إذ نحن “مسحاء”، وأيضاً علامة امتلاك الروح للكاهن وقد أصبح هذا أداة له: “ويضعون أيديهم على المرضى فيتعافون” (مر16: 18) كما وضع حنانيا يده على شاول لكي يبصر (أعمال9: 12) وبولس على أبي بوبليوس مقدم جزيرة مالطة فشفاه (أع28: 8).

رهبنة مار جرجس الحرف
 
قديم 28 - 06 - 2016, 06:26 PM   رقم المشاركة : ( 13354 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

المسيح ليس نبياً

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
أيها المسيحيون، المسيح ليس نبياً، إنه من كان في البدء، من ” قبل إنشاء العالم ومن به العالم كوّن،” إنه الكلمة، إنه الله. “وكان الكلمة الله.” (يوحنا ١:١ )
المسيح ليس نبياً، المسيح هو صورة الله الذي “باسمه تجثو كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أنه رب لمجد الله الآب،”( فيليبي ٧:٢ ) المسيح هو الله الظاهر في الجسد.( ١ تيموثاوس ١٦:٣ )
” لَمَّا سَأَلَ المسيح تَلاَمِيذَهُ قِائِلاً:«مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟ فَقَالُوا:«قَوْمٌ: يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ: إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ». قَالَ لَهُمْ:«وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» فأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَقَالَ:«أَنْتَ هُوَ المسيح ابْنُ اللهِ الْحَيِّ!». فأجاب يسوع وقال له : طوبى لك يا سمعان بن يونا، إن لحما ودما لم يعلن لك ذلك، لكن أبي الذي في السموات.” ( متى ١٦: ١٣-١٦ )التعريف الحقيقي بالمسيح هو تعريف بطرس المعلن له من الله الآب وأي تعريف آخر به ليس من الله.
ان كل الأنبياء كانوا بشراً وَعَبَيداً لله ومرسلين من قبله، حتى يوحنا المعمدان أعظمهم -كما وصفه الرب – قال عن المسيح “الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي الَّذِي صَارَ قُدَّامِي الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ.”( يوحنا ٢٧:١ ). أما المسيح فهو الله المرِسل ، أرسل ألنبياء في العهد القديم وأرسل الرسل والكنيسة وكل منا بعد التجسد.
إن جميع الأنبياء – وفي أفضل أحوالهم – لم يستطيعوا أن يقدموا في رسالتهم أكثر من الشريعة أو حثوا على العمل بها. كل الوصايا والشرائع كانت ناقصة لأجل هذا تجسّد الكلمة – لبس جسداً- ليكمِّل( من الكمال ) الناموس الناقص بوصية جديدة لم توجد في كل الوصايا السابقة قبل التجسد ألا وهي المحبة. بهذا عرفنا أن أي شريعة تخلو من المحبة تخلو من الله. بتجسده، رفع أعطى معنىً جديدة للوصايا. من يحب لا يحتاج الى أية وصية أخرى، من يحب لا يقتل ولا يسرق ولا يشهد بالزور ولا يشتهي شيئاً إلا أمراً واحداً : جمال وجه الله والحياة الأبدية معه لأنه أحبنا وبذل نفسه من أجلنا ” لتكون لنا الحياة وتكون لنا أفضل.”
إن قُلْنَا إن المسيح نبيٌ نجدّف لأننا ننكر ألوهيته. لم يستطع لا نبي “ولا انسان ولا ملاك أن يخلصنا”، ولو استطاعوا لما كان ضروريا تجسده وموته على الصليب. يجب أن نفهم الكتب. لا معرفة حقة لله دون عقيدة حقة.نحن في المعمودية لبسناه فصار حياً فينا يفيض من خلال ضعفنا نوره جاذباً الجميع. من عرف المسيح حقاً يشهد له لا يساوم على قول الحقيقة إرضاء لمشاعر آخرين لان الحقيقة ليست ملكه.
إن تعايش المسيحيين مع جيرانهم وإخوانهم من أديان أخرى لا يجب أن يبنى على الغش والممالقة والكذب، من يكذب في إيمانه يكذب في كل شيء. ألإعتراف بالمسيح رباً ومخلصاً هو فعل محبة كاملة لله ولجاري ولأصدقائي وللعالم. هذه هي غاية وجودي وهذا هو جوهر بشارتي “وألويل لي إن لم أبشر” يقول الرسول.
ليس المسيح ولا المسيحية ملكاً للسياسيين أو الإعلاميين المسيحيين . يفسرونها على مقاسات انتماءاتهم واصطفافاتهم وصفقاتهم. السياسيون المسيحيون هم خدام مدنيون للشعب المؤمن في حاجاته المدنية. لا السياسيون ولا الإعلاميون هم ناطقون باسم الكنيسة إن لم يكونوا فعلاً أعضاء حية في جسد الكنيسة مفعّٰلين كهنوتهم الملوكي وشاهدين للحق.يا سادة، إن لم يحترمكم شركاؤكم في الوطن لفضيلتكم ولنور الإنجيل الفائض من وجوهكم لن يحترمونكم يوم تجدفون على اسم المسيح محاباة للوجوه أو لملك أو لأمير.
إن بنيان تعايش مع اخوة لنا اختاروا إيمانا آخر لا يصير على حساب نكران الإيمان الحقيقي وممارسة التقية. التعايش لا يصير من خلال تغيير الحقائق لبنيان واقع غير مبني على الحق. هذا تعايش زائف ولا يستمر، التعايش هو قبول أخي في الوطن كما هو وإلى أي إيمان انتمى، فلا دخل للدين في المواطنة. التعايش يُبنى على الحرية وعلى عيش القيم الانسانية والأخلاقية والحقوق والواجبات. تحريف معتقدي كسباً لمودةٍ أو شهرة أو منصب أو لمال هو كذب على الله وعلى الناس.
في كل عيد ميلاد نجدد محبتنا وجرأتنا وقسم معمودتنا لأن نكون “شهوداً للحق “ونوراً لكل الأمم في كلامنا وسلوكنا. إعترافنا بالحقيقة وإعلانها هو واجب محبة لِلَّه وللعالم أجمع، وبعد ذلك ” فلنتحاجج، يقول الرب. “
نقل هذا المقال من صفحة الأب ثيوذرس
الأب ثيوذورس داود
 
قديم 28 - 06 - 2016, 06:33 PM   رقم المشاركة : ( 13355 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

بذل الذات قربانا حيا

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
إن حياة الكاهن الداخلية التي نتناولها في هذا القسم الثالث تحيي كهنوته كسر في الله (القسم الأول) وكخدمة في الكنيسة (القسم الثاني). إن الصعد الثلاثة تؤلف في الحقيقة وحدة حيّة ومتداخلة، وعلى هذا الأساس فقط تحيي حياة القلب سر الكهنوت في أصالته وسعته، وذلك على مثال سعة الليتورجيا التي تشمل الليتورجيا السماوية والكنسية والقلبية.
لقد رأينا أن الخدمة هي فعل عبادة بالنتيجة: سر اتحاد بالله وعودة إلى الآب. ونعلم أن كل خدمة ليتورجية هي بدورها حركة كبرى نعود بها إلى الآب وراء السيد المسيح. إن الكاهن في خدمته يدخل قدس الأقداس ولكن دون أن ينفصل عن الكنيسة المُسَلَّمة إليه والتي تسلمه هو إلى الله. ولهذه الحقيقة أوجه ثلاثة:
1-الصلاة والتجدّد الشخصي
إن الكاهن (ككل مسيحي ولكن بصورة أخص) يلتزم التجدّد الدائم، إذ عليه على مثال المسيح أن ينسكب بلا انقطاع ولا ينضب، مضحياً بذاته دون هوادة، وبالتالي أن يتجدّد دوماً لئلا يذبل ويذوي ويهترئ. ويجدر بنا أن نذكر هنا قول الكاهن في القداس الإلهي عند تجزئة القربان: “يجزأ ولا ينقسم، يوزع دائماً ولا يفرغ أبداً”. فالكاهن هو بمثابة قربان حي، على منوال المسيح، تكمن غلبته في كسره وتوزيعه وهي نتيجة وثمر لكسره وتوزيعه. فعليه إذن أن يدخل في سر التحديد هذا، أن يسكب باستمرار على مثال نهر ماء حي، وهو بقدر ما يُسكب يتجدّد ولنذكر أيضاً قول بولس الرسول إلى أهل كورنثوس: “… نُشتَمْ، فنبارك، نُضطهد فنحتمل، يُفترى علينا فنعظ…” (أنظر كل المقاطع في1 كو 4: 9-13)، وقوله إلى أهل فليبي: “وإني ولو أرقت دمي سكيباً على ذبيحة إيمانكم وخدمته أُسَرُ وأفرح معكم أجمعين” (فيل2: 17). إنه “سكيب” أي في حالة انسكاب متواصل، كمحرقة دائمة على مذبح إيمان رعيته. إن “دم” الكاهن، إي حياته وروحه، هو الذي يُراق على الدوام كذبيحة ليسقي إيمان الناس. وهذا التجدّد والانسكاب المطّرد علامة على أن الكاهن يحيا الخدمات التي يقيمها ويحيا منها ويقدم ما يحياه للآخرين.
إن في حياته “شدة”: هو مشدود بين واقعين أو قطبين. القطب الأول أن له “سلطاناً” على جسد المسيح ودمه الكريمين، يحمل بين يديه ذبيحة الجسد كله، الرأس والأعضاء معاً، متولياً من قبل الله خدمة “سرية” بصرف النظر عن أي فضل شخصي أو أهلية بشرية إذ يكهن ويغفر للناس خطاياهم لا باسمه هو بل باسم المسيح (En Christo, in persona Christi). فخدمته “تفعل” بحد ذاتها (ex opera operato) ، إنها وقائع رتبها الله بنعمته. إلا أن في ذلك نوراً عظيماً وفي الوقت نفسه خطراً للكاهن: خطراً بأن يؤول إلى نوع من “أوتوماتيكية” تنجم عن الاعتياد على السر، عن عادة البقاء خارج الطقوس دونما اشتراك داخلي حار فيها. إننا، شيئاً فشيئاً ودون أن نعي ذلك، نفقد الحرارة الداخلية، فننضب ولا نبلغ إلى تجسيد ما نمارسه ونمتهنه. ولذا فالقطب الثاني من “الشدة” في حياة الكاهن هو الصلاة، أعني ضرورة صلاته الشخصية: إن الصلاة “سر” بشري (un sacrament humain) بمعنى أنها تنقل إلينا نعمة الله من خلال عمل أو حركة روحية معظمها بشرية. إنها سر يفعل بقدر ما نتبناه ونتخذه ونحييه بحياتنا ودمنا وروحنا. فيجب بالتالي عدم إهمال الصلاة الشخصية بداعي قيام الصلاة الليتورجية. هذا ولا نخجلن من أن نصلي الصلاة الليتورجية بصورة شخصية ونحياها بالفعل كصلاة ثقة وشكر وتوسط وأنين.
فمن المهم أولاً أن تعبِّر صلاة الكاهن تعبيراً جلياً عن ثقته وإيمانه بالله. نحن في وضع ألفة حميمة مع سر الإله الحيّ المتسامي والبعيد عن كل ألفة. إن الله يريدنا “أليفين” وإياه كوننا من عائلته وبيته، من أبناء البيت. الله يريدنا أن نبلغ حالة دائمة من الألفة والدالة لديه: “أن نجسر بدالة وندعوك آبا غير مدينين”.. فلا يكن الكاهن خائفاً متخوفاً، ولا يرتبكن بصغره ونقائصه، فهذا لا يليق به، إنه جبنٌ في الإيمان، جبن الأطفال في الإيمان، أن يعثر بضعفاته. إن نعمة الله القدير تدعوه لتكسوه بكرامة الخدمة الفضلى، ولذا ينبغي أن تكون صلاته صلاة ثقة قبل كل شيء. ينبغي أن يشهد دون انقطاع عن ثقته بإلهه، مُقِراً ومُعْتَرفاً باستمرار بالإيمان به وبقوته وقدرته.
ثم إلى جانب الثقة بالله على الكاهن أن يعتاد الشكر، أن يشكر لله كل ما يحصل له فلا يتزعزع في إيمانه والتصاقه بالرب وخدمته له من جراء المحن والمصائب والفشل وما إلى ذلك. ولا ينسين أن ترتفع صلاته توسطاً من أجل رعيته وأبنائه لغفران خطاياهم وتقديسهم ونموهم الروحي. ثمّ ينبغي أيضاً أن تكون صلاته صلاة أنين لأنها حاجته العميقة المسجلة في لحمه ودمه بالرغم من كل الظواهر. فلا يخجلن من الأنين أمام الرب فهذه أيضاً ذبيحة مرضية أمام الله: “أسكب أمام الرب تضرعي وأحزاني قدامه أخبر” (مز141: 2). فليسكب أمام الرب دائماً عجزه وحقارته.
إن صلاة الكاهن تنهل مباشرة من صلاة الكنيسة (التي هي صلاة الإله المتجسد) متغذية من القداس الإلهي، وكل الخدمات الطقسية. فإذا كان متيقظاً “حياً” تنسجم فيه الصلاتان وتتطابقان، أعني صلاة الكلام وصلاة الروح، صلاة الكنيسة التي هي صلاة الروح القدس، وصلاة روحه هو، لأن هناك ارتباطاً صميماً بين روح الله وروح الإنسان يمكننا من أن نلتصق بسهولة بنعمة الرب، فنبقى في نضارة وتأهب وثقة ولا نعود نلتفت إلى حقارتنا أثناء إقامتنا للقداس الإلهي. عند ذاك يدخل فينا فعل الروح ويفعل، وهو روح الصلاة، فنصير خيراً من روح صلاتنا.
ولكن لا يظن ّ الكاهن من جراء هذا أنه معفى من مطالعة الكتاب المقدّس وأنه يستطيع أن يستغني عنها بل الأمر هو عكس ذلك، لأن مطالعة الكتاب هي أيضاً طريقة وطريق لتجديد نفسه تجدّداً عميقاً. فليقرأ الكتاب ببطء مكتفياً ببضع آيات منه يتأملها ويتعمق في معناها فتكون فرصة لتجمع ذاتي وتأمل كياني. ينبغي أن “نجترّ” الكتاب المقدّس في هدوء وصمت، في لحظات نرفع فيها النفس صباحاً باكراً وفي مجرى النهار انطلاقاً من آية كتابية ما وحول فحواها، فيكفي هذا عند ذاك لأن تكون نفسنا متجردة وغير لاصقة بالاهتمامات الأرضية بل “مرطّبة” وفرحة بالروح. إن الكاهن بحاجة إلى ذلك لكي لا يغرق في فرائضه وواجباته الخارجيّة…
وإلى جانب تجدّد الكاهن عن طريق الفرح الداخلي بالسر الذي يحياه في الليتورجيا الإلهية فإنه يتجدّد أيضاً عن طريق اتصاله بالآخرين اتصالاً حياً وعميقاً وبروح الاحترام للشخص الآخر. فإن الرب كثيراً ما يكشف لنا ويفهمنا أموراً أساسية ثمينة عن طريق الآخرين ويفتق فينا فرحاً شخصياً من خلال فرح الآخرين وذلك من جراء ما نصادفه وما ننصح به وما نعلّمه (بتشديد اللام) في ممارسة سر الاعتراف مثلاً أو بمناسبة الإرشاد والمحادثات الروحية. فعلينا إذن أن نكون على دوام الاستعداد لفهم سر الخلاص في نور جديد في كل آن يتم فيه أمامنا يوماً بعد يوم. كل ذلك استمداداً من السر المحوري الذي هو الليتورجيا. فكل ما يحدث معنا في حياتنا اليومية ومن نعيش معهم إنما يدخل في نطاق سر واحد ويتيح لنا أن نجدّد معرفتنا لسر الخلاص الوحيد. يقول الرسول: “جدّدوا أذهانكم” (أف4: 23)، فيمكن مثالاً على ذلك أن يحصل هذا في الإفخارستيا، إذ تتكشف لنا فيها يوماً بعد يوم مفاهيم جديدة على صعد مختلفة فنغتذي من هذه الرؤية ونرى كل شيء من خلالها، ونصير في حالة “شكرية” تمد عمل سر الشكر في كل مكان وتحول كل شيء إلى شكر فيتجدّد كل شيء بحضور الرب ويضحي احتفالاً ومدحاً وحمداً وتسبيحاً. وهكذا يوماً بعد يوم نصبح مقيمين في سلام داخلي أساسي لا يناله القلق ولا الآلام والاضطرابات المختلفة. الآلام والاضطرابات قد تبقى وهي في كثير من الأحيان من نسيج الحياة لا تخلو من فائدة للمرء الممتحن إلا أنه هناك في الأعماق يبقى سلام للرب وإن كنا لا ندرك ذلك دائماً.
هكذا نفهم رسالة الكاهن لا كعرس من أعراس الريف. الكاهن “راعٍ”، وفي صورة الراعي قساوة عيش ونضال وتضحية وموت. الراعي الصالح يبذل نفسه عن خرافه. إنها صورة قوة ورجولة.. والكاهن خلّاق في نضاله هذا. إنه يترك الروح يحركه لكيما يبدع، كأن يدفعه مثلاً إلى أن يصرح بأمر ما من عنده ويؤكده، وليس بما تعلّمه فقط كالببغاء. وفي هذا الاستسلام للروح يكون بمثابة خروف لا بمثابة راعٍ، يتحلى بروح “غنمية” طيعة.. وهكذا يصبح ينبع من حياته “حقيقة” وخدمة ومواقف خلاقة تلائم تقدم القطيع المُسَلَّم (بتشديد اللام وفتحها) إليه في مراحل مسيرته
2 – التفاني
إن هذا التجرد من الذات والتسليم للروح يفعل فينا بصورة تناقضية سلبية في الظاهر ولكنه في الحقيقة إيجابي جداً ومصدر فرح لنا. إنه يثبتنا في إنكار الذات والتفاني وبقدر ثباتنا فيهما بل يحيا فينا فنعطيه للناس. فلا نكون نحن بعد بل هو فينا ويبذل للناس من خلالنا. هذا هو مفهوم القربان الحي. وتبرز هنا سنَّة “بتشديد النون” عامة وحرة للروح القدس. إذا جاز القول، وهي أنه عندما يضبط الروح إنساناً ليستخدمه لا بد على ما يبدو من أن يصدمه ويحيره أولاً وذلك بتسيير الأمور بما يعاكس أفكاره ومفاهيمه ورجاءه وتطلعاته، قبل أن يتخطاها ويلبيها ويملأها. إننا عادة لا ننتبه إلى هذه السنّة البعيدة المدى، فلكي نتوغل في ذلك التفاني الكامل ينبغي أن نعلم أننا نخضع طوال مسيرتنا الروحية إلى عملية نضج خفية وصامتة. نحن في وضع “استواء” ساكن ومستمر وذلك حتى في الظروف المادية أحياناً. فالمسيح مثلاً أتمّ كرازته خلال ثلاث سنين بينما قضى ثلاثين سنة في الخفاء، في النضج الصامت والاستعداد الطويل الهادئ.. وكذلك بولس الرسول فإنه بعد اهتدائه إلى الرب اختلى في العربية سنوات كثيرة لكيما يدخل الصليب فعلاً إلى حياته (غلاطية1: 17). وبالتالي علينا في خدمتنا الرسولية أن نعمل دائماً بشعور التفاني الصامت هذا واثقين بأننا سائرون رغم كل الظواهر العكسية، وأننا لا نستطيع أن نطلب بثمار رسالتنا لصالحنا. هذا، ومن النزعات الأولى التي يجب محاربتها منذ بدء رسالتنا روح التسلط على الآخرين والغيرة الحسودة الذميمة. إن روح الغيرة طبيعي في الإنسان. فالكاهن الصالح يغار مضَاعفاً على رعيته لكيما يربح النفوس للمسيح. ولكن إن لم يتوفر فيه ذلك التفاني الصامت قد يحول تلك الغيرة لمصلحته هو دون أن يعي الأمر في البداية. إذ يبدأ فيحس برضا على ذاته بتأثير كلام الناس الذين يحيطون به ويمدحونه بطرق شتى فيأتي شيئاً فشيئاً إلى ادعاء السيطرة والتسلط التام على الرغبة فيحمله هذا على الغيرة من نجاخ الكهنة الآخرين مثلاً أو على التراجع عن الخدمة الغيورة في حالات الفشل أو على القيام ضد الرعية أحياناً.. وهذا لعمري خطر حقيقي يفسد حياة كهنة كثيرين ويسممها مانعاً صفاء حكمهم في أمور الرعاية والرسالة. فيؤول الأمر بهم في خدمتهم قضية مقدسة إلى تقليص معنى الكنيسة والنعمة والمجانية الإلهيّة وإلى حصرها في مجرد مُصَلَّى وهم لا يدركون، فتقوم مقام عبادة الرب عندهم عبادة شخصهم الصغير. وليس هذا بخطر وهمي نظري بل هو وارد كل يوم. لا بد، في كثير من الأحيان من أن يحدث عند المؤمنين نوع من “التركيز النفسي” على الكاهن والتعلق به. فسلطة الكاهن تبدو لهم ذات طابع خاص تجذبهم إليه. قد لا يريدها هو كذلك ولكن هذا من الأمور النفسانية الإنسانية. النساء مثلاً كثيراً ما يُعجبن بالكاهن ويتعلقن به، وأيضا الشباب، إذا كان يتحلى بمواهب طبيعية تسهم في أن تتكون حول شخصه نوع من “هالة” تضر شيئاً فشيئاً به وبقضيته. فيجب عليه بالضرورة أن يقيم نضالاً ضد رعيته في هذا المضمار وذلك بشكل مهذب ولكن بشكل عنيف أحياناً، لكي يفهِمهم أنها ليست هذه هي العلاقة الصحيحة التي يجب أن تقوم بينه وبينهم، ولا هي طريقة الخدمة الكنسية السليمة، بل التفاني المتبادل من كلا الجهتين وبالتالي لا ينبغي أن يتورطوا بنشاط محموم غير معتدل، فهذه تجربة خطرة تؤول إلى نكسات وخيمة العاقبة.
وهناك إطار آخر للتفاني هو الوضع العكسي للوضع المنوه أعلاه، أعني قيام العقبات من قِبل الآخرين في وجه الخدمة أو من قِبل الكاهن نفسه: أما العقبات المتسببة من الآخرين فهي كثيرة لا تعد ومتوفرة على الدوام، تتخذ إجمالاً شكل الرفض وعدم التجاوب مع الكاهن أو شكل اللامبالاة والبرودة إزاء مبادرته مقرونة بالجهل الجسيم، وأحياناً كثيرة يصبح الكاهن موضوع كره وخصومة ووشايات وما شابه ذلك.. فمقابل هذه العقبات كلها ليس للكاهن إلا أن يتوغل ويتعمق في تفانيه، فينمو الرب بتواضعه فيه ومن خلاله.
أما العقبة الناجمة عن الكاهن نفسه فهي ضعفه اللاصق به. إن القديس بولس العظيم الذي لم ينقص شيئاً عن فائقي الرسل (2 كو11: 5) قد اُعطي شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمه لئلا يستكبر (2 كو12: 7). فاختبار ضعفنا البشري بل عجزنا حتى درجة اليأس لهي خبرة ضرورية لا بد منها حتى تتم رسالتنا. إذ أن شهادتنا الرئيسية في حضورنا للآخرين هي أن يتكلم الله وحده من خلالنا فيثبت وجوده ومحبته للناس. وهذا لن يكون ما دامت ثقتنا بأنفسنا تحجب ظهور نعمته فينا. من هنا يتبين لنا معنى النسك الرهباني، إذ أنه لا يستهدف كثرة الإماتات الجسدية والمادية بحد ذاتها بل جعلُنا شفافين للنعمة بتحطيم ثقتنا بأنفسنا. فالحقيقة إن النعمة الإلهية وحدها فرحنا وغلبتنا. وتبيان هذه الحقيقة هو أيضاً جوهر رسالة الكاهن فكيف ننقلها إلى الآخرين إن لم نتحسسها شخصياً وبصورة مطلقة. لذا يسمح الله بهذه النعمة: نعمة خبرة ضعفنا. ولكن لا يكفي أن نيأس من أنفسنا لنصير أداة طيعة للنعمة بل ينبغي أيضاً أن يصبح إيماننا بالنعمة كاملاً وآنياً كإحساسنا بضعفنا. وبالتالي يجب أن نعلم أن إحساسنا بضعفنا هو العطية الأولى للنعمة، فنفهم حينذاك لماذا يأبى الرسول أن يمجد نفسه بالرغم من فرط الإعلانات والنعم العظيمة التي حظي بها، حتى اختطافه إلى السماء الثالثة وسماعه كلمات لا يُنطق بها ولا يسوغ الإنسان أن يتكلم بها (2 كو12: 4): إنه يرفض أن يُمجِد ذاته لسبب واحد فقط وهو أن يحتفظ حتى النهاية بنعمة الضعف وحسب التي هي قوته (2 كو12: 9).
هذا ولا ننسين أن الرسول بولس يقتدي في ذلك بمثال الرب نفسه ويحياه وإنه هذا هو سر الصليب. فإن يسوع يُقدِّس اسم الله ويمجده بتقديس ذاته بالصليب، أي عندما يضحي بنفسه ويخليها ويصير ضعيفاً كل الضعف من أجلنا حتى نتقدس بالحق.. ثمّ لنا أيضاً مثال العذراء مثالاً نيراً حياً لكي نغذي به تفانينا ونقويه. فإن العذراء تنتصب في الأناجيل نموذج تفان كلي منذ البداية وحتى النهاية، مضحية ينفسها وبأثمن ما عندنا أي بابنها. فعندما طلب منها الملاك أن تخدم الرب بالاشتراك في تحقيق تصميمه الخلاصي لم تقل “أني أؤمن” وحسب بل “ليكن لي حسب قولك” (لو1: 38) أي بصيغة التقبل الكامل الذي لا دور لها فيه (au passif)، فاتخذت بذلك موقف تفان لا تحفظ فيه ولا حدّ له، مستسلمة لمشيئة الله استسلاماً مستديماً دون انقطاع، في استعداد وانفتاح كياني لخدمة مطياعة صامتة.
فواجبنا نحن أيضاً أن نتخذ مثل هذا الموقف فنظهر به الإيمان الحق: الإيمان بأن الله إنما يفعل فينا ومن خلالنا كما فعل من خلال العذراء، علماً بأن العذراء مريم قد جددت إلى النهاية ذاتها وتفانيها بسلام وسخاء إلى أن جاز السيف في نفسها. أي أنها قبلت باستمرار أن يكون ابنها لها وفي الوقت نفسه ليس لها: هذا هو “الاقتناء” بحسب الله. فالمسيح لنا ولكنه ليس ملكاً لنا: فلا نرغبن في الامتلاك بل في الافتقار على منوال العذراء التي لم ينجم “خصبها” الفائق الطبيعة إلا عن انسلاخها عن ذاتها، ذلك الانسلاخ الناتج عن حب قد فاق وتجاوز كل حب. إنها مثال ومصدر إلهام للكاهن حقاً.
3-عبد بطال
إن فرح الكاهن في خدمته هو في الأساس على منوال التناقض الإنجيلي: فنحن عبيد الله أي أننا الأولون في مجال الخدمة والتواضع والتفاني، ولكن فرحنا هو بالضبط في أن نكون عبيداً بطالين. إن الله يحتاج إلينا لكي يتمم قصده الخلاصي، لكي يعبُر حبه المحيي من خلالنا إلى الناس. ولكنه هو الذي يتمم قصده، أما نحن فلا فضل لنا في ذلك: “… متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون، لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا” (لو17: 7-10). إن كرامة الكاهن هي أن يمحي “بتشديد الميم” أمام الرب حتى يستعلن الرب ويتجلى فيه، فيصبح “ظهوراً” لله. ولذلك يستطيع أن يكون أكثر الناس حرية، إذ لا يعود يفكر بنفسه ولا يمتلك ذاته بل في كل ما يفعل يعلم أن هناك “آخر” يفعل. وعندئذ يبلغ إلى ملء الفرح، الذي هو بداية الفرح الأبدي. إن من يحس بعدم منفعته وعدم جدواه بالذات يستطيع إن يكون متّحداً بالله. إن مثل هذا سيفهم منذ الآن وجه التناقض الآخر في إنجيل لوقا12: 37: “طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم سجدهم ساهرين. الحق أقول لكم انه يتمنطق ويتكئهم ويتقدم ويخدمهم”. فالوليمة السماوية تبدأ منذ الآن.. إن فكرة بداهة عدم منفعتنا يجب أن تحيي حياتنا الكهنوتية كلها إلى جانب حبنا لله وحبه المحيي لنا. يجب أن نفهم أننا إنما نحمل الرب، إن كلاً منا يحمل الرب، وإننا شركاء ومعاونون له في عمله، وذلك على منوال خبرة بولس الرسول الفريدة التي أوردها في1 كو3: 5-9: “فمن هو بولس ومن هو أُبلس، بل خادمان آمنتم بواسطتهما.. أنا غرست وإبليس سقى لكن الله كان ينمي…”. علينا إذن أن نفهم أخيراً أن الله نفسه بالنتيجة يعطي ذاته في سر الكهنوت، يوزَع “بفتح الزين”، ينسكب من خلالنا حتى يُعرف “بضم الياء” ويشرك الناس به منذ الآن كمقدمة حية للأبدية. فهذا هو سر الكنيسة…
دير القديس جرجس الحرف
 
قديم 28 - 06 - 2016, 06:41 PM   رقم المشاركة : ( 13356 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

يوحنا المعمدان

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
وكان في الزمان، وعلى شاطئ الأردن رجل ناسك، له وجه أسمر تلوَّح بحمرة أشعة الشمس، وجبين بارز مجعد بخطوط الأفكار الجاثمة وراءه، تطل من تحته عينان لا يستطيع الناظر إليهما أن يتحقق لونهما لكثرة ما تشتعلان بالأنوار الغريبة، هما كالجمرة المشتعلة تلون الأهداب لها بمثابة خط أسود يفهمك أن العينين سوداوان، وفوق هذا الجبين النافر يقوم إكليل من شعر أسود تفككت ربطه فارتمى خصلاً مبعثرة فوق الكتفين العاريتين ليرد عنها لفحات الشمس الكاوية، وعند منتصف الجبين وفي أسفله يبتدئ أنف دقيق تعلو أرنبته، وينتهي بانحناءة فوق الشفة العليا التي إذا عانقت أختها السفلى وجدت نفسك أمام خط الفجر الأحمر الذي يتصل بقلب الصباح، وتحت العينين البراقتين تتسع وجنتان تحسبهما قطعاُ من البرونز لكثرة بروز العظمتين واتحادهما بالجلد المستوي بالشمس، ويقوم هذا الرأس الدقيق الصنع على قاعدة من المرمر الأسمر، ترتكز على ترسين من الألواح المغطاة بالشعر الملتف حلقات حلقات كأنها أعشاب حنت بذورها لتعانق جذوعها، ويفصل الصدر عن الساقين خصر رقيق وبطن ضامر يغطيه جلد قاس، وتنتهي الساقان اللتان تخالهما قطع خشب مصقول بأقدام ترتفع عن الأرض الصحراوية بسيور من جلد.
وكان في الزمان، وعلى شاطئ الأردن قوة هائلة من الروم, تتصاعد صرخات في البرية, صرخات فيها قوة البركان لأنها من بركان الصدر تتفجر, صرخات الحق في الوديان السحيقة من الحواس الوضيعة, الحق الداعي إلى عالم المثالية، إن هذا الصوت المتصاعد في البرية لإنذار خطير للبشرية المتخبطة في ديجور الظلام، ودعوة صريحة تتخلى عن عالمها مخافة أن يدركها النور، وهي لا تزال قابعة في وديان الجهل، فتحرم من سعادة النور وتفقد عالم السعادة الخالد.
لقد رقص الأردن على أنغام صوتك يا يوحنا، والصحراء الممتدة ككف المتسول ترنحت على أنغام النهر الطروب، والجبل الأجرد الجاثم بعيداً تمنى لو يمشي معك، تمنى أن يكون هذه العصا التي بيمينك ليخط على الرمال عظمتك الفائقة، لقد رقص الأردن وتحرك الجبل كما تحركت أنت في رحم أمك العجوز، لما قدم إليك وهو في رحم أمه مرسلك ليعطيك الرسالة التي تبلغها الآن لأهل الأردن، لقد تعمدت في رحم أمك بمياه الروح لما تعانقت أمك وأم يسوع, في عناقهما اتحاد قلبك بقلبه، فكنت أنت روحاً قدسيةً حولت مياه الأردن لينبوع خلاص، لقد كنت روحاً تتمشى فوق المياه وفوق الصحراء وفي أجواء القلوب، فقدمت الماء وأطفأت ظمأ القلوب العطشى إلى الحق، وحرثت الصحراء بسلك إيمانك، فأنبتت الصحراء زهوراً من الروح، كانت لك تلاميذ مخلصين، ولمرسلك رسلاً بشروا به في ساحات العالم وأزقته.
كانت ولادتك لغاية نبيلة في مقصد العلي، وحياتك كلها كانت بخدمة هذا السر السامي، لقد خلقت لتبشر بالحق في عالم بشرَهم إخوتك الأنبياء من قبلك، فلم يسمعوا للحق، لأن آذانهم لم ترد أن تسمع، وقلوبهم لم تقبل أن تستوعب، لقد أرسلت لتبشر في وديان الأردن الشعب السالك في الظلمة، فقمت برسالتك حق القيام، لأن الشعب الكافر نظر إليك نظرة النبي العظيم الذي يستحق التكريم والإجلال، كان العالم مفككاً أخلاقياً فجاء صوتك جامعاً له، وكان العالم يرزح تحت ثقل الحياة الناعمة المادية فجئت أنت بتقشفك البالغ تعلمه الاحتقار للحياة الباطلة، لقد مقتَ الجسد ليمقته أبناء الأرض، وطرت إلى ملكوت السماء ليطيروا معك، وعمدت بالماء لتغسل الوسخ الذي تسد جوانح أرواحهم إلى الأرض، حتى إذا حلقوا، يحلقوا على أجنحة قوية حرة، كنت ناراً يحرق الهشيم من تربة القلب، ومنجلاً يقطع الأشواك من حقل الروح، وداعيةً للزهد الروحي، داعيةً إلى التوبة الحقيقية، لأنه بدون التوبة لا يمكن أن ينال الملكوت السماوي, هذه التوبة التي تحكم على كل الحواس الوضيعة بالموت في أتون الحق الصريح، أنت صوت من الله يا يوحنا، ويا له من صوت جميل، وهذا الصوت لا يدركه إلا المختارون من أبناء الملكوت، فتلاميذك دخلوا إلى أعماق سرك، وأنت الذي أدخلتهم بحياتك المثالية، هؤلاء هم من أبناء العجوز أولئك الذين طلبوا رأسك على طبق من فضة ذهبية، وهل أجمل من رأس الحق، وهل أجمل من الذهب يحليه رأس الحق، لقد تنعم كبرياء الفاجرة وتغرى، لقد جنَّت سروراً لما رأت رأسك والدم يسيل من قاعدته، ولما كانت هي في ذروة نشوتها كان مسيحك يتألم، وكان أبناؤك الذين سمعوا صوتك في حيرة الألم ووجوم الاشمئزاز من قبح عمل العاهرة، لقد قطعت الفاجرة رأسك فقطعت رأسها، لقد تغلبت عليك حسب زعمها ولكنك كنت أنت الغالب وكان هي المغلوبة، لأن عملها جلب عليها نقمة الأجيال، والدم الذي سال من عنقك دفن في تربة الفجور فأنبت الحق المحرر من الفجور والعهر.
هو ذا صوتك في البرية وعلى ضفاف الأنهار وفوق قمة الجبل، هو ذا صوتك في براري القلوب القاحلة، وفي جبال الأوهام البشرية، وعلى ضفاف الأحلام الكاذبة يتراجع أصداء، يحمل النار الصهّارة لكل غريب عن الحق، كنت مثالاً للحق وكانت توبتك التي بشرت بها بذاراً للقلوب، بذاراً من الزنابق الفواحة لهذا الجمال الروحي، بذاراً من الورود العبقة بالمعاني السامية، ونصبة متينة في قلب الحياة لا تقوى عليها الأعاصير، أنت الصورة المثالية للحياة الإنسانية, الإنسانية التي مت في قلبها وأنت تقوم بالواجب المقدس، تحن إليك الناس وفي حنينها احترام كلي، وتذكرك لأن الإنسان عرف بك إمكانيات قواه الروحية، أنت الصورة للكمال الإنساني، والصورة جميلة، فأين نحن منك وأين تحليقاتنا من تحليقاتك، أنت ناسك ونحن متهتكون، أنت متقشف ونحن نعربد ونضج ونصرخ، أنت حملت الحق في قلبك ونحن ندوسه تحت أقدامنا، أنت دخلت إلى صلب معنى الكون ونحن لا ندخل إلا لصلب غطرستنا وكبريائنا، كنت كما كنا من طين وتراب، فحولت أنت الطين إلى نور، وحولنا نحن النور إلى ظلمة، مع أن مرسلك هو الذي أرسلنا بروحه لنكون كما كنت أنت صوتاً صارخاً في عباب اليم، وفي أطباق الأثير وفي البراري والقفار والجبال والمغاور وكهوف الأرض، فيا قلب يوحنا أيها القلب الخفاق، علمنا أن يكون لنا قلب كقلبك فنسلك كما سلكت، لنرضي من أرسلك ومن اختارنا لنكون أبناءً له.
الأرشمندريت الياس (معوّض)
 
قديم 28 - 06 - 2016, 06:43 PM   رقم المشاركة : ( 13357 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

القدّيسان قسطنطين وهيلانة المعادلا الرسل

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
القدّيس قسطنطين الكبير
ولادتُهُ ونشأتُهُ:
وُلد قسطنطين الملك حوالي العام 280م. كان أبوه جنرال روماني لامع اسمه قسطانس كلور وأمه القديسة هيلانة. لم يأخذ عن أبيه فن الحرب وحسب, بل كذلك، أن يسوس، بحكمة، الخاضعين له وأن يرأف بالمسيحيين.
نشأ قسطنطين على مزايا كريمة ونبل في المسرى ورحابة في التعاطي مع الآخرين وإنصاف في العدل وعطف على المحتاجين، مستعداً لأن يعغوا عن المتحاملين عليه بعد أن يكسر شوكتهم إلاَّ إذا تمادوا. هذه المزايا بالإضافة إلى الرأفة بالمسيحيين أتسم بها قبل أن يعرف المسيح، فلما عرفه أخذ منهُ وأضاف على فضائله، فضائل جديدة.
قسطنطين أمبراطوراً:
بعد أن عاش قسطنطين أسيراً، في نيقوميذية والعاصمة الشرقية للإمبراطورية الرومانية، إثر احتجازه من قبل غاليريوس قيصر، تمكّن من الإفلات، وتحول إلى الغرب، على جناح السرعة. حيث كان أبوه مشرفاً على الموت. لكنه أسند إليه كرسي الحكم في الغرب، فأعلنهُ العسكر أمبراطوراً في 25 تموز سنة 306م.
الصليب رمز الغلبة على الشر:
بفضل استجابة أهل رومية بقسطنطين الملك ضد مكسنتيوس. حشد جيشه، لكن، سرعان ما أدرك أن جيش مكسنتيوس يفوق جيشه عدداً، فأدرك تفوّقهم فارتبك. فإذا بصليب هائل يظهر في السماء عند الظهيرة، قوامه نجوم وحوله الكلمات التالية باللغة اليونانية “بهذه العلامة تغلب”. ثم في الليلة التالية ظهر له الرب يسوع نفسه وأوصاه بإعداد صليب مماثل للصليب الذي عاينه في الرؤيا وأن يرفعه بمثابة راية على رأس جيشه. إذ ذاك تلألأت علامة الغلبة من جديد في السماء.
وهكذا ما إن طلع النهار حتى شرع قسطنطين في إعداد صليب كبير من الفضة وأعطى الأمر أن يوضع على رأس العسكر عوض النسور الملكية. و”العلامة للنصرة على الموت ونصباً للخلود”. مذ ذاك أخذ قسطنطين يتعلم المسيحية وينكب باجتهاد على قراءة الكتب المقدسة.
خاض قسطنطين الحرب، ودارت المعركة عند جسر ملفيوس، على بعد ميلين من رومية، في 28 تشرين الأول سنة 312م وحقق قسطنطين، بنعمة الله، وقوة صليبه، نصراً كاسحاً وغرق مكسنتيوس وضباطه في نهر التيبر.
رد الاعتبار للمسيحيين:
بعد أن حقق قسطنطين نصرته ضد مكسنتيوس، دخل رومية، دخولاً مُظفَّراً، فحيته الجموع بمثابة محرر ومنقذ ومحسن. وقد رفع راية الصليب فوق النصب الرئيسية في المدنية.
هذا وقد ردَّ قسطنطين للمسيحيين كل الممتلكات التي سبق لمكسنتيوس أن صادرها منهم، كما أرجع المنفيين وحرر الأسرى. وأوعز بالبحث عن رفات الشهداء الذين سقطوا أثناء الاضطهاد الكبير. ثم التقى قسطنطين الإمبراطور ليسينيوس، إمبراطور المشرق، في ميلانو (313م)، فوقع الاثنان مرسوماً وضع حداً للاضطهاد ضد المسيحيين وأجاز لهم ممارسة إيمانهم بحرية في كل أرجاء الإمبراطورية، هكذا أبصرت المسيحية النور، وزال خوف المسيحيين من المضطهدين، لأنهم صاروا يتمتعون بحماية الإمبراطور.
كذلك جعل قسطنطين الملك على مقاطعات مملكته حُكاماً جُدداً حرَّم عليهم تقديم الأضحية الوثنية وأرسل إلى كل الأصقاع الخاضعة لسلطانه ما يفيد رفضه الوثنية وتحريضه على الهداية إلى المسيح. حثَّ أتباعه على أن يحذو حذوه، ولكن دون أن يُرغم أحداً على ذلك.
دعوته لعقد مجمع نيقية:
سنة 325م دعا قسطنطين الملك، إلى عقد مجمع مسكوني لأول مرة في تاريخ المسيحية، ذلك لتثبيته الإيمان المسيحي الصحيح بعد أن لحق به الكثير من التعاليم غير الصالحة. فعُقِدَ المجمع في نيقية ودحض كل الهرطقات كالهرطقة الآريوسية، وبحث في قضية تعييد الفصح وتحديده، في تاريخ واحد.
جلسات المجمع كانت بحضور الملك قسطنطين الذي كان همه الوحيد تثبيت أركان المسيحية وإبعاد أي تعليمٍ كاذبٍ قد يلحق بها.
معموديته ورقادُهُ:
بعد أن أحتفل قسطنطين بمرور ثلاثون عاماً للعرش سنة 335م، خرج لحرب ضد شابور الثاني، ملك الفرس، الذي تنكر لتحالفه مع قسطنطين وثار ضد المسيحية. لكن قسطنطين الملك تعرض لمرضٍ في هيلينوبوليس ونقل على وجه السرعة إلى ضواحي نيقوميذية حيثُ جرت عمادتُهُ. بعد أن أعتمد وفي يوم العنصرة المجيدة من العام 337م رقد قسطنطين الملك.
حال وفاته نُقل جسد قسطنطين الملك إلى القسطنطينية حيثُ جرت الصلاة عليه بحضور شعبي كثيف، ثم أُودع كنيسة القديسين الرسل، وسط الأضرحة الحجرية الفارغة للإثني عشر رسولاً.
القديسة هيلانة:
خبرُها:
هي الابنة الوحيدة لـ “كول” الملك الإنكليزي الذي إليه يُعزى بناء أسوار مدينة كولشستر وتجميلها. وهي الزوجة الأولى لقسطانس كلور، وابنها هو قسطنطين الملك، سلكت في الكمال المسيحي بجد كبير، لا سيما في التقوى وعمل الإحسان. كانت تتناسى قدرها كإمبراطورة فتبادر إلى مؤازرة الكنائس وتسلك بين الناس بلباس عادي متواضع. صارت أماً للمحتاجين والمضنوكين. بنت الكنائس وأغنتها بالزينة والآنية الثمينة.
قادت رحلة حج إلى فلسطين والأماكن المقدسة بعون ابنها الملك، وهناك وفي موضع الجلجلة، وجدت الصليب الكريم المقدس فنقلته بعناية وتكريم مقروناً باحتفال مهيب من قبل الكنيسة والشعب إلى القسطنطينية.
 
قديم 28 - 06 - 2016, 06:47 PM   رقم المشاركة : ( 13358 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

ﺻﻼﺓ ﺇلى ﻭﺍﻟﺪﺓ ﺍﻹﻟﻪ

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

ﻛﺎﻥ ﻳﺼﻠﱢﻴﻬﺎ ﺍﻟﻘﺪﱢﻳﺲُﻏﺮﻳﻐﻮﺭﻳﻮﺱ ﺑﺎﻻﻣﺎﺱ ﺃﺳﻘﻒُ ﺗﺴﺎﻟﻮﻧﻴﻜﻲ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ
ﻳﺎ ﻭﺍﻟﺪﺓﹶ ﺍﻹﻟﻪ، ﺍﻟﺴﻴّﺪﺓﹶ ﺍﻟﻔﺎﺋﻘﺔﹶ ﺍﻟﻘﺪﺍﺳﺔ،
ﻳﺎ ﻣﻦ ﻭﻟﺪﺕِ ﺍﷲَ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔﹶ ﺑﺎلجسد، ﺃﻋﺮﻑُ ﺟﻴﱢﺪًﺍ ﺃﻧﱠﻲ ﻟﺴﺖُ ﻣﺴﺘﺤﻘًّﺎ
ﻭﻻ ﻳﻠﻴﻖُ بي ﺃﻧﺎ ﺍﻟﻜثير ﺍﻟﺸﻘﺎﻭﺓ، ﺃﻥﹾ ﺃﻧﻈﺮَ إلى ﺇﻳﻘﻮﻧﺘِﻚِ
ﻳﺎ ﻣﻦ ﺃﻧﺖَ ﻧﻘﻴﱠﺔﹲ ﻭﺩﺍﺋﻤﺔﹸ ﺍﻟﺒﺘﻮﻟﻴﱠﺔِ ﻭﺟﺴﺪُﻙ ﻭﻧﻔﺴُﻚ ﻧﻘﻴﱠﺎﻥ
ﻭﻻ ﻳﺸﻮﺑُﻬﻤﺎ ﻋﻴﺐ، ﻭﻻ ﺃﻥﹾ ﺃﺣﺪﱢﻕَ ﺑﻚِ ﺑﻌﻴنيَّ ﺍلخاطئتين،
ﺃﻭ ﺃﻥﹾ ﺃﹸﻗﺒﱢﻠَﻚ ﺑﺸﻔتيَّ ﺍﻟﺮﺟﺴﺘين غير ﺍﻟﻄﺎﻫﺮﺗين ﻭﻻ ﺣﺘﱠﻰ ﺃﻥﹾ ﺃﺗﺮﺟﱠﺎﻙ.
ﻷﻧﱠﻪ ﻭﺍﺟﺐٌ ﻭﺣﻖﱞ ﺃﻥﹾ تمقتيني ﻭﺗﺮﺫﹸﻟﻴني ﺃﻧﺎ ﺍﻟﻀﺎﻝﹼ.
ﻭﻟﻜﻦﱠ ﺍﷲَ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔﹶ ﺍﻟﺬﻱ ﻭﻟﺪﺗِﻪِ ﺻﺎﺭَ ﺇﻧﺴﺎﻧًﺎ ﻟﻜﻲ ﻳﺪﻋﻮَ ﺍﳋﺎﻃئين إلى ﺍﻟﺘﻮﺑﺔ،
ﻓﺄﺗﺸﺠﱠﻊُ ﺃﻧﺎ ﺃﻳﻀًﺎ ﻷﻗﻒَ ﺃﻣﺎﻣَﻚِ ﻭﺃﺗﺮﺟﱠﺎﻙِ ﻭﺍﻟﺪﻣﻮﻉُ في ﻋﻴنيَّ.
ﻳﺎ ﺳﻴﱢﺪتي ﺍﻟﻔﺎﺋﻘﺔﹶ ﺍﻟﻘﺪﺍﺳﺔ، ﺍﻗﺒﻠﻲ ﻫﻨﺎ ﺍﻋﺘﺮﺍﻑَ ﺧﻄﺎﻳﺎﻱَ ﺍﻟﻜﺜيرﺓِ ﻭﺍلمرﻋﺒﺔ، ﻭﺍﻧﻘﻠﻴﻪِ إلى ﺍﺑنكِ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪِ ﻭﺇلهكِ، ﻭﺍﺑﺘﻬﻠﻲ ﺇﻟﻴﻪِ ﻟﻜﻲ ﻳﺴﺎﻣﺢَ ﻧﻔﺴﻲَ ﺍﻟﺸﻘﻴﱠﺔﹶ ﺍﻟﺒﺎﺋﺴﺔ.
ﻭبما ﺃﻥﱠ ﻛﺜﺮﺓﹶ ﺧﻄﺎﻳﺎﻱَ ﺗُﻌﻴﻘني ﺃﻥﹾ ﺃﻭﺍﺟﻬَﻪ ﻭﺃﻃﻠﺐَ ﺇﻟﻴﻪِ ﺍلمسامحة،
ﻟﺬﻟﻚ ﺟﺌﺖُ ﺇﻟﻴﻚِ ﺃﺭﺟﻮﻙِ ﺃﻥﹾ ﺗﺘﻮﺳﱠﻄﻲ ﻭﺗﺘﻀﺮﱠﻋﻲ ﻷﺟﻠﻲ.
ﻭﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢﹺ ﻣﻦ ﺃﻧﱢﻲ تمتَّعتُ ﺑﻌﻄﺎﻳﺎ ﻛﺜيرةٍ ﺃﻏﺪﻗﻬﺎ ﻋﻠﻲﱠ ﺍﷲ ﺍﻟﺬﻱ ﺧﻠﻘَني،
ﺇﻻﱠ ﺃﻧﱢﻲ ﻓﻘﺪﺗُﻬﺎ ﻛﻠﱠﻬﺎ ﻭﻏﺪﻭﺕُ ﺃﻧﺎ ﺍﻟﺸﻘﻲﱠ ﻋديمَ ﺍﻟﻨﻔﻊﹺ ﺑﺎﻟﻜﻠﱢﻴﱠﺔِ
ﻭﺍﻧﻀﻤﻤﺖُ إلى ﻗﻄﻴﻊﹺ ﺍﻟﺒﻬﺎﺋﻢﹺ التي ﻻ ﻋﻘﻞﹶ لها ﻭﺻﺮﺕُ ﻭﺍﺣﺪًﺍ ﻣﻌَﻬﺎ.
ﻓﺎﻓﺘﻘﺮﺕُ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﻀﺎﺋﻞﹺ ﻭﺍﻏﺘﻨﻴﺖُ ﺑﺎﻷﻫﻮﺍﺀ، ﻭﺻﺮﺕُ ﺃﺧﺠﻞﹸ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺃتجرﱠﺃﹸ
ﻭﺃﺣﻀﺮُ ﺃﻣﺎﻡَ ﺍﷲ ﻣﻠﻮﻣًﺎ ﻣﻨﻪ ﻭﻣُﺤﺰﹺﻧًﺎ ﺍﳌﻼﺋﻜﺔ،
ﺗُﻌﻴﱢﺮني ﺍﻟﺸﻴﺎﻃين ﻭﻳﻜﺮﻫني ﺍﻟﺒﺸﺮُ ﻭﻳﺒﻜﱢﺘني ﺿﻤيرﻱ ﻭﺃﺧﺠﻞﹸ ﺩﺍﺋﻤًﺎ ﻣﻦ ﺃﻋﻤاليﹶ ﺍﻟﺸﺮﱢﻳﺮﺓ، ﻭﻛﺪﺕُ ﺃﻥﹾ ﺃﺻيرَ ﻣﻴﺘًﺎ ﻗﺒﻞﹾ ﺃﻥﹾ ﺃﻣﻮﺕ،
ﻭﺃﺷﻌﺮُ ﺃﻧﱢﻲ ﻣﺪﺍﻥﹲ ﻣﻦ ﻧﻔﺴﻲ، بحقٍّ، ﻗﺒﻞﹶ ﺍﻟﺪﻳﻨﻮﻧﺔِ ﺍﻷﺧيرﺓ.
ﻭﺣﺘﱠﻰ ﻗﺒﻞﹶ ﺍلجحيمﹺ ﺍﻷﺑﺪﻳﱠﺔ، ﺃﻧﺎ ﺃﹸﻋﺎﻗِﺐُ ﺫﺍتي، ﻣﺼﺎﺑًﺎ ﺑﺎﻟﻴﺄﺱ.
ﻟﺬﻟﻚ ﺃلجأﹸ إلى ﻣﻌﻮﻧﺘِﻚِ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪﺓ، ﺃﻳﱠﺘﻬﺎ ﺍﻟﺴﻴﱢﺪﺓﹸ ﺍﻟﻔﺎﺋﻘﺔﹸ ﺍﻟﻘﺪﺍﺳﺔ،
ﺃﻧﺎ ﺍلمدﻳﻦَ ﺑﺎﻟﻜﺜيرﹺ ﻣﻦ ﺍلموﺍﻫﺐ، ﻭﺍﻟﻀﺎﻝﹼ، ﺍﻟﺬﻱ ﺻﺮﻓﺖُ ﻛﻞﱠ ﺛﺮﻭتي ﺍﻷﺑﻮﻳﱠﺔِ ﻣﻊ ﺍﻟﺰﻭﺍني،
ﺃﻧﺎ ﺍﻟﺬﻱ فُقتُ ﺍﻟﺰﺍﻧﻴﺔﹶ ﺍلمذﻛﻮﺭﺓﹶ في ﺍﻹنجيلﹺ ﺑﺎلخطاﻳﺎ،
ﻭﺗﻌﺪﱠﻳﺖُ ﺃﻛﺜﺮَ ﻣﻦ ﻣﻨﺴﱠﻰ، ﻭﺻﺮﺕُ ﻋديمَ ﺍﻟﺸﻔﻘﺔِ ﺃﻛﺜﺮَ ﻣﻦ ﻏنيَّ ﺍلمثلِ ﺍﻹنجيليّ،
ﺃﻧﺎ ﺍﻟﻌﺒﺪَ ﺍﻟﻄﻤﱠﺎﻉَ ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﺸﺒﻊ، ﻭﺍﻟﻮﻋﺎﺀَ ﺍﻟﻨتنَ ﻟﻸﻓﻜﺎﺭﹺ ﺍﻟﺸﺮﱢﻳﺮﺓ،
ﻭﺣﺎﺭﺱَ ﻛثرِ ﺍﻷﻗﻮﺍﻝﹺ ﺍﻟﺒﺬﻳﺌﺔِ ﻭﺍلمقرﻓﺔ، ﻭﺃﺧيرًﺍ، ﺻﺮﺕُﻏﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻦ ﻛﻞﱢ ﺻﻼﺡﹴﻭﻋﻤﻞﹴ ﻓﺎﺿﻞ.
ﻓﻴﺎ ﺳﻴﱢﺪتي ﺍﻟﻔﺎﺋﻘﺔﹶ ﺍﻟﻘﺪﺍﺳﺔ، ﺍﺻﻨﻌﻲ ﺭحمةً ﻣﻊ ﺣﻘﺎﺭتي،
ﻭﺃﺷﻔﻘﻲ ﻋﻠﻰ ﻣﺮﺿﻲ،
ﻳﺎ ﻣﻦ ﺗﺆﺛﱢﺮﻳﻦ ﻛﺜيرًﺍ ﻋﻠﻰ ﺫﺍﻙ ﺍﻟﺬﻱ ﻭﻟﺪﺗﻪ.
ﻻ ﺃﺣﺪَ غيرَكِ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊُ ﺃﻥ ﻳﻔﻌﻞﹶ ﻣﺎ ﺗﺴﺘﻄيعين ﻓﻌله، ﻛﻮﻧَﻚِ ﺃﻡﱠ ﺍﷲ.
ﺗﺴﺘﻄﻌينَ ﻛﻞﱠ ﺷﻲﺀ، ﻷﻧﱠﻚ ﺗَﺴْﻤينَ ﻋﻠﻰ ﻛﻞﱢ مخلوﻗﺎﺕِ ﺍﷲ، ﻭﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺷﻲﺀٍ ﻳﺼﻌﺐُ ﻋﻠﻴﻚ.
ﻳﻜﻔﻲ ﻓﻘﻂ ﺃﻥ ﺗُﺮﻳﺪﻱ، ﻓﻼ ﺗﺸﻴﺤﻲ ﺇﺫﹰﺍ ﻧﻈﺮَﻙِ ﻋﻦ ﺩﻣﻮﻋﻲ ﻭﺗﺰﺩﺭﻱ ﺑﺘﻨﻬﺪاتي.
ﻻ ﺗﺼﺮفي ﻧﻈﺮَﻙِ ﻋﻦ ﻭﺟﻊﹺ ﻗﻠبي، ﻭﻻ تخيّيبي ﺭﺟﺎﺋﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻭﺿﻌﺘُﻪ ﻋﻠﻴﻚِ.
ﻭﻟﻜﻦ ﺑﻄﻠﺒﺎﺗِﻚ ﺍﻟﻮﺍﻟﺪﻳﱠﺔ، التي ﺗﻀﻄﺮﱡ ﺻﻼﺡَ ﺍﺑﻨِﻚِ ﻭﺇلهكِ ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﺃﺣﺪَ ﻳُﺠبرهُ،
ﺃﻫﱢﻠيني ﺃﻧﺎ ﻋﺒﺪَﻙِ ﺍﻟﺸﻘﻲﱠ ﻭغيرَ ﺍلمستحقِّ، ﺃﻥﹾ ﺃﺳﺘﻌﻴﺪَ ﺍﻟﺒﻬﺎﺀَ ﺍﻷﻭﱠﻝﹶ ﺍﻟﺬﻱ ﻭﻫﺒني ﺇﻳﱠﺎﻩ ﺍﷲ،
ﻭﺃﺧﻠﻊَ ﻋﻨﱢﻲ ﺷﻨﺎﻋﺔﹶ ﺍﻷﻫﻮﺍﺀ، ﺣﺘﱠﻰ ﺃتحررَ ﻣﻦ ﺍلخطيئةِ ﻭﺃﺧﻀﻊَ ﻟﻠبرّ،
ﻭﺃﻧﺘﺰﻉَ نجاﺳﺔﹶ ﺷﻬﻮﺍتي ﺍلجسدﻳﱠﺔِ ﻭﺃﻟﺒﺲَ ﻗﺪﺍﺳﺔﹶ ﺍﻟﻨﻔﺲﹺ ﻭﻧﻘﺎﻭﺗَﻬﺎ،
ﻓﺄﻣﻮﺕُ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﺎلمﹺ ﻟﻜﻲ ﺃﺣﻴﺎ في ﺍﻟﻔﻀﻴﻠﺔ.
ﺃﺗﻮﺳﱠﻞﹸ ﺇﻟﻴﻚ ﺃﻳﱠﺘﻬﺎ ﺍﻟﺴﻴﱢﺪﺓﹸ ﺍﻟﻔﺎﺋﻘﺔﹸ ﺍﻟﻘﺪﺍﺳﺔ، ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺃﺳيرُ ﻛﻮني ﻣﺮﺍﻓﻘتي،
ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﺃﺳﺎﻓﺮُ في ﺍﻟﺒﺤﺮﹺ ﺳﺎﻓﺮﻱ ﻣﻌﻲ، ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﺃﺳﻬﺮُ ﻟﻠﺼﻼﺓِ ﻗﻮﱢﻳني.
ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺃﹶﺣﺰﻥﹸ ﻋﺰﱢﻳني، ﻭﺣﻴﻨﻤﺎ ﺃﻓﻘﺪُ ﺷﺠﺎﻋتي ﺃﻋﻀﺪﻳني.
ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺃﻣﺮﺽُ ﻫبي ليﹶ ﺍﻟﺸﻔﺎﺀ، ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﺃﹸﻇﻠَﻢُ ﺣَﻠﱢﻲ ﻣﺮﺍﺭتي، ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻮﺷﻰ بي ﺃﺑﺮﻳﺌﻴني،
ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﺃﺗﻌﺮﱠﺽُ لخطرﹺ ﺍلموﺕِ ﺃﺳﺮﻋﻲ ﻭﺧﻠﱢﺼﻴني،
ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ يحيطﹸ بي ﺃﻋﺪﺍﺋﻲ ﻏيرُ ﺍلمنظوﺭﻳﻦ ﻛﻞﱠ ﻳﻮﻡ، ﺃﻇﻬﺮﻳني لهم ﺭﻫﻴﺒًﺎ ﻭﻗﻮﻳّﺎً،
ﻟﻜﻲ ﻳﻌﺮﻓﻮﺍ جميعهم، ﻛﻢ ﻳﻌﺬﱢﺑﻮﻧني ﻇﻠﻤًﺎ، ﺃﻧﺎ ﺍﻟﻌﺒﺪَ ﺍلمؤﻣﻦ.
ﻧﻌﻢ، ﺃﻳﱠﺘﻬﺎ ﺍﻟﺴﻴﱢﺪﺓﹸ ﺍﻟﻔﺎﺋﻘﺔﹸ ﺍﻟﻘﺪﺍﺳﺔِ ﺍﻟﻜﻠﱢﻴﱠﺔﹸ ﺍﻟﺼﻼﺡ،
ﺍﺳﺘﻤﻌﻲ ﺗﻀﺮﱡﻋﻲ ﺍلمتوﺍﺿﻊَ ﻭﻻ ﺗﺴﻤﺤﻲ ﺃﻥ يخيبَ ﺭﺟﺎﺋﻲ،
ﻳﺎ ﻣﻦ ﺃﻧﺖ، ﺑﻌﺪَ ﺍﷲ، ﺭﺟﺎﺀُ ﺍﻟﺒﺸﺮﹺ في ﻛﻞﱢ ﺃﻗﻄﺎﺭﹺ ﺍﻷﺭﺽ.
ﺃﻃﻔﺌﻲ ﻧﺎﺭَ ﺃﻫﻮﺍﺋﻲ ﺍلجسدﻳﱠﺔ، ﻫﺪﱢﺋﻲ ﺍﻟﻌﻮﺍﺻﻒَ ﺍﻟﻌﺎﺗﻴﺔﹶ التي ﺗﻌﺼﻒُ في ﻧﻔﺴﻲ،
ﺣﻠﱢﻲ ﻣﺮﺍﺭﺓﹶ ﻏﻀبي، ﻭﺍﻧﺰﻋﻲ ﻣﻦ ﺫﻫني ﺍﻟﻜبرياﺀَ ﻭﺗﺒﺎﻫﻲ ﺍﺠﻤﻟﺪِ ﺍﻟﻔﺎﺭﻍ،
ﻭﺍمحي ﻣﻦ ﻗﻠبي ﺍﻟﺘﺨﻴﱡﻼﺕِ ﺍﻟﻠﻴﻠﻴﱠﺔﹶ التي ﺗﻀﻌُﻬﺎ ﺍﻷﺭﻭﺍﺡُ ﺍﻟﺸﺮﱢﻳﺮﺓﹸ،
ﻭﺍلهجماتِ ﺍلحاﺻﻠﺔَ في ﺍﻟﻨﻬﺎﺭﹺ ﻣﻦ ﺟﺮﱠﺍﺀ ﺍﻷﻓﻜﺎﺭﹺ ﺍﻟﺪﻧﺴﺔ،
ﻟﻘﱢني ﻟﺴﺎني ﺃﻥﹾ ﻳﻠﻬﺞَ ﺑﻜﻞﱢ ﺃﻣﺮﹴ ﻳﺴﺎﻋﺪُ في نموِّ ﺣﻴﺎتي ﺍﻟﺮﻭﺣﻴﱠﺔ،
ﻭﻋﻠﱢﻤﻲ ﻋﻴنيﱠ ﺃﻥ ﺗﻨﻈﺮﺍ ﺑﺎﺳﺘﻘﺎﻣﺔٍ ﻃﺮﻳﻖَ ﺍﻟﻔﻀﻴﻠﺔِ ﺍﻟﻘﻮيمةِ،
ﻭﺍﺟﻌﻠﻲ ﻗﺪﻣﻲﱠ ﺗﺮﻛﻀﺎﻥِ ﻣﻦ ﺩﻭﻥِ ﻋﻮﺍﺋﻖَ ﻋﻠﻰ ﻃﺮﻳﻖﹺ ﺍﻟﻮﺻﺎﻳﺎ ﺍﻹلهيةِ ﺍلمغبوﻃﺔِ ﻭﻗﺪﱢﺳﻲ ﻳﺪﻱﱠ ﻷﺳﺘﺤﻖﱠ ﺃﻥﹾ ﺃﺭﻓﻌَﻬﻤﺎ ﻛﻲ ﺃﺗﻀﺮﱠﻉَ إلى ﺍلمسيح، ﻭﻃﻬﱢﺮﻱ ﻓﻤﻲ، ﺣﺘﱠﻰ يملكَ ﺍﻟﺸﺠﺎﻋﺔﹶ ﻓﻴُﺼﻠﱢﻲ إلى ﺍﻵﺏ، ﺍﷲِ ﺍﻟﺮﻫﻴﺐﹺ ﻭﺍﻟﻜﻠﱢﻲﱢ ﺍﻟﻘﺪﺍﺳﺔ.
ﺍﻓﺘﺤﻲ ﺃﺫنيَّﱠ ﻷسمعَ، ﺑﻜﻞﱢ ﺃﺣﺎﺳﻴﺴﻲ ﻭﺫﻫني، ﺃﻗﻮﺍﻝﹶ ﺍﻟﻜﺘﺐﹺ ﺍلمقدﱠﺳﺔ ﺍﻷﺣﻠﻰ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺴﻞﹺ ﺑﺸﻬﺪِﻩ، ﻭﺃﻥﹾ ﺃﻋﻴﺶَ بحسبﹺ ﺗﻌﺎﻟﻴﻤِﻬﺎ ﻣﺘﻘﻮﱢﻳًﺎ ﻣﻦ ﻧﻌﻤﺘِﻚ.
ﺃﻋﻄﻴني، ﻳﺎ ﺳﻴﱢﺪتي ﺍﻟﻔﺎﺋﻘﺔﹶ ﺍﻟﻘﺪﺍﺳﺔِ ﺯﻣﺎﻧًﺎ ﻟﻠﺘﻮﺑﺔ، ﻭﻓﻜﺮَ ﺭﺟﻮﻉﹴ إلى ﺑﻴﺖِ ﺃبي.
ﺍﺣﺮﺳﻴني ﻭﺣﺮﱢﺭﻳني ﻣﻦ ﺍلموﺕِ ﺍلمفاﺟﺊ، ﻭﺧﻠﱢﺼﻴني ﻣﻦ ﺣﻜﻢﹺ ﺿﻤيرﻱ.
ﻭﺃﺧيرًﺍ، ﺃﺭﺟﻮﻙِ ﺃﻥ ﺗﻜﻮني ﻣﻌﻴﻨتي ﺣينَ ﺍﻧﻔﺼﺎﻝﹺ ﺍﻟﻨﻔﺲﹺ ﻣﻦ ﺟﺴﺪﻱ ﺍﻟﺸﻘﻲّ، مخففةً ﺫﺍﻙَ ﺍﻟﻐﻀﺐَ ﺍﻟﺸﺪﻳﺪَ ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﻳُﺤﺘﻤﻞ، ﻭﻣﻠﻄﱢﻔﺔﹰ ﺍﻷﱂﹶ ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﻳُﻌﺒﱠﺮُ ﻋﻨﻪ،
ﻭﻣﻌﺰﱢﻳﺔﹰ ﻗﻨﻮﻃﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻻﻳﻮﺻﻒ، ﻭمخلصةً ﺇﻳﱠﺎﻱَ ﻣﻦ ﺭﺅﻳﺔِ ﻣﻨﻈﺮﹺ ﺍﻟﺸﻴﺎﻃينﹺﺍلمظلمينَ ﺍلمخيفة، ﻭﻣﻨﻘﺬﺓﹰ ﺇﻳﱠﺎﻱَ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﺦﱢ ﺍﻟﺬﻱ ﻧﺼﺒَﻪُ لي ﺟﻨﻮﺩُ ﺍلهوﺍﺀِ ﻭﺳﻼﻃينُ ﺍﻟﻈﻼﻡ،
ﻭﻣﺰﱢﻗﻲ مخطوﻃﺎﺕِ ﺧﻄﺎﻳﺎﻱَ ﺍﻟﻜﺜيرة، ﻭﺻﺎلحيني ﻣﻊ ﷲ،
ﻭﺍﺟﻌﻠﻴني ﻣﺴﺘﺤﻘًّﺎ، ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺄتي ﺳﺎﻋﺔﹸ ﺍلحسابﹺ ﺍﻟﺮﻫﻴﺐ،
ﺃﻥﹾ ﺃﻗﻒَ ﻋﻦ ﻣﻴﺎﻣﻨﻪ ﻭﺃﺭﺙﹶ ﺍﻟﺼﺎلحاﺕِ ﺍﻟﻄﺎﻫﺮﺓﹶ ﻭﺍﻷﺑﺪﻳﱠﺔ.
ﺃﻋﺘﺮﻑُ بهذا ﻛﻠﱢﻪ ﻟﻚِ ﺃﻳﱠﺘﻬﺎ ﺍﻟﺴﻴﱢﺪﺓﹸ ﺍﻟﻔﺎﺋﻘﺔﹸ ﺍﻟﻘﺪﺍﺳﺔ، ﻭﺍﻟﺪﺓﹶ ﺍﷲ، ﻳﺎ ﻧﻮﺭَ ﻋﻴنيﱠ ﺍلمظلمتين، ﻭﻋﺰﺍﺀَ ﻧﻔﺴﻲ ﻭﺭﺟﺎﺋﻲ، ﺑﻌﺪَ ﺍﷲ، ﻭحمايتي.
ﻓﺎﻗﺒﻠﻲ ﺍﻋﺘﺮﺍفي ﺃﻳﱠﺘُﻬﺎ ﺍﻟﻔﺎﺋﻘﺔﹸ ﺍﻟﻘﺪﺍﺳﺔِ ﻭﻧﻘﱢﻴني ﻣﻦ ﻛﻞﱢ ﺃﺩﻧﺎﺱﹺ ﺍلجسدِ ﻭﺍﻟﺮﻭﺡ.
ﻭﺃﻫﱢﻠﻴني في ﻫﺬﻩ ﺍلحياةِ ﺍلحاﺿﺮﺓِ ﺃﻥﹾ ﺃﺗﻨﺎﻭﻝﹶ ﺑﻼ ﺩﻳﻨﻮﻧﺔٍ ﺟﺴﺪَ ﺍﺑﻨﻚِ ﻭﺇلهكِ
ﻭﺩﻣَﻪ ﺍﻟﻄﺎﻫﺮَﻳﻦ ﻭﺍﻟﻜﻠﱢﻴﱠﻲﹺ ﺍﻟﻘﺪﺍﺳﺔ،
ﻭﺃﻣﱠﺎ في ﺍلحياةِ ﺍﻷﺑﺪﻳﱠﺔ ﺃﻋﻄﻴني ﺃﻥﹾ ﻳﻜﻮﻥَ لي ﺣﻆﱞ في ﺍﻟﻌﺸﺎﺀِ ﺍﻟﻔﺮﺩﻭﺳﻲﱢ ﺍﻷجمل، ﺣﻴﺚﹸ ﺗﻮﺟﺪُ ﺍﻟﺴﻜنى ﺍﻟﻮﺣﻴﺪﺓﹸ ﻟﻠﺬﻳﻦ ﻳﺘﻤﺘﱠﻌﻮﻥﹶ ﺑﻔﺮﺡﹺ ﺍﻟﺴﻴﱢﺪ.
ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﺃﺣﺼﻞﹸ، ﺃﻧﺎ ﻏيرَ ﺍلمستحقّ، ﻋﻠﻰ ﻛﻞﱢ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺼﺎلحاﺕ،
ﺃُمجّدُ ﺍﺳﻢَ ﺍﺑﻨﻚِ ﻭﺇلهكِ ﺍﻟﻜﻠﱢﻲﱠ ﺍﻟﺸﺮﻑِ ﻭﺍﻹﻛﺮﺍﻡﹺ إلى ﺩﻫﺮﹺ ﺍﻟﺪﺍﻫﺮﻳﻦ،
ﻭﻫﻮ ﻳﻘﺒﻞﹸ ﻛﻞﱠ ﺍﻟﺘﺎﺋﺒينَ ﺑﺼﺪﻕ، ﻣﻦ ﺃﺟﻠِﻚِ، ﻳﺎ ﻣﻦ ﺻﺮﺕِ ﻭﺳﻴﻄﺔﹰ ﻭﻛﻔﻴﻠﺔﹶ ﻛﻞﱢ ﺍلخطاﻳﺎ.
ﻓﺈﻧﱠﻚ بمعوﻧﺘِﻚِ ﺍلخاﺻﱠﺔِ ﺃﻳﱠﺘﻬﺎ ﺍﻟﺴﻴﱢﺪﺓﹸ ﺍﻟﻔﺎﺋﻘﺔﹸ ﺍﻟﺼﻼﺡﹺ ﻭﺍﻟﺪﺍﺋﻤﺔﹸ ﺍﻟﺬﻛﺮﹺ ﺗﻘﻮﺩﻳﻦَ إلى ﺍلخلاﺹﹺ
الجنسَ ﺍﻟﺒﺸﺮﻱﱠ، ﺍﻟﺬﻱ ﻳُﺴﺒﱢﺢُ ﻭﻳُﺒﺎﺭﻙُ ﺩﻭﻣًﺎ، ﺍﻵﺏَ ﻭﺍﻻﺑﻦَ ﻭﺍﻟﺮﻭﺡَ ﺍﻟﻘﺪﺱ، ﺍﻟﺜﺎﻟﻮﺙﹶ ﺍﻟﻔﺎﺋﻖَ ﺍﻟﻘﺪﺍﺳﺔِ، ﺍﻟﻮﺍﺣﺪَ في ﺍﳉﻮﻫﺮﹺ ، ﺍﻵﻥﹶ ﻭﻛﻞﱠ ﺁﻥٍ ﻭإلى ﺩﻫﺮﹺ ﺍﻟﺪﺍﻫﺮﻳﻦ، ﺁﻣين .
ﺩﻳﺮ ﺭﻗﺎﺩ ﻭﺍﻟﺪﺓ ﺍﻹﻟﻪ – حماﻄﻮﺭﻩ
 
قديم 28 - 06 - 2016, 06:49 PM   رقم المشاركة : ( 13359 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

التسبيح المثلث تقديسه

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

صلاة مشتركة بين الملائكة والناس
يشكل التسبيح المثلث التقديس احتفال مشترك للسماويين والأرضيين، صلاة مشتركة بين الملائكة والبشر. تتكرر في الواقع، لفظة قدوس ثلاث مرات، وتأتي من التسبيح الملائكي في رؤية النبي أشعيا، وأيضاً من صلاة داود لله ذي الثلاثة الأقانيم، القوي والذي لا يموت. جمعت الكنيسة التسبيح الملائكي ومزمور داود (41.3)، وأضافت الدعاء ارحمنا“.
أُدخل التسبيح الثالوثي رسمياً في القرن الخامس من قبل الامبراطور ثيودوسيوس الصغير، وذلك خلال دعاء جميع الشعب من أجل انقاذ القسطنطينية من الزلازل. منذ ذلك الحين وبإدخال التسبيح الثالوثي في العبادة، وخاصةً في القداس الإلهي، تدمج الكنيسة المجاهدة صوتها مع الأرواح الخادمة، مع الملائكة والأبرار في تمجيد شامل للأله الثالوثي. وهذا يشكل تصور مسبق للُحمة والمساواة بين الأبرار والملائكة. عدا عن ميزته الدعائية والتمجيدية، ثمة معنى عقائدي ثالوثي لهذا التسبيح، إذ يتطرق إلى الآب والابن والروح القدس وينتهي بإلتماس الرحمة الإلهية للإله المثلث الأقانيم. «كم هي عظيمة مواهب الإله المثلث الأقانيم، يكتب القديس يوحنا الذهبي الفم، إذ يقبل أن يُمجَّد من قِبَل أجناد الملائكة مع أجيال البشر».
قدوس الله:
نعترف بهذه البادئة للتسبيح الثالوثي أنَّ الله الآب هو قدوس بالمطلق، قدوس بطبيعته، مُنزه ومُنفرد بحسب الجوهر وطريقة وجوده. بهذا الإعتراف للقداسة المطلقة لله الآب نبيّن أنَّ الله غريب عن كلّ نقص أخلاقي، فهو يمقت الشر ولا يُحب إلّا الصلاح. أمام هذه القداسة المطلقة لله الآب يشعر الإنسان برهبةٍ وتبجيل فائقين. يتجلى هذا التبجيل عبر الكلمات والأعمال والعبادة. لهذا هو مدعيٌ لأن يلفظ اسم الله برعدة وورع. يقول القديس سيرافيم ساروف: ” أنَّ الله سيُدين كلَّ إنسان استدعى اسمه القدوس مجاناً وطلب منه شيئاً غير ضروري أو حاجةً يستطيع أن يعيش من دونها“.
تتضرع الكنيسة كي يعرفَ الناسُ قداسةَ الله ويسعون إليها. إن إفشين التسبيح المثلث تقديسه مميزٌ، إذ يتلوه الكاهن خلال القداس الألهي عند ترتيل «التريصاجيون» التسبيح الثالوثي. هذا الإفشين الرائع: «أَيُّها الإلهُ القدّوسُ، المُستريحُ في القِدِّيسينَ، المُسَبَّحُ من السيرافيم بِأَصواتٍ ثُلاثيَّةِ التَّقديس، والمُمَجَّدُ مِنَ الشيروبيم، والمَسجودُ لَهُ مِن جَميعِ القُوَّاتِ السَّماويَّة »، يُشكل بمعنى من المعاني اعترافاً بعدم استحقاقنا بأن نقدم لله التسبيح المثلث تقديسه سويةً مع الملائكة والأبرار. يذكرنا بأحسانات الله غير المحدودة لنا وبصغرنا أمامه أيضاً. يتضرع إلى الله في النهاية لكي يمنحنا الحكمة والفهم، كيما نعبده بورع كل أيام حياتنا.
انسكاب القداسة الألهية:
تنسكب قداسة الله الآب في القديسين، أولاءك المتوشحين بالكشف الإلهي. فقديسونا «العائمون» بالنعمة الإلهية يكشفون بعداً آخر للحياة، حياةً تتخطى كل مشاكل الإنسان. لكن حتى يصل القديسون إلى هذا المستوى، أن يقتدوا بقداسة الله، وصلوا أولاً إلى ما يُسمى في اللغة الكنسية «التأله». هذا التأله هو ليس إلّا الامتلاء من قوى الله غير المخلوقة. وبما إنَّ الله هو مصدر القداسة، فكل من يشتهيها ويسعى إليها بمعونته تعالى، يُرشد إليها. يتمكن القديسون بنجاح أن يعبروا من حياتهم البيولوجية نحو التأله. ينجحون بنقل الاستنارة الإلهية « دون أن يمتلأوا من الألوهة… » بحسب القديس غريغوريوس اللاهوتي. إنَّ الاستنارة مع نعمة الله، اللتين تحلان على الإنسان عبر تركيز الذهن والصلاة، ليستا إلا قوى الله المدركة، على حد تعبير القديس غريغوريوس بالاماس. لكن معرفة الله أيضًا عبر القداسة والقوى غير المخلوقة الأخرى هي معرفةٌ محدودة في الحياة الحاضرة، مقارنةً مع معرفة الله في الأبدية، خلال الحياة الأخرى، حياة الغبطة والسرور.
قدوس القوي:
حسبما ورد في كتاب البيذاليون قدوس القوي، يشير إلى الابن، القوي والعظيم، ذراع الآب، الذي به كان كلّ شيء. قدوس بالمعنى الدلالي هو الذي يأتي بعد الله الآب أي الابن. يكتب الرسول بولس في رسالته إلى الكورنثيين: «وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ، الَّذِي صَارَ لَنَاحِكْمَةًمِنَاللهِوَبِرًّا وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً». (1كور1: 30). أي منه – من الآب أنتم متحدون مع يسوع المسيح، الذي صار وظهر لنا نحن المؤمنين حكمة الله وعدله وتقديسه وخلاصه. لهذا يريدنا أن نسعى إلى قداسته. قداسة الابن وكلمة الآب هذه، أي المسيح المخلص، تنعكس إلينا عبر الكنيسة. فمن الطبيعي إذاً أن يُشكل المسيح مركز الإيمان والحياة الأرثوذكسية. إنَّ مجمل الدور الكنسي السنوي يتبع أحداث حياة المسيح المخلص على الأرض، الميلاد، الختانة، الظهور، التجلي، الآلام، القيامة والصعود. كذلك الحال هي في الدور الأسبوعي الليتورجي الذي يذكرنا بآلامه وموته وقيامته. يكتب الإنجيلي يوحنا البشير : «الكلمة صار بشراً وحلَّ بيننا » (يو1: 14) مما يعني أنه عندما أتى ملئ الزمان تجسّد الكلمة، وصار إنسانًا وأقام بيننا. أجل لقد أعطى للذين قبلوه كمخلصهم وفاديهم النعمة والحق لأن يكونوا أبناء الله. يعطي دائمًا هذا الاستحقاق لأولئك الذين يؤمنون به «فهو مساوٍ لله الآب في الجوهر والعرش، وليس كأله، الذي هو تعبير مرفوض، يشير إلى التشابه ويقود إلى هرطقة آريوس».
قدوس الذي لايموت:
قدوس الذي لا يموت يشير إلى الروح القدس، الأقنوم الثالث للثالوث القدوس المتساوي في الجوهر. يُشكل الروح القدس مصدر الحقيقة. يوحّد الخليقة ويقودنا إلى الخلاص والفداء. فبحسب تعاليم الكنيسة كل الأسرار والأعمال التقديسية تتفعّل بتدخل الأقنوم الثالث للثالوث الأقدس. لهذا تُتمَّم الأسرار باستدعاء الروح القدس وتصير فاعلة بحلول قواه.
يلبث الروح القدس دائمًا في الكنيسة. يأتي على كل مؤمن بالمعمودية والميرون المقدس، كي يشدد إيمانه. له «القدرة» لأن يوجد دائمًا معه ويتوقف عليه إذا أراد أن يصبح «قوةً». كافة أعمال الروح القدس تهدف إلى مكافأة وتقوية إرادة الناس وتأهيلهم على خدمة الله وعبادته «بالروح والحق». يقيم الروح القدس بملئه في كل واحد وكل مكان، بحسب القديس باسيليوس الكبير. وهكذا يستطيع المؤمنون أن يكونوا متحدين مع المسيح ومع بعضهم بعضًا. يتعاضد مخلصنا يسوع المسيح والروح القدس تعاضدًا منسجمًا كي يجعلونا أبناء الآب «بالنعمة» ضمن الكنيسة.
ارحمنا:
استدعاء الثالوث القدوس كي يرحمنا يُشكل ختام التسبيح المثلث تقديسه. بمقولة «ارحمنا»، نطلب أن ترحمنا الألوهية الواحدة الموَّحدة والـمتلازمة. هكذا نُردد إيمان الكنيسة بالإله المثلث الأقانيم الذي هو واحد غير منفصل بالطبيعة أو بالجوهر. يتكلم القديس اريناوس من القرن الثاني عن الابن والروح القدس «كيديّ الله الآب الأثنتين». أراد بهذا التعبير المجازي أن يدل على التعاون المشترك والمنسجم بين الأقانيم الثلاثة للثالوث الأقدس. هكذا وباستنارة الثالوث الأقدس يصبح بمقدور كل إنسان أن يرتفع إلى الشركة مع الآب عبر الابن والروح القدس، كما أورد القديس اريناوس.
باسيليوس سكيذاس )لاهوتي وكاتب(
وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
 
قديم 28 - 06 - 2016, 06:51 PM   رقم المشاركة : ( 13360 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,630

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

تنمية المواهب

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
مثَل الوزنات هو مثل علاقتنا مع الله في العمق. القضية ليست أن يثمر الانسان مواهب طبيعية له كالصوت الجميل مثلا، الأمر المطلوب هو أن نُجمّل أنفسنا بفضائل الإنجيل حسب موهبة النعمة. هذا تأكيد على أن كل ما لدينا من خير وجليل وطاهر انما يأتي من الآب. الإنسان ليس عنده شيء بحدّ نفسه ولكنه وارث لكل ما فيه من الله.
يُفهم من المثل ان المواهب متفاوتة بين الناس. هذا أمر الله، وهذا شأنه مع أبنائه، وليس لنا نحن أن نناقش مشيئته. ولكن ما يُفهَم من هذا المثل أن كل إنسان يستطيع أن يخلُص ابتداء مما ورثه، فقد شاء الله الكل أن يخلُصوا كما يقول الرسول بولس «شاء الله الكل أنْ يخلُصوا وإلى معرفة الحق يُقبلوا» (١تيموثاوس ٢: ٤). عند كل إنسان قوة من الروح القدس كافية لتؤهّله للخلاص. وليس له ان يقول: مواهب الله لا تعجبني وأنا أَطمر الوزنة وأُؤجل خلاصي أو لا يهمّني خلاصي.
نتكلّم هنا عن المواهب الروحية التي يهتم بها يسوع المسيح. إذا كان عندك شيء من الوداعة، يجب ان تُنمّي الموهبة بوداعة متزايدة يوما بعد يوم. أو إذا عندك شيء من التواضع أو بعض العفّة، أو عندك صبر أو محبة قليلة أو كثيرة، هذه هي الأشياء مهمّة، وهذا ما يجب ان نُنمّيه فينا.
لا نتكلّم هنا عن الجمال أو الغنى. هذه ليست من مواهب الله. الله لا يتكلّم عن الأشياء الدنيوية. ولكن الناس، بسبب التفاوت الذي يريدونه بينهم، جعلوا الغنى يأتي من الله، وجعلوا الفقر يأتي من الكسل وما إلى ذلك لأنهم يريدون ان يتحكّموا بعضهم ببعض، فينسبون تفوّقا ماديا إلى الله، ويقولون هذا أنعم الله عليه. نحن لا نعرف، قد يأتي المال من الله، وقد يأتي من الشيطان.
طبعًا لا يريدنا الله ان نهمل المواهب الطبيعية أيضا. فإن كنتَ فَطِنا، ذكيا، فمن المفيد أن تنمو لنفع المجتمع البشري. لكنه ركّز على المواهب الروحية في الإنجيل لأن من حصل عليها حصل على كل شيء.
حتى تُثمر المواهب، يقتضي شيئا من التقشّف وشيئا من النسك. الحياة المسيحية أن تُلاحظ نفسك، أن تقمع شهوتك، أن تعرف طرق الشر من طرق الخير، أن تحيد عن الشر بإرادة تُروّضها يوما بعد يوم حتى تكون مع القديسين هنا على الأرض، مع الذين ضبطوا أخلاقهم وعاشوا سماءهم هنا على أرضهم. يمكنك يوما بعد يوم أن تكون أكثر محبة وأكثر وداعة وأكثر لطفا.
لا يمكنك أن تنمو ما لم تؤمن بقدرة الله فيك. إنه يُنميك لأنه يحبك ويريدك أفضل مما أنت عليه اليوم. فإذا أنت لا تستسلم إلى شهوات الخديعة ولا إلى الغرور، ولكنك تقول مع الرسول «أنا بنعمة الله ما أنا» (١كورنثوس ١٥: ١٠)، أمشي وراء الله وهو يقودني إلى الميناء الصالح، بهذا أكون قد ورثتُ خمس وزنات وجعلتُها عشرا، وسأزيد قامتي الروحية يوما بعد يوم بحيث أصير أكثر وداعة وأجلّ تواضعا وأسمى في الصبر.
جاورجيوس، مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
 
موضوع مغلق


الانتقال السريع


الساعة الآن 08:51 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024