24 - 06 - 2016, 07:04 PM | رقم المشاركة : ( 13301 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
عيد جامع لوالدة الإله الفائقة القداسة
هو أقدم الأعياد المعروفة لوالدة الإله. هو من القرن الخامس الميلادي. تقيمه الكنيسة في اليوم التالي لعيد ميلاد الرّب يسوع كونها مسبّبة العيد، وهذا نمط ليتورجي متبّع في الكنيسة الأرثوذكسيّة فمثلًا يأتي العيد الجامع للقدّيس يوحنا المعمدان في اليوم التالي لعيد الظهور الإلهّي. العذراء مريم منها اتخذ كلمة الله جسداً ومنها ولد. سرٌ يفوق العقول. من لا تسعه السماوات يرتضي أن يتسّع في أحشاء إمرأة. المولود هو إله كامل وإنسان كامل، لأنّ الله بتجسّده بقيّ إلهًا بالطبع وكلّ كلام غير ذلك هو مرفوض بالكليّة في الإيمان المسيح وهو هرطقة رفضته المجامع المسكونيّة وبالأخص المجمع المسكوني الثالث في عام 430م ، لأنً هذا سر الخلاص وملء التدبير الإلهيّ، وهذا أيضًا ترجمة عشق الله للإنسان، فماذا تريد الإنسانيّة من إلهٍ يبقى في سمواته ولا يتحّد بالإنسان إتّحادًا كاملاً؟. والكنيسة منذ البداية دعت العذراء دائمًا مريم والدة الإله وليس أم يسوع أو أيّ شيء آخر، وهذا ما قالته أليصابات عندما زارتها مريم العذراء :” مباركة انت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك، فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربّي إليّ؟ (لوقا 42:1-43)” الرّب يسوع المسيح هوابن الله أيّ المولود من الآب منذ الأزل قبل أي زمن وأيضًا هو المولود من مريم البتول بالجسد في زمن. أعياد والدة الإله ميلاد سيّدتنا والدة الإله الفائقة القداسة: 8 من أيلول. دخول سيّدتنا والدة الإله إلى الهيكل. 21 من تشرين الأول. عيد جامع لوالدة الإله الفائقة القداسة: 26 من كانون الأول. بشارة والدة الإله الفائقة القداسة: 25 من آذار. رقاد سيّدتنا والدة الإله الفائقة القداسة: 15 من آب.. وضع زنار والدة الإله: 31 من شهر آب. سيّدة الينبوع: يوم الجمعة من أسبوع التجديدات. |
||||
24 - 06 - 2016, 07:07 PM | رقم المشاركة : ( 13302 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الملعقة المقدسة
أحد الهموم التي يعبر عنها بعض المؤمنين الذين يشتركون بالقداس الإلهي ويتناولون جسد ودم السيد الكريمين، هو حاجتهم إلى أن يتناولوا بالملعقة نفسها التي يتناول منها الآخرون. الحقيقة هي أنه كما يشترك عدد من الكهنة بالمناولة من كأس واحدة كذلك الأمر بالنسبة للمؤمنين إذ يشتركون بالملعقة الواحدة. أما الخوف الذي يعبَّر عنه فهو التقاط عدوى وبعض الجراثيم وغيرها من الأمراض التي قد ينقلها الاحتكاك بلعابٍ وبأحمرِ شفاه مصدره شخص آخر تقدّم إلى المناولة. فالسؤال الذي يطرحه هذا الموضوع هو: هل من داعٍ لهذا الخوف؟ الضعف البشري يبرر هذا السؤال. الجواب الفوري هو لا. من وجهة نظر مايكروبيولوجية بحتة، نسبة الكحول عالية جداً في النبيذ الأحمر الحلو الذي يستعمل في المناولة. هذا يعني أن فرص الحياة عند الباكتيريا والجراثيم هي بالواقع شبه معدومة. مع أننا جميعاً نتناول جسد المسيح ودمه فالجراثيم غير المرئية التي قد تلج فمنا من الشخص الذي سبقنا بالمناولة هي بلا ضرر. فمن وجهة نظر اختبارية صرفة، لا يسجل التاريخ أن أي كاهن مرض وأصيب بأي ضعف بعد تناوله القدسات، علماً أن الكاهن يتناول في نهاية القداس كل ما يتبقى في الكأس بعد كل المؤمنين. وفي النهاية، من وجهة نظر روحية، القدسات هي بالتحديد مقدسة أي ممتلئة من كامل حضور الرب ونعمته، وهي عطايا إلهية لا بشرية “لأن كل عطية صالحة هي من لدنك يا أبا الأنوار” (من صلاة خلف الأمفو في نهاية القداس الإلهي). إذا كنا فعلاً نؤمن بالله، فسوف نعرف تماماً أن الله لا يسمح لأي ضرر بأن يأتي إلينا خاصةً عبر المناولة المقدسة. كما ذكرنا سابقاً، الضعف البشري يبرر هذا السؤال، لكن البشر لم يتخطوا هذا الضعف إلا بالإيمان. مهم لنا أن نعرف أن المناولة عند المسيحيين الأوائل كانت تتم بطريقة مختلفة كلياً عن ما نمارسه. فقد كان المؤمن يأخذون من الكاهن قطعة من الخبز المتحوّل في يديهم، من ثم يشربون مباشرة من الكاس، تماماً كما يتناول الكهنة اليوم. بالواقع أن بعض الليتورجيات القديمة، كالقداس الإسكندري للقديس مرقس والأورشليمي للقديس يعقوب، ما زالت تدعو المؤمنين إلى المناولة بهذه الطريقة. لكن الكنيسة، خوفاً من وقوع حوادث مفاجئة، اعتمدت مع الزمن طريقة فيها يخلط الكاهن الأجزاء ويضعها بتأنٍ على لسان المؤمن الذي يدخلها إلى فمه. منذ القرن التاسع عشر، انتقلت الكنيسة المقدسة إلى طريقتنا التي نمارسها اليوم أي باستعمال الملعقة. الخوف من انتقال المرض في المناولة هو ضعف في الإيمان واستخفاف بالقدسات. لهذا، وفيما لا يوجد أي مبرر للخوف من المرض، من الضروري أن يتبع كل المؤمنين بعض الأمور الأساسية عند مقاربة الكأس المقدسة. طبعاً، لن نتطرق إلى موضوع الاستعداد للمناولة وما يسبقها من صلوات في الغروب والنوم والسحرية، بل سوف نكتفي بالكلام عن الأمور عند المناولة، إذ إن ما يتم تطبيقه يختلف بين مؤمن وآخر وكاهن وآخر. أولاً، من الضرورة مسح الفم جيداً بعد المناولة. هذا يمنع الأجزاء من الوقوع عن غير قصد على الأرض. أيضاً، من الضروري للنساء اللواتي يضعن أحمر الشفاه أن يمسحنه قبل المناولة والأصح أن لا يضعنه عندما يأتين إلى الكنيسة. إن هذا لا يُظهر فقط الاحترام الموافق لجسد المسيح ودمه، بل أيضاً يظهر احترام الإخوة المشتركين في الخدمة والراغبين في المناولة. أخيراً، عند المناولة، قد يفضل البعض أن يفتحوا أفواههم بشكل واسع ليسمحوا لكي لا تلامس الملعقة أفواههم. هذه الطريقة تؤدي أحياناً إلى إيقاع القدسات، لذا مستحسن في حال اتُبعت ألاّ يرمي الكاهن القدسات بل أن يسكبها في الفم دون أن يلزم المؤمن بمسح الملعقة. في الختام، ما يكمّل الخدمة ويقدّس المؤمنين ويضمن صحة الممارسة وعدم وقوع حوادث تهدر الجسد والدم على الأرض هو الإيمان الصحيح بأن هذا الذي نتناوله هو فعلاً جسد المسيح ودمه وأنه لشفاء النفس والجسد. مَن يقرأ سير القديسين يرى حالات كثيرة من الأمراض والتجارب شفتها المناولة التي أتت بعد استعداد صحيح وتوبة صادقة واستجابة لإيمان مستقيم. الأب أنطوان ملكي عن مجلة التراث الأرثوذكسي |
||||
24 - 06 - 2016, 07:10 PM | رقم المشاركة : ( 13303 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
اللغة الطقسية في أورشليم
اللغة الطقسية الرسمية في الكنيسة ألاورشليمية في القرن الرابع هي اللغة اليونانية. حسب كتاب ” إيجيريا” و في بعض ألاحيان يُدعى إيثيريا او سيلفيا الذي كُتب في القرن الرابع ميلادي على يد زائرة للاراضي المقدسة تُدعى سيلفيا ويقال ان أصلها هو فرنسي وفي بعض المصادر إسباني ولا يُعرف بالتحديد إن كانت راهبة أو علمانية, ويُقدر أنها زارت ألاراضي المقدسة (سيناء, مصر, فلسطين وبلاد ما بين النهرين) من سنة ٣٨١ حتى سنة ٣٨٤. وهذا الكتاب يحتوي على وصف” رحلة ألاراضي المقدسة ” ومكون من ٧٤ صفحة. حسب هذا الكتاب لغة الكنيسة القديمة الرسمية كانت اليونانية, وإستعمال باقي اللغات في اللغة الطقسية بدأ عندما تُرجم الكتاب المقدس لهذه اللغات لتسهيل فهم وقراءة الليتورجية الكنيسة. واللغة اليونانية القديمة كانت أيضاً اللغة المُستعملة في روما وأفريقيا, وكتب ألاساقفة في روما مؤلفاتهم في اللغة اليونانية القديمة لغاية فترة البابا فيكتور وكذلك اللاهوتيون في أفريقيا. وحسب كتاب سيلفيا أيضاً أن لغة الترتيل كانت أيضاً اليونانية القديمة, وكما هو معروف ان أسقف آرلي في فرنسا كيساريوس (٥٢٢-٥٢٧) حدّد اللغة اليونانية كلغة الترتيل في الغرب وليست اللاتينية حتى سنوات القرن السادس. وكتبت سيلفيا في هذا الكتاب أنها سمعت في أورشليم فقط اللغة اليونانية (في القرن الرابع), وترجمت أسماء الصلوات والطقوس للغرب. ولاحظت سيلفيا أن أسقف أورشليم لم يكن يعرف لغة أخرى غير اليونانية وكان من الضروري أن يُعلِّم شعب الكنيسة كلمة ألانجيل بهذه اللغة. وللحجاج الذين لم يتكلموا أو يعرفوا اليونانية كان ألاسقف يُترجم الحديث للغة الكلدانية السريانية. وكتبت سيلفيا أيضاً أن الوعظات الروحية التي كانت من مهمة ألاسقف (كان يُطلق أيضاً على الكرسي ألاسقفي كرسي الوعظ والتعليم) كانت بتلك الفترة باللغة اليونانية. في بعض ألاحيان كان الكهنة يقومون بالوعظ, لكن في أورشليم كان يُطبق ترتيبٌ قديمٌ : ” عند قراءة ألانجيل, جميع الكهنة والشمامسة والشعب يقفون بصمت تام, ثم يقرأ الكهنة ألكلام الروحي, وأخيراً ألاسقف يقوم بالتفسير والوعظ لشعب الكنيسة”. في كنائس أخرى آنذاك كان يُسمح للكهنة بالوعظ, يتكلم في البداية ألاسقف ومن بعده ألكهنة, وهذا شيء عكسي لنظام أورشليم, لكن ولا في أي مكان آخر كان يسود نظام الوعظ ألاورشليمي. اليوم تقام القداديس والصلوات باللغة العربية في جميع الرعابا التي يقطنها اغلبية متحدثة باللغة العربية، في بيت لحم يقام القداس داخل المغارة باللغة العربية أما في الكنيسة فيقام باللغة اليونانية. |
||||
24 - 06 - 2016, 07:15 PM | رقم المشاركة : ( 13304 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
سر المعمودية طقس ومعنى مدخل: الفرق بيننا كجماعة مسيحية اليوم، وبين الجماعة المسيحية في الكنيسة الأولى، أن تلك الجماعة كانت وحدة عضوية متماسكة في الرب. لذلك عندما كان يود أحدهم الانضمام إلى عضوية جسد الرب أي الكنيسة، كانت الجماعة كلها تشترك في هذا السر العظيم، أولاً عبر الصوم معه ثم عبر الصلاة له وأخيراً الاشتراك في استقباله عضواً جديداً في الكنيسة وذلك بواسطة طقس سر المعمودية. أما اليوم فقد أصبحت المعمودية حفلة خاصة يحضرها عدداً من الأشخاص المقرّبين وغالباً ما تغيب عنها روح الإيمان الواعي والملتزم، وتهيمن عليها الاهتمامات الدنيوية من تصوير ولباس وما شابه. لقد كان الوعي المسيحي في الماضي أن المعمودية هي سر الولادة الجديدة في المسيح يسوع. عبرها يصبح المعمد عضواً في جسد المسيح وتفتح له أبواب الملكوت. ألم يقل الرب: “إن لم تولدوا بالماء والروح لن تدخلوا ملكوت السماوات”. (يوحنا5:3). ولذلك كانت كل الجماعة المسيحية تشهد بأنه قد ولِد أخٌ جديد في العائلة الكنسية. فالإنسان خُلق على صورة الله ومثاله لكنه بعصيانه خسر بنوّته لله والشركة معه. أما الله، لفرط محبته، لم يٌرد أن يبقى الإنسان بعيداً ومنفصلاً عنه، فتنازل هو بابنه الوحيد يسوع المسيح وتجسد ومات وقام من بين الأموات، وأعاد للإنسان المؤمن به والملتزم إنجيله فردوسه المفقود والصورة الإلهية التي شوهتها فيه الخطيئة. الرب يسوع المسيح نفسه هو الذي أسس المعمودية عندما أرسل تلاميذه بعد قيامته لنقل بشرى الخلاص قائلا : ” اذهبوا وتلمذوا كل الأمم معمدين إياهم باسم الآب والابن والروح القدس ” (متى19:28)، لأن ” كل من يؤمن ويعتمد يخلص ” (مر16:16) . ومنذ ذلك الحين نرى في أعمال الرسل أن المؤمنين بالبشارة الجديدة كانوا ينضمون إلى الكنيسة بالمعمودية . ” فقال لهم بطرس توبوا وليعتمد كل واحد منكم … فقبلوا كلامه بفرح واعتمدوا وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس ” (أع38:2-41) . راجع أيضا أع12:8-13 و38:8 و18:9 و47:10-48و 15:16 و8:18 و5:19 و14:1-16). معاني المعمودية: 1. المعمودية هي الباب الذي ندخل إلى الحياة في المسيح يسوع . لقد سقط آدم فتغرب عن الحياة الحقيقية والوجود، أي الله، واندسّ في الانسان الموت الروحي وكل نتائجه مثل البلى والفساد والميل إلى الخطيئة وموت الجسد. والمعمودية، ليست محوا لخطيئة جدية ورثناها من آدم، إنها الولادة الجديدة من فوق بعد أن صار الإنسان يولد بطبيعة فاسدة مستعبدة للموت. نعم إنه في المعمودية يولد الإنسان ثانية لا من لحم ودم ولا من مشيئة رجل، بل من الله (يو12:1-13) و3:3-7) وإنه يعود إلى جماله الأول وكيانه الحقيقي. 2. المعمودية اشتراك في موت المسيح وقيامته” وتجهلون أن كل من اصطبغ منا في يسوع المسيح إنما اصطبغ في موته، فدفنا معه في الموت حتى إننا كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب كذلك نسلك نحن أيضا في جدة الحياة، لأن إذا كنا قد غرسنا معه على شبه موته فنكون معه في قيامته أيضا” (رو3:6-5) . في المعمودية يلبس الإنسان المسيح، ويخلع الإنسان العتيق، يموت عن الخطيئة والإثم، ويتجدد بالبر والقداسة،فلا يعود هو الذي يعيش بل المسيح يحيا فيه (غلا20:2) . 3. المعمودية بداية عرس روحي، تصير به النفس عروسة للمسيح، يزينها الجمال الإلهي ويحبها العريس حبا كاملا لا حد له، هو الذي أعطى ذاته للموت من أجلها. المعمودية دخول في حياة جديدة يتجند فيها الإنسان للمسيح، ويتعهد” إلا يرتبك بأعمال الحياة من أجل أن يرضي من جنده” (2 تيمو4:2)، كما يتعهد بأن يكمل السعي وينهي طريق استنارته وتألهه وتجليه “على صورة خالقه” (كول10:3). 4. في المعمودية ينضم الانسان الى الكنيسة، شعب الله الجديد، ويصبح غصنا في الكرمة (يو5:15)، وعضوا في الجسد، الذي رأسه الرب يسوع. الصلوات الخاصة باستقبال الموعوظ: بعد أن يتم تسجيل اسم المزمع تعميده في دفاتر المعمودية أي يكتب اسمه في سفر الكنيسة “سفر الحياة”، يحمله أحد عرابيه، ويتقدم به نحو الكاهن لأجل البدء بالخدمة. ينفخ الكاهن ثلاث مرات راسماً إشارة الصليب وقائلاً: باسم الآب والابن والروح القدس، وذلك لكي يزوده منذ البدء بسلاح الصليب الذي به يقهر الشياطين. ثم يضع يده على رأسه ويتلو صلاة يطلب فيها من الله أن يحفظه تحت ستر جناحيه وأن يبعد عنه الضلالة القديمة ويكتبه في سفر الحياة ويجعله في رعية المسيح “لكي يعترف لك ساجداً وممجداً اسمك العظيم المتعالي ويسبحك كل حين جميع أيام حياته”. هدف المعمودية هو استعادة الحياة الحقيقية. من هنا يبدأ العمل على تحقيق هذا الهدف. الاستقسامات: أي صلوات طرد الشياطين. وهي ثلاث صلوات يتلوها الكاهن على المزمع تعميده لكي يطرد عنه “كل روح شرير نجس مخفي معشش في قلبه، روح الضلالة، روح الشر، روح عبادة الأصنام وكل شرَهٍ واستكثار، روح الكذب وكل نجاسة مفعولة بحسب تعليم إبليس”. من الناحية الروحية، الشر ليس أمراً نظرياً فقط، بل هو أمرٌ يُواجَه ويُحَارَب. هكذا فعل الرب مع الشر، تجسد وصُلِب وغلب الخطيئة على الصليب. في الاستقسامات نواجه الشرير نعرف قوّته، لكننا نثق بقدرة الله على تدميره. الاستقسامات هي بداية المعركة التي تشكل أول بُعد من الحياة المسيحية، المعركة الدائمة مع الشرير. ينفخ الكاهن في وجه الطفل ويطلب إلى الرب أن يبعد عنه الشياطين، استعداداً لإحلال المسيح في قلبه مكان الشرير. رفض الشيطان: بعد صلوات طرد الشياطين يأتي طقس رفض الشيطان. إن حياة المسيحي هي رفض وتحدٍٍ دائمان، رفض للشرير وتحد له ولقدرته. إنها حرب دائمة مع الشيطان، لذلك يطلب الكاهن من العرابين الاتجاه نحو الغرب لرفض الشيطان. قلنا سابقاً أن الشر ليس أمراً نظرياً إنما يواجه فعلياً. ففي الاستقسامات يساعدنا الكاهن على مواجهة الشرير، وهنا بالاستدارة نحو الغرب أنت تواجه الشرير وجهاً لوجه. لماذا الغرب؟ إنه غياب النور ورمز غياب الخير واستعلان قوى الشر وسكنى الشرير. بعد أن يسأل الكاهن العرّاب ثلاثاً: أترفض الشيطان وكل أعماله وجميع ملائكته وكل عباداته وسائر أباطيله؟ يقول له انفث وابصق على الشيطان. هذا الطقس البسيط مهم جداً. أنت عندما تبصق على شيء فهذا يعني أن نفسك تمقت هذا الشيء وترفضه. وبما أنك تمقت الشيطان فأنت ترفضه فعلياً خلال المعمودية وتدير وجهك عنه، بالرفض والبصاق أنت تكسر الرباط القديم مع الجحيم وتعلن الحرب على الشرير وتبدأ الصراع معه. قبول المسيح: رفض الشيطان هو مقدمة لقبول وموافقة المسيح. صار قلبك نقياً خالياً من كل وساخة ومستعداً لقبول سكنى المسيح فيه. هنا يطلب الكاهن من العرابين الاستدارة نحو الشرق. التوجه نحو الشرق يعني تحول الإنسان نحو الفردوس المقام في تلك الجهة، نحو المسيح نور العالم وشمس العدل. يقول القديس كيرلس الأورشليمي: “عندما ترفض الشيطان بالكلية وتنقض كل عهد مقام معه، أي تلك المعاهدة القديمة مع الجحيم، ينفتح فردوس الله الذي زرعه باتجاه اشرق وأُقصي عنه أبونا آدم بسبب خطيئته. “الشرق مهم لأن الرب في مجيئه الثاني سوف يأتي من المشارق إلى المغارب. بعد سؤال الكاهن للعراب ثلاثاً إذا كان يوافق المسيح ويؤمن به، يعلن العراب أنه يؤمن بالمسيح ملكاً وإلهاً ويتلو دستور الإيمان “أؤمن بإلهٍ واحدٍ…” يعلن إيمانه بالآب والابن والروح القدس وبمعمودية واحدة. ثم يسأله مجدداً أوافقت المسيح؟” ويطلب منه أن يسجد له فيجيب: “أسجد للآب والابن والروح القدس، الثالوث المتساوي في الجوهر وغير المنقسم”. عندما رفض العراب الشيطان بصق عليه، وهنا يسجد للمسيح رمزاً للطاعة والاحترام والمحبة للرب، ورمزاً للتواضع والالتزام. القديس يوحنا الذهبي الفم يقول عن هذه المرحلة: “لقد وقّعنا عهداً مع المسيح ليس بالحبر ولكن بالروح، ليس بالقلم لكن بكلمتنا… اعترفنا بسيادة الله ورفضنا عبودية الشيطان”. مباركة هي مملكة الآب والابن والروح: هذا الإعلان لعقيدة الثالوث الأقدس فيه دعوة للموعوظ للدخول إلى مملكة الثالوث. هدف مسيرته هو الملكوت والمعمودية تفتح له أبواب هذا الملكوت. الملكوت ليس حدثاً مرتبطاً بالمستقبل، بل يتذوقه الإنسان مسبقاً في الكنيسة، والمعمودية تدخلنا في عضوية جسد المسيح أي الكنيسة. في المباركة نعلن أن الملكوت هو هدفنا ومبتغانا، ليس أننا نباركه ونقدسه، بل نعلن أنه مبارك وبالتالي هو مشتهانا ومقصد حياتنا. فعل البركة يعني فعل المحبة الهادفة المشدودة إلى من تحب. أن تبارك يعني أن تقبل بمحبة وأن تتحرك باتجاه ما قبلت وأحببت. دعوة لنا لأن ندخل إلى ملكوت الله المثلث الأقانيم والمشاركة في حياته الإلهية. وهذا هو هدف المعمودية في نهاية المطاف. نختار أن نكون أبناء الله، أبناء الملكوت، ونبتعد في هذه الحياة عن كل ما يبعدنا عن هذا الهدف. أخيراً هذا الإعلان العقائدي يظهر لنا تثليث الأقانيم مع وحدة الجوهر، إذ يقال “مملكة” واحدة وليس “ممالك”. ويقال “مملكة الآب والابن والروح القدس” لأن مملكة الآب هي نفسها مملكة الابن والروح القدس. مباركة المياه: المياه هي مادة السر، وهي تمثل عالم المادة. إنها رمز للحياة والعيش، هكذا أرادها الله عند الخلق. فلا حياة بدون ماء. لكن هذه المياه، بعد السقوط (الخطيئة)، صارت أيضاً رمزاً للدمار والموت كما في أيام نوح. في صلاة تقديس المياه يصلي الكاهن لكي تعود المياه إلى ما كان يقصد منها الله عند الخلق، أي أن تكون مصدراً للحياة. يطلب الكاهن من الله أن يجعل هذا الماء ينبوعاً لعدم الفساد وموهبةً للتقديس وفداءً للخطيئة وإكسيراً للأمراض وطارداً للشياطين. وأن يظهر هذا الماء حميماً لإعادة الولادة. نعمةً للتبني، ينبوعاً للحياة. الماء هو رمز للنظافة والتنقية، يغتسل به الإنسان لينظف جسده. وفي المعمودية تستعمل المياه بالتحديد لغسل الإنسان من الخطيئة ولتنقيته. خلع الثياب: بعد مباركة المياه يطلب الكاهن من العرابين أن ينزعا عن الطفل ثيابه. بالنسبة للقديس كيرلس الأورشليمي خلع المستعد للاستنارة ثيابه هو صورة لخلع الإنسان العتيق الخاطئ والفاني. إذا كانت المعمودية موتاً وقيامة مع المسيح، فإن عرينا هو للمسيح العاري على الصليب. إنه أيضاً صورةً لآدم وحواء اللذين كانا، قبل السقوط، عاريين وبلا خجل، أي في حالة البراءة الأصلية. الدهن بزيت الابتهاج: أثناء خلع ثياب الموعوظ يتلو الكاهن صلاة لتبريك الزيت كي يدهن به الطفل، يطلب فيها من الله أن يبارك هذا الزيت “بقوة وفعل وحلول الروح القدس حتى يكون مسحة لعدم الفساد .. وتجديداً للنفس..”. كان الزيت دائماً رمزاً دينياً أساسياً، قيمته تنبع من أهميته العملية واستعماله. فهو يُستعمل أولاً كدواء كما نقرأ في مثل السامري الصالح (لو10: 29-37) الذي سكب زيتاً وخمراً على جروح الرجل الذي وقع بين أيدي اللصوص. هو أيضاً مصدر طبيعي للنور وبالتالي للفرح. كذلك يرمز الزيت للمصالحة والسلام. وهكذا يصبح الموعوظ مستعداً لاقتبال النور الإلهي، نور المسيح، نور الحياة الأبدية وهذه هي المصالحة والسلام مع الله. القديس امبروسيوس أسقف ميلان وغيره من آباء الكنيسة يشبّهون دهن جسد الموعوظ بالزيت بدهن جسد المصارع قبل نزوله إلى حلبة القتال. صراع الموعوظ هو مع الشرير حيث سيواجهه في الحياة. بعد مباركة الزيت يمسح الكاهن الموعوظ بالزيت أولاً على جبهتيه وعلى صدره “لشفاء النفس والجسد”، ثم على أذنيه “لسماع الإيمان”، ثم على يديه قائلاً “يداك صنعتاني وجبلتاني”، وأخيراً على رجليه قائلاً “ليسلك في سبيلك يا رب”. المعمودية والتغطيس الثلاثي: بعد الدهن بالزيت يأخذ الكاهن الموعوظ ويعمّده بالتغطيس الثلاثي قائلاً: “يعمَّد عبد الله.. على اسم الآب والابن والروح القدس”. يقول بولس الرسول: “أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع اعتمدنا لموته فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك في جدة الحياة. لأنه إن كنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته”(رومية6: 3-5). فنحن إذاً عندما ننزل تحت الماء نموت مع يسوع، ندفن الإنسان العتيق فينا، المجبول بالخطيئة، لنقوم معه متجددين بالروح القدس. نُدفن مع يسوع بنزولنا تحت الماء، ونقوم بخروجنا منها. لهذا نغطس ثلاثاً رمزاً لدفن يسوع الثلاثي الأيام. يقول القديس كيرللس الأورشليمي عن التغطيس: “المعمودية ليست تنقية من الخطايا ونعمة للتبني فقط، ولكن أيضاً صورة لآلام المسيح”. المعمودية هي موت أنانيتنا وكبريائنا وهذا هو الموت” على شبه موت المسيح”. الكنيسة الأولى وعت ارتباط المعمودية بموت وقيامة المسيح لذلك كانت معمودية الموعوظين (المستعدين للدخول في الإيمان المسيحي) تتم فقط ليلة عيد الفصح. فالفصح هو العبور من العبودية إلى الحرية، من الظلمة إلى النور، من الموت إلى الحياة، ومن القهر إلى الملكوت، والمعمودية هي الفصح الشخصي ننال حرية أبناء الله ونرث الحياة الأبدية في الملكوت حيث النور الأزلي. اللباس الأبيض: بعد التغطيس يُلبَس المعمود ثوباً أبيض رمزاً لحياة القيامة التي عبر إليها وللبراءة التي يجب أن تميّزه. قبل المعمودية خلع المعمود الإنسان العتيق والآن يلبس الإنسان الجديد واضعاً أمام عينيه هدفاً وحيداً: المسيح. لقد تعمدنا لجدة الحياة والثوب الأبيض تعبير عنها. إنه الثوب البراق الملوكي ثوب الملائكة، حلة عدم الفساد. لقد استعيد المعمود من جديد ملكاً في الملكوت. إنه رمز النقاوة والطهارة والبر التي يجب أن يسعى إليها كل مسيحي. القديس امبروسيوس يقارن حلة المعمودية بثياب يسوع على جبل ثابور. أثناء لبس الحلة البيضاء ترتل هذه الترنيمة: “امنحني سربالاً منيراً، يا لابس النور مثل الثوب، أيها المسيح إلهنا الجزيل الرحمة”. الميرون: بعد المعمودية يمسح الكاهن المتنصر بالميرون المقدس في عدة أماكن من جسده، ويقول في كل مرة: “ختم موهبة الروح القدس”. إذا كانت المعمودية هي موتنا وقيامتنا مع المسيح فإن مسحة الميرون هي العنصرة الشخصية لكل واحد منا. والعنصرة هي تحقيق لما حصل يوم القيامة. الميرون المقدس ليس سراً منفصل مختلفاً عن سر المعمودية كما أنه ليس جزءاً يمنح نعمة غير ضرورية. إنه تحقيق لما تمّ في المعمودية حيث أدخلنا إلى الملكوت. هنا نختم على أننا أبناء الملكوت، إننا من رعية وقطيع يسوع المسيح. يطبع علينا ختم موهبة الروح القدس. “إننا نأخذ بالموهبة ما أخذه المسيح وحده بالطبيعة، أي الروح القدس الذي منحه الآب للابن منذ الأزل، والذي حلّ على المسيح وعليه وحده، في الأردن، معلناً أنه هو الممسوح وهو الابن المحبوب والمخلص”. وهكذا يتحقق وعد السيد المسيح: “يأخذ مما لي ويطلعكم عليه. جميع ما هو للآب فهو لي، لذلك قلت لكم أنه يأخذ مما لي ويطلعكم عليه (يو16: 14-15). القديس غريغوريوس النيصصي يتحدث عن الختم على أنه “ضمانة حفظنا وعلامة ملكيتنا” أي أنه يحافظ ويدافع عن محتوانا الثمين، وبه نكون خاصة الآب ونتخذ أبناء له، به نصبح هياكل للروح القدس. هذا الختم هو علامة انضمامنا إلى معسكر يسوع المسيح، وأننا صرنا جنوداً له، وأن معركتنا الأبدية هي مع الشرير وهو حافظنا في هذه المعركة. الزياح: بعد الميرون يأتي الزياح حول جرن المعمودية حاملين الشموع ومرتلين “أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح قد لبستم”. القديس غريغوريوس النيصصي يقول إن الزياح هو الدخول إلى الهيكل السماوي، إلى الملكوت. إنه عبور من هذا العالم إلى عالم الله. الزياح الدائري رمز للفرح الروحي والأزلي. الدائرة لا بداية ولا نهاية لها، كما أن الملكوت لا بداية له ولا نهاية، أزلي. ندور ثلاث مرات في توقير دائم للثالوث الأقدس. الشموع صورة لقناديل العذارى العاقلات المستعدات للدخول مع العريس إلى الملكوت. هكذا المعمود مستعد للدخول إلى ملكوت المسيح. نفوسنا مستنيرة كالعذارى حاملة نور الإيمان. في نهاية الزياح تقرأ الرسالة والإنجيل حيث نسمع كلمة الله الموجهة لنا بما يخص المعمودية المقدسة. المناولة: بعد قراءة الإنجيل يتقدم العراب حاملاً المعمود متجهاً نحو الباب الملوكي لتتم مناولة المعمود جسد ودم الرب المقدسين وتعتبر هذه المناولة الأولى للطفل. ومهمة الأهل هنا أن يأخذوا الطفل معهم كل أحد على الأقل للمشاركة في القداس وتناول جسد ودم الرب يسوع، للنمو في النعمة والقامة عند الله، وذلك بعد غياب دور العراب في هذا الموضوع. في الماضي كانت تتم المعمودية ليلة الفصح كان يدخل المعمّدون حديثاً في زياح إلى الكنيسة ويأخذون أماكنهم للاشتراك في القداس الإلهي مع باقي جماعة المؤمنين، أي الكنيسة، ويشتركون في المناولة لكي يصيروا واحداً مع المسيح ومع الجماعة في آن، ويصيروا “شركاء الطبيعة الإلهية” (2بطرس 1: 4). المعمودية تدخلنا إلى الملكوت، وفي المناولة نشترك في مائدة الملكوت السماوية، مائدة الرب، ونصير أعضاء في جسد المسيح نصير أبناء الملكوت ولا نعود أبناء “هذا العالم”. غسل المعمود: على المعمد حديثاً أن يشهد للمسيح في هذا العالم. صحيح أن الكنيسة ليست من هذا العالم، ولكنها تشهد للمسيح في هذا العالم، وقد أسسها الرب وأرادها لتبقى في هذا العالم إلى منتهى الدهر، معلنةً الخلاص والملكوت. يغسل الميرون المقدس عن الطفل لكي لا يبقى زيت الميرون المقدس على المعمود ويستهتر به. وفي حال غسل المعمود في المنزل يطلب من الأهل وضع ماء الغسل في مكان لا تدوسه قدم لأنه مقدس بالميرون. يقول الكاهن: “قد تبررت، قد استنرت، قد تقدست، قد اغتسلت باسم ربنا يسوع المسيح وبروح إلهنا”. يُغسل المعمود بعد نيله موهبة الروح القدس تحضيراً لعودته إلى العالم لكي يشهد فيه للمسيح وللملكوت الذي في داخله. المتروبوليت بولس يازجي |
||||
24 - 06 - 2016, 07:21 PM | رقم المشاركة : ( 13305 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
ما هي الأرثوذكسيّة؟ لَن أَنسخَ تحديداتٍ منَ الكتب، بل سأتكلَّمُ من أَعماقِ قلبي. الأرثوذكسيَّةُ هي الحقيقةُ الوحيدة، والدعوةُ إلى مغامرةٍ مُثيرةٍ ومُذهلَة. وبالطبع، تحتاجُ جرأةً وفيها من الخطورة ما يكفي، وليست مستندةً إلى شجرتَيْ غارٍ من الزمنِ الغابر. ولَعمري، لن أُخالف أبدًا دوستويفسكي القائلَ: "أؤمنُ أنَّهُ لا يوجَدُ شيءٌ أَجملَ، وأَكثرَ عُمقًا، وأَكثرَ حُبا، وأَكثرَ شجاعةً وكمالاً منَ المسيح...". تُريدنا الأُرثوذكسيَّةُ أَنقياءَ وأَبرياء، وتَطلُبُ مِنَّا الكثير. فَمِن دونِ االلهِ سنكونُ بكُلِّ تأكيدٍ أُناسًا أَشقياء. في الحقيقة، نحنُ لسنا قدِّيسين. والأسوأ من ذلك، أنَّنا نعتبرُ أنفسَنا قدِّيسين. هذا الأمرُ لا يُعجبُ االلهَ مُطلقًا. لا تُريدُنا الأُرثوذكسيَّةُ ممالقين، بل صريحين، ومُتواضعينَ حقيقيِّينَ ومُتساهلينَ معَ الآخرين، وألاَّ نظنَّ السوءَ هبم، ولا نكونَ غيورينَ بل صبورين. مسيحُ الأُرثوذكسيَّةِ في مُتَنَاوَلِ الجميع، وَدُودٌ، ونبيل، ومُتسامِحٌ ومحبوب. ما من مرَّةٍ خاطَبَ الخطأةَ بِقَسوَةٍ ولا حتَّى ازدرَى هبم. فَهو يُدركُ ضَعفَنَا، وعدميَّتَنا، وعجزَنَا. لا يُسيء، ولا يبكِّت، لا يُعاقِبُ ولا يَنتقم. لا بل يُسامح، ويُحبُّ ويُضحِّي لأَجلنا. رجلٌ رومانيٌّ-عبرانيٌّ اسمُهُ نيقولاوس ستاينخارت، صارَ أُرثوذكسيا وهو في السجن، كتبَ ١ في دفترِ مُذكَّراتِه: "لم يكُ االلهُ يومًا هذا المعنى اجملرَّد، هذا الخالقَ اللامبالي، وليس هو براهما لا يُقتربُ إِليه، ليسَ هو أُلوهةَ المعرفةِ التي تطوي الدهور". ليستِ الأُرثوذكسيَّةُ ديانةً جميلةً بينَ أُخرَياتٍ جيِّدات، بل هي نمطٌ، وموقِفٌ، وطريقةُ حياة. هي محبَّةٌ مُضحِّيةٌ من دونِ مُقابِل. إنَّها محبَّةُ الأعداءِ ومُسامحةُ الجميع. الأُرثوذكسيَّةُ عَثَرَةٌ وغَباوةٌ لِلعَقلانيّينَ كثيرًا. ليسَ التعليمُ الأُرثوذكسيُّ عديمَ الحكمة، أَو مُعقَّدًا، أو صعبًا أَو غيرَ ممكن. هو ليسَ للمؤمنينَ المتراخينَ كما وَليسَ للمتديِّنينَ المتعصِّبين. إنَّه لأُمورٍ روحيَّةٍ مُلِحَّة، وللمتفائلين والمحاربين. ويُعطي الحريَّةَ الواقعيَّةَ والغبطة، ويُظهرُ السلامَ، والهدوءَ وجمالَ القدِّيسين. ليستِ الأُرثوذكسيَّةُ مُهدِّئًا أَو مُنوِّمًا، بل هي مجازَفَةٌ مُستمرَّة، ويَقظةٌ دائمة، ومَوقِفٌ مُستقيم، وسهرانيَّة متواصلةٌ فقيامة. ليستِ الأُرثوذكسيَّةُ يونانيَّةً بل مسكونيَّة، وليست محصورةً في الجبلِ المقدَّسِ أَو في أُورشليمَ بل في قَلبِ كُلِّ مُؤمنٍ مُتواضِع. كلُّ مَن يعتبرُ أنَّ الأُرثوذكسيَّةَ هي للسُذَّجِ وعَديمِي النفعِ يَقعُ في ضَلالٍ يَستحقُّ الرِثاء. إِن كانَ أَحدٌ يَظُنُّ أنَّ الكنيسةَ الأُرثوذكسيَّةَ تُعلَّمُ بعضَ الكسالى والنوَّاحينَ فهوَ على خَطأ. يجاهدُ الأُرثوذكسيُّونَ مِن أَجلِ الكمال، والشفافيَّةِ والأَصالَة. ليسوا عديمي التقبُّلِ وباردِين. فَبُطلانُ هذا العالمِ لا يُحزنُهُم بل يجعلهُم حُكماء. إِلهُنا ليسَ ساحرًا ولا منجِّمًا ولا لاعبَ خِفَّةٍ ولا صانِعَ مُعجزاتٍ غريبًا. لا تُعجبُهُ الأُمورُ الوَسطيَّةُ والمحزنةُ والمضنيةُ والتي لا تُحتملُ والفاترة. لكنَّه يحبُّ الأُمورَ الصادقةَ والكاملةَ والمتواضعَة. في الأُرثوذكسيَّةِ نحنُ دائمًا على الرَّجاء، ونفرَحُ سرِّيَّا، ولا نستطيعُ إلاَّ أن نتفاءل. نعيشُ لكي نُحبّ. ومَن يَعتقدُ أَنَّ الأُرثوذكسيَّةَ تُريدُ أَعداءً وتحاربُ فقط، وهي موجودةٌ لكي تحكمَ وتُصدِرَ أَحكامًا، فهو بكلِّ تَأكيدٍ فَقَدَ صَوابَه. لكي نقومَ يجبُ أنْ نُصلبَ أَوَّلاً. والصَلبُ يحتاجُ هتيئةً مُسبقَة. الصَلبُ يَأتي في حينِه. الأُرثوذكسيَّةُ مصلوبةٌ، متواضعةٌ وقائمَة. الأُرثوذكسيَّةُ تعني العملَ القويم، والمعرفةَ الحقيقيَّةَ والمستقيمةَ والحياة النقيَّة. ولَطالما أَساؤوا فَهْمَ الأُرثوذكسيَّة. ولعلَّنا نحنُ المسؤولينَ عن هذا، لأنَّنا نُظهرُها بطريقَةٍ خاطئَة. الأُرثوذكسيَّةُ تُعاشُ أَكثرَ ممَّا تُعلَّم. الأُرثوذكسيَّةُ حِضنٌ أُمومِيٌّ حَنون، يَعرفُ أَن يُريحَ أَولادَهُ بطريقَةٍ عظيمة. الراهب موسى الآثوسيّ & دير رقاد والدة الإله – حمَطوره ٢٠١٠ © 2 από 2 Εμφάνιση Orthodoxy.pdf. |
||||
24 - 06 - 2016, 07:31 PM | رقم المشاركة : ( 13306 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
2 كلمات روحية
24- “الحياة الأكثر وفرةً” (يو10: 10) الّذي يُظهِرُها لنا القُدّاس الإلهيّ هي حياة الله بالذات. لا بل إنّها الله نفسه الّذي يسمح لنا بمشاركته، ويعطي العالم وحياتنا معنى إيجابيًّا. فبفضل القدّاس الإلهيّ في الكنيسة، يصبح وجود كُلٍّ منّا مرقاةً إلى الشركة الأبديّة مع “المطلَق”، لا “وهمًا كَونيًّا” كما يُصَوِّرُه الشرق الأقصى. وهذا “المُطلَق” هو شخص، وليس شيئًا. إنّه كائنٌ فائق السموّ، ولكنّه يحبّني. هذا المفهوم لا يمكن أن تقبلَه حركات التصوّف الشرقيّة الّتي تقول بالحُلوليّة، وبذوبان الشخص في محيط اللامتناهي. وحدَها المسيحيّة تجرؤ وتنادي الله عن حقٍّ “أبانا”. في الحضارات الأخرى، هذا الاسم له معنى الاستعارة. 25- إنّ المسيح لم يأتِ ليؤسّس ديانةً أُخرى، لها أنظمتها ومحرَّماتها، تُسْهِمُ في حُسْنِ سَير المجتمع. لا، أتى أوّلاً ليُحَرِّرَنا من الموت، أي من عُزلة الفَردانيّة (individualisme) والخِناق الّذي تُطوِّقُنا به. أتى ليفتحَ لنا طريقَ السماء، طريقَ الشركة مع الله، والاشتراك في جسده المقدّس. 26- ليست المسيحيّة “مؤسَّسة” من مؤسَّسات هذا العالم، بل هي حدَث الخلاص الّذي أتمّه شخص الإله المتأنّس. إنّها حدَثٌ وَقَعَ في مكان وزمان محدَّدَين، في فلسطين المحتلّة من الرومان، ولكنّها حدثٌ مستمِرٌ في سرّ الكنيسة. 27- يؤكّد الأب بورفيريوس أنّ المسيح لم يأتِ ليسود علينا، أو ليفرض علينا شريعةً، إنّما ليصيرَ “أخانا” و”صديقنا الحميم”. أتى لِيصِلَ بنا إلى ذَوقِ حَضرةِ الله في صَميم جَسَدِنا. ليس المسيح حكيمًا من حُكماء هذا العالم، ولا مُتنفِّذًا جبّارًا، إنّما هو مِلْءُ العذوبة والمحبَّة الّذي يُقَرِّبُ لنا ذاته لنتناولها. 28- تتألّهُ طبيعتُنا البشريّة بأسرها في المسيح يسوع، ، فبعد أن انتصر المسيح مرّةً وإلى الأبد. أعتقَنا ابنُ الله المتأنِّس من الموت بقيامته، بل أكثر من ذلك، لقد رَفعَ جسدَ الإنسان إلى كرامةِ الجلوس عن يمين الآب معَه، فوق الملائكة وسائرِ القوّات السماويّة. 29- إذا عرفنا أن ننظر بعيون الإيمان المتجلّيّة، يمكننا أن نرى القدّيسين حاضرين في نشاطات الكنيسة كلّها، سواءٌ من خلال أيقوناتهم، أو باستدعاء أسمائهم، أو بتذكاراتهم السّنويّة، أو في أسمائهم الّتي نُطلقها على الأولاد، وعلى القُرى، وعلى الأشياء، طلبًا لشفاعتهم. يستحيل على المرء أن يكون مسيحيًّا أرثوذكسيًّا من غير أن يكون في شركة “القدّيسين جميعًا”، كما يقول القدّيس يوستينوس بوبوفيتش (†1979). 30- وعى المسيحيّون شركتهم هذه مع القدّيسين، فسُمّوا “قدّيسين” لأنّهم مدعوّون إلى القداسة في جملة سلوكهم (1كور1: 2). نحن ندعو بعضُنا بعضًا “إخوة”، من غير تكلّفٍ عاطفيّ، لأنّنا أضحينا أبناء الآب السماويّ الواحد بالروح القدس مع المسيح، الّذي “هُوَ بِكْرٌ بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ” (رو8: 9). 31- في الكنيسة، ليست علاقاتنا بشريّةً أخويّةً فحسب، تظهر من خلال التعاون والمحبّة -وقد باتا نادرَين في المجتمع العلمانيّ الّذي تَحكُمُه المَصالحُ الشَّخصيّة-، إنّما أضحتْ هذه العلاقاتُ مَراقيَ تَصعدُ بي شخصيًّا إلى الله. إنّها مملوءةٌ من طاقات التألُّه الّتي تصِلُ بي إلى “القداسة” بدَوري، من خلال اختبار الروح القدس اختبارًا حيًّا. 32- أن نحيا مسيحيًّا يعني بالتالي أن نستجيب لنداء المسيح ونتبعه في صعوده إلى السَّماء، ليصير كلٌّ منّا إلهًا بمشاركة مواهب الروح القدس. ويذهب الآباء أبعد من ذلك، فيُعلّمون أنّ الإنسان مدعوٌّ ليصير كلّيًّا كما هو الله، أي أن يشاركه الأبديّة والخلود، والأزليّة، لا بالطبيعة، بل بالمشاركة. “مُّتَّحِدًا كلُّه بالله كُلِّه، في تداخل تامّ، وصائرًا كلّ ما هو لله، ما عدا المساواة بالجوهر، ومتلقِّيًا الله كلًّه بدلاً عن ذاته”.[1] 33- كيف نصير قدّيسين؟ الأمر سهل: يكفي أن نؤمن بأنّه ممكن، وأن نتبع الطريق الّتي رسَمَها السالِفون، فنسيرَ في خطى تراث القداسة في الكنيسة، وهو خبرة الروح القدس تتناقلها الأجيال. 34- لم يكن القدّيسون كائنات غريبة من كوكب آخر، بل بشرًا مثلنا، أَشْغَفَهم عشقُ الله، والاقتداء بالمسيح. فقرّروا أن يُضحّوا بكلّ ما لديهم من أجل الانصراف إلى هذا الحبّ، من غير أن يتنازلوا لقِيَم هذا العالم الزّائلة. إنّهم أناسٌ عَزَموا على اتّباع الحَمَل حتى موتِه على الصليب، من أجل أن يختبروا قيامته وحياته الإلهيّة. 35- الطريق إلى القداسة تبدأ بأن نَعي بُطلان ما يمكن أن يُوَفِّره لنا العالم، وأن نُدرك حالة انفصالنا عن الله. و”التوبة” هي الرغبة في التغيير، في أن نعطي معنًى لحياتنا. 36- أن نحيا كتلاميذ للمسيح في عالم بعيد عن الدّين، يعني أوّلاً ألاّ نخجل باختلافنا عن الآخرين، وأن نعترف بإيماننا من غير تَردُّد عند الحاجة، ولو تعرّضنا لهُزء الآخرين. ““طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ … وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي” (متى5: 11). 37- الاعتراف بالإيمان عمليًّا في حياتنا اليوميّة يتضمّن أيضًا رفض المساومات لروح العالم والخطيئة. من أجل ذلك علينا أوّلاً أن نعرف المبادئ الخُلُقيّة والرّوحيّة للكنيسة لكي نستطيع أن نُمَيِّز ما لا يوافق هويّتنا المسيحيّة في المجتمع المحيط بنا. فمعظم أبناء عصرنا يتجرّعون من غير تمييز كلّ ما يُعرَض عليهم في الإعلام، من غير أن يُدركوا ما فيه من المعاني المضادّة للمسيحيّة كُلَّ التضادّ، إلى حدّ التجديف أحيانًا. 38- لنتحرّر من الأصنام الّتي صنعها الفرعون الجديد، أي الإعلام. فالمسيح يدعونا إلى الحرّيّة الحقيقيّة. ومهما يتحتّم علينا مِن تعاطٍ مع التِّكنولوجيا، فعلاقتنا بوسائل الإعلام والتواصل ينبغي أن تنتظم وفق مبدأ الحاجة، لا المُتعة، ولا الكسل. فالصوم عن المعلومات أهمّ من الصوم عن الطعام. 39- ينطوي العيش في الكنيسة على مشاركة سرّ التألّه، سرّ التقديس. فكلُّ تحجيمٍ لأَبعاد المسيحيّة إلى مستوى الخُلُقيّات البَحْتَة هو انحراف. المسيحيّة ليست ديانةً، بل هي الذَّهاب إلى أقصى الحدود، هي ثورة جذريّة، هي النار الّتي جاء الربّ ليُلقيها على الأرض. ومَن شَعَرَ بهذه النار في قلبه يصير مجنونًا من أجل الله، لا ليهدم نواميس المجتمع، بل ليُكمّلها ويسمو عليها. 40- من صفات الشباب المسيحيّ الشَّجاعة ورفض المساومة إزاء روح العالم. لا ينبغي الجزع والخوف، بل التصدّي بثبات لإغراءات الدُّنيا. فهروبُ الشابّ من أمام التجربة ليس علامة جُبن بل عنوان مَجده. وعلينا اتّخاذ بأس الشّباب من الشّهداء مثالاً. 41- أن يكون المرء مسيحيًّا يعني أن يقتني رُقيًّا خُلُقيًّا لا يسمح له بإبرام الصَّفقات مع سفاهة الحياة الدّنيويّة وما فيها من ابتذال، ولكن من غير أن يُعادي المجتمع. 42- التحرُّر الجنسيّ المزعوم لا يَنتُجُ عنه إلاّ وقوع الإنسان في حلقة مُفرَغَة لتعاقُب اللّذّة فالشَّهوة. كلُّ تلذّذ جَسديّ يولِّدُ فيه شهوة جديدة ويُغلِق عليه في الموت. 43- الانتباه إلى حاجة القريب والمحبّة في تفاصيل الحياة “اللطف ونبل الأخلاق” ميزة القدّيسين وعنوان المناقبيّة المسيحيّة في وجه السّفاهة والبذاءة الّتي يروّجها عالمنا المعاصر. 44- إنّ مثالنا الأعلى ومَنشأ الجهاد في حياتنا هو أن نذوق الحياة الأبديّة وننشر حولنا فرح انتصار المسيح على سائر أشكال الموت. فالمسيح لا ينفكّ يقرع باب قلبنا، منتظرًا أن نفتح له. 45- فلنتعلّم أن نستغلّ الوقت حسنًا، لأنّ الفُرص الّتي نُفوّتها لا تتكرّر. كلّ لحظة من حياتنا محمّلة بالأبديّة، ويمكن أن تصير سُلَّمًا إلى ملكوت الله. أن نفتدي الوقت، يعني أن نجد الفرَص المناسبة لاقتحام ملكوت السماوات، فنغدوَ ورثةً له “مع القدّيسين جميعًا”. منشورات دير مار ميخائيل |
||||
24 - 06 - 2016, 07:32 PM | رقم المشاركة : ( 13307 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
كلمات روحية 1
1- المسيحيّة[1] هي دخول حياةِ الله في مَدى حياة الإنسان. هي نوعٌ من الظُّهور الإلهيّ، فالله نفسُه يلبَسُ الإنسان، ويصعَدُ به إلى السَّماء ليَجلِسَ عن يمين الآب. هذا هو جوهر إيماننا: نحن لا نقولُ إنّ الله صار إنسانًا فحَسْب، بل إنّنا مَدعُوّون لنصير مثل الله في المسيح بفِعْل الرّوح القدس. 2- الكنيسة ليست مؤسّسة بشريّة، ولا حتى “ديانة”، إنّما هي جماعة (شَرِكَة) المتألّهين”، كما يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس. هذا يَعني أنّنا نؤلِّفُ معًا جماعةَ الّذين يبتغون أن يعيشوا في شركَةٍ مع الله. الكنيسة هي ملكوت السموات بيننا، ولكنْ يبقى علينا أن نكتشفَهُ شخصيًّا بمساهمة حرّيتنا الشّخصيّة. 3- هدف الحياة المسيحيّة، بحسب القدّيس سيرافيم ساروف، هو اقتناء الروح القدس، وتحقيق ملكوت السموات في ذاتنا، هذا الملكوت الّذي دخلَ فينا يوم معموديّتنا. هدفُ الحياة المسيحيّة إذًا هو أن نعيش حياة الله. 4- كُلُّ إنسانٍ مَسيحيّ مَدعوٌّ إلى الكمال، وليسَ أمام الإنسان المسيحيّ طريقان: واحدة تكفيه لتأمين خلاصه بعد الموت، وأُخرى تقودُ إلى الكمال الإنجيليّ، تَسْلُكُها أَقلِّيَّةٌ مُختارَة من الناس. فالخلاص يقتضي أن نَتْبَعَ المسيح، وأن نسعى لتنمية بذار الحياة الإلهيّة الّتي أُلقِيَت فينا يومَ المعموديّة. وكما يَقولُ القدّيس يوحنا الذّهبيّ الفم، “الإنسان المسيحيّ هو الّذي يُفكِّر في سلوكِه وقراراته كلّها أنّ المسيح مَعَنا في كلِّ مكان”. ويقول أيضًا لا يمكننا أن نكون مسيحيّين “بنِصْفِ دَوام”. ويقولُ أيضًا: “وَهْمٌ كبيرٌ ظنُّكَ أنّ الرّهبان والعلمانيّين ليس عليهم الواجبات ذاتها، لأنّهم، ما عدا الزّواج أو البتوليّة، سيؤدّون الحسابَ نفسَه… فالمسيح لا يتكلّم في الإنجيل على علمانيٍّ وراهب، إنّما هذا التَّفريق من نتاجِ العقل البشريّ، ولا يَعرفه الكتاب المقدّس. كلُّنا إذًا مدعوّون إلى كمال الحياة السماويّة، ولنا اختيار نمط هذه الحياة: إمّا الزّواج وإمّا البتوليّة المكرّسة، ولكنّ المطلوب واحد، وهو التخلّي عن الدُّنيا، عمّا يسمّيه الكتاب المقدّس “الإنسان القديم”. 5- لقد ارتضى المسيح أن يَتَسربَلَ الطبيعةَ البشريّةَ ويَقْبَلَها في ذاتِه، فخاضَ المعركة في بشريَّتِه، وأحرزَ لنا انتصارًا حاسمًا على العدوّ الأكبر للإنسان، أعني الموت. هذا ليُظهِرَ لنا أنّه علينا اتّباعَ خُطاه وإحراز انتصاره في بشريّتنا. 6- ليس من عيبٍ وأمرٍ مُشين للمسيحيّة أكبر من رؤية مسيحيّين واجِمين، مُكتئبين، يغتمّون من مواجهة الموت. هؤلاء لا يَشهدون في حياتِهم لفرح القيامة، في حين أنّ الرسول بولس يَحُثُّنا على الفرح كلَّ حينٍ هاتفًا: “أين شوكتكَ يا موت؟ أينَ غلبتُكِ يا جحيم؟ ولكنْ شُكرًا لله الّذي يعطينا الغلَبَة بربّنا يسوع المسيح”! (1كور15: 57). 7- ليس الشيطان عدوَّنا الألدّ، ولا “العالَم”، بل الأنا، هذه الأنانيّة الّتي يسمّيها الآباء القدّيسون “حُبّ الذات”، وهي مصدر مشاكلنا ومشاكل المجتمع كلّها. لذا فالحرب الروحيّة الّتي نحن مدعوّون إلى أن نخوضَها ضدّ الشيطان وأعوانه، من خلال حَمْلِنا الصليب كلَّ يوم، إنّما هي برنامج حياة الإنسان المسيحيّ. 8- بعد زمان الاستشهاد والاضطهاد، اضطرمَ بعضُ الناس اشتياقًا إلى “إتمام آلام المسيح في أجسامهم”، كما يقول بولس الرسول (كول1: 24)، فانصرفوا إلى البراري، وثقوب الأرض، والغابات الدّاغلة، أو صعدوا أَعمدةً، بَحثًا عن العُزلة المساعدة على الصلاة، ليُقاتلوا بالجسد الأبالسة الّتي حَسَدَتْ ما يتمتّعون به من القُربى إلى الله. 9- نحن أيضًا نستطيع أن نقتفي آثار المجاهدين الروحانيّين، وليس هذا من الماضي. لا ينبغي أن نتعلّل بتغيُّر الظُّروف، وصعوبة الحياة المعاصرة. نحن مدعوّون إلى الجهاد بالمقدار عينه من محبّة المسيح. كلُّ مؤمن عليه أن يهتفَ مع بولس: “مع المسيح صُلبتُ. فلستُ أحيا أنا، بل المسيح يحيا فيّ” (غلا2: 20). أمسى العيشُ كمسيحيّ مَدعاةً للسُّخريّة. ولكن لا بدَّ أن نأخذ هذه السُّخريّة على عاتقنا، كما يقول بولس الرسول: “لا يخدعنّ أحدٌ نفسَه. إن كان أحدٌ يظنُّ أنّه حكيمٌ بينكم في هذا الدهر، فليصِر جاهلاً لكي يصير حكيمًا… نحن جُهّال من أجل المسيح” (1كور3: 19 و4: 10). 10- من أهمّ أشكال الأنانيّة تكديسُ أشياء لا لزوم لها. فمجتمعنا اليوم لم يَبْقَ “مجتمعَ الاستهلاك”، بل “مجتمع الطّمع”، وهو لا ينفكُّ يختلق حاجات كاذبة تُمسي لنا من ضروريّات الوجود. لهذا قالَ أحد الإعلانات: “أنا أشتري إذًا أنا موجود”. فبدءُ جهادنا يكمن في التخلُّص من أشياء تُكدِّرُ حياتَنا وهي غير لازمة، والاكتفاء بما هو ضروريّ. فالطّمع لا يعني فقط أن نكدّس الأشياء، بل أيضًا أن نسعى إلى راحتنا الشخصيّة، أو أن نتوخّى اتّباع الموضة. 11- يجب ألاّ ننسُب إلى ذواتنا أيًّا من أعمالنا الصالحة، وألاّ نيأس من سقطاتنا، لأنّ هاتَين الحالتَين تكشفان كلاهما أنانيّةً تتستّر وراءَ كلامٍ فيه تذلّل وتقوى. ولكنّ المتواضع ليس مَن يتذلّل بالكلام، بل مَن يسعى إلى الاحتجاب، والخَفَر. 12- قبلَ الوصول إلى محبّة القريب الحقيقيّة، الّتي هي “أن يعطي المرء حياتَه لأجل أحبّائه (يو15: 13)، اقتداءً بالمخلِّص، علينا أن نُضاعفَ جهودنا حتى نقبَل الآخر على اختلافه. وقبول الآخر يعني أن أُرغِمَ ذاتي على عدم إدانته، وعدم السّعي إلى تصحيحه في كلّ مناسبة، رغبةً في إخضاعه لمقاييسي وميولي الخاصّة. لا، بل ينبغي أن أَقبله كما هو. قبول الآخر لا يعني تبريرَ الخطيئة أو الخطأ، بل التعاطي والناس الّذي نعاشرُهم في حياتنا اليوميّة بما نوليه من الاحترام واللطف لأيقونةٍ حيّة، مهما تشوّهت أو تلطّخَت بالإثم. 13- تبدأ الحياة الروحيّة حُكمًا بالصّوم، أو ما يُدعى أيضًا “الإمساك” (εγκράτεια)، وهو لا يقفُ عند التزام الصّوم في الفترات المحدّدة كَنَسيًّا، استعدادًا للأعياد ولتناول الأسرار المقدّسة. أجل، هذه الفترات مهمّة لأنّها تعطي نمط حياتنا مَنحاه الكنسيّ، ولكنّها لا تكفي. فالصوم يجب أن يحدِّد حياتنا اليوميّة بشكل ثابت، ويضعُ حدودًا طوعيّة لمَيْلِنا إلى إشباع رغباتنا. إنّه يكمن في استبدال اللذة المادّيّة العابرة لا مَحالة بفرح الحرمان الطوعيّ. وفرح الحرمان بدافع محبّة الله يولّد فينا، بالمقابل، حِسًّا متناميًا لحضور الله. 14- الإنسان في المجتمع “ما بَعد الصّناعيّ” postindustrielle société، الّذي دخلْنا فيه، ليس مستهلكًا وحسبْ، بل يزداد استعبادًا للصّوَر والمعلومات الّتي تملأ حياته. إذًا تقتضي ممارسةُ النُّسك في العالَم أن نصومَ “صَوْمَ العَينَيْن”، أن نصوم عن المعلومات غير المفيدة، والملاهي الّتي تُضيّع وقتنا، فيما نستطيع أن نستثمرَ هذا الوقت بالأنشطة الروحيّة الّتي تغذّي نفوسَنا. فمعظم النّاس يقولون إنّهم لا يملكون الوقتَ للصلاة وأنشطة الحياة الروحيّة، ولكنّهم يجدون الوقت لرَصْدِ الأخبار الّتي تتدفّق بلا توقّف، ولا تعطي عن الحيقيقة إلاّ صورة مُتَحيِّزة. 15- يتكلّم الآباء عن الأفكار، ويقصدون الأفكار المحرَّكة من الأهواء، لا حركات الفكر ونشاط العقل. تظهر هذه الأفكار في قلبنا بشكل صور بسيطة، تعيدُ إلينا ذكرًى ما أو عملاً سيّئًا قُمنا به. في هذه المرحلة، إذا لم يأتِ هذا الفكر من أنفسنا، فلا لوم علينا. أمّا إذا بدأنا نقبل هذه الصّورة بانسجام ورغبة، فتبدأ “علاقتنا” بها. إذا لم نَصُدَّ هذه العلاقة بقوّة، نقع أسرى الفكر الّذي يبدأ يُلحُّ علينا. فإمّا أن نُذعِنَ لهُ، أو أن نطردَهُ بالصّلاة الحارّة. أمّا إذا قبلناه، واتّخذ هذا الفكر مكانًا في نفسنا كأحد الأهواء، فيقودنا إلى الخطيئة بالفعل. هذه العمليّة الّتي تولّدها أفكار الأهواء في ذاتنا حلَّلَها “الآباء اليقظون” (Pères neptiques) وجعلوا منها علم النّفس وحركاتها. فعلم النّفس الحديث ليس إلاّ نسخة علمانيّة هزيلة لعملهم هذا. 16- لكي نستطيع أن نميّز بذور الأفكار الّتي تُفرِعُ فينا، علينا أن نسهر سهرًا كافيًا على حركات قلبنا، وكياننا الداخليّ. هذا السّهر يُدعىَ أيضًا “حفظ القلب”، وهو يحوي كذلك مجمل العلم الرّوحيّ، ويتضمّن درجات لا تُعَدُّ ولا تُحصى. ولكنّنا لا نستطيع أن نتمرّس فيه إلاّ بقدر ما تخلو حياتنا من الاضطرابات والحوادث الّتي تعترضنا في مسيرة الترقّب الداخليّ للنَّفْس. فكما يتعذَّر الإبحار في مياهٍ تخبطها الأمواج، كذلك لا يُمكِنُ أن نجتاز في خضمّ القلب المضطرِب. 17- الجهاد الرّوحيّ المطروح إزاءَنا، سواءٌ أكُنّا رهبانًا أَم علمانيّين، هدفه الوحيد في النهاية هو أن نوقظ في أنفسنا هذا العشق للمسيح، محرّرين النّفسَ مِن عُشّاقها المزيَّفين. ورغمَ سقطاتنا، وخيباتنا في الجهاد، وإخفاقنا أحيانًا، إذا لم نَيْأَس، بل عاودنا الكفاح كلَّ صباح، واضعين رجاءنا في معونة الله، نتعلّم أن ننتبه لصوت الّذي يقرع باب قلبنا، منتظرًا أن نفتح له، ليدخل ويتعشّى معنا (رؤ3: 20). حتى تلك الساعة، لم نكُن نسمع، بسبب التهائنا بصخَب الدُّنيا. 18- الإحساس بالزمن لدى الراهب الّذي انكفأ عن العالم ليعيش في الموانئ السّلاميّة، أعني الأديار، يختلف عن إحساس أهل العالم المُنغَمِسين حُكْمًا في دوّامة الأحداث. في الدّير، يبدو الزّمن متوقّفًا، والسِّنون تمضي على وَقْعٍ وَحيدٍ هو تَتالي الأعياد والأصوام. فالحياة الرُّهبانيّة في جَوْهَرِها خارجةٌ عن نطاق الحوادث، ولا ينبغي أن يلفُت الراهبُ الأنظار. 19- أصابَ من حَدَّدَ المجتمعَ الغربيَّ بأنّه “مجتمع الشهوة”، بدلاً من “مجتمع الاستهلاك”. فالاقتصاد العالميّ بأسره يقوم على تغذية حاجات لا تنتهي بواسطة الدعايةpublicité) )، من خلال المناداة بوعود لَذّاتٍ سهلة متواصلة، بعيدة عن الحاجات الحقيقيّة للإنسان. والهدف الوحيد من هذا هو إشباع الرغبة، وتثبيت “الأنا”. 20- الثورةُ المَعلوماتيّة ووسائل التواصل المباشَر تُمكّننا اليوم من أن نطّلع اطّلاعًا مباشَرًا على كلّ شيء تقريبًا. كلٌّ منّا له أن يصل إلى كمّيّة معلومات لا يمكن لأحد التّحكّم بها، ولا حتى ترتيب محتوياتها كما يجب. فبهذه الطّريقة، انتصر وَهْمٌ آخر، وَهْمٌ قائمٌ على المعرفة المباشَرة السّهلة، وعلى شبكات الترابُط، وعلى عالم ظاهريّ (virtuel)، كلّما غاصِ فيه المرء غَرَّقَه في عزلة كُبرى. ولا داعي هنا لأَسوقَ لَكُم مثَلاً واضحًا عن شُبّان يُقيمون صداقات في أربع أقطار الأرض، ولا يعرفون أن يُكلّموا المقرَّبين منهم. 21- المجتمع الاستهلاكيّ دخل منذ زمن بعيد في عمليّة تدمير ذاتيّ تجرّ خلفها الطّبيعة (الأزمة البيئيّة)، والعالم بأسره (العَوْلمة). إلاّ أنّ معظم الناس ما زالوا عميانًا، يظنّون أنّهم مستمرّون في “التحرّر” من قيود المجتمع البُورجوازيّ (المحافظ). والنتيجة واضحة: أزمة اقتصاديّة وخُلُقيّة شاملة، وانعزال أشخاص لا يؤمنون بشيء، وسعي جنونيّ إلى إشباع الرغبات الأنانيّة والروح المادّيّة، فطلاقٌ، فإجهاضٌ، فانتحارٌ، وهلمّ جرًّا. 22- إنّ عالَم العَولمة والتواصل أمسى عالَمَ الانعزال وانقطاع الشركة بين الناس، الّذين باتوا أرقامًا أو أشياء. 23- نحن الآن نساءُ ورجالٌ يدّعون أنّهم “متحرّرون”، ويزدادون شقاءً، لا من حيثُ المستوى المادّيّ فحسب -بسبب انهيار النظام الاقتصاديّ-، بل من حيث فقدانُهم معنى الحياة، وتَعَاستُهم النّفسيّة والروحيّة. |
||||
24 - 06 - 2016, 07:35 PM | رقم المشاركة : ( 13308 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
تذكّر الموت
تذكّر الموت • مواجهةٌ صريحة مع الموت1[1] أَطلب إلى كلّ من يقرأ هذه السطور أن يتأمّل معي، بأكثر تدقيقٍ، في موضوع الموت. وأنا أطلب هذا لأنّكم، بهذا التأمّل، تقومون بعملٍ أصبح نادرًا، مع العلم من أنّه عملٌ حكيم وتقليديّ، في هذه الأيام المعاصرة والتي أضحت أكثر دنيويّةً. إنّ تعاظم تيّار “الدهريّة” (secularism) في هذه الأُمّة، وفي الغرب عمومًا، كان له تداعيات هائلة على وسائل الموت والدفن المسيحيّة، المعروفة في التاريخ، وعلى وسائل الخِطاب العامّة والخاصّة المتعلّقة بهذه الأُمور. لقد اعتاد الأميريكيون، في ما مضى، على تقبّل حقيقة الموت وعملية الدفن، بأكثر أريحيّة ممّا يحصل في هذه الأيام. كان الموت، بالنسبة إلى مجمل التاريخ الأميريكيّ، أمرًا يواجه كلّ عائلةٍ داخل البيت. وعملية الدفن كانت أمرًا تضطلع العائلة به وتُتمّمه. أمّا اليوم فقد أصبح الموت مُغيَّبًا عن وجه المجتمع، في المشافي. وعملية الدفن قد أُنزلت رتبتها لتصير في عداد مهنة “الجنازة ومستودع حفظ الجثث”. يعتقد معظم الآباء والأُمّهات، عن سخافةٍ، أنّه ينبغي على أولادهم ألاّ يتفرّسوا في إنسانٍ ميت. وبنفس الوقت يُعرَض، وعلى الدوام، أمام الأولاد ما يُسمى بـ“الموت الرقميّ” والموت الناجم عن نزوة القتل، من خلال وسائل الإعلام المتنوّعة، مفضِّلين بذلك الابتعاد عن الحقيقة. لقد أضحينا أُمّةً ترتاح لمُشاهدة الموت، ولا ترتاح، بشكلٍ مؤسفٍ، للموت الحقيقيّ عندما يأتي بشكلٍ محتوم إلى حياتنا. بإزاء هذا الابتعاد المتطرّف، في موقف أميريكيي يومنا هذا، تجاه حقيقة الموت، قد نمى عندهم يأسٌ عميق مسبِّبًا خوفًا من الموت، بالإضافة إلى باقةٍ كاملة من البِدَع المتعلّقة بالموت، كبدعة حرق جثّة المائت، وبدعة نثر رماد الجثّة بعد الحرق _وما يُسمى بـ “Celebration Services”_ ، بالإضافة إلى ازدهار مهنة “الجنازة ومستودع حفظ الجثث”. لقد تعاظم الخوف من الموت لأنّ التيّار “الدهريّ” لا يمتلك جوابًا عن الموت. وفي الواقع، تُفضِّل نخبة أتباع هذا التيّار التزام الصمت عند مقاربة موضوع الموت. وما هذا الصمت إلاّ حقيقة بشعة، طالما أنّه يزكّي الفكر المتوهّم القائل بأنّنا لن نموت أبدًا، وكأنّ الموت ليس حقيقةً محورية ولا مفرّ منه في وجودنا البشريّ. إنّ هذا الصمت الـمُمنهَج حيال الموت يؤذينا نحن أيضًا، لأنّنا لا نفتكر ولا نتأمّل ولا نستعدّ للموت. فُيداهم الموت كثيرين من هؤلاء المتوهّمين قابضًا عليهم. إنّه لصمتٌ جدير باللوم، لأنّه يُزكّي الجهل بأمرٍ سيواجه الجميع. عندما يتكلّم الدهريّون، فهُم غالبًا ما يبسطون تعليمهم، أنّنا، نحن البشر، لسنا إلاّ حيوانات، وأنّ الموت ما هو إلاّ الوقوع في اللاوجود. يُهمل هذا الإصرار السخيف الحقيقةَ القائلة أنّ الكائنات البشريّة، التي تمتلك فرادةً عن كلّ الحيوانات، قد تفلسفت على الموت واستذكرته، على عكس أيّ حيوانٍ آخر. لا يوجد دينٌ في تاريخ البشريّة لم يُفرد للموت أهميةً كبرى. لن تشعر بالارتياح والتعزية إذا قال لكَ إنسانٌ مُلحد أو دهريّ أنّ الإنسان يُباد ويُمحَق عند الموت، وأنّه لن يوجد ثانيةً. عندها يصبح الموت النهاية الأخيرة لكلّ طموح الحياة، وشرًّا خطيرًا يُهدّد على الدوام لإفراغ حياة الإنسان من كلّ معنى ووجود، ومُغتصبًا يأتي ليُعرّي كلّ علاقات الإنسان من كلّ معنى واستمرارية. لا عَجَبَ أنّ الذين يُنكرون الدِين غير قادرين على مجابهة الموت بأيّ طريقةٍ تحمل معنى. تاريخيًّا، كثيرًا ما تميل ثقافة “رفض الموت” هذه، في أميركا، لتنحرف بقدراتها نحو مساعٍ باطلة، في إطالة الحياة البيولوجيّة للإنسان، بدلاً من مجابهة الموت والتفلسف عليه. ومع ذلك، لا يقدر أحدٌ أن يتوارى من أمام الموت. إنّه، بتعبير القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ: “القاضي الّذي لا يُحابي”. لا يقدر الإنسان أن يفتدي الموت مهما كان ذكيًّا أو غنيًّا. إنّ الحياة وقتيةٌ، وعابرة، وسريعة. • أصل الموت الموت ليس طبيعيًّا؛ الله لم يخلقه، بل هو ثمرة الخطيئة. يقول القدّيس بولس: “دخلَت الخطيئةُ إلى العالم بإنسانٍ واحد، وبالخطيئة دخل الموت. وهكذا، اجتاز الموت إلى جميع البشر لأنّهم كلّهم خَطِئوا” (رومية 5: 12). خلق الله آدم وحوّاء أحرارًا من الموت، واضعًا إياهم على الحدّ الفاصل بين الموت والخلود. كانت نيّة الله ووصيّته لآدم وحوّاء أن يستخدما حرّيتهما في اختيار الخير، فيحصلان على الخلود كمكافأةٍ لهذا الاختيار. حذّر الله آدم من أنّه إذا اختار الشرّ، أي أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ، فيوم يأكل منها موتًا يموت (تك 2: 17). دخل الموت، إلى الوجود البشريّ، بشكلٍ عنيف من باب إغراء وأكاذيب الشيطان الّذي أصرّ على المرأة قائلاً: “بالتأكيد لن تموتا!” (تك 3: 4). لأنّ الشيطان، كما يقول مخلّصُنا، هو كذّابٌ وقاتلٌ منذ البدء (يو 8: 44). عندما أخطأ آدم وحوّاء ارتكبا خيانًة كونية، وقادا أوّل تمرّدٍ عَلَنيّ على الله على الأرض. ونتيجةً لذلك، ماتت نفساهما، وتضرّرا بسبب تغرّبهما المباشر عن الربّ الاله، الّذي كان مصدر حياتهما. ما إن بدآ حوارهما مع الشيطان، حتّى اختبر آدم وحواء تغييرًا داخليًا جذريًا. لقد تخلّيا عن حبّهما لله، فتقسّى قلباهما وفترا. ثارت الأهواء بشكلٍ مضطرب. ابتدآ يفسدان من الداخل وصولاً إلى الخارج، وابتدأت نفساهما بالتفكّك والانحطاط، ومن ثمّ جسداهما، ممّا سيقود، بالتأكيد، إلى الموت البيولوجيّ. عندما نتكلّم على الموت، نقصد، عادةً، الكلامَ على انفصال النفس عن الجسد. على كلّ حالٍ، إنّه موتٌ جسديّ أو بيولوجيّ وهو يتبع موت النفس، الّذي هو انفصال نفس الإنسان عن علّة وجودها، أيّ عن الله. وهذا ما يُسمّى بالموت الروحيّ، وهو يسبق الموتَ الجسديّ، تمامًا كما تسبق القيامةُ الروحية القيامةَ الجسدية. يقول القدّيس إيسيذورس الفرميّ: “لم يكن موت آدم بانفصال النفس عن الجسد، بل بفرار الروح القدس هاربًا من النفس الخالدة”. هذا هو الموت الروحيّ. تكلّم ربّنا يسوع على هذا النوع من الموت عندما نصَحَ أولئك الراغبين باتِّباعه أن “يتركوا الموتى يدفنون موتاهم” (متى 8: 22). إنّه كما في مثل الابن الضّال، الّذي قال له أبوه: “إنّ ابني هذا كان ميتًا فعاش” (لو 15: 24). وهذه “الحياة المائتة” هي كلّ ما أمكن الوالدِينَ أن يورثوه لأولادهم منذ وقت السقوط، وهي، بعيدًا عن نعمة الله الواهبة الحياة، ستقود إلى الحقيقة الحتميّة، الّتي هي الموت الأبديّ. كان هابيل، ابن آدم وحوّاء، أوّل إنسانٍ مات في الجسد. قُتِل على يد شقيقه قايين، وكان أوّل من ينزل إلى الجحيم ويؤسر فيها. منذ ذلك الوقت، الموت والجحيم يتسلّطان عبر التاريخ البشريّ، في كلّ مكانٍ وزمان، ضامّين إليهما أسراهما. يُصوّر القدّيس يوحنّا، في سفر الرؤيا، الموتَ كفارسٍ يمتطي حصانًا أسودًا، وهو لون الموت، والهاوية ومثوى الأموات يتبعانه (رؤ 6: 7-8). كان آدم أوّل أبٍ يشهد لموت ابنه، والله سَمَح بذلك حتّى يُدرك آدم كم هي فادحةٌ الخطيئة والموت ولا يُطاقان. عرف الإنسان الموت، على مرّ التاريخ، كغربةٍ تعيسة، كلِقاء الإنسان بأجداده في مكانٍ جوفيّ تحت الأرض (أُنظر أم 2: 18، 5: 15، يون 2: 6، أيو 7: 21)، كعالمٍ مُبهم منسيّ، كبيتٍ أو مدينةٍ محاطة بأسوارٍ وأبواب (أُنظر أيو 30: 23، 38: 17، أم 7: 27، حك 16: 13، متّى 16: 18)، كفضاءٍ أو مكانٍ فارغ مُغبَرّ، كصمتٍ عميق وظلمةٍ قاتمة (أُنظر سير 22: 11، أيو 11: 21، مز 22: 4). وقد صُوِّر مقرّ سكنى الأموات كالفم المفتوح والحنجرة الشَرِهة، إنّه مقرّ الأموات في بطن الأرض. العالم الحاضر هو عالمٌ فانٍ، هو مكانٌ لموتٍ يستفحل. يَصِفُ القدّيس غريغوريوس بالاماس في الفيلوكاليا هذه الحياة أنّها: “موتٌ متواصل، ميتاتٌ لا تُحصى تتبع الواحدة الأُخرى إلى أن نَصِل إلى الموت الواحد الأخير والذي سيدوم لفترةٍ طويلة جدًّا، ولسنواتٍ عديدة”. عندما يعبر الإنسان الجِسرَ إلى الحياة الآخِرة، الجسرُ يُحرق، والباقون تضجّ رؤوسهم بالأسئلة الكثيرة. • الموت كعقابٍ وكبركةٍ كان بمقدور الله أن يُلقي آدم وحوّاء في الجحيم مباشرةً لدى ارتكابهم خطيئتهم الأولى، لكنّه لم يفعل، لأنّها لم تكن مشيئته. لقد أَحبّ الله أولاده الساقطين، وسَعى وراء منفعتهم. لَعَن الله الحيّة، لكنّه منح آدم وحوّاء تأديبًا تقويميًّا فقط. فأخذ الله عقوبة الموت وحوّلها إلى بَرَكةٍ لهم. فظهر هذا العمل وكأنّ الله الكليّ القدرة قبض على الموت والجحيم والشيطان من أعناقهم وجعلهم ينحنون إلى أسفل ويخدمون أهدافه. سمح لهم، في البداية، أن يعيشوا. بعد ذلك، أقامهم خارج الفردوس لكي يتذكّروا من أيّ مكانٍ قد سقطوا، ولكي يعملوا للعودة إلى حالةٍ أفضل، وليتذكّروا دائمًا أنّ تلك الحياة الساقطة لم تكن طبيعيّةً أو حياةً بشريّة حقيقيّة. لقد حوّل اللهُ الموتَ إلى استهلاكٍ للفنائيّة وفناءٍ للفساد (أُنظر عظة الذهبيّ الفمّ في تفسير المزمور 85). لقد جعله نهايةً للخطيئة، حدًّا حتّى لا نُخطئ إلى الأبد. جعله تدبيرًا حتّى لا يبقى الإنسان في حالة الخطيئة إلى الأبد. كَتب القدّيس غريغوريوس النيصصي في تأبين الملكة بُلخَريّا: “حتّى لا يدوم الشرّ الموروث فينا سرمديًّا، يتفكك الجسد مؤقّتًا من خلال حَتْمِيّةِ الموت، وهكذا، إذ يُقصى الشرّ بعيدًا، يُعاد تكوين الطبيعة البشريّة لتكون، مرّةً أُخرى، منفصلةً عن الشرّ، وتُستعاد إلى حالة حياتها الأصليّة”. يقول القدّيس غريغوريوس، في مكانٍ آخر: إنّ الموت هو “التطهير من الشرّ”. أصبح الموت رقادًا وملاذًا هادئًا (أُنظر العظة 31 للذهبيّ الفمّ في تفسير إنجيل متّى). هنا تكمن الحقيقة: الخطيئة تلد الموتَ، والموتُ يُميت الخطيئة! وكنتيجةٍ: الموت، بعد الفحص والتمحيص، يصبح منفعةً. وأيضًا، يعمل الموت معنا عمل البَرَكة، لأنّه يضعنا على طريق التواضع الخلاصيّ ومعرفة الذات. • الانتصار على الموت بيسوع المسيح ثمّة منتصرٌ واحدٌ فقط على الموت، ألا وهو يسوع المسيح. إنّ التدبير الإنجيليّ كلّه، منذ بداية تجسّد ابن الله، مرورًا بطاعته التي قدّمها، وآلامه، وصَلبِه، وانحداره إلى الجحيم، وقيامته في اليوم الثالث، وصعوده المجيد إلى السماء، وإرساله الروح القدس، وجلوسه عن يمين الله الآب، له هدف إفناء الخطيئة، والشرّ، والموت، والجحيم. لقد صار مُخلّصُنا بشرًا ليَشْفِيَ الطبيعة البشريّة بتوحيدها بأُلوهيّته. أيضًا، اتّخذَ جسدًا كي يستطيع أن يموت بالجسد طوعًا، ويتّخذ لعنتنا وبؤسنا، ويرفع عنّا ضعفاتنا، ويشفي أمراضنا بجراحه. أتمّ، من خلال طاعته وعمله الروحيّ، دعوة بني البشر تعويضًا عن عصيان آدم، كما انتصر على الشيطان والتجربة. وبآلامه وصلبه برّر تمرُّد الجنس البشريّ. وبنزوله إلى الجحيم أَفرَغَه من أسراه، وحطّم أقفال السجن الحديديّة، وأضاء بنوره أسفل دَرَكات الأرض. وجديرٌ بنا أن نُذكِّر في هذه المناسبة، أنّ نُزول مخلّصنا إلى الجحيم، وإفراغ أسراه منه، هو لبّ بشارة الإنجيل. إنّها عقيدةٌ أُرثوذكسيّة أساسيّة، إذ يرِدُ ذِكرُها أكثر من مئتي مرّةٍ في خدمة العنصرة، وأكثر من خمسين مرّةٍ في خدمة يوم الجمعة العظيم وحدها. لقد حطّم المسيح بقيامته الظافرة سلطة الموت، واستعاد الطبيعة البشريّة إلى مجدها وكمالها الأصليّان، رافعًا إياها إلى واقعها السماويّ. وبصعوده المجيد، شقّ طريقًا جديدًا نحو السماء، طاردًا أمير قوات الهواء وأتباعه، آتيًا بالبشريّة إلى الفردوس كباكورةٍ للمُفتدين كلّهم. هناك، في السماء، يدعو الربّ يسوع البشريّة جمعاء لتأتي وتُقيم وتملُك معه. لقد انتهى أسرُنا ونَفْيُنا. وبإرساله الروح القدس الـمُنبثق من الآب، شدّد الكنيسة؛ وبجسده القدّوس، الذي لم يرَ فسادًا، الغالب الموت، مكَّنَها مِن أن تحمل خلاصه إلى أقاصي الأرض. وبجلوسه عن يمين الله الآب، يضع سلطةَ الموت والشيطانَ تحت موطئ قدميه، وعندما سيأتي ثانيةً، سيُلقي بأعدائنا في أعماق الجحيم إلى الأبد. لهذا، يُنهي سفر رؤيا القدّيس يوحنّا قصّتة الـمُلهَمة لأعمال الله الخلاصيّة بمشهدٍ عظيم لبحيرة النار: “وإبليس الذي كان يُضلُّهم طُرحَ في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبيّ الكذّاب، وسيُعذَبون نهارًا وليلاً إلى أبد الآبدين” (أُنظر رؤ20: 10-14). كان الموت مُخيفًا، قبل مجيء المسيح، حتّى بالنسبة إلى الأنبياء موسى وإيليّا وحزقيال. • عيد الفصح المقدّس، والخطبة الفصحية للقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ يأخذ موقف المسيحييّن شكله إزاء الموت، بطريقةٍ تليق به، من خلال الاحتفال بعيد الفصح العظيم المقدّس عيد الأعياد. في ليلةٍ واحدة في السنة، وفي منتصف الليل، تُعبّر الكنيسة المسيحيّة عن نفسها بكلّ وضوحٍ، وتؤكّد بثباتٍ موقفَها الجوهريّ إزاء الحياة والموت من خلال خدمة عيد الفصح المقدّس، عيد قيامة ربّنا يسوع المسيح من بين الأموات. هذا العيد هو جوهر العبادة المسيحية كلّها، ولا يُحتفل به مرّةً واحدة في السنة، بل يُحتفل به كلّ يوم أحدٍ، حيث يجتمع المؤمنون في القدّاس الإلهيّ ويحتفلون أُسبوعيًّا بقيامة مخلّصنا. إنّ التفسير الآبائيّ الأكثر فصاحةً وشهرةً، حول إفساد عمل الموت، هو العظة الفصحيّة لأبينا الجليل في القدّيسين يوحنّا الذهبيّ الفمّ، والتي تُقرأ عشيّة عيد الفصح في كلّ الكنائس الأُرثوذكسيّة. فلننظر الآن إلى ما تقوله هذه العظة، ولنفهم ما حدث للموت: “من كان حَسَنَ العبادة ومحبًّا لله فليتمتّع بحُسن هذا المحفِل البهج. من كان عبدًا شكورًا فليدخُل فرحَ ربّه مسرورًا. من تعب صائمًا فليأخذ الآن الدينار. من عَمِلَ من الساعة الأولى، فليقبَل حقّه العادل. من قَدِمَ بعد الساعة الثالثة فليُعيّد شاكرًا. من وافى بعد السادسة فلا يَشُكَّ مرتابًا، فإنّه لا يخسر شيئًا. من تخلّفَ إلى الساعة التاسعة ليتقدّمْ غير مرتاب. من وصلَ الساعة الحاديةَ عشرةَ فلا يخشَينَّ الإبطاء، لأنّ السيد كريمٌ جوَّاد فهو يَقبلُ الأخيرَ كما يقبلُ الأوّل، يُريحُ العاملَ من الساعةِ الحادية عشرة كما يُريحُ مَن عَمِلَ من الساعة الأولى، يرحمُ من جاء أخيرًا ويُرضي من جاء أوّلاً، يعطي هذا ويهَبُ ذاك، يَقبلُ الأعمال ويُسَرُّ بالنيّة. يُكرِّم الفعل ويمدح العزمَ. فادخلوا كلّكم إذًا إلى فرح ربّكم. أيّها الأوّلون، ويا أيّها الآخِرون، خذوا أُجرتكم. أيّها الأغنياء، ويا أيّها الفقراء، افرحوا معًا! سلكتم بإمساكٍ أو توانيتم، أكرموا هذا النهار! صُمتم أو لم تصوموا، افرحوا اليوم! المائدة مملوءةٌ فتنعّموا كلّكم! العِجلُ سمينٌ، فلا ينصرفْ أحدٌ جائعًا! تناولوا كلّكم مشروب الإيمان. تنعّموا كلّكم بغنى الصلاح. لا يتحسّر أحدٌ شاكيًا الفقرَ لأنّ الملكوت العامّ قد ظهر، ولا يندُب مُعدِّدًا آثامًا لأنّ الفصح قد بزغ من القبر مشرقًا. لا يخشَ أحدٌ الموتَ لأنّ موت المخلّص قد حرّرَنا. فإنّه قد أخمَد الموتَ حين قبض الموتُ عليه. وسبى الجحيم لـمّا انحدر إليها، فتمرمرتْ حينما ذاقت جسده. هذا ما سَبق إشعياء النبيّ ونادى به قائلاً: إنّ الجحيم تمرمرت[2] لـمّا التقتك أسفل. تمرمرتْ، لأنّها قد أُبطلت. تمرمرتْ، لأنّها قد أُميتَتْ. تمرمرتْ، لأنّها قد أُبيدتْ. تمرمرتْ، لأنّها قد قُيّدتْ. تناولتْ جسدًا فصادفتْ إلهًا. تناولتْ أرضًا فصادفتْ سماءً. تناولتْ ما كانت قد نَظَرَتْ، فسقطَتْ من حيث لم تنظُر. فأين شوكتكَ يا موت؟ وأين ظَفَرُكِ يا جحيم؟ قام المسيح، وأنتِ غُلبتِ. قام المسيحُ، والشياطينُ تساقطت. قام المسيحُ، والملائكة جَذِلت. قام المسيح، والحياة انتَظَمت. قام المسيح، ولم يبقَ في القبر ميتٌ. لأنّ المسيح بقيامته من بين الأموات، قد صار باكورة الراقدين. فله المجد والقدرة إلى دهر الداهرين. آمين”. المسيح وحده مَن صارعَ الموت وانتصر عليه. المسيح وحده يستطيع أن يقول: “أنا القيامة والحياة” (يو11: 25)، وأيضًا: “أنا الطريق والحقّ والحياة، ليس أحدٌ يأتي إلى الآب إلاّ بي” (يو 14: 6)، وأيضًا: “أنا أمضي إلى السماء لأُعِدَّ لكم مكانًا” (يو 14: 2). وحده نور المسيح الذي لا يغرُب يستطيع أن يُنير الموت والقبر والحياة الآتية. بالمسيح قُضِيَ على الموت الجسديّ والروحيّ. • الموقف المسيحيّ من الموت أذكُر حديثًا جرى مع الأُمّ فيكتوريا عندما كنت موعوظًا. سألتُها عن ماذا يحدث للقدّيسين عندما يموتون! فأجابتني، مُظهرةً ردّة فعلٍ لا تقبل المـُهادَنة: “القدّيسون لا يموتون!”. يا لها من حقيقة! فبالنسبة إلى الناس المؤمنين، الموت قد هُزم وتحوّل إلى رقاد. لقد غيّرتْ أعمالُ الله الخلاصيّة، بالنسبة إلينا، كلّ شيءٍ يمتّ بِصلةٍ إلى الموت. إنّ سمّ الموت ما يزال يجري في طبيعتنا البشريّة، ولهذا نموت موتًا جسديًّا. لكن، لا للخوف واليأس من الموت بعد الآن. إنّ انتصار المسيح على الموت هو انتصارنا أيضًا، ويظهر هذا من خلال قيامة العديد من أجساد الأموات أثناء صلب المسيح وقيامته. قيامة الأموات هذه، كما يقول القدّيس إبيفانيوس القبرصيّ، التي حصلت في مقبرة أورشليم (متّى 27: 52-53)، قد أظهرت أنّ المسيح قد قام كباكورة الراقدين، وأنّ قيامته هي الضمانة لقيامة كلّ تلاميذه. إنّ لنا نحن المسيحييّن، في هذه الحياة، حزنًا وابتهاجًا، ولنا أيضًا انتحابٌ مع أسى وفرح. نحن نحزن على أنفسنا، نحزن لدى تذكّر خطايانا، ونحزن لأجل المائتين بعيدًا عن الربّ. ننتحب، من دون مُغالاةٍ، مثل المسيح الذي دمَّع على لعازر الميت. وبالأحرى، لنا أيضًا فرحٌ، لأنّنا نمضي إلى الحياة الآتية. نرغب في أن ننطلق لنكون مع المسيح (في 1: 23). عندما ينحلّ هذا الجسد الترابيّ، نعلم أنّ لنا في السماوات بيتًا غير مصنوعٍ بيدٍ (2 كو 5: 1). الموت هو بابٌ للخلاص، خطوةٌ وتقدُّمٌ في الخلاص. يَصِف الذهبيُّ الفمّ الموتَ كخزَّافٍ يعمل الطين على عَجَلته. عندما يحصل خطأٌ ما ويصبح الطين مشوَّه الشكل (كما حصل للطبيعة البشريّة عند السقوط) يُعيد جمع كتلة الطين وعجنها من جديد ووضعها على العَجَلة بهدف تصنيعها مرّةً ثانية. عملية جمع الطين هذه وإعادة عجنه تشبه الموت. الموت انحلالٌ للجسد من أجل إعادة تصنيعه في القيامة الأخيرة. الموت ليس دمارًا. إنّنا مثل بذورٍ تُزرع في الأرض، تُزرع لكي تُزهر من جديد. يُطلَق على الموت، في الكتاب المقدّس، تعبيرٌ يشير إلى الرحيل أو الانحلال، (في اليونانيّة (analysis (في 1: 23، 2تيم4: 6). أيضًا، يُعرَف بالنوم، كما قال ربّنا عن لعازر الميت أنّه نائمٌ (يو 11: 11). ونحن نَصِف رحيل إخوتنا المؤمنين بأنّهم “ماتوا في الرّب”. إنّهم في رقادٍ وراحةٍ، لأنّهم قد بلغوا رقادهم (koimisis) أو انتقالهم (metastasis). لقد عبّر القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ، بأفصح ما يمكن، عن الفكر المسيحيّ حيال الموت بهذه الكلمات: “فليُحرقوني بالنار، وليُعلّقوني على الصليب، ولتلتهمني الوحوش وليُعمِلوا فيّ تمزيقًا وليُقطّعوني قطعًا وليُشتّتوا عظامي ويبتروا أعضائي وليطحنوا جسدي، ولتزحف قطعان الشياطين الشرّيرة لتنهال عليَّ؛ لا شيء من هذا يُخيفني. لأنّني أشتهي وأُريد شيئًا واحدًا فقط هو أن أكون حقًّا للمسيح”. وأيضًا، عبّر القدّيس يوحنّا (مكسيموفيتش)[3] عن هذا الفكر قُبَيل رقاده: “قولوا للناس: على الرغم من أنّني مائتٌ، إلاّ أنّني ما زلت على قيد الحياة”. الشيطان وحده مات حقًّا. • ممارسة ذِكر الموت تقول حكمةُ سيراخ: “تذكَّر الموتَ، في كلّ ما تفعله، فلن تخطئ أبدًا” (7: 36). يُعلّمنا الربّ يسوع قائلاً: “اسهروا إذًا وصَلُّوا لأنّكم لا تعلمون في أية ساعةٍ يأتي ربّكم” (متّى 24: 42 و26: 41). إنّها لنعمةٌ لنا ألاّ نَعلَم ساعة موتنا، لأنّ عدم معرفتنا بها يساعدنا على ردع الخطيئة، ويُشجّعنا على اليقظة. ألا تذكرون ماذا نرتّل في اليوم الأوّل من الأُسبوع العظيم؟ هوذا الختَنُ يأتي في نصف الليل! كانت خطيئة آدم أنّه لم يُحافظ في نفسه على تذكُّرٍ حيٍّ للموت، الّذي يُهدّده، عندما خالف الوصيّة. لهذا السبب نحن نتدرّب، كلّ يومٍ، على تذكُّر الموت. يقول القدّيس أثناسيوس: “تذكّر خروجك كلّ ساعةٍ؛ ضَع الموت دومًا نُصب عينيك كلّ يومٍ، تذكّر أمام من يجب أن تقف”. يقول القدّيس يوحنّا السلّميّ: “ليرقد معكَ ذِكرُ الموت والنار كلّ مساءٍ ولينهض معك كلّ صباح”. في كتاب السُلّم إلى الله، يأتي ذِكر الموت في الدرجة السادسة –بعد فصلَين أساسيّين، يدوران حول مبدئَين روحيّين، هما في الطاعة وفي التوبة– فيُضيف السُلّميُّ فصلاً يدعى “في ذِكر الموت”. يخبرنا القدّيس يوحنّا قصّة الراهب هيزيخيوس الخوزيبيّ[4] أنّه كان راهبًا كسولاً ومُتهاونًا إلى أن اقترب من خبرة الموت. لقد تحوّل حالما رأى الموت. فعاش اثنتي عشرة سنةً بغيرةٍ مغبوطة، ولمـّا دنا أَجَلُه سألوه عن سبب تحوُّله، فأجاب: “اغفروا لي! إنّ كلّ من اقتنى ذِكرَ الموت لا يُمكن أن يُخطئ في ما بعد”. النوم هو صورةٌ للموت. تذكّر ذلك عندما تذهب لتنام! يقول القدّيس إسحق السريانيّ: “عندما تدنو من فراشك قل له: يا فراش، لعلّك تكون لي هذه الليلة لحدًا”. ينبغي علينا أن نعبُر اليوم الحاضر كأنّه آخر يوم في حياتنا. هذا يوّلد تعفُّفًا، ورؤيةً صحيحة عن الحياة، ويساعدنا لنقتني تقييمًا حقيقيًّا. هذا ما تُعلّمنا إياه خدمة الجنازة: “ما هو الغنى، ما هو الجمال، وما هي القوّة…؟”. إنّ تذكُّر الموت هو دواءٌ ناجع لكبح جماح الأهواء والخطيئة. إنّه أساسٌ للتواضع، ومفتاح جهاد الشهادة، التي هي التعبير الأمثل عن المحبّة. ماذا كان سيحصل لو لم يكن هناك موت؟ كم ستزداد الخطيئة وتثور علينا! وإلى أيّ أَجَلٍ ستؤجَّل التوبة! إنَّ تذكُّرنا الموت لعملٌ إيجابيٌّ، ومُثمرٌ، وديناميكيٌّ، ولا يولّد اليأس بل يولّد فرحًا جالبًا التوبة. ولنا أن نُشجّع بعضُنا البعض من خلال التذكير بالموت. كان القدّيس ثاوذورُس الستوديتيّ، في ديره، يُعيّن راهبًا ليجول، في كلّ الصوم الكبير، على الرهبان الآخرين عند الساعة الثالثة، مذكِّرًا إياهم وقائلاً: “أيّها الإخوة والآباء، علينا أنّ نتيقّظ لأنّنا مائتون، مائتون، مائتون؛ ولنتذكّر، أيضًا، الملكوت السماويّ”. ترجمة: رولا الحاج [1] المحاضرة الأولى من سلسلة محاضرات أُعطيت في مدرسة القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ للتعليم المسيحيّ في كنيسة القدّيس أندراوس الأُرثوذكسيّة في Riverside، كاليفورنيا. [2] إش 14: 9. [3] رئيس أساقفة شنْغْهاي وسان فرانسيسكو + 1966. [4] تعيّد له الكنيسة في 3 تشرين الأوّل. |
||||
24 - 06 - 2016, 07:36 PM | رقم المشاركة : ( 13309 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الرّوحانيّة وفنّ العَيش1
• مقدّمة[1] في الحقيقة، ليس من عمر معيّن لاستهلال المسيرة الرّوحيّة، وليس من معايير منطقيّة معينة تحدّد تقدّم المرء في هذه المسيرة. قد يستهوي المرءَ أن يعدّد بعضًا من تلك المعايير، ولكن ليس هذا هدف لقائنا اليوم. لمقاربة العلاقات الرّوحيّة مع الآخرين طرائق مختلفة، فمن النّاس مَن نرافقه منذ الطّفولة الباكرة، ومنهم مَن نلتقيه على دربنا ونترافق معًا، ومنهم أيضًا مَن يسيرون في طريقهم الخاصّة، فتتلاقى دروبنا، لكي يتسنّى لنا أن نوجّه إليهم كلمة روحيّة، أو نشاطرَهُم بعضَ أوقات حياتنا. طلبتُ أن أستعلم عن معنى جزءٍ من موضوع اجتماعنا هذا المساء: “فنّ العَيش”، فوجدتُ شتّى الأجوبة، كما وجدتُ كلامًا في “فنّ الموت”. ولـمّا حاولت أن أعزل كلمة “فنّ”، صادفتُ عبارة أعجبَتني وعجّبتني معًا: “إنّ تصنيف الفنون ليس شاملاً ثابتًا، ويبدو لي أنّ الإجماع على تصنيفٍ واحد ليس ممكنًا، بل لا معنى له” (ويكيبيديا). أمّا الرّوحانيّة، فيمكن كذلك أن نقاربها من جوانب مختلفة، ولكنّني سألتزم الجانب الّذي يسمح لي أن أربطها بالإيمان بالله، وسوف أحاول معكم أن أنظر في فنّ العيش بهذا المعنى. والحقّ إنّ فنّ الحياة في المسيحيّة ليس مقاومة الموت أو رفضه، بل يرتكز على إيمان لا يتزعزع بالانتصار على الموت بالموت، فيضحي الموت بابًا إلى الحياة الأبديّة.
لن آتيَ مسامعَكم أمرًا جديدًا إذا ذكّرتكم بأنّ مجتمعنا منظَّم بحيث الأولويّة معطاة لهموم الإنسان، بالنّسبة إلى الفرد، كما بالنّسبة إلى الجماعة. بات الإنسان يريد أن يصنع سعادته بيديه، وأن يُبعِد عنه الشّرّ بيديه. وكم نسمع النّاس يقولون “تُذْكَر ولا تُعاد”، تعبيرًا عن رغبتهم في ألاّ تتكرّر هذه الشدّة أو تلك من حياتنا، وكأنّهم يبحثون بإصرار عن مذنب يحاكمونه على فِعلته. بهذه الطّريقة يودّ مجتمعنا أن يؤكّد رفضه لله، أو على الأقلّ، يريد أن يرمي بالروحيّات إلى مستويات أقلّ أهمّيّة وفعاليّة. ولعلّه يمكننا القول هنا إنّ مجتمعنا الحاضر يرفض الله من خلال تحميله مسؤوليّة الألم الذي لم يعد مقبولا كجزء أساسي من الحياة. ولكن، في الوقت نفسه، إذا ذاق فرحةً ما، يتلقّاها في أوانها الحاضر، ولكنّه لا يرغب في ربطها برجاء الخيرات المستقبلة، لأنّ ذلك يتطلّب بذل جهود على المدى الطويل، وهذا ما نعجز عنه بسبب قلّة ثباتنا ومثابرتنا. نحن نحمل في داخلنا ذكرى حياة الفردوس، الحياة مع الله. في كلٍّ منّا جذور فنّ العيش الفردوسيّ هذا، الذي عاشه الإنسان قبل السّقوط، فلم يعرف المرض ولا الموت، بل عاش بهناء وسلام. لذلك نؤمن بأنّ الإنسان يتوق بلهفة وحنين إلى استعادة تلك الحالة من الطّمأنينة. وهذه العودة ممكنة،كما يُعلّمنا الآباء، عندما نختبر الحياة مع الله بالنّعمة. في الممارسة الرّوحانيّة المستمِدّة جذورَها من التّراث الأرثوذكسيّ، هذه الحالة من النّعمة، التي يمكن بلوغها منذ الآن، تعبّر أوّلاً عن التحرّر من الأهواء ونسمّيها “هدوئيّة” (hésychasme). الكلمة في اليونانيّة تفيد معنى السّكون والصّمت. وهذا التّحرّر يسمح لنا بأن نستشفّ في العالم الحاضر مفاعيل العالم الآتي التي يُعلن بواكيرَها سفر الرّؤيا، حيث “سَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ” (رؤيا21: 4). فالّذين يمارسون الهدوئيّة لا يشعرون من بعد بسطوة الأهواء الدّائمة عليهم، وبالتّالي يشعرون بأنّهم تحرّروا في الوقت نفسه من التَأثير النّفسيّ والجسديّ للألم على الإنسان، حتّى لو بقي الجسدُ يُظهِر عوارض هذا الألم، ويعاني من وطأة مَعطوبيّته. إنّ معصية الإنسان لله أفسدته. من خلال هذه المعصية، الّتي نؤمن أنّها جذر الخطيئة، دخل الموت إلى العالم، واستشرى بين النّاس (انظر رو5: 12)[2]. وطالت عواقبها النّاس كلّهم، بالوراثة كما بالتورّط الشّخصيّ.
كان زمانٌ شاع فيه القول إنّه ليس ما يضاهي خوف الموت. أمّا في أيّامنا، فكثيرون ينادون الموت برغبة، طلبًا للتخلّص من مرض عُضال مزمن، أو آلام باتت لا تُطاق. بالأمسِ كان الموت عدوّنا، أمّا اليوم، فحلّ محلَّه العجز والمرض. فنحن نقول لكلا الفريقَين إنّ الحياة في الألم ليست مصيرنا النّهائيّ، وإنّ الموت والألم قد انهزما إزاء الرّب الذي احتمل الجَلد والضّرب، والبصاق، وموت الصّليب. لم يهزمهما فحسب، إنّما أعطى الحياة أيضًا للمطروحين في القبور. إنّ مَن فقدَ شخصًا عزيزًا وهو يبكي رحيلَه والفراغ الذي تركَه لا يمكن لأيّ تفسير روحانيّ، ولا بيولوجيّ، ولا علميّ أن يعزّيه. غياب الفقيد صعبُ الاحتمال لتعذّر مواصلة علاقتنا به. هنا الألم على قدر المحبّة والأسى، وليس البكاء سوى تعبير عن ثورة المشاعر والذّهول أمام الحدث. ورُبَّ سائلٍ: لماذا هذا الألم كلّه؟ لماذا الموت؟ لماذا يُعطي الله ويأخُذ؟ (أنظر أيّوب 1: 21)[3].كم منّا ردّدت قلوبهم وشفاههم كلام زوجة أيّوب، عندما وصلَه الخبر أنّه خسر كلّ شيء: “أَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بَعْدُ بِكَمَالِكَ؟ إلعَنِ اللهِ وَمُتْ!» (أيّوب 2: 9). في الحقيقة، يصعب علينا الجواب، ولسنا ندّعي أنّنا أحكَمنا الإحاطة بالموضوع، غير أنّنا سوف نحاول أن نأتي ببعض عناصر الإجابة عنه. فلو بقينا في الجهل التّام، لانتهينا إلى قبول الفكرة أنّ الذّنب في أحزاننا يقع على الله، وخلصنا إلى إعفاء أنفسنا، كبشر، من أيّ مسؤوليّة. نحن نؤمن بإله المحبّة والرّحمة، إلهٍ بَذلَ كلمته المتجسّد الّذي وَلدَه قبل الدّهور، فأَرسلَه ليأخذ طبيعتنا البشريّة، ويشاركنا كلّ جوانب حياتنا. فلقد خَبِرَ المسيحُ تحرُّك العاطفة، وشفقة القلب، والقلق، والجوع، وسوء المعاملة، والصّلب، لكي يُبشّرنا بالرجاء أنّ حالاتنا عابرة، مهما تكُن، وأنّ الحبّ سيَقهر الألم والحزن نفسه، والفراق بسبب الموت. المرض والموت يفاجئان كبرياءنا وثقتنا المبالغة بقوّتنا وسلطتنا وإمكانيّاتنا. طوبى “للوديع والمتواضع القلب”، على مثال الرّبّ، الّذي “يريح” نفوسنا (انظر متّى11: 29)، فإنّه يدرك في هذه الحياة الضّرورة القصوى لطلب السّنَد والتّعزية اللذّين يحتاجهما، غير منتظرٍ أن يهزّ كيانَه المرضُ أو موتُ شخص قريب. إذا رضخنا لتجربة الانعزال والانغلاق، لن نبقى نحتمل المرض أو الفراق. هذه الحالة توهمنا أنّنا أَمسينا وحيدين، متروكين من الجميع. نظنّ أنّه ليس إله ولا إنسان يستطيع أن يفهم الشّعور الذي يثقل قلبنا. وإذا استمرّت هذه الحالة، نُمسي في خطر حقيقيّ، لأنّنا نصل إلى وضع أنفسنا أمام الخيار الأقصى بين الحياة والموت. أمّا إذا توَصّلنا إلى القناعة بأنّ الغياب ليس قطيعةً تامّة، يمكننا أن نجد، في الصّلاة، خطوط تَواصُل تربطنا بالذين فقدناهم. هذا يتطلّب أن نتقبّل رحيلهم عن هذا العالم، وولادتهم في السّماء، وأن نؤمن بشركة القدّيسين، وبقوّة شفاعة مَن يصلّي بالذين أَمسَوا عاجزين عن الصّلاة. لا يمكننا أن نستند إلى إثارة العواطف لنمدّد ذكرى الرّاحِلين الذين غابوا عن حياتنا جسديًّا.
تُرى أيّ حركات نفسيّة ينشأ عنها الحزن؟ أهو الألم الجسديّ، أو فراق شخص عزيز، أو الشّعور بالفشل وأنّنا مرفوضون؟ يبدو أنّها كلّها معًا! ولكن في آخر النّفق نور واحدٌ يلوح، نور الرّجاء! الثّورة لن تَهمُد إلاّ حينما نُعيد اكتشاف الفسحة التي تربطنا بالله، أعني مطرح الثّقة، والوعي، والهدوء، حيث يمكننا القول بالفم الملآن: “لِتَكُنْ لا إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ” (لو22: 42). كثيرًا ما يبحث المتألّم عن مقوّمات الجواب. قد يلتفت الآخرون إلى تألّمه، ويحاولوا أن يشاطروه بعضًا منها، إلاّ أنّهم لا يستطيعون أن يُقيموا مع الذي يحمل الألم في قلبه، وفي جسده. على هذا المستوى، يبقى الألم شخصيًّا، ولكنّنا مدعوّون إلى الخروج من الحلقة المفرَغة النّاشئة عن الشّكوى إلى ما لا نهاية، لئلاّ ننهزم إزاء تجربة التلذّذ باطنيًّا بهذه الشّكوى. وبالفعل، يأتي وقتٌ ندرك فيه ضرورة الانفتاح وطلب المساعدة حتّى يستعيد قلبنا السلام. في هذه الخانة يمكن أن نضع المصابين بأمراض تُسمّى مُزمنة، حيث يبذل الفريق الطبّيّ جهودَه في معالجة الألم وتسكينه، وتهيئة المريض، في الوقت نفسه، على تقبّل حياة تتنازعُها فورات النّفس وسَكَناتُها. الأمر ينطبق كذلك على بعض التجارب الرّوحيّة، الّتي يصفها آباء الكنيسة بأنّها ترافق كلّ مَن يلتزم الجهاد الرّوحيّ مدى الحياة. يمكننا أن نَعْهَد بأجسادنا إلى مَن يداويها، فيما نعهد بأنفسنا وأرواحنا إلى الله الذي وحده يعزّي في التجارب. كما نستطيع أن نسلّم أمرَنا كلّيًّا لمَن هو طبيب النّفوس والأجساد معًا. أمّا الموت، فليس حالة فرديّة، إنّما هو عبور محتَّم لا يُعفى منه أحد، لا الخاطئ ولا الصدّيق في عين الله، لأنّه “ليس إنسان يحيا ولا يخطئ”. الموت في التراث الكنسي هو أيضًا نعمة وهبها الله للبشر بعد السّقوط، لكي لا يعيشوا الى ما لا نهاية في الألم والمرض والخوف. الموت بابٌ نفتحه لنغادر هذا العالم وتجاربه. ولكنّه يبقى سرًّا، مهما تكن آراؤنا فيه. إنّه سرٌّ سيكشف الله وحده خفاياه عندما يحين ملءُ الزّمان.
ما نستطيع أن نعطيه للمتألّم هو بكلّ بساطة ما نتمنّى أن نجده عندما نقع فريسة الألم بدورنا: أُذُنًا صاغية، وحضورًا، ولو صامتًا، لا بل في الصّمت أوّلاً. في معظم الأحيان، تقتصر أهمّ متطلّبات المتألّمين على الرّغبة أو الحاجة إلى أُذُن صاغية. أمّا الإنسان المسيحيّ، فيجب تذكيره بأنّه لا يحيا من أجل ذاته، بل إنّه تلقّى الحياة هبةً يُفعّلها في انشداده إلى الله والقريب. هو مدعوٌّ ليصير، في كلّ حين، زيتًا وخمرًا للسّامريّ الصّالح، يمسح بهما ويعالج جراح المعذَّبين كافّة، المرمِيّين على جنبات طرقات هذه الدُّنيا. ويمكننا أيضًا أن نُحدّثه عن الاستشهاد، حيث يُسَلَّم المسيحيّ إلى معَذِّبيه لرفضه إنكار الإيمان. لذا تحتفل الكنيسة بموته على أنّه انتصار، وهو يُكرَّم كتلميذ للمسيح اقتدى به، وبفضله يتخطّى موكبُ جنازته دائرةَ الأسرة والأقرباء، فيصير احتفالاً يجمع شمل المؤمنين. وفي هذا العبور من المجتمع العائليّ إلى الجماعة الكنسيّة ما قد يفسِّر التغيّير المعبِّر الذي طرأ على الشعائر الوثنيّة. كانت هذه الشعائر تقضي بإحياء ذكرٍ خاصٍّ للميت يوم تاريخ مولده. أمّا الجماعة المسيحيّة فاختارت تاريخ رقاد الشّهيد او تاريخ دفنه للاحتفال بذكراه، ناظرةً إلى الموت كأنّه ولادة في الحقيقة، فلا يبقى مدعاةً للحزن، بل للفرح. إلى ذلك، يمكن أن نُحدّث الإنسان المسيحيّ عن إدراك الكنيسة لأهمّيّة رفات القدّيسين. ففي التّراث الأرثوذكسيّ، ما زالت توضَع هذه الرّفات إلى اليوم مختومًا عليها في مائدة الهيكل. هذا يشير إلى أنّ الربط بين المائدة والقبر من خلال ما يرمز إليه القربان كان قائمًا في الأذهان منذ ذلك الحين. ثمّ يمكننا أن نحثّه على عدم تلقّي الموت كأنّه عقاب أو مصير مشؤوم، بل كمغامرة في المسيح نستعدّ لها بإتقان واهتمام. حينئذٍ، يغدو الألم محرِّكًا يوفّر الطّاقة اللازمة للمضيّ قدُمًا في هذا السّعي. إنّ موقفنا من الألم والموت يتحدّد في الأساس بموقفنا في أيّ جهاد روحيّ. نحن مرتبطون بالأرض بولادتنا الجسديّة، وبطبيعتنا الأرضيّة، ولكنّ تلك الطّبيعة المدعوّة لقبول المسيح تكتسب منه بُعدًا يتخطّى كلّ ما يبدو لنا في هذه الدّنيا اعتبارات وجوديّة. هذا ما يخفّف من اضطرام الأفكار، وتأثّر الآراء بالأهواء، والانفعالات الغضبيّة عند مَن يتوق إلى القداسة. أخيرًا، يفيدنا أن نتذكّر أنّه “لِكُلِّ شَيْءٍ زَمَانٌ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ وَقْتٌ”، فمثلاً “لِلْوِلاَدَةِ وَقْتٌ وَلِلْمَوْتِ وَقْتٌ” (الجامعة 3: 1-2). ولعلّه يبقى الأصعب أن نَقرِنَ الأقوال بالأفعال كلّما لزم الأمر، ولكنّ ما يَعسُر على الإنسان متيسّرٌ لدى الله، الذي هو نبعُ إلهامنا، لأنّه غالبًا ما تظهَر إرادة الإنسان وحدها عاجزة. فليبارككم الله، آمين. الأب مارسيل (سركيس) [1]حديث أُلقِيَ في ندوة حول الموضوع يحمل العنوان نفسه، نظّمتهُ جمعيّة “مرافقة الحياة حتّى النّهاية”، في مركز الّلقاءات الدّوليّة في موناكو (فرنسا). [2] “مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ”. [3]”الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا”. |
||||
24 - 06 - 2016, 07:37 PM | رقم المشاركة : ( 13310 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الفريسي والعشار
دخلنا مع هذا اليوم زمن التريودي أي الزمن الذي سنسمع فيه هذه الأناشيد الثلاث حتى نهاية الصوم. المجد للآب والابن والروح القدس. افتح لي باب التوبة يا واهب الحياة لأن روحي تبتكرُ إلى هيكل قدسكَ آتياً بهيكل جسدي مُدنّساً بجملته ، لكن بما أنّك مُتعطّفٌ ، نقّني بتحنّن مراحمك. الآن وكل اوان والى دهر الداهرين. آمين. سهّلي لي مناهج الخلاص يا والدة الإله لأني قد دنّست نفسي بخطايا سمجة، وأفنيت عمري كلّه بالتواني، لكن بشفاعتكِ نقّني من كلّ نجاسة. يا رحيم ارحمني يا الله بعظيم رحمتك وبحسب كثرة رأفتك امحُ مآثمي. إذا تصوّرت كثرة أفعالي الرديَّة أنا الشقي فإني أرتعدُ من يوم الدينونة الرهيب ، لكنني إذ أنا واثقٌ بتحنّن اشفاقك أهتف إليكَ مثل داوود : ارحمني يا الله كعظيم رحمتك. للتريودي ثلاثة اقسام،
لماذا بدأنا بمثل الفريسي والعشار؟ وما العبرة من ذلك المثل؟ وما هو تعليم الكنيسة الروحي للتحضير لزمن الصوم باختصار؟ يجسد الفريسي الافتخار بالذات وبالأعمال الحسنة كحفظ الوصايا والمثابرة على الصوم والصلاة وتأدية العشور. ويجسد ايضا من يقارن نفسه بالآخرين الذين هم خارج دائرة البر بنظره وربما بحسب الشريعة ايضا، فيصفهم ربما عن حق انهم زناة وفاسقون وسارقون. وبالتالي يأتي الى بيت الله طالبا الإطراء من الذات ومن الآخرين و من الله وكأنه يقول لله “نيالك فيي” انا اشكرك ولكنني اذكرك انك انت من يجب عليه ان يشكرني لاني لست مثل فلان الواقف على اليمين ولا مثل فلانه الواقفة هناك على اليسار ولا مثل فلان الجالس في الخلف… فهذا كذا وتلك كذا وذلك كذا وكذا… اذا الهدف من صلاته هو لفت النظر الى بره الذاتي، ويستعمل ادانة الآخرين والتشهير بهم للوصول الى مبتغاه. وهذا رأس الكبرياء. اما العشار فهو داخل الى بيت الله ونظره الى الارض لا يجرؤ ان يرفع عينيه الى فوق لأنه يعلم ان الله يراه الآن وانه قد رآه في كل عمل سيء كان قد عمله من قبل. وهو يقرع صدره غير آبه بأحد ولا بماذا سيظن فيه الناس، لأنه لا يرى في بيت الله سوى الله وحده. وكان يقول غير معط اية اهميه للسامعين: يا الله ارحمني انا الخاطئ. وهذا عمق التواضع. ويقول الرب عنهما: “اقول لكم ان هذا نزل الى بيته مبررا دون ذاك. لان كل من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع.” في نفس السياق نقرأ في ايوب (40 : 11-13) ” فَرِّقْ فَيْضَ غَضَبِكَ وَانْظُرْ كُلَّ مُتَعَظِّمٍ وَاخْفِضْهُ. اُنْظُرْ إِلَى كُلِّ مُتَعَظِّمٍ وَذَلِّلْهُ وَدُسِ الأَشْرَارَ فِي مَكَانِهِمِ. اُطْمُرْهُمْ فِي التُّرَابِ مَعاً وَاحْبِسْ وُجُوهَهُمْ فِي الظَّلاَمِ.” ونقرأ ايضا في لوقا (1: 52-53) صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ. أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ. أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ. العبرة الاولى: عندما ندخل الى الكنيسة في هذا الموسم لا ننظر حولنا كيلا نقع في فخ ادانة الآخرين. بل نقف وكأننا مع الله وحدنا نتحدث اليه طالبين رحمته وغير ذاكرين امامه سوى خطايانا وغير قاصدين سوى التوبة عنها. وهنا يأتي السؤال الكبير ما هي التوبة؟ هل التوبة هي الندم؟ طبعا لا لأني اقول لكم أن جهنم ستكون ملآنة بالنادمين كما بذوي بالنيات الحسنة. فالموضوع ليس ندما ولا خطايا تبرر بالنوايا الحسنة. يهوذا الأسخريوطي ندم : (مت 27:3 ) حينئذ لما رأى يهوذا الذي اسلمه انه قد دين ندم وردّ الثلاثين من الفضة الى رؤساء الكهنة والشيوخ. الشياطين جميعها ربما نادمة على ما فقدته ولكنها لن تخلص بندمها لأن كبرياؤها لا يسمح لها لا بالاعتراف بخطيئة تمردها و لا بطلب المغفرة، وهنا بداية التوبة. فالتوبة هي في عملية تغيير المسار وليس في التوقف والندم وجلد الذات والبكاء على الإخطاء وبالحزن على الخطيئة والحزن على الذات بسبب ما اقترفنا من خطايا. فالمتكبر يحزن اكثر من غيره لأنه اخطأ ولكنه يعمل المستحيل ليخفي خطأه وليبرر اعماله الخاطئة وليفتش عن اسباب ومبررات عند غيره، لكي يكون غيره السبب لما اقترفه من أخطاء. فعار عليه ان يعترف بخطائه امام الناس. ولذلك لا يستطيع ان يغير مساره لكي يصلح ما عمله من إساءات. وهنا لب التوبة وجوهرها. العبرة الثانية: التوبة يلزمها انكسار وتواضع وتخل عن كل روح كبرياء لأن الشيطان هو رب المتكبرين وسيدهم. فالكبرياء لا يمكن ان يتواجد مع التوبة مع ان رفيقه الحميم هو الندم الذي لا ينفع. الأب منصور عازار |
||||