23 - 06 - 2016, 07:13 PM | رقم المشاركة : ( 13281 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
القديس الجديد في الشهداء غريغوريوس الخامس
بطريرك القسطنطينينة (١٠ نيسان) ولدَ في ديميتسانا – أركاديا في البلوبونيز سنة ١٧٤٥ م. كانَ أبوه راعيًا. تتلمذَ أوَّلَ أمرِهِ لمِلاتيوس الراهبوأثناسيوس روزوبولس. في سنِّ العشرين، انتقلَ إلى أثينا حيثُ درسَ سنتَينِ على معلِّمٍ مشهورٍ هو ديمتريوسفوداس. سنة ١٧٦٧م، انتقلَ إلى إزمير حيثُ عاشَ مع عمٍّ لهُ كانَ كاهنًا–راهبًا اسمُهُ ملاتيوس وتابعَ دراستَهُ في مدرسةٍ عاليةٍ فيها. ثمَّ تحوَّلَ إلى جزرِ ستروفادس حيثُ صارَ راهبًا ودُعِيَ غريغوريوس. من هناكَ انتقلَ إلىجزيرةِ باتموس، ودرسَ في مدرسةِ ديرِ القدِّيسِ يوحنَّا اللاهوتيّ. أثناءَ ذلكَ خطرَ اسمُهُ على بالِ بروكوبيوس رئيسِ أساقفةِ إزمير، فدعاهُ إليهِ وسامَهُ شمَّاسًا فكاهنًا وعيَّنَهُ مديرَ مكتبهِ برتبةِ نائبٍ أوَّل بروتوسنكلوس. سنة (١٧٨٥م)، اختيرَ ميتروبوليتًا على إزمير خلَفًا لِبروكوبيوسالذي صارَ بطريركًا على القُسطنطينيَّة. فخدَمَ شعبَ إزمير حسنًا، بنى المدارسَ والكنائسَ ورممَ جملةً منالكنائسِ العتيقة. في الأوَّلِ من أيَّار سنة ١٧٩٧م، انتُخِبَ بطريركًا على القُسطنطينيَّة خلَفًا لجراسموسالثالث. حمَلَ غريغوريوس معَهُ إلى البطريركيَّةِ نظامًا رهبانيًّا، الأمرُ الذي لم يرُقْ للعديدِ من الأساقفةِ ورؤساءِ الأساقفة. نشَطَ في ترميمِ الأبنيةِ البطريركيَّةِ والكنائسِ التي أصابَها الإهمال. أنشأَ صندوقًا للفقراء، وسعىلدى السلطاتِ لنيلِ الإعفاءِ من ضريبةِ الرؤوسِ على الكهنة. أعادَ إدخالَ المطبعةِ إلى البطريركيَّةِ لأغراضٍتربويَّةٍ بعدما كانتِ المطبعةُ الأُولى قد أُدخِلَتْ زمنَ كيرلّس لوكاريس سنة ١٦٢٨م، ولكنَّ اليسوعيِّين عمِلوابالتحريضِ والرشوةِ على ضربِها وإيقافِ العملِ بها. ويُذكرُ أنَّ نهايةَ القرنِ الثامنَ عشر وبدايةَ القرنِ التاسعَ عشرَ شكَّلَتْ فترةً مضطربةً في تاريخِ الإمبراطوريَّةِ العثمانيَّة. فقَدْ غزا نابوليون بونبارت مصر، وثارَ علي باشا في يانِّينا والأبيروس وألبانيا، وتفشَّتْ ظاهرةُ العصاباتِ غيرِ المنضبطةِ التي كانتْ تجوبُ جبالَ البلوبونيز واندلعَتْ الثورةُ في رومانيا بقيادةِ ألكسندروس هيبسيلانتيس الجنرالِ في الجيشِ الروسيّ. كانَ البطريركُ غريغوريوس مستاءً من أنشطةِ عصاباتِ البلوبونيز التي روَّعَتِ المسيحيِّين كما روَّعَتِ المسلمين، فأصدرَ بيانًا أدانَ فيه أنشِطتهم. ولمَّا كانَ نظامُ غريغوريوس الرهبانيُّ قد أزعجَ العديدَ من أحبارِ الكنيسةِ فقَدْ أخذوا موافقةَ السلطانِ العثمانيِّ على الإطاحةِ بهِ واستبدالِهِ بآخر. فنُفِيَ غريغوريوس إلى جبلِ آثوس وأقامَ في ديرِ إيفيرون. عام ١٨٠٦ م، استقالَ خلفُهُ كالّينيكوس، وأُعيدَ انتخابُ غريغوريوس الذي عادَ كسابقِ عهدِهِ في أنشِطتِهِ التربويَّةِ وأعمالِ الرحمةِ والإحسان. ولكنَّ السياسةَ العثمانيَّةَ لعبتْ دورَها فقَدْ تمكَّنَ الوزيرُ مصطفى بيرقدار من العودةِ إلى السلطةِ وجعلَ على العرشِ محمودَ الثاني. هذا حدثَ سنة ١٨٠٨م، وتمكَّنَ كالينيكوس من العودةِ للسدَّةِ البطريركيَّةِ لأنَّهُ كانَ محبوبًا من الوزيرِ مصطفى بيرقدار، فنُفِيَ غريغوريوس إلى جزيرةِ برينكيبوس في بحر مرمرة. ولم يبقَ كالينيكوس سوى عشرةِ أشهرٍ ثمَّ استُبْدِلَ بإرميا الرابع. فلمَّا حدَثَ ما حدثَ أُعيدَ غريغوريوس إلى منفاهُ في جبلِ آثوس مرَّةً أُخرى. في ١٩ كانون الثاني ١٨١٩م، اختيرَ غريغوريوس للسدَّةِ البطريركيَّةِ مرَّةً أُخرى بعدَ أنِ استقالَ سلفاهُ إرميا الرابع وكيرلّس السادس. ولمَّا اندلعَتْ الثورةُ اليونانيَّةُ في البلوبونيز في آذار ١٨٢١م، قرَّرتِ الحكومةُ العثمانيَّةُ ضربَ القيادةِ الكنسيَّةِ الأرثوذكسيَّةِ والعديدِ من العامَّةِ لتُرهِبَ من خلالِهم الشعبَ بأكملِهِ، فجرى إعدامُ العديدينَ في الشوارع. إلى ذلك، قرَّرتْ حكومةُ السلطانِ محمود الثاني إعدامَ البطريركِ غريغوريوس عِبرةً لسائرِ المؤمنينَ وابتغاءً لإجهاضِ الثورة. فانتظرَتِ السلطةُ إلى أنْ ينتهي البطريركُ من قدَّاسِ الفصحِ ويحلَّ النهارُ لتتحرَّك. في ١٠ نيسان سنة ١٨٢١ م، بعدما ختَمَ البطريركُ القدَّاسَ، انتقلَ إلى قاعةِ الاستقبالِ البطريركيَّةِ لتقبُّل التهاني. ثمَّ انكفأ ليأخذَ قسطًا من الراحة. إذَّاك، اطَّلعَ على أنَّ الثورةَ اليونانيَّةَ قدِ اندلعتْ، ولماَّ سُؤل» : ماذا سيحدثُ الآن؟.« أجاب بهدوء: » الآنَ وفي كلِّ آنٍ لتكنْ مشيئةُ الله« . حوالي الساعةِ العاشرةِ صباحًا، وصلَ ممثِّلونَ من الخارجيَّةِ في الحكومةِ العثمانيَّة. فظنَّ غريغوريوس أنَّهم قد أتوا للمعايدةِ منتدَبينَ من حكومةِ السلطان. وكانَ عددٌ من الأحبارِ حاضرًا. أُخبِرَ البطريركُ أنَّهُ عُزِلَ من منصبِهِ لأنَّه: «لا يستحقُّ الرتبةَ البطريركيَّةَ وهو جاحدٌ للكرامةِ التي أسبغَها عليهِ البابُ العالي وخائنٌ». ووَرَدَ في الفرمان أنَّ غريغوريوس يُنفى إلى مدينةِ خلقيدونيا. أُوقفَ غريغوريوس واستيقَ سجينًا برفقةِ رئيسِ شمامستِهِ نيكيفوروس والشمَّاس أغابيوس وابنِ أخيهِ ديمتريوس. وما لبِثَ البطريركُ ورؤساءُ الأساقفةِ أنْ أدركوا أنَّهم ليسوا برَسْمِ النفيِ بل سيُعدمونَ. في السجن، تعرَّضَ البطريركُ للاستجوابِ والتعذيب. كانَ يهمُّ السلطاتِ أنْ تحصلَ منهُ على معلوماتٍ عن الثورةِ طنَّتْ أنَّها كانَتْ بحوزتِه. إلى ذلكَ عُرِضَ عليهِ الإسلامُ ليُخلِّصَ نفسَهُ، لكنَّ جوابَهُ كانَ ببساطة: »قوموا بواجبِكم، فبطريرك الرومِ يموتُ مسيحيًّا أرثوذكسيًّا.« أُخرِجَ غريغوريوس من السجنِ واستيقَ إلى البوَّابةِ البطريركيَّةِ حيثُ عُلِّقَ من البوَّابةِ الوسطى التي تفتحُ على أرضِ البطريركيَّة. أصرَّ السلطانُ على أنْ يُنتخَبَ بطريركٌ جديدٌ من بينِ الأحبارِ الحاضرينَ في القُسطنطينيَّة، فإختيرَ المتروبوليت إفجانيوس خلفًا للقدِّيسِ وأُدخِلَ إلى البطريركيَّةِ في موكبٍ جمَعَ الأحبارَ إلى الرسميِّينَ العثمانيِّين. لكنَّ البطريركَ الجديدَ أُجبِرَ على أنْ يُطأطِئ رأسَهُ وينحني ويدخلَ من البوَّابةِ نفسِها التي عُلِّقَ عليها غريغوريوس بقِيَ جسدُ البطريرك مُعلَّقًا لمُدَّةِ ثلاثةِ أيَّام. ثمَّ أَنْزَلَهُ يهودٌ جنَّدَهم العثمانيُّونَ لهذا الغرض. وأخذوهُ وجرَّرُوهُ في الشوارعِ ثمَّ رمَوهُ في البحر. غيرَ أنَّ سفينةً يونانيَّةُ تحمِلُ العَلَمَ الروسيَّ التقطَتْ جسدَهُ وأخذتْهُ إلى أوديسا الروسيَّةِ حيثُ ووريَ الثرى كشهيدٍ وبطل. في العامِ نفسِه ١٨٢١ م، أَعلَنَتِ الكنيسةُ اليونانيَّةُ الأرثوذكسيَّةُ قداستَهُ وقدْ جرَتْ استعادةُ رُفاتِهِ إلى اليونان حيثُ دُفِنَ داخلَ كاتدرائيَّةِ بشارةِ السيّدةِ في أثينا.تُعيِّدُ له الكنيسةُ المقدَّسةُ في ١٠ نيسان. البوابة حيث شُنِقَ القدِّيس غريغوريوس، موصدةٌ من ذلك الحين إكرامًا للقدِّيس، لا تُفتحُ أبدًا. المصدر: دير رقاد والدة الإله – حمَطوره |
||||
23 - 06 - 2016, 07:14 PM | رقم المشاركة : ( 13282 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الشّيخ جاورجيوس الّذي من دير القديس بولس الآثوسي
الشّيخ جاورجيوس الّذي من دير القديس بولس الآثوسي1 وُلد1 الأب جاورجيوس، الّذي كان اسمه في العالم جيراسيموس موسخوناس، في 6 أيلول1910 في قرية “خافذاتا” من “كيفالينيا”. ماتَ والده عن عمر 35 سنة، بسبب التهاب حادّ في الزّائدة. اهتمّ عمّه كيرياكوس بإخوته اليتامى. عمل بجهد لتدبير أوضاعهم، ثمّ بعد خمس عشرة سنة صار راهبًا. نذر ذلك بسبب نجاته خلال الحرب، وعام 1927 أتى إلى دير القدّيس بولس وصار راهبًا، وأُعطي اسم قسطنطين. كان الصّغير جيراسيموس يعمل في أثينا وفي “بيرييا” ويساعد إخوته بدوره، لا سيّما أنطونيوس. قال: “لو بقيت في العالم لصرت مثل Croesus2. كنت أعمل وكان المال يتدفّق عليّ بغزارة”. سنة 1935 بعد انتهاء خدمته في الجيش، أتى بدافع الامتنان ليرى عمّه في الجبل المقدّس. وعلى الرّغم من كونه شابًّا حيويًّا، أشعلت حياة الآباء وعمّه الحماسة فيه، وقرّر البقاء ليصير راهبًا. بعد فترة اختباره، رُسم راهبًا في 29 كانون الأول 1937 وأخذ اسم جاورجيوس. كان يجاهد بحماسة، ويجتهد جدًّا في واجباته الدّيريّة. كان إنسانًا مثمرًا في كلّ شيء. كان طبّاخ الدّير الأفضل، والبستانيّ الأفضل. كانت حديقته تصلح لأن تكون معرضًا. عندما كان الآباء يذهبون ليلاً إلى الخدمة، كان هو ينقب حديقته بالمعول نقبًاعميقًا جدًّا، تقريبًا إلى عمقِ متر، وهو يقول صلاة يسوع. كانت شتول البندورة تنمو عاليًا، وكان يحتاج إلى سلّم ليقطف البندورة. كان أيضًا الفرّان الأفضل. كان يعجن ويقول: “سأصنع لكم خبزًا لتأكلوه بالخبز”. وبالفعل كان الخبز لذيذًا جدًّا. كان أيضًا صيّادًا ماهرًا. كان كلّ ما يفعله كاملاً وممتازًا. وكان يصنعه من كلّ قلبه كي يريح الآباء. ساعد الدّير كثيرًا في الأعمال، وفي الإدارة، وأيضا كممثّل عن الدّير ومُشرف على أعماله. في أيّام الإحتلال كان بستانيًّا. أدخلوه في المعارضة، وكان يساعد الحلفاء على الهرب إلى الشّرق برفقة رهبان آخرين. وشى به رومانيّ، فأمسكوه وقادوه إلى معسكر “بولس ميلا”، حيث مَثَلَ أمام المحكمة العسكريّة. سأله القاضي: – لماذا تأخذون الأعداء وتُرسلونهم إلى سميرنا وإلى مصر؟ إن قرع الآخر بابك، ماذا تقول له؟ يقول المسيح في الإنجيل أن نساعد المحتاجين إلى المساعدة. سأل القاضي: أي، هل ستساعد الألمانيّ إن أتى إليك وطلب منك المساعدة؟ – إن كان يحتاج إلى المساعدة، طبعًا. بحسب نوعيّة المساعدة الّتي يحتاجها. لكنّكم أنتم لستم بحاجة إلى شيء. تُغرقون العالم في الدّماء، وتذبحون البشريّة. حكم عليه القاضي بالموت. أخذوه إلى المعتقل في الأبراج السّبعة، وبعد يومين مرض بالملاريا. أخذوه إلى المشفى، وكان هناك النّاسخان (الرّاهبان بندلايمن وثيوفيلاكتوس نانوبولي، أخوان في الجسد، وهما من قلاّية النّسّاخ في “كارييس”)، والشّيخ ميلاتيوس الإسقيطيّ. كان الأب جاورجيوس محمومًا جدًّا. ذات مساء، ما إن خيّم الظّلام، حتى تعافى وجلس في السّرير وقال: “لقد أتى الآن القدّيس بولس والقدّيس جاورجيوس، وقالا لي إنّهما سيحرّرانني بعد ثلاثة أيّام”. لم يصدّقه الآخرون وظنّوا أنّه يهذي من شدّة الحرارة. ثمّ سقط الأب جاورجيوس من جديد في سبات. وبعد ثلاثة أيّام، فيما كان غير قادر أن يجرّ قدميه بسبب الحرارة والإرهاق، عند السّاعة الثّالثة بعد الظّهر، قفز من الطّابق الثّالث فوق إحدى الأشجار، من دون أدنى خدش، وفرّ. وعلى الرّغم من أنّ المكان كان تحت حراسة مشدّدة، لم يقبض عليه أحد. انطلق إلى الدّير سيرًا على الأقدام، من دون أن يعرف كيف يسير. لكنّه، بتيقّظه، نجح في الهرب، ووصل إلى الدّير. لكنّه لم يدخل إليه. بقي في مغارة فوق الدّير، وكان رئيس الدّير سيرافيم والأب أندريا المسؤول عن المائدة، والأب داوود وحدهم من عرفوا بوجوده هناك. كان الأب أندريا يذهب ويناوله بالسّرّ أيّام السّبوت حين يحتفل بالقدّاس الإلهيّ في المدفن. كان مكان اللّقاء مغارة أخرى، مغارة القدّيس بولس الموجودة فوق برج الدّير. بقي 19 شهرًا في المغارة، ولا بدّ أنّه أمضى حينها شتاءً في منتهى القسوة. كان يأخذ حذره لئلاّ يكتشفوا مكان وجوده. أشعل النّار ليلاً لئلاّ يظهر الدّخان، وهكذا كان يدفئ المغارة. في المساء، كانوا ينزلون إليه الطّعام بسلّة من السّور. في الرّبيع، الّذي فيه كانت الشمس تتأخّر عن الوصول إلى المغارة، كان يخرج إلى الصّخرة المقابلة. مرّة لسعته أفعى. استجار بالرّسول بولس ولم يُصبه مكروه. عندما انتهى الاحتلال، وزال الخطر، عاد الأب جاورجيوس إلى الدّير، واستلم خدمته من جديد. قال: “أمضيتُ وقتًا صعبًا، لكنّني لن أتذوق فرحًا كهذا ثانيةً في نفسي. كانت هذه بركة القدّيس بولس والقدّيس جاورجيوس اللّذين حرّراني”. كان ابنُ وزير نيوزيلندا واحدًا من الّذين خلّصهم الأب جاورجيوس بتهريبه. حالما انتهت الحرب أتى ليشكره مقدّمًا له كيس ليرات داعيًا إيّاه مخلّصه. أجابه: – “لقد خلّصك الله وخلّصني أنا أيضًا”. – “يرسل لك والدي هذه النّقود بكلّ محبّة”. – “لست بحاجة إليها، فأنا قد تركتُ كلّ ذلك في العالم قبل انطلاقي إلى هذا المكان”. – “خذها لأجل الدّير”. – “الدّير لا يحتاج إلى مال نيوزيلنديّ”. تأثّر النّيوزيلنديّ جدًّا، ولاحقًا أرسلت حكومة نيوزيلندا إلى الأب جاورجيوس شهادة تقدير تعترف به كمُحسن كبير لها. كذلك، أرسلوا إليه وسامًا من إنكلترا، وأرادوا أن يعطوه ليرات ذهبيّة إنكليزيّة بمثابة معاش تقاعديّ، لكنّه أعادها إليهم. “كلّ ما فعلتُه كان من أجل وطني”. وآخرون كثيرون ممّن أنقذهم الأب جاورجيوس كانوا ممتنّين له، وأرادوا أن يكافئوه. ولكنّه لم يقبل شيئًا، على الرّغم من أنّ تلك السّنوات كانت صعبة بسبب الفقر والبؤس. كتب مذكّراته في كتاب سميك واصفًا فيه كلّ ما مرّ به. ولو نُشر هذا الكتاب، لكان نفذ سريعًا. لكنّ الأب جاورجيوس أحرقه ذات يوم بعد إتمام قانون صلاته. قال: “هذه لا تُناسب الرّهبان”. كان الأب جاورجيوس ممهورًا بمواهب عديدة وبنفس صلبة. في كلّ شيء كان ممتازًا. وتميّز، أكثر من كلّ شيء آخر، في المجال الرّهبانيّ، وقد سما روحيًّا. كان مجاهدًا عظيمًا طبعًا، لكن، ما ساعده كثيرًا هي نصائح الأب أثناسيوس الفاضل، رئيس دير غريغوريو، الّتي كان يسمعها بعد تلاوة الإنجيل، ويحفظها بدقّة. قال له الأب أثناسيوس: “لن تضيء لمبة. ستأوي باكرًا إلى قلاّيتك، وتنام باكرًا، وتنهض من أجل قانونك والخدمة”. قال له أبوه الرّوحيّ ذلك مرّة واحدة، وهو حفظه طول حياته. لم يضئ لمبة بتاتًا. قال له أيضًا ألاّ يضع ماء على جسمه. وهو حفظ ذلك، وفعل أكثر من الوصيّة. منذ ذلك الحين، بقي من دون حمّام. قال: “في قريتي كنت دلفينًا، كنت أسبح كثيرًا. ومع ذلك، فمنذ أتيت إلى الدّير لم أغطس في البحر من جديد”. كذلك قال: “خاصمتُ الإسفنجة والمكنسة منذ سنوات”. كان الأب جاورجيوس يشبه ألماسةً غالية الثّمن رُميت طوعيًّا في الوحل والتّراب. هذا ما أراده هو نفسه. عمل ذلك بداعي النّسك والتّواضع ليحتقروه. كان يحاول ألاّ يَظهَرَ مُهِمًّا وألاّ يكرّموه. طوعيًّا لم يستحمّ البتّة. عندما وضعوا سائل الصّابون في المطبخ، سأل متعجّبًا: “ما هذا؟” وهو يضغط على الزّر. حالما أجابوه إنّه صابون، مسح يديه بغمبازه، وقال بحزن واضح وحيرة: “يا للهول! هذا صابون”. م يلبس ثوبًا جديدًا أبدًا. قال: “لن أصير عبدًا للثّوب. لا الجبّة ولا الرّسامة يصنعان الرّاهب، إنّما الشّوق السّماويّ والسّيرة في الله”. لكن، إن ذهب إلى العالم من أجل أُمور الدّير، كان يولي ذاتَه بعض الانتباه لئلاّ يُعثِرَ أحدًا. كان يقرأ القدّيس إسحق السّريانيّ والفيلوكاليا كثيرًا ودعاها “كرّاسة كبيرة”، لأنّها كانت مختصرة. لازمه هذان الكتابان على الدّوام، وكان يستند على الآباء، ويستشهد في كلّ ما يقوله بالأنبا إسحق. قال لراهب: “لديّ صديقة (الفيلوكاليا) لا تدعني أُخطئ عندما أواجه صعوبة وأسألها النّصح”. مع أنّه أتمّ الصّفّ الابتدائيّ، فقد حفظ غيبًا فصولاً كاملة. كانت الفيلوكاليا قد بليت من كثرة قراءتها. كان يجتنب إعطاء النّصائح عامّة، ويقول: “لديكم موسى والأنبياء”. عندما يطلب منه أحدهم النّصائح، كان يجيب: “مَن أنا لأنصحكم، يا أبتِ؟ أجد ذاتي غير مستحقّ. كلّ واحد يعرف كيف يدبّر خلاصه”. كان يكلّم الجميع بالجمع حتى المختبر الأخير. تمتّع بتهذيبٍ زائدٍ. كان يُكلّم الآخر بصفة الجمع: “من فضلكم”. كان يحبّ الخِدم الكنسيّة كثيرًا. ينزل إلى الكنيسة قبل “تبارك الله…”، ويغادر بعد “بصلوات آبائنا…”. لم يجلس البتّة على مقعد الكنيسة. كان يبقى واقفًا على الدّوام. لقد أوصاه الأب أثناسيوس ألاّ يجلس خلال القدّاس الإلهيّ. كان المسؤول عن الكنيسة، عندما يدخل الكنيسة من أجل إضاءة القناديل، يجد الأب جاورجيوس الّذي كان يأتي بعد قرع الناقوس الخشبيّ الأوّل، ليجلس في النّرثكس ويُصلّي المسبحة. كان حضور الأب جاورجيوس يعزّيه. سأله مرّة لماذا يأتي باكرًا جدًّا. أسرّ له الأب جاورجيوس بالتّالي: “عندما كنتُ شابًّا، تأخّرت مرّتين أو ثلاثة عن الخدمة. قلت: “سأنزل إلى الكنيسة بعد صلاة نصف اللّيل، أنا متعب”. حينها رأيت القدّيس بولس في نومي يحمل عصاه ويقول لي: “إنهض وانزل إلى الخدمة، لأنّني سأكسر هذه العصا على ظهرك، الويل لك”. اقتنى دقّة بالغة: بعد صلاة النّوم، لم يكن يشرب الماء ولم يكن يأكل شيئًا. كان آخر من يسجد ويقول: “أنا أعرف دوري. أذهب أخيرًا كي أكون الأوّل”. طبعًا لم يكن يؤمن أنّه الأوّل، لكنّه أراد بذلك أن يُخفي عمله المتواضع. عند أخذه قربانة الأنديذورُن، أو لدى الدّهن بالزّيت في السّهرانيّات، لم يكن يدير ظهره للكاهن، إنّما كان ينصرف متراجعًا إلى الخلف، بداعي التّقوى. استحقّ أن يرى القدّيس نكتاريوس في رؤيا، في وقت الخدمة. “رأيت رئيس كهنة، لابسًا حلّة رئاسة الكهنوت بكاملها، يخرج من الباب الملوكيّ. جوابًا على تساؤلي عن هويّته، قال لي صوتي الدّاخليّ: “القدّيس نكتاريوس!”. أسرعتُ، وسجدت إلى الأرض طالبًا بركته: ” باركني. نحن في الدّير نقيم لك سهرانيّة”. رسم عليّ إشارة الصّليب، ثمّ اختفى كلّ شيء. مرّة أخرى أخبر: “مرّةً، كنت واقفًا في النّرثكس لدى خروج الآباء من الكنيسة، فرأيت شيئًا غريبًا. كان بعض الآباء لابسين اللّباس الرّهبانيّ بكامله، الجبّة، والقبعة، واللاّطية، والإسكيم. أمّا البعض الآخر فكانت تنقصهم اللاّطية، وبعضهم الآخر تنقصه القبعة، وآخرون ينقصهم الإسكيم، وآخرون تنقصهم الجبّة، وآخرون كانوا يلبسون الغمباز فقط. حينها، سمعت صوتًا بجانبي يقول: “ما تراه يشير إلى ما أَخذه كلّ واحد من الخدمة لدى خروجه من الكنيسة”. أحبّ التّقليد، وابتعد عن الأمور العالميّة، والتّطوّرات التّقنيّة. مَثَّلَ الدّيرَ في الوقت الّذي كان مجلس رئاسة الجبل المقدّس يدرس فيه موضوع فتح طرقات للسّيّارات في الجبل المقدّس، وذلك قبل الألفيّة الثّانية بقليل. اعترض الأب جاورجيوس، ولم يُوقّع. كان لديه بُعد نظر. فهم جيًّدا، مثل القلائل، أنّ الطّرقات ستُدمّر الجبل المقدّس. لكنّ الطّرقات شُقَّت، وعندما رأى الأب جاورجيوس أنّهم يشقّون الطّريق إلى ديره، غادره وذهب لمدّة سنة ونصف إلى “كيراسيا”. نصحه أحد الآباء الرّوحيّين: “فعلت جيّدًا أنّك رحلت، لكنّني أَنصحُك بالعودة، لأنّ أيّامك يمكن أن تكون معدودة، ورأيت كثيرين تعساء وهم يموتون بعيدًا عن مكان توبتهم”. عاد إلى ديره، ورأى طرقات أخرى تُشَقّ. حينها، قال لذاته: “لن أرحل من ديري، لكنّني لن أستقلّ سيّارةً قَطّ في الجبل المقدّس، طالما أنّني لا أوافق على شقّ الطّرقات، لأنّها ستدمّر الجبل المقدّس”. ولقد أَرفق قوله بالفعل. كان يركب السّيّارة أثناء وجوده في العالم خارجًا في مهمّات تتعلّق بالدّير. أمّا في الجبل المقدّس، فلم يركبها مطلقًا. كذلك، لم يركب الباص. عندما يستدعي الواجب ذهابهم إلى الجبل لرؤية أمر ما، كان الأب جاورجيوس ينطلق قبل ساعتين على الحمار. وكممثّل عن الدير، كان يصعد من “دافني” إلى “كارييس” سيرًا على الأقدام. كانت لديه مثل هذه الأمانة! وهذه الأَمانة تَعلَّمها من “العجوز”، كما كان يُسمّي الفيلوكاليا، لئلاّ يبدو عليه أنّه يقرأ. عانى مرّة من الفتاق، فزار أحد معارفه، الممثّل عن دير فاتوباذي، وسجد لزنّار الكلّيّة القداسة الشّريف. صلّى فشفته الكلّيّة القداسة. منذ ذلك الحين وحتّى رقاده، استمرّ في الذّهاب، كلّ سنة، إلى احتفال عيد الزّنّار المقدّس. لم يلتمس قلاّية أو سريرًا. كان الآباء يعرفونه، ويعملون كلّ ما في استطاعتهم لراحته، لكنّه كان يجلس على مقعد في النّرثكس طول السّهرانيّة. كان ينطلق قبل يوم من الدّير بالمركب، ويصعد إلى “كارييس” سيرًا على الأقدام حاملاً كيسه على ظهره، ومن “كارييس” إلى دير فاتوباذي يتابع أيضًا سيرًا على الأقدام. بعد السّهرانيّة يعود إلى “كارييس” سيرًا على الأقدام، ويُمضي اللّيل هناك. ومن جديد كان ينزل من دافني سيرًا على الأقدام ليُبحر بالمركب. هذا قام به حتى 1997، وهو في عمر السّابعة والثّمانين، إذ إنّه رقد في العام التّالي. عندما جلبوا معجنًا إلى الدّير، امتنع عن الدّخول إلى الفرن باستثناء مرّة واحدة، بعدما توسّل إليه الفرّان أن يساعده لأنّه حاول أن يصنع الخبز مرّات عديدة ولم ينجح في ذلك، ثم طلب منه الياروندا الذّهاب. ذهب وعلم السّبب بمجرّد إلقاء نظرة، فنصحه ورحل. ومع أنّه كان نشيطًا وعاملاً، كان يحبّ الهدوئيّة كثيرًا. قال: “المرافقة الأفضل لنفسي هي الوحدة”. مرّة حين كان ممثّلاً للدّير وبقي في “كارييس”، استمرّ الضّباب الكثيف لمدّة 27 يومًا، بحيث إنّ شجرة الكرز المقابلة لم تظهر من النّافذة. لم يُضايق ذلك الأب جاورجيوس المحبّ الهدوئيّة. إنّما اعتبره بركة، وقال: “كانت أحلى أيّام حياتي. كنت أجلس وأصلّي المسبحة”. يشهد أحد أعضاء مجلس الجبل: “أكثر مَن أثّر فيّ من ممثّلي الأديرة كان الأب جاورجيوس الآيوبافليتي. كان راهبًا صالحًا ورجل صلاة. عندما ترأّس مجلس إدارة الجبل، كان يغادر المكتب حيث يجلس الآخرون جميعًا، ويذهب إلى مكتب مجاور ويصلّي المسبحة. عند مناداته للتّوقيع، كان يذهب ليوقّع، ثمّ يغادر من جديد ليتابع الصّلاة بالمسبحة. امتلك التّمييز والنُّبل. في المسائل الّتي لم يوافق عليها لأسباب ضمير رهبانيّ، لم يكن يتشاجر أو يُصرّ على رأيه أو يحاول فرضه”. قال أيضًا عن خبرة: “إن تركتَ الخدم الكنسيّة والقانون والاعتراف، فكأنّك تدهن حذائك، وسيُخرجك الشيطانُ من الدّير”. لم يقبل شيئًا من أحد، مهما أَعطوه. وعندما كانوا يسألونه: “لماذا؟” كان يجيب: “وجدتُ ذلك في القانون الكبير: “الكاره الهدايا يعيش”3. مرّة، لدى وجوده في العالم، رأته إحدى المسنّات ينتعل حذاءً مثقوبًا، وقالت له: “يا أبتِ، إسمح لي أن أَجلب لك حذاء”. أجاب: “أنا في دير لديه أحذية. هناك فقراء آخرون، ساعدي في مكان آخر”. عندما سأله أحد الحجّاج من أين هو، أجاب بتمويه وبساطة: “أنا وُلدتُ في مركب، لستُ من أيّ مكان”. ثم علم الزّائرُ، مِن الدير، بعد سؤاله، أنّ هذا كان الأب جاورجيوس الّذي أراد ألاّ يعرفه أحد وينشغل معه. مرّة عندما كان بستانيًّا، أضلّ أحدُ الحجّاج الطّريق، ووصل إلى طريق مغلق. سمعه الأب جاورجيوس يصرخ طالبًا النّجدة. ذهب وخلّصه. في صلاة الغروب رآه الرّجل وأراد أن يشكره. أجاب: “تشكرني أنا، يا سيّد، أنا لا أعرفك. لقد أخطأت”، واختفى. عنما تخطّى الأب جاورجيوس الثّمانين، قال: “لقد تخطّيتُ قواي4. الآن، ماذا أنتظر؟ من الآن فصاعدًا تعبٌ ووجع”. توقّف حينها عن القيام بأيّة مهامّ، وكان يُمضي اليوم في المكان حيث سمعت مارو صوت الكلّيّة القداسة، عندما جلبت الهدايا الشريفة. كان يُشعل القنديل ويصلّي المسبحة حتى الغروب. جَعلَ لوحَين أو ثلاثة ألواح خشبيّةٍ بمثابةِ سقفٍ وملجأ. وكان لديه كرسي صغير بسيط ليجلس. كان يلبس معطفًا رقيقًا من أجل البرد. ردّد صلاة يسوع لساعات طويلة لا تنتهي. كان يُعِدُّ للرّحلة الكبيرة. قال: “يا أبتِ، ما الأربعاء، وما السّبت؟ لا بدّ أن يحدث هذا. لا أخاف أبدًا”. كان يتجنّب الكلام مع العابرين أو يتباله. سأله إكليريكيّ: – “من أين أنت أيّها الشّيخ؟”. – “أنا عابر”. – “ما اسمك؟”. – “أنا يقطينة”. مرّات عديدة كان يبقى طول اللّيل في المدفن وهو يصلّي، وكذلك في الشّتاء أيضًا على رغم البرد القارس. مرّة نسي القندلفت أن يفتح باب الدّير في الصّباح أثناء الخدمة، وبقي الأب جاورجيوس يقرع ليفتحوا له. عندما كان يذهب آباء شبّان إلى قلايته ويسألونه إن كان يريد شيئًا ليجلبوه له، كان يطلب منهم أن يدَعوه وحده. كانوا يسألونه: “لماذا، أيّها الشيخ؟”. كان يجيب: “عندما تبقى وحدك، يُرسل لك الله ثلاثة ملائكة ليبقوا معك”. لم يُبدّل قلاّيته حتى سنّ الشّيخوخة، على رغم أنّها كانت عالية وكان يستصعب صعود درجات عديدة. طبعًا في نهاية حياته، عَميَ تقريبًا وكان يسير وهو يتلمّس الطّريق مستندًا إلى الحائط. قَبِلَ بأن يضعوا له لمبة ليرى. كان شكورًا، ويقول: “على الأقل الآن أرى سريري”. في آخر حياته عانى من وسطه، وكان ينزل كلّ يوم إلى الخدمة. ذات يوم، انتهت المزامير السّتة وكان الأب جاورجيوس غائبًا. صعد الخادم في المأوى ليراه، فوجده راقدًا كما كان جالسًا، والمسبحة في يده. كان ذلك في الصّيف، في 23 تموز 1998. لم يعثُروا على ثيابٍ خاصّةٍ له ليُلبسوه. أعطى الآباء من ثيابهم، وغسلوه للمرّة الأولى في حياته منذ أن صار راهبًا. مغبوطٌ هو الأب جاورجيوس الّذي بعدم استحمامه وتواضُعه نجح في حفظ كنزه الرّوحيّ غير مسلوب. نجح بنباهةٍ أن يتجنّب العدسة التّصويريّة، الأمر الّذي كان صعب التّحقيق لأنّه عاش سنوات طويلة في الدّير، وكان ممثلاً عن الدّير، ومسؤولاً في مجلس إدارة الجبل في “كارييس”. بسبب تواضُعه لم يُعثَر له على صورة أو هويّة أو بطاقة تعريف. فليفرح الآن وليتهلّل هناك حيث هو، وليصلِّ لينال المسامحةَ كلُّ من أدانه وأَذَلَّه بسبب شكله الخاجيّ. فلتكن صلاته معنا، آمين. ترجمة الأم بورفيريّة دير القدّيس سمعان العامودي – النوريّة [1] – مأخوذة من كتاب ” شذرات من التقليد النسكيّ الهدوئيّ الآثوسي” قلاّية القيامة جبل آثوس – بتصرّف [2] – آخر ملك لليديا، حكم من سنة 560 حتى سنة 546 ق. م. اشتهر بكثرة غناه، وأخضع المدن اليونانيّة على طول ساحل آسيا الصّغرى قبل أن تتمّ إطاحته من قبل ساويروس ملك الفرس. [3] – أمثال 15: 26 [4] – “أيام حياتنا سبعون وإذا كانت مع القوة فثمانون. |
||||
23 - 06 - 2016, 07:15 PM | رقم المشاركة : ( 13283 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
القديس البار يوحنا الروسي المعترف العجائبي
(+1730) ولد يوحنا في قرية من قرى روسيا الصغرى ونشأ على التقوى ومحبة الفضيلة. لما بلغ الحادية والعشرين طوّ ع في عسكر القيصر واشترك في الحرب الروسية التركية التي أستمرت من العام 1672 والى العام 1681 م . وقع يوحنا أسيراً في يد التتار وبيع عبداً لأحد قادة الفرسان العثمانيين، المدعو الحاج حسن آغا الذي كان يقطن في بروكوبيو في آسيا الصغرى، وهي مدينة قريبة من قيصرية الكبّادوك. كانت بروكوبيو معسكراً للأسرى المسيحيين المجندين للحرب والمعروفين ب “الانكشارية” فعاش يوحنا في وسط ٍ معادٍ عرضةً، بصورة دائمة، لتعييرات الأتراك وإزعاجهم. كانوا ينادونه “يا كافر” ويحرّضونه على تغيير دينه. كثيرون من أقرانه جحدوا إيمانهم، أما هو فقاوم الى النهاية. كان سيّده يضربه ويهينه ويشدّد عليه ليصير مسلماً، فكان ردّه أنه لا شئ يفصله عن المسيح. قال: “أنت سيّد على جسدي لا على نفسي. إذا تركتني لحرّيتي أتعاطى واجباتي الدينية فإني مطيعك بلا تردّد. بكل سرور تجدني أرتاح الى هذه الزاوية من الإسطبل ويرتحل ذهني الى المسيح الذي حسب مذود بيت لحم سريراً ملوكياً. مستعدّ أنا أن أحتمل بلا تذمر ضربات عصاك كما تحمل الرب يسوع ضربات الجند. أما إذا شئت أن تخضعني بالقوة لتحملني على الكفر بمسيحي فأنا مستعد أن أحتمل أكبر العذابات وأشدّها هولا ولا أنكره”. كلمات يوحنا وغيرته على الإيمان بالرب يسوع المسيح وكذلك مسلكه العفيف المتواضع غيّر، بنعمة الله، قلب الأغا ومشاعره حياله فكف عن ترويعه وأقلع عن محاولة إجباره على التخلي عن إيمانه، لا بل صار يعطف عليه، أو ليس أنه لو أرضت الله طرق إنسان جعل أيضاً اعدئه يسالمونه (أمثال 7:16) أوكل الآغا الى يوحنا أمر العناية بأحصنته، فأقام في زاوية معتمه من الأسطبل. لم يشأ أن يقيم في المنزل الخاص به، الذي أفرده الآغا وزوجته له. آثر حقارة الأسطبل نسكاً. وحين كان الآغا يخرج الى القرية على صهوة جواده كان يوحنا يتبعه ماشياً كعبدٍ. على هذا النحو سلك يوحنا في صحراءه التي أصطفاها له الرب الإله. كان حافي القدمين صيف شتاء، يلبس الأسمال، لا يأخذ من الراحة سوى قسط يسير على القش أو الزبل، نظير أيوب الصديق. يعمل في الأسطبل في النهار ويعمل في الصلاة في الليل. وكثيراً ما كان يوجد راكعاً الليل بطوله في ساحة كنبيسة القديس جاورجيوس القريبة. وإلى ذلك كان يقبل تعيير العبيد الأخرين وتهكمهم ولا يتذمر، وكان يخدمهم. لسان حاله كان قول المرنم في المزمور: ” كثيرون قاموا عليّ. كثيرون يقولون لنفسي لا خلاص له بإلهه. وأما انت يا رب فخلاصي ومجدي ورافع رأسي. “. وكما أن الله أغنى لابان ببركة يعقوب في العهد القديم، هكذا بارك الآغا فصار واحداً من أغنياء بروكوبيو. كان يعرف أن غناه المفاجئ هو بفضل سائسه يوحنا وكان يعلن عن ذلك في كل مناسبة. وقرر سيد يوحنا أن يخرج في حج الى مكة. وطال الوقت ولمّا يعد فدعت زوجته أصدقاء زوجها الى مأدبة على شرفه ليفرحوا ويدعوا للآغا بسلامة العودة. وكان القديس يوحنا يخدم المائدة. وكان من ألوان الطعام الرز المفلفل الذي كان الحاج حسن آغا يرغب فيه. فقالت المرأة للقديس: ” يوفان، لو كان سيدك هنا وأكل معنا من هذا الأرز فكم كان سروره سيكون عظيماً!” فلما سمع يوحنا ذلك طلب من سيدته صحناً من الأرز وقال أنه سيرسله الى سيده. ضحك المدعوون لما سمعوا وظنوا أنه يقول ذلك من محبته لمعلمه أو أنه يريد ان ياكل الأرز وحده على انفراد أو ان يعطيه لعائلة فقيرة كما أعتاد أن يفعل بطعامه اليومي. أنّى يكن الأمر فقد قالت السيدة للطباخة أن تعطي يوحنا الصحن الذي يطلب وتركته يفعل به ما يشاء. لم يخطر ببال أحد من الحاضرين ان القديس لما تفوه بكلماته تلك كان يعني ما يقوله. أخذ القديس الصحن ونزل الى الأسطبل وركع على التبن وصلى: ” يا من أرسل حبقوق النبي، قديماً، الى بابل بطعام الى دانيال النبي (دانيال 33:14…) استمع الى صلاتي، أنا أيضا، وأوصل هذا الصحن الى معلمي!” وبعدما تم صلاته عاد الى قاعة الطعام وأعلن أن الصحن وصل الى معلمه. كل الحاضرين أنفجروا ضحكاً وقالوا: لا بد أن يكون قد ألتهم الطعام بنفسه. فلما عاد معلمه، بعد أيام، حاملا معه الصحن وعليه حروف أسمه، قص على أهل بيته أنه وجده وفيه الأرز المفلفل الشهي لمّا عاد الى خيمته عند المساء في اليوم الفلاني. كل أهل البيت أصابهم الدهش وذكروا أسم الله، كما شهدوا ليوحنا. بعد ذلك رغب الآغا في إكرام يوحنا فعرض عليه مسكناً لأئقاً فلم يشأ. زاوية الأسطبل المعتمه كانت لديه خيراً من قصور الملوك. على هذا النحو سلك يوحنا في التقوى سنين عديدة. فلما تثقّل بالمعاناة والمشاق والأتعاب مرض وشعر بدنو أجله، فرجا أحد معارفه المسيحيين أن يُحضر له كاهناً لكي يناوله ولكن خاف الكاهن ولم يشأ أن يظهر بالقدسات أمام يوحنا لئلا يغيظ الأتراك ويسيئوا إليه وإلى القدسات. لكنه أرسل له تفاحة جوّفها وجعل الجسد والدم في قلبها. على هذا ساهم قدّيسنا القدسات وأسلم روحه الطاهرة بين يدي الله الحيّ يوم 27 أيار من العام 1730 م شرقي الموافق 9 حزيران غربي. كان قد بلغ من العمر الأربعين. في شهر تشرين الأول من السنة 1733م شعّ نور فوق قبر القديس، وقد رآه الكثيرون فأنذهلوا. كذلك تراءى في الحلم للأب زوسيما، كاهن بروكوبيو، وقال له إن جسده لم يطرأ عليه فساد وإن إرادة الله أن ينبش القبر وتُتّخذ بقاياه كبركة ومعونة. وبالفعل نبش القبر وأخرجت البقايا المقدّسة فاستبانت سليمة، كما عبق في المكان طيب زكي، حتى ان المؤمنين جمعوا التراب العطر الذي كان حول الجسد وأحتفظوا به ذخيرة واقية. أما الجسد فوضعوه في تابوت ونقلوه الى كنيسة القديس جاورجيوس في بروكوبيو حيث بقي الى عام 1924م حين حمله المؤمنون معهم الى بلاد اليونان إثر عملية تبادل السكان التي حصلت في تلك السنة. ورفاته موفورة اليوم بركةً للمؤمنين في قرية ” بروكوبيو الجديدة” في جزيرة إيفيا اليونانية، على بعد 49 كم شمالي خالكيذا. هذا وتعزى الى القديس يوحنا عجائب جمة لا زالت تجري الى اليوم. من ذلك أنه في عام 1832م أجتاح عسكر الخزندار أوغلو عثمان باشا بروكوبيو ونهبوا المنازل وجردوا كنيسة القديس جاورجيوس من الآواني الثمينة والتقدمات. ولما عاينوا تابوت القديس يوحنا فتحوه ظانين أن في داخله ذهباً. وإذ لم يجدوا شيئاً سوى الجسد جمعوا خشباً وقشاً وأشعلوا ناراً عظيمةً في ساحة الكنيسة ورموا الجسد في النار. وفيما هم تيلهون حول النار أنتصب القديس فجأةً وسط النار وكأنه عاد حياً، وكانت ألسنة النار تحيط بالجسد ولا تحرقه. فلما رأى العثمانيون ذلك فروا هاربين تاركين ورائهم كل ما سرقوه من الكنيسة. فلما كان اليوم التالي جاء شيوخ وأعادوا الجسد الذي لم يتأثر بالحريق الى التابوت. كذلك يروى عنه أنه في السنة 1862م، بعد القداس الإلهي، في كنيسة القديس باسيليوس، ذكرت أمراة تقيّه أنها حلمت بالقديس يوحنا ” وهو يخرج من تابوته ويذهب الى المدرسة المجاورة ويسند بكلتا يديه سقفها المتداعي”. وأما إن أنهت كلامها حتى سمع دويّ قويّ، هرع معه المصلون الى خارج الكنيسة مذعورين، فإذا بسقف المدرسة المجاورة قد تداعى وسقط على القاعة التي كان التلاميذ مجتمعين فيها. أندفعوا صوب المدرسة وهم يصيحون ويبكون ورفعوا السقف. فإذا بالتلاميذ العشرين سالمون لم يصب أحد منهم بأذى. كيف حدث ذلك؟ قال الأولاد أنهم قبل أن يسقط السقف سمعوا قرقعه مخيفة كانت بمثابة تحذير فأختبأوا تحت المقاعد. فلما سقط السقف استندت كتلته على المقاعد ولم تؤذي احداً. كذلك أخبروا عن حادث معجز، جرى في العام 1874م وله علاقة بأحفاد الآغا الذي أستخدم القديس. فإن يوحنا أنبأ عما حدث لإحدى بنات أحفاد الآغا جرى خلاله خطفها وتجريدها من حلاها وقتلها: من وكيف وأين جرى القتل. ومن أخباره أيضاً أنه أنذر أحد رهبان دير القديس بندلايمون الروسي، في جبل أثوس، في العام 1878م، كان في طريقه الى بروكوبيو ليسجد لبقايا القديس يوحنا، أنذره أن لصوصاً يكمنون له فعاد أدراجه من حيث أتى ونجا. كذلك ورد أن السفينة التي أقلت الكثير من سكان بروكوبيو كلاجئين الى جزيرة إيفيا اليونانية، في السنة 1924م أبت، عند نقطة معينة في البحر أن تتقدم الى الأمام. فقد أخذت تدور حول نفسها، فلما أستطلع القبطان الأمر تبين له أن رفات القديس يوحنا كانت موضوعة في عنبر السفينة. فلما نقلت الى مكان لائق وأضئ أمامها قنديل الزيت ليل نهار تابعت السفينة سيرها بسلام. يذكر أن كنيسة فخمة جرى بنائها بين العامين 1930 – 1951م في قرية بركوبيو الجديدة ضمت رفات قديس الله. |
||||
23 - 06 - 2016, 07:18 PM | رقم المشاركة : ( 13284 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الخبرات الأولى
للأب صفروني سخاروف ليس بالأمر السّهل عليّ وصف الخبرة الرّوحيّة الممنوحة لي في بدء حياتي. لقد عشت على ضفاف عالمين، ممزَّقًا بين المرئيّ واللّامرئيّ، بين عالم العقل ومملكة السّماء. وما أودّ الكشف عنه بقولي إنّي كنت مقيمًا بين عالمين هو أنّ ما حصل لي كان يفوقني؛ فالمبادرة لم تكن منّي، بل من الله الحيّ، الّذي وقعتُ بين يديه (عب10: 31). وعلى الرّغم من عذابي، تاهت روحي في دهش قدّام الله. الرّبّ حفظني من رباطات كان ليكون من الصّعب عليّ كسرها. لذلك، عندما احتجت إلى أن أتحرّر من كلّ المسؤوليّات الواقعة على عاتقي بشأن الآخرين، كان لي ما طلبت؛ فشكرت الله على اهتمامه بي؛ وعرفت أنّي، إذا متُّ، فلن يتألّم أحد لخسارتي. كنت محظوظًا جدًّا، إذ كان بإمكاني أن أجازف بأيّ شيء، حتّى بالموت. كلّ انتباهي كان مركَّزًا على داخلي. هكذا دام حالي إلى سنين طويلة. أمّا الصّلاة، فتفاوتت في الشّكل والقوّة، ولم تجتذبني في كلّ الأوقات باقتدار مماثل. لكنّي، في بعض الأحيان، كنت نَهِمًا لا أشبع. ولو شئتُ، في ذلك الوقت، أن أتوقّف عن الصّلاة، لَما استطعت (كنت، في ذلك الحين، في فرنسا، قبل رحيلي إلى جبل آثوس). في تلك الأيّام المباركة، كنت أشقى المخلوقات على الأرض؛ ولكن، أكثرها بركة. في بعض الأحيان، كانت تجتاحني نار من أعلى رأسي، وتلتمع في جسدي حتّى أخمص قدميّ؛ فتتملّكني صلاة حارّة لأجل العالم، مرفَقَةً بدموع غزيرة، ساعات طويلة لا حدّ لها. في أكثر الأحيان، كنت أصلّي راكعا على ركبتيّ، وجبهتي ملتصقة بالأرض. وعندما كان جسدي يتعب، كنت أغفو. لكنّ ذاتي اللّاواعية كانت تستمرّ بالصّلاة، ولم أكن أعي أنّي كنت نائمًا. فقط عندما أَصحو، كنت أعي أنّ جسدي كان نائمًا، لأنّه لم يكن في الوضع الّذي كان عليه أثناء الصّلاة. مرّتين أو ثلاثًا، أضعت، في شوارع باريس، كلّ إحساس بالعالم المادّيّ من حولي بسبب الصّلاة. لكنّي كنت أصل سالمًا إلى وجهتي. وإنّي أتأسّف، إلى حدّ ما، إذ لم يكن لي رفيق يصف لي تصرّفي في تلك الحالات الّتي أعيش. مرّة، كنت أحضر، في باريس، ندوةً لشاعر مشهور، كان يقرأ قصائده. وكان الجمع من صفوة النّاس. كلّ شيء كان مرتّبا جدًا، من النّاحية الاجتماعيّة. أمّا أنا، فغادرت عند منتصف اللّيل. وفي الطّريق إلى منزلي، رحت أتأمّل كيف يمكن لهذه الظّاهرة، الّتي هي من أرقى أشكال الإبداع البشريّ، أن ترتبط بالصّلاة. ولمّا دخلت غرفتي، بدأت بالصّلاة: “قدّوس الله، قدّوس القويّ، قدّوس الّذي لا يموت، ارحمنا…”، وإذا بشعلة خفيفة تهفُّ على وجهي وصدري، رقيقة كنسمة عليلة، لكنّها غير متناغمة والرّوحَ الإلهيّ. في داخلي، كنت ممزَّقًا بين الفنّ والصّلاة. وبعد صراع طويل وعنيد، تغلّبتِ الصّلاة. غير أنّي، في المعهد اللّاهوتيّ، لم تنفعني الصّلاة في تركيز انتباهي على المادّة المعطاة. كان عليّ أن أتصارع وهذه العوائق الّتي لا قيمة لها بحدّ ذاتها. لكن، ما نفعني كثيرًا أنّي أُعطيت غرفةً خاصّة فوق جناح الأساتذة، ممّا سمح لي بأن أصلّي كما كنت معتادًا. وعلى الرّغم من كلّ اهتمامي بحياة الكنيسة وتاريخها، فإنّ حاجتي الرّوحيّة إلى الصّلاة تعثّرت؛ فارتحلت إلى جبل آثوس. هناك، في الجبل المقدّس، لاقَتْ حياتي مسارها الصّحيح. كنت أذوق فرح القيامة، يوميًّا، بعد القدّاس الإلهيّ. وعلى أغرب ما يمكن للمرء أن يتصوّر، انفجرت صلاتي هادرة كالبركان من يأسي العميق المستحوِذ على قلبي… حالتان غير متآلفتين التقتا فيّ. هذه وقائع أسجّلها، على الرّغم من أنّني لم أكن أفهم ما يجري فيّ. ظاهريًّا، لم أكن أقلّ حظًّا من كثيرين حولي. بعد ذلك، توضّحت الأشياء؛ فالرّبّ منحني نعمة التّوبة (لو24: 47). نعم، كانت نعمة!! لحظة كان يَهِنُ فيّ اليأس، كانت الصّلاة تفتر، والموت يجتاح قلبي. وبوساطة التّوبة، كان كياني يتمدّد؛ حتّى بِتُّ ألامس، بالرّوح، الجحيمَ والملكوتَ، في آن. ومع الحرب العالميّة الأولى، عام 1919، ومع أخبار سقوط آلاف القتلى على جميع الجبهات، أُغرق الكون كلّه، حسب رؤيتي، في غيمة لا تُخترَق من العبث. لم أستطع تقبّل الموت، ولا العبث. ووجدتُ نفسي في حالة ما بين بين… كنت أفكّر جزئيا، وأحسّ جزئيا بأنّ كلّ ما عرفته وما أحببته، ممّا أعطاني حياة وألهمني خيرًا، كلّ شيء، حتّى الله نفسه، كان سيموت لو أنا متُّ. كانت خبرة مخصبة: الإنسان، كشخص، بإمكانه أن يصير مخزنًا لكلّ ما هو موجود. كنت أحيا في عالمين: واحد أَدركتُهُ بالنّظر والسّمع والباقي بقواي الجسديّة، والعالم الآخر كنت فيه روحًا، كلّيّ السّمع والتّرقّب. حاولت، بجدّيّة، أن أبصر؛ لكنّي رأيت بعينين أخريين. وهذان العالمان المتباينان لم ينقسما في الصّلاة؛ ففي النّهار، كانت الصّلاة تنساب في العالم المحسوس. لكن، خلال اللّيل، كانت الصّلاة تنقلني إلى عالم غير محسوس، إلى مدارات روحيّة. إنّني أعجز عن عنونة الأبديّة الّتي غمرتني. عندما كنت أقرأ الأناجيل، كانت كلّ الكلمات مألوفة عندي. لكن، ما كان وراء كلّ منها، في كيان الله ذاته، فذاك لم أكن أَفهمه. فكرة واحدة كانت لافتة وواضحة، بالنّسبة إليّ، وهي أنّ كلّ شيء موجود في المسيح، ابن الله، وفيه وحده فقط. وله صلّيت… وصلّيت بالطّريقة نفسها إلى الآب، حتّى يُنْزِل الرّوح الحقّ، المنبثق منه، عليّ أنا، ليرشدني إلى ملء الحقّ (يو16: 26، 13). إنّ بحثي عن الإله المتواري وجد أصداء عدّة، في العهد القديم، توافق حالتي؛ وكلماتٍ عدّة تعبّر عن حاجاتي؛ فتعاطفتُ مع اعتراضات أيّوب، ومع تأوّهات الأنبياء الّذين وُلدوا قبل المسيح. والتقطتُ وحيًا للصّلاة من المزامير. لكنّي، من العهد الجديد وحده تعلّمت مِحَكَّ كلّ شيء، مهما كان أصله. وعطشي إلى معرفة الله كان بلا ارتواء، إذ إنّني صلّيت كثيرًا، وترجّيت كثيرًا، لكنّ روحي لم تكن تلقى الاكتفاء. هذه كانت “كأسي” في جبل آثوس. الحزن والفرح انسكبا فيّ، يخفّف أحدهما الآخر. لم أرَ طريقًا واضحًا منفتحًا أمامي. كنت في ضياع تامّ، مملوءًا ألمًا. لكنّ هذا المناخ الرّوحيّ بعينه هو الّذي وَلَّدَ فيّ فهمًا لعظمة الإنسان. أليس من خلال هذا الألم المقدّس يتّصل الإله القدير والكائن الأسمى، أي الله، بمخلوقاته، معطيًا إيّاها المعرفة بتدرّج، لا فقط عن الكون المخلوق، إنّما عن نفسه أيضًا؟!… من كتاب في الصّلاة للأب صفروني، تعريب الأمّ مريم زكّا. |
||||
23 - 06 - 2016, 07:20 PM | رقم المشاركة : ( 13285 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
من سيرة الأرشمندريت إسحق عطاالله
طفولته وصباه: هو فارس نمر عطاالله. ولد في نابيه (المتن الشماليّ) في 12 نيسان 1937. نشأ في عائلة مسيحية مؤمنة. حصّل دروسه الابتدائية في قريته. أحبّ الكنيسة والخلوة منذ طفولته، فكان يذهب إلى البريّة ليصلّي. تعلّم حب المسيح والكنيسة من والده الذي كان مرتّلا ذا صوت جميل لا يبارح كنيسة بلدته. كان يكنّ لأبيه كل الوقار، ولازمه مداومًا على مساعدته، ولم يرفض له طلبًا. فقد قصد في صباه دير مار الياس شويا ذات يومٍ، فلحق به والده، وأعاده إلى المنزل، وقد قيل يومها أنه أُعيد لأن الشائع ألاّ يقبل الرهبان في عدادهم شابًا بكرًا لعائلته. رضخ فارس وقتئذٍ، وعاد إلى البيت. بعد وفاة والدته مرتا، عاد والده فتزوّج. فقدِم الكاهن مساءً إلى المنزل ليُجري إكليل نمر و فريدة، فخدم فارس الإكليل كمرتّلٍ، وهو ابن اثنتي عشرة سنة. مهنتاه: تعلّم فارس مهنة النجارة لدى حبيب لبّس في أنطلياس، وانطلق للعمل في سوق النجّارين في بيروت. وكان كل ليلة لا يعود قبل الساعة الثامنة ليلاً، فيجزره والده على تأخّره ليليًا. تبيّن من ثمّ أن تأخُّره في معظم تلك الليالي ناتج من أنه كان يقصد الأشرفية بعد العمل ليتعلّم الموسيقى البيزنطية على متري المرّ، بروتوبسالتي (أي المرتّل الأوّل) الكرسيّ الأنطاكيّ. انتقل من سوق النجّارين إلى حقل الفندقية التي برع فيها، فعمل “عشّيًّا” في فندق فينيسيا، وكان هذا الفندق في عزّ بداياته. استمرّ في عمله هناك سنتين. قرار العمر: في أحد أيام صيف 1962، وضّب ثيابه في حقيبته، وترك عمله في الفندق المشهور، وقفل راجعًا إلى البيت. وما أن بلغ البيت حتى سلّم والده دفتر توفير في “البنك الأهليّ”، وقال له: هذا الحساب المجمّد في المصرف هو باسمكَ أنتَ، وتاريخ استحقاقه هو كذا. أرجو منك، حين بلوغ تاريخ الاستحقاق، أن تسحب المال لتوزّعه على أفراد العائلة بالتساوي. وأنا لا أريد شيئًا لأني مغادر إلى الدير. سأله والده: إلامَ تحتاج في هذه الحياة لأقدّمه إليك على ألاّ تذهب لتصير كاهنًا؟ أجاب فارس: لو ملّكتني هذه الدنيا، لن تشتهيها عيني. فدعوتي ليست هنا، بل في الدير. حالاً، إستدعى نمر أبناءه وهو حزين، وعرض المسألة عليهم لعلّ أحدًا يقدر أن يُثني ابنه البكر عن عزمه على الترهّب، ولكن عبثًا. إلى الدير: في اليوم ذاته، حمل فارس حقيبته، وتوجّه برفقة أخيه أنطون ليستقرّ في مكانٍ لم يرَه قط، ولم يكن يعرف عنه إلا العنوان “دير السيدة في بكِفتين (الكورة)”؛ حسبُه أنه يعرف رئيس الدير، الأرشمندريت يوحنا منصور (مطران اللاذقية الحاليّ)، ابن “حركة الشبيبة الأرثوذكسية” القادم من اللاذقية، والمعروف بتقواه وورعه. نزل الشقيقان إلى بيروت، إلى “موقف طرابلس”. استقلاّ “بوسطة الأحدب” التي أوصلهم إلى طرابلس. هناك، انتقلا إلى “ساحة النجمة” حيث “موقف بكفتين”. صعدا سيارة أجرةٍ لصاحبها محمد الذي طلب منه فارس أن يتوجّه بهما إلى دير بكفتين. لما بلغوا المكان، أوقف السائق السيارة أمام درج الدير، وترجّل الجميع. حين وطئت قدما فارسٍ أرض بكفتين، جثا على ركبتيه متّجهًا نحو الدير، ورفع يديه إلى العلاء، وتلا صلاةً، ورسم إشارة الصليب على وجهه. ثم نهض، وقال بصوتٍ مسموع: “أشكرك يا رب لأني نلتُ أُمنيتي الآن”. عند دخول الأخَوين إلى الدير، استقبلهما الأرشمندريت يوحنا. والدير آنذاك كان شبه خَرِبٍ، ومعظم غرفه كانت قديمة ومهدّمة، ولم يكن يقيم في الدير سوى الرئيس وأخ آخر. حين شارفت الشمس على المغيب، ترك أنطون أخاه فارسًا في الدير، وقفل راجعًا إلى نابيه ليجد في المنزل الأهل والأقارب ينتظرونه. سأله والده: “إلى أين ذهب فارس؟”. أجاب: “إلى دير بكفتين في الكورة. ولكنني أُطمئنك بأنه، نظرًا إلى حالة الدير الخَرِبة، وبما أن أخي كان يعمل في فندق فينيسيا في بيروت، فسوف لن يمضي يوم أو اثنان إلاّ وتراه عائدًا إلى البيت”. فقال أبوه: “مهما سيواجه أخوك من صعوبات، فهو لن يعود قط”. مكث فارس في دير بكفتين نحو شهرين أو ثلاثة. انتقل بعدها إلى دير البلمند ليتابع دروسه في مدرسة البلمند، فبذل كل جهده ليُنهي دروسه بتفوّق. شموسيّته: مكوثه في البلمند جعله تحت رعاية الأسقف إغناطيوس هزيم (البطريرك الحاليّ)، رئيس الدير آنذاك. رُسم شمّاسًا باسم “فيلبّس” في دير مار يعقوب في ددّه (الكورة) بوضع يد المطران الياس قربان سنة 1963. وخَدَمَ في البلمند مسؤولاً عن ماليّة الدير. في بلاد اليونان: سافر إلى جزيرة باتمُس (Patmos) في بلاد اليونان حيث أنهى دروسه الثانوية سنة 1968. ثم درس اللاهوت في جامعة تسالونيكي حيث خَدَمَ شمّاسًا في كاتدرائية القديس ديمتريوس الشهيرة. اشتُهر بصوته الشجيّ، فكان المؤمنون يرتادون تلك الكنيسة خصّيصًا لسماعه يتلو الطلبات باليونانية والعربية. خلال تلك الفترة، تعرّف على الجبل المقدّس (جبل آثوس Athos) القريب من تسالونيكي، وعلى الرهبانية فيه، وعلى أبيه الروحيّ الشيخ باييسيوس (Paissios) (+12 حزيران 1994). عودته إلى لبنان وكهنوته: عاد إلى لبنان، ورُسم كاهنًا في دير سيدة البلمند بوضع يد البطريرك الياس الرابع معوّض. اختار الاستقرار في دير مار جرجس في حماطورة (زغرتا) عام 1973 بعد أن كان خلا من الرهبان لفترة طويلة، فرمّم كنيسته وقلاّياته، وأعاد زرع أشجار الزيتون والكرمة في بساتينه القاحلة. شكّل الدير حينها مركز إشعاعٍ روحيّ جذبَ إلى نور الرب نفوسًا كثيرةً. خلال استقراره في الدير، خدم رعية مار مخايل في بلدة راس كيفا المجاورة للدير. سفره إلى اليونان من جديد: خلال حرب الكورة عام 1975، زُرعت المدافع في جوار الدير، وتحوّلت بساتينه إلى منطقة عسكريّة حتّمت على الأب فيلبّس الرحيل عن المكان، فسافر إلى تسالونيكي حيث أصبح أرشمندريتًا عام 1976، وخدم في كنيسة القديسة بربارة في المدينة، وكان مسؤولاً عن طلاب اللاهوت البلمنديين في تسالونيكي. الصليب ليس للفرجة: في النصف الثاني من السبعينات، قام بزيارة خاطفة إلى لبنان مرّ فيها بأديار الشمال، وعرّج على بلدته نابيه. صودف يومها إكليل ابنة خاله الشيخ عبّود عطاالله الذي اعتبر بدوره أن الله ساق الأب فيلبّس ليُبارك بيده إكليل ابنته.أثناء الإكليل، لاحظ الحضور أن الأرشمندريت فيلبس يضع صليبًا مذهّبًا على صدره. بعد الإكليل، بات الأرشمندريت فيلبس في منزل والده الذي طلب منه أن يريه الصليب الذي كان يضعه أثناء الخدمة الكنسيّة، فأجابه: هذا الصليب نضعه أثناء الخدمة في الكنيسة فقط، لأنه ليس للفرجة. استقراره النهائيّ في الجبل المقدّس: عام 1978، استحصل على كتاب تصريف من راعي أبرشية جبل لبنان، المطران جورج خضر، حتى تمكّن من الانضمام إلى رهبان الجبل المقدّس (آثوس)، وهناك ترهّب واتخذ اسم شفيعه القديس إسحق السريانيّ. كان استقراره في آثوس المرحلة الأخيرة من حياته. فمكث سنةً في دير ستافرونيكيتا (Stavronikita)، ثم انتقل إلى قلاّيته الخاصّة، “قلاّية القيامة”، التي أعاد بناءها بيده في منطقة كَبْسالا (Kapsala) قرب عاصمة الجبل، كارييس (Karyes). في مرحلةٍ أولى، عاش في قلاّية القيامة وحده أربع سنوات في تقشُّف شديد، وتعرّض إلى تجارب كثيرة حاولت إخراجه من قلاّيته. مرّةً، اشتدّت عليه الأفكار إلى حدّ أنه احتار في أمره، فوجد قبرًا قديمًا في تجواله في الحرش، فتوقّف أمامه وصلّى، وذكَر موته، وقال في نفسه: “هنا أموت”، وللحال اختفت الأفكار. بناءً على التقليد الرهبانيّ الآثوسيّ، القاضي بأن يحفر الراهب قبره بيده لكي لا يبارحه ذِكْرُ الموت ما دام حيًا، حفر الأب إسحق حفرةً بطول قامته في تراب الحديقة المجاورة لقلاّيته لتكون قبره. وكان كل يوم يبخّر القبر الذي ضمّ في النهاية رفاته بعد أن رقد بالرب مساء الخميس 16 تموز 1998. قطعة صغيرة في السماء: في أوائل الثمانينات، قرّر نمر عطاالله (أبو فارس) أن يوزّع أملاكه على أولاده. جمع أولاده الموجودين بقربه، وأعلمهم برغبته تلك، على أن يتولّى أخوهم الأكبر (أبونا إسحق) عملية التوزيع. حينها بعث الإخوة برسالةٍ إلى الأب إسحق الذي كان في جبل آثوس يعْلِمونه برغبة والدهم. بعد فترة، استلموا منه رسالة يسألهم فيها “إن كنتم تحضّرون لأنفسكم قطعة صغيرة في السماء بدل اهتمامكم بالأشياء المادية التي هي مُلْك هذا العالم؟”. وحيث إنه لم يأتِ، أخذ أبو فارس على عاتقه تقسيم الحصص بالتساوي على أولاده جميعًا، دون أن يستثني الأب إسحق. بعد أشهر، قدِم أبونا إسحق إلى لبنان. وعند زيارته منزل والده، أخبره أبو فارس عن نتيجة قراره في موضوع توزيع الأملاك على أولاده، وعن الحصص التي جعلها من نصيبه. شكر أبونا إسحق والده على عاطفته ومحبته، وطلب منه أن يقسّم حصّته بالتساوي ويوزّعها على إخوته، مذكّرًا إياه بأنه وهب نفسه للرب واختار حياة زهد وصلاة وصوم، على رجاء أن يرث ولو قطعة صغيرة في السماء. وطلب من إخوته أن يبذلوا بدورهم قصارى جهدهم ليفعلوا مثله. شهرته: أقام في جبل آثوس من سنة 1978 حتى 1998، وعُرف بشدّة نسكه وجهاده الروحيّ، فاشتُهر أبًا روحيًا في كل بلاد اليونان، وداعيةً إلى ممارسة سرّ الاعتراف، وكان حازمًا إزاء نفسه وإزاء أبنائه الروحيين. وكوْنَه الراهب الأنطاكيّ الوحيد في تلك الديار جعل منه “باب أنطاكيا”، فكان اللبنانيون والعرب يحجّون إلى قلايته من بطريركيات أنطاكيا وأورشليم والإسكندرية، وحتى من القارّة الجديدة. إلا أن هذا لم يمنعه من القيام بزيارات قصيرة إلى الأردن ومصر، فضلاً عن لبنان وسوريا. الاستعداد لتلك الساعة: في أوائل صيف 1998، ألمّت بالأب إسحق وعكة صحيّة قوية ألزمته ترك قلايته في جبل آثوس (التي قلّما غادرها) والذهاب إلى تسالونيكي للمعالجة في المستشفى. عند بلوغ عائلته خبر مرضه، قرّر أخوه أنطون، وجورج (ابن أخيه يوسف)، والأب ملحم الحوراني (صهر أخيه أنطون) أن يسافروا إلى اليونان للاطمئنان عن صحته. وصل الثلاثة إلى تسالونيكي، وتوجّهوا إلى المستشفى المعيّن. كان الدخول إلى غرفة الأب إسحق ممنوعًا، ولكن إدارة المستشفى علمت بأمر الزائرين واستقبلتهم. أوّل مَن دخل غرفة الأب إسحق كان أخوه أنطون. استقبله الأب إسحق مبتسمًا وبادره بالقول: “ما الذي أتى بك إلى هنا يا أخي؟ هل قيل لك بأن أخاك مريض ومن المستحسن أن تزوره؟ آه يا أخي أنطون، أنا أفكّر بك. أنا جاهدت كثيرًا في الصلاة والصوم للقاء الرب، وأشعر بأني حاضر ومستعدّ لهذه الساعة المباركة. همّي يا أخي هو أنت الذي تقضي كل وقتك في العمل. هل تعمل لتُعِدّ نفسك لتلك الساعة؟ هل أنت حاضر لتقف أمام الرب؟”. لا خوف من تلك الساعة: من جملة الأمور التي تركت في داخلي أثرًا عميقًا حين كان ابنه الروحي، الأب إفثيميوس (Efthimios)، يتلو أحد الأفاشين فوق رأس الأب إسحق. فبينما كان يتلو الصلاة، وردت فيها كلمة “موت” مرّات عدّة، فتأثّر كثيرًا وتلعثم، ولم يعد يستطيع المتابعة. حينذاك انفعل أبونا إسحق، وطلب منه متابعة الصلاة بجرأة، وقال: “ممّ الخوف؟ إنني جاهدتُ كثيرًا من أجل تلك الساعة، وأنا جاهز ومستعدّ”. شعبيّته: من المشاهد المؤثّرة أن الأب إسحق الذي استقرّ في الغربة بعيدًا عن عائلته وأهله لم يكن غريبًا في بلاد الغربة تلك، بل كانت له هناك أيضًا عائلة أُخرى، عائلة روحيّة كبيرة تحبّه حبًا عظيمًا. يكفي مشاهدة الجموع التي كانت تتجمّع في صالة الانتظار في المستشفى، طالبةً من الممرّضين السماح لهم بالدخول لثوانٍ معدودات للتبرّك من الأب الشيخ (Yeronda) إسحق. فكان كل واحد ينتظر دوره ليدخل الغرفة بسرعة البرق، وبخشوع يأخذ البركة من الأب الشيخ (بتقبيل يده ورجله)، ثم يخرج بسرعة مفسحًا في المجال للزائر التالي الذي ينتظر. كذلك، خلال الفترة التي قضاها زوّاره الثلاثة في تسالونيكي، كان الأب إسحق يكلّف كل يومٍ واحدًا من أبنائه الروحيين اصطحاب هؤلاء الزوار إلى أديارٍ وأماكن مقدّسة في طول البلاد وعرضها، ليطمئن هو إلى أنهم يقضون النهار كلّه في جولاتٍ مفيدةٍ بعيدًا عن تسالونيكي، وعن المستشفى. وكان هؤلاء الثلاثة يفاجأون في كل زياراتهم بأن يجدوا في أي دير أو منزلٍ يدخلونه صورةً أو أكثر للأب إسحق المعروف عند مسيحيي تلك البلاد باسم ” Yeronda “. آثاره: ترجم كتبًا روحية مهمّة، أشهرها: -القديس إسحق السرياني، نسكيّات، منشورات النور، 1983 (أعاد دير مار مخايل في بقعاتا طبعه منقَّحًا سنة 1998). -القديس يوحنا السينائي، سلَّم السماء، دير سانت كاترين بسيناء، القاهرة، طبعة 1، 1985 (طبعة 2، 1998). -كيف نحيا مع الله، مختارات إفِريِتينوس، الجزء الرابع، منشورات التراث الآبائي، 1991. -كيف نحيا مع الله، مختارات إفِريِتينوس، الجزء الثالث، منشورات التراث الآبائي، 1991. -رسائل الشيخ المغبوط الذكر الراهب باييسيوس الآثوسي، منشورات دير الشفيعة الحارّة، بدبّا، الكورة، 2000. -الراهب باييسيوس الآثوسي، المغبوط جاورجيوس (الحاج جرجي الآثوسي)، منشورات دير الشفيعة الحارّة، بدبّا، الكورة، 1997. -الراهب باييسيوس الآثوسي، سيرة الأب تيخُن الآثوسي، الأردن، ؟؟198. -الراهب جيراسيموس الآثوسيّ، خدمة أبينا البارّ المتوشّح بالله مارون، منشورات مطرانية الروم الأرثوذكس، اللاذقية، 1993. صلاته فلتكن معنا عن أخيه أنطون تدوين الأب ملحم، صهر أخيه أنطون |
||||
24 - 06 - 2016, 06:44 PM | رقم المشاركة : ( 13286 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الخميس العظيم
يدخلنا يوم الخميس العظيم في السر الفصحي ، إذ يحيي ويحضر أمامنا القسم الأول من هذا السر والذي جرى في العلّية. نقرأ في صلاة السحر، بعد المزامير والطروبارية، الإنجيل (لو1:22- 39) الذي يسرد الأحداث التي حصلت ابتداء من حديث يهوذا مع اليهود إلى الوقت الذي ترك فيه يسوع العلّية ليذهب إلى جبل الزيتون. ثم يلي ذلك ترتيل القانون. نعود في الساعة الأولى إلى قراءة سفر ارميا (18:11- 15:12)، حيث نسمع: (أنا خروف بريء من الشر مسوق إلى الذبح… رعاة كثيرون أفسدوا كرمي ودنّسوا نصيبي… فأرحمهم وأسكنهم كلاً في مورثه وكلاً في أرضه). ثم تقام خدمة الغروب حيث نتابع قراءة سفر الخروج (10:19- 19): يهبط الله على جبل سيناء وسط النار والدخان، لكنه لا يعطي وصاياه بعد. وكان موسى قد أوصى الشعب: (كونوا مستعدين لليوم الثالث). وكان أفراد الشعب قد غسلوا ثيابهم وتطهروا. كل هذه الأمور هي بمثابة صور عن قيامة المسيح في اليوم الثالث، وعن ظهوره للبشر بعد الفصح، وعن الطهارة التي علينا أن نتحلى بها. في اقترابنا من السر الفصحي، نتابع أيضاً قراءة سفر أيوب (1:38- 23، 1:42- 5). يكلم الله أيوب ويسأله بعض الأسئلة، قائلاً: (إني أسألك فأخبرني). ثم يتكلم أيوب بدوره ويقول لله العبارة نفسها: (فأتكلم أسألك فأخبرني). هذا هو نموذج الحوار العجيب الذي يجب أن يتم بين الله والإنسان. لقد وصل أيوب إلى نهاية مصاعبه وبقي أميناً. فيقول للرب ما تصبو كل نفس لقوله (وما يقوله العديد من النفوس المحبة المصلّية): (كنت قد سمعتك سمع الأذن، أمّا الآن فعيني قد رأتك). نقرأ أخيراً بعض الآيات من بداية سفر أشعياء النبي (4:1- 11)، حيث يوبّخ الله إسرائيل، لأنه (أمة خاطئة، شعب ثقيل الإثم). ويعلن أنه ملّ من الذبائح المقدّمة له: (أتخمت من محرقات كباش وشحم مسمّنات وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أُسرّ). وها أن ذبيحة أفضل ستقدم له الآن. نقرأ في القداس مقطعاً من الرسالة الأولى إلى الكورنثيين (23:11- 32) حيث يتكلم بولس الرسول عن تأسيس سر الشكر: (… إن الرب يسوع، في الليلة التي أُسلم فيها، أخذ خبزاً وشكر…). أمّا التلاوة الإنجيلية فهي مجموعة نصوص طويلة (متى2:26- 20، يو 3:13- 17، متى21:26- 39، لو43:22- 44، متى40:26- 2:27)، تتحدث عن مجمع الكهنة، دهن رأس يسوع بالطيب في بيت عنيا، تهيئة الفصح، الغسل، تأسيس الإفخارستيا، الصعود إلى جثسماني، قبلة يهوذا، توقيف يسوع واستجوابه عند رئيس الكهنة، نكران بطرس، وأخيراً تسليم يسوع إلى الوالي الروماني. وتبتدأ البركة الختامية هكذا: (يا من بصلاحك علّمتنا التواضع بغسلك أرجل تلاميذك…). وفي بعض الكاتدرائيات يحيي الأسقف، بعد القداس، خدمة غسل الأرجل، حيث يقوم هو بدور المسيح واثنا عشر كاهناً بدور الرسل. إن خدمة أناجيل الآلام الاثني عشر التي يعتبرها الشعب من خصائص الخميس العظيم، هي بالفعل تتعلّق بيوم الجمعة العظيم، لذلك سنتحدث عنها فيما بعد. توجز إحدى قطع صلاة السحر المسماة بـ (البيت) OIKOS بدقة معنى طقوس الخميس العظيم. تقول الترنيمة: (لنتقدم جميعنا بخوف إلى المائدة السرّية، ونقتبل الخبز المقدس بنفوس طاهرة، ولنمكث مع السيّد، لكي نعاين كيف يغسل أقدام التلاميذ وينشّفها بالمنديل، فنقتدي به. ولنخضع بعضنا لبعض، ونغسل بعضنا أقدام بعض، لأن المسيح نفسه هكذا أمر تلاميذه وصار قدوة لهم. إلاّ أن يهوذا، ذاك العبد الغاش الدافع، أبى أن يسمع وأمسى عادم التقويم). يبرز هذا النص ثلاثة أوجه للخميس العظيم: الغسل، مائدة الرب، وخيانة يهوذا. فلنتأمل بكل من هذه الأوجه على حدة. لكن قبل أن نرى ما يحدث في العلّية، فلنلتفت إلى العلّية نفسها. أرسل يسوع تلاميذه ليقولوا لصاحب البيت: (عندك أصنع الفصح (متى18:26) … فأين هو المكان الذي يمكنني أن آكل فيه الفصح مع تلاميذي ؟ (مر14:14)). إن هذه الجملة موجّهة إلى كل منّا. يرغب يسوع، في كل عيد فصح، أن يأتي بصورة خاصة إلينا و (يصنع الفصح) روحياً في أنفسنا. وخارج زمن الفصح، وفي كل مرة يوزّع الرب يسوع علينا، من مائدته الخاصة، الخبز الذي هو شركة جسده، والخمر الذي هو شركة دمه، فإنه يقيم الفصح في علّيتنا الداخلية، في نفس الوقت الذي يتم فيه السر الخارجي. ولكن هذا ليس بكل شيء. فعلاوة على عيد الفصح وعلاوة على سر الشكر، بإمكاننا أن نقيم كل يوم في علّية أنفسنا فصحاً غير منظور وفي الصمت. يمكننا أن نتقبل كلما شئنا، الرب يسوع بالإيمان والمحبة، وأن نجعل منه، بالروح، غذاءنا. ويقول لنا يسوع عن هذه المائدة الداخلية الروحية: (اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم…) (لو15:22). لكن أين هي العلّية التي سنستقبله فيها ؟ أكل شيء فيها جاهز؟ لا توجد في نفسي غرفة مؤهلة بنظافتها وزينتها لزيارة كهذه . على كلٍ لن يكفي أن أهيئ زاوية في نفسي متجاهلاً الفوضى التي تعم الأجزاء الباقية في داخلي. إذ لا بد من أن أغسل نفسي كلها وأن أقوم بتنظيفها. ليس لدي القوة الذاتية للقيام بهذا العمل، لذا، تعال يا سيّد وهيّئ أنت لنفسك فيَّ علّية. لا تمرّ بي مرور الكرام بل ابق واسكن في نفسي باستمرار، لا بل تملكها. ها هي المفاتيح التي تفتح كل الأبواب. وهاأنذا الآن ضيف عليك. وإذا أردت يا رب أن تأتي إليّ مع تلاميذك، فهذا يعني أنه يجب أن أستقبلك في داخلي بشكل (جماعي). لا يمكنني أن أفصلك عن أعضاء جسدك السرّي. لذا عندما أستقبلك، أستقبل أيضاً بالروح كل جماعة تلاميذك، كل الكنيسة. على نفسي أن تنفتح بعطف وتتحد بصلاة واحدة مع كل الذين يؤمنون بك، وكل الذين يحبونك، وكل الذين يتضرعون إليك. فلأصبح إذاً واحداً معهم جميعاً، الذين يعيشون فيك والذين ماتوا فيك، مع والدتك القديسة ورسلك وشهدائك وجميع قديسيك، في الأمس واليوم وغداً. أدخل إليّ، يا رب، مع تلاميذك. تقترب مني، يا رب، لتغسل رجليّ، دون أن تسمح لي بالاحتجاج على تواضعك الفائق الذي يجعلك تركع أمامي وتغسلني. تقول لي: (إن كنتُ لا أغسلك فليس لك معي نصيب) (يو8:13). بقوله هذا يشير إلى أمرين. أولاً أنه يجب علينا أن ندعه يطهرنا من خطايانا، من غبار الطريق ومن اللطخات الكبيرة: (يا سيّد ليس رجليّ فقط بل أيضاً يديّ ورأسي) (يو9:13) كما قال بطرس. ثم إن اشتراكنا بالمسيح هو اشتراك بتواضعه وتنازله، اشتراك بالإله الإنسان الذي يغسل أقدام البشر. سيكون لي نصيب مع مسيح الغسل إذا تركته يغسل رجليّ وإذا غسلت أنا أقدام الآخرين كما فعل هو: (فإن كنت وأنا السيّد والمعلّم قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض) (يو14:13). ماذا يعني أن نغسل أرجل البشر؟ هذا يعني أنه يجب، قبل صب الماء على أرجلهم، أن نتخذ الموقف الجسدي الوحيد الذي يسمح لنا بذلك، في اتضاع تام، أي يجب أن نكون على مستواهم وأن نركع أمامهم. باختصار يجب أن نتضع. نجد في هذا الموقف إشارة ذات أهمية فائقة بالنسبة لحياتنا الروحية: يمكننا أن نذهب نحو الله، أمّا بالصعود وأمّا بالنزول، الارتفاع نحوه أو الاتضاع. في بعض الأحيان نفقد، إذا جاز التعبير، أجنحتنا، وتمتد الصحراء إلينا، ولا يسعنا أن نرتفع إلى الله. في هذه الأوقات حيث لا نستطيع أن نجد الله أعلى منّا، وحيث لم نعد نجده ربما حتى فينا، يمكننا أن نجده إذا نزلنا إلى ما هو أسفل منّا. يمكننا أن نهتم بضيق أو خطيئة يبدوان في الظاهر (أَفْظَعْ) من خطايانا وضيقاتنا، (أقول بالظاهر لأنه إذا ميّزنا بوضوح نعرف أن خطايانا هي (أفظع) ما يكون)، أو أن نهتم بآفة جسدية لم نتعرّض لها. في مساعدتنا هؤلاء نجد الله في حركة نزولنا هذه. غسل أرجل الناس يعني أن نعزّي كل حزين، ونساعد كل متألم. ولكنه يعني أيضاً السعي لجعل الخاطئ يبتعد عن خطيئته. إن تطبيق عملية (غسل الأقدام) على الخاطئ يتطلب جهداً خاصاً وأسلوباً دقيقاً للغاية، إذ يجب الكف عن الملامة والتأنيب وابدأ النصائح والمبادئ العامة. إن لهجة التعالي التي يمكن استعمالها في بعض الأحيان لا مجال لها في مثل هذه الحالة. يجب أن نتخذ تجاه الخاطئ موقف الخدمة والتواضع. ويجب أن يؤثر هذا التواضع وهذه الخدمة عليه بشكل يدفعانه معه، بدون أي جدل، خارج خطيئته. هذه هي الاستنتاجات العميقة والصعبة التي يوصلنا إليها المقطع الإنجيلي المتعلق بغسل الأرجل. يكمن سر العلّية الرئيسي في سر الشكر، حيث يعطي الرب يسوع، الحاضر حقاً كموزِّع وموزَّع، ذاته لنا في الإفخارستيا . جميع المؤمنين الأرثوذكسيين يعتقدون بأننا، في السر، نحصل على خبز الحياة، أعني جسد المخلص ودمه الكريمين: لذا لن نتوسّع، هنا، في هذه الناحية من الموضوع، لكننا سنتطرق باختصار على نواحي أخرى، ربما كانت أقل وضوحاً. فالإفخارستيا قبل أن تكون حضوراً للمسيح فينا، هي ذبيحة المسيح من أجلنا . يجدر بنا أن نتذكر، في الخميس العظيم، بصورة خاصة، الصلة التي أرادها السيد بين عشاء العلّية والفصح اليهودي ، وبين هذا العشاء والآلام . كل إفخارستيا هي عشاء تقدمة وذبيحة. وفي كل مرة نتناول فيها جسد المسيح المذبوح ودمه المهراق، فإنا نشترك بآلامه، نشاركه ذبيحته. لذلك يجب علينا أن نذبح كياننا بالذات ونقدمه مع رغباتنا الأنانية وإرادتنا، علينا أن ندع سكّين الذابح ينغرس عميقاً في قلبنا. كل مناولة ذبح روحي. لكن يجب ألاّ ننسى أن مفهوم الذبح لا يشمل كل معاني الذبيحة: إن قبول الله للضحيّة هو جزء لا يتجزأ من كل ذبيحة. يشكل العشاء في العلّية وكذلك خدمنا الإفخارستية ليس فقط سر آلام السيّد لكن سر تمجيده واستجابة الآب الظاهرة في القيامة والصعود أيضاً . إن إفخارستياتنا المقامة على الأرض تجعلنا في صلة مع الإفخارستيا الأبدية السماوية . توجد ناحية أخرى من سر الشكر لا يتوقف عندها المسيحيون بما فيه الكفاية، ألا هي أنهم يتناولون المسيح الكلي، أي أنهم يشتركون ليس فقط بالرأس بل بكل أعضاء الجسد السرّي. باشتراكنا بجسد ودم المسيح، نشترك مع كل الناس بقدر ما يشتركون، بالطبيعة والنعمة، بالإله المتأنس . لأنه يدمجنا بشخص يسوع، يدمجنا سر الشكر، أيضاً، في الكنيسة، بكل إخوتنا وأخواتنا. ثم لا بد من التذكير بما قلناه بشأن علّية نفسنا، إذ، يوجد، علاوة على الفصح المنظور والذبيحة والمناولة الأسرارية، فصح غير منظور، ذبيحة ومناولة روحيتان يمكننا أن نقدمهما ونتقبلهما في خفاء نفوسنا. وبإمكان هذه الإفخارستيا الداخلية التي نحن خدامها والمستفيدون منها في آن، أن تجني لنا ثماراً كثيرة. يمكن أن نغتذي بالروح من الخبز الحي النازل من السماء وأن نأكل جسد السيد ودمه الكريمين. يقول لنا كاهننا الأبدي، يسوع المسيح، في كل لحظة، كما يقول الكاهن في قداديسنا الأرضية: (بخوف الله وإيمان ومحبة، تقدموا) . يدعونا يوم الخميس العظيم لتأمل خيانة يهوذا. إن هذه الخيانة كانت قد تمت عندما اتفق يهوذا مع الكهنة اليهود على أن يسلّمهم السيّد، لكنها ظهرت بصورة أشد فظاعة في العلّية، أثناء العشاء الأخير: (الذي يأكل معي الخبز رفع عليّ عقبه… الحق الحق أقول لكم إن واحداً منكم سيسلمني… هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه. فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا الاسخريوطي، فبعد اللقمة دخله الشيطان) (يو18:13، 21، 26، 27). يقبل يهوذا، وقد دخلت الخيانة قلبه، اللقمة المقدّمة من يسوع ! إننا، لا شك، نمقت عمله هذا، لأنه دنّس مائدة الرب. لئن كم من مرة جلسنا نحن أيضاً إلى هذه المائدة بدون أن نطهر قلبنا كما يليق ؟ كم من مرة سقطنا في الخطيئة بملء إرادتنا وبعد اشتركنا في عشاء الرب ؟ خان يهوذا سيّده مرة واحدة، نحن نخونه باستمرار. قال يسوع ليهوذا: (ما يجب أن تعمله، فاعمله بسرعة) (يو27:13). فخرج يهوذا ليتمم عمله، و (كان ليلاً) (يو30:13). كان الظلام يعمّ كل مكان خارج العلّية وفي قلب الخائن. يشتمل كلام يسوع هذا، داعياً يهوذا للخروج لإتمام جرمه، على عمق ورحمة أوسع بكثير مما يبدو لأول وهلة. يقول لنا الإنجيلي الرابع أن الرسل اعتقدوا أن يسوع كان قد كلّف يهوذا بشراء بعض الأشياء، أو بإعطاء بعض النقود للفقراء لكي يقيموا العيد. وكان هذا الاعتقاد صحيحاً بمعنى لم يتوقعه الرسل، إذ أرسل يسوع يهوذا لشراء حمل الله الفصحي بثلاثين من الفضة، لأنه، بعمله هذا – أي بتسليمه سيّده – أعطى يهوذا العالم ضحية الفصح المزمعة أن ترفع كل خطيئة. إن الكرم الذي أظهره يسوع في عمله الفدائي يفوق ويغمر كل الخيانات. فلنختصر معنى يوم الخميس العظيم في ترتيلة نأخذها من خدمة هذا النهار الليتورجية وتعاد في كل مرة أحد المؤمنين يتناول جسد المسيح ودمه الكريمين: (اقبلني اليوم شريكاً لعشائك السرّي، يا ابن الله، لأني لست أقول سرك لأعدائك ولا أعطيك قبلة غاشة مثل يهوذا، لكني كاللص أعترف لك هاتفاً: أذكرني يا رب متى أتيت في ملكوتك). الاب ليف جيللة |
||||
24 - 06 - 2016, 06:45 PM | رقم المشاركة : ( 13287 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
مثلما يخرج البرق من المشارق الاثنين العظيم
يوجد فارق بيِّن بين (جو) أحد الشعانين و (جو) الاثنين العظيم المقدس. فبينما كان أحد الشعانين يتكلم عن مجيء الملك، يعلن الاثنين العظيم عن عودة ابن الإنسان في آخر الأزمنة. وبينما كان دخول ملكنا إلى أورشليم – ودخوله إلى نفوسنا إذا أردنا – مظهراً لتواضعه ولطفه، فإن ظهوره الثاني الذي تتأمله الكنيسة في يوم الاثنين العظيم سيتسم بطابع الكارثة الفجائية العنيفة. يريد يسوع، قبل موته، أن ينبّه الناس إلى الحدث الخطير. تنتقل الكنيسة إلى هذا المستوى الجديد في صلاة غروب الاثنين العظيم التي تقام مساء أحد الشعانين، إذ تقول: (لنبادرن أيها المؤمنون منتقلين كمن عيد إلهي إلى مثله، من سعف وأغصان إلى تكملة آلام المسيح الموقرة الخلاصية). وتلي صلاة الغروب مباشرة خدمة (الختن) وهي صلاة السَحَر خاصة بهذا اليوم، نرتل فيها، بعد مزامير السَحَر وهلليلويا، طروبارية تبدأ هكذا: (ها هوذا الختن يأتي في نصف الليل. فطوبى للعبد الذي يجده مستيقظاً، أمّا الذي يجده متغافلاً فهو غير مستحق. فانظري إذاً، يا نفسي، ألاّ تستغرقي في النوم…). وتتكلم الكاثسما عن آلام المسيح: (إن هذا اليوم الحاضر يشرق للعالم الآلام الموقرة كأنوار مخلّصة… إن هذا اليوم الحاضر يقّدم ببهاء مبادئ آلام الرب). ثم نستمع إلى تلاوة إنجيلية (متى18:21- 43) يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء. يسرد الجزء الأول كيف لعن الرب التينة وكيف يبست هذه. أمّا التفسير الروحي لهذا المقطع فهو واضح: كانت التينة تحمل الأوراق بدون ثمر، وهكذا يُلعن الإنسان الذي يتظاهر بالخصب والعمل بينما يبقى بالفعل عميقاً. يتكلم القسم الثاني من الإنجيل عمّا دار بين يسوع والكهنة في الهيكل: (- بأي سلطان تفعل هذا…؟ – وأنا أيضاً أسألكم عن كلمة واحدة، فإن قلتموها لي قلت لكم أنا أيضاً بأي سلطان أفعل هذا: معمودية يوحنا من أين كانت، أمن السماء أم من الناس ؟). وسكت الكهنة خوفاً من الخزي الذي يمكن أن يلحق بهم من جرّاء جواب إيجابي أو سلبي. أمّا القسم الثالث من الإنجيل فيحتوي على مثلين: مثل الابنين اللذين أرسلهما والدهما للعمل في الكرم، فرفض الأول ثم تاب وذهب، وقبل الآخر ولكنه لم يذهب، وينتهي بالقول: (وهكذا العشارون والزواني سيسبقونكم إلى ملكوت الله). ثم مَثَل عملة الكرم الذين يقتلون المرسلين من قبل صاحب الكرم وحتى ابنه. يقول الإنجيل أن عقابهم سيكون رهيباً، لكنه يزيد أن الحجر الذي رذله البناءون سيصبح حجر الزاوية في البناء. تشير أودية القانون مراراً إلى يوسف الذي أبغضه إخوته وباعوه، ثم حُبس: إن يوسف هو صورة للمسيح المتألم. تقرأ في الخدم (السادسة وصلاة الغروب) التي تسبق قداس (القدسات السابق تقديسها) ثلاثة نبوءات. نسمع أولاً الآيات العشرين الأولى من سفر حزقيال النبي المتكلمة عن رؤيته الكائنات المجنحة الأربعة التي يحمل كل منها أربعة وجوه وتنطلق في هباب الروح. منذ القديم اعتبرت الكنيسة أن هذه الكائنات تمثل الإنجيليين الأربعة. ويبدو أنه تم اختيار هذا المقطع ليقرأ في هذا اليوم مع أنه لا يمت بصلة إلى الاثنين العظيم ولا إلى الأسبوع العظيم كله ليكون بداية لقراءة نبوءة حزقيال التي سوف تتابع خلال الأسبوع كله. نستمع فيما بعد إلى قراءة الإصحاح الأول من سفر الخروج الذي يتكلم عن آلام الشعب اليهودي في مصر. ومن الطبيعي أن يكون قد تم اختيار هذا المقطع لأن سفر الخروج يحكي قصة خلاص شعب إسرائيل من مصر الذي يرمز إلى (الفصح) المسيحي. ثم نسمع قراءة من بداية سفر أيوب (1:1- 12). إن آلام أيوب تجعل منه صورة أخرى عن يسوع المسيح. أمّا الإنجيل الذي يتلى في القداس (متى3:24- 35) فيعود إلى موضوع مجيء المسيح الثاني الرهيب، المرفق بالكوارث والظلمة والحروب و(ضيق شديد لم يحصل مثله منذ إنشاء العالم حتى الآن ولن يكون). وتلخّص إحدى آيات هذه التلاوة كل تعليم الاثنين العظيم: (مثلما أن البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب كذلك يكون مجيء ابن الإنسان). الاب ليف جيللة |
||||
24 - 06 - 2016, 06:46 PM | رقم المشاركة : ( 13288 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
لذلك كونوا مستعدين الثلاثاء العظيم
يتابع يوم الثلاثاء العظيم التأمل في موضوع عودة المسيح والدينونة التي سيمارسها على البشر. لكن يوجد بعض الفرق بين الطريقة التي بُحث بها هذا الموضوع يوم الاثنين والطريقة التي نجدها اليوم الثلاثاء. كان التشديد في الأمس على عنصري المفاجأة والرعب الموضوعيين اللذين يرافقان المجيء الثاني. أمّا اليوم فتشدد النصوص على ضرورة اليقظة، التي يفرضها علينا هذا المجيء والدينونة، وضرورة التهيئة الداخلية لهما. تبدأ خدمة الثلاثاء العظيم مساء الاثنين المقدس. فتقام خدمة (الختن) بعد صلاة النوم الكبرى، وهي مثيلة لصلاة مساء أحد الشعانين، وهذه الخدمة هي بمثابة صلاة سحر يوم الثلاثاء. أمّا اليوم فنرتل: (لنوُدَّ الختن يا إخوة ونحبّه ونهيئ مصابيحنا… مثل عذارى الرب العاقلات). ونقرأ مقطعاً إنجيلياً طويلاً (متى 15:22- 39:23) حيث يوبخ يسوع الكهنة والفريسيين والكتبة الذين يطرحون عليه أسئلة مثيرة والذين لا يكتفون بعدم دخولهم إلى الملكوت، بل يمنعون غيرهم من ولوجه. (الويل لكم، أيها المراؤون… الويل لكم، أيها القادة العميان). ثم يتوجّه يسوع بحزن بالكلام إلى أورشليم قائلاً: (يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها… هوذا بيتكم يترك لكم خراباً). ونتابع في قداس البروجيازماني القراءات النبوية التي بدأناها في الأمس. فتكتمل رؤية حزقيال (21:1- 1:2) وتنتهي بإعلان مجد الرب وسماع الصوت القائل: (قم يا ابن آدم قم على قدميك فأتكلم معك). يقول لنا الله هذه الكلمة في كل لحظة. أترانا نريد حقاً أن نسمع ما يبتغي نقله إلينا ؟ أنسمعه حقاً ؟ كم نمضي يومياً من الوقت في الحديث تلقائياً معه ؟ أسيكون الأسبوع العظيم هذا زمن سماع لصوته ؟ ونتابع أيضاً قراءة سفر الخروج (5:2- 10)، حيث نسمع كيف سُلّم موسى بعد مولده لمياه النهر وكيف نجا على يد ابنة الفرعون. وهكذا نجا الشعب اليهودي كله فيما بعد من مياه البحر الأحمر. وهكذا ننجو نحن أيضاً من المياه الواسعة للخطيئة والموت. في التلاوة الثالثة من سفر أيوب (12:1- 22)، نرى الضيقات تنهمر عليه وكيف يصبر عليها: (الرب أعطى والرب أخذ. فليكن اسم الرب مباركاً). يبدأ إنجيل القداس (متى 36:24- 2:26) بالتذكير أن ابن الإنسان سيأتي بطريقة مفاجئة غير منتظرة، ثم يوسَّع الموضوع نفسه بواسطة ثلاثة أمثال: مَثَل العبد الرديء الذي يفاجئه سيّده (في يوم لا يظنه وساعة لا يعلمها)، ثانياً مَثَل العذارى العاقلات والعذارى الجاهلات، وأخيراً مثل العبيد الذين يسألهم معلّمهم عن مصير الوزنات التي أعطاهم. وتنتهي التلاوة بكلام يسوع عن الدينونة حيث سيكافئ من خدمه في شخص المرضى والفقراء والسجناء والغرباء ويدين الذين لم يتعرّفوا عليه في هؤلاء. لقد سبق لنا أن تأملنا في أحد الدينونة في موضوع سكنى المسيح العجيبة في أعضاء جسده السرّي. فلن نعيد الكرة هنا بل نكتفي بالتأمل بمثل العذارى العشر ومَثَل الوزنات. فلنبدأ بالمثل الأخير. توجد فيه نقطتان أساسيتان: فالمصباح الذي يجب أن نصطحبه لملاقاة يسوع لا يضيء إلاّ إذا كان مملوءاً بالزيت. والزيت يرمز إلى المحبة وبدون شخصياً وأن (يُشترى)، أي يقتنى نتيجة جهد شخصي مضني. لشفاعة القديسين والكنيسة قدرة كبيرة، لكن لا تستطيع الكنيسة ولا القديسون أن يبدلوا (زيتهم) بالزيت الذي يجب أن نشتريه من الروح القدس، مصدر كل مسحة وكل محبة. (سندان على محبتنا) (القديس يوحنا دي لاكروا)، لكن المحبة لا (تُعار) ولا تستأجر، وعلى كل واحد أن يتحمل مسؤولياته بهذا الصدد، أحبّ أو لم يحب. وإذا اختار ألاّ يحب فلن يتمكن من ملاقاة الختن لأنه سيفتقر إلى الزيت ولن يجد الوقت الكافي للإتيان به. ما ينتهي إليه السيّد في نهاية مثل العذارى العشر يصلح أيضاً لتتويج صلاة يوم الثلاثاء العظيم كلها: (فاسهروا إذاً لأنكم لا تعلمون اليوم ولا الساعة التي يأتي فيها ابن البشر) (لو40:12). أمّا مثل الوزنات فيمكننا أن نستنتج منه أن الوزنات التي يسلّمها السيّد لعبيده تعني المواهب الطبيعية التي يمنحها الله لمخلوقاته: الصحة، الذكاء، الغنى الخ… كلها وُجدت من الله ولأجله، ولسنا سوى قيّمين عليها، مكلفين بإدارة ملك الله. ولكن الوزنات تعني أيضاً وبصورة خاصة المواهب الروحية وهبة الحياة الإلهية للبشر والنعم التي يمنحنا إياها الله في كل حين. لا يسعنا إلاّ أن نعترف أن هذا المثل مخيف، لأنه من منّا يستطيع أن يقول بأنه حافظ كلياً على رأسمال المواهب الطبيعية والروحية الذي أعطاه إياه الله ؟ ألم نبذر بهذه النعم ؟ ألم ندنّسها ؟ ومن منّا يتجاسر على القول أنه أثمر الوزنة التي أُعطيت له وأنها أعطت ضعفين أو ثلاثة أضعاف ؟ وهنا يحمل المثل إلينا رسالة صلابة إلهية مصحوبة بلطف ورأفة إلهيتين، وليس لنا الحق في أن نفاضل بينهما. تؤكد هذه الازدواجية ثلاث جمل من النص، كما أنها تثبّت فينا المخافة والدالة الوالديتين. فلنسمع أولاً كلام العبد الرديء: (يا رب علمت أنك رجل عنيف تحصد من حيث لا تزرع… فخفت). ويؤنبه السيّد على كلامه هذا قائلاً: (أيها العبد الشرير الكسول قد علمت أني أحصد من حيث لا أزرع…). يكمن خطأ هذا العبد في كونه يحمل صورة مغلوطة، قاسية عن السيّد أكثر من كونه لم ينمِّ الوزنة. وتوحي هذه الجملة أنه، لو تكلم العبد بطريقة أخرى، لو قال: (يا رب إنك سيّد رحوم، وحدك تعرف أن تحصد حيث لم أستطع أن أزرع… لذلك، رغم خطيئتي الكبيرة، آتي إليك بثقة ودالة)، لو تلكم هكذا لكان قد عفى عنه سيّده. أمّا الجملة الثانية المهمة فهي: (كل من له يُعطى فيزاد، ومن ليس له يؤخذ منه ما يتوهم أنه له). يجد كثيرون أن هذه الجملة قاسية للغاية وصعبة الفهم، لكن معناها سهل: إن كل خطيئة تستدعي خطيئة أخرى، وكل عمل صالح يستدعي عملاً صالحاً. إذا أسلمت ذاتك للشر مرة، ستضعف، وبالتالي تقع المرة تلو الأخرى… وتجد نفسك على منحدر يصعب عليك التوقف عن الانحدار عليه، وهكذا تفقد القليل الذي كان بحوزتك. لكن كل جهد من أجل الله، مهما صغر، سيسهّل الجهادات اللاحقة وكلما ازداد الجهاد تزداد النعمة ويُعطى المزيد. فلننتبه أخيراً إلى الجملة الثالثة: (أيها العبد الصالح الأمين قد وُجدت أميناً في القليل فسأقيمك على الكثير). إن الأمانة في الأمور الصغيرة هي الخطوة الأولى في الطريق والشرط الضروري للأمانة في الأمور الكبيرة. إذا كنت لا أستطيع أن أنجز الأمور الكبيرة، سأسعى أن أتمم الصغيرة. إذا خسرت الوزنات التي أُعطيت لي فسأسعى بتواضع وصبر أن أكون أميناً في أصغر الأمور، أن أكون طاهراً، كريماً، خدوماً، أميناً خلال الحياة اليومية، إذ يبني الله على أساس الأمور الصغيرة هذه بناء شامخاً، وربما يُعطى لي في يوم من الأيام أن أسمع دعوته: (أدخل إلى فرح ربك). ينتهي إنجيل القداس بهذا الكلام الذي يوجهه يسوع لتلاميذه: (تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح وابن البشر يُسلم للصلب). الاب ليف جيللة |
||||
24 - 06 - 2016, 06:46 PM | رقم المشاركة : ( 13289 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الاعتراف والكفارات في الكنيسة الأرثوذكسية
نعرف أن القوانين المقدسة تفرض كفارات مختلفة على ارتكاب الخطايا. إنها، في الدرجة الأولى، موضوعة على الأشخاص الذين يعترفون كما في حالات ضرورية أخرى. ولكن يمكن وضع الكفارات بروح حرفية، وهذا يشوهها بشكل جوهري. بكلمات أخرى، إنْ وضعنا الكفارات في ضوء لاهوتي خاطيء كاسترضاء الله، نرتكب خطأ. ليس لما يسمى الكفارات هذا المعنى في التقليد الأرثوذكسي، إذ أنها تُفسّر طبياً وليس قانونياً. من أجل رؤية النظرة اللاهوتية الأرثوذكسية لهذا الموضوع، يجب أن نذكر أن الكفارات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بلاهوت الكنيسة حول الخطيئة والمناولة الإلهية. بما أن الخطيئة في التقليد الأرثوذكسي ليست إساءة إلى الله إنما هي مرض، فنحن نستطيع تلقائياً أن نرى الكفارات لا كعقوبات للإنسان أو وسائل لاسترضاء الله، إنما كدواء لشفائنا. والإفخارستيا لا تُقام لأسباب عاطفية أو لتحسين أخلاقي، إنما لتأليه الإنسان. المناولة الإلهية من القدسات تعمل بطريقة مناسبة للحالة الروحية. إذا كان الإنسان في حالة التطهر فهذا يساعده على بلوغ الاستنارة، وإذا كان في حالة استنارة النوس يصبح الله نوراً له من خلال المناولة، وإذا كان في حالة التأله فيصبح الله عنده تألهاً ونوراً. إذاً، إن لم يكن الإنسان قد دخل بعد مرحلة التطهر، وإن كان لا يعيش حالة التوبة، فالمناولة الإلهية تصبح ناراً ودينونة. هذا يظهر في كل الصلوات الليتورجية التي فيها نسأل الله أن تكون المناولة من القدسات “لا لمحاكمة ولا لدينونة”. تماماً كما أن منع الطبيب لبعض المأكولات عن جسدنا لا يعني عقوبة إنما يفترض مرض الإنسان ويهدف إلى شفائه، الشيء نفسه ينطبق على الكفارات. مثل الكثير من القوانين المقدسة، يقسّم باسيليوس الكبير الخطأة والتائبين إلى مراحل عديدة، هي الباكون، المستمعون، المتوسلون، المصالَحون، المشتركون في القدسات. هذا تقسيم من منظار شفاء الإنسان وليس من وجهة نظر التبرير القانوني واسترضاء الله. هكذا، عندما يكون الإنسان في حالة التوبة يكون للمناولة الإلهية تأثير علاجي وإلهي، لا تأثير عقابي، وتُسمَح له المناولة. وعليه، فالتائب والمعرِّف معاً يجب أن يَرَيا الكفارات والحرمان من المناولة ضمن هذا المنظار العلاجي والمحب. وإلا فالقوانين المقدسة تتشوّه تماماً، كما يتشوّه ناموس الله بصورة مماثلة. هناك مقاطع آبائية كثيرة يظهر فيها المعنى والقيمة العلاجية للمنع من المناولة. وبالإشارة إلى الخطايا التي يرتكبها الإنسان وطريقة التوبة وزمنها، يقول باسيليوس الكبير بحكمة أننا في النهاية ” نكتب كل هذه الأمور لكي تمتحن ثمار التوبة. لأننا، في أي حال، لا نحكم على مثل هذه الأمور بالوقت، بل نهتم بطريقة التوبة”. وإشارة إلى الخطايا المختلفة، يقول مجمع قيصرية الجديدة: “طريقة عيشهم وإيمانهم يقصران المدة”. بحسب قول مميز للقديس غريغوريوس النيصصي: “إن شخصاً قد شفي ومُنع من المناولة هو، بالنسبة إلى المعرّف، تماماً مثل شخص لم يتب ولم يشفَ وتمت مناولته”. القديس غريغوريوس النيصصي يكتب بحكمة: “إذ تماماً كما أن طرح الدرر أمام الخنازير غير مناسب، كذلك هو منع الجوهرة الثمينة عن شخص أصبح رجلاً عن طريق اللاهوى والطهارة”. المثال الذي حفظته لنا أقوال الآباء الشيوخ من حياة وتعاليم الأنبا بيمن مميز: “اعترف أخ للأب بيمن قائلاً: لقد ارتكبت خطيئة كبيرة وأريد أن أتوب عنها ثلاث سنوات. قال له الشيخ: إن هذه مدة طويلة. أجابه الأخ: إذاً، لسنة واحدة فقط؟ قال: وهذا كثير أيضاً. فقال الحاضرون: وهل يكتفي بأربعين يوماً؟ قال: وهذا كثير أيضاً. وقال: أقول لكم، إنه إذا تاب الإنسان من كل قلبه وتوقف عن الخطيئة، فإن الله يقبله حتى في ثلاثة أيام”. يظهر هذا المثل أن الحرمان من المناولة أو ما يسمى الكفارة، هو دواء علاجي يجب إدراجه في تدريب الكنيسة العلاجي. لإتمام الموضوع، يمكننا أن نجمع أن الروح القانوني، أي النظر إلى ظاهر الناموس وحفظ بعض الترتيبات الشكلية الخارجية وإبعادها عن الجو النسكي والعلاجي للكنيسة وربطها بإجراء قضائي، هو مبدأ غربي، وبالتالي لا ينتمي إلى الفكر الأرثوذكسي. يجب أن نهمل كل مفهوم قانوني وكل محاولة لاسترضاء العدالة الإلهية. فلنفهم الخطيئة أولاً كمرض في طبيعتنا، ولنحدد المرض بظلام النوس، وفي الوقت نفسه نحفظ الناموس لكي نشفى، إلى أن نصل إلى التأله الذي هو أعمق هدف لخلق الإنسان ووجوده. الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس (عن كتاب الفكر الكنسي الأرثوذكسي) |
||||
24 - 06 - 2016, 06:47 PM | رقم المشاركة : ( 13290 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
بعض الأفكار حول تدريب الإرادة
إن إظهار ضرورة تدريب الإرادة هو مثل إثبات أن جائعاً يحتاج الخبز أو أنّ مريضاً يحتاج الدواء: الكلّ يعلم أنَ الإرادة القوية الثابتة في تحقيق الفضيلة تساعد الإنسان في كل خطوة من الحياة. مَن يملك إرادةً قويةً يدخل ملكوت السماء بسرعة أكثر من ضعيف الشخصية المُستَعبد للعواطف والعادات السيئة. الرجل الضعيف، لكونه يُسحَر بسهولة بالشر، ولكونه بلا أسلحة ولا إرادة من نفسه، فهو يقع بلا حول ولا قوة في شباك العدو. الرجل ذو الإرادة الضعيفة غالباً ما يكون على علم تماماً بأنه يخالف ضميره. ومع ذلك، فهو يسمح لسموم الخطيئة التي تعفّن قلبه بأن تقرّبه أكثر من أي وقت مضى إلى التهلكة. لأنه يعلم أن الشيطان الواقف أمام أبواب قلبه يسعى للحصول على مدخل ليغدر به، ولكن لا قوة لديه على المقاومة. لذا يفتح الأبواب، ويقع ضحية تراخيه. إن الأرواح النجسة وقد وضعت العديد من الأفخاخ للإيقاع بنا، ونحن نسمّيها أهواء. إن بذورها مزروعة بالفعل فينا عند الولادة، إذ “بالخطايا ولدتني أمّي”. إنها تبدأ عملها المفسد منذ نعومة الأظفار، وبمجرد الحصول على موطئ قدم، من المستحيل تقريباً هزّها. يجب أن تبدأ المعركة ما أن تظهر الأهواء. إنّ سلاحنا الرئيس في المعركة هو الإرادة القوية الصالحة المتحالفة مع الله، ومن واجب كلّ مسيحي أن يدرّب إرادته لأن تكون هذا السلاح. هذا النوع من التدريب ضروري خصوصاً في مرحلة الطفولة، عندما يكون الحصول على العادات سهلاً، إذ إن الميل نحو اللذة الذي يُكتسب في الشباب يطارد الإنسان كلّ حياته. عندما توجَد المشاعر التي تدمّر النفس لدى الأطفال، تقع الخطيئة على عاتق الآباء والأمهات الذين لا يولون اهتماماً لنشاط أطفالهم ويفشلون في إصلاحهم. على كبار السن أن يوضحوا المشاعر للشباب ويرشدوهم ليكونوا على أهبة الاستعداد.لسوء الحظ، فإن العكس يحدث عادة، ويقع ذنب زرع بذور الخطيئة في السلالة على الجيل الأكبر سناً. على سبيل المثال، غالباً ما يستفيض الأهل في الثناء على أطفالهم ومكافأتهم، وبالتالي تعليمهم المجد الباطل وحب الذات والحسد والمشاكسة.وبالمثل، بدلاً من تشجيع البراءة الطبيعية في الشباب، فإنّ المدارس تعلّم بشكل منهجي الكبرياء والغرور التافه، الذي يتعاون مع الطبيعة البشرية الساقطة على خنق النفس. هنا الخطيئة تخترِق بسهولة كبيرة لأنها مقنَّعة كفضيلة. عند توجيه الاهتمام نحو الروحيات في الجهاد ضد الشرير، يجب أن لا ينسى المرء إلى أي درجة ينبغي عليه أن يكبح جماح نفسه في الماديات من أجل تعزيز إرادته. إن الانضباط الجسدي هو بنفس أهمية الانضباط الروحي في تدريب الإرادة. الرجل الذي يسيطر على نفسه ينهض باكراً، يأكل قليلاً، ويعمل بجد، ويستخدم وقته بحكمة. في غياب ما سبق، فإن المشاعر تتغلّب بسهولة على الإنسان وتصير شيئاً فشيئاً جزءاً من حياته، فيما يصير هو بكليّته فريسة لإرادته الضعيفة. ضارّ جداً أن يتعلّق الإنسان ببعض الأطعمة الشهية منذ شبابه. مَن لم ينمِّ طعمها لن يكون بحاجة لها في ما تبقّى من حياته.أمّا مَن تربّى منذ حداثته على الطيّبات فسوف يسعى جاهداً في شبابه ليؤمّن لحنكه الاكتفاء من الأطعمة والمشروبات الخاصة أو من التدخين. كلّ ما هو مفيد لتقوية الإرادة في الجهاد من أجل الخير ينبغي تثبيته في قلوب الشباب. كلام القديس برلعام لتلميذه الأمير يواصاف تعليمي. فهو يقول له بأنّه هو نفسه عجوز ممتلئ بجميع أنواع الضِعة، لذا فإن تعليم المسيح النقي يُبَثّ في قلب الأمير يواصاف الذي لا يزال شاباً. الأنبا دوروثايوس، صاحب العظة الشهيرة عن الفضيلة، يولي اهتماماً خاصاً بالتفاصيل الصغيرة في عملية تعزيز إرادتنا.هذه التفاصيل الصغيرة على ما يبدو واضحة خصوصاً في مجتمع رهباني. ما من شيء يفسد حياتنا أكثر من الكسل. نحن كسالى جداً عن الوقوف للصلاة، كسالى جداً عن السجدات، كسالى جداً لنشغل أنفسنا بشيء مفيد. أحياناً نكون كسالى جداً حتّى عن رسم إشارة الصليب بشكل صحيح. إنّ غياب رقابتنا يحثّنا على البدء بتناول الطعام أو شرب الشاي قبل المبارَكة.غياب ضبط النفس يلد عادة التدخل في محادثات الآخرين. إذا نادى شخص آخراً، فإن رأسَي الثاني والثالث يدوران باتجاهه لمعرفة ما يجري، ما يجعل مجموعة من الناس تهتم بما يجري الحديث عنه. يأتي الناس إلى اثنين منشغلَين في محادثة خاصة بأسئلة مثل “حسناً، ما الذي يحدث، ما الذي يجري هنا؟” إلخ.. يكتب الأنبا دوروثايوس أن الصراع مع الفضول هو واحد من أساسيات تدريب الإرادة. إن المعركة ضد الإرادة الذاتية هي أيضاً حيوية. هناك أشخاص لديهم هذه الطاقة التي يبدو أنها قادرة على تحريك الجبال، ولكن فقط إذا لم يتعارض هذا مع إرادتهم. أنهم يعجزون عن القيام حتى بمهمة صغيرة إن لم تتناسب مع أفكارهم الخاصة، ولا يتحمّلون أدنى تدخل في ما يريدون. إنهم مغرورون لا يثقون إلا في قدراتهم الخاصة وإرادتهم، بالرغم من أنها تبدو للخارج قوية، إلا إنها في الواقع ضعيفة وعَدَم. إنّهم مثل الشجرة التي تزهر بشكل رائع في الربيع ولكن من ثمّ لا تحمل أيّ ثمر. الشخص المتمحور حول ذاته غالباً ما يؤدّي المهام الكبرى. على سبيل المثال، ينتج الأعمال الفنيّة الضخمة، لكنه يعجز عن التواضع أمام الله، وبالتالي لا يجلب أي ثمرة طيبة. إنّ شجرة بلا ثمر لا تنفع إلا للحطب، كما أن نفساً عقيمة لا تلد إلا روحاً مكتئبة مُثقَلة. إنّ تطوير الإرادة هو علم صعب ولكنه حيوي، ولكن إذا درّب الإنسان إرادته وأرشدها بجدّ فسوف تصبح مساعدةً جيدةً في كلّ الأعمال الحسنة والرفيق المخلص نحو الخلاص. مَن اكتسب إرادة جيدة وقوية يتحمل بسهولة الإهانات ويكون حكيماً في التعامل مع الأحزان التي تأتيه. ضعيف الإرادة يقع في الحزن المفرط والاكتئاب. فهو ينسى أن المساعدة تأتي من الله ويسعى إلى الراحة في أصدقاء مثله ضعفاء ومتخاذلين، كما في أصدقاء خفاف العقل يلقونه في مزيد من الحزن والاكتئاب. إن ملكوت الله يُغتَصَب اغتصاباً والذين يغصبون ذواتهم يدخلونه. الأرشمندريت كبريانوس بيزوف نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي |
||||