06 - 03 - 2015, 04:30 PM | رقم المشاركة : ( 1231 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تــأملات جميلة وحكم أجمل
علامة المسيحي
الإنسان في طبيعته الساقطة لا يعرف معنى المحبة الحقيقية، لأنه في واقعه الاختباري هو منعزل عن الله، ولذلك لا يعرف المحبة الحقيقية، لأن الله محبة، والمحبة بكونها الله فهي تلد معرفة خاضعة للإيمان، والإيمان بطبيعته يحمل طاعة، ولذلك ترتاح النفس جداً بطاعة الوصية، ووصية المسيح الرب هي المحبة، والمحبة التي أعلنها لنا الرب يسوع، أعلنها مصلوبة، لأن أساس قاعدة المحبة هو الصليب، فعلى مستوى التجديد والإنسان الذي دخل في سرّ الحياة الجديدة في المسيح يسوع وقد تذوق محبة الله والحرية في المسيح، فأنه رأى وعاين في الله: "المحبة"، والتي هي سبب سرّ الغفران:
فالمسيح مات بالصليب لمن لا يستحق، بل ولمن لم يطلب أو يسأل، وأعطى غفران لمن لم يتوسل، وفتح باب الفردوس لمن لم يكن له رجاء، بل وأزال اللعنة التي شعرها الإنسان بسبب الموت الذي دخل إلى طبيعته، فصارت وصية المصلوب: "باركوا ولا تلعنوا"، بل وجعل كل الوصايا الخاصة بسلوك الإنسان ثمرة المحبة، وذلك حينما يدخل (الإنسان) في سرّ الإيمان الحي بالمصلوب القائم من الأموات، ولم يعد هناك شريعة أُخرى سوى شريعة المحبة، ولذلك فأن علامة المسيحي الحقيقي هو الصليب، أي يحيا مصلوب مع المسيح، وبكون الصليب بذل الحياة بلا تراجع وعن تقدمة إرادة واعية في المحبة بحرية، فأنه يُثمر تلقائياً بدون عناء قوة غفران مقدمة للجميع وظاهرة في الأعداء بدون عناء أو غصب النفس.
|
||||
06 - 03 - 2015, 04:32 PM | رقم المشاركة : ( 1232 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تــأملات جميلة وحكم أجمل
"من يسمع كلامى" السمع هنا ليس هو سماع الأذن، ولكن المسيح يقصد سماع الروح: "من له أذنان للسمع فليسمع"، عبر عنه فى الرؤيا قائلاً: "ها أنا واقف على الباب وأقرع" يقصد إنه واقف على باب القلب ويصرخ بكلماته. القلب الصاحى ذو الأذن الروحية ينفتح للكلمة فى الحال، وتدخل الكلمة بسلطانها كنار وكمطرقة تحطم الصخر. الله لا يطلب أذناً فقط. بل أذناً مع قلب. إذا نحن اكتفينا بالسماع، ستموت الكلمة فينا؛ ولكن إذا تفاعلت الكلمة مع القلب والإرادة؛ فهنا تنصرع الإرادة وتذبح تحت سلطان سيف الكلمة، مع أنها كانت يوماً إرادة سقيمة ذات مواريث رديئة، ولكنها لا تحتمل نور وقوة الله فى الكلمة، فتسقط الإرادة صريعة وتبدأ الكلمة تأخذ مكانها وتسيطر وتسود. وكما قلنا؛ فإن كلمة الله هى كلمة إلهية، طبيعتها أزلية، نور ونار؛ ولكن ما أبعد الهوة التى بينها وبين طبيعتنا الأرضية؟! كلمة الله نور، وأنا ظلمة؛ ما الذى يجعل الظلمة تطيع النور؟! أأنا إنسان محب للكذب ومحب للباطل؛ والكلمة صدق وحق إلهى، تنافر تام بين الطبيعتين. طبيعتان لا يمكن أبداً أن تلتقيا أو تتقابلا. إذن لابد من عامل وسيط، هذا هو ما رأيناه فى المسيح عندما تجسد. لابد أن يتحد الإلهى بالإنسانى لكى يقدر هذا البشرى أن يأخذ من الله، ويقدر الله أن يسود على الجسد. فمن غير هذا الاتحاد أن يحدث التغيير. ولكن لابد من إعطاء الكلمة فرصة لكى تتفاعل مع الطبيعة البشرية، ولابد من التسليم والخضوع الكلى لها. تماماً مثل أنطونيوس: قرعت الكلمة قلبه، فانفتح، فوقع صريعاً لها، لم يستطع الانتظار، باع ما يملك من ميراث، ترك أخته، ترك المكان، باختصار وقع على الأرض ومات، سلم الإرادة نهائياً للكلمة. أبونا متى المسكين |
||||
06 - 03 - 2015, 05:01 PM | رقم المشاركة : ( 1233 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تــأملات جميلة وحكم أجمل
كيف يعبر عن عمل المسيح الكهنوتي في كتاب أصول الإيمان وكتاب الإقرار بالإيمان الوستمنستري ؟ قيل في كتاب أصول الإيمان " أن المسيح يمارس وظيفة كاهن بتقديمه ذاته مرة واحدة ذبيحة ليوفي العدل الإلهي حقه ويصالحنا مع الله وبشفاعته فينا علي الدوام " (أصول الإيمان س 25) وقيل في الإقرار بالإيمان " أن الرب يسوع بطاعته الكاملة وتقديمه نفسه ذبيحة قدمها بروح أزلي مرة لله أوفي عدل أبيه إيفاءً كاملاً واشتري المصالحة بل الميراث الأبدي في ملكوت السموات لأجل كل الذين أعطاه أبوه إياهم " (فصل 8 عدد 5) وقيل في ترجمة أخرى " أرضى إلي التمام عدل أبيه " بمعنى أوفي عدل أبيه إيفاءً كاملاً كما قيل أيضاً في الجملة المقتبسة أعلاه من كتاب أصول الإيمان والمعنى واحد لأن لفظة إرضاء ولفظة إيفاء بمعنى واحد في هذا المقام أي أنهما تشيران سوية إلي عمل المسيح الكفاري في رفع حكم العدل الإلهي بالدينونة علي الخاطئ غير أن لفظة إيفاء أصح في هذا المقام من لفظة إرضاء علي أن لفظة إرضاء تصح باعتبار نسبة الكفارة إلي الله في كمال صفاته. والكفارة التي قدمها المسيح هي نيابية بمعنى أن المسيح ناب عن الخاطئ في تقديمها وينتج من ذلك أن الله يرتضي بالمؤمن ويصالحه لنفسه بواسطة كفارة المسيح التي تكفر عن خطاياه وكذلك تبرره من جرمه أي ترفع عنه حكم الشريعة لأن المسيح قد أخذه علي نفسه عنه وتنتسب إليه بر المسيح الكامل النقي وبذلك تتم المصالحة ويكمل الفداء. |
||||
06 - 03 - 2015, 05:01 PM | رقم المشاركة : ( 1234 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تــأملات جميلة وحكم أجمل
|
||||
06 - 03 - 2015, 05:03 PM | رقم المشاركة : ( 1235 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تــأملات جميلة وحكم أجمل
ما هو تعريف الخطية والجرم والقصاص ؟ الخطية هي : التعدي علي شريعة الله أو عدم الامتثال لها وهي نوعان أصلية وفعلية أي مالنا بالوراثة وما لنا بأعمالنا الاختيارية الأمر الجوهري فيها هو نسبتها إلي شريعة الله أي أنها مخالفة لها أو عدم الامتثال لها وهي تتضمن الفساد والجرم أي تستحق الدينونة أمام قداسة الله وأمام عدله أيضاً. ولذلك يليق أن نعتبر الله بالنظر إلي الخطية أنه في مقام المشترع والقاضي الذي قد وضع شريعة عادلة ومقدسة وصرح بلزوم حفظها وعقاب جميع المعتدين عليها فيحكم كقاض علي كل معتد بحكم عادل. وحفظا لكمالاته وإكراماً للقداسة ولشرف شريعته وإثباتاً لسلطانه الأدبي في الكون ينبغي أن يجري أحكام العدل علي الخاطئ إلا إذا وجد من ينوب عنه بإكرام الشريعة واحتمال القصاص وإيفاء العدل حقه ورفع كل مانع لرضى الله بالخاطئ المذنب كما عمل المسيح. غير أن الله وإن كان مشترعاً وقاضياً فهو أيضاً أب حنون ومحب لأولاده الخطاة وقد غلبت محبة الآب ورحمته الصعوبات المتعلقة بمسألة الخطية وتنازل الله لتدبير الخلاص للخطاة ليس بإجراء قصاص الشريعة عليهم بل بإرسال ابنه لينوب عنهم بكفارته ويشتري لهم الفداء التام. والجرم كما تقدم تكراراً لفظة يعبر بها في اصطلاح علم اللاهوت عن نسبة الخطية إلي العدل أي إلى الشريعة العادلة وهي بهذا المعنى تحيط بأمرين ممتازين : الأول : استحقاق اللوم وبهذا المعني لا يمكن أن ينسب إلي غير من هو جارم فعلاً لأن الصفات الذاتية لا تنسب إلا لصاحبها وهو يلازم دائماً جميع الذين أخطأوا ولا تزول بواسطة التبرير أو بواسطة الصفح ولا يمكن أن الجرم الشخصي بهذا المعنى ينسب أو ينتقل من شخص إلي آخر. والمعنى الثاني للجرم : استحقاق القصاص أو الالتزام بإيفاء العدل حقه وبهذا المعنى يمكن إزالة الجرم بإيفاء العدل شخصياً أو نيابياً ويمكن نقله من شخص إلي آخر بالحسبان الشرعي التابع النسبة النيابية فإذا سرق إنسان أو ارتكب ذنباً آخر له عقاب في شرع البلاد أمكن إزالة جرمه بموجب المعنى الأخير بواسطة احتماله ذلك العقاب. وتحريره من قصاص الشرع بعد ذلك ليس من قبيل المناسبة فقط بل من مقتضى العدل. فبهذا المعنى قيل أن جرم معصية آدم حسب علينا وأن المسيح اتخذ جرم خطايانا وأن ذبيحته واسطة لتبريرنا من الجرم. أما لفظة قصاص فيراد بها عقاب والمفهوم بها في الكلام علي احتمال المسيح قصاص الشريعة عنا هو ليس أن المسيح احتمل بذات القصاص المعين للإنسان الخاطئ الذي هو الموت الأبدي أو أنه احتمل ذات العذاب الذي يصيب الهالكين نوعاً ومقداراً بل أنه احتمل ما عينه له الله من القصاص النيابي لأجل التعويض عن القصاص المفروض علي البشر الخطاة. وباستعمال لفظة قصاص للتعبير عن آلام المسيح الكفارية نقصد التعبير عما احتمله المسيح لأجل إيفاء العدل حقه بدون تعيين ماهية الآلام أو مقدارها لأن لآلام المسيح قيمة كفارية خاصة بسمو مقامه وشرف شخصه. ونختار لفظة قصاص إشارة إلي تلك الآلام لأجل تمييزها باعتبار غايتها عن الآلام الآتية علي سبيل البلية والتأديب لأن الغاية فيها لم تكن لأجل تأديب المسيح أو لأجل إقامته مثالاُ للصبر وإنكار النفس بل لأجل احتمال ما يطلبه العدل إيفاء لمطاليبه. لأن القصاص الذي احتمله المسيح يختلف جداً عن القصاص الذي يحتمله الخاطئ الهالك ولكن نظراً لرضى الله بعمله الكفاري وقيمة آلامه يعتبر أنه كاف لإيفاء العدل حقه عن جميع بني جنسنا وبهذا المعنى يليق استعمال لفظة القصاص للتعبير عن نسبة آلام المسيح إلي شريعة الله لأن الكفارة تتم باحتمال القصاص المطلوب غير أن ما وضع علي المسيح قصاصاً يختلف كل الاختلاف عما حق علي الخاطئ نفسه. |
||||
06 - 03 - 2015, 05:04 PM | رقم المشاركة : ( 1236 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تــأملات جميلة وحكم أجمل
ما هو تعريف الطاعة والذبيحة ؟ يراد بطاعة المسيح كل ما يتعلق بحياته وخدمته في حال التجسد وما انتهت إليه من تقديم نفسه ذبيحة عن الخطاة ولذلك كانت ذبيحة المسيح جزءاً من طاعته الكاملة كما قيل أطاع حتى الموت موت الصليب (في 2 : 8) أي أن موت المسيح ذبيحة كان تكملة لطاعته النيابية. والمراد بذلك أنه لأجل خلاص البشر قام مقامهم لدى الشريعة وقدم لها طاعة كاملة عنهم ولكن بسبب خطية البشر لم يكف مجرد الطاعة بدون كفارة عن الخطايا ولذلك قدم تلك الكفارة جزءاً من خدمة الطاعة وبتلك الطاعة التي كانت الكفارة قسماً منها لم يكفر المسيح عن الخطية فقط بل اشترى ميراثاً أبدياً سماوياً لجميع المؤمنين به فلفظة طاعة شاملة تحيط بكل عمل المسيح في حال التجسد إلي أن انتهى بموته كفارة كقوله هاآنذا أجئ في درج الكتاب مكتوب عني لأفعل مشيئتك يا الله فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة (عب 1 : 7 و 10) وقوله لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاة هكذا أيضاً بإطاعة الواحد سيجعل الكثيرون أبراراً (رو 5 : 19). والذبيحة بحصر المعنى تشير إلي موت المسيح كفارة علي الصليب كأنه مذبوح علي مذبح لأجل خطايا العالم علي أن حياة المسيح كانت بالإجمال علي سبيل الذبيحة لأن احتماله المشقات والآلام والأحزان والأحمال المقترنة بحياته علي الأرض كان من نوع الذبيحة كما قال هو نفسه ليس إشارة إلي موته فقط بل إلي كل حياته " أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلي مجده " (لو 24 : 26). فالذبيحة وإن أشير بها غالباً إلي موته علي الصليب تشتمل علي كل ما احتمله في إتمام عمل الفداء علي الأرض. |
||||
06 - 03 - 2015, 05:05 PM | رقم المشاركة : ( 1237 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تــأملات جميلة وحكم أجمل
ما هو تعريف الكفارة والتكفير والإرضاء والإيفاء والنيابة ؟ إن كفارة المسيح هي عمله الذي تم بواسطة طاعته الكاملة اختياراً لمشيئة الله ولأجل خلاص البشر من لعنة الشريعة ومصالحتهم مع الله وتلك الكفارة لم تكن لأجل نفسه بل لأجل جنسنا الساقط كما قيل فإن المسيح أيضاً تألم مرة واحدة من أجل الخطايا البار من أجل الأثمة لكي يقربنا إلي الله (1 بط 3 : 18) وقيمة تلك الكفارة مبنية علي كونه ابن الله الأزلي كما قيل هذا هو ابني الذي به سررت (مت 17 : 5). ويصح أن ننظر إلي كفارة المسيح من أوجه مختلفة باعتبار نسبتها إلي الله أي إلي محبته وقداسته وعدله أو باعتبار نسبتها إلي الإنسان أي فعلها فيه ولأجله وقد اصطلح اللاهوتيون علي ألفاظ تعبر عن هذه النسب المختلفة فقيل مثلاً أن كفارة المسيح تكفير عن الخطية وترضية الله وإيفاء العدل حقه وأن المسيح تمم عمله الكفاري بالنيابة عنا. قيل أن كفارة المسيح تكفير عن الخطية وهو تعبير عن مفعول الكفارة في خلاص الخاطئ من لعنة الشريعة ورفع الدينونة عنه. وقيل كذلك أن الكفارة في إزالة غضب الله وعن رضاه بقبول الخاطئ للمصالحة. وقيل كذلك أن الكفارة إيفاء العدل حقه وذلك للتعبير عن كون الكفارة إيفاء كل مطاليب العدل حتي لم يبق شئ يطالب به الخاطئ المؤمن أمام العدل الإلهي. فالإيفاء مأخوذ من الاصطلاحات الشرعية والتكفير من الاصطلاحات اليهودية المختصة بالنظام الموسوي وخدمة الهيكل ويشار بالإيفاء إلي تأدية المطلوب لدي الشرع وبالتكفير إلي ستر النفس المذنبة بدم الذبيحة حتي لا يطالب المذنب بالقصاص لأنه رفع عنه بوضعه علي الحيوان المذبوح لأجله وبالإرضاء أو الاستعطاف إلي تحويل غضب الله إلي رضى بناء علي وساطة المسيح وكفارته كما قيل في هذا هي المحبة ليس أننا أحببنا الله بل هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا (1 يو 4 : 10) ولم تكن الكفارة ما حمل الله علي محبة البشر ولكنها فتحت باب المصالحة بينه وبين الخطاة بدون إهانة شريعته المقدسة وهي ذاتها ثمر محبته. فاتضح أن التكفير علة رضى الله فالخاطئ (أو جرمه) مكفر عنه والله مرضي علي أن التكفير ليس علة محبته تعالي لأنه محب قبل التكفير. وبما أنه لابد من القصاص علي الجرم حسب مقتضى عدل الله (لأن القصاص عبارة عن كراهيته تعالي للخطية وحكمه بالعدل عليها) كفر عن جرم الخاطئ بواسطة الإيفاء أي القصاص النيابي. فأرضى الله سبحانه بذلك أي صار موافقاً لطبيعته أن يصفح عن الخاطئ ويباركه. أما راض ومحب فليستا مترادفتين نعم أن الله محبة لأنه أحبنا ونحن خطاة وقبل الإيفاء عنا ولكن الإيفاء أو التكفير لا يحرك المحبة في القلب الإلهي بل يجعله موافقاً لعدل الله أن يبين محبته للذين عصوا شريعته أي يجعله راضياً بذلك. وقد تفلسف البشر في طبيعة الله ونسبته إلي خلائقه الخطاة ولم يصلوا البتة إلي نتيجة كافية ولكن إذا التفتنا إلي تعليم الكتاب المقدس في ذلك سهل علينا فهمه لأنه ورد في العهدين القديم والجديد أن الله عادل بمعنى أن طبيعته تطلب قصاص الخاطئ وأنه لذلك لا يمكن أن يكون غفران بدون تكفير نيابي أو شخصي ومن المعلوم أن طريقة الخلاص علي سبيل التمثيل والرمز في النظام الموسوي والتفسير في كتب الأنبياء والإعلان الجلي في العهد الجديد تتضمن نيابة ابن الله المتجسد عن الخطاة. والمراد بالإيفاء بأكثر تفصيل الإشارة إلي كل ما فعله المسيح ليوفي مطاليب ناموس الله وعدله عوضاً عن الخطاة ولأجلهم. وهذه اللفظة قد اشتهرت بين الاصطلاحات اللاهوتية وكثر التعويل عليها للتعبير عن عمل الكفارة باعتبار نسبتها إلي ناموس الله وعدله. علي أن الإيفاء نوعان متميزان بينهما فرق في حقيقتهما ونتائجهما فالنوع الواحد مالي أو تجاري والنوع الآخر عقابي أو قضائي. فمتى أوفي المديون بموجب المعنى المالي كل مطلوب دائنه عتق من ذلك بالكلية لأن الإيفاء هو تأدية كل ما يطالب به ولا يمكن أن يكون بعد ذلك منة ولا رحمة ولا نعمة من قبل الداين الذي استوفي دينه. ولا فرق عنده سواء أوفاه المديون نفسه أم شخص آخر عوضاً عنه لأن دعواه إنما هي علي المبلغ المستحق الإيفاء لا علي شخص المديون. أما في الجنايات ففي ذلك فرق لأن الطلب هو علي الجارم وهو نفسه المكلف للعدل. والنيابة في المحاكم البشرية لا ممحل لها في هذه المسألة لأن الأمر الجوهري ليس العقاب بل إجراءه علي المذنب الذي يكابده. قال الله له المجد النفس التي تخطئ تموت. والعقاب ليس من اللازم أن يكون من نوع الجرم بل من النادر أن يكون كذلك لأن كل ما يطلب هو أن يكون جزاءً عادلاً علي قدر الجرم تماماً فعقاب التعدي علي شخص ربما كان جزاءً نقدياً وعلي السرقة القيود في السجن وعلي خيانة الملك النفي أو الموت. ومن أهم ما يقوم به الفرق بين الإيفاء المالي والعقابي هو أن الأول يحرر لا محالة بناء علي كفايته فحالما يوفي الدين يصير المديون حراً تماماً فلا يجوز إبقاؤه تحت القبض ولا وضع شروط لإنقاذه. وأما الجارم المجبر علي الإيفاء العقابي فلا يحق له أن يقيم آخر في مكانه لأن هذا ليس له مثيل في المحكمة البشرية ولذلك لا يستفيد من البدل فإذا قبل القاضي ذلك تترتب حينئذ فائدته علي ما يشترطه القاضي علي البدل وما يتعهد له به فربما والحالة هذه يتم إنقاذ المذنب حالاً بدون شرط أو يتأخر إلي حين شروط معلومة أو يتم بالتدريج لا دفعة واحدة. وبما أن إيفاء المسيح ليس مالياً بل هو عقابي أو قصاصي أي إيفاء عن الخطاة لا عن مديونين ديناً مالياً ينتج ما يأتي : 1 – إنه لا يقوم بتقديم شئ عن شئ مساو له قيمة. وقد تقدم أن عقاب اللص ليس استرجاع المسروق ولا تعويض قيمة المال بل هو غالباً ما يفرق فرقاً كلياً عن حقيقة الجرم كالجلد والسجن. فإن القصاص لأجل الهجوم علي شخص بقصد ضربه ليس إجراء نفس هذا العمل علي المذنب بل قصاص آخر يوازي ذنبه. وكذلك بين قصاص النميمة والخيانة والعصيان مثلاً وتلك الجنايات فرق كلي. فكل ما يطلبه العدل في الإيفاء العقابي أن يكون إيفاءً حقيقياً لا مجرد ما يرضي به القاضي. نعم قد يفرق في النوع ولكن يجب أن يكون ذا قيمة جوهرية تساويه فغرامة إنسان بدراهم قليلة لأجل القتل عمداً ضرب من الاستخفاف ولكن الموت أو السجن الطويل لأجل إعدام الحياة هو إيفاء حقيقي للعدل. والخلاصة أن مفاد تعليم الكتاب أن المسيح أوفي العدل الإلهي عن خطايا البشر هو أن ما فعله وكابده كان مجازاة حقيقية وافية بالعقاب المتروك والفوائد الموهوبة. أي أن آلامه وموته كافية لإتمام جميع الغايات المقصودة بقصاص البشر علي خطاياهم. فهو أوفي العدل الإلهي حقه وجعل تبرير الخاطئ موافقاً له ولكنه لم يتألم بنوع الآلام المفروض علي الخطاة أن يكابدوه ولا كابد ما هو بقدرها غير أن آلامه تفوق ما استوجبوه قيمة إلي غير نهاية. لأن موت إنسان صالح مشهور جداً يفوق إلي الغاية ملاشاة جميع الهوام وكذلك إتضاع ابن الله الأزلي وآلامه وموته يفوق بما لا يقاس قيمة وقوة ما يكابده جميع الخطاة من العقاب. 2 – إن إيفاء المسيح هو من النعمة. لأن الآب لم يكن مضطراً أن يقدم بدلاً عن البشر الساقطين ولا الابن كان مضطراً أن يتخذ تلك الوظيفة وإنما الله سبحانه من مجرد النعمة وقف إجراء عقاب الشريعة وقبل الآلام النيابية وموت ابنه الوحيد. والابن من محبة لا نظير لها ارتضى أن يتخذ طبيعتنا ويحمل خطايانا ويموت عنا البار عن الأثمة ليقربنا إلي الله. وكل ما يزاد للخطاة من الفوائد بسبب إيفاء المسيح هي عطايا مجانية وبركات لا حق لهم بها. 3 – إن الإيفاء يؤكد منح البركات الناتجة عنه لشعب الله المؤمن في المسيح وذلك من قبل العدل أيضاً لسببين: أولهما: أنها قد وعد بها لهم (أي المؤمنين) جزاء لطاعة المسيح وآلامه والله عاهد المسيح أنه إذا تمم الشروط المشروطة عليه إتماماً للوساطة (أي إذا أوفي عن خطايا شعبه) يبارك علي كل المؤمنين به للخلاص. والثاني: إن ذلك من خواص الإيفاء فإذا أوفيت مطاليب العدل لا تطلب بعد وهذه هي المشابهة بين عمل المسيح وإيفاء الدين المعتاد. 4 – إن إيفاء المسيح مبني علي العهد المقطوع بين الآب والابن ولذلك تتعلق فوائده بشروط ذلك العهد. فإن شعب الله يولدون في الخطية كبقية البشر ويبقون في حال الدينونة إلي أن يؤمنوا وحينئذ يتبررون وتسبغ عليهم كمال فوائد الفداء بالتدريج أي أن المؤمن ينال منها شيئاً فشيئاً في هذه الحياة إلي أن تكمل له في الحياة الأبدية. أما النيابة فتشير إلي أن المسيح قام مقام غيره في عمل الفداء والمراد بالقصاص النيابي ليس الآلام التي تقاسى لأجل خير الآخرين فقط لأن آلام الشهداء ومحبي أوطانهم وصانعي الأعمال الخيرية تكابد لأجل خير الكنيسة والبلاد والجنس البشري ولكنها ليست نيابية لأن النيابة حسب استعمالها تشمل معني البدل. فالآلام النيابية هي ما يكابدها شخص عوضاً عن آخر وتقتضي بالضرورة تحرير المكابد عنه إذا تمت جميع الشروط لذلك. والنائب هو البدل أو من يأخذ مكان الآخر ويعمل عوضاً عنه. وبهذا المعنى يزعم البابا أنه نائب المسيح علي الأرض ويدعى أنه يعمل أعمال المسيح الخاصة به. فما يعمله العوض لأجل من يقوم في مكانه هو عمل نيابي وهو يحرر المناوب عنه من ضرورة عمل ذلك الشيء أو مكابدة ذلك الألم. وعلي ذلك يكون المراد بآلام المسيح النيابية ما احتمله عن الخطاة أي أنه قام مكانهم وعمل ما يجب عليهم ليوفي العدل الإلهي حقه وما فعله وكابده يغنيهم عن القيام بما يطلبه الناموس لأجل التبرير. وهذا الاعتقاد بالتعويض والطاعة والآلام النيابية جار في كل أديان العالم وهو مثبت من كلمة الله ومتضمن في التعاليم المعلنة فيها وذلك يبرهن أنه ليس بشرياً محضاً بل أنه ناشئ من مصدر إلهي وأنه موافق ليس لعقل الإنسان فقط بل لعقل الله أيضاً. ولا يليق أن نستعمل كلمات بمعنى لا يوافق معناها المقرر فلا يصح مثلاً أن نقول أن آلام المسيح نيابية بمعنى أنها استخدمت لخير الجنس البشري فقط لأن ذلك يمكن أن يقال عن الآلام المكابدة لأجل خير الجمهور. أما المراد بنيابة آلام المسيح فهو كالمراد بنيابة إنسان عن آخر ليخلصه من العقاب الذي يستوجبه وكالمراد بنيابة موت ذبائح العهد القديم عن موت المذنب. وهذا هو المعني الذي يجب أن يخصص بحكمة النيابة في هذا المقام. والحاصل مما سبق أن لفظة الكفارة تستعمل عند علماء اللاهوت للتعبير عن عمل المسيح الذي أتممه لأجل خلاص البشر والتكفير عن ستر الخطايا برش دم الذبيحة كما جرت العادة في ذبائح العهد القديم (لا 17 : 11 ورو 3 : 25 وعب 2 : 17 و 1يو 2 : 2 و 4 : 10) والإرضاء للتعبير عن تحويل غضب الله وعوده تعالي إلي الرضى عن الخاطئ بناء علي وساطة المسيح علي أن الرضي هنا يمتاز عن المحبة لأن محبة الله لا تتوقف علي الكفارة خلاف رضاه والإيفاء للتعبير عن إيفاء العدل حقه والنيابة للتعبير عن قيام المسيح مقامنا أمام الشريعة الإلهية (1بط 3 : 18 وعب 7 : 25). |
||||
06 - 03 - 2015, 05:08 PM | رقم المشاركة : ( 1238 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تــأملات جميلة وحكم أجمل
ما هو تعريف المصالحة والفداء ؟ ج – في الكتاب المقدس لفظتان مهمتان تشيران إلي عمل المسيح ونتيجته وهما كفر وصالح فبلفظة كفر يعبر عن عمل المسيح باعتبار غايته الجوهرية ودعي العمل كفارة ومفعوله تكفيراً (رو 3 : 25 وعب 2 : 17 و 1يو 2 : 2 و 4 : 10 ولا 17 : 11) وبلفظة صالح يعبر عن عمل المسيح باعتبار نتيجته أو مفعوله في إزالة المخالفة بين الله والخطاة ودعيت تلك النتيجة المصالحة (رو 5 : 11 و 2كو 5 : 18 و 19 وأف 3 : 16 وكو 1 : 20). وقد أضيف إلي هاتين اللفظتين المشهورتين لفظة إرضاء ولفظة إيفاء كما سبق الكلام غير أن اللفظتين الأخيرتين من باب الاصطلاحات اللاهوتية أكثر مما هما من لغة الكتاب المقدس علي أن معناهما بغاية الوضوح في تعليم الوحي في كفارة المسيح. أما من جهة نتيجة الكفارة من حيث كونها عملاً قد تم فهي علي ثلاثة أوجه : الوجه الأول : نسبتها إلي الله وحده. الوجه الثاني : نسبتها إلي الله والإنسان معاً. الوجه الثالث : نسبتها إلي الإنسان وحده. فباعتبار نسبتها إلي الله هي بيان محبته وقداسته وعدله وثبوت حكمه الأدبي بأجلى بيان (2كو 4 : 6 و 1 يو 4 : 10). وباعتبار نسبتها إلي الله والإنسان هي واسطة لفدائه وهي بهذا المعنى تعد الفداء للإنسان. أما من جهة المصالحة فيعلمنا الكتاب أن الله هو طالبها كما قيل أن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه (2كو 5 : 19) أي أنه تعالى عين وساطة المسيح بكمالها طريقاً للوصول إلي المصالحة ولذلك كان القصد بإيجاد المصالحة في نية الآب السماوي قبل إرسال ابنه وكانت كفارة المسيح واسطة لإتمام ذلك القصد علي طريقة توافق الصفات الإلهية كما قيل لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه (2كو 5 : 21). وبهذا المعنى دعيت بشارة الإنجيل خدمة المصالحة والمبشرين سفراء عن المسيح والذي قبل الإنجيل وآمن بالمسيح دخل في حال المصالحة والسلام والذين قبلوا المسيح واتكلوا علي كفارته وتبرروا بدمه نالوا السلام التام وتخلصوا من الغضب (رو 5 : 9 – 11). أما لفظة الفداء فيعبر بها عن نتيجة كفارة المسيح باعتبار نسبتها إلي الإنسان لأنه نال بها الفداء أي التخلص من لعنة الشريعة ومن عبودية الخطية ومن القصاص الأبدي بواسطة عمل المسيح الذي دفع عنه فدية دمه الكريم كما قيل أن ابن الإنسان أتي ليبذل نفسه فدية عن كثيرين (مت 20 : 28) وأيضاً قوله كنيسة الله التي اقتناها بدمه (أع 20 : 28) وقوله الذي فيه لنا الفداء بدمه (أف 1 : 7) وقوله عالمين أنكم أفتديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب …. بل بدم كريم (ا بط : 18 و 19) وقوله لأنك ذبحت واشتريتنا لله بدمك (رؤ 5 : 9) وأيضاً ليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلي الأقداس فوجد فداء أبدياً (عب 9 : 12) فالمسيح قدم نفسه فدية عن خطايا العالم أجمع (يو 3 : 16 وعب 2 : 9) غير أن ذلك الفداء المعد للعالم لا يكون فعالاً ونافعاً إلا للمؤمنين بالمسيح الذين بالتوبة والإيمان ينالون فوائد الكفارة. وخلاصة ما تعلمناه من النظر إلي اصطلاحات الكتاب المقدس وعلم اللاهوت في كفارة المسيح هي أن المسيح باعتبار أنه وسيط أوجد طريق المصالحة بين الله والبشر وذلك بطاعته إلي الموت ذبيحة وتقديمه كفارة تامة لأجل التكفير عن خطايانا ولأجل إرضاء الله بنا وإيفاء عدل الله حقه. وقد نتج من ذلك الفداء للجنس الذي يناله شخصياً كل تائب ومؤمن بالمسيح. وليس في ذلك شئ من الإيهام إلا أنه يجب الاحتراس في فهم المراد بلفظة إرضاء لأن معناها ليس أن الله أحبنا بسبب وساطة المسيح وكفارته لأنه أحبنا قبل إتمام ذلك الوساطة دليل علي تلك المحبة وبرهانها بل المراد بها أن الكفارة فتحت باب لترضية الله القدوس بالبشر الخطاة علي كيفية موافقة لجميع صفاته أي أنها (الكفارة) رفعت الموانع لمعاملة الله الخطاة بالرضى والسرور وقبولهم في حضنه الأبوي بدون إهانة قداسته وعدله. فإن الله أحب الخطاة منذ الأزل ولكن لم يرتض بهم وهم خطاة إلا بواسطة عمل المسيح الكفاري وتوسطه فدية عنهم. |
||||
06 - 03 - 2015, 05:10 PM | رقم المشاركة : ( 1239 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تــأملات جميلة وحكم أجمل
في كفارة المسيح كيف يعبر عن عمل المسيح الكهنوتي في كتاب أصول الإيمان وكتاب الإقرار بالإيمان الوستمنستري ؟ قيل في كتاب أصول الإيمان " أن المسيح يمارس وظيفة كاهن بتقديمه ذاته مرة واحدة ذبيحة ليوفي العدل الإلهي حقه ويصالحنا مع الله وبشفاعته فينا علي الدوام " (أصول الإيمان س 25) وقيل في الإقرار بالإيمان " أن الرب يسوع بطاعته الكاملة وتقديمه نفسه ذبيحة قدمها بروح أزلي مرة لله أوفي عدل أبيه إيفاءً كاملاً واشتري المصالحة بل الميراث الأبدي في ملكوت السموات لأجل كل الذين أعطاه أبوه إياهم " (فصل 8 عدد 5) وقيل في ترجمة أخرى " أرضى إلي التمام عدل أبيه " بمعنى أوفي عدل أبيه إيفاءً كاملاً كما قيل أيضاً في الجملة المقتبسة أعلاه من كتاب أصول الإيمان والمعنى واحد لأن لفظة إرضاء ولفظة إيفاء بمعنى واحد في هذا المقام أي أنهما تشيران سوية إلي عمل المسيح الكفاري في رفع حكم العدل الإلهي بالدينونة علي الخاطئ غير أن لفظة إيفاء أصح في هذا المقام من لفظة إرضاء علي أن لفظة إرضاء تصح باعتبار نسبة الكفارة إلي الله في كمال صفاته. والكفارة التي قدمها المسيح هي نيابية بمعنى أن المسيح ناب عن الخاطئ في تقديمها وينتج من ذلك أن الله يرتضي بالمؤمن ويصالحه لنفسه بواسطة كفارة المسيح التي تكفر عن خطاياه وكذلك تبرره من جرمه أي ترفع عنه حكم الشريعة لأن المسيح قد أخذه علي نفسه عنه وتنتسب إليه بر المسيح الكامل النقي وبذلك تتم المصالحة ويكمل الفداء. ما هي الألفاظ المستعملة في التعبير عن وظيفة المسيح الكهنوتية وما يتعلق بها من الأعمال والنتائج التي تحتاج إلي التعريف الصحيح والإيضاح ؟ منها الخطية والجرم والقصاص والطاعة والذبيحة والكفارة والتكفير والإرضاء والإيفاء والنيابة والمصالحة والفداء. ما هو تعريف الخطية والجرم والقصاص ؟ الخطية هي : التعدي علي شريعة الله أو عدم الامتثال لها وهي نوعان أصلية وفعلية أي مالنا بالوراثة وما لنا بأعمالنا الاختيارية الأمر الجوهري فيها هو نسبتها إلي شريعة الله أي أنها مخالفة لها أو عدم الامتثال لها وهي تتضمن الفساد والجرم أي تستحق الدينونة أمام قداسة الله وأمام عدله أيضاً. ولذلك يليق أن نعتبر الله بالنظر إلي الخطية أنه في مقام المشترع والقاضي الذي قد وضع شريعة عادلة ومقدسة وصرح بلزوم حفظها وعقاب جميع المعتدين عليها فيحكم كقاض علي كل معتد بحكم عادل. وحفظا لكمالاته وإكراماً للقداسة ولشرف شريعته وإثباتاً لسلطانه الأدبي في الكون ينبغي أن يجري أحكام العدل علي الخاطئ إلا إذا وجد من ينوب عنه بإكرام الشريعة واحتمال القصاص وإيفاء العدل حقه ورفع كل مانع لرضى الله بالخاطئ المذنب كما عمل المسيح. غير أن الله وإن كان مشترعاً وقاضياً فهو أيضاً أب حنون ومحب لأولاده الخطاة وقد غلبت محبة الآب ورحمته الصعوبات المتعلقة بمسألة الخطية وتنازل الله لتدبير الخلاص للخطاة ليس بإجراء قصاص الشريعة عليهم بل بإرسال ابنه لينوب عنهم بكفارته ويشتري لهم الفداء التام. والجرم كما تقدم تكراراً لفظة يعبر بها في اصطلاح علم اللاهوت عن نسبة الخطية إلي العدل أي إلى الشريعة العادلة وهي بهذا المعنى تحيط بأمرين ممتازين : الأول : استحقاق اللوم وبهذا المعني لا يمكن أن ينسب إلي غير من هو جارم فعلاً لأن الصفات الذاتية لا تنسب إلا لصاحبها وهو يلازم دائماً جميع الذين أخطأوا ولا تزول بواسطة التبرير أو بواسطة الصفح ولا يمكن أن الجرم الشخصي بهذا المعنى ينسب أو ينتقل من شخص إلي آخر. والمعنى الثاني للجرم : استحقاق القصاص أو الالتزام بإيفاء العدل حقه وبهذا المعنى يمكن إزالة الجرم بإيفاء العدل شخصياً أو نيابياً ويمكن نقله من شخص إلي آخر بالحسبان الشرعي التابع النسبة النيابية فإذا سرق إنسان أو ارتكب ذنباً آخر له عقاب في شرع البلاد أمكن إزالة جرمه بموجب المعنى الأخير بواسطة احتماله ذلك العقاب. وتحريره من قصاص الشرع بعد ذلك ليس من قبيل المناسبة فقط بل من مقتضى العدل. فبهذا المعنى قيل أن جرم معصية آدم حسب علينا وأن المسيح اتخذ جرم خطايانا وأن ذبيحته واسطة لتبريرنا من الجرم. أما لفظة قصاص فيراد بها عقاب والمفهوم بها في الكلام علي احتمال المسيح قصاص الشريعة عنا هو ليس أن المسيح احتمل بذات القصاص المعين للإنسان الخاطئ الذي هو الموت الأبدي أو أنه احتمل ذات العذاب الذي يصيب الهالكين نوعاً ومقداراً بل أنه احتمل ما عينه له الله من القصاص النيابي لأجل التعويض عن القصاص المفروض علي البشر الخطاة. وباستعمال لفظة قصاص للتعبير عن آلام المسيح الكفارية نقصد التعبير عما احتمله المسيح لأجل إيفاء العدل حقه بدون تعيين ماهية الآلام أو مقدارها لأن لآلام المسيح قيمة كفارية خاصة بسمو مقامه وشرف شخصه. ونختار لفظة قصاص إشارة إلي تلك الآلام لأجل تمييزها باعتبار غايتها عن الآلام الآتية علي سبيل البلية والتأديب لأن الغاية فيها لم تكن لأجل تأديب المسيح أو لأجل إقامته مثالاُ للصبر وإنكار النفس بل لأجل احتمال ما يطلبه العدل إيفاء لمطاليبه. لأن القصاص الذي احتمله المسيح يختلف جداً عن القصاص الذي يحتمله الخاطئ الهالك ولكن نظراً لرضى الله بعمله الكفاري وقيمة آلامه يعتبر أنه كاف لإيفاء العدل حقه عن جميع بني جنسنا وبهذا المعنى يليق استعمال لفظة القصاص للتعبير عن نسبة آلام المسيح إلي شريعة الله لأن الكفارة تتم باحتمال القصاص المطلوب غير أن ما وضع علي المسيح قصاصاً يختلف كل الاختلاف عما حق علي الخاطئ نفسه. ما هو تعريف الطاعة والذبيحة ؟ يراد بطاعة المسيح كل ما يتعلق بحياته وخدمته في حال التجسد وما انتهت إليه من تقديم نفسه ذبيحة عن الخطاة ولذلك كانت ذبيحة المسيح جزءاً من طاعته الكاملة كما قيل أطاع حتى الموت موت الصليب (في 2 : 8) أي أن موت المسيح ذبيحة كان تكملة لطاعته النيابية. والمراد بذلك أنه لأجل خلاص البشر قام مقامهم لدى الشريعة وقدم لها طاعة كاملة عنهم ولكن بسبب خطية البشر لم يكف مجرد الطاعة بدون كفارة عن الخطايا ولذلك قدم تلك الكفارة جزءاً من خدمة الطاعة وبتلك الطاعة التي كانت الكفارة قسماً منها لم يكفر المسيح عن الخطية فقط بل اشترى ميراثاً أبدياً سماوياً لجميع المؤمنين به فلفظة طاعة شاملة تحيط بكل عمل المسيح في حال التجسد إلي أن انتهى بموته كفارة كقوله هاآنذا أجئ في درج الكتاب مكتوب عني لأفعل مشيئتك يا الله فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة (عب 1 : 7 و 10) وقوله لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاة هكذا أيضاً بإطاعة الواحد سيجعل الكثيرون أبراراً (رو 5 : 19). والذبيحة بحصر المعنى تشير إلي موت المسيح كفارة علي الصليب كأنه مذبوح علي مذبح لأجل خطايا العالم علي أن حياة المسيح كانت بالإجمال علي سبيل الذبيحة لأن احتماله المشقات والآلام والأحزان والأحمال المقترنة بحياته علي الأرض كان من نوع الذبيحة كما قال هو نفسه ليس إشارة إلي موته فقط بل إلي كل حياته " أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلي مجده " (لو 24 : 26). فالذبيحة وإن أشير بها غالباً إلي موته علي الصليب تشتمل علي كل ما احتمله في إتمام عمل الفداء علي الأرض. ما هو تعريف الكفارة والتكفير والإرضاء والإيفاء والنيابة ؟ إن كفارة المسيح هي عمله الذي تم بواسطة طاعته الكاملة اختياراً لمشيئة الله ولأجل خلاص البشر من لعنة الشريعة ومصالحتهم مع الله وتلك الكفارة لم تكن لأجل نفسه بل لأجل جنسنا الساقط كما قيل فإن المسيح أيضاً تألم مرة واحدة من أجل الخطايا البار من أجل الأثمة لكي يقربنا إلي الله (1 بط 3 : 18) وقيمة تلك الكفارة مبنية علي كونه ابن الله الأزلي كما قيل هذا هو ابني الذي به سررت (مت 17 : 5). ويصح أن ننظر إلي كفارة المسيح من أوجه مختلفة باعتبار نسبتها إلي الله أي إلي محبته وقداسته وعدله أو باعتبار نسبتها إلي الإنسان أي فعلها فيه ولأجله وقد اصطلح اللاهوتيون علي ألفاظ تعبر عن هذه النسب المختلفة فقيل مثلاً أن كفارة المسيح تكفير عن الخطية وترضية الله وإيفاء العدل حقه وأن المسيح تمم عمله الكفاري بالنيابة عنا. قيل أن كفارة المسيح تكفير عن الخطية وهو تعبير عن مفعول الكفارة في خلاص الخاطئ من لعنة الشريعة ورفع الدينونة عنه. وقيل كذلك أن الكفارة في إزالة غضب الله وعن رضاه بقبول الخاطئ للمصالحة. وقيل كذلك أن الكفارة إيفاء العدل حقه وذلك للتعبير عن كون الكفارة إيفاء كل مطاليب العدل حتي لم يبق شئ يطالب به الخاطئ المؤمن أمام العدل الإلهي. فالإيفاء مأخوذ من الاصطلاحات الشرعية والتكفير من الاصطلاحات اليهودية المختصة بالنظام الموسوي وخدمة الهيكل ويشار بالإيفاء إلي تأدية المطلوب لدي الشرع وبالتكفير إلي ستر النفس المذنبة بدم الذبيحة حتي لا يطالب المذنب بالقصاص لأنه رفع عنه بوضعه علي الحيوان المذبوح لأجله وبالإرضاء أو الاستعطاف إلي تحويل غضب الله إلي رضى بناء علي وساطة المسيح وكفارته كما قيل في هذا هي المحبة ليس أننا أحببنا الله بل هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا (1 يو 4 : 10) ولم تكن الكفارة ما حمل الله علي محبة البشر ولكنها فتحت باب المصالحة بينه وبين الخطاة بدون إهانة شريعته المقدسة وهي ذاتها ثمر محبته. فاتضح أن التكفير علة رضى الله فالخاطئ (أو جرمه) مكفر عنه والله مرضي علي أن التكفير ليس علة محبته تعالي لأنه محب قبل التكفير. وبما أنه لابد من القصاص علي الجرم حسب مقتضى عدل الله (لأن القصاص عبارة عن كراهيته تعالي للخطية وحكمه بالعدل عليها) كفر عن جرم الخاطئ بواسطة الإيفاء أي القصاص النيابي. فأرضى الله سبحانه بذلك أي صار موافقاً لطبيعته أن يصفح عن الخاطئ ويباركه. أما راض ومحب فليستا مترادفتين نعم أن الله محبة لأنه أحبنا ونحن خطاة وقبل الإيفاء عنا ولكن الإيفاء أو التكفير لا يحرك المحبة في القلب الإلهي بل يجعله موافقاً لعدل الله أن يبين محبته للذين عصوا شريعته أي يجعله راضياً بذلك. وقد تفلسف البشر في طبيعة الله ونسبته إلي خلائقه الخطاة ولم يصلوا البتة إلي نتيجة كافية ولكن إذا التفتنا إلي تعليم الكتاب المقدس في ذلك سهل علينا فهمه لأنه ورد في العهدين القديم والجديد أن الله عادل بمعنى أن طبيعته تطلب قصاص الخاطئ وأنه لذلك لا يمكن أن يكون غفران بدون تكفير نيابي أو شخصي ومن المعلوم أن طريقة الخلاص علي سبيل التمثيل والرمز في النظام الموسوي والتفسير في كتب الأنبياء والإعلان الجلي في العهد الجديد تتضمن نيابة ابن الله المتجسد عن الخطاة. والمراد بالإيفاء بأكثر تفصيل الإشارة إلي كل ما فعله المسيح ليوفي مطاليب ناموس الله وعدله عوضاً عن الخطاة ولأجلهم. وهذه اللفظة قد اشتهرت بين الاصطلاحات اللاهوتية وكثر التعويل عليها للتعبير عن عمل الكفارة باعتبار نسبتها إلي ناموس الله وعدله. علي أن الإيفاء نوعان متميزان بينهما فرق في حقيقتهما ونتائجهما فالنوع الواحد مالي أو تجاري والنوع الآخر عقابي أو قضائي. فمتى أوفي المديون بموجب المعنى المالي كل مطلوب دائنه عتق من ذلك بالكلية لأن الإيفاء هو تأدية كل ما يطالب به ولا يمكن أن يكون بعد ذلك منة ولا رحمة ولا نعمة من قبل الداين الذي استوفي دينه. ولا فرق عنده سواء أوفاه المديون نفسه أم شخص آخر عوضاً عنه لأن دعواه إنما هي علي المبلغ المستحق الإيفاء لا علي شخص المديون. أما في الجنايات ففي ذلك فرق لأن الطلب هو علي الجارم وهو نفسه المكلف للعدل. والنيابة في المحاكم البشرية لا ممحل لها في هذه المسألة لأن الأمر الجوهري ليس العقاب بل إجراءه علي المذنب الذي يكابده. قال الله له المجد النفس التي تخطئ تموت. والعقاب ليس من اللازم أن يكون من نوع الجرم بل من النادر أن يكون كذلك لأن كل ما يطلب هو أن يكون جزاءً عادلاً علي قدر الجرم تماماً فعقاب التعدي علي شخص ربما كان جزاءً نقدياً وعلي السرقة القيود في السجن وعلي خيانة الملك النفي أو الموت. ومن أهم ما يقوم به الفرق بين الإيفاء المالي والعقابي هو أن الأول يحرر لا محالة بناء علي كفايته فحالما يوفي الدين يصير المديون حراً تماماً فلا يجوز إبقاؤه تحت القبض ولا وضع شروط لإنقاذه. وأما الجارم المجبر علي الإيفاء العقابي فلا يحق له أن يقيم آخر في مكانه لأن هذا ليس له مثيل في المحكمة البشرية ولذلك لا يستفيد من البدل فإذا قبل القاضي ذلك تترتب حينئذ فائدته علي ما يشترطه القاضي علي البدل وما يتعهد له به فربما والحالة هذه يتم إنقاذ المذنب حالاً بدون شرط أو يتأخر إلي حين شروط معلومة أو يتم بالتدريج لا دفعة واحدة. وبما أن إيفاء المسيح ليس مالياً بل هو عقابي أو قصاصي أي إيفاء عن الخطاة لا عن مديونين ديناً مالياً ينتج ما يأتي : 1 – إنه لا يقوم بتقديم شئ عن شئ مساو له قيمة. وقد تقدم أن عقاب اللص ليس استرجاع المسروق ولا تعويض قيمة المال بل هو غالباً ما يفرق فرقاً كلياً عن حقيقة الجرم كالجلد والسجن. فإن القصاص لأجل الهجوم علي شخص بقصد ضربه ليس إجراء نفس هذا العمل علي المذنب بل قصاص آخر يوازي ذنبه. وكذلك بين قصاص النميمة والخيانة والعصيان مثلاً وتلك الجنايات فرق كلي. فكل ما يطلبه العدل في الإيفاء العقابي أن يكون إيفاءً حقيقياً لا مجرد ما يرضي به القاضي. نعم قد يفرق في النوع ولكن يجب أن يكون ذا قيمة جوهرية تساويه فغرامة إنسان بدراهم قليلة لأجل القتل عمداً ضرب من الاستخفاف ولكن الموت أو السجن الطويل لأجل إعدام الحياة هو إيفاء حقيقي للعدل. والخلاصة أن مفاد تعليم الكتاب أن المسيح أوفي العدل الإلهي عن خطايا البشر هو أن ما فعله وكابده كان مجازاة حقيقية وافية بالعقاب المتروك والفوائد الموهوبة. أي أن آلامه وموته كافية لإتمام جميع الغايات المقصودة بقصاص البشر علي خطاياهم. فهو أوفي العدل الإلهي حقه وجعل تبرير الخاطئ موافقاً له ولكنه لم يتألم بنوع الآلام المفروض علي الخطاة أن يكابدوه ولا كابد ما هو بقدرها غير أن آلامه تفوق ما استوجبوه قيمة إلي غير نهاية. لأن موت إنسان صالح مشهور جداً يفوق إلي الغاية ملاشاة جميع الهوام وكذلك إتضاع ابن الله الأزلي وآلامه وموته يفوق بما لا يقاس قيمة وقوة ما يكابده جميع الخطاة من العقاب. 2 – إن إيفاء المسيح هو من النعمة. لأن الآب لم يكن مضطراً أن يقدم بدلاً عن البشر الساقطين ولا الابن كان مضطراً أن يتخذ تلك الوظيفة وإنما الله سبحانه من مجرد النعمة وقف إجراء عقاب الشريعة وقبل الآلام النيابية وموت ابنه الوحيد. والابن من محبة لا نظير لها ارتضى أن يتخذ طبيعتنا ويحمل خطايانا ويموت عنا البار عن الأثمة ليقربنا إلي الله. وكل ما يزاد للخطاة من الفوائد بسبب إيفاء المسيح هي عطايا مجانية وبركات لا حق لهم بها. 3 – إن الإيفاء يؤكد منح البركات الناتجة عنه لشعب الله المؤمن في المسيح وذلك من قبل العدل أيضاً لسببين: أولهما: أنها قد وعد بها لهم (أي المؤمنين) جزاء لطاعة المسيح وآلامه والله عاهد المسيح أنه إذا تمم الشروط المشروطة عليه إتماماً للوساطة (أي إذا أوفي عن خطايا شعبه) يبارك علي كل المؤمنين به للخلاص. والثاني: إن ذلك من خواص الإيفاء فإذا أوفيت مطاليب العدل لا تطلب بعد وهذه هي المشابهة بين عمل المسيح وإيفاء الدين المعتاد. 4 – إن إيفاء المسيح مبني علي العهد المقطوع بين الآب والابن ولذلك تتعلق فوائده بشروط ذلك العهد. فإن شعب الله يولدون في الخطية كبقية البشر ويبقون في حال الدينونة إلي أن يؤمنوا وحينئذ يتبررون وتسبغ عليهم كمال فوائد الفداء بالتدريج أي أن المؤمن ينال منها شيئاً فشيئاً في هذه الحياة إلي أن تكمل له في الحياة الأبدية. أما النيابة فتشير إلي أن المسيح قام مقام غيره في عمل الفداء والمراد بالقصاص النيابي ليس الآلام التي تقاسى لأجل خير الآخرين فقط لأن آلام الشهداء ومحبي أوطانهم وصانعي الأعمال الخيرية تكابد لأجل خير الكنيسة والبلاد والجنس البشري ولكنها ليست نيابية لأن النيابة حسب استعمالها تشمل معني البدل. فالآلام النيابية هي ما يكابدها شخص عوضاً عن آخر وتقتضي بالضرورة تحرير المكابد عنه إذا تمت جميع الشروط لذلك. والنائب هو البدل أو من يأخذ مكان الآخر ويعمل عوضاً عنه. وبهذا المعنى يزعم البابا أنه نائب المسيح علي الأرض ويدعى أنه يعمل أعمال المسيح الخاصة به. فما يعمله العوض لأجل من يقوم في مكانه هو عمل نيابي وهو يحرر المناوب عنه من ضرورة عمل ذلك الشيء أو مكابدة ذلك الألم. وعلي ذلك يكون المراد بآلام المسيح النيابية ما احتمله عن الخطاة أي أنه قام مكانهم وعمل ما يجب عليهم ليوفي العدل الإلهي حقه وما فعله وكابده يغنيهم عن القيام بما يطلبه الناموس لأجل التبرير. وهذا الاعتقاد بالتعويض والطاعة والآلام النيابية جار في كل أديان العالم وهو مثبت من كلمة الله ومتضمن في التعاليم المعلنة فيها وذلك يبرهن أنه ليس بشرياً محضاً بل أنه ناشئ من مصدر إلهي وأنه موافق ليس لعقل الإنسان فقط بل لعقل الله أيضاً. ولا يليق أن نستعمل كلمات بمعنى لا يوافق معناها المقرر فلا يصح مثلاً أن نقول أن آلام المسيح نيابية بمعنى أنها استخدمت لخير الجنس البشري فقط لأن ذلك يمكن أن يقال عن الآلام المكابدة لأجل خير الجمهور. أما المراد بنيابة آلام المسيح فهو كالمراد بنيابة إنسان عن آخر ليخلصه من العقاب الذي يستوجبه وكالمراد بنيابة موت ذبائح العهد القديم عن موت المذنب. وهذا هو المعني الذي يجب أن يخصص بحكمة النيابة في هذا المقام. والحاصل مما سبق أن لفظة الكفارة تستعمل عند علماء اللاهوت للتعبير عن عمل المسيح الذي أتممه لأجل خلاص البشر والتكفير عن ستر الخطايا برش دم الذبيحة كما جرت العادة في ذبائح العهد القديم (لا 17 : 11 ورو 3 : 25 وعب 2 : 17 و 1يو 2 : 2 و 4 : 10) والإرضاء للتعبير عن تحويل غضب الله وعوده تعالي إلي الرضى عن الخاطئ بناء علي وساطة المسيح علي أن الرضي هنا يمتاز عن المحبة لأن محبة الله لا تتوقف علي الكفارة خلاف رضاه والإيفاء للتعبير عن إيفاء العدل حقه والنيابة للتعبير عن قيام المسيح مقامنا أمام الشريعة الإلهية (1بط 3 : 18 وعب 7 : 25). ما هو تعريف المصالحة والفداء ؟ ج – في الكتاب المقدس لفظتان مهمتان تشيران إلي عمل المسيح ونتيجته وهما كفر وصالح فبلفظة كفر يعبر عن عمل المسيح باعتبار غايته الجوهرية ودعي العمل كفارة ومفعوله تكفيراً (رو 3 : 25 وعب 2 : 17 و 1يو 2 : 2 و 4 : 10 ولا 17 : 11) وبلفظة صالح يعبر عن عمل المسيح باعتبار نتيجته أو مفعوله في إزالة المخالفة بين الله والخطاة ودعيت تلك النتيجة المصالحة (رو 5 : 11 و 2كو 5 : 18 و 19 وأف 3 : 16 وكو 1 : 20). وقد أضيف إلي هاتين اللفظتين المشهورتين لفظة إرضاء ولفظة إيفاء كما سبق الكلام غير أن اللفظتين الأخيرتين من باب الاصطلاحات اللاهوتية أكثر مما هما من لغة الكتاب المقدس علي أن معناهما بغاية الوضوح في تعليم الوحي في كفارة المسيح. أما من جهة نتيجة الكفارة من حيث كونها عملاً قد تم فهي علي ثلاثة أوجه : الوجه الأول : نسبتها إلي الله وحده. الوجه الثاني : نسبتها إلي الله والإنسان معاً. الوجه الثالث : نسبتها إلي الإنسان وحده. فباعتبار نسبتها إلي الله هي بيان محبته وقداسته وعدله وثبوت حكمه الأدبي بأجلى بيان (2كو 4 : 6 و 1 يو 4 : 10). وباعتبار نسبتها إلي الله والإنسان هي واسطة لفدائه وهي بهذا المعنى تعد الفداء للإنسان. أما من جهة المصالحة فيعلمنا الكتاب أن الله هو طالبها كما قيل أن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه (2كو 5 : 19) أي أنه تعالى عين وساطة المسيح بكمالها طريقاً للوصول إلي المصالحة ولذلك كان القصد بإيجاد المصالحة في نية الآب السماوي قبل إرسال ابنه وكانت كفارة المسيح واسطة لإتمام ذلك القصد علي طريقة توافق الصفات الإلهية كما قيل لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه (2كو 5 : 21). وبهذا المعنى دعيت بشارة الإنجيل خدمة المصالحة والمبشرين سفراء عن المسيح والذي قبل الإنجيل وآمن بالمسيح دخل في حال المصالحة والسلام والذين قبلوا المسيح واتكلوا علي كفارته وتبرروا بدمه نالوا السلام التام وتخلصوا من الغضب (رو 5 : 9 – 11). أما لفظة الفداء فيعبر بها عن نتيجة كفارة المسيح باعتبار نسبتها إلي الإنسان لأنه نال بها الفداء أي التخلص من لعنة الشريعة ومن عبودية الخطية ومن القصاص الأبدي بواسطة عمل المسيح الذي دفع عنه فدية دمه الكريم كما قيل أن ابن الإنسان أتي ليبذل نفسه فدية عن كثيرين (مت 20 : 28) وأيضاً قوله كنيسة الله التي اقتناها بدمه (أع 20 : 28) وقوله الذي فيه لنا الفداء بدمه (أف 1 : 7) وقوله عالمين أنكم أفتديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب …. بل بدم كريم (ا بط : 18 و 19) وقوله لأنك ذبحت واشتريتنا لله بدمك (رؤ 5 : 9) وأيضاً ليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلي الأقداس فوجد فداء أبدياً (عب 9 : 12) فالمسيح قدم نفسه فدية عن خطايا العالم أجمع (يو 3 : 16 وعب 2 : 9) غير أن ذلك الفداء المعد للعالم لا يكون فعالاً ونافعاً إلا للمؤمنين بالمسيح الذين بالتوبة والإيمان ينالون فوائد الكفارة. وخلاصة ما تعلمناه من النظر إلي اصطلاحات الكتاب المقدس وعلم اللاهوت في كفارة المسيح هي أن المسيح باعتبار أنه وسيط أوجد طريق المصالحة بين الله والبشر وذلك بطاعته إلي الموت ذبيحة وتقديمه كفارة تامة لأجل التكفير عن خطايانا ولأجل إرضاء الله بنا وإيفاء عدل الله حقه. وقد نتج من ذلك الفداء للجنس الذي يناله شخصياً كل تائب ومؤمن بالمسيح. وليس في ذلك شئ من الإيهام إلا أنه يجب الاحتراس في فهم المراد بلفظة إرضاء لأن معناها ليس أن الله أحبنا بسبب وساطة المسيح وكفارته لأنه أحبنا قبل إتمام ذلك الوساطة دليل علي تلك المحبة وبرهانها بل المراد بها أن الكفارة فتحت باب لترضية الله القدوس بالبشر الخطاة علي كيفية موافقة لجميع صفاته أي أنها (الكفارة) رفعت الموانع لمعاملة الله الخطاة بالرضى والسرور وقبولهم في حضنه الأبوي بدون إهانة قداسته وعدله. فإن الله أحب الخطاة منذ الأزل ولكن لم يرتض بهم وهم خطاة إلا بواسطة عمل المسيح الكفاري وتوسطه فدية عنهم. |
||||
06 - 03 - 2015, 05:22 PM | رقم المشاركة : ( 1240 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تــأملات جميلة وحكم أجمل
ألقاب المسيح في القرآن دائما ما يكون الاسم دليل المسمى ... ومما يزيدنا معرفة لمنزلة المسيح الفريدة في القرآن، ما يضفيه علي عيسي ابن مريم من الألقاب. وإنك لتراه يسبغ عليه من النعوت والصفات، والألقاب والأسماء ما يجعله وحيداً بين الأنبياء، وسيداً للمرسلين. نجد في القرآن ألقاباً نبوية تجعل المسيح "وجيهاً" بين الرسل الذين خلوا من قبله. ونجد في القرآن ألقاباً إلهية - أجل إلهية - ينفرد بها المسيح علي سائر الأنبياء والمرسلين، بل ترفع المسيح من رتبة المخلوق إلي صلة ذاتية خاصة بالخالق. أولاً : ألقاب المسيح النبوية في القرآن ثانياً : ألقاب المسيح الإلهية في القرآن أولاً : ألقاب المسيح النبوية في القرآن "قال أني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً" (مريم 30) يسمي القرآن المسيح عادة : "عيسي ابن مريم". هو "عيسي" : بالعبرية "إيشوع" (البيضاوي والزمخشري) أو بالحري "يشوع" ومعناه في لغتهم "المخلص". هذا إسمه الشخصي المعروف به، اسم العلم الذي به يعلم. وصحيح الاسم "يشوع" بالعبرانية، "ويسوع" بالسريانية فمن أين نقله علي هذه الصورة "عيسي" ؟ الأرجح أنها منقولة ومنحوتة عن الرومية السريانية في صيغة المنادي "إيسو" فوصلت إلي قلب الجزيرة علي هذه الصورة "عيسي". ومعروف عند الشرقيين ما للاسم من مغزي وأمل. وهو "ابن مريم" نسبه إلي أمه. وينسبه إلي أمه تشريفاً له ولها. وليس في هذه النسبة أية إهانة أو تحقير لأن هذه الأم قد "اصطفاها الله علي نساء العالمين" (آل عمران 42) وينسبه إلي أمه ليس لأنه مجهول الأب، فتلك إهانة ينتفض لها القرآن ويكفر اليهود الذين يقولون بها (نساء 157) بل شهادة دائمة من القرآن لأمومة مريم البتولية، ولمولد عيسي المعجز الفريد من بتول لم يمسسها بشر. ويرد هذا اللقب "ابن مريم" مسنوداً إلي عيسي كناية له : "وقفينا علي آثارهم بعيسي ابن مريم" (بقرة 87، نساء 170، مائدة 46) "وآتينا عيسي ابن مريم البينات" (بقرة 87 و 253 و مائدة 49)، "إذ قال الله يا عيسي ابن مريم" (مائدة 113 و 119)، وهذا الاسم تصح به نسبة عيسي. ويرد اللقب "ابن مريم" مستقلاً بنفسه، كناية علمية علي الطريقة السامية : "وجعلنا ابن مريم وأمه آية" (مؤمنون 51) "ولما ضرب ابن مريم مثلاً" (زخرف 57) وفي هذه الكناية تشريف، وتفضيل، واستشهاه، وشهادة. ويدعو "عبد الله" أي رجل الله، وهي صفة يتصف بها أنبياء الله ورسله. فهو قال عن نفسه "إني عبد الله" (مريم 30) حينما نطق طفلاً، والله يدعوه عبده "إن هو إلا عبد أنعمنا عليه" (زخرف 58)، ويجعل القرآن هذه الصفة ميزة رسالته. وحسبه فخراً أنه عبد الله "لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله" (نساء 171). وهو "النبي" : ولد نبياً بشهادته لما نطق حال ولادته "إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً" (مريم 30)، بل نبوته ترتقي إلي ما قبل الولادة، إذ هو كلمة الله ألقاها إلي مريم، وروح منه" (نساء 171). وقد انفرد هذا "النبي" بخوارق شخصه ورسالته. وهو "الرسول" أيضاً : لا يجعل القرآن عادة فرقاً بين النبي والرسول. وقالوا أن الرسول هو النبي الذي اختصه الله بشرع جديد، مثل إبراهيم وموسي وعيسي ومحمد. إنه رسول الله "إنما المسيح عيسي ابن مريم رسول الله" (نساء 170). إنه "رسول إلي بني إسرائيل" (آل عمران 49) امتازت رسالته بتمام الوحي فيه "ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولاً إلي بني إسرائيل" (آل عمران 48 و 49). فانفردت رسالته بخوارق لا مثيل لها في تاريخ النبوة والرسالة من إبراء، إلي إحياء، إلي خلق (آل عمران 49). واختصت بتأييد الروح القدس، روح الله (بقرة 78 و 53، مائدة 113). وهو "الغلام الزكي" (مريم 18) جسداً ونفساً، وحده ولد بحال البتولية، ووحده ولد بدون مس الشيطان، ووحده عاش "طاهراً بريئاً من الذنوب" (البيضاوي)، ووحده عاش "لا يصيب من الذنوب كما يصيب سائر بني آدم حتي الآنبياء منهم" (قتادة)، ووحده لا ينسب إليه إثم علي الإطلاق. وهو "المبارك" أينما كان : حمل هذه البشري معه منذ مولده "وجعلني مباركاً أين ما كنت" (مريم 31)، وظل في كل لحظة، وفي كل موقف من مواقف حياته "المبارك" أينما كان. فأي نبي خصه الله بمثل هذه البركة في كل دقائق حياته "أين ما كنت" ؟ من لا تتغلب عليه في ساعة من ساعات حياته عوامل البشرية، ومواطن الضعف، فلا يكون فيها "مباركاً" ؟؟ لقد جاء عن محمد، خاتم النبيين : "وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك، لتفتري علينا غيره، وأذن لا تخذوك خليلاً. ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً (إسراء 73) وأيضاً "إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" (فتح)، وجاء عن سائر المرسلين : "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي، إلا إذا تمني (قرأ) ألقي الشيطان في أمنيته"! إنما واحد أحد رافقته البركة والنعمة، وتأييد الروح القدس من المهد إلي اللحد ومن الدنيا إلي الآخرة "وجعلني مباركاً أين ما كنت"، هو عيسي ابن مريم. وهو "البتول" دائماً : ولد من بتول، وعاش بتولاً، وارتفع بتولاً، لا يذكر له القرآن والإنجيل زوجة ولا أولاداً، ولا يسندان إليه كنية ولد، ولا يلمحان إلي علاقة له بالنساء، ولم يمد عينيه إلي ما متع به الله أزواجاً منهم. بينما القرآن يزخر بحوادث النساء عند غيره، ولم يكتم في نفسه ما الله مبديه ... وحده مع يحيي بن زكريا كان "حصوراً" ارتفع فوق حاجة الرجل إلي إمرأة إنه البتول. وهو "المثل" الأعلي : "وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل" (زخرف 58)، والقرآن لا يعرض غيره مثلاً. فقد حقق المثل الأعلي في التقوي والفضيلة والقداسة : "وأوصاني بالصلوة والزكوة ما دمت حياً ! وبراً بوالدتي ! ولم يجعلني جباراً شقياً !" (مريم 32). ويكفيه فخراً أن القرآن ينزهه عن كل إثم ومنقصة. فهو المثل الذي لا تشوبه شائبة. هو "الوجيه في الدنيا والآخرة" (آل عمران 45) قالوا بالإجماع، كما رأينا، الوجاهة في الدنيا هي النبوءة، وفي الآخرة هي الشفاعة. زاد الزازي هي براءته من العيوب في الدنيا وكثرة ثوابه في الآخرة، واستجابة دعائه في الدنيا، وعلو درجته ومنزلته في الآخرة. لا بل أكثر من ذلك، فوصفه بالوجاهة يعني زعامة في النبوءة، وزعامة في الشفاعة، والتقدم، والدرجات العلي. هو "وجه" الأنبياء والمرسلين، المقدم في الدنيا عليهم، والمقرب في الآخرة من عرش الجلالة "فقد ارتفع إلي السماء وجلس عن يمين الله" (خاتمة إنجيل مرقس). وهكذا، فألقاب المسيح النبوية تظهر المسيح وحده "آية العالمين" بين الأنبياء والمرسلين. قبل ظهوره يقول القرآن عنه "قال ربك : هو علي هين : ولنجعله آية للناس ورحمة منا ! وكان أمراً مقضياً" (مريم 21) وبعد ظهوره يقول "وجعلناها وابنها آية للعالمين" (أنبياء 91) مشركاً الأم في شرف ابنها فهو آية بشخصه، آية بحياته، آية برسالته. ففي تاريخ النبوة المسيح وحده "آية الله للعالمين" : وهذه الصفة موجز كل الألقاب. هذه الألقاب النبوية تجعل وحدها عيسي ابن مريم نبي الأنبياء في القرآن. وتدل وحدها دلالة كافية علي سمو رسالته وشخصيته اللتين انفرد بهما. ثانياً : ألقاب المسيح الإلهية في القرآن "إنما المسيح، عيسي ابن مريم، رسول الله وكلمته ألقاها إلي مريم وروح منه" (نساء 170) هناك في القرآن الكريم، بين النعوت والصفات، والأسماء والألقاب التي تكلل هامة المسيح بمجد لا يداني، ثلاثة ألقاب انفرد بها المسيح دون سواه من الأنبياء والمرسلين، والأولياء والصالحين، والملائكة المقربين : "إنما المسيح، عيسي ابن مريم، رسول الله، وكلمته ألقاها إلي مريم وروح منه". (نساء 170). فعيسي ابن مريم هو مسيح الله وعيسي ابن مريم هو كلمة الله وعيسي ابن مريم هو روح الله في هذه الصفات والألقاب تعريف بالمسيح أبلغ وأسمي من كل تعريف. فهي بحد ذاتها، مهما كان معناها، تحديد لشخصيته يرفعها فوق الجميع، وهي كما فسرها المسلمون تبين عظمة المسيح الوحيدة في العالمين. وهي في معناها الكامل - علي ضوء التوراة والنبيين والإنجيل حيث اقتبسها القرآن وصدقها وشهد لها - ترفع المسيح فوق المخلوقين إلي صلة ذاتية خاصة مع الخالق. ونقر منذ البدء أن لنا الحق كله بأن نفهم علي ضوء التوراة والنبيين والإنجيل ما غمض في القرآن من النقاط المشتركة لأن القرآن ذاته، في حالة الشك من شهادته أو من فهمها، يحيلنا إلي الكتاب : "فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرأون الكتاب من قبلك" (يونس 94). 1 - عيسي ابن مريم هو مسيح الله "إذ قالت الملائكة : يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح" (آل عمران 45) عيسي ابن مريم هو المسيح "إنما المسيح، عيسي ابن مريم" (نساء 170). المسيح هو اسم لعيسي ابن مريم، وليس لقباً فقط : "يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه : اسمه المسيح" (آل عمران 45). الملائكة تبشر بهذا الاسم، وهي تحمله معها من السماء إلي الأرض. والله ذاته يبشر به العذراء، بواسطة الملائكة : "إذ قالت الملائكة : يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح". فهو اسم سماوي إلهي أوحي به الله مباشرة. وعندما يوحي الله اسماً يعلق عليه رسالة خاصة : فالاسم دليل الشخص. ومهما كان معني هذا الاسم العجيب، فإنه يعني أن (الله مسحه وأرسله) "رحمة وآية للعالمين". لقد سبق الله في التوراة والأنبياء فأخبر عنه، ووصف شخصه ورسالته. ولما جاء القرآن، وصدق هذا الاسم لعيسي ابن مريم، وشهد للإنجيل والتوراة، دل علي أن عيسي ابن مريم هو مسيح الله المنتظر، موضوع أحلام وآمال البشرية جيلاً بعد جيل، ودل دلالة واضحة علي أنه هو هو حامل الرسالة العظمي التي تنبأ عنها الأنبياء ووصفوها في شخصه. ولما أعلن القرآن أن عيسي ابن مريم هو المسيح الموعود به شهد لما قالته التوراة عنه، وشهد لما قاله الإنجيل عنه. وباعتراف القرآن لعيسي بهذا الاسم أقر بأنه أتم الرسالة التي علقها كتاب الله علي هذا الاسم الجليل. التوراة والأنبياء سموا "النبي" الأعظم باسمه "المسيح". والإنجيل والقرآن يشهدان أن عيسي ابن مريم هو المسيح أي النبي الموعود به "اسمه المسيح" (آل عمران 45). ولو فتشت القرآن كله لما وجدت سوي عيسي ابن مريم وحده، بين الأنبياء والمرسلين، قد انفرد باسم "المسيح"، وانفراده به ميزة خص بها دون سواه. وقد ذهب المفسرون في تفسير هذا الاسم الفخيم، المثقل بنبوات الأنبياء الأولين، مذاهب شتي. ولكن كلها تنطوي علي عظمة شخصية المسيح. وعلي عظمة رسالته اللتين دل عليهما "اسمه المسيح". قال البيضاوي : "المسيح لقبه. وهو من الألقاب المشرفة كالصديق. وأصله بالعبرية "مشيحا" ومعناه المبارك. سمي كذلك : - لأنه مسح بالبركة (ولم يمسح غيره بالبركة). - أو مسح بما طهره من الذنوب (ولم ينل غيره مسحة طاهرة مطهرة مثله). - أو مسح الأرض ولم يقم في موضع (وهل يستطيع غيره ذلك) ؟ - أو مسحه جبريل صوناً له من مس الشيطان. (ولم يصن أحد غيره بمثل هذه المسحة). وقال الرازي : "المسيح" : هل هو اسم مشتق أو موضوع ؟ أصله بالعبرية "مشيحا" فعربته العرب وغيروا لفظه : وعلي هذا القول لا يكون له اشتقاق. والأكثرون أنه مشتق موضوع : - قال ابن عباس : إنما سمي مسيحاً لأنه ما كان يمسح بيده ذا عاهة إلا برئ من مرضه. - قال أحمد بن يحيي : لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة. - قال غيره : لأنه كان يمسح رأس اليتامي لله تعالي. - لأنه مسح من الأوزار والآثام. - لأنه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء ولا يمسح به غيرهم. - لأنه مسحه جبريل بجناحه وقت ولادته ليكون له ذلك صوناً من مس الشيطان. - لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن. تعود تفاسير مسحة المسيح إلي معنيين : إنه مسح من الخطيئة، في ولادته "مسحه جبريل بجناحه وقت ولادته ليكون ذلك صوناً له من مس الشيطان"، وفي حياته كلها "مسح بما طهره من الذنوب، مسح من الأوزار والآثام". ثم نال مسحة النبوة الكاملة "مسح بالبركة. إنه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء". وذلك من بطن أمه "إنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن" وفي هذه المسحة من بطن أمه للرسالة الكاملة سر شخصيته وسر عظمته التي يحوم حولها المفسرون ولا يجرأون علي التصريح بها. والمعني الكامل لاسم "المسيح" يجب أن نفهمه في القرآن علي ضوء الإنجيل والأنبياء الأولين والتوراة، التي يأخذ القرآن عنها (اعلي 18 و 19، مريم 15) ويصدقها (بقرة 41 و 89و 91 و 101). فموسي يعتبر المسيح "النبي" خاتمة سلسلة أنبياء الكتاب. وداود في زبوره يدعوه : الرب والملك والكاهن. وداود أول من يسميه المسيح. وأشعياء يسمي المسيح المنتظر "عمانوئيل أي الله معنا" وينشد متنبئاً في شأن مولده : "قد ولد لنا ولد، وأعطي لنا ابن، صارت رئاسته علي كتفه، ولا حد لسلامه، ويدعي اسمه رسول المشورة العظيمة، مشيراً عجيباً، إلهاً قوياً، سلطاناً، رئيس السلام، أبا الدهر الآتي، ومخارجه منذ الأزل". ودانيال يراه دياناً للعالم آتياً علي سحاب السماء في "هيئة ابن الإنسان". فلقب المسيح في الكتاب مثقل بالمعاني النبوية الكثيرة. وقد نقل الشهرستاني نظرية الكتاب كما يقول بها المسيحيون : "كمال الشخص الإنساني في ثلاثة أشياء : نبوة وإمامة وملكية. وغيره من الأنبياء كانوا موصوفين بهذه الخصال الثلاث أو ببعضها. والمسيح عليه السلام درجته فوق ذلك لأنه الابن الوحيد فلا نظير له، ولا قياس له إلي غيره من الأنبياء، وهو الذي به غفر زلة آدم عليه السلام. وهو الذي يحاسب الخلق". فمسحة المسيح التي مسحه الله بها هي "نبوة وإمامة وملكية". فالمسيح هو النبي الأعظم والإمام أو الكاهن الأعظم والملك الأعظم. واختصاصه "باسم المسيح"، لهذه المسحات الثلاث، دليل علي كمالها فيه حتي عرف بها وعرفت به. والقرآن الكريم، علي آثار التوراة والأنبياء والإنجيل، إذ يعترف لعيسي ابن مريم، باختصاصه "باسم المسيح" (أل للتعريف والفردية)، يقر له بكل تلك الخصال. فمسحة النبوة ومسحة الأمامية أو الكهنوت ومسحة الملكية انتهت إليه واستكملت فيه. فهو "مسيح الله" بين الأنبياء والمرسلين من قبل أن يظهر ومن بعده : "إذ قالت الملائكة : يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه، اسمه المسيح". ذلك هو معني "المسيح" في القرآن والإنجيل والتوراة. 2 - عيسي ابن مريم هو كلمة الله "إنما المسيح عيسي ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلي مريم" (نساء 170) النصوص : كل البشارات في القرآن تبشر بعيسي ابن مريم أنه "كلمة الله". الله يبشر زكريا بيحيي، وعلامة نبوته تصديقه بكلمة الله : "فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب : إن الله يبشرك بيحيي، مصدقاً بكلمة من الله، وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين" (آل عمران 39). أولي صفات يحيي أنه مصدق بكلمة من الله أي بعيسي ابن مريم، إنه كلمة "كائنة" من الله (الجلالان). الله يبشر مريم مباشرة بكلمة منه : "إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسي ابن مريم، وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين" (آل عمران 45). أولي صفات مولود مريم وأول ألقابه التي تسمع به مريم هو أنه "كلمة الله". ومريم صدقت بالمسيح وإنجيله فسميت "الصديقة" (مائدة 78) : جاء في سورة التحريم في قراءة صحيحة : "ومريم ابنت عمران التي احصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا. وصدقت بكلمة ربها وكتابه وكانت من القانتين (12). والقرآن الكريم عندما أراد أن يستجمع أوصاف وألقاب المسيح ليعرف به يلقبه بهذا اللقب العظيم الفريد : "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا علي الله إلا الحق : إنما المسيح ابن مريم، رسول الله، وكلمته - ألقاها إلي مريم - وروح منه. فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا "ثلاثة" ! انتهوا، خير لكم : إنما الله إله واحد ! سبحانه أن يكون له ولد، له ما في السموات وما في الأرض، وكفي بالله وكيلا. لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون" (نساء 170 و 171). إن وجود هذا اللقب الوحيد الذي يخص القرآن به عيسي ابن مريم وحده، يخلق أشكالاً ومشكلة في القرآن : فالقرائن تدل علي أنه يختلف في مفهومه ومدلوله عما يصرح به القرآن عن عيسي ابن مريم، وهو حجر عثرة أيضاً عند المفسرين فهم يخبطون خبط عشواء في تفسيره : يرون فيه أكثر مما يقرون ولا يجهرون. ولا يفهم معني اللقب الكامل إلا بمقارنته بالإنجيل الذي نقل عنه وقد سبق إلي تعريف المسيح به. معناه في القرآن : ما معني هذا اللقب الفريد في القرآن ؟ لا نجهل أن هذا اللقب السامي لا يحمل في القرآن عامة أدني معني للألوهية. فالقرآن ينكر بوجه عام بنوة المسيح الإلهية من الله، وأن قبل نبوءته ورفعه بها فوق الجميع (وموقف القرآن من هذا اللقب خصوصاً يتضح من تعريفه الشهير في الآية 170 من سورة النساء : إنه كلمة الله ! ولكن ليس لهذا الكلمة صفة الألوهية : صدر الآية ينهي عن هذا الغلو في الدين : "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا علي الله إلا الحق"، وعجز الآية يعدد ثمانية دلائل تنفي ألوهية هذا الكلمة : 1) أنه رسول من رسل الله "فآمنوا بالله ورسله". 2) الإقرار بألوهية الكلمة ينتهي إلي القول "بالثلاثة" ولا تقولوا : ثلاثة. 3) "انتهوا، خير لكم". 4) "إنما الله إله واحد" فلا يمكن أن يكون الكلمة إلهاً معه. 5) وكيف يكون الكلمة إلهاً إلا بولادة الله له، "سبحانه أن يكون له ولد". 6) فكل ما عدا الله ملك وعبيد لله "له ما في السماوات وما في الأرض". 7) ولسنا بحاجة إلي غير الله "وكفي بالله وكيلا". 8) فالكلمة عبد لله مثل الملائكة المقربين، لا إله "لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون". أما في الإنجيل فمعني هذا اللقب الإلهي صريح : مطلع أنجيل يوحنا يكفي برهاناً قاطعاً. والمشكلة بين الكتابين في هذا : كيف نقل القرآن عن الإنجيل هذا اللقب الإلهي مجرداً عن ألوهيته ؟ والحل الصحيح ليس في نقض الإنجيل أو القرآن بل في التوفيق بينهما ما أمكن ... معناه عند المفسرين : وبين المفسرين أيضاً تقوم المشكلة علي هذا : هل يعني تعبير "الكلمة" اسم شخص أم مجرد "أمر" إلهي ؟ لقد أجمع القوم علي أن "كلمة الله" تعني "أمره". وقد تعني "وحيه" أو "كلامه الموحي به". جاء في الجلالين عن آل عمران 39 "مصدقاً بكلمة من الله" : كائنة من الله أي بعيسي أنه روح الله. وسمي كلمة لأنه خلق بكلمة كن !" وفي آل عمران 45 يمر علي التعبير دون أن يشرحه مما يدل علي تحذر. وفي سورة النساء 170 يمر بالإسم مرور الكرام، مكتفياً بالإشارة الأولي : "سمي كلمة لأنه خلق بكلمة كن !" - ونقول لماذا وحده سمي بهذا الإسم "كلمة الله" وقد خلق البشر كلهم والأنبياء والمرسلون، والملائكة المقربون بكلمة "كن"، ولم يقل الإنجيل والقرآن والتوراة عن احد من المخلوقين أن "اسمه كلمة الله" ؟ ثم كيف "روح الله" يكون مجرد أمر ؟ أليس في التفسيرين تناقض وارتباك ؟! وجاء في البيضاوي : "مصدقاً بكلمة من الله" (آل عمران 39) أي بعيسي، سمي بذلك لأنه وجد بأمره تعالي دون أب فشابه البدعيات التي هي عالم الأمر، أو بكتاب الله". - ليس المعني الثاني مقصوداً. ثم أليس كل الأنبياء والصالحين وجدوا "بأمره" تعالي ؟ فلماذا لم يسم الإنجيل والقرآن أحداً منهم "كلمة الله"، واختص عيسي ابن مريم وحده بهذا الاسم ؟ وعلي الآية 45 منها يمر مرور الكرام مع إنه يعدد الأسماء والأحوال التي يصف القرآن بها "الكلمة" الذي يبشر به الله مريم. كذلك في الآية 170 من النساء. كأنه يشعر بخطر هذا اللقب فيتحاشي عن سبر معانيه. وقال الزمخشري : "مصدقاً بكلمة من الله، مصدقاً بعيسي مؤمناً به، قيل هو أول من آمن به، وسمي عيسي كلمة لأنه لم يوجد إلا بكلمة الله وحدها وهي قوله "كن" من غير سبب آخر. وقيل مؤمناً بكتاب منه تعالي" : - ولكن ليس المعني الثاني مطلوباً لأن أوصاف يحيي نبوة عنه للمستقبل وليس إخباراً عن الماضي حتي تعني الكتاب المنزل قبله. ونجيب الزمخشري وسائر المفسرين الذين قصروا معني "الكلمة" علي أمره تعالي "كن" من غير سبب آخر : لماذا آدم لم يسمه القرآن والإنجيل والتوراة "كلمة" مع أن خلقه أغرب من خلق عيسي كما يذكر "إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له : كن، فيكون !" (آل عمران 59) فآدم أحق البشر بلقب "كلمة" لأنه أول من وجد بكلمة "كن" الخلاقة من غير سبب آخر البتة ؟! وقال الرازي : "مصدقاً بكلمة من الله" أي كتاب من الله، وهو قول أبي عبيدة، واختيار الجمهور أن المراد بكلمة الله هو عيسي. وكان يحيي أول من آمن وصدق بأنه كلمة الله وروحه. وسمي عيسي كلمة الله من وجوه : 1) أنه خلق بكلمة الله وهو قوله "كن" من غير واسطة الأب كما يسمي المخلوق خلقاً وهو باب مشهور في اللغة. 2) إنه تكلم في الطفولية وآتاه الله الكتاب في زمان الطفولية فكان في كونه متكلماً بالغاً مبلغاً عظيماً فسمي كلمة أي كاملاً في الكلام. 3) أن الكلمة كما أنها تفيد المعاني والحقائق كذلك عيسي كان يرشد إلي الحقائق والأسرار الإلهية كما سمي القرآن "روحاً". 4) أنه حقق كلمة بشارة الأنبياء به كما قال "وحقت كلمة ربك". 5) إن الإنسان يسمي فضل الله ولطف الله فكذا عيسي عليه السلام كان اسمه العلم "كلمة الله وروح الله". وأعلم أن كلمة الله هي كلامه، وكلامه علي قول أهل السنة صفة قديمة قائمة بذات الله". وأضاف في آل عمران 45 : "سمي كلمة الله كأنه صار عين كلمة الله الخالقة له بوجوده المعجز أو لأنه أبان كلمة الله أفضل بيان"، وفي النساء 170 يختار منها ما أجمع عليه القوم : "المعني أنه وجد بكلمة الله وأمره من غير واسطة ولا نطقة". ونجيب عليها جميعاً : كل هذه التعريفات تنطبق علي سائر الأنبياء، في عرفهم، وخصوصاً علي خاتم النبيين : فلماذا لم يسم القرآن محمداً "كلمة الله"، وهو عندهم "أول خلق الله"، وخاتم رسل الله وأكملهم في الكلام المعجز, وقرآنه "روح من أمره" تعالي، وقالوا أنه هو النبي الأمي المكتوب عندهم في التوراة والإنجيل فبه حققت أكثر من عيسي كلمة الله، وقد جاء رحمة للعالمين كافة فهو أحق أن يكون "عين كلمة الله"، وقد أبان كلمة الله الأخيرة، خير بيان وأفضله ؟!. فالقرآن يشهد بأن عيسي وحده دون العالمين خص بهذا اللقب العظيم، حتي صار اسم علم له. وليس ذلك مجرد اسم علم، بل دلالة علي إن كلمة الله هي كلامه، "وكلامه صفة قديمة قائمة بذات الله" علي قول أهل السنة. وهكذا فاختيار الجمهور أن "كلمة الله" لقب لعيسي ابن مريم، وهذا اللقب يعني كلام الله الخارجي لا كلام الله الداخلي القائم بذات الله علي حد قول أهل السنة. اجتهادنا : وعندنا أن النصوص واضحة تعني اسم شخص لا مجرد أمر إلهي. فالله تعالي يبشر زكريا بيحيي ويصفه بأنه أول من يصدق بعيسي أنه "كلمة الله" (آل عمران 39)، ويحيي ليس أول من آمن بكلام الله ولا أفضل من آمن به، بل يحيي أول من آمن بعيسي أنه "كلمة الله" وهو يصدق بشخص اسمه "كلمة الله" وليس بمجرد أمر أو صفة. وجاء يحيي ليصدق ويبشر "بكلمة الله" الشخص المنتظر. ومريم آمنت "بكلمة ربها وكتابه" (تحريم 12) والنص هنا يوضح بأن كلمة الرب غير كتاب الرب. فهي آمنت بعيسي وإنجيله، آمنت بابنها النبي وبكتابه. الملائكة تبشر مريم بولد وليس بأمر أو بمجرد كلام : "إذ قالت الملائكة : يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه، اسمه المسيح عيسي ابن مريم" (آل عمران 45) ليس أوضح ولا أصرح : "فالكلمة" المبشر به "اسمه المسيح" ويؤكده "عيسي، ابن مريم" : ثلاثة أسماء علم مشهورة تصف "الكلمة". ومن يقرأ هذه الآية بإخلاص "إنما المسيح، عيسي، ابن مريم : رسول الله، وكلمته ألقاها إلي مريم، وروح منه" (نساء 170) لا يستطيع إلا الإقرار بديهياً أن "الكلمة" اسم شخص لوروده بين الإسمين "رسول الله ... وروح الله"، فهو مرادف للأسماء المحيطة به، وهو خبر ثان معطوف علي رسول الله وكلاهما خبران للمسيح عيسي ابن مريم، "وروح منه" خبر ثالث معطوف علي "كلمته" يوضحه ويؤكده. فكلمته لقب بين ألقاب تعني شخص المسيح، فكيف يكون مجرد أمر ؟!. وإلي ذلك فإن لفظ "الكلمة" ورد في آل عمران 45 مذكراً "بكلمة اسمه المسيح" فالهاء في "اسمه" تعود إلي كائن ذكر، وأما قوله في النساء "كلمته ألقاها إلي مريم" فأنثها حملاً علي اللفظ، لأن معني التذكير صريح من الأسماء الثلاثة المحيطة به "رسول الله وكلمته وروح منه". فهذا "الكلمة" الملقي إلي مريم هو "روح من الله" فكيف يكون مجرد أمر ؟ هو "رسول الله" فكيف يكون مجرد كلام ؟ هو "المسيح عيسي ابن مريم" فكيف يكون شيئاً لا شخصاً ؟ لا جرم أن الأمر الإلهي خلاق ولكن ليس له صلة مولود برحم مريم. "والكلمة" المبشر به له اسم معروف "اسمه المسيح عيسي ابن مريم" (آل عمران 45)، "والكلمة" الملقاة إلي مريم اسم شخص له خمسة ألقاب غيرها تحيط بها وتوضحها (نساء 170)، فوجودها بينها يدل علي أنها مثلها اسم علم لعيسي. "ألقاها" : فالكلمة الملقاة كائنة قبل أن تلقي إلي مريم وقبل مريم : فهذا الابن الذي سيولد، موجود قبل أمه !! "يبشرك بكلمة منه" مولود مريم كائن قبل مريم وهو "منه" أي من الله لا من العدم ! بل لا يمكن أن يكون من العدم كسائر المخلوقين لأنه "كلمة من الله". "منه" تدل علي صلة المصدر : قال الببضاوي "ذو روح صدر منه" إذن عن طريق الصدور لا عن طريق الخلق، وإلا فما معني هذه التأكيدات التي خص بها : "كلمته، كلمة منه، وروح منه" إذا كان يتساوي في طريقة واصل وجوده مع سائر الناس ؟ ورسول الله، المسيح عيسي ابن مريم، امتاز بين الرسل بأنه "كلمة الله" وروح منه" (نساء 170) ولقب روح الله يوضح أن الكلمة شخص لا مجرد كلام. وأن هذا الشخص "الكلمة" هو "روح الله" أو "روح من الله" علي السواء. وهذان اللقبان يصفان رسول الله المسيح أفضل وأكمل وصف يميزه عن سائر الأنبياء والمرسلين، بعلاقة مصدرية أقنومية عقلية روحية إلهية. "فكلمة الله" المسيح عيسي ابن مريم، رسول الله وروحه، ليس هو إذن كلام الله الخارجي الذي يخلق به الله أو يأمر به أو يوحي به : بل هو كلام الله الداخلي الجوهري "القائم بذات الله". "صفة قديمة قائمة بذات الله" : لقد حدد "أهل السنة أن كلمة الله صفة قديمة قائمة بذات الله" (الرازي) فكلام الله الخارجي مخلوق حتماً إذ يستحيل أن يتجزأ الخالق، وهذا هو كلام الخلق والوحي. أما كلام الله الذي به يعقل ذاته وبذاته يعقل غيره، فهو غير مخلوق، هو منه وفيه، فذاته تعقل ذاتها، لذلك كلام الله الذاتي صفة قديمة قائمة بذات الله. هذا ما فهمه الراسخون في العلم منهم وإن أبوا تطبيقه علي اسم المسيح "كلمة الله". لذلك، فإن "كلمة الله"، الاسم العلم لعيسي ابن مريم، كائن من قبل أن يلقي إلي مريم، إنه صفة قديمة قائمة بذات الله". وهذا ما يتضح جلياً من إنجيل يوحنا حيث ورد هذا اللقب الفخم علماً للمسيح لأول مرة : قال في وصف جوهره : "في البدء كان الكلمة والكلمة كان لدى الله وكان الكلمة الله". وقال يصف عمله : "كان ذاك منذ البدء لدى الله. به كون كل شئ : وبدونه لم يكن شئ واحد مما كون. فيه كانت الحياة .. أما النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان، فكان آتياً إلي العالم ... وقال يصف اتصاله بخلقه، بواسطة تجسده من مريم بمعجزة إلهية : "والكلمة صار جسداً وسكن في ما بيننا. وقد شاهدنا مجده، مجداً من الآب لابنه الوحيد، الممتلئ نعمة وحقاً فإن الناموس قد أعطي بموسي، وأما النعمة والحقيقة فبيسوع المسيح قد حصلا". وختم يصف مصدر معرفة هذه الأسرار الإلهية : سر وجود الكلمة الإلهي، وعمله في الخلق، وإلقاءه إلي مريم فيتجسد : "الله لم يره أحد قط : الإله، الابن الوحيد، الذي في حضن الآب هو نفسه قد أخبر". (يوحنا 1 : 1 – 18). ويبرهن الإنجيل كله، من أعمال وأقوال عيسي ابن مريم، أن عيسي هو المسيح الكلمة الأزلي الذي ألقاه الله إلي مريم آية للناس ورحمة منه تعالي. والقرآن يشهد ضمناً بذلك بأخذ لقب "الكلمة" عن الإنجيل وإسناده إلي المسيح عيسي ابن مريم، وإن هو نفي ظاهرياً ألوهية المسيح "كلمة الله"، فإنما ينكر لاهوتاً غريباً عن ذات الله الواحدة، ولا يقصد إلي إنكار لاهوت "كلمة الله" "القائمة بذات الله"، والتي بها الذات الإلهية تعقل ذاتها : "قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين" (زخرف 81) ! إن في هذه الآية لمفتاح النور الذي يكشف التعارض القائم بين موقف القرآن الظاهري من نفي ألوهية المسيح وموقفه الحقيقي الناتج من النصوص التي بها يسمي عيسي ابن مريم "كلمة الله" كاسم علم يوضح سر شخصيته. وهكذا يشهد القرآن للإنجيل ويصدقه. رد تفسيرهم : ذاك هو "القول الحق" الذي فيه يمتزون. قال الأستاذان مصطفي خالدي وعمر فروخ في الرد علي تفسيرنا "النصراني" الذي به فهم نصوص القرآن عن اسم المسيح "كلمة الله" : "وفي بعض الأحيان يختار المبشرون موضوعا إسلامية لها مقابل في النصرانية ثم يموهون الحقائق ويقفزون فوق الفروق. إن القرآن الكريم يسمي المسيح "كلمة الله". ومعني ذلك أن الله تعالي ألقي كلمته أي أمره (!) بأن يولد المسيح علي ذلك الوجه المعجز في التاريخ. ولكن المبشرين يأخذون "كلمة الله" ليفسروها التفسير النصراني. ووجه الخلاف أن كل شئ في هذا العالم، كما يري المسلمون، كان بأمر الله "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون" (يس 82)، أما النصاري فيعتقدون أن التعبير "كلمة الله" تعبير خاص بالنصرانية يجب أن يفهم علي أن المقصود به عيسي ابن مريم وحده، وأنه دال علي الألوهية في المسيح. وللمبشرين أن يفهموا ذلك كما يريدون، ولكن ليس لهم أن يقولوا علي الإسلام ما لا يعلمون. إن كل موجود وكل حادث في العالم أمر يلقي من الله "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون". وفي القرآن آيات كريمات تجعل عيسي كآدم مثلاً، وتجعل آدم يتلقي من ربه "كلمات" لا كلمة واحدة : "إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" (آل عمران 59) "فتلقي آدم من ربه كلمات، فتاب عليه أنه هو التواب الرحيم" (بقرة 37). لقد وضعنا أمام القارئ المنصف، مسلماً كان أم مسيحياً، عناصر القضية كلها ليري هل نحن في التفسير النصراني "لكلمة الله" الذي يسمي به القرآن عيسي ابن مريم، نموه الحقائق ونقفز فوق الفروق، ونقول علي الإسلام ما لا نعلم إرضاء لشهوة التبشير. بل هو قول الحق، حسب الدرس العلمي النزيه. فنصوص القرآن الكريم عن "كلمة الله" عيسي ابن مريم أقرب في مبناها ومعناها إلي انسجام حقيقي خفي بين الإنجيل والقرآن منها إلي تعارض ظاهر يتعلق به الذين لا يعلمون "وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ؟" قل : "إنما المسيح عيسي ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلي مريم وروح منه". 3 - عيسي ابن مريم هو روح الله "إنما المسيح عيسي ابن مريم ... روح منه" (نساء 170) "الروح" في القرآن : يأخذ القرآن "الروح" بمعاني عديدة مختلفة : فمرات يظهر أن الروح ملاك : "تنزل الملائكة والروح فيها (ليلة القدر) بإذن ربهم" (قدر 4) ثم "يوم يقوم الملائكة والروح صفا" (نبأ 138) ثم "تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة" (معارج 4). ومرات يظهر أن الروح سيد الملائكة : "ينزل الملائكة بالروح من أمره علي من يشاء" (نحل 2). ومرات يجعل الروح من نصيب كل الأنبياء : "يلقي الروح من أمره علي من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق" (غافر 15) ومرات يجعل الروح وحياً : "وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا" (شوري 52) : فتارة الروح وحي، وتارة الروح واسطة الوحي. بل يجعل الروح من نصيب كل المؤمنين يؤيدهم في إيمانهم : "أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه" (مجادلة 52) : فهل الروح هنا ملاك أم قوة من الله أم عون معنوي ؟ .. والروح، والروح الأمين، وروح القدس هو جبريل أوحي إلي محمد : "وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا" (شوري 52) "نزل به الروح الأمين علي قلبك" (شعراء 193) "قل نزله روح القدس من ربك الحق" (نحل 102) "قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله علي قلبك" (بقرة 97). وبما أن القرآن يسمي الروح الذي يوحي إلي محمد، أي جبريل، فلا سبيل بعد إلي تأويل الروح الأمين أو روح القدس المذكور هنا بغيره، ولا إلي خلط "روح القدس" الموحي به إلي محمد "بروح القدس" الذي أيد المسيح. فالروح الذي أيد المسيح يتصف بالقدس اختصاصاً، وامتيازاً له عن غيره : "وقفينا علي آثارهم بعيسي ابن مريم وأيدناه بروح القدس" (بقرة 87 و 253). بهذا الروح القدس امتازت شخصية المسيح ورسالته بالخوارق الخارقة : "ياعيسي ابن مريم أذكر نعمتي عليك وعلي والدتك إذ أيدتك بروح القدس ... فيعمل معجزات علي الأرض ومعجزات من السماء كإنزال المائدة" (مائدة 113 – 119). وروح القدس هذا يتميز عن الروح الذي بشر مريم بعيسي : "فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً" (مريم 16) فهذا الروح ملاك من ملائكة البشارة : "إذ قالت الملائكة : يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح" (آل عمران 45). وروح البشارة يتميز عن الروح الملقي أو المنفوخ في مريم : "والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا" (أنبياء 91) "ومريم بنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا" (تحريم 12). في هذين النصين قد يكون الروح نافخاً أو منفوخاً، فعلي معني الفاعل "من روحنا" يعني الملاك النافخ وعلي معني المفعول "من روحنا" يعني الروح المنفوخ في مريم أو في فرجها أي روح عيسي الذي كونه في رحم أمه مريم. وهذا الروح الذي كونه هو روح من الله ألقاه إلي مريم : "إنما المسيح عيسي ابن مريم، رسول الله وكلمته - ألقاها إلي مريم - وروح منه" (نساء 170). وهكذا فالروح في القرآن إما شئ وإما شخص، و "الشخص الروح" ملاك من الملائكة كجبريل الذي يوحي إلي محمد، أو كالملاك الذي يبشر زكريا أو مريم أو ملاك آخر، "والروح - الشخص" الذي يؤيد المسيح في رسالته غير الروح الذي منه تكون عيسي في رحم مريم. فالمسيح "روح الله أو روح من الله" غير روح القدس الذي أيده. والقرآن بإسناده هذا اللقب "روح منه" (نساء 170) إلي المسيح يعطي عيسي ابن مريم إسماً يفوق كل اسم، به تعرف شخصيته ويحدد معني اللقب السابق "كلمته ألقاها إلي مريم" (نساء 170). "الروح" عند المفسرين : فما معني قوله "عيسي ابن مريم روح منه تعالي" في الآية الشهيرة ؟ قالوا معناه ما ورد عن آدم "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" (حجر 19)، "ثم سواه ونفخ فيه من روحه" (سجدة 9)، وعن مريم "فنفخنا فيها من روحنا" (أنبياء 91)، "فنفخنا فيه من روحنا" (تحريم 12) بدليل المبدأ العام "إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له : كن فيكون" (آل عمران 59). فكما نفخ الروح في آدم نفخ أيضاً في مريم ! وفاتهم الفرق العظيم والبون الشاسع بين التعبيرين : فعن آدم ومريم فالروح نافخ فيهما، أما عن المسيح فهو روح منفوخ، ملقي إلي مريم. في الأول الروح وآدم أو مريم متميزان، أما في الثاني "فروح منه" والمسيح شخص واحد علي حد التحديد : "إنما المسيح ... روح منه" : فروح منه خبر ثالث من المبتدأ أي المسيح. وهب أن قوله "من روحي" (حجر 29، سجدة 9 وغيرها) تحمل علي المفعول فتعني الروح المنفوخ في آدم أو المنفوخ في مريم فهذا يعني مشاكلة الصدور، ولا يعني قطعاً مشابهة الروح الصادر من الله. علي أن بين التعبيرين فرقاً ظاهراً "فنفخنا فيه (في آدم وفي فرجها) من روحنا" ثم "روح منه" : ففي الأول يكون آدم والمسيح من روح الله، وفي الثاني يكون المسيح "روح الله". فكما أن المسيح هو كلمة الله، فهو أيضاً روح الله، والقرآن يجمع بين التعبيرين في شأن المسيح فهو روح الله الذي ألقاه إلي مريم بنفخة من روحه. ففي قوله "من روحه" يعبر عن صدوره من الله، وفي قوله "روح منه" يعبر عما هو في ذاته. فلفظ "روح منه" تعريف بالمسيح وبشخصه يدل علي مصدره الذي هو الله. فهل الروح المكونة للمسيح والتي صارت المسيح في مريم هي منسوبة إلي الله نسبة خلق أم نسبة مصدر ؟ نقول : إنها نسبة مصدر لأنها تفسير للقب السابق "كلمته وروح منه". ولنلاحظ أن القرآن يعطف "روحاً منه" علي قوله "كلمته" : فالإسمان يفسر أحدهما الآخر : فالمسيح هو كلمة الله وروح الله" : كلمة الله من حيث الأقنوم، وروح الله من حيث الطبيعة. وبما أن "روحاً منه" خبر من المسيح في الآية 170 المذكورة فلا يجوز أن نموه فيه بكل أنواع التعابير التي وردت في القرآن عن الروح إذ يتغير معني "الروح" من آية إلي آية، كما رأيت، ويدل علي المعني المقصود النص المحيط به والقرائن اللفظية والمعنوية الداخلة عليه. ففي تحديد المسيح، في سورة النساء، تعبير مستقل عما سواه : يظهر منه جلياً أن المسيح روح الله، قد صدر منه، صدور الفكر من العاقل، صدور كلمة الله من الله. فروح الله اسم آخر للمسيح غير كلمة الله، وهو معطوف عليه لتفسيره، وكلاهما معطوفان علي "رسول الله" لبيان شخصية هذا الرسول الفريدة : فالألقاب الثلاثة تتساند، ويوضح بعضها بعضاً، ويفسر بعضها بعضاً ويكمل بعضها بعضاً : "إنما المسيح عيسي ابن مريم : رسول الله وكلمته وروح منه". وفي تفاسيرهم لهذا اللقب الفريد حيرة وتعظيم : يشعرون أنه يعني صلة خاصة بالله، ولكن لا يجرؤون علي إعلانها : قال الجلالان : روح، أي ذو روح (منه) أضيف إليه تعالي تشريفاً له وليس كما زعمتم ابن إله أو إلهاً معه أو ثالث ثلاثة : لأن ذا الروح مركب والإله منزه عن التركيب ونسبة التركيب إليه". - تفسير مغرض يضعف قوة النص : المسيح روح الله لا ذو روح من الله فقط ! ثم أين الإشارة في النص إلي فلسفة التركيب التي يذكر ؟! وقال الزمخشري : "قيل له روح الله أو روح منه تعالي لأنه ذو روح وجسد من غير جزء من ذي روح كالنطفة المنفصلة عن الأب الحي، وإنما اخترع اختراعاً من عند الله وقدرته الخالصة". - أفلا ينفرد المسيح عن البشرية جمعاء بهذا الاختراع الفريد ؟ ألا يدل هذا الاختراع الفريد علي شخص وحيد، له علاقة فريدة بالله ؟ وقال البيضاوي : "وروح منه : ذو روح صدر منه تعالي، لا بتوسط ما يجري مجري الأصل والمادة له. وقيل سمي روحاً لأنه كان يحيي الأموات أو القلوب". - فالروح الذي يحيي الأموات أو القلوب إحياءً حقيقياً ومعنوياً، وينفرد بعمل يدل عليه اسمه الفريد، ألا يصدر عن الله صدوراً خاصاً لائقاً به ؟ ألا يكون له صلة خاصة بالله دون سائر المخلوقين الذين ليسوا "روح الله" ؟ وقال الرازي مستجمعاً أنواع تفاسيرهم لهذا اللقب العظيم : "أما قوله روح منه ففيه وجوه : 1) إنه جرت عادة الناس أنهم إذا وصفوا شيئاً بغاية الطهارة والنظافة قالوا إنه روح : فلما كان عيسي لم يتكون من نطفة الأب وإنما تكون من نفخة جبريل عليه السلام لا جرم وصف بأنه روح. فالمراد من قوله "منه" التشريف والتفضيل". 2) إنه كان سبباً لحياة الخلق في أديانهم. ومن كان كذلك وصف بأنه روح. 3) روح منه أي رحمة منه : فلما كان عيسي رحمة من الله علي الخلق من حيث أنه كان يرشدهم إلي مصالحهم في دينهم ودنياهم لا جرم سمي روحاً منه. 4) إن الروح هو النفخ في كلام العرب فإن الروح والريح متقاربان، فالروح عبارة عن نفخة جبريل، وقوله منه يعني أن ذلك النفخ من جبريل كان بأمر الله وإذنه فهو منه، وهذا كقوله فنفخنا فيها من روحنا. 5) قوله روح، أدخل التنكير ليفيد التعظيم. فكان المغني : روح من الأرواح الشريفة العالية القدسية. وقوله منه إضافة لذلك الروح إلي نفسه تعالي لأجل التشريف والتعظيم". ومن هذه الوجوه كلها تتضح شخصية المسيح الفريدة التي لا يدانيها نبي أو رسول، ويرفع المسيح فوق المخلوقين إلي صلة خاصة بالله. فهو روح من الأرواح الشريفة العالية القدسية، ولم يرد عن بشر أنه منها ولو كان خاتم النبيين، وقول الرازي هذا أو من نقل عنه يفترض أن روحاً علوية أي أحد الملائكة المقربين قد تجسد وظهر في شخص المسيح، ومن يقول بذلك فالأجدر به أن يقول مقالة الإنجيل "إن كلمة الله تجسد وصار إنساناً". وهو روح من نفخة جبريل : إذا قصدوا جبريل كمصدر للمسيح فهذا قول هراء فليس جبريل بخالق ولا عنده نخة خلاقة ! وإذا قصدوا أنه الواسطة المعجزة فما أتوا بتفسير لشئ إذ إنه روح الله بمعزل عن جبريل. وعلي كل حال فشرف الواسطة يدل علي شرف الغاية. أما قوله سمي روحاً لأنه كان رحمة من الله علي الخلق : ليس هذا من باب التفسير بل من باب المقارنة التي لا تفي. ومع ذلك ففيه إقرار بفضل المسيح علي الخلق كلهم : ولم يرد مثل هذا الفضل لأحد من البشر كما ينسب القرآن والمفسرون إلي المسيح. أما قوله سمي روحاً لغاية طهارته في مولده فمن باب الاستدلال لا من باب التفسير، وإن كان فيه إقرار بسمو تكوين المسيح الذي انفرد به. وقد قارب المفسرون من فخامة الإسم وعظمته وجلاله بقولهم : سمي روحاً لأنه كان سبباً لحياة الخلق (الرازي)، لأنه كان يحيي الأموات والقلوب (البيضاوي) فجعلوه سبب الحياة الطبيعية والروحية والمعنوية، وما ذلك إلا صدي لقول المسيح في الإنجيل "أنا الطريق والحقيقة والحياة" (يوحنا 10 : 25) : فهو روح الله الحي المحيي. وقد دلوا علي معني "منه" في التحديد المذكور بقولهم ك "ذو روح صدر منه" (البيضاوي) أي ذو روح منه تعالي (الجلالان) فالتعبير يحتمل معني المصدر الإلهي للمسيح، إذ من أين يصدر "روح الله" إلا من الله ؟؟ فالروح الذي يصدر من الله كيف يتميز عنه، وبما أنه ليس في الله انقسام ولا تجزؤ، أليس هو والله واحداً كذات الله ونورها ؟ وهذا أيضاً صدي لتعليم الإنجيل : "قد خرجت من الآب وأتيت إلي العالم ... بهذا نؤمن أنك من الله خرجت" (يو 16 : 28 و 30). أليس هذا هو المعني الكامل الذي قصده القرآن في تعريفه المسيح : إنه كلمة الله وروحه ؟ إنه لا ينطبق علي مجموع الألقاب في الآية 170 إلا هذا المعني : المسيح روح صدر من الله ككلمته ونطقه الجوهري، وكلمة الله ليست مجرد كلام خارج عن الله بل هو كلامه الداخلي كروحه. وهكذا يلتقي القرآن والإنجيل في تعريف المسيح : "في البدء كان الكلمة والكلمة كان لدي الله، وكان الكلمة الله ... فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس" أي "إنما المسيح عيسي ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلي مريم وروح منه" :والحياة والروح بمعني واحد، وبمقارنة التحديدين ينجلي معناهما العميق. إذا لم يكن التعبير واضحاً كل الوضوح في القرآن فلنستوضحه من الإنجيل لأن القرآن أخذ عنه وهو يحيلنا إلي الكتاب وأهله في حالة الشك والريب (نحل 43، شعراء 193)، بل يأمر محمداً نفسه أن يستوثق من إيمانه لدي الذين يقرؤون الكتاب من قبله (يونس 94). الخلاصة : تلك هي الألقاب الإلهية الثلاثة التي بها يعرف القرآن المسيح في آية النساء 170. أجل المسيح هو عيسي، ابن مريم، عبد الله ونبيه ورسوله. ولكن فوق ذلك هو مسيح الله وكلمة الله وروح الله. ألقاب وأسماء يكمل بعضها بعضاً ويدعم بعضها بعضاً ويفسر بعضها بعضاً في هذا التعريف الغني بالمعاني. وهذه الألقاب الثلاثة لا تدل علي صلة الخلق بين الله وعيسي، بل تستوعب صلة شخصية عقلية روحية بجوهر الله. فمهما قللوا من دلالتها العميقة فهي تحتمل وتحمل معني إلهياً بحد ذاتها كما يرشح من تفاسيرهم. نحن لا نستجلب المعاني، ولا نفترضها بهذه الأسماء الوحيدة التي انفرد بها المسيح دون العالمين، بل نظهر ما تستوعبه علي نور الإنجيل الذي نزل من قبل هدي ونوراً. "وكفي بالله شهيداً ومن عنده علم الكتاب" (رعد 45). إنه مسيح الله : مسحه الله "بقوة الروح القدس" لوقا 1 : 35) أي "أيده بروح القدس" (بقرة 87، 253 ومائدة 113). إنه "كلمة الله التي ألقاها في الزمن إلي مريم (نساء 170) لأن الكلمة الذي كان منذ البدء لدي الله صار جسداً وسكن في ما بيننا" (يو 1 : 2، 14). إنه "روح الله" الصادر "منه" (نساء 170)، فهو شبيه به لأن المصدر والصادر واحد في الله، وهو منه وفيه، لأن الله لا يتجزأ. وروح الله هو "ضياء مجده وصورة جوهره" (عبر : 31). نعلم جيداً أن القرآن ينكر كل تعدد أو تجزؤ في اللاهوت، ويستنكر كل بنوة من خارج الله، وكل شرك وغلو في الدين. ونحن نؤيده ونؤمن بقوله. لكنه لا يذكر شيئاً عن حياة "الحي القيوم" في وحدة ذاته، عن حياته العاقلة ذاتها، وعن حياته المحبة ذاتها. فجاءت الألقاب الإلهية تلقي ضوءاً عما انحجب عنها. ومهما يكن من فهمها الصحيح، فهذه الصفات والنعوت والألقاب والأسماء التي اختص بها القرآن المسيح دون سواه من الأنبياء والمرسلين، والملائكة المقربين، تجعل المسيح في صلة شخصية وحيدة، عقلية وروحية وخاصة مع الله. ومهما قالوا في تفسيرها فهي ترفع المسيح فوق العالمين، من صفة المخلوقين، إلي هالة اللاهوت. بهذه الألقاب النبوية، والألقاب الإلهية، جعل القرآن عيسي ابن مريم مسيح الله وكلمة الله وروح الله (نساء 170) وأذن آية في شخصه : "وجعلنا ابن مريم - وأمه - آية" (مؤمنون 71). |
||||
|