03 - 02 - 2014, 03:53 PM | رقم المشاركة : ( 111 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب حياة التوبة والنقاوة لقداسة البابا شنودة الثالث
نقاوة القلب 1) مصدر هذا الفصل هو: 1. محاضرة ألقيت في كنيسة الملاك ميخائيل بدمنهور سنة 1966، ضمن سلسلة عن حياة التوبة والنقاوة. 2. محاضرة ألقيت في القاعة المرقسية بالأنبا رويس (الجمعة 28/ 5/ 1966). 3،4. محاضرتان ألقيتا في الكاتدرائية الكبرى بالقاهرة الأولى مساء الجمعة 16/ 2/ 73، والثاني مساء الجمعة 6/ 7/ 1973 عن حياة النقاوة. 5. محاضرة عن (معرفة الخطية) ألقيت بالكاتدرائية (الجمعة 11/ 3/ 1977) مادام كمال التوبة، هو كراهية الخطية، أي أن يكون القلب قد تنقى تمامًا من كل محبة للخطية أو التجاوب معها.. إذن فنقاوة القلب علامة من علامات التوبة الكاملة. ولكن ما هو المقياس الذي نستطيع أن نقيس به نقاوة القلب من الخطية؟ وكيف يعرف الإنسان أنه قد وصل إلى كمال التوبة، أي إلى كراهية الخطية؟.. فلنتفحص هذه النقطة معًا.. |
||||
03 - 02 - 2014, 03:56 PM | رقم المشاركة : ( 112 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب حياة التوبة والنقاوة لقداسة البابا شنودة الثالث
النقاوة من الخطية 1. ربما يظن إنسان أنه تائب، لأنه ترك الخطية الرئيسية المتعبة التي كانت تقلق ضميره، ولم يعد يسقط فيها الآن. أى لم يعد يزنى مثلًا، أو يسرق، أو يغش، أو يسكر. ولم يعد يرتكب خطايا في هذا المستوى. لذلك استراح ضميره، وظن أنه تاب..! وذلك لأن الخطايا الكبيرة التي كان يركز عليها قد غطت رؤيتها على الخطايا الأخرى التي لم يكن يلتفت إليها. وربما في نفس الوقت يكون واقعًا في خطايا كثيرة يعتبرها طفيفة، ولا تدخل في مقاييسه الخاصة بالتوبة. مثل الحديث عن النفس، والفرح بالمديح، وتبرير الذات باستمرار، وكثرة الجدل، والسلوك حسب الهوى الخاص، والتشبث بالرأي الذي يقود إلى العناد. مع إهمال بعض الصلوات، وتقصير في القراءات الروحية. وربما عدم احتمال الإساءة، وعدم تقديس يوم الرب.. ومع هذا كله، ضميره لا يوبخه، لأنه لم يصل إلى المستوى الذي يتبكت فيه على أمثال هذه الأمور. فهل نعتبر مثل هذا تائبًا؟! إنه ولا شك محتاج أن ترتقي مقاييسه، لكي يتوب عن أمثال هذه الخطايا التي يعتبرها طفيفة، أولا يلتفت إليها باهتمام. فمتى إذن نعتبره تائبًا؟ أليس إن ترك كل الخطايا، حتى التي تبدو في نظره صغيرة. يتركها بالفعل، وأيضًا يطردها من قلبه من فكره. وهنا يصعد الإنسان سلمًا في التوبة، كلما نضج روحيًا. ويصير ضميره حساسًا جدًا لا يتغاضى عن شيء. وبهذا يدخل إلى التوبة الحقيقة. فهل إذا وصل إلى هذا، نحكم عليه بأنه وصل إلى نقاوة القلب؟ هنا نبدى ملاحظة هامة، لكي تكون لنا دقة الحكم، هي:- 2 – ربما هو لا يخطئ، لأن الشيطان قد تركه إلى حين. إن الشيطان حكيم في عمل الشر. يعرف متى يحارب، وكيف يحارب، وفي أية خطية يركز قتاله.. فإن وجد شخصًا متحمسًا جدًا ومستعدًا، يتركه فترة حتى يثق هذا الإنسان بنفسه ثقة ربما تدفعه إلى التهاون والتراخي وعدم التدقيق. ثم يرجع إليه الشيطان في وقت يكون هذا الإنسان أقل استعدادًا وحرصًا، فيسهل إسقاطه. وهذه الفترة لا تكون فترة انتصار على الخطية، وإنما فترة عدم قتال. إنها فترة راجة من الحروب الروحية، وليست انتصارًا ونقاوة. وهناك فرق كبير بين الانتصار وعدم القتال. فإن وجدت نفسك لا تسقط في خطية معينة، فقد لا يعنى هذا أنك تنقيت منها تمامًا، إنما عدم سقوطك فيها قد يعنى أن الشيطان لا يقاتلك حاليًا بها. أو ربما لا تسقط فيها الآن، لأن ظروفها غير مواتية. فلا توجد حرب، ولا توجد عثرات، ولا يوجد ما يثيرك للخطية. والشيطان لا يقاتلك الآن، ليس حبًا في راحتك، وإنما لأنه يجهز لك فخًا من نوع آخر.. و بالإضافة إلى ذلك الفخ الآخر، ربما يأتيك شيطان المجد الباطل ليقول لك "ويلاه منك. لقد أفلت منى. وقد تجددت وتقدست، وصرت خليقة جديدة، والأشياء العتيقة قد مضت". فلا تسمع له، ولا تردد في ذهنك ما يقوله لك فأنت تحت الضعف طالما أنت في الجسد. والشيطان لا يكف عن قتاله. لا تقل إذن إنك قد وصلت إلى النقاوة ولم تعد تسقط. إنما قل "لولا أن الرب كان معنا.. لابتلعونا ونحن أحياء" (مز 124 2، 3).. أنا في الواقع أضعف من أن أقاتل أصغرهم، كما قال القديس الأنبا أنطونيوس. ولكن شكرًا للرب أنه سترنا.. ومن الملاحظ أن بعض الخطايا لها مواسم، وليست دائمة. إنها مثل دورات الألم أو الوجع، تلف دوتها في عنف وشدة، تم تهدأ، ثم تلف دورة جديدة.. وهكذا.. أو كنبات، له أحيانًا موسم ركود، وفي وقت آخر موسم إزهار إثمار.. 3- أو من الجائز أن الله أراد أن يريحك فترة من إرهاق الخطية، حتى لا تبتلع من اليأس. لأن توالى السقوط التلاحق، قد يجر الخاطئ إلى اليأس. لذلك تدركه مراحم الله وتريحه ولو قليلًا، وترفع الحرب عنه. تحفظه النعمة وتسنده، ولو إلى حين فتمر عليه فترة هدوء لا تزعجه فيه الخطية. ليس لأنه قد تنقى، وإنما لأنه غير مقاتل. 4- أو جائز أنت مستريح الآن، صلوات رفعت لأجلك. سواء من قديسين في السماء، أو من أحباء لك على الأرض. واستجاب الرب لهم، وأمر برفع القتال عنك. أنت إذن في فترة هدوء وسلام، وعدم قتال مع الشيطان. وليست هذه هي درجة النقاوة. وبمناسبة الفرق بين النقاوة وعدم القتال، نورد ملاحظة هامة وهى: هناك فرق بين نقاوة الأطفال، ونقاوة الناضجين سنًا وروحًا. حقًا إن الأطفال لهم قلب نقى بسيط لم يعرف الخطية بعد. ولكن هناك فرقًا كبيرًا بين نقاوتهم ونقاوة الأشخاص الناضجين في السن. هذا الفرق هو أن الأطفال لم يدخلوا حربًا روحية، ولم تختبر إرادتهم بعد. أي أنهم لم يصلوا إلى السن التي تختبر فيها إرادتهم. وهم غير الكبار الناضجين الذين داخلوا في حروب العدو وقاتلوا وانتصروا، ورفضت إرادتهم الحرة كل إغراءات الخطية. هؤلاء لهم مكافأة "الغالبين" التي ليست للأطفال. ما أعظم الذين يصلون إلى نقاوة الأطفال، بعد حروب لم يعرفه الأطفال. ونقاوتهم نتيجة صراعات وحروب، خرجوا منها منتصرين.. إن نقاوة القلب درجة عالية جدًا. وحتى إن حروب إنسان بخطية معينة، وتنقى منها، فليست هذه هى النقاوة الكاملة. النقاوة الكاملة هي النقاوة من جميع الخطايا. بكل صورها وأنواعها، سواء كانت بالعمل، أو بالفكر، أو بالحواس، أو بمشاعر القلب، أو بسقطات اللسان. سواء في العلاقة مع الله، أو مع الناس، أو مع الذات. إنها نقاوة شاملة، وليست مجرد تخلص من خطية معينة كانت تحاربك. فالفريسي الذي صلى في الهيكل في وقت صلاة العشار، كان يظن أنه صار من الأنقياء، لأنه "ليس من الظالمين الخاطفين الزناة" وليس من المقصرين في الصوم أو في دفع العشور (لو 18: 11، 12). بينما أنه لم يكن قد تنقى من الكبرياء، ولا من إدانة الآخرين، ولا من- الافتخار والبر الذاتي.. لذلك لم يخرج مبررًا. لا تظن إذن إنك قد وصلت إلى درجة النقاوة، إن كنت قد تخلصت من بعض الخطايا التي كان لها سلطان عليك. إنما المقياس الحقيقي لوصولك إلى النقاوة هو أنه: لا يكون لأية خطية من الخطايا سلطان عليك. انظر إلى قول السيد المسيح "من منكم يبكتني على خطية؟!" (يو 8: 46). أية خطية على الإطلاق.. ولهذا أستطاع أن يقول عن الشيطان "ورئيس هذا العالم يأتي، وليس له فيّ شيء" (يو 14: 30). فهل وصلت إلى هذه النقاوة من جميع الخطايا، بحيث لا يوجد للشيطان شيء فيك، كبيرًا كان أم صغيرًا؟! حتى ولا من الثعالب الصغار المفسدة للكروم، ولا من الخطايا التي تتنكر في ثياب الحملان..؟ النقاوة الحقيقية تبدأ بالكراهية الكاملة للخطية. عن معرفة واستنارة حقيقية، وفهم صحيح بالروح القدس لما هو الخير وما هو الشر "للبالغين الذين صارت لهم الحواس مدربة" (عب 5: 14)، بحيث يكون الضمير سليمًا تمامًا في أحكامه، لا يخدعه الشيطان في شيء، وتكون جميع أعمال الإنسان نقية. على أن هناك ما هو أهم من أعمال الإنسان الظاهرة، وهو: أن تكون النقاوة نابعة من القلب، وليست مظهرية. نقول هذا لأن كثرين يهتمون بمظهر النقاوة لا بجوهرها. ومثال ذلك أن كثيرًا من الوعاظ حينما يتكلمون عن حشمة المرأة، يركزون على ملابسها وزينتها، دون أن يهتموا بالباعث القلبي الذي بسببه تركت الفتاة حشمتها. بينما لو اهتموا بعلاج القلب من الداخل ليصل إلى النقاوة، لكان من نتائج ذلك تلقائيًا حشمة الملابس والزينة.. ونفس الكلام يقال عن الشبان الذين يطيلون شعرهم.. إننا لا نريد بالنقاوة تنظيف خارج الكأس. فقط (متى 23). ففي علاج خطايا اللسان، لا يقتصر الأمر على تداريب الصمت. لأن الكلام الخاطئ له سبب داخل القلب. والكتاب يقول "من فضلة القلب يتكلم اللسان" (متى 12:34). إذن نهتم بنقاوة القلب، فتكون الألفاظ نقية تلقائيًا. خذوا الكذب مثلًا. لا يكفي فقط أن نعبد عن تركه من الخارج، إنما ينبغي أن نعالج أسبابه داخل القلب، سواء كانت خوفًا، أو كبرياء، أو وصولًا إلى غرض معين. لأن الكذب كان نتيجة لهذه الأخطاء الداخلية التي تحتاج إلى تنقية.. اهتموا إذن بالداخل، وهنا يسأل البعض: هل أؤجل النقاوة الخارجية، إلى أن أصل إلى نقاوة الداخل؟ كلا، طبعًا إنما المقصود أنك لا تكتفي بالنقاوة الخارجية، فالله يريد القلب قبل كل شيء. احترس من الخطأ الخارجي بكل قوة، وبكل صبر، وبكل معونة من النعمة. وهكذا تكون أعمالك النقية صادرة من القلب نقى. ويشترط لنقاوتها: أن يكون العمل النقي، أهدافه ووسائله نقية أيضًا. فيكون كل عمل تعمله: نقيًا في ذاته، ونقيًا في ذاته، ونقيًا في الدوافع التي تدفع إليه ونقيًا في الوسيلة التي يتم بها.. فهل تكون هذه هي النقاوة الكاملة؟ النقاوة الكاملة موضوع طويل. إنما هذه هي النقاوة من الخطية. |
||||
03 - 02 - 2014, 04:00 PM | رقم المشاركة : ( 113 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب حياة التوبة والنقاوة لقداسة البابا شنودة الثالث
النقاوة من الأفكار و الأحلام بالإضافة إلى النقاوة من الخطية، توجد النقاوة من الأفكار والظنون. قال أحد القديسين "ليست فقط أعمالك الخارجية هي التي تظهر حقيقتك، إنما بالأكثر أفكارك وظنونك".. وضرب لذلك مثلًا فقال: ربما يكون إنسان واقفًا في مكان في الظلام، يراه ثلاثة أشخاص. ففكر أحدهم إنه سارق يختبئ إلى أنت يتحين الفرصة للسرقة، والثاني يظنه سيء الخلق ينتظر امرأة. بينما الثالث يفكر أن هذا الإنسان يقف في الظلام، في مكان لا يراه أحد، يصلى.. وهكذا حسب حالة القلب، تكون الأفكار والظنون. وفى ذلك يقول الكتاب "الإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح. ولإنسان الشرير من كنز قلبه يخرج الشر" (لو6: 45). وكما يقول المثل "كل إناء بما فيه يتضح".. لذلك إن كانت ظنونك سيئة، فقلبك لم يتنق بعد. فالإنسان ذو القلب النقي، دائمًا تكون أفكاره نقية، ولا يظن السوء. وعلى قدر إمكانه يأخذ الأمور ببراءة وطهارة. وهكذا لا يدين عملًا ما، إل الخطية الواضحة التي تحمل دينونتها في ذاتها. والأمور التي تحمل وجهين، يأخذ الوجه المنير منها. من أجل هذا، أمثال هؤلاء الأشخاص يكونون في علاقة حسنة مع الناس لأنهم لا ينسبون خطأ لأحد، ويعذرون كل إنسان في تصرفاته. لعلك تسأل: "هل معنى هذا أن القلب النقي لا تُحاربه ظنون وأفكار شريرة؟" نقول: نعم قد تُحاربه من الخارج، دون أن تنبع من داخله.بل على العكس يكون من الداخل رافضا لها. لا يقبلها، بل يطردها بسرعة. والخديعة التي يتعرض لها البعض هنا، هي أن يستبقي الفكر الشرير، ولو بحجة فحصه أو محاربته، أو بنوع من الفضول ليرى إلى أين ينتهي! فتكون النتيجة أن يدنسه الفكر، ويفقده نقاوته. والوضع السليم هو طرد الفكر بسرعة، لأن القلب النقي يشمئز من الأفكار الخاطئة، ولا يقبل حتى مجرد فحصها. من ضمن مقاييس النقاوة إذن، نقاوة الظنون والأفكار. والمقياس الثاني للنقاوة، هو نقاوة الأحلام. فقد يوجد إنسان عقله الواعي محترس، يراعي نقاوة أفكاره، بينما تكون أحلامه فيها الكثير من الأخطاء، لأن عقله الباطن يحوي رصيدا قديما من الخطايا، لم يتنق بعد من صورها وقصصها وذكرياتها. فإما أن تكون ذاكرته لا تزال مدنسة بخزيتها الرديء، أو أن هناك بعض مشاعر في القلب، كامنة في أعماقه لم تَتَنْقَّ بعد، وهي مصدر أحلامه الخاطئة التي تُعكِر نقاء ذهنه. يحتاج هذا أن يتنقى من ماضيه، كنحو نقاوته من حاضره. وعلى أية الحالات، قد تحتاج نقاوة الأحلام إلى فترة من الزمن، إلى أن يُصبح الإنسان في وضع بعيد تماما عن الأحلام الشريرة. فبالوقت وبعدم التكرار، تختفي مصادر هذه الأحلام من الذاكرة. ويختزن العقل الباطن بدلا منها أمورا نقية طاهرة، تتناسب مع حياة التوبة والنقاوة التي يحياها، وتكون مصدرا لأحلام نقية تماما. إذن من مقاييس نقاوة القلب، نقاوة الأفكار والظنون والأحلام.. تبقى درجة أخرى للكاملين أو الناضجين، وهى: النقاوة من الأباطيل. |
||||
03 - 02 - 2014, 04:02 PM | رقم المشاركة : ( 114 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب حياة التوبة والنقاوة لقداسة البابا شنودة الثالث
النقاوة من الأباطيل أي النقاوة من الأمور الزائلة أو الباطلة. ونقصد بهذه الأمور الزائلة أو الباطلة، من يقضي وقتا طويلا يتحدث في أمور تافهة، لا هي خطية، ولا هي بر.. أو يقضي وقتا يفكر في أمثال هذه الأمور أو ينشغل بها.. ويدل بذلك على أن فِكره أو قلبه يمكن أن ينشغل بهذه التافهات، ويمكن بسببها أن يُضِّيع وقتا كان يمكن أن يقضيه مع الله، في صلوات أو تأملات أو قراءات روحية أو تسابيح، أو أي أمر ذي قيمة، يُناسب حالة القلب النقي.. هذه الأمور الزائلة لا هي خير في ذاتها، ولا هي شر في ذاتها. ولكنها تفاهات تُعَطِّل العمل الروحي الإيجابي. هذه الأباطيل هي التي منعنا عنها الرسول بقوله: "غير ناظرين إلى الأشياء التي تُرى، بل إلى التي لا تُرى. لأن الأشياء التي تُرى وقتية، أما التي لا تُرى فأبدية" (2 كو 4: 18). والإنسان الذي لا ينظر إلى المرئيات، هو الذي يقول مع داود النبي: "أما أنا فخير لي الالتصاق بالرب" (مز 73: 28). والالتصاق الكامل بالرب، لا يأتي إلا بنقاوة القلب. إن النقاوة من الخطية حالة مقدسة، لا يُسميها الآباء نقاوة القلب. إنما يُسمونها الطهارة. والطهارة أقل من النقاوة في الدرجة. الطهارة -في كثير من مفهوماتها- سلبية في قداستها، تعني البعد عن النجاسة والخطية. أم النقاوة فقداستها إيجابية، وهي الالتصاق الدائم بالله فكرًا وقلبًا وعملًا. وتأتي كمرحلة بعد الطهارة. ومن مميزاته النقاوة من الأباطيل.. فما هي هذه الأباطيل. إننا نعيش في عالم مملوء بهذه المرئيات الزائلة. فهل نُغْمِضْ أعيننا حتى لا ترى، عملا بقول الرسول: "غير ناظرين إلى ما يُرى"؟ كلا، لا نُغْمِضْ أعيننا. وإنما لا نهتم بما نرى ونسمع. أي أن تقع أعيننا على شيء تراه، فتجوز مُقابِلَهُ، وهكذا باقي حواسنا. والمعروف أن "الحواس هي أبواب الفكر". وأن ما تجمعه حواسنا، تفكر فيه عقولنا، أو على الأقل يدخل فكر عنه إلى أذهاننا. وهنا نكون أمام أحد تصرفين: إما أن يمر فكر هذه الأمور بسرعة ويعبر كالدخان. وهذه حالة من حالات نقاء القلب. وإما أن يستقر الفكر قليلا أو طويلا فينا، ويشتغل في داخلنا بدرجات تتفاوت في الحدة وفي المدة، حسب نقاوة كل منا. الإنسان الذي لم يتَنَقَّ بعد، قد تجلب له هذه المرئيات أفكار خطية، وتتحول فيه إلى رغبات وشهوات.. ولست عن هذا أتكلم، فالحديث عنه خاص بالنقطة الأولى وهي "النقاوة من الخطية". ولكني أقول إن مثل هذه المرئيات قد تجلب لإنسان الله، لا أفكار الخطية، وإنما بعض الانشغال أو الاهتمام، تختلف حسب نقاوة القلب، حسب موته عن العالميات، أو موت العالميات في القلب. هذه الأفكار الزائلة، هي على الأقل تُضِّيع الوقت. والوقت هو جزء من حياتك. لم يُعطِه لك الله لكي تُضِّيعَه، إنما لكي تستفيد منه، لأجل خلاص نفسك، ولأجل تنقية قلبك وفكرك، ولأجل ربط مشاعرك بالله.. فلا تضيعه في التافهات. والعقل المنشغل بالتافهات يدل على قلة محبته لله. إذ أن قلبه ليس متحدًا بالله اتحادًا كاملًا مستمرًا، وتوجد أمور تافهة تشغل عقله عن الله، ولو في ثرثرة لا فائدة منها. فمتى تتنقى من كل هذا، ولا يصبح في قلبك إلا الله وحده؟ القلب النقي نقاوة كاملة، هو القلب الذي مات بالتمام عن أباطيل العالم كلها، لكي يحيا بالتمام للرب. وعقله أصبح غير مُتفرغ لهذه الأشياء التي تُرى، من فِرط انشغاله بما لا يُرى. إن العقل دائب العمل ودائم التفكير. إنما يختلف تفكيره بحسب المادة التي ينشغل بها، وهي واحدة من اثنتين: إما مرئيات، وإما أمور لا تُرى. والانشغال بالأمور الإلهية التي لا تُرى هي حالة النقاوة المثالية. وقد يكون التفكير في الأمور الزائلة، هو حالة متوسطة بين أفكار الخطية والأفكار الإلهية. إنها ليست خطية بالنسبة إلى الشخص العادي، ولكنها حالة نقص فيه.وقد تتطور فتتحول إلى خطية. والقديسون يهربون من هذا النقص، الذي يدل على أن القلب لم يتنق بالكمال من العالميات. القديس بولس الرسول -في حديثه عن المُتَزوج- قال إنه: "يهتم فيما للعالم" (1 كو 7: 32، 33). وهناك أمور أخرى غير الزواج تسبب اهتمامًا بالعالميات، ربما الوظيفة، أو الأسرة، أو الدراسة العالمية، أو بعض النشاط الاجتماعي، أو المال، أو شهوات الجسد عموما.. فيفحص كل مِنَّا على ذاته، وليعرف الأبواب التي يدخل منها العالم إليه بأباطيله، ويجد له مكانا في الفكر أو في القلب. وهنا أحب أن أفرِّق بين كلمتين: العمل والاهتمام. قد يعمل الإنسان في المرئيات، دون أن تعمل المرئيات فيه ويكون قلبه مع الله. كما كان الآباء القديسون يعملون في الخوص في البرية، وقلبهم يعمل عمله الإلهي في التزمير والصلاة والتسبيح. كانوا يعملون في هذه الأشياء، وهم: "غير ناظرين إليها" أي غير منشغلين بها. إن الرب لم يوجه اللوم إلى مرثا لأنها كانت تعمل، وإنما لأنها كانت بالعمل في حالة اهتمام واضطراب (لو 10: 41). العمل لم يكن في يديها فقط، وإنما وصل إلى الفكر والقلب فانشغلا به. وفي انشغالهما عجزا عن أن يتفرغا للرب "فلازما الواحد، واحتقرا الآخر" لأنه لا يقدر أحد أن يخدم سيدين في وقت واحد (متى 6: 24). فهل يمكن إذن أن نعمل عملا، دون أن ننشغل ونضطرب ونهتم؟إن هذا هو المطلوب من القلب النقي "أريد أن تكونوا بلا هم" (1 كو 7: 32). وكيف يكون هذا؟ بأن تكون علاقتنا بالمرئيات سطحية، لا تدخل إلى العُمق. وهذا يتوقف على مدى تقييمنا للأمور. كلما ازدادت قيمة الأمر في نظرنا، ازداد عمقه فينا واهتمامنا به. لذلك فإن آباءنا الذين مات العالم في نظرهم، وحسبوه نفاية لكي يربحو المسيح (في 3: 8)، هؤلاء لم تَعُد لكل أمور العالم قيمة عندهم، مهما كانت قيمتها خطيرة في أعين الآخرين الناظرين إلى ما يُرى.. وبالتالي لم تعُد هذه الأمور تشغلهم، ولا يضطربون لها، بل يحيون في سلام. وينطبق عليهم قول القديس بولس الرسول: "والذين يستعملون هذا العالم، كأنهم لا يستعملونه" (1 كو 7: 31). ولكننا كثيرا ما ننسى أنفسنا وروحياتنا. فنسمع مثلا خبرا معينا، أو نقرأ عن حادث ما، أو ندخل في إحدى المناقشات.. وهنا ننسى أن قلبنا وعقلنا كليهما للمسيح. ونظل نتكلم ونُعَلِّق ونُناقِش، ونُبْدي الآراء، ونتحمس في الرد على المُعارضين. وقد يكون الأمر لا يستحق شيئا من هذا. ولكنه مع ذلك يملك -لا على ألسنتنا فقط، ولا على فكرنا فحسب- وإنما أيضا على أعصابنا وعواطفنا.. وهنا تكون المياه قد دخلت إلى أنفسنا. وأصبحنا نهتم ونضطرب لأجل أمور كثيرة. أما الواحد الذي الحاجة إليه، فلا نكون متفرغين له، بل مفكرين أننا "عندما يحصل لنا وقت نستدعيه" (أع 24: 45). وقد نرجع إلى بيوتنا، وما يزال الموضوع في أذهاننا، وقد نصبه أيضا في عقول غيرنا، فنشغل الآخرين به. والأفكار ليست عواقر، إنما تلد أفكارا أخرى.. وقد يتعمق الفكر في عقلنا الباطن، ويلد أحلاما وظنونا. وقد نقف ونصلي، فتطيش عقولنا في أفكار كثيرة، ذلك لأننا أعطينا تلك الأفكار عمقا فينا، فأخذت سلطانا علينا.. فاحذر، لا تُعطِ أمور العالم عمقا في فكرك ومشاعرك ووقتك. وإن سرقك الاعتياد القديم، استيقظ بسرعة، وقل للرب مع المرتل: "أردد عينيّ لئلا تُعاينا الأباطيل" (مز 118 ه). يقظة العقل والجهاد مع الأفكار، يسبقان نقاوة العقل والقلب. القديس الأنبا أور كان يقول لتلميذه: "أنظر يا ابني، لا تُدخِل هذه القلاية كلمة غريبة" يقصد أية كلمة غريبة عن الله وملكوته. والقديس الأنبا يوحنا القصير كان ينفض أذنيه قبل الدخول إلى قلايته، حتى لا تدخلها مناقشات سمعها من آخرين.. هذا جهاد سلبي.. أما من الناحية الإيجابية فإنه: تعوزنا الغربة عن العالم، مع هذيذ الفكر بالإلهيات. شعور الإنسان بغربته عن العالم، يجعله لا يُقحِم ذاته في أمور العالم وحوادثه وأخباره وأحاديثه وارتباكاته. وإن وصل إليه شيء منها، لا يتفاعل معه ولا يتجاوب، قائلا لنفسه: "غريب أنا. ما شأني بهذا الأمر". كذلك انشغال الفكر بالإلهيات، يجعله غير مُتفرغ لأمور العالم بل نافرا منها، لأنها تُعطله عن هذيذه الإلهي الذي يقول فيه: "محبوب هو اسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي" (مز 118 م). متى يصل القلب والفكر إذن إلى النقاوة؟ عندما يتخلص الإنسان من الخطية، وعندما يتنقى من الأحلام والأفكار والظنون، وعندما يتنقى من الأباطيل.. كل هذا من الناحية السلبية. فماذا إذن عن الناحية الإيجابية؟ |
||||
03 - 02 - 2014, 04:02 PM | رقم المشاركة : ( 115 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب حياة التوبة والنقاوة لقداسة البابا شنودة الثالث
الناحية الإيجابية في النقاوة في نقاوة القلب، تملكه محبة الله بدلا من محبة العالم. فيفعل كل شيء من أجل محبته لله، وليس لمجرد طاعة لأمره أو تنفيذا لوصاياه. حتى ترك الخطية، يتركها لأن محبة أعمق بكثير قد حلّت محلها، وأشعرته عمليا بتفاهة محبة الخطية ونجاستها أيضا. وبمحبة الله تدخل النقاوة في دور إيجابي جديد.. فتظهر ثمار الروح القدس في حياة هذا التائب. التي قال عنها الرسول: "وأما ثمر الروح فهو محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف. ضد أمثال هذه ليس ناموس" (غل 5: 22). أي انتقل من مرحلة الناموس والوصايا، إلى مرحلة الحب.. تتحول علاقتك بالله إلى حب.. كعلاقة صديق بصديقه، وابن بأبيه، وحبيب بحبيبه. وتجد كل اللذة في الوجود مع الله. وصلاتك تتحول إلى مناجاة حب، لا تكون واجبا، ولا عملا كنسيا، ولا صفة من صفات الروحيين، إنما تكون مجرد تعبير عن الحب الكبير الموجود في قلبك نحو الله.. وهكذا تكون باقي أعمالك الروحية.. والمحبة هي أول ثمرة من ثمار الروح. وهناك ثمار أخرى، لابد أن تظهر في قلبك بحياة النقاوة. ولعلك تسأل: "هل كل ثمار الروح لازمة في حياة النقاوة؟". نعم، لأنه قال: "اصنعوا ثمارا تليق بالتوبة" (لو 3: 8).ولأنه أيضا قال: "كل غصن في لا يأتي بثمر ينزعه. وكل ما يأتي بثمر ينقيه، ليأتي بثمر أكثر" (يو 15: 2). إذن جاهد بكل قوتك لتحصل على هذه الثمار.. أتريدني أن أحدثك عن نقاوة القلب؟ إذن فسأحدثك عن كل عنصر من هذه الثمار على حده، وعنها كلها معا كوحدة متجانسة. وهذا أمر يحتاج إلى كتاب خاص أو إلى مجموعة كتب. وليس الآن وقته. أما الآن، فأتابع معك نقاوة القلب، وأتحدث عن قمّتها: هناك نقاوة ننالها في الأبدية وهي: نقاوة القلب من معرفة الخطية. |
||||
03 - 02 - 2014, 04:03 PM | رقم المشاركة : ( 116 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب حياة التوبة والنقاوة لقداسة البابا شنودة الثالث
نقاوة القلب من معرفة الخطية وبهذا نقسم نقاوة القلب إلى نوعين: نوع يمكن أن نناله هنا على الأرض، وهو ما قد ذكرناه. ونوع لا نناله إلا في الأبدية في العالم الآخر، نذكره هنا لكي نشتهيه ونطلبه، ولكى نعرف مقدار عمق النقاوة التي ستكون لنا هناك.. إن الذي أفقدنا نقاوتنا الأولى، هو أكْلِنا من شجرة المعرفة. كنا لا نعرف إلا الخير فقط. فلما أكلنا من شجرة معرفة الخير والشر، صرنا نعرف الشر أيضا. ودخلنا في ثنائية الخير والشر، البر والإثم، الحلال والحرام. أقصى ما نصل إليه حاليا، هو أنه مع معرفتنا للخير والشر، نختار الخير ونسير فيه. أما إننا لا نعرف الشر إطلاقًا، فهذه درجة عالية لن نصل إليها على الأرض. إنما ستوهب لنا في الأبدية، حينما نلفظ الثمرة التي أكلناها. وحينئذ: لا نعرف سوى الخير فقط. ونتخلص من ثنائية الخير والشر. تصبح لها صفة البساطة والبراءة التي لا تعرف شرا. مثل الطفل البريء الذي لا يعرف شيئا من المكر والتدابير والحيل والشرور التي يقدمها له المجتمع فيما بعد، فتفقده براءته. نقاوة مثل نقاوة آدم وحواء قبل الأكل من ثمرة الشجرة، تلك التي أدخلت في عقله أفكارا لم تكن فيه من قبل، وأفقدته بساطته، وتفتحت عيناه على أمور، لعله يقول: "ليتني ما كنت قد عرفتها".. ثم تطور الإنسان من معرفة الشر إلى اختباره. فإن كنت قد عرفت أشياء عن الخطية، لا تُكْمَل المسيرة. ما دامت معرفة الخطية تضرّك، فلا تُضِف إليها شيئًا جديدًا. وحاول أن تنسى ما عرفته بعدم استعماله، وعدم الحديث عنه. ولا تُفكّر في تلك المعلومات. وإن تذكرتها، حاول أن تستبدلها بغيرها. ولا تجعل معرفة الخطية تتحول من معرفة سطحية إلى معرفة عميقة. ولا تجعلها تتحول من معلومات إلى اختبار، إلى مذاقة، إلى قبول أو صراع معها. أوقف هذه المعرفة عند حد، على قدر إمكانك. واطلب من الله أن ينقي أفكارك، ويطهر عقلك الباطن وذاكرتك، من كل ما ترسب فيها وما تسجل فيها.. واسرح في إكليل الرب الذي سيهبه الرب لنا، في ذلك اليوم (2 تي 4: 8). حينما تنزع منا كل معرفة للخطية، ولا توجد خطية فيما بعد. وتصبح كل خبراتنا مع الخطية في هذا العالم، كأنها حلم مزعج قد استيقظنا منه في الأبدية، وقد نسيناه تماما..حقا ما أجمل هذا! ولكن مادامت النقاوة من معرفة الخطية، ليست في هذا العالم، فماذا نفعل؟ دربوا أنفسكم على حياة البساطة الروحية. لا تجعلوا عقلكم وحده هو الذي يعمل، في تعقيدات الفكر والجدل، إنما أضيفوا إليه بساطة الروح. ولتكن لكم العين البسيطة النيرة. ولا تختلطوا بالخطية ولا بأفكارها وقصصها، حتى لا تتدنس أذهانكم بتذكار الشر المُلبِس الموت. واصبروا على النقاوة، مهما تأخر وصولها. واطلبوها كهبة من الله لكم. واجعلوا الشر دائما خارجكم، مهما كثرت حروبه. وليكن الرب معكم. |
||||
03 - 02 - 2014, 04:04 PM | رقم المشاركة : ( 117 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب حياة التوبة والنقاوة لقداسة البابا شنودة الثالث
إمكانية الرجوع سهل أن يتوب المرء يوما، إنما المهم أن يتوب باستمرار. أي أن يعيش في حياة التوبة، أو يعيش في التوبة حياته كلها، فلا يرجع مرة أخرى إلى الخطية.. سهل جدا أن يدرب الإنسان نفسه، وينجح في تدريب روحي لمدة يوم أو يومين أو أسبوع. ولكن هل من الممكن أن يستمر في هذا التدريب الروحي مدى الحياة؟ هكذا في التوبة، المهم فيها هو حفظها، أي استمرارها. لأنه ما أسهل الرجوع.. إن الشيطان الذي يرقب حياة الإنسان، لا يستريح مطلقًا أن يفلت هذا الإنسان من يده بالتوبة. لذلك يحاول بكل الوسائل والحيل أن يرجعه عنها، ولو بعد فترة طويلة.. وعصر القضاة مثال واضح جدًا لهذا الرجوع.. كانوا يسيرون في عبادة الأوثان وفي نجاسات الأمم المختلطة بهم. وكان الرب يخلصهم بأحد القضاة يقيمه عليهم، فيتوبون.. ولكن "عند موت القاضي، كانوا يرجعون ويفسدون أكثر من آبائهم بالذهاب وراء آلهة أخرى.." (قض2: 19). وكانت فترات التوبة تستمر أحيانا عشرات السنوات، ثم يرجعون. نقرأ في سفر القضاة "واستراحت الأرض ثمانين سنة.. وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب، بعد موت أهود" (قض 4: 1).. "واستراحت الأرض أربعين سنة. وعمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب" (قض5: 1، 6: 1).. إنها قصة تكررت في حياة هذا الشعب، وفي حياة غيره. سواء من الشعوب أو الأفراد.. من قلوب غير ثابتة في محبة الرب، وغير جادة في حياة التوبة.. لم تنته من حياة الخطية. تتركها ثم تعود إليها، حتى شبهها الرسول بتشبيه صعب: كلب قد عاد إلى قيئه. وخنزيرة مغتسلة إلى مراغة الحمأة. وهكذا يقول بطرس الرسول "لأنه إذا كانوا بعدها هربوا من نجاسات العالم بمعرفة الرب والمخلص يسوع المسيح، يرتبكون أيضًا فيها فينغلبون، فقد صارت لهم الأواخر أشر من الأوائل.لأنه كان خيرًا لهم لو لم يعرفوا طريق البر، من أنهم في المثل الصادق: كلب قد عاد إلى قيئه.. (2بط2: 20-22). نعم كثيرون ساروا مع الرب مرحلة، ولم يكملوا الطريق. إما أنهم شعروا بصعوبة الطريق، فتركوه وتركوا الرب معه.. ولم يقدروا أن يحملوا صليبهم حتى النهاية. أو أنهم خانوا الرب، إذ عادوا ففضلوا الخطية عليه. وهؤلاء انطبق عليهم ما قاله القديس بولس الرسول عن الغلاطيين الأغبياء "الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ" (رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية 3: 1). إنهم: بدأوا بالروح وكملوا بالجسد. |
||||
03 - 02 - 2014, 04:05 PM | رقم المشاركة : ( 118 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب حياة التوبة والنقاوة لقداسة البابا شنودة الثالث
بدأوا بالروح وكملوا بالجسد وقد قدم لنا بولس الرسول مثالًا آخر هو ديماس. ديماس الذي كان أحد مساعدي القديس بولس في الخدمة والكرازة، أي كان أحد أعمدة الكنيسة. وقد قرنه الرسول مرة باسم لوقا الطبيب (كو4: 14)، وصرح بأنه من العاملين معه "مرقس الرسول وارسترخس وديماس ولوقا" (غل24).. ديماس الكارز هذا، انتهت قصته بعبارة مؤلمة قال فيها القديس بولس الرسول: ديماس قد تركني، غذ أحب العالم الحاضر (2تي4: 10). إنه مؤلم حقًا أن تعود محبة العالم الحاضر، فتغزوا قلب كارز عظيم من مساعدي بولس الرسول. عن كان الأمر هكذا؟، فليحترس كل أحد من العالم ومحبته، مهما تاب.. والقديس بولس يذكر لنا أمثلة أخر يغير ديماس، انتهوا إلى نفس النهاية المؤلمة، قال عنهم لأهل فيلبى: لأن كثيرين.. ممن كنت أذكرهم لكم مرارًا، وألان أذكرهم أيضًا باكيًا، وهم أعداء صليب المسيح (في: 18). ويكمل كلامه عنهم فيقول "الذين نهايتهم الهلاك، الذين إلههم بطنهم، ومجدهم في خزيهم، الذين يفتكرون في الأرضيات" (في 3: 19) هؤلاء لم يكونوا مؤمنين عاديين.. يكفي أن بولس الرسول كان يذكرهم في رسائله. والمؤلم أن يقول "لأن كثيرين.. "فهم إذن ليسوا واحدًا أو اثنين.. والمؤلم أكثر قوله "نهايتهم الهلاك".. ومادام الرجوع إلى حياة الخطية ممكنًا لمن لا يحترسون، فيسمحون لدخول محبة العالم إلى قلوبهم: إذن لا نفتخر إن تبت وبدأت حياة روحية، المهم أن تكمل. تكمل السير في الطريق الروحي حتى نهاية الشوط، حتى نهاية أيام غربتك على الأرض. فقد قال الرسول "أنظروا إلى نهاية سيرتهم فتمثلوا بإيمانهم" (عب1: 7). إذن المهم أن تستمر التوبة حتى نهاية السيرة. ولا يكون التائب كالذين بدأوا بالروح وكملوا بالجسد.. هل إن تبت، وسرت مع المسيح فترة روحية جميلة، ثم عدت إلى الخطية أتستطيع الأيام الروحية أن تخلصك؟! أم أن ما انتهيت إليه، هو الذي ستحاسب عليه..؟ إن شاول الملك من الأمثلة الواضحة. مسحة صموئيل النبي ملكًا، وحل عليه روح الرب؟ وأعطاه الرب قلبًا آخر، وتنبأ حتى تعجب البعض قائلين "أشاول أيضًا بين الأنبياء؟!" (1صم10: 9-11). ومع كل هذا، عاد شاول فأخطأ، وكثرت أخطاؤه، ورفضه الرب. وقيل عنه "وذهب روح الرب من عند شاول، وبغته روح ردئ من قبل الرب" (1صم16: 14). لقد بدأ مع الله، أو بدأ الله معه. ولكن شاول لم يكمل. وكذلك شعب إسرائيل الذي جاز البحر وتبع الرب في البرية. تخلصوا من عبودية فرعون. وعاشوا تحت قيادة الله المباشرة، تظللهم السحابة نهارًا، ويديهم عمود النور ليلًا، وأكلو المن والسلوى. وكانوا أول شعب أرسل له الله شريعة مكتوبة، وتعهدوا النور ليلًا، وأكلو المن والسلوى. وكانوا أول شعب أرسل له الله شريعة مكتوبة، وتعدوا قائلين "كل ما تكلم به الرب نفعل، ونسمع له" (خر24: 7).. ومع ذلك عادوا وأخطأوا إلى الرب كثيرًا، وتذمروا، وعبدوا العجل الذهبي (خر2). وغضب الرب على ذلك الجيل المتذمر، ورفض إدخاله أرض الموعد، ومات كله في البرية.. هل تظنون أن كل الهالكين بدأوا طريقهم بالهلاك؟! كلا طبعا، فالشيطان نفسه بدأ حياته كملاك طاهر منير، ولكنه لم يكمل. فكم بالأولى البشر الذين عرفوا الخطية فترة ثم تابوا.. إذن لا يهمنا نقطه البدء، بل نهاية المطاف. الهراطقة لم يبدأوا تاريخهم كهراطقة.. بل إن بعضهم بدأ بداية طيبة جدًا.. وأوطاخي كان من أفضل رهبان القسطنطينية. كان إنسانًا روحيًا، ورئيس رهبنة. وكلنه لم يكمل، وانتهى إلى الهرطقة.واريوس كان من أفضل وأقوي كهنة الإسكندرية.. ونسطور كل هؤلاء إلى الضياع. وأوريجانوس كان أعظم عالم في عصره. وكان رجلًا زاهدًا. وقد تألم كثيرًا من أجل المسيح، ودافع عن الإيمان.. وأخيرًا انطبقت عليه تلك العبارة الأليمة "أيها البرج العالي، كيف سقطت؟!".. إذن فليحترس كل أحد.. وإن كنت قد تبت، فأسمعه هذه النصيحة: لا يكفي الخروج من سدوم، بل أكمل إلى صوغر. لقد خرجت امرأة لوط من سدوم، وكانت يدها في يد الملاك. ولم تحترق مع المدينة المحترقة. ولكنها لم تكمل المسيرة مع الله، وإنما نظرت إلى الوراء (تك29: 16). وهلكت بهذه النظرة الواحدة.. يا للرعب! احترس إذن من النظر إلى الوراء.. لا تعد تفكر في العالم الذي تركته من أجل الرب. ولا تحاول أن تتذكر ملاذ الحياة التي تبت عنها.. لا تنظر مطلقًا إلى الوراء، إنما "امتد إلى قادم". وحاول أن تنمو في توبتك لا أن ترجع إلى الخطية. فالذي يرجع، يكون كمن يهدم كل ما بناه. أنا لا أريد أن أخيفك بقول الرسول "لأن أرضًا قد شربت المطر الآتي عليها مرارًا كثيرة، وأنتجت عشبًا صالحًا للذين فلحت من أجلهم، تنال بركة من الله. ولكن إن أخرجت شوكًا وحسكًا، فهي مرفوضة وقريبة من اللعنة التي نهايتها الحريق" (عب6: 7، 8). ولا أريد أن أكرر ما قاله الرسول في نفس الرسالة "إن أخطأنا باختيارنا، بعدما أخذنا معرفة الحق، لا تبقي بعد ذبيحة عن الخطايا، بل قبول دينونة مخيف.." (عب10: 26، 27).. فلعل الرسول لا يقصد مجرد الخطية، فكل إنسان معرض لها، إنما يقصد حالة الاستمرار في الخطية.. إنما كل ما أريد أن أقوله، هو أن تحترس في توبتك. إن تبت، لا تغير بنفسك. لا تستكبر بل خف (رو11: 20). لا تظن أن التوبة أعطتك حالة عصمة. فليس أحد بلا خطية سوي الله وحده (متى19: 17). وما أسهل أن يحاربك العدو ليسقطك. لذلك تمسك بالرب، ولينسحق قلبك قدامه ليعطيك حياة النصرة الدائمة. واذكر قول القديس بولس الرسول: " تمموا خلاصكم بخوف ورعدة" (في2: 12). ويطابق هذا أيضًا ما قاله القديس بطرس الرسول".. سيروا زمان غربتكم بخوف" (1بط1: 18). وليس المقصود بهذا الخوف معنى الرعب. كلا، بل المقصود به هو الحرص والحيطة، والتدقيق في الحياة الروحية، والبعد عن الغرور الذي يظن فيه التائب إنه قد تخلص من الخطية إلى الأبد، وقد ارتفع فوق مستواها!! في هذا الخوف أو الحرص، لون من التواضع. وكثيرون خلصوا بهذا التواضع.. الذي فيه يشعر الإنسان بضعفه، بأنه لا يزال تحت الزلل، ويحتاج إلى حرص حتى من أبسط الخطايا.. فالذي يشعر بضعفه، تحيط به قوة الله لتعينه وتخلصه.. وما أجمل تواضع القديس بولس الرسول في قوله:".. أقمع جسدي واستعبده، حتى بعد ما كرزت للآخرين، لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1كو 9: 27). فإن كان بولس الرسول يقول هذا عن نفسه، فماذا نقول نحن عن أنفسنا، ونحن أدرى الناس بضعفنا..؟ وإن كان الرسول يقول "قمع جسدي واستعبده". ألا يعطينا بهذا درسا في استمرار الحرص مدى الحياة؟ الحرص يدل على أن التائب جاد في توبته. ويدل على أنه صادق في مواعيده التي وعد بها الله لما بدأ توبته. فكن حريصا باستمرار "أذكر من أين سقطت وتب" (رؤ 2: 4). ابحث عن أسباب الخطية التي أسقطت فيها قبلا، وابعد عنها بكل قوتك. ومن الأفضل أن نفرد لهذه النقطة موضوعا خاصا وهو: الكنعانيون في الأرض. |
||||
03 - 02 - 2014, 04:06 PM | رقم المشاركة : ( 119 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب حياة التوبة والنقاوة لقداسة البابا شنودة الثالث
الكنعانيون في الأرض كثيرون بعد أن تابوا رجعوا إلى خطاياهم. وكان السبب هو أنهم: تركوا أسباب الخطية قائمة كما هي، وتركوا أبواب الخطية مفتوحة.. لذلك عادت إليهم الخطية، وأعادوا هم إليها، لأن مصدر الخطية مازال موجودًا كما هو. هذا يذكرنا بقصة الكنعانيين في الأرض. فما هي هذه القصة وما مغزاها؟ الكنعانيون هم بعض الأمم الذين كانوا يعبدون الأصنام. وقد صدر الأمر بإخراجهم من الأرض حتى لا يصبحوا عثرة لجذب شعب الله إلى عباداتهم وعثراتهم. وكان الكنعانيون أقوياء جدًا. والذي. والذي حدث أن يشوع لم يطردهم من بعض المناطق، وبقوا عبيداً تحت الجزية (يش 16: 10). وازدادت شوكتهم. وكان شعب الله إذا اشتدوا "جعلوهم تحت الجزية، ولم يطردوهم طردا" (يش 17: 13). وتكررت نفس العبارة في سفر القضاة أيضًا (قض 1: 28). فسكن الكنعانيون في الأرض (قض 1: 27، 30، 32، 33). وصار الكنعانيون شركا لشعب الله ومضايقين له (قض 2: 3). فاختلطوا بهم، وتزاوجوا معهم، وعبدوا آلهتهم (قض 3: 5-7). وأصبح الكنعانيون هنا رمزا لبقايا الشر الموجودة في الأرض، التي لم تنزع من جذورها، فصارت سببا لنسيان الله والبعد عنه والرجوع إلى خطية مرة أخرى. هنا ونسألك: حينما تبت، وسمح لك الله أن تأكل في حياتك الجيدة لبنا وعسلا، هل استبقيت بعضا من الكنعانيين في الأرض، ولو كعبيد يخدمونك وهم تحت الحرية. تظنهم خاضعين لك، بينما ينتهي الأمر أن تقع في نجاساتهم وتعبد عباداتهم!! هل استبقيت بعضا من طباعك القديمة وأنت في حياة التوبة؟ أقول هذا، لأننا في بعض الأحيان، نجد خداما في الكنيسة، وربما مكرسين للخدمة، وطبعا هؤلاء يرون أنفسهم أنهم ليسوا فقط في حياة التوبة، بل ربما بالأكثر في حياة البر، ومع ذلك لهم طباع تشبه أهل العالم تماما! أخلاقهم علمانية وليست روحية! فكيف حدث ذلك؟ وكيف جمعوا بين الخدمة وهذه الطباع معا؟ |
||||
03 - 02 - 2014, 04:07 PM | رقم المشاركة : ( 120 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب حياة التوبة والنقاوة لقداسة البابا شنودة الثالث
لا تستبق الغضب بعد توبتك 1- إنسان. قبل أن يعرف المسيح كان غضوبا.. ثم تاب. ولكنه استبقى معه الغضب! قبل أن يتوب، وقبل أن يدخل في حياة لخدمة، كان يغضب، ويحتد، ويعلو صوته، ويشتم، ويتشاجر.. ثم تاب، استبقى الكنعانيين في الأرض. ترك معه هذه الطباع كما هي وتراه في الخدمة، وعلم الرغم من مسئولياته الكثيرة فيها، يثور ويضج ويحتد، ويأمر وينهى بصوت عال، ويشعل الجو نار وتعاتبه على غضبه، فيقول لك إنه الغضب المقدس..! أنا أغضب من أجل الله وحقوقه! وأثور من أجل إصلاح الأوضاع الخاطئة.. من أجل الوصية.. من أجل أن أعلمهم ماذا ينبغي أن يكون! وفى الحقيقة إنه يثور، لأنه عاجز عن مقاومة الغضب داخله. وفى الحقيقة ليس هذا غضبا مقدسا، لأنه ضد الوصية التي تقول "المحبة تتأنى وتترفق ولا تحتد" (1كو 13: 4، 5). وضد الوصية التي تقول "غضب الإنسان لا يصنع بر الله" (يع 1: 20). وأيضًا ضد الوصية التي تقول "ليرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح.. وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعض" (أف 4: 31، 32). و الغضب المقدس يجب أن يكون مقدسا في وسيلته أيضًا. وليس فقط في هدفه وغرضه. فالذي يثور بهذا الشكل يدل على أن أعصابه ليست سليمة، ويعطى قدوة سيئة ومظهرا غير مشرف للخدمة، ويدل على عدم نقاوة في الأسلوب وفي طريقة التعامل.. وكل ما في الأمر أن هذا الشخص استبقى معه بعض طباع رديئة وأراد أن يسبغ عليها صورة مقدسة، ويستخدمها بنفس أخطائها داخل الكنيسة. وأصبحت توبته وخدمته معثرة، وهي كمن يضع رقعة جديدة على ثوبه العتيق (متى 9: 16). وكان الأولى به أن يترك كل الغضب القديم بكل صوره. وهنا يسأل: وهل لا أدافع عن الحق؟ فنجيبه: إذا أراد الله أن يعطيك غضبا مقدسا للدفاع عن الحق، فسيكون غضبا آخر مختلفا في الجوهر والصورة والأداء والتعبير. سيكون غضبا روحيا، غير غضبك العلماني هذا. تغضب فيه ولا تخطئ (مز 4). لقد دافعت أبيجايل عن الحق لما كلمت داود، ولكن في أسلوب رقيق ومؤدب وحكيم (1صم 25). والسيد المسيح كشف للمرأة السامرية أخطاءها، ولكن بأسلوب روحي غير جارح (يو 4).وأولاد الله دائما يعبرون عن احتجاجهم على الخطأ بطريقة روحية ليس فيها صخب ولا ضوضاء ولا نرفزة، كل هذه الأمور التي من بقايا الكنعانيين في الأرض. المشكلة هنا، هي أن المقاييس الروحية غير سليمة. عن المقاييس التي تجيز هذا الغضب الخاطئ، وتعتبره مقدسا من أجل الله، لا شك أنها مقاييس غير سليمة، أو هي مجرد تبرير لوجود خطية قديمة لم يتطهر منها القلب بعد، ولا تتفق مع حياة التوبة، ولا مع ما يليق بالتوبة من تواضع وانسحاق.. ويمكن أن تتطور حتى تتلف روحيات الإنسان كلها، وكأنه لم يتب. |
||||
|