06 - 03 - 2014, 03:24 PM | رقم المشاركة : ( 111 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 110 (109 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير المسيا الرب والملك والكاهن والديانيُعْتَبَر هذا المزمور من أكثر المزامير التي اقتبس منها العهد الجديد بكونه مزمورًا مسيانيًا. عندما أراد الفريسيون والصدوقيون أن يُجَرِّبوا ربنا يسوع قدَّم لهم إجابة أفحمتهم. لقد سألهم: ماذا تظنون في المسيح؟ ابن من هو؟ وإذ أجابوا أنه ابن داود سألهم: "فكيف يدعوه داود بالروح ربًا، قائلًا: قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك؟" (مت 22: 44). هنا نجد أربع حقائق: أ. كتبه داود النبي. ب. أُعْلِنَ له بالروح القدس. ج. إنه مزمور مسياني. د. أن المسيح هو ابن داود وربه، ابن الله المتجسد. يُعَلِّق المرتل على هذا الموقف قائلًا: "فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة، ومن ذلك اليوم لم يجسُرْ أحد أن يسأله بتة" (مت 22: 46). في يوم الخمسين أشار إليه بطرس الرسول في عظته (أع 2: 34- 35). كما أشار إليه الرسول بولس في رسالته إلى العبرانيين (عب 1: 13). يرى بعض الدارسين أن هذا المزمور يُسَبَّح به بمناسبة تتويج أي ملك من نسل داود. أما منهج هذا المزمور فيتكون من التالي[1]: أ. الرئيس المُتَوَّج ينطلق في موكب إلى العرش الملكي في الهيكل [2]. ب. تقديم قضيب الملك له علامة سلطانه الملوكي [2]. ج. مركز الاحتفال بتتويجه هو مسحه بالدهن المُقَدَّس مع صلوات للتقديس [3]. د. الهتاف للملك الجديد، والمناداة به ملكًا [4]. هـ. ظهور الملك أمام كل الشعب، كمن هو مختار من الله ومسنود به [5-6]. و. يشرب من مياه الحياة من موقع مقدس مثل ينبوع جيحون في وادي قدرون شرق أورشليم، حيث تُوِّج سليمان ملكًا (1 مل 1: 39: 40) أو في هيكل أورشليم بكونه الينبوع الذي يهب حياة لكل المدينة، بل ولكل المملكة. 1. المسيا الرب 1. 2. المسيا الملك 2-3. 3. المسيا الكاهن 4. 4. المسيا الدّيان 5-7. من وحي مزمور 110 لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ. 1. المسيا الرب قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي، حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ [1]. ليتنا لا نكون من بين أعدائه، ليس فقط من بين أعدائه غير المؤمنين... بل ومن المملوءين من الحياة الدنسة. "لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله، إذ هو ليس خاضعًا لناموس الله" (رو 8: 7). * يعلن المُخَلِّص معنى تلك الكلمات في الإنجيل عندما سأل: إن كان المسيح هو ابن داود، كيف إذن يدعوه داود بالروح ربه؟ (مت 22: 43)... بالنسبة لنا ذاك الذي هو ابن هو أيضًا ابن داود، أنه ليس ابن وابن آخر. إنه ليس شخصيْن، واحد بكونه الله وآخر بكونه إنسانًا. وإنما ذاك الذي هو ابن الله هو بنفسه أيضًا ابن داود... الله لا يجلس، إنما ذاك الذي اتخذ جسدًا يجلس، ذاك الذي قيل له أن يجلس هو الكلمة المتجسد[2]. القديس جيروم القديس أغسطينوس القديس كيرلس الكبير القديس مار أفرام السرياني الابن الوحيد هو رب الكل، لكن ابن الآب المطيع لم ينل لاهوته (كأمرٍ جديدٍ)، بل هو ابن بالطبيعة حسب إرادة الآب. فليس الابن ناله، ولا الآب حسده لكي يغتصبه. فالابن يقول: "كل شيءٍ قد دُفع إليّ من أبي" (مت 11: 27؛ لو 10: 22). "دُفِعَ إليّ"، ليس كما لو كان ليس لي من قبل. وأنا أحفظه حسنًا، ولا أسلبه من الذي أعطاه لي[6]. * لكن الآن يجب أن أُذَكِّرَكم بقليلٍ من كثير مما يُقال بخصوص جلوس الابن عن يمين الآب، فالمزمور المائة والتاسع يقول: "قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئ قدميك" (مز 110: 1). ويؤكد المُخَلِّص هذا في الأناجيل، ذاكرًا أن داود لم ينطق بهذا من نفسه، بل بوحي الروح القدس قائلًا: "كيف يدعوه داود بالروح ربًا، قائلًا: قال الرب لربي اجلسْ عن يميني؟!" (مت 22: 43)، وقد استخدم بطرس والأحد عشر رسولًا هذا الدليل بنفس كلمات المزمور المائة والتاسع في سفر الأعمال في يوم البنطيقستي (حلول الروح القدس) عندما وقف ووعظ الإسرائيليين[7]. الذي صُلِبَ على الجلجثة صعد إلى السماوات من فوق جبل الزيتون من ناحية الشرق، فإنه بعدما نزل إلى الجحيم وصعد إلينا ارتفع من بيننا إلى السماوات، فيحدثه أبوه قائلًا: "قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي، حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ" (مز 110: 1)[8]. القديس كيرلس الأورشليمي * مادام هذا النبي كان ملكًا، فمن هو هذا الذي يمكن أن يدعوه ربه وهو يجلس عن يمين الله إلا المسيح ابن الله، الذي هو ملك الملوك ورب الأرباب"؟[9] لكتانتيوس * إن كانت كل الخليقة تسجد للمسيح، فبقوله "الملائكة" (في عب 1: 6) يعني أعلى الكائنات العاقلة، وذلك كما جاء في العبارة: "لمَنْ منَ الملائكة قال قط: اجلس عن يميني" (مز110: 1)؟ فهو أعلي منهم. وكلمة الكتاب المقدس تمنعنا من العبادة للخليقة، إذ قيل: "لئلا ترفع عينيك إلى السماء، وتنظر الشمس والقمر والنجوم، كل جند السماء التي قسمها الرب إلهك لجميع الشعوب التي تحت كل السماء، فتغتر وتسجد لها وتعبدها" (تث 4: 19). فكما يُمنَع الشخص من العبادة لكائنات سماوية، هكذا يُمنَع من العبادة للكائنات الأخرى المخلوقة، حتى وإن كانت إحداها تفوق بقية المخلوقات. بهذا يلزم أن يدرك الشخص بكل ثباتٍ أن المسيح هو الخالق، وليس مخلوقًا، حتى وإن كان من أجلنا اتحد بجسدٍ مخلوق به نفس عاقلة، وبهذا فهو مسجود له من كل الخليقة بكونه الله[11]. * عن أي عرش للنعمة (عب 4: 16) يتحدث؟ ذاك العرش الملوكي الذي يقال عنه: "قال الرب لربي: اجلسْ عن يميني" (مز 110: 1) . ماذا يعني: "فلنتقدم بثقة" (عب 4: 16). إننا نتقدم بثقة، لأن لنا رئيس كهنة بلا خطية، يناضل العالم، إذ يقول : "تهللوا، أنا قد غلبتُ العالم" (يو 16: 33) ، هذا يعني أنه يعاني من كل الأشياء ومع هذا فهو طاهر من الخطايا. فمع أننا نحن تحت الخطية، إلا أن رئيس الكهنة بلا خطية، كما عني الرسول[12]. * سبق فأنبأ بما نطق به السيد المسيح على الصليب: "إلهي، إلهي لماذا تركتني" (مز 22: 1). ووصف أيضًا الدفن، قائلًا: "حُسبت مثل المنحدرين إلى الجب... بين الأموات فراشي" (مز 88: 4-5). وعن قيامته: "لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيَّك يرى فسادًا" (مز 16: 11). وعن صعوده قال: "صعد الله بهتاف، الرب بصوت الصور" (مز 47: 5). وعن الجلوس عن يمين الله (الآب) "قال الرب لربي: اجلسْ عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك" (مز 110: 1). القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أغسطينوس * لا يمكن للفكر البشري أن يعرف مشاركة ومساواة الله الآب مع ابنه الوحيد ما لم يلهمه الروح القدس، وليس دم ولا لحم يقدران أن يكشفا ذلك. لكن هذا القول نطق به داود النبي بوحي الروح القدس، كما قال ربنا في الإنجيل المقدس. قوله: "قال الرب لربي" يشير إلى مساواة الآب والابن في اللاهوت والربوبية، وفي كافة الخواص الجوهرية... يدل الجلوس على اليمين الاستقرار وعدم زوال ملكه. أما اليمين فيدل على الكرامة والمفاخرة الإلهية... القول: "قال الرب لربي اجلسْ عن يميني" يدل على أن الابن لم يأخذ الكرامة والجلوس اختطافًا كما حرَّرَ الرسول: "الذي إذ كان في صورة الله لم يُحسب خلسة أن يكون معادلًا لله، لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبدٍ، صائرًا في شبه الناس، وإذ وُجد في الهيئة كإنسانٍ، وضع نفسه، وأطاع حتى الموت موت الصليب" (في 2: 6-8). لكن لم يكن الابن أسفل وارتفع، ولا لأخذ كرامة لم تكن فيه أولًا، بل وهو لم يزل في أحضان أبيه تواضع، ومن بعد آلامه وموته وقيامته آخذًا مجدًا وكرامة كائنيْن فيه على الدوام كإله. وهذا الذي يقوله: الآن مجدني أنت يا أبتاه بالمجد الذي كان لي عندك من قبل كوْن العالم. فالقول: "اجلس عن يميني" قيل له من قبل الآب بعد تجسده... قولنا: جلس الابن عن يمين الآب، معناه أنه وهو في تجسده صار في كرامته يُسجَد له من الخلائق سجودًا غير منفصل، لأننا لسنا نسجد للاهوت الابن بانفراده ولناسوته بانفراده؛ كلا بل نسجد سجودًا واحدًا للابن المتجسد كما نجثو للملك اللابس البرفير بسجود واحد. الأب أنسيمُس الأورشليمي 2. المسيا الملك يسوع المسيح هو المسيا والملك والكاهن في نفس الوقت، الأمر الذي لم يكن يتحقق قط حيث كان الملك من سبط يهوذا، والكاهن من سبط لاوي، فلا يجمع إنسان ما بين الدوريْن أو اللقبيْن. مسيحنا يحكم كملك الملوك خلال محبته الكهنوتية الفائقة. يُرْسِلُ الرَّبُّ قَضِيبَ عِزِّكَ مِنْ صِهْيَوْنَ. تَسَلَّطْ فِي وَسَطِ أَعْدَائِكَ [2]. * لم يقل المرتل اقتل أعدائك، بل ماذا؟ "تسلط في وسط أعدائك". لتجعل أعداءك الذين كانوا غرباء يصيرون أصدقاءك... هؤلاء الذين هم أعداء تحت سلطان غريب. الآن صلاة داود هي: تسلط على أعدائك، أي امنحهم أن تكون ربًا لأعدائك[14]. القديس جيروم يُقال "قضيب" بما أن القضيب هو علامة المُلك. فبكرازة الإنجيل خضعت لمُلك المسيح. وتسلطه في وسط أعدائه أعني عابدي الأصنام، وأيضًا الذين آمنوا من أهل الختان. ولأن الرسل بكرازة الإنجيل كأنهم بقضيب من حديد رضضوا الأصنام ومعابدهم وكفرهم، كآنية الفخار... وأيضًا يُقال قضيب عز الصليب المُكَرَّم، لأنه كما أن عصا موسى صنعت آيات وخلَّصتْ الإسرائيليين، وأهلكت أعداءهم، كذلك صليب ربنا يصنعه من عظائم يخلص شعب الله، ويهلك أعداءه. هذا القضيب، أعني الصليب الكريم مع كرازة الإنجيل أرسلهما الرب وهو الروح القدس. إذن ها قد أوضح النبي جهارًا الثالوث القدوس المساوي في الجوهر والربوبية. لأنه بقوله: قال الرب لربي أظهر الآب والابن؛ وبقوله: يرسل الرب قضيب عزك أظهر الروح القدس صانع القوات، ومعطي الرسل القضيب الذي يرضض رؤوس المضادين، ويهدي المؤمنين. الأب أنسيمُس الأورشليمي القديس أغسطينوس قبلًا كان الشر الروحي (أف 6: 12) بصفة عامة يُستخدَم ليجعل أعناقنا تنحني لنير الأسر. هكذا حتى داود كتب أنه بطريقةٍ ما عن أيدي الذين انتصروا عليه. "على ظهري حرث الأشرار" (راجع مز 129: 3). أما الآن فقد خضع الشر الروحي لنصرة المسيح وليديه، حتى صار الشر الذي يُسَبِّب مرارة الأَسْر، خاضعًا إلى الأبد في التصرفات والأعمال[16]. القديس أمبروسيوس فِي زِينَةٍ مُقَدَّسَةٍ مِنْ رَحِمِ الْفَجْرِ. لَكَ طَلُّ حَدَاثَتِكَ [3]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "معك الرئاسة (البدء) في يوم قوتك في بهاء القديسين. من البطن قبل كوكب الصبح ولدتك". يرى القديس جيرومأن يوم قوته هو يوم صلبه، حيث يسكب بهاءه على قديسيه. وأنه إذ قال: "يا أبتاه، في يديك أستودع روحي" (لو 23: 46). لقد نطق بهذه الكلمات كإنسانٍ، ولم يصلِ عن ضعف، لأنه هو واحد مع الآب، هو البدء كما الآب هو البدء. إنه يفتح الباب لقديسيه حتى متى طلبوا منه ينالون ويكونون في بهاء. يقول القديس جيروم [فكرة أنه ينال لكي يعطي يلزم ألا تعثر أحدًا. إنما هو تعبير يتناسب مع ناسوت الابن، فإنه إذ أخذ جسد الإنسان، بالضرورة يأخذ على عاتقه أن يتحدث بلغة الإنسان. المسيح إنسان، وإنسان حقيقي؛ نقول هذا من جهة تأنسه... على أي الأحوال إن كان ضعف الجسد يعثركم، إن كان الصليب والجراحات والضربات والجلد وكل متاعب الصليب تعثركم، ارجعوا إلى البدء، إلى ميلاده (الأزلي) الإلهي فلا تتعثرون، لأن الآب يقول عن الابن: "من البطن قبل كوكب الصبح ولدتك"... الآب وهو لم يأخذ طبيعة بشرية، يقول بأسلوب بشري: "من الرحم قبل كوكب الصبح ولدتك". ليس لي رحم، لكنني لا أقدر أن أشير إلى أبوتي بطريق آخر دون استخدام لغة بشرية... "من الرحم" أي "من جوهري"... على أي الأحوال، فإن هذا المزمور في الواقع يُظهِر أنه يلد الابن من الرحم، أي من طبيعته، من كيانه، من جوهره. "من الرحم" تعني بوضوح "من جوهر لاهوته". كل ما للآب من جهة اللاهوت هو للابن الذي ولده[17].] [عندما يقول المرتل: "قبل كوكب الصبح" فلنفهم: "قبل القمر وقبل الشمس وقبل كل مخلوقٍ"... قبل أن يُرَى كوكب الصبح في العالم وُلد النور الحقيقي. وفي مزمور آخر يقول: "بنورك نعاين النور" (مز 36: 10). هذا القول موجَّه إلى الآب: "أيها الآب، في نور الابن نرى النور، الروح القدس[18].] جاء في تفسير القديس أغسطينوس: "معك البدء"... لقد أجاب الذين سألوه: "أنا من البدء" (يو 8: 25). ولما كان أبوه هو أيضًا البدء، الذي منه الابن الوحيد الجنس، حيث "من البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله" (يو 1: 1). ماذا إذن أن كان كل من الآب والابن هما البدء، فهل يوجد بدءان؟ حاشا! فكما أن الآب هو الله، والابن هو الله، فإن الآب والابن هما بدء واحد... "معك البدء"، لم ينفصل الآب عنك قط. * عن أي سلطان تتكلم "في بهاء القديسين"؟... يتحدث عن ذاك السلطان عندما يصير القديسون في بهاء، ليس وهم لا يزالون حاملين جسدهم الأرضي، ويئنون في جسد مائت قابل للفساد... "من الرحم قبل كوكب الصبح ولدتك"... الرحم (البطن) والحضن يُقالان عن موضع سري. ماذا يعني: "من الرحم"؟ مما هو سري، مما هو خفي، من ذاتي، من جوهري. هذا هو معنى الرحم، لأن "في جيله من كان يخبر؟!" (راجع إش 53: 8). إذن لنفهم قول الآب للابن "من رحمي قبل كوكب الصبح ولدتك". إذن ماذا يعني: "قبل كوكب الصبح"...؟ هذا التعبير يستخدم بالمعنى الرمزي وأيضًا الحرفي، وقد تحقق. لأن الرب ولد ليلًا من العذراء مريم كشهادة الرعاة التي تؤكد هذا، إذا كانوا في حراسة لقطيعهم (لو 2: 7-8)[19]. القديس أغسطينوس القديس جيروم القديس إكليمنضس السكندري الأب قيصريوس من آرل القديس أثناسيوس الرسولي أيضًا يُقال يوم قوته عن يوم الدينونة الذي فيه يأتي بمجد أبيه، ويعرف قوته للجميع. ففي ذلك اليوم تكون لله الرئاسة التي هي الصليب الذي حمله على منكبيه، كما قال إشعياء النبي، وكما قال هو بنفسه: "حينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء. وعند ذلك يحصل القديسون في بهاءٍ وجلالٍ، إذ يشرق الصديقون كالشمس. الأب أنسيمُس الأورشليمي 3. المسيا الكاهن أَقْسَمَ الرَّبُّ وَلَنْ يَنْدَمَ: أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى الأَبَدِ، عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ [4]. * أقسم الرب؛ لقد قدَّم وعدًا مُقَدَّسًا، لا لذاك الذي وُلد قبل كوكب الصبح، بل لذاك الذي وُلد من بتول بعد كوكب الصبح: "أنت هو الكاهن إلى الأبد على طقس ملكي صادق". إنه ليس ضروريًا أن يشرح هذه العبارة حيث ناقشها الرسول المقدس في رسالته إلى العبرانيين. فإن هذا هو ملكي صادق الذي بلا أب ولا أم... وكل الكنسيين اجمعوا أنه بدون أب من جهة الجسد، وبدون أم بكونه الله[24]. القديس جيروم * أولًا ظهرتْ الذبيحة التي تُقدَّم الآن لله بواسطة المسيحيين في كل العالم المتسع. بعد مدة طويلة من هذا الحدث (تقديم ذبيحة ملكي صادق)، قيل بالنبي أن هذه الذبيحة تتحقق في المسيح، الذي يأتي في الجسد. "أنت هو الكاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" (مز 110: 4). بمعنى آخر، ليس على رتبة هرون، لأن هذا النظام كان لابد أن يزول عندما تشرق هذه الأمور التي أُشير إليها مُقَدَّمًا خلال هذه الظلال. القديس أغسطينوس القديس كيرلس الكبير القديس أمبروسيوس العلامة ترتليان القديس مار أفرام السرياني الأب يوحنا الدمشقي أما عن كون ملكي صادق رمزًا للمسيح، فهذا ما يعلنه الروح القدس في المزامير، متكلمًا من الآب نحو الابن "... أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" (مز 110: 4). كان هذا الطقس بالتأكيد مستمدًا من هذه الذبيحة... فإذا كان ملكي صادق كاهن الله العلي، قدَّم خبزًا وخمرًا، وفي هذا بارك إبراهيم. لأنه من هو كاهن الله العلي (بحق) مثل ربنا يسوع المسيح، الذي قدَّم ذبيحة الله الآب، قدَّم ما قدَّمه ملكي صادق، أي خبزًا وخمرًا، أي جسده ودمه؟! استمرت البركة التي أُعطيت لإبراهيم في المسيحيين. لأنه إن كان إبراهيم قد آمن بالله، "فحُسب له برًا" (تك 15: 6)، فكل من يؤمن بالله، ويحيا بالإيمان، يُحسب له برًا... ويحسب مبرَّرًا ومطوَّبًا في إيمان إبراهيم، كما يُعَرِّفنا الرسول بولس، قائلًا: "آمن إبراهيم بالله، فحسب له برًا" (غل 3: 6). والآن فأنتم إذ تؤمنون تُحسَبون أولادًا لإبراهيم. وقد سبق فرأى الكتاب المقدس أن الأمم يتبررون بالإيمان، فتنبأ لإبراهيم أن فيه تتبارك جميع الأمم (غل 3: 6-8). لذلك فإن مباركة إبراهيم بواسطة الكاهن ملكي صادق الواردة في سفر التكوين، سبق أن أُعلنتْ كمثال لتقدمة المسيح، التي هي من خبزٍ وخمرٍ. وإذ كمَّل الرب المثال وأتمه، قدَّم خبزًا ومزج الكأس من خمر. * من هو كاهن لله العلي أكثر من ربنا يسوع المسيح، الذي قدَّم لله الآب ذبيحة، هي ذات التي قدَّمها ملكي صادق، أي الخبز والخمر، وبالحق هما جسده ودمه؟[31] الشهيد كبريانوس وأخرسوا قيثارة المزامير التي غَنَّت عن كهنوته (مز 4:110)، وأسكتوا قيثارة الروح التي غنّت عن ملكيته (مز 4:110). وتحت صمتٍ هائل، أغلقوا على الميلاد العظيم الذي جعل الكائنات السماوية والأرضية تصرخ: مبارك هو ذاك الذي أشرق خارجًا من الصمت المطبق![33] القديس مار أفرام السرياني 4. المسيا الدّيان الرَّبُّ عَنْ يَمِينِكَ، يُحَطِّمُ فِي يَوْمِ رِجْزِهِ مُلُوكًا [5]. يعلق القديس جيروم على قول المرتل: "يحطم في يوم رجزه ملوكًا" [5]، قائلًا بأن إبليس في لحظة من الزمن أراه كل ممالك العالم، وقال له: "لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهن، لأنه إليّ قد دُفع، وأنا أعطيه لمن أريد" (لو 4: 6). في يوم صراعه ومعركته سيحطم ملوكًا! * في بدء المزمور نجد: "قال الرب لربي: اجلس عن يميني"، والآن يقول المرتل: "الرب عن يمينك". إن كان هو جالسًا عن يمين الآب، كيف على العكس يجلس الآب عن يمين الابن...؟ أقول هذا كله لكي أؤكد بوضوح الابن مساوي للآب[35]. القديس جيروم القديس أغسطينوس الأب أنسيمُس الأورشليمي مَلأَ جُثَثًا أَرْضًا وَاسِعَةً. سَحَقَ رُؤُوسَهَا [6]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "يقضي بين الأمم ويملأهم جثثًا. ويرض رأس كثيرين على الأرض" يعلق القديس جيروم على سحق الملوك وإدانة الأمم وكثرة الجثث الملقاة أيضًا، قائلًا بأنه على الصليب تَعَثَّر الذين لم يُصَدِّقوا الرسل. وكما قال سمعان الشيخ: "وُضِعَ لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تُقاوَم" (لو 2: 34). * أنه يرض رؤوس غير المؤمنين. يرض رؤوس المتذبذبين، الذين إيمانهم غير كامل. إنه يسحق رؤوس في أرض الكثيرين، وليس في أرض الكل. فلو قيل "أرض الكل" لما كان لنا رجاء[37]. القديس جيروم القديس أغسطينوس لِذَلِكَ يَرْفَعُ الرَّأْسَ [7]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "وفي الطريق يشرب الماء من الوادي، لذلك يرفع رأسًا". يرى يوسابيوس القيصري[39]أن الغدير (النهر) الذي يشرب منه السيد المسيح هو تجربة الآلام التي اجتازها، وكما قال للآب: "إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس" (مت 26: 39)، وأيضًا: "إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك" (مت 26: 42). وإذ شرب السيد المسيح الكأس في طاعة حتى الموت رفع رأسه، وكما يقول الرسول بولس: "لذلك رفَّعه الله أيضًا، وأعطاه اسمًا فوق كل اسمٍ" (في 2: 9). * "يشرب من سيل في طريق جانبي" (راجع مز 110: 7). ليتنا نفحص الطريق أولًا، وبعد ذلك نتطلع إلى السيل الذي في طريق جانبي. الآن فإن الطريق هو طريق هذا العالم، الطريق الذي سار فيه... لقد جاء إلى طريق العالم، وسار في طريقنا، وشرب أيضًا من السيل الذي في هذا العالم. هذا السيل ليس فيه مياه طبيعية جارية. إنها مياه تأتي من الأمطار والفيضانات والعواطف والزوابع. لا يوجد السيل على الجبال بل في الوديان والانحدارات والأماكن الشديدة الانحدار... مياه السيل غير نقية بل مملوءة بالوحل. قبل هذا لأن مياه هذا العالم دائمًا عكرة ومملوءة بالتجارب. أتريدون كيف قيل إنه يشرب من سيل مضطرب؟ لقد قال بنفسه: "نفسي حزينة حتى الموت" (مت 26: 38). ويقول الإنجيلي: "وابتدأ يحزن ويكتئب" (مت 26: 37). إذن شرب ربنا من مياه سيل هذا العالم، ماء الحزن، الماء الذي ليس فيه فرح. لقد أخذ الكأس وملأها من فيض هذا العالم، ولأن المياه مملوءة طميًا صلَّى: "يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس" (مت 26: 39). شرب من سيل هذا العالم ليس في بيته بل في الطريق، مُسْرِعًا إلى طريق آخر... إن كان الرب يشرب من سيل هذا العالم، كم بالأكثر يكون بالنسبة لخدامة المُخْلِصين...؟ ذاك الذي هو رأس الجميع رفع نفسه، أو بأكثر دقة، رفع رأسه، ولم يرفع نفسه، لأنه هو دائمًا منتصب... لقد رفع رؤوسنا نحن الذين كنا منحنين وعاجزين عن التطلع نحو السماء، كنا متطلعين فقط نحو الأرض. أتريدون أن تقتنعوا أنه يرفع رأس الإنسان؟ لقد حل المرأة (لو 18: 11-13). التي ربطها الشيطان بقيودٍ. لقد رفع رأس تلك التي عاشت كل حياتها منحنية، وسجدت له[40]. القديس جيروم شرب ربنا من هذا الوادي كأس الموت عندما كان سالكًا طريق هذا العمر، ومجتازًا من هذا الوادي، فارتفع رأسه، أعني مجده وجلاله. الأب أنسيمُس الأورشليمي من وحي مزمور 110 لأقتنيك يا ربي وملكي وشفيعي وإكليلي! * بروح النبوة رأى داود أسرارك، فتهللتْ نفسه! اشتهي أن يقتنيك، ومعك لا يطلب على الأرض شيئًا! * رآك ربه الجالس عن يمين الآب، فانفتح أمامه باب الرجاء في السماء! أنت وحدك قادر على مصالحة الآب مع البشرية. لا بالكلام المُجَرَّد، وإنما بالحب الباذل. جلوسك عن يمين الآب، وجلوس الآب عن يمينك، يجتذب بصيرتي، بل وكل كياني. أنت رأس الكنيسة، يا قوة الآب القدير! ماذا بعد نحتاج، وأنت في وسط كنيستك، وفي نفس الوقت جالس عن يمين الآب؟ * انحني أبي إبراهيم أمام ملكي صادق رمزك. قدَّم له العشور، إذ شعر بعظمتك فيه. أنت رئيس الكهنة السماوي، أنت وحدك بلا خطية، نقتنيك ونلتحف بك، فنحمل برّك. تشفع بدمك الثمين، فتغفر كل خطايانا، وتهبنا شركة أمجادك! * قضيب مُلْكِك يا ملك الملوك يُحَطِّم قوة العدو. لم يعد لإبليس مكان في قلوبنا، إذ انحدر كما من السماء كالبرق. فصار لنا أن نطأ كل حيله وخداعاته وأكاذيبه! انفضح العدو بقوة صليبك، وشُهِّر به كضعيف لا حوْل له. أقمتَ منا ملوكًا يا ملك الملوك. هب لنا أن نحيا بروح الملوكية السماوية. * أنت ديَّان الأرض كلها. استعرض إبليس أمامك كل ممالك العالم. ظن أنه سيدها إلى الأبد. وادَّعى أنه قادر أن يهبها لمن يشاء! في جهالة حسبك تطلب العالم، وأنت الغَنِي الذي افتقر بإرادته لكي يُغْنِي مؤمنيه بالمجد السماوي! نزلتَ إلى أرضنا، وسلكتَ طريق الأشواك والتجارب، وشربت من مياه حزننا، لكي تُقَدِّم لنا نفسك الطريق الحق. تحملنا فيك، وتدخل بنا إلى حضن أبيك. تفجّر في داخلنا مياه الروح المحيي. تروينا من ينابيع حبك. وتشبعنا بالخبز النازل من السماء. ماذا نطلب بعد يا ربنا وملكنا وكاهننا السماوي وديَّان الأرض كلها! |
||||
06 - 03 - 2014, 03:33 PM | رقم المشاركة : ( 112 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 111 (110 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير مخافة الرب طريق المعرفةالمزمور السابق (110) هو مزمور خاص بصعود رب المجد يسوع وجلوسه عن يمين الآب، لذا يتبعه مجموعة من المزامير تسمى الهلليلويات (مز 111-118). وهي بصفة عامة مزامير قصيرة نابضة بالحيوية، قادرة أن ترفع النفس إلى فوق، وتسكب عليها -إن صح التعبير- روح الرجاء أو التفاؤل. تسحب هذه المزامير بصيرة الإنسان عن ذاته، ليتهلل بمجد الرب، وعظمة أعماله الفائقة، ورعايته العجيبة. يُعتَبَر هذا المزمور من ضمن المزامير الأبجدية، حيث تبدأ كل جملة بحرف من الحروف الأبجدية العبرية بالترتيب. يرى البعض أن هذا المزمور وكثيرًا من المزامير التالية بعده كانت تُستخدَم في الاحتفال بالفصح. قام القديس أغسطينوس بشرحه في الصوم الكبير بكونه رمزًا يخص الفصح المسيحي. يُقَدِّم لنا المرتل بروح التسبيح خطوات عملية للتمتع بالمعرفة والنمو فيها. كل إنسان حتى الرضيع الصغير يشتهي أن تكون له معرفة، ويشعر بالسعادة كلما نما في المعرفة. 1. المعرفة والعبادة الجماعية 1. 2. المعرفة والتأمل في أعمال الرب 2-6. 3. المعرفة وكلمة الله 7-9. 4. المعرفة ومخافة الرب 10. من وحي المزمور 111 1. المعرفة والعبادة الجماعية إذ يُسَبِّح المرتل الرب بقلبه الناري، حتمًا يتفاعل مع شعبه، يسندهم ويسندونه. فللمؤمن فاعليته في حياة إخوته، وللجماعة فاعليتها في حياته. يُسَر الله بالجماعة المقدسة المُتعبِّدة له بروح الحب والتقوى والشكر، فيهبهم فهمًا ومعرفة، بروح التواضع، لا الكبرياء والزهو. هَلِّلُويَا. أَحْمَدُ الرَّبَّ بِكُلِّ قَلْبِي، فِي مَجْلِسِ الْمُسْتَقِيمِينَ وَجَمَاعَتِهِمْ [1]. يصدر التسبيح والشكر من قلب المرتل، وفي نفس الوقت يدعو شعب الله لكي يشترك معه في هذا العمل الملائكي. ما هو مجلس المستقيمين ومن هم جماعتهم سوى الأتقياء الذين يتسمون بمخافة الرب، لا يكفون عن تقديم الشكر بلا انقطاع، حتى أثناء الضيقات. * لو لم يكن داود بسيط القلب ومخلصًا، ما كان قد قال: أشكر الرب بكل القلب، وإنما بشفتي[1]. القديس جيروم "بقلبي"، ليس بالكلام واللسان والفم فقط، بل وأيضًا بالعقل. هذا هو الطريق الذي وضعه موسى في الناموس: "تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل عقلك" (راجع تث 6: 5). هنا أظن في الحقيقة أن الاعتراف (أو الحمد) يعني الشكر. إنه يقول: "إني أُسَبِّحُ، إني أشكر". لقد قضى كل حياته في السعي وراء هذا كما ترون. لقد بدأ بهذا، وإلى هذا انتهى. هذا هو عمله في كل الأوقات أن يُقَدِّم تشكرات من أجل الإحسانات المُقَدَّمة له وللآخرين. لا يطلب الله شيئًا آخر مثل هذا! هذه الذبيحة، وهذه التقدمة علامة الروح المعترفة بالجميل وهي صفعة ضد الشيطان. هذه هي العلامة الخاصة بالاتجاه الشاكر، أن تُقدَّم تشكرات لله في التجارب والمصاعب ويبقى الشخص شاكرًا وسطها[2]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أغسطينوس القديسة الأم سنكليتيكي 2. المعرفة والتأمل في أعمال الرب أعمال الله عظيمة وعجيبة، تُعلِن عن أسرار حبه وحكمته وقدرته. يليق بنا في إعجابنا بالخليقة أن نلتصق بالخالق الكلي الحب والرحمة. عَظِيمَةٌ هِيَ أَعْمَالُ الرَّبِّ. مَطْلُوبَةٌ لِكُلِّ الْمَسْرُورِينَ بِهَا [2]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "عظيمة هي أعمال الرب، ومشيئاته كلها مفحوصة". ما هي أعمال الرب التي يُسر بها المؤمنون؟ خليقته الجميلة، ورعايته الفائقة، ونعمته الغنية. يقف المؤمنون في دهشة أمام حكمة الله وحنوه وقدرته. إنه الخالق القدير والأب المملوء حبًا. أعمال الله العظيمة والعجيبة تبعث روح الرجاء في الشعب للتمتع بخلاص الله. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن المرتل على ما يبدو يتحدث عن كل المخلوقات أنها تعلن حكمة الله، وأنه يُدَبِّر كل العجائب والمعجزات في مناسبات كثيرة من أجل الجنس البشري. إنه يأمر النار والبَرَدْ والثلج والرياح العاصفة فتُتمم أوامره (مز 104: 19-20). كل المخلوقات ليست فقط تُتمم ما خُلقتْ لأجله حسب الطبيعة التي أوجدها عليها، بل وحينما يأمرها تُتمم ما هو على غير طبيعتها. [كمثال أعطى أوامر للبحر ليس فقط ألا يُغرِقُ أحدًا، حسب طبيعة عمله، وإنما يستبعد أمواجه ويسمح لجمهور اليهود أن يعبروا في أمان أكثر مما لو كانوا على صخرة (خر 14: 21-22). والأتون ليس فقط ألا يُحرِقُ، وإنما يُقَدِّم ندى خفيفًا (دا 3: 50 تتمة دانيال). الوحوش المفترسة ليس فقط تمتنع عن أن تأكل بل قامت بدور الحراس في حالة دانيال (دا 6: 22). وحش البحر (الحوت) لم يمتنع عن افتراس راكبه (يونان) بل وحفظه في أمان (يونان 1: 17؛ 2: 10). الأرض ليس فقط لم تُعطِ ثباتًا للسير عليها بالأقدام، بل انشقت بأكثر خطورة من البحر وابتلعت داثان وجماعة ابيرام (عد 16: 31-32) [4].] يؤكد القديس يوحنا الذهبي الفمأن الله خالق الموجودات يتركها تعمل حسب الطبيعة التي خلقها عليها وتحترم ناموسها، وهذا من فضل رعايته وعنايته بنا، ولكن عند الضرورة يأمرها لتعمل على خلاف طبيعتها، وهذا أيضًا من أجل عنايته الإلهية بنا. جَلاَلٌ وَبَهَاءٌ عَمَلُهُ، وَعَدْلُهُ قَائِمٌ إِلَى الأَبَدِ [3]. يهتم الله بكل كبيرة وصغيرة، حتى شعور رؤوسنا محصية أمامه. إنه يعمل بكونه الله، ففي أصغر أو أبسط أعماله يترك لمسات قدرته وبهائه عليها. كل أعماله ومعاملته تكشف عن برِّه الإلهي الدائم إلى الأبد. يرى القديس أغسطينوس أن عمل الله المملوء جلالًا وبهاءً هو تبرير الفجار. [ربما عمل الإنسان يمنع هذا العمل المجيد لله، لكنه إذ يعترف بخطاياه يتأهل أن يتبرر... هذا هو عمل الرب المجيد، فإن من يحب كثيرًا يُغفَر له الكثير (لو 7: 42-48). هذا هو عمل الرب المجيد، لأنه "حيث كثُرتْ الخطية، ازدادت النعمة جدًا" (رو 5: 20). لكن ربما يستحق إنسان أن يتبرر بالأعمال. يقول: "ليس من أعمالٍ كيلا يفتخر أحد. لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمالٍ صالحة" (أف 2: 9-10)[5].] * "عدله قائم إلى الأبد". ما يقصده بقوله هنا هو هكذا: لا تيأسوا مهما ظُلمتم، فإنكم تنالون حقوقكم حتى إن انتهت حياتكم. فستستلمون مكافأة أتعابكم عند رحيلكم من هنا. وأنتم أيضًا لا تبتهجوا يا من تسرقون وتشتهون وتسعون وراء كل شيءٍ، حتى وإن انتهت حياتكم في سلام، فستُقَدِّمون حسابًا كاملًا عند رحيلكم من هنا، ستدفعون ثمن شروركم. الله كما ترون موجود إلى الأبد، يمارس عدله وبعد مجيء المسيح... وما يحدث حتىاليوم... إنكم تلاحظون عجائب كثيرة تحدث في بيوتكم وخارج البيوت[6]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ هُوَ الرَّبُّ [4]. كل ما يصنعه القدير عجيب ومدهش، لا يفارق ذاكرة المؤمن. أما ما هو بالحق أخَّاذ، فهو حنانه ورحمته. * قوله: "صنع ذِكْرًا لعجائبه" معناه أن عجائب الله التي صنعها قديمًا لبني إسرائيل، وصنعها أخيرًا عندما أتي إلى العالم بالجسد، كلها لا يزال ذِكْرها مؤبدًا. الأب أنسيمُس الأورشليمي يَذْكُرُ إِلَى الأَبَدِ عَهْدَهُ [5]. يرى البعض أن هذا المزمور يُسبَّح في الاحتفال بالفصح، وأن الطعام هنا يُقصد به الفصح نفسه. غير أن الكتاب المقدس كثيرًا ما يعني بالطعام كما بالمن والخبز والماء الطعام الروحي والشراب الروحي. يود الله دومًا أن يُشبِعَ أبناءه، فلا يجوعون إلى شيءٍ من أمور العالم، كما يؤكد دومًا أمانته في وعوده وعهوده التي يجددها مع شعبه ومؤمنيه. طعام عجيب معجزي، يقول عنه النبي: "جعل ذكرًا لعجائبه. حنَّان ورحيم هو الرب. أعطي الذين يتقونه (يخافونه) غذاء، ذَكَرَ ميثاقه إلي الأبد" (راجع مز 111: 4-5). إنها معجزة المعجزات أن يُحوِّلَ الخبز والخمر إلي جسده ودمه الكريميْن. وهو غذاء الروح، يهب الحياة لمن يتقونه، غذاء سماوي، غير مائت، شجرة الحياة التي يقتطف منها المؤمن ثمرة محيية، والمن العقلي الحقيقي المُخفَى، دواء الحياة الذي يقاوم الضعف والمرض، ويقوينا في الحرب ضد الشيطان والخطية. وفي نفس الوقت نجده ذكرى ميثاق وعهد أبدي، تعهد فيه الرب أن يحبنا ويُنْمينا وينعش نفوسنا. قال مخلصنا: "أنا هو خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا. هذا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا سأعطيه هو جسدي الذي سأبذله عن حياة العالم... الحق الحق أقول لكم: إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان، وتشربوا دمه، فلا حياة لكم في أنفسكم... من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد" (يو 6: 48-59). * لماذا يشير هنا إلى خائفيه؟ أقصد أنه لا يطعمهم وحدهم. اذكروا إنه يقول في الإنجيل: "يُشرِقُ شمسه على الأشرار والصالحين، ويُمطر على الأبرار والظالمين" (مت 5: 45)... الطعام الذي يشير إليه هنا يبدو لي ليس طعامًا جسديًا بل طعام النفس. لهذا السبب يتحدث هنا عن خائفيه. إنه خاص بهم. أنتم ترون كما أن الجسد يُقات هكذا النفس أيضًا. والدليل على أنها تُقات، أنصتوا إلى هذا: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت 4: 4؛ تث 8: 3). هكذا يشير إلى هذا الطعام، الذي يعطيه على وجه الخصوص لخائفيه: التعليم بالكلمة، والوصية، وكل القيَّم الصادقة[7]. * "يذكر إلى الأبد عهده"... إنه يُظهر أن الخيرات التي يتمتعون بها ليس لأجل استحقاقاتهم، وإنما من أجل محبة سلفائهم ومن أجل العهود التي أقامها معهم. لذلك يقول: "يذكر عهده معهم"؛ هذا ما أمرهم به موسى أن يراعوه عند دخولهم أرض الموعد. "يقول لهم أن يذكروا عندما يبنون مدنًا عظيمة ويحيطون أنفسهم بممتلكات كثيرة ألا يقولوا إنه بسبب برَّهم قد بلغوا هذا الطريق، بل من أجل العهود مع آبائهم. ليس شيء أشر من العجرفة، لهذا لا يكف الله عن أن ينزعها في كل مناسبة[8]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس جيروم وأيضًا الميثاق الذي عاهده بأنبيائه في دعوة الأمم، ذكره وتممه بواسطة رسله، وهم أخبروا الذين آمنوا به، وصاروا شعبه. الأب أنسيمُس الأورشليمي العلامة ترتليان أنبا ساويرس (أسقف الأشمونيين) القديس أمبروسيوس * ماذا أيضًا تفيد مخافة الرب سوى أن الرب السخي والرحيم يعطي طعامًا لخائفيه؟ طعامًا لا يفسد، "الخبز النازل من السماء" (يو 6: 27، 51) الذي لا يعطيه عن استحقاقاتنا الذاتية. القديس أغسطينوس لِيُعْطِيَهُمْ مِيرَاثَ الأُمَمِ [6]. إذ يعبد الأمم الأوثان عوض تمجيدهم الخالق، يسحب منهم عطاياه ليهبها ميراثًا لشعبه المؤمن. كثيرًا ما يشعر المؤمنون بعنف العالم ضد كنيسة الله، ويبدو كأن الله لا يتحرك. لكنه في الوقت المُعيَّن يخبرهم عمليًا بقوة أعماله، فيرثون الأمم. هذا ما اختبرته الكنيسة الأولى حين كان شاول الطرسوسي لا يكف عن مقاومتها بكل السُبُلِ وفي كل مكان يتتبع المؤمنين لكي يضطهدهم. لكن ربنا يسوع في الوقت المُعيَّن حوَّل طاقات شاول المُدَمِّرة إلى قوة للعمل والخدمة لحساب كنيسة المسيح. 3. المعرفة وكلمة الله يحدثنا الله خلال الطبيعة التي من صُنْع يديه أو بكلمة منه، كما يحدثنا بوصيته أو كلمته، كأن المصدر واحد. شتان ما بين نظريات العلماء التي تظهر وتختفي لتحتل نظريات أخرى محلها، وبين كلمة الله الثابتة إلى الأبد. أَعْمَالُ يَدَيْهِ أَمَانَةٌ وَحَقٌّ. كُلُّ وَصَايَاهُ أَمِينَةٌ [7]. الله لا يخطئ في خطته. وصاياه أمينة ومطمئنة، تكشف لنا عن إرادته المقدسة، وتقود كل أفكارنا ونياتنا وكلماتنا وتصرفاتنا. إنه لن يأمر بأمور متضاربة أو غير هادفة، بل هي مستقيمة تمامًا وكاملة. يُعَلِّق القديس يوحنا الذهبي الفم على القول: "كل وصاياه أمينة"، قائلًا بأن البعض يظن أن وصاياه تحمل كلمات مجردة سواء من جهة المكافأة في الحياة العتيدة أو العقوبة. فإن ما حدث في الماضي في أيام نوح مثل الطوفان وأيضًا حرق سدوم وغرق فرعون يؤكد أن وصاياه أمينة وليست مُجَرَّد تهديدات. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن وصايا الله أمينة، هذه التي قدَّمها خلال الناموس الطبيعي (رو 2: 14) الذي يقول عنه الرسول بولس: "فإني أُسرُّ بناموس الله بحسب الإنسان الباطن" (رو 7: 22)، وأيضًا الناموس المكتوب، والذي بدوره الناموس القديم والذي أكمله في العهد الجديد. هذا بالإضافة إلى ناموس القوانين الطبيعية التي تحكم الخليقة كلها. * كل ما يريد الله أن يبقى، كما ترون، سيبقى ولا يفشل، وليس من يقدر أن يُحرِّك (بدون سماح الله). * تبقى نواميس الله أكثر بهاءً من الشمس، موجَّهة لنفع الذين من أجلهم وُضعتْ، تقودهم نحو الفضيلة ولأجل صالحهم، وليس نحو الأمور الباطلة، أقصد الثروات وحب السلطة. فهذه الأشياء باطلة، أما أمور الله فحق هي. إنه يعلمهم لا أن يكونوا أغنياء، ولا أن ينجحوا في المشاريع، بل كيف يبلغون إلى التمتع بالأمور العتيدة. هذه النواميس لديها كل ما يخص ما هو حق ومستقيم، ولا تضم شيئًا مشوهًا[11]. * بعد أن أشار إلى قوته يشير أيضًا إلى حكمه البار. في الحقيقة لا يعلن فقط عن سلطانه فيما يفعل، وإنما عن برِّه أيضًا... إنه يعالج كل الأمور ببرٍّ ورأفةٍ... كل شيء يفعله يحمل السمتين معًا. لو أنه فعل البرّ (العدل) وحده لضاع كل شيء [لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حي" (مز 143: 2)]، ومن الجانب الآخر لو أنه استخدم الحنو فقط لصار غالبية الناس غير مبالين. لهذا فإنه يستخدم طريقيْن مختلفيْن لتحقيق خلاص البشرية، وذلك لأجل إصلاحهم[12]. القديس يوحنا الذهبي الفم مَصْنُوعَةٌ بِالْحَقِّ وَالاِسْتِقَامَةِ [8]. قوانين البشر كثيرة ومتغيرة، وأحيانًا متضاربة فيما بينها. أما وصايا الله وناموسه فهي متناغمة معًا، هي حق إلهي غير مُتغيِّر، متناغمة معًا مستقيمة وأبدية، تهب راحة وأمانًا على الدوام. كلمة الله لا تُنسخ ولا تبطل، هي قانون السماء الأبدي غير المُتغيِّر. أَرْسَلَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ. أَقَامَ إِلَى الأَبَدِ عَهْدَهُ. قُدُّوسٌ وَمَهُوبٌ اسْمُهُ [9]. ما يشغل فكر الله الكلي الحب هو فداء شعبه، مهما كانت التكلفة. قام بإنقاذ شعبه من عبودية فرعون، كما حررهم من سبي بابل، وعبْر كل العصور كان يسمع صراخهم، ويُرسل لهم عونًا لخلاصهم. هذه المعاملات جميعها كانت ظلًا للخلاص الأبدي الذي حققه بإرسال ابنه ليحمل خطايا العالم كله على الصليب. الله قدوس ومهوب، له ألقاب كثيرة تعجز أن تكشف عن كل طبيعة الله التي لا يُنطَق بها ولا تُوصف . يحمل الله هذه الألقاب لكي نلتصق به، يسكب من سماته علينا، فنصير فيه وبه قديسين، وننعم ببهائه ومهابته فينا. * "قدوس ومهوب اسمه". إن كان اسمه قدوس، فإن التسبيح له يتطلب أفواهًا مُقَدَّسة وطاهرة[13]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس جيروم "قدوس ومهوب اسمه". اسمه قدوس للقديسين، ومُرهِب للخطاة، لأن الرسل بهذا الاسم المُرهِب طردوا الشياطين. وكما قالوا إن الشياطين خضعتْ لنا باسمك. وبه شفوا مرضى، وأقاموا أمواتًا، وصنعوا أنواعًا من الآيات. الأب أنسيمُس الأورشليمي 4. المعرفة ومخافة الرب مادمنا نبحث عن الحق الإلهي، فالمخافة الربانية والخضوع بروح الطاعة والتواضع يهيئان نفوسنا للتعرُّف على الحق والسلوك فيه، إذ الحق يحررنا (يو 8: 31-32). رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الرَّبِّ. فِطْنَةٌ جَيِّدَةٌ لِكُلِّ عَامِلِيهَا. تَسْبِيحُهُ قَائِمٌ إِلَى الأَبَدِ [10]. ليس للحكمة الحقيقية موضع في الإنسان ما لم ينعم بمخافة الرب. عندما يتَّقيه المؤمنون يمارسون الحكمة. أما دور الحكمة فينا، فهو أن تحثنا وتسير بنا في طريق خلاصنا، فننعم بالحياة المطوَّبة، وتتهلل أعماقنا، فيصير تسبيحه قائم إلى الأبد. * لا توجد حكمة في أولئك الذين لا يخافون الرب، أو الذين بلا حكمة هم بلا مخافة[15]. القديس جيروم القديس إكليمنضس السكندري القديس يوحنا الذهبي الفم القديس يوحنا كاسيان العلامة ترتليان الأب دوروثيئوس من غزة وبما أن الله غير مائت، كذلك تسبحته لا تفتر، بل هي دائمة إلى دهر الدهور. الأب أنسيمُس الأورشليمي لنفهم بالحقيقة أن المساكين بالروح هم المتواضعون وخائفو الله، أي الذين ليس لديهم الروح التي تنتفخ. بالحق ليس للتطويبات أن تبدأ بغير هذه البداية، مادامت موضوعة لأجل بلوغ الحكمة العالية "رأس الحكمة مخافة الرب" (مز 10:111)، ومن الناحية الأخرى "الكبرياء أول الخطايا" (حكمة يشوع 15:10). إذن فليبحث المتكبر عن الممالك الأرضية ويحبها، ولكن "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات"[21]. * انظروا كيف نزَلَ المعلم من الحكمة متجهًا نحو المخافة (إش 11: 2-3)، وأما أنتم الذين تتعلمون، فإن أردتم التقدُّم يلزمكم الصعود من المخافة إلى الحكمة، إذ مكتوب: "رأس الحكمة مخافة الرب" (مز 111: 10)[22]. القديس أغسطينوس يصف أحد الأنبياء عظمة هذا الخوف بدقة، قائلًا: "حكمة ومعرفة هما عن الخلاص، مخافة الرب هي كنزه"[23]، فلم يستطع أن يصف قيمة الخوف بوضوح أكثر من أن يقول إنه غنى خلاصنا الذي يتكون من حكمة الله ومعرفته الحقيقية اللتين لا يمكن حفظهما إلا بواسطة مخافة الرب. تدعو الكلمة الإلهية على لسان النبي في المزامير، ليس فقط الخطاة، بل والقديسين أيضًا، قائلة لهم: "اتَّقوا (خافوا) الربّ يا قديسيهِ، لأنهُ ليس عوز لمتَّقيهِ (خائفيهِ)" (مز 9:34). فمن يخاف الله بهذا الخوف بالتأكيد لا يعتاز شيئًا قط من الكمال. واضح أن ما تحدث عنه الرسول يوحنا هو الخوف من العقوبة، إذ قال: "الذي يخاف لم يكمل بعد في المحبة"، لأن الخوف له عذاب"[24]. يوجد فرق بين الخوف الذي لا ينقصه شيء، والذي هو كنز الحكمة والمعرفة (إش 6:33) والذي هو رأس الحكمة (مز 10:111)، وبين الخوف من العقوبة، هذا الذي يُستبعَد عن قلوب الكاملين بملء المحبة. لأنه "لا خوف في المحبَّة، بل المحبَّة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج" (1 يو 18:4)[25]. الأب شيريمون وقال أيضًا: "مخافة الله هي البداية والنهاية في نفس الوقت. إنه في الحقيقة مكتوب: "رأس الحكمة مخافة الرب" (مز 111: 10)، كما أن الله قال لإبراهيم عندما أعدَّ ابنه للذبح: "الآن علمتُ أنك خائف الله" (تك 22: 12)". وكان يقول أيضًا: "يستحيل على مَنْ يؤمن بحق، ويجاهد بمخافة الله أن يسقط في نجاسة الأوجاع وفي الأخطاء التي من الشياطين". فردوس الآباء ثيؤدورت أسقف قورش من وحي المزمور 111 نفسي تُسبِّحك من أجل خلاصك يا رب! * مع كل صباح جديد أذكر قيامتك، وكأنها مراحم جديدة، تبعثُ فيَّ معرفة جديدة لأسرار حبك. تتهلل أعماقي، وكأنه ليس من يتهلل بك مثلي أنا الخاطئ. وأجتمع مع شعبك، فأختبرُ التسبيح كما في خورُس السمائيين. * أعترف لك بخطاياي، فأتذوق عظمة عملك يا غافر الخطايا. أعترف لك شاكرًا على فيض حنوك. تبقى نفسي شاكرة لك. في وسط الضيق يتجلى صليبك، فتفرح نفسي. وفي الفرج أراك يا واهب النصرة! كلما انحنت نفسي لك لتُسَبِّحك، تمتلئ أعماقي بمعرفتك. أعرفك قائمًا في أعمالي، تسكب بهاءك عليّ. * أعمالك عظيمة ومجيدة يا أيها القدير محب البشر. أعمالك تشهد عن عظمة إرادتك، إذ تريد أن الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون. أعمالك تشهد لحبك وحنوك وعدلك. بحبك تحتضني، وبعدلك تؤدبني. أنت أب عجيب تهتم بخلاصي الأبدي! أعمالك تُقَدِّم لي معرفة صادقة. * وصاياك ونواميسك تُقَدِّم لي معرفة فائقة. هوذا نوامسيك تُحَرِّك الطبيعة بما فيه خلاصي. تهبني الناموس الطبيعي في أعماقي، فليس لي عذر بعد. تُقَدِّم لي ناموسك ووصاياك. وصاياك طعام لنفسي، فأشبع ولا أجوع إلى الزمنيات. * سمِّرْ خوفك في داخلي، فأتمتع بينبوع حكمتك الإلهية. يهبني فهمًا ومعرفة مع عذوبة عجيبة. تقودني حكمتك في توجيه أفكاري وعواطفي وأحاسيسي. تضبط حكمتك كلماتي، فلا أنطق بما لا يليق. تهبني حكمتك قوة، فأسلك بالروح لا حسب الجسد! أتمتع بالشركة معك، فأمتلئ بحكمتك، وتصير لي معرفة دائمة النمو. يتحول كياني كله إلى قيثارة، لا عمل لها إلا التسبيح الدائم. أُسَبِّحك مادمت حيٍّا، وأُسَبِّحك حين تنطلق نفسي إليك. يصير تسبيحي هو شغلي الشاغل هنا وفي الحياة العتيدة. |
||||
06 - 03 - 2014, 03:36 PM | رقم المشاركة : ( 113 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 112 (111 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير خوف الرب غالب كل المخاوففي المزمور السابق كان المرتل يُسَبِّح بكل قلبه، سواء في مخدعه أو بين الشعب كخورُسٍ متهللٍ، يجد لذته في التمتع الدائم بمعرفة الله وأسراره والعبادة الحية والسلوك العملي والتلذذ بالوصية الإلهية، وتذوق خلاص الله العجيب. الآن في هذا المزمور يرى المرتل الإنسان التقي خائف الرب يمارس الحياة المطوبة بلا قلق، لأن الله نفسه سنده لن ينساه قط! يرى بعض الدارسين أن واضع المزمور السابق هو نفسه واضع هذا المزمور بوحي الروح القدس. ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن افتتاحية هذا المزمور تأتي كتكملة لنهاية المزمور السابق، وكأنهما مزمور واحد. * يبدو لي أن الافتتاحية تأتي ملاصقة لخاتمة المزمور السابق له، وأنه استمرار له وملتصق به كجسمٍ واحدٍ. أقصد أنه هناك قال: "بدء الحكمة مخافة الرب" (مز 111: 10)، أما هنا "طوبى للرجل الذي يخاف الرب"، مُقَدِّمًا تعليمًا خاصًا بمخافة الرب بكلمات مختلفة، لكنها تحمل ذات الفكر. هناك تذكروا أنه قال بأنه حكيم، وهنا يقول أنه سعيد (مطوّب)[1]. القديس يوحنا الذهبي الفم هذا المزمور هو أحد المزامير الخاصة بالحكمة، يُقَدِّم لنا مقارنة بين الإنسان الحكيم خائف الرب الذي يتحدى كل المخاوف، والشرير الذي لا سلام له. يقول إشعياء النبي: "قدِّسوا رب الجنود، فهو خوفكم، وهو رهبتكم" (إش 8: 13). في هذا المزمور نرى خائف الرب متهللًا جدًا بوصاياه [1]، لا يخاف أحدًا ولا شيئًا ما [7-8]. من يخاف الرب لا يحتاج أن يخاف من شيءٍ ما أو من ظروفٍ معينة. من يخاف الرب: أ. لا يضطرب أو يقلق على نسله يبدأ الإنسان الحكيم خائف الرب بالمخافة واهبة السلام، وينتهي بالبهجة العظيمة في الرب وممارسة وصاياه، خاصة الحب العملي والعطاء بسخاء![2]. ب. لا يخاف على بيته وأسرته [3]. ج. لا يخشى الظلمة [4]. د. لا يرتبك في اتخاذ قراراته [5-6]. هـ. لا يخشى الأخبار المزعجة [7-8]. و. لا يخشى الأشرار [10]. * كثيرًا ما أخبرتكم أن كل التفاسير الخاصة بالإنسان البار تشير إلى المسيح. القديسون هم رموز تشير إلى المخلص القدوس حقًا. هذا بالحقيقية بالنسبة ليوسف وداود وسليمان وكل بقية القديسين. الآن فإن الإنسان المطوَّب الموصوف في هذا المزمور بالحقيقة إنما هو رمز للبار الحقيقي... جاء المزمور 111 (112) بترتيب أبجدي مثل المزمور 110 (111)[2]. القديس جيروم 1. خائف الرب المتهلل 1. 2. خائف الرب وبيته المقدس 2-3. 3. خائف الرب يتحدى الظلمة 4. 4. خائف الرب الثابت إلى الأبد 5-8. 5. خائف الرب المترفق 9. 6. الشرير يتصاغر أمام خائف الرب 10. من وحي المزمور 112 1. خائف الرب المتهلل هَلِّلُويَا. طُوبَى لِلرَّجُلِ الْمُتَّقِي الرَّبَّ، الْمَسْرُورِ جِدًّا بِوَصَايَاهُ [1]. في المزمور السابق رأينا مخافة الرب هي الينبوع الذي يفيض علينا بالحكمة الإلهية، وهنا نجدها مصدر كل تطويب حقيقي، وسعادة صادقة أبدية. بروح تعبدية تقوية يمجد الله بتطويبه خائف الرب. إنه يُسَبِّح الله من أجل معاملاته ورعايته وعطاياه لمن يتقيه ويتكئ عليه. يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن متقي الرب هنا من الأمم، لأنه في المزامير عندما يشير إلى اليهود يذكر إسرائيل، أو بيت هرون، أو بيت لاوي وبعد ذلك يقول خائفي الرب أو متقي الرب. فواضح أنه يتحدث هنا عن متقي الرب من الأمم. * الرجل الذي يخاف الرب، الإنسان المطوَّب، يطيع وصايا الرب بسرورٍ. إنه يحب وصاياه بحبٍ عميقٍ وقويٍ؛ لتدركوا ماذا يعني هذا. لم يقل المرتل إنه مجرد يذعن لوصايا الرب؛ فإن كثيرين يطيعون بسبب الخوف، ولا ينالون مكافأتهم. الرجل الذي يخشى جهنم، فلا يرتكب الزنا، لا ينال مكافأة عظيمة مثل ذاك الذي يخدم الرب بأمانة خلال الحب. أما الرجل الذي إرادته هي في ناموس الله، يريد ما يريده الله، يرغب بكل غيرة أن يتمم إرادة الله... فهو يحمل حبًا عظيمًا على الدوام ليتمم إرادة الرب ليس فقط يفعل أوامره، إنما يريدها، ليس فقط بطريقة عابرة، وإنما بكل غيرة قلبه[3]. القديس جيروم هكذا هنا بعد أن أشار إلى المخافة، لم يتوقف عند المخافة التي حتى الشياطين لديها هذه المخافة، بل أضاف الآتي: "يجد طمأنينة كاملة بوصاياه"... لم يقل: "سيتمم وصاياه"، إنما قال: "يجد طمأنينة (سرورًا) كاملة"، مطالبًا بشيء آخر. ما هو هذا؟ أن نتممها بحماسٍ بكوننا محبين لها بغيرة، تابعين متطلباتها، محبين لها ليس لأجل المكافأة المُقَدَّمة عنها، وإنما من أجل الذي يصدرها. نمارس الفضيلة برضا، وليس خوفًا من جهنم، ولا خشية التهديد بالعقوبة، ولا من أجل الوعد بالملكوت، وإنما من أجل واضع الشريعة. في موضع آخر يظهر الشبع الذي يناله في وصايا الله، قائلًا: "ما أحلى قولك لحنكي، أحلى من العسل لفمي" (مز 119: 103). هذا ما يتطلع إليه بولس أيضًا، حيث يتحدث بطريقة غامضة هكذا: "لأنه كما قدَّمتم أعضاءكم عبيدًا للنجاسة والإثم للإثم، هكذا الآن قدموا أعضاءكم عبيدًا للبرّ للقداسة (للشبع)" (رو 6: 19). بمعنى كما بغيرة عظيمة ورغبة حارة سلكتم في الإثم، وهو لا يُقَدِّم مكافأة بل بالحري عقوبة وجزاء، هكذا اسلكوا في الفضيلة على نفس المنوال... محبة واضع الناموس تجعل الناموس لطيفًا، حتى وإن بدا أنه يحمل صعوبات... St-Takla.org Image: Two Ox with yoke for the Plough من يحب زانية لا يبالي بما يصيبه من تعسفٍ وشتائمٍ وضربٍ وعارٍ وطردٍ من المدينة وميراث من الأسلاف ولا من نظرة والده إليه، ويحتمل تبعات أخرى قاسية، محتملًا هذا كله برضا من أجل شهوة مُنْحَلَّة... هكذا إن كنتم تقبلون الوصايا بحماسٍ تجدونها خفيفة وسهلة. لهذا قال المسيح: "نيري هين وحملي خفيف" (مت 11: 30)[4].صورة في موقع الأنبا تكلا: ثوران (ثور) موضوع عليهم النير، للمحراث القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي 2. خائف الرب وبيته المقدس نَسْلُهُ يَكُونُ قَوِيًّا فِي الأَرْضِ. جِيلُ الْمُسْتَقِيمِينَ يُبَارَكُ [2]. تمتع بولس الرسول بالحياة المطوَّبة كمؤمنٍ خائف الرب، ولم يكن له نسل حسب الجسد، لكنه ولد كثيرين في الإنجيل، وصار له أبناء أقوياء يشهدون لإنجيل المسيح. أي ميراث نُقَدِّمه لأبنائنا وأحفادنا أعظم من بهجتنا بوصايا الرب، وتمتعنا بالحياة المُطوَّبة، أي إيماننا العملي الحي! * إنني أنا الذي أطيع الله باختياري أتأهل أن أكون أبًا لقديسين... ليت الرب يمنحكم أيضًا يا من تستمعون لي أن تكونوا جيلًا مستقيمًا[5]. القديس جيروم تبعًا لذلك فإن الشعب الفاضل وأبناء خائفي الرب هم في عداد هؤلاء: "نسله يكون قويًا في الأرض" [2]. لماذا يقول: "في الأرض"؟ لكي يُظهِرَ أن هذا يتم قبْل الرحيل من هنا، وقبْل خبرة الخيرات هناك. كما قلتُ سابقًا إن الفضيلة لها مكافأتها حتى قبل أن تُمنَح الأكاليل... ليس شيء أقوى من الفضيلة، إنها أصلب من الصخر، وأكثر متانة من الصلب. وبالتالي ليس شيء أدنى من الرذيلة، ليس ما هو أضعف منها، حتى وإن كانت تحوطكم ممتلكات بلا حصر؛ حتى وإن كان لكم سلطان خارجي له اعتباره. الآن إن كانت قوتها هكذا على الأرض، تأملوا كم تكون عظمة القدرة التي للذين سيتمتعون بالسماء[6]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي وَبِرُّهُ قَائِمٌ إِلَى الأَبَدِ [3]. إذ يلتصق خائف الرب بالله، يسكن الله فيه، ويقيم من قلبه بيتًا له، يفيض فيه من غنى نعمته وعطاياه الإلهية، فلا يحتاج إلى شيءٍ، بل يصير مصدر عطاء للآخرين. يتمتع خائف الرب بثمر روح الله القدوس من محبة وفرح وسلام ووداعة وتعفف وصلاح؛ يصير قلبه جنة مُغْلَقَة تحمل ثمارًا روحية. * أشار الرسول بوضوح إلى الغنى الذي للمؤمنين: "ألستم أنتم إكليل مجدي؟" (راجع 1 كو 1: 5)[7] القديس جيروم ولكن أيها الإخوة أي شيء أقدر من أنه ليس فقط اشترى زكا ملكوت السماوات بنصف أمواله (لو 19: 8)، وإنما حتى الأرملة اشترته بفلسيْن (مر 12: 42)، وكل منهما سينال نصيبًا مساويًا للآخر هناك؟ وماذا أكثر قدرة من أن نفس الملكوت الذي يستحقه الغني بتقديم كنوزه، يناله الفقير بكأس ماء بارد...؟ "مجدًا وغنى يكون في بيته" [3]. لأن بيته هو قلبه، ففيه بالتسبيح لله يعيش في غنى أعظم، مع رجاء في الحياة الأبدية عن الناس المتملقين الذين يعيشون في قصور من الرخام، مُزيَّنة بأسقف فخمة مع الخوف من الموت الأبدي. "برُّه قائم إلى الأبد". هذا هو مجده، هناك يوجد غناه[8]. القديس أغسطينوس * "مجد وغنى في بيته" [3]. هذا لا يحتاج إلى تفسير. فإن هؤلاء لهم مجد من الله... لقد قبلوا (الرسل) مثل ملائكة الله، وأتوا بممتلكاتهم ووضعوها عند أقدامهم. وصاروا أكثر شهرة من الذين يلبسون الأكاليل. أي ملك جعل دخوله في بهاء مثل بولس، هذا نلاحظه أينما كان يتكلم، إذ كان يطرد الموت، وينزع الأمراض، ويجعل الشياطين تهرب، ويصنع عجائب حتى من ثيابه نفسها. لقد حوَّل الأرض إلى سماء، وقاد كل واحدٍ إلى الفضيلة. نعم، إن كانوا قد حققوا مثل هذه الأمور على الأرض، تأملوا أي مجد سينالونه في السماء. الآن ماذا يعني: "في بيته"؟ تعني في نفسه الثروة التي تأتي من مصادر خارجية لا تنتمي لصاحبها، لأنها لا تبقى في أمان هناك، بل هي في أيدي المغرورين والمتملقين والحكام والخدم. لهذا السبب يقوم بتوزيعها في كل الاتجاهات، وهو غير واثقٍ أن يحتفظ بها في بيته في أمان. هذا هو السبب لوجود حراس للخفارة، وإن كان هذا لا يفيد مادام هو نفسه معرضًا أن يتركها[10]. * "برّه قائم إلى الأبد" [3]... كل ما هو بشري يخضع للفناء. أما ثمر الرحمة فيبقى بدون فساد إلى الأبد. ولا تشوهه مشكلة ما مع الزمن، فإنه حتى الجسم ينحل، أما (الرحمة) فلا تختفي مدى الحياة، بل وتتقدم لتعد مسكنًا رائعًا لكم. وكما يقول المسيح: "في بيت أبي منازل كثيرة" (يو 14: 2). بهذا فهي أسمى من أشياء البشرية في هذا الأمر، إذ تتسم بالديمومة والثبات، الأمر الذي لا وجود له في أي شيء من هذه الحياة. إن ذكرتم الجمال، فإنه يذبل مع المرض، ويضيع من الزمن. إن ذكرتم السلطان، فغالبًا ما لا يكون موثوقًا فيه. إن ذكرتم الثروة أو أي شيء من الغنى والشهوة في الحياة الحاضرة، فإن هذه إما أنها تفارق الناس وهم أحياء أو يصير الميت عاريًا ومجردًا من كل شيء. ثمر البرّ على العكس تمامًا، لن يفسده الزمن، ولا يُحَطِّمه الموت، بل يصير أكثر أمانًا، خاصة عندما يصل إلى النقطة التي فيها يبلغ إلى الميناء ويصير محميًا من العواصف[11]. القديس يوحنا الذهبي الفم والغنى (الممتلكات) الصالح هو ما يمتلكه مقتنى الفضائل... صانع البرّ الذي يمدحه النبي داود، قائلًا: "نسلهُ يكون قويًّا في الأرض. جيل المستقيمين يُبارَك. رغد وغنًى في بيتهِ، وبُّرهُ قائِم إلى الأبد" (مز 2:112-3). وأيضًا: "فدية نفس رجلٍ غناهُ" (أم 8:13). ويتحدث سفر الرؤيا إلى المفتقر والمُعدَم من هذا الغنى قائلًا: "أنا مزمع أن أتقيَّأَك من فمي. لأنك تقول إني أنا غنيّ وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شيءٍ، ولستَ تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان. أشير عليك أن تشتري مني ذهبًا مصفًّى بالنار لكي تستغني. وثيابًا بيضًا لكي تلبس، فلا يظهر خزي عريتك" (رؤ 16:3-18)[12]. الأنبا بفنوتيوس 3. خائف الرب يتحدى الظلمة نُورٌ أَشْرَقَ فِي الظُّلْمَةِ لِلْمُسْتَقِيمِينَ. هُوَ حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ وَصِدِّيقٌ [4]. * "نور أشرق في الظلمة للمستقيمين". بحقٍ يوجه الأتقياء قلوبهم نحو الله؛ وبحق يسيرون مع إلههم، مُفَضِّلين إرادته عن أنفسهم، ليس لديهم وقاحة متشامخة واعتداد بذواتهم. يذكرون أنهم في وقتٍ ما كانوا في ظلمة والآن هم نور في الرب (أف 5: 8). "هو حنَّان ورحيم وعادل (صديق)". يبهجنا إنه رحيم وحنَّان، ولكن ربما يُرعبنا أن الرب الإله عادل (صدِّيق). لا تخف، ولا تيأس مطلقًا أيها الإنسان الذي يخاف الرب، ولك بهجة عظيمة في وصاياه، ولتكن سعيدًا ولتترأف وتقرض. لأن الرب عادل هكذا، فإنه يقضي بدون رحمة لمن لا يظهر رحمة (يع 2: 3). لن يتقيأه الله من فمه كما لو كان غير محبوب. وإنه يقول: "اغفروا، يُغفَر لكم. أعطوا تُعطوا" (لو 6: 37-38). حينما تغفرون لكي يُغفَر لكم، فأنتم رحماء. وحينما تعطون لكي تُعطَوا، فأنتم تقرضون[13]. القديس أغسطينوس هذا ما يدعوه بالحقيقة ظلمة. إنه على الفور يؤكد أنهم يشعرون براحة عظيمة... لما كان الناس في ذلك الوقت (حيث الضيق) يتجاهلون السماء، ويبحثون عن الله على الأرض، فإنه يوضح لهم اعتبارًا معينًا لكي يقودهم إلى الأعالي دون حدود[14]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس جيروم ما فائدة العين حتى إن كانت مفتوحة وسليمة دون وجود نور...؟! كنتُ بكليتي ظلمة، لكنك أنت هو النور الذي يبدد ظلمتي، وينير لي. أنا لستُ نورًا لنفسي، ليس لي نصيب في النور إلا بك؟[16] القديس أغسطينوس * يدعو النبي الجهل ظلمة، وأيضًا المحن والتجارب. أما الرجل الذي يخاف الرب ويحب وصاياه جدًا، فيشرق تعليمه على عديمي المعرفة، ويؤازر الذين في المحن، وينير ظلمتهم بمساعدته كأنه نور... أيضًا قبل تجسد ربنا كان ظلام الضلال مكتنفًا العالم، وكان الناس يطلبون الله على الأرض بين المخلوقات، لأنهم صاروا يؤلهون المخلوقات. لذلك أشرق الله على الأرض متجسدًا لكي ينيرهم، ويرفع عقولهم إلى السماء، فاستناروا من هذا النور المُشرِق على الأرض. الأب أنسيمُس الأورشليمي 4. خائف الرب الثابت إلى الأبد سَعِيدٌ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي يَتَرَأَّفُ وَيُقْرِضُ. يُدَبِّرُ أُمُورَهُ بِالْحَقِّ [5]. خائف الرب لا يتشبه بسيده فحسب، وإنما ينهل من شركة سماته، فيصير صورة حيَّة لمخلصه، يتسم بالرأفة والعطاء، لا لأجل منفعة شخصية، مادية أو رمزية، وإنما من أجل حبه للحق الإنجيلي. إن كانت الشريعة تمنع المؤمن من أن يأخذ فائدة أو ربا من أخيه متى كان في ضيقة واحتاج أن يقترض، ففي ظل الإنجيل يُقَدِّم المؤمن لأخيه المحتاج بفرحٍ وسرورٍ. * انظروا كم من مكافأت تُقدَّم للناس المُحبِّين: ثمر حنوهم يثبت بلا توقف، سيتحررون من التجارب، يتمثلون بالله، إذ الله رحوم، وينالون غفرانًا لخطاياهم. فوق هذا كله هذا هو معنى: "يدبر أقواله بالحكم" [5 LXX]، أي أنه سينال الانتفاع بالدفاع عنه، وحمايته، فلا تكون عليه دينونة في ذلك الحين، رحمته تسنده بدفاعٍ مُجدِ. توجد ترجمة أخرى: "يدبر أموره بالحكم"، أي أنه سيتمتع بخيرٍ عظيمٍ، ولا يكون ضحية لأية هزة، بكونه أفضل مُدَبِّر... يدعو المرتل المُدَبِّر الحكيم رحومًا، إذ يشتري الكثير بالقليل، يشتري السماء بالمال، والملكوت بالثياب، والخيرات العتيدة بخبزٍ ومشروبٍ باردٍ. أي شيء يُقارن بمثل هذا التدبير، حينما تترك أمورًا هالكة وعابرة وفاسدة لتنال هذه الخيرات العتيدة التي لن تزول، وبهذه الوسيلة تنعم حسنًا بأمان في الحياة الحاضرة؟[17] القديس يوحنا الذهبي الفم القديس جيروم القديس إكليمنضس السكندري الأب قيصريوس أسقف آرل الأب أنسيمُس الأورشليمي الصِّدِّيقُ يَكُونُ لِذِكْرٍ أَبَدِيٍّ [6]. خائف الرب لا يتزعزع عن موقفه أو سلوكه التقوى، كما لا يفقده عطاؤه غناه الداخلي وإمكانياته الخارجية. يصير مثلًا حيًا عبر الأجيال، إذ يكرمه الله نفسه. وكما جاء في ملاخي: "الرب أصغى وسمع وكُتب أمامه سفر تذكرة للذين اتقوا الرب وللمُفَكِّرين في اسمه" (مل 3: 16). ويقول الرب نفسه: "من يغلب، فذلك سيلبس ثيابًا بيضًاء، ولن أمحو اسمه من سفر الحياة، وسأعترف باسمه أمام أبي وأمام ملائكته" (رؤ 3: 5). أوضح القديس إكليمنضس السكندري[21] أن الغنوسي أو المسيحي الأمثل صاحب المعرفة الحقيقية هو البار الذي لا يتزعزع إلى الدهر [٦]، إذ يستخدم كل أنواع المعرفة ولا يخاف الفلسفة بل يستفيد منها. حقًا إن الجماهير تخاف الفلسفة كما يخاف الأطفال من القناعات لئلا تضلهم عن الطريق. لكن المسيحي يَقدِرُ بالإيمان أن يعرف الحق ويُمَيِّزَه؛ يفصل الحق غير المتغير عن الآراء الباطلة، فيكون كالصرَّاف الذي يقدر بخبرته أن يفصل العملة الحقيقية عن الزائفة. هكذا لا ينخدع الغنوسي بالكلمات الزائفة، وكما يصرخ داود قائلًا: "البار لا يتزعزع إلى الأبد" (مز 112: 6)، لا بالكلمات الزائفة، ولا باللذات الخاطئة. إنه لن يتزعزع عن ميراثه، "لا يخشى من خبر سوء" (مز 122: 6)، فلا ترعبه افتراءات لا أساس لها، ولا يهتز من آراء باطلة تنتشر حوله[22]. * الآن يصرخ داود: "البار لا يتزعزع إلى الدهر". وبالتالي لن يتزعزع بحديثٍ مخادعٍ، ولا بمسرةٍ باطلة. لهذا فهو لا يتزعزع قط من ميراثه. إنه لا يخشى من خبر السوء، وبالتالي لا يخشى من افتراء لا أساس له، ولا من رأي باطل يقوم حوله. ولا يرهب كلمات خبيثة، ذاك القادر أن يُمَيِّزها، ويجيب بحق عما يُسأل عنه[23]. * قد يقول قائل إن اليونانيين اكتشفوا الفلسفة خلال الفهم البشري، لكنني أجد الكتاب المقدس يقول بأن الفهم هو من عند الله. لذلك يصرخ المرتل، قائلًا: "أنا عبدك فهمني..." (مز 199: 125)[24]. القديس إكليمنضس السكندري أنتم ترون أن الأمر لا يمكن تصوُّره أن النفس الغنية في العطاء، لن يمكن أن تلطمها أمواج مشاعر البؤس[25]. * "الصديق يكون لذكر أبدي"... فإنه إذ يُدفَن جسمه ويودع في الأرض، تبقى ذكراه خضراء في كل مكان. قوة الفضيلة هي هكذا: لا تخضع لعبور الزمن، ولا تفسد بعدد الأيام. هذا يحدث بالنسبة لشئون الأشرار، أما الفضلاء فلا حاجة لهم إلى رأي الناس الصالح فيهم. على العكس الذين يعيشون في الرذيلة يحتاجون إلى إطراء الناس ليصيروا أكثر غيرة خلال الاسم الحسن لأعمال الآخرين ليتحرروا من الرذيلة... على وجه الخصوص أظهر المرتل أن الفضيلة كما أقول كثيرًا تحمل مكافأتها فيها، في طليعة كل المكافأت الأخرى[26]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي قَلْبُهُ ثَابِتٌ مُتَّكِلًا عَلَى الرَّبِّ [7]. قد يبلغ إلى مسامع خائف الرب أخبار سوء كثيرة، لكن قلبه الذي يسكن فيه الرب، ويحفظه في يديه لن يتزعزع، بل يبقى ثابتًا إلى الأبد. الله هو الصخرة التي من يُبنَي عليها لا تهزه زوابع الحياة. * "لا يخشى من خبر سوء"... لم يقل إنه لا يسمع خبر سوء، إنما عند سماعه له لا يخشاه. كيف لا يكون لديه خوف؟ حتى إن شاهد حربًا قد اندلعت، وزلزالًا ابتلع مدنًا، ولصوصًا يسرقون كل شيء، ومتوحشين يهاجمون، ومرضًا يهدد بالموت، وغضبًا قاضيًا، وما غير ذلك فإنه لا يخاف. إنه يودع ثروته في مكان أمين، والاقتراب من النهاية أبعد ما يكون عن أن يقلقه، إنما يجعله يسرع كي ينطلق إلى المكان الذي هو موضع اهتمامه بالحق. "حيث يكون كنزه، هناك يكون قلبه" (راجع مت 6: 21). "قلبه مستعد ليتكل على الرب". جاء في ترجمة أخرى "قلبه ثابت"، مشيرًا إلى نفس الشيء... ليس من شيء يجعله منزعجًا، أو يربطه بالأمور الحاضرة، بل بالحري هو متجه بالتمام نحو الله، ينتظر تحقيق ذاك الرجاء[27]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب قيصريوس أسقف آرل حَتَّى يَرَى بِمُضَايِقِيهِ [8]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "قلبه ثابت فلا يزول، حتى يرى بأعدائه". * الأساس الذي عليه يقوم أمانهم مضاعف: من النعمة الحالة من العلا، من التسهيلات التي تحت. ليس من شيء يمكن أن يزعجهم، لا خسارة مال ولا شتائم تلحق بهم، ولا كوارث. ليس لديهم ما يفقدونه، مالهم هو أنهم يتركون هنا لأجل السماء؛ إلى موضع لن يقدر شر أن يقترب إليه ولا مكائد تلحق به... من هو عدو لمثل هذا الشخص إلا الشياطين الأشرار وإبليس نفسه؟[29] القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أغسطينوس 5. خائف الرب المترفق فَرَّقَ، أَعْطَى الْمَسَاكِينَ. بِرُّهُ قَائِمٌ إِلَى الأَبَدِ. قَرْنُهُ يَنْتَصِبُ بِالْمَجْدِ [9]. يتسم الإنسان التقي بثبات قلبه، فلا يفقد سلامه الداخلي وهدوءه وشجاعته. أما سرّ هذا فهو ثقته في الله. يحمل المؤمن الحقيقي شخصية سوية، لا تهزه التجارب مهما اشتدتْ وتنوعتْ. إذ يفتح المؤمن قلبه بالحب العملي للمساكين، يرُد الله هذا الحب بتقديم روح القوة (القرن) والمجد. عندما هدد قيصر فالنس القديس باسيليوس الكبير، قال له: "إن هذا البُعبع Bugbears يوضع أمام الأطفال". وكأنه حسب هذه التهديدات مهما بدتْ خطيرة وأيا كان مَرْكز الذي يهدده أشبه بخيالات وهمية يخيفون بها الأطفال غير الناضجين. وأما القديس أثناسيوس الرسولي قال: "إنه ضباب حالًا ينقشع". * الإنسان البار فيه حنو، البار يقرض. كل عالم الغنى يخضع عند قدمي الحكيم والبار. الإنسان البار يحسب أن ما هو للكل كأنه له؛ وما هو له مِلْكٌ عام[31]. القديس أمبروسيوس * لا تشير كلمة "قرن" إلى القوة فحسب، بل وإلى السلطان الملوكي، فإن المسيح مخلصنا الذي ظهر من أسرة داود الملك هو ملك الملوك وقوة الآب العظيمة[33]. القديس كيرلس الكبير لاحظوا كيف يستخدم أيضًا الكاتب الموحي إليه كلمات بطريقة رائعة. لم يقل: "وزَّع" ولا "قسَّم"، وإنما "فرَّق dispersed". وهي تشير إلى السخاء المُعطِي ونثر المادة التي يقدمها... هكذا يفعل المزارعون، ولكن بينما يفعلون هذا دون التأكد من المحصول، فإن الأرض هي التي تقبل البذور. أما انتم ففي يد الله حيث لا يتبدد شيء منها[34]. * "يرتفع قرنه بالمجد" إنه يشير دومًا على وجه الخصوص إلى ما يرغب فيه الناس. وهو الشهرة والسمعة، الاثنان يرافقانهم في الحياة القادمة وفي هذه الحياة يأتيان بوفرة عظيمة. ليس أحد له شهرة هكذا مثل الشخص الرحوم... الفضيلة موضوع مديح حتى بالنسبة للذين لا يمارسونها، كما أن الرذيلة توجد مشينة وموضوع اتهام حتى بواسطة الذين يمارسونها[35]. * هل ترغب في السيطرة على المال أو تشتهي أن تحفظه؟! لا تقم بشرائه، بل أعطه في أيدي الفقراء. لأن المال وحش مفترس، إن أمسكته بإحكام يهرب، وإن تركته بلا رباط يبقى. إذ قيل: "فرق، أعطي المساكين، برّه قائم إلى الأبد" (مز ١١٢: ٩). وزِّعه إذن، حتى يبقى معك، ولا تدفنه لئلا يهرب منك. يسرني أن أسأل الذين رحلوا: "أين هو الغنى؟!" وأنا لا أقصد بقولي هذا التوبيخ. الله لا يسمح. ولا أقصد إثارة القروح القديمة، بل أسعى لإيجاد ملجأ لكم بعيدًا عن الهلاك الذي أصاب الآخرين[36]. * "باطل الأباطيل، الكل باطل" (جا 2: 4). اسمع أيضًا ما يقوله النبي: "يجمع ذخائر، ولا يدري لمن يضمها" (مز 39: 6). باطل الأباطيل هي المباني الفخمة التي لك، وغناك المتسع، وقطعان العبيد... فإن هذا لم يأتِ من يد الله، إنما هو من صُنعِك أنت. ولماذا هذه الأمور باطلة؟ لأنه ليس لها هدف نافع. الغنى يكون باطلًا إن أُنفق على الترف، ولكنه يكف عن أن يكون باطلًا عندما يُفرَّق ويعُطى للمساكين (مز 112: 9)[37]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي الإنسان الذي يعطي الفقير سيشاركه في ذاك الذي صار فقيرًا، فلا تخافوا من الفقر. لكن ذاك الذي صار فقيرًا لأجلنا، يملك على كل الخليقة. لهذا إن صرتَ فقيرًا لأنه صار فقيرًا، فستملك أنت أيضًا، لأنه هو يملك. "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات"[38]. القديس غريغوريوس النيسي الأب قيصريوس أسقف آرل الأب غريغوريوس (الكبير) * يوجد صالح يخلق صالحين، وصالح يمكن به أن يصنع صلاحًا. الصالح الذي يخلق صالحين هو الله، لأنه لا يستطيع أحد أن يجعل إنسانًا صالحًا إلا الصالح إلى الأبد، لذلك فلتدعُ الله لكي ما تكون صالحًا، ولكن يوجد صالح يمكن به أن تفعل صلاحًا، وذلك هو كل ما تملكه. يوجد ذهب وتوجد فضة وهما أشياء صالحة، ولكنهما لا يجعلانك صالحًا، بل يمكن أن تصنع بهما صلاحًا. لديك ذهب وفضة، وأنت ترغب في المزيد منهما. لديك كليهما وتريد زيادة، فأنت مرتوي وظمآن. إنه مرض وليس غنى، عندما يمرض البشر بمرض الاستسقاء، فإنهم يكونون مرتوين بالماء، ومع ذلك فهم عطشى دائمًا. فكيف يسر هؤلاء بثروتهم، الذين لديهم تلك الرغبة المريضة بمرض الاستسقاء؟ أنت تملك ذهبًا وهو شيء صالح، ومع ذلك فإنه ليس لديك ما يجعلك صالحًا، بل ما يمكن أن تصنع به صلاحًا. أتسأل أي صلاح أفعله بالذهب؟ ألم تسمع في المزمور "فرَّق، أعطى المساكين، برّه قائم إلى الأبد" (مز 112: 9)، هذا صالح. هذا هو الشيء الصالح الذي به تصيرون صالحين، أي إن كان لديك الصالح الذي به تصير صالحًا. فلتصنع صلاحًا، بذلك الصالح الذي لا يستطيع أن يجعلك صالحًا. لديك مالٌ، استخدمه بسخاء، فباستخدامه بسخاء تزداد برًا. لأنه "فرَّق أعطي المساكين، برّه قائم إلى الأبد". انظر ماذا ينقص وماذا يزداد. تنقص أموالك، ويزداد برّك. ينقص ما ستفقده قريبًا، ينقص ما ستتركه بعدك عن قريب، ويزداد ما ستملكه إلى الأبد[43]. القديس أغسطينوس 6. الشرير يتصاغر أمام خائف الرب الشِّرِّيرُ يَرَى فَيَغْضَبُ. يُحَرِّقُ أَسْنَانَهُ وَيَذُوبُ. شَهْوَةُ الشِّرِّيرِ تَبِيدُ [10]. لا يتحدث المرتل عن الشرير في نوعٍ من الشماتة، إنما في حزن على حاله. فالتقي يحمل الحياة المطوّبة في أعماقه، والشرير يحمل فساده ودماره في داخله. خطاياه في داخله تُحطِّمه، تُفقِده سلامه. بينما يمتلئ خائف الرب بالرجاء المُفرِح، مترقبًا يوم مجده بفرحٍ وبهجة قلب، يسيطر اليائس على قلب الشرير وهو ينتظر يومه القادم. لا يطيق الشرير أن يرى الإنسان البار، لأنه يمثل ثقلًا على قلبه. وكما يقول الحكيم: "وحتى منظره ثقُل علينا؛ لأن سيرته لا تشبه سيرة الآخرين، وسُبله مختلفة" (حك 2: 15). وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يكره السارق النور[44].] * الفضيلة شبه هكذا: إنها تزعج الرذيلة، وتمثل ثقلًا عليها. أقصد كما أن النار تبيد الشوك، هكذا الرأفة تهيج الناس القساة المتوحشين. إنها موجهة للاتهام بالنسبة للرذيلة. وعلى العكس لاحظوا أصحاب الرذيلة، فإنهم لا يتجاسرون أن يتهموا أو يتفرسوا مباشرة في قوة الفضيلة حتى وهم ينحلون... الرذيلة تشبه هذا حتى وإن بلغت العرش نفسه للرؤساء المتوجين. الرذيلة دنيئة ومنحطة عن كل شيءٍ، تمثل بحرًا مرعبًا ومضطربًا وهائجًا، حتى وإن زُينتْ بكل نوع من السلطة. الفضيلة هي على نقيضها، فإنها حتى وإن كانت في عوزٍ تام، وإن كانت في سجنٍ، فهي أكثر شهرة من الجالسين على العروش، وتتمتع بهدوءٍ كامل، وفي راحة تستلقي في ميناء هادئ، ليس فقط لا تعاني شيئًا من الأشرار، وإنما لديها القدرة أن تنتقم منهم بالصمت، وتوقيع العقوبة على الشر. فوق هذا كله، أي شيء أكثر بؤسًا من أناسٍ يعيشون في الخطية[45]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي الأب قيصريوس أسقف آرل من وحي المزمور 112 أشرِقْ بنور حبك فيّ! * أعماقي تصرخ إليك يا أيها النور الحقيقي. من يطلقني من الظلمة، ويشرق في داخلي سواك! سمِّرْ خوفك في لحمي. مخافتك تهبني الحكمة. مخافتك تنطلق بي في سماء حبك البهي. أتطلع إلى وصاياك، فتتهلل نفسي بها. تتغذى عليها نفسي، فتتشدد بك. تعمل كلمتك فيّ، فأحمل ثمار الروح العجيبة! * أجذبني بروحك القدوس، فأجري إليك. ويجري كثيرون معي، ليتمتعوا بك. يصير لي نسل قوي على الأرض. أشهد لإنجيلك بعمل نعمتك فيّ. تباركني وتبارك الكثيرين معي. فننعم بأمجادك وغناك. نحمل برَّك، يا أيها القدوس. فلا تستطيع كل عواصف الشر أن تسيء إلينا. أنت صخر الدهور، نختفي فيك، فنثبت إلى الأبد! * تشرق علينا بنور حبك. نراك كلي الحب والحنو، وكلي البرّ والعدل. في وسط ضعفاتنا لن نيأس. نتطلع إليك، فتُغفَر لنا خطايانا بصليبك. لن تقدر كل قوى العدو أن تُفقِدَنا رجاءنا فيك. أنت بار وعادل، إن دفعنا العدو للاستهتار نلجأ إليك، تُسَمِّر خوفك فينا، فلا نتهاون ولا نسترخي. * هب لي روح الحنو كما أنت حنان. هب لي الرحمة كما أنت رحوم. دعني أقرض إخوتي، بل أُقَدِّم لهم كل ما وهبتني. كل ما لدي هو لك. إني مدين لك بكل حياتي وإمكانياتي. * هب لي روح الحكمة، فأُدَبِّر أموري حسنًا. لا أشتهي شيئًا سواك، ولا أخاف أحدًا إلا أنت. يتصاغر العالم كله في عيني، بل وتزول الأرض كلها من أمامي. يتزعزع كل ما هو حولي، وأبقى ثابتًا فيك إلى الأبد. * لا أرهب خبرًا ما، مهما كانت صورته. لن يهتز قلبي، مادام بين يديك. تتكئ نفسي على صدرك، فترتفع بجناحي الروح إلى السماء. ليس من عدو يقدر أن يضايقني. بك لن تقدر كل قوات الظلمة أن تطفئ نورك الذي سكبته فيّ. حلولك يسكب بهاءً عجيبًا في أعماقي! * لماذا يحاول العدو أن يرعبني. يبذل كل جهده ليجعل من الفضيلة طريقًا مستحيلًا. ما هي الفضيلة إلا التصاقي بك يا من تسكن في أعماقي! وما هي الرذيلة والشر إلا هروبي منك. ألتقي بك، فأتمتع بمجد الفضيلة، وتسقط كل رذيلة كأوراق الشجر الخريفي. أنت حياتي ومجدي وغناي! ماذا أطلب بعد سوى أن تُسَمِّر خوفك في جسمي، وتلهب كل كياني بحبك؟ |
||||
06 - 03 - 2014, 03:39 PM | رقم المشاركة : ( 114 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 113 (112 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير تنازل الله الكلي جلاليعتبر هذا المزمور موجزًا لممارسة العبادة. وهو مزمور ليتورجي، كان يُسبَّح به في عيد الفصح مع المزمور 114 قبل تناول الفصح، ويُسبَّح بالمزامير 115-118 بعد تناول الفصح. كما كان يُسبَّح به في عيد الخمسين وعيد المظال وتدشين الهيكل ورأس الشهر. لا يزال اليهود الأرثوذكس يُسبِّحون به في الفصح. قيل إن ربنا يسوع قبيْل ذهابه مع تلاميذه إلى بستان جثسيماني (مت 26: 30) سبَّح معهم المزامير 113-118. من أشهر المزامير في اليهودية والمسيحية، يدعى "هلليل المصري" Egyptian Hallel. عبارة عن تسبحة رائعة لله الكلي الحب والكلي الجلال، عظمته لا تُقارن بأية عظمة. في تنازله لا يتجاهل إنسانًا ما، ولا يستخف بأحدٍ مهما كان مسكينًا وبائسًا أو ملقيًا في مزبلة. يربط المزمور بين تسبحة حنة المُرَّة النفس (1 صم 2: 2-10)، وتسبحة العذراء مريم المُتهللة بتجسد الكلمة (لو 1: 47-55). إنه يكشف عن التناغم بين العهد القديم والعهد الجديد، بكون المخلص هو مركز العهدين، وهو كلمة الله الذي أخذ شكل العبد، وأطاع حتى الموت موت الصليب ليرفعنا إليه (في 2: 7-9). مزامير هلليل Hallel Psalms توجد ثلاث مجموعات منفصلة لمزامير هلليل: 1. هلليل المصرية Egyptian Hallel، وهي المزامير 113-118. 2. مزامير هلليل العظمى Great Hallel، وهي مزامير 120-136، تضم مزامير المصاعد. 3. مزامير هلليل الختامية، وهي مزامير 146-150. كان يُسَبَّح بالمجموعتيْن الأولى والثانية في الأعياد السنوية (لا 23، عد 10: 10). العبادة لله والتعرُّف عليه إن كان هذا المزمور هو تسبحة لله الكلي الجلال، الذي في محبته للبشر يتنازل ليرفعنا إليه، فهو في الحقيقة يربط بين العبادة لله والتعرُّف على شخصه وسماته. فالعبادة تدخل بنا إلى معرفة أعمق، والتعرُّف عليه يدفعنا بالأكثر للتعبد له بروح التسبيح والتهليل. يكشف لنا المرتل في هذا المزمور عن العبادة المتهللة: أ. من الذين نعبده بالحق؟ [1] ب. متى نعبده؟ [2] مع كل نسمة من نسمات حياتنا. ج. أين نعبده؟ [3] في كل المسكونة، من المشارق إلى المغارب. أينما وُجدنا، سواء في البيت أو المخدع، أو أثناء العمل الخ. د. لماذا نعبده؟ [4-9] لكي نعرفه، ونعرف أعماله العجيبة معنا، فنتقدم له ذبائح التسبيح. نختبر نعمته العجيبة، فتفيض نفوسنا بالشكر له بلا انقطاع. 1. من الذين يعبدونه؟ 1. 2. متى نعبده؟ 2. 3. أين نعبده؟ 3. 4. جلال الله المعبود 4-5. 5. تنازل الله العجيب 6-9. من وحي المزمور 113 1. من الذين يعبدونه هَلِّلُويَا. سَبِّحُوا يَا عَبِيدَ الرَّبِّ. سَبِّحُوا اسْمَ الرَّبِّ [1]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "سبحوا أيها الفتيان الرب". كان كل الشعب يُسبِّحون بالآية 1، بكونهم عبيد الرب، ليس فقط اللاويون والكهنة، وإنما كل الجماعة أو الشعب. ماذا يعني بعبيد الرب سوى كل المؤمنين الذين يثقون في الرب، ويشتاقون أن يكرسوا كل حياتهم له. هنا نقصد بالتكريس ليس التفرغ للخدمة، وإنما تكريس القلب، فيشعر المؤمن في عبادته كما في عمله اليومي، بل وفي أكله وشربه ونومه أنه يحيا لمجد الرب. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن هذا هو موقف الكتاب المقدس من التسبيح. فهو ذبيحة يًسر بها الله أفضل من تقديم ثيران وكباش. إنها لا تكلف المؤمن شيئًا، لكن يلزم تقديمها بالشرطين التاليين: أ. يقدمها الإنسان البار، فإن التسبيح لله لا يتحقق بالفم واللسان، وإنما بالحياة المقدسة في الرب. "التسبيح غير لائق في فم الخاطئ" (سيراخ 15: 9). ب. لا يتم التسبيح بتقديم كلمات فحسب، وإنما يلزم أن يُمارس خلال الأعمال. وكما يقول السيد المسيح: "ليضئ نوركم قدام الناس" (مت 5: 16). هذا هو الأسلوب الذي يستخدمه الشاروبيم في التسبيح لله. هذا التسبيح سمعه إشعياء النبي، فقال: "ويل لي إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين" (إِش 6: 5). يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هكذا يلزمك أن تصير ملاكًا، وتسبح بهذه الكيفية. لهذا لا تستهن بهذه التسبحة. عوض هذا لنجعل حياتنا تقدم صوت (التسبيح) قبل أفواهنا. ليت سلوكنا ينطق بها قبل لساننا. بهذه الكيفية نستطيع أن نسبح الله حتى ونحن في صمتٍ. بهذا فإننا عندما نتكلم نعزف موسيقى تتناغم مع حياتنا[1].] * الذبيحة الواجب تقريبها منا لله هي التسبيح، كقوله إن ذبيحة التسبيح تُمجِّدني... هذا يُعلِّم الأحداث في السن والمبتدئين في الإيمان، وأيضًا الأقوياء ذوي القوة الروحية الشديدة أن يُسبِّحوا الرب، لكن ليس بالقول الملفوظ بالفم فقط، بل وبالسيرة أيضًا. الأب أنسيمُس الأورشليمي البابا أثناسيوس الرسولي أي خبث على وجه الخصوص سوى الكبرياء؟ فإن الكبرياء هو الذي يبدي العظمة الكاذبة، والذي لا يسمح للإنسان أن يدخل الطريق الضيق والباب الضيق. لكن الطفل يمكنه بسهولة أن يدخل من الباب الضيق، بهذا لا يدخل إنسان ملكوت ما لم يكن كالطفل[3]. القديس أغسطينوس 2. متى نعبده؟ لِيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا، مِنَ الآنَ وَإِلَى الأَبَدِ [2]. إن كنا نعمل بجدية وبسرعة من أجل تحقيق مصالحنا الزمنية، فهل ننشغل كعبيدٍ للرب بأعمال الرب في كرمه، يلزمنا أن نسبحه ما حيينا، وعندما نموت؛ نسبحه في أفراحنا، كما في أحزاننا. يطالبنا المرتل أن نبدأ الآن بالتسبيح لله. نحسب كل نسمة نتنسمها هي تسبحة مفرحة، نقدمها ذبيحة حمد وشكر لله. يتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم: هل لا يكون اسم الرب مباركًا إن لم نصلِ؟ يجيب أنه إذ يتبارك اسم الرب فينا، فالبركة هنا خاصة بنا، وذلك كقول الرسول بولس: "مجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم" (راجع 1 كو 6: 20). هذا ما أمرنا به الرب أن نصليه: "ليتقدس اسمك"، أي يتمجد اسمه في حياتنا. فكما يُهان حينما تكون حياتنا شريرة، هكذا يتمجد ويتبارك ويتقدس حينما نمارس الفضيلة[4]. * لماذا قيل: "من الآن؟"... أي من هذه اللحظة التي تنطقون فيها بهذه الكلمات. لتبدأوا التسبيح، ولتسبحوا بلا نهاية[5]. القديس أغسطينوس 3. أين نعبده؟ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا، اسْمُ الرَّبِّ مُسَبَّحٌ [3]. لا يليق بنا أن نوجد في موضع لا نستطيع أن نناجي فيه إلهنا ونسبحه! نسبح الله أينما وُجدنا، سواء في الشرق أو الغرب، في النهار كما بالليل. * ألا ترون كيف أبطل الطرق اليهودية وأنهاها، ونشر طريق حياة الكنيسة، وأعلن عن عبادتها؟[6] القديس يوحنا الذهبي الفم الأب قيصريوس من ارل * ليتنا نُسَبِّح الرب كأبناء، ونغني: "هلليويا"! القديس أغسطينوس الأب أنسيمُس الأورشليمي 4. جلال الله الرَّبُّ عَالٍ فَوْقَ كُلِّ الأُمَمِ. فَوْقَ السَّمَاوَاتِ مَجْدُهُ [4]. إذ نتعرف على الرب، ونتلمس أعماله خاصة مع المساكين ومنكسري القلوب، تسبحه أعماقنا بلغة يصعب على اللسان التعبير عنها. * ألا ترون مرة أخرى أن الأمم تتبنى عبادته، ليس أمة واحدة ولا اثنتان ولا ثلاثة، بل كل أمةٍ في العالم؟ أي شيء أكثر وضوحًا من هذا النص الموُحى به؟ الآن كيف يعلو فوق كل أمةٍ؟ هل لأننا نحن نمجده، ولا ننسب العلو إليه؟ حاشا![9] القديس يوحنا الذهبي الفم السَّاكِنِ فِي الأَعَالِي [5]. من محبته خلق الكائنات السمائية تشهد لقداسته وبرَّه، ويعمل في البشر ليقيم منهم أبناء يحملون صورته، لكنه يبقى فريدًا في علوه وسموه وقداسته وحبه! ليس من يعادله، ولا من ينافسه أو يُقارن به! غاية هذه التسبحة إثارة مشاعر كل الشعب واهتمامهم واعتزازهم بالرب الإله السماوي. * كيف يسكن في السماوات ذاك الذي يملأ السماء والأرض، وهو حاضر في كل مكان، قائلًا: "أنا إله من قريب، ولست إلهًا من بعيد" (راجع إر 23: 23). "من قاس السماء بيده، والسماء في شبره، ويحجز كرة الأرض" (راجع إش 40: 12، 22)...؟ إنه لا يتطلع إلى الأشياء التي على الأرض، كمن هو محدود في السماء، وإنما كمن هو حاضر في كل موضع ومُتاح لكل أحدٍ. ألا ترون كيف يرفع ذهن من يسمعه تدريجيًا؟[10] القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أغسطينوس 5. تنازل الله العجيب النَّاظِرِ الأَسَافِلَ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [6]. إنه خالق كل البشرية، كل الأمم والشعوب والألسنة، لذاك يليق بالكل أن يجتمعوا معًا بروحٍ واحدةٍ ليمجدوه ويسبحوه. الله في تواضعه ومحبته يتطلع إلى السمائيين ويرعاهم، كم بالأكثر يُظهر تواضعه باهتمامه بالبشر الذين على الأرض، ويرفعهم من المزبلة، ويُجلسهم مع السمائيين. * "الناظر إلى المتواضعات في السماء والأرض"... فإنه يمجد المتواضعين، لا ليجعلهم متكبرين. فإنه يسكن في الذين يرفعهم إلى العلا، ويجعل منهم سماءً له، أي مسكنًا له. وإذ يراهم غير متكبرين، بل خاضعين له على الدوام، يتطلع وهو في السماء نحو المتواضعين الذين يقيمهم في العلا لسكناه[12]. القديس أغسطينوس مارتيريوس Sahdona الرَّافِعِ الْبَائِسَ مِنَ الْمَزْبَلَةِ [7]. تنازل الله ليلتقي مع الجالسين في المزبلة، الخطاة، لكي يغفر لهم ويقدسهم ويُعدّهم للشركة مع السمائيين في التسبيح السماوي الأبدي. مسيحنا السماوي هو "السامري الصالح" (لو 33:10 الخ.)، الذي لا يحملنا على حماره، بل على كتفيه، ويدخل بنا إلى فندقه السماوي، إلى كنيسته، كمستشفى، ويُقدِّم لنا علاجًا سماويًا. دعا الله داود للعمل الملوكي وهو يرعى غنم أبيه، وشاول وهو يبحث عن حمير أبيه، وجدعون وهو يدرس الحنطة، والرسل وهم يصطادون السمك. اختار الجهال ليخزي بهم الحكماء، والضعفاء ليخزي الأقوياء، والفقراء ليخزي بهم الأغنياء. هذا كله لا يقارن بعمله في الخطاة والزناة والعشارين ليقيم منهم رسلًا وقديسين وشبه ملائكة! * ليت إله السلام (عب 13: 20) الذي جعل الاثنين واحدًا (أف 2: 13)، والذي يردنا كل واحدٍ للآخرين، الذي يقيم ملوكًا على العروش، ويرفع المساكين من التراب، والشحاذين من المزبلة (مز 113: 7)، الذي اختار داود خادمه، ونزعه من رعاية الغنم (مز 78: 70) مع أنه كان أقل أبناء يسى وأصغرهم (1 صم 17: 14)، الذي أعطى كلمة للذين يبشرون بالإنجيل (مز 147: 18) بقوة عظيمة لأجل كمال الإنجيل، ليته بنفسه يمسكني بيمينه. ليقودني بمشورته، وإلى المجد يأخذني (مز 73: 23- 24)، الذي هو راعي الرعاة (حز 34: 12)، ومُرشِد المرشدين[14]. القديس غريغوريوس النزينزي القديس جيروم * لقد قرأ (الرسول بولس) أن إبراهيم عندما اعترف أنه نفاية ورماد وجد نعمة الله في تواضعه الشديد (تك 18: 27). وقرأ أن أيوب إذ جلس في كومة مزبلته استرد كل خسائره (أي 2: 8، 42: 10-17)، وقرأ نبوة داود: "يقيم الله المحتاجين من الأرض، ويرفع البائس من المزبلة" (مز 113: 7)[16]. * حقًا ما لم يحسب بولس نفسه مثل نفاية، ما كان قد اقتنى المسيح لنفسه[17]. القديس أمبروسيوس الأب أنسيمُس الأورشليمي * أي شيء يمكن أن يكون أكثر فقرًا من طبيعتنا؟ ومع هذا فإنه رفعها، وأقامها في السماء من البداية، وأجلسها على العرش الأبوي[18]. القديس يوحنا الذهبي الفم إذًن لا تيأس من تغَيُّيرك تغيُّرًا كاملًا. إن كان الشيطان لديه هذه القدرة، أن يطرحك أرضًا من العلو الشامخ والفضيلة السامية، إلى أبعد حدود الشر؛ فكم بالأكثر جدًا يكون الله قادرًا أن يرفعك إلى الثقة السابقة، ولا يجعلك فقط كما كنت، بل أسعد من ذي قبل[19]. * لا تيأس، ولا تطرح الرجاء الحسن، ولا تسقط فيما يسقط فيه الملحدون. فإنَّه ليست كثرة الخطايا هي التي تؤدِّي إلى اليأس، بل عدم تقوى النفس. فتوجد فئة معيَّنة هي التي تسلك طريق اليأس عندما يدخلون طريق الشر، غير محتملين النظر إلى فوق، أو الصعود إلى فوق ممَّا سقطوا فيه. هذا الفكر (اليأس) الدنس، يثقل على عنق النفس كالنير، فيلزمها بالانحناء، مانعًا إيَّاها من أن تنظر إلى الله. فعمل الإنسان الشجاع والممتاز أن يكسر هذا النير قطعًا، ويزحزح كل ضيقٍ مثبَّت فوقه، ناطقًا بكلمات النبي: "مثل عيني الأمَة إلى يديّ سيِّدتها، كذلك أعيننا نحو الرب إلهنا، حتى يتراءف علينا. ارحمنا يا رب، ارحمنا. فإننا كثيرًا ما امتلأنا هوانًا" (مز ١٣٤: ٢-٣). يقول: "امتلأنا هوانًا" وتحت ضيقات لا حصر لها. ومع هذا لن نكف عن التطلُّع إلى الله، ولا نمتنع عن الصلاة إليه، حتى يستجيب طلبتنا. لأن علامة النفس النبيلة، هي ألاَّ تنحني من كثرة الكوارث التي تضغط عليها أو تفزع منها، ولا تتراجع بعد عن الصلاة دفعات كثيرة، بل تثابر حتى يرحمها الله كقول داود الطوباوي السابق. القديس يوحنا الذهبي الفم أُمَّ أَوْلاَدٍ فَرْحَانَةً! هَلِّلُويَا [9]. ما قيل هنا تحقق بالنسبة لكثيرات مثل حنة أم صموئيل، وسارة أم إسحق، ورفقة وراحيل، ووالدة شمشون، وربما ألوف من شعب بني إسرائيل عبر الأجيال. ولا يزال يتحقق مع كثيرات حتى يومنا هذا. تحقق أيضًا مع أليصابات والدة يوحنا المعمدان. * أمر كهذا حدث مع الكنيسة، فقد كانت عاقرًا، وصارت أمًا لأبناء كثيرين. لهذا يقول أيضًا إشعياء: "ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد، أشيدي بالترنم أيتها التي لم تتمخض، لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل" (إش 54: 1)، مخبرًا مسبقًا بما يحدث مع الكنيسة[20]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي القديس غريغوريوس النيسي من وحي المزمور 113 لتملأ حياتي بروح التسبيح! * هب لي بساطة الطفولة، فتصير عيناي حمامتين! تتركز بصيرتي على قدرتك وحكمتك وأبوتك، فتتهلل أعماقي بك، ويتحول كل كياني إلى قيثارة. * لأسبحك بكل كياني، بلساني كما بحياتي! ليتقدس اسمك فيّ، فأصير أنشودة مفرحة! أسبحك الآن، وكل أوان إلى أبد الأبد! يمتزج تسبيحك بكل حياتي، أسبحك في وسط أفراحي، بل وفي وسط آلامي. * أينما وجدت، في المشارق كما في المغارب، في يقظتي كما في نومي، في الكنيسة كما في البيت، بل وفي الشارع، لا تتوقف أعماقي عن التسبيح الدائم لك! * تسبحك نفسي المنسحقة، لأنك وأنت أعلى من كل علو، قريب إلى نفسي أقرب من الكل. تتطلع أيها السماوي إليّ. تنظر إلى مسكنتي، تقيمني من المزبلة، وتجلسني وسط الطغمات السماوية. * أشكو إليك نفسي المنكسرة. فقد حلّ بي العقم، فلا أحمل ثمر الروح. أعطيت للعواقر أبناء، فصرن أمهات لأبناء كثيرين. عوض العار، وهبتهم بهاءً ومجدًا. عوض العقم، ملأت بيوتهم بأبناء مقدسين. من يهبني ثمر الروح القدس سواك؟! من ينزع عني مذلتي سوى نعمتك. تحول برية قلبي إلى جنة سماوية. تفجر في داخلي ينابيع روحك القدوس. تلهب أعماقي بنيران الحب الإلهي. تقيم ملكوتك المفرح في داخلي. تضمني إلى خورس السمائيين، فلا تتوقف أعماقي عن التسبيح لك! |
||||
06 - 03 - 2014, 03:41 PM | رقم المشاركة : ( 115 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 114 - تفسير سفر المزامير أغنية الخروجيرى البعض أن هذا المزمور وُضع في الأصل عند نهر الأردن بعد عبور الشعب إلى أرض الموعد عند الجلجال. ويرى آخرون أنه وُضِعَ لتكريم الثلاثة فتية في أتون النار ببابل، وآخرون لتكريم الملكة أستير أو مردخاي، لأن الله يصنع عجائب فائقة مع أولاده سواء على المستوى الشخصي، كالثلاثة فتية الذين أُلقوا في النار ولم تمسهم، بينما أهلكت الجند الذين ألقوا الفتية ووقفوا خارج الأتون، أو على مستوى الشعب، حيث أنقذه الرب خلال عمله في حياة مردخاي وابنة عمه الملكة أستير. إن كانت رحلة خروج الشعب القديم والتحرُّر من عبودية فرعون أدهشت الطبيعة الجامدة التي تحرَّكتْ في خضوع لخالقها كي تُتَمِّمَ إرادة خالقها، فماذا عن رحلة خروجنا من موت الخطية، والتحرر من عبودية إبليس والانطلاق إلى كنعان السماوية، لنستقر في حضن الآب، وننعم بشركة الأمجاد الإلهية؟! جاءت الثلاثة مزامير الهللويات Hallelujah Psalms تعلن عن طُرُق الله في معاملاته مع شعبه. في المزمور 114 يعلن عن معاملاته معهم في بداية تاريخهم، خاصة عند خروجهم من مصر، وتحررهم من عبودية فرعون. تُقَدِّم هذه الأغنية الحدث كأمرٍ مدهشٍ، تقف الطبيعة في رعبٍ ومخافةٍ أمام حضرة الله وسط شعبه، وقيادته له. يرى المرتل في الحدث صورة رائعة لله الذي يملك وسط شعبه، فتتزلزل الأرض قدامه، ويهرب البحر من أمامه. إنه القدير القدوس راعي شعبه وقائده، واهب النصرة. وفي المزمور 115 يقارن المرتل بين شعب الله الذي ينعم بالنصرة والبركات مع الفرح والتسبيح، والأمم التي تتكل على أصنامٍ لا حياة فيها ولا قوة. وفي المزمور 116 يُظهر المرتل الشعب وقد تمتع بالخلاص، فيُقَدِّم لله عبادة مفرحة خلال التسبيح وذبائح الشكر له. يُقَدِّم لنا هذا المزمور صورة رائعة مفرحة لخروج شعب إسرائيل من مصر، بكونه رمزًا لخروج البشرية من عبودية فرعون الحقيقي، عدو الخير إبليس. فنرى البحر والأردن والجبال والآكام قد تكرَّست لخدمة كنيسة المسيح المنطلقة نحو كنعان السماوية بروح الفرح والنصرة على الشر والفساد. تتزلزل الأرض أمام النفس التي تنعم بخلاص الله، وتتحول الصخرة للعمل لحسابها، فتقدم لها مياهًا حية، من يشرب منها لا يعطش. حقًا إذ يخضع المؤمن لخطة لله، ويقبل إرادته عاملة فيه، تشتهي كل الخليقة حتى الجامدة أن تخدمه من أجل شركته مع المخلص الخالق. إذ يصير المؤمن مقدسًا للرب ومركز سلطانه الإلهي [2]، أي هيكلًا للرب (1 كو 7: 19-20)، يقدم له عجلة القيادة لينطلق به إلى حضن الآب. 1. الله القائد القدير 1-4. 2. حضرة الله إله يعقوب 5-9. من وحي المزمور 114 1. الله القائد القدير عِنْدَ خُرُوجِ إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ، وَبَيْتِ يَعْقُوبَ مِنْ شَعْبٍ أَعْجَمَ [1]. دُعي المصريون "شعب أعجم"، لأن اليهود وهم في مصر لم يستخدموا لغة المصريين، فحسبوهم شعب أعجم. يرى البعض أنه يقصد بالكلمة العبرية المترجمة "أعجم" شعب فظ وعنيف. غالبًا ما تشير مصر في الكتاب المقدس، خاصة العهد القديم، إلى عدو الخير في عنفه، وذلك لأن فرعون استعبد شعب الله القديم، وقام الرب بتحريرهم، كرمزٍ لتحريرنا من عبودية إبليس. * حيث يُقال "مصر" فهي تعني حزنًا، أو من يسبب حزنًا، أو من يضغط. غالبًا ما تُستخدَم كرمزٍ لهذا العالم، والتي يلزمنا أن نخرج منها روحيًا، فلا نحمل النير مع غير المؤمنين (2 كو 6: 14). كل شخصٍ يصير أهلًا للمواطنة الخاصة بأورشليم السماوية، حينما يجحد أولًا هذا العالم. وذلك مثل ذلك الشعب الذي ما كان يمكنه أن يُقاد إلى أرض الموعد ما لم يرحل من مصر أولًا. وكما أن هؤلاء لم يرحلوا من هناك حتى يتحرروا بواسطة العون الإلهي، هكذا لا يترك أحد هذا العالم بقلبه ما لم تسنده عطية الرحمة الإلهية. ما حدث مرة خلال الرمز يتحقق هو نفسه في كل مؤمنٍ في الكنيسة، في نهاية العالم، هذه التي كتب عنها الطوباوي يوحنا أنها الزمن الأخير (1 يو 2: 18)[1]. القديس أغسطينوس هؤلاء في الحقيقة كانوا أكثر عنفًا من الوحوش المفترسة، وأقسى من الصخر، ضُربوا بضربات لا تُعد، ولم يستسلموا. لهذا بعدما أشار إلى الشعب العنيف أظهر سلطان الله غير العادي في إقناع هذا الشعب الفظ هكذا والقاسي في الالتزام كرهًا بغير إرادتهم أن يطلقوا عبيدهم، مُسَلِّمًا إياهم مؤخرًا للبحر في وضع مضاد، وبهذا حرر شعبه[2]. القديس يوحنا الذهبي الفم وَإِسْرَائِيلُ مَحَلَّ سُلْطَانِهِ [2]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "صارت له اليهودية مقدسًا". ما يعنيه بيهوذا هنا هو عينه ما يعنيه بإسرائيل، بكون يهوذا هو السبط الملوكي الحاكم، وإسرائيل هو أب كل الأسباط (يعقوب). يستبعد بعض الدارسين أن يقصد بيهوذا هنا مملكة يهوذا التي كانت تضم يهوذا مع بنيامين، وإسرائيل يقصد بها المملكة الشمالية التي كانت تضم عشرة أسباط، لأن هذا المزمور كُتب قبل انقسام المملكة في أيام رحبعام. يرى القديس أغسطينوس أن "يهوذا" معناها "اعتراف"، فبالاعتراف يغتسل المؤمن ويتطهر، فيصير يهوذا مقدسه الطاهر. أما أن إسرائيل محل سلطانه، فمعناه أن المؤمن يصير إسرائيل صاحب السلطان، إذ يصير ابنًا لله. يرى القديس يوحنا الذهبي الفمأن العالم كله تحت سيطرة الله، لكن شتان ما بين سلطانه على العالم وسلطانه على شعبه. فإنه يقود شعبه الخاص به، ويُحَرِّك كل شيء لصالحهم. إنه ملكهم المهتم بهم، يقودهم ويرعاهم ويدافع عنهم. * بدأ أولًا بيهوذا كمقدسٍ لله، حيث صارت أورشليم مدينة الله، وأقيم الهيكل فيها. وجاءت إسرائيل بعد يهوذا بكونها محل سلطانه، إذ تسلمت الشريعة الإلهية وتعاليم الأنبياء. لعله أراد أن يعطي للعبادة الأولوية حتى لا تتحول الوصية والتعاليم إلى مفاهيم عقلية جافة دون شركة مع الله خلال العبادة له. الأب أنسيمُس الأورشليمي تُستخدَم كلمة "مقدس" عن الهيكل، في الجزء الأعمق، قدس الأقداس... "صارت اليهودية مقدسه". قبل هذا كانت موضعًا دنسًا وبغيضًا، ولكن عندما رجع الشعب، صارت المدينة مقدسًا، خلال التدقيق والذبائح والعبادة والطقوس الأخرى[3]. القديس يوحنا الذهبي الفم ألم أُغيِّر الطبيعة نفسها (لأجلكم)؟ ألم أُدَبِّر كل العناصر لخدمتكم؟ ألم أُبهجكم بأسلوب حياة بدون مصاعب...؟ ألم أجلب لكم منافع لا حصر لها: تحرُّرًا من مصر، هروبًا من المتوحشين، إبراز عجائب، اهتمامًا بكم في فترة البرية، ميراث فلسطين، سلطانًا على الأمم، نصرات بلا نهاية، غلبة وراء غلبة، آيات رائعة، معجزات بلا نهاية، فصولًا صالحة على الأرض، نموًا في العدد، مجدًا في كل موضعًا في العالم، وفوائد أخرى بلا حصر؟ أترون منافع الله؟[4] القديس يوحنا الذهبي الفم الأُرْدُنُّ رَجَعَ إِلَى خَلْفٍ [3]. يقف الإنسان في دهشة لهذا التصوير الذي يُقَدِّمه المرتل عن بحر سوف ونهر الأردن والجبال والآكام وتحرُّك كل الطبيعة في رعدةٍ أمام عمل الله مع إسرائيل، حين تمتع بخلاصه من عبودية فرعون، منطلقًا إلى أرض الموعد. لكن هذه جميعها تحمل معانيَ رمزية تحققتْ ولا تزال تتحقق عندما يقبل الإنسان الإيمان بالسيد المسيح مخلص العالم. إنه يصير عضوًا في إسرائيل الجديد، التي يرى البعض أن كلمة "إسرائيل" تعني "رؤية الله". ما هو البحر الهارب من وجه المؤمن إلا خلع الإنسان القديم، وهروب السيرة الخبيثة التي كانت تستعبده؟ تهرب إذ ترى السيد المسيح رأس الكنيسة قائدًا للمؤمن، يهبه رؤية للأسرار الإلهية ومعرفة للحياة السماوية. وما هو نهر الأردن الراجع إلى خلف إلا نعمة المعمودية التي تستقبل المؤمن التائب؟ فيحل الروح القدس، وتتهلل القوات السماوية، حيث ترى من كان عبدًا أسيرًا للشيطان، يتمتع بالبنوة لله، لهذا يقف نهر الأردن كما في رهبةٍ أمام هذا العمل الإلهي الفائق. إذ قاد الخالق شعبه لتحريره من عبودية فرعون، تحركت الطبيعة لتفتح الطريق أمامه لخدمة شعبه: البحر والنهر والجبال والتلال، بل والأرض تزلزلت لتعلن شوقها للخدمة! حقًا حينما نترك عجلة قيادة حياتنا في يديه، يعمل القدير فينا، ولا يوجد عائق عن تحقيق رسالتنا، بل تقف حتى الطبيعة الجامدة لتعلن شوقها للعمل لحسابنا. العائق الوحيد الذي يحطم حياتنا وطاقاتنا هو التمرد على الله، وعصيان وصيته، وعدم الاتكال عليه. بالحق إننا هيكله المقدس، ليدخل ويعلن ملكوته فينا! يصوِّر المرتل عمل الله مع شعبه عند عبور البحر الأحمر (خر 14: 21-2)، ونهر الأردن (يش 3: 14-17). أراد المرتل أن يضع الإنسان غير المتكل على الله في عارٍ وخزي، فإن الطبيعة الجامدة غير العاقلة تحركت لتعلن الحضرة الإلهية الفائقة. هرب البحر ليفسح الطريق لشعب الله بالعبور، ورجع النهر إلى خلف ليرحب بقيادة الله لشعبه وهو عابر إلى أرض الموعد، ورقصت الجبال والتلال ووثبت متهللة بالحضرة الإلهية، بينما يقف الإنسان العاقل في شكٍ وعدم إيمان بعمل الله ورعايته وحمايته له! يقول المرتل: "أبصرتك المياه يا الله، أبصرتك المياه، ففزعت. ارتعدت أيضًا اللجج" (مز 77: 16). يرى القديس أغسطينوس في تفسيره هذا المزمور أنه يخصنا نحن، لأننا نحن أولاد كنيسة الله، وشعبه، إسرائيل الجديد. كما يرى أن الإنسان الذي يضع محبة العالم قدامه متى تراءى أمام الله يرجع إلى الوراء، فينسى محبة العالم، ويمتد إلى ما هو قدام (في 3: 13). * لنضع في اعتبارنا ما نتعلمه هنا، حيث كانت كل هذه الأعمال نموذجًا لنا، وهذه الكلمات تحثنا على تعرفنا على أنفسنا. فإن كنا نتمسك بنعمة الله بقلبٍ ثابتٍ، تلك التي ُأعطيتْ لنا، فإننا نحن إسرائيل، نسل إبراهيم. يقول لنا الرسول: "أنتم نسل إبراهيم" (غل 3: 29؛ رو 4: 10 الخ)... ليت كل مسيحي لا يحسب نفسه غريبًا عن اسم إسرائيل. لأننا نرتبط بحجر الزاوية مع اليهود الذين آمنوا، والذين من بينهم نجد الرسل على رأسهم. لهذا يقول ربنا في موضع آخر: "ولي خراف أُخر ليست من هذه الحظيرة، ينبغي أن آتي بتلك أيضًا، فتسمع صوتي، وتكون رعية واحدة وراعٍ واحد" (يو 10: 16). فالشعب المسيحي هو بالحري إسرائيل، وبنفس الطريقة يُفضِّل دعوته بيت يعقوب؛ لأن إسرائيل ويعقوب هما واحد[5]. القديس أغسطينوس كان فيض المياه غير طبيعي؛ إنه مثل شخص حي وعاقل، بناء على أمر الله أنقذ أناسًا، وأهلك آخرين بنفس الوسيلة، مؤكدًا أنه مقبرة للبعض، ومركبة للآخرين (خر 14). إنكم ترون هذا قد حدث أيضًا في حالة أتون بابل. فثارت النار ليس باطلًا ولا مصادفة، بل قامت بعملٍ له مغزى بناء على أمر الله لها. إنها حفظت البعض الذين فيها، بينما أمسكتْ بآخرين جالسين خارجها وأهلكتهم (دا 3). "الأردن رجع إلى خلف". ألا ترون العجائب التي حدثت في لحظات مختلفة وفي أماكن مختلفة؟ أقصد أنه لأجلنا كي نتعلم عن سلطان الله أنه يبلغ كل موضع، ولا يوجد مكان ما لا يبلغه. إنه يسبب أعمالًا عجيبة تتحقق في البرية وفي البلاد التي للناس العنفاء وفي كل موضع. مرة في البحر، وأخرى في الأنهار. الأولى في حالة موسى، والثانية في حالة يشوع. صاحبتهم آيات في كل مكان حتى يلين الذهن الذي له اتجاه العجز، وعدم الخضوع، فيخضع في مرونة وحساسية مُرَحِّبًا بمعرفة الله[6]. القديس يوحنا الذهبي الفم فإن كان قبل ظهوره في الجسد "البحر رآه فهرب... الأردن رجع إلى الخلف" (مز 114: 3)، أخذ المخلص جسدًا لكي يستطيع البحر رؤيته، ويستقبله الأردن بلا خوفٍ. هذا سبب لمجيئه، هناك سبب آخر: وهو أنه خلال حواء العذراء سار الموت، وخلال العذراء تصير الحياة. وكما أغوت الحيّة القديمة العذراء الأولى، جُعل جبرائيل البشارة الطيبة للثانية[7]. القديس كيرلس الأورشليمي الْجِبَالُ قَفَزَتْ مِثْلَ الْكِبَاشِ، وَالآكَامُ مِثْلَ حُمْلاَنِ الْغَنَمِ [4]. ما هي الجبال التي تقفز كالكباش، والآكام مثل حملان الغنم، سوى أنبياء العهد القديم ورسل العهد الجديد. يركض الكل معًا في بهجةٍ وسرورٍ من أجل ما يتمتع به المؤمن من بركات الخلاص الذي يُقَدِّمه السيد المسيح. عند ملاقاة موسى وقف الشعب في أسفل الجبل. "وكان جبل سيناء كله يدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، وصعد دخان الأتون، وارتجف كل الجبل جدًا" (خر 19: 18). كما قيل: "جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه... شققت الأرض أنهارًا. أبصرتك ففزعت الجبال. سيل المياه طما. أعطيت اللجة صوتها. رفعت يديها إلى العلاء" (حب 3: 3، 9-10). تشهد معاملات الله مع شعبه قديمًا وحديثًا أن الطبيعة الجامدة تتحرك بصورة أو بأخرى في طاعة للأوامر الإلهية، وفي دهشة لرعاية الله وحبه للبشرية. * اليوم تتهلّل الملائكة والسماوات والكواكب مع الشمس والقمر، والأرض وكل ما تحتويه، والجبال والتلال تطفر فرحًا. لأنه إذا كان عند خروج بني إسرائيل من مصر ابتهجت معهم الخلائق كلها: ظلّت السماء ترعاهم بسحابةٍ مضيئةٍ في النهار، وعمودٍ من النار بالليل، وقفزت الجبال أمامهم مثل الكباش، والتلال كحملان الغنم (مز 114: 4). فماذا يا تُرَى يكون هذا اليوم الذي وُلِد فيه المسيح؟ لأنه منذ عهدٍ قريب كانت الخليقة كلها تئنّ من انحرافها نحو الفساد بسقطة آدم ملكها، ولكنّ جاء الرب ليُجدِّد هذه التي لها صورة الله الأصلية، ويُعيد خلقتها إلى ما ينبغي أن تكون عليه[8]. القديس مقاريوس الكبير القديس يوحنا الذهبي الفم 2. حضرة الله إله يعقوب مَا لَكَ أَيُّهَا الْبَحْرُ قَدْ هَرَبْتَ، وَمَا لَكَ أَيُّهَا الأُرْدُنُّ قَدْ رَجَعْتَ إِلَى خَلْفٍ [5]. يعود المرتل فيكرر موقف البحر الأحمر ونهر الأردن والجبال والتلال أمام عمل الله لخلاص شعبه.لعله بالتكرار أراد تأكيد خضوع الطبيعة الجامدة للخالق والمخلص في طاعة كاملة لخدمة خالقها. وأيضًا أراد أن يشخص الطبيعة، فتتحرك كما بمشاعر معينة. يقف المرتل في دهشة، يتحدث مع البحر والنهر كشخصين يقفان في مهابة، لا من أجل حدث تحقق في الماضي وانتهى، وإنما عن موقف الله محب البشر في الماضي كما في الحاضر والمستقبل. الطبيعة تترقب على الدوام أي أمر إلهي فهو كلي الصلاح محب البشر، خاصة المؤمنين. تتغنى الكنيسة القبطية بهذه العبارة والعبارة التالية في عيد عماد السيد المسيح (عيد الغطاس) وطقس اللقان بكونهما تسبحة خاصة بفاعلية عماد حمل الله في حياة المؤمنين. وَمَا لَكُنَّ أَيَّتُهَا الْجِبَالُ قَدْ قَفَزْتُنَّ مِثْلَ الْكِبَاشِ، وَأَيَّتُهَا التِّلاَلُ مِثْلَ حُمْلاَنِ الْغَنَمِ؟ [6] إن كان البحر والنهر قد تحركا في مهابة أمام الرب العامل لأجل الإنسان، فالجبال والتلال تتحرك في فرح وتهليل، تثب كما في عيد من أجل تدبير الله وعمله لخلاص الإنسان. * غالبًا ما يُشَخْصِنُ الكاتب المقدس أمورًا كثيرة حتى تلك التي هي فاقدة الحياة. كمثال: "البحر يقول كذا وكذا"، وأيضًا يصدر أمرًا للسيف، وتُسأل الجبال والتلال عن سبب قفزها (مز 19: 1؛ زك 13: 7؛ مز 114: 6)[10]. القديس غريغوريوس النزينزي مِنْ قُدَّامِ إِلَهِ يَعْقُوبَ! [7] تشير زلزلة الأرض إلى صلْبِ الإنسان القديم الترابي، ليتقبل المؤمن الخليقة الجديدة، عربون السماويات. وكأن أرضه تتحول إلى سماءٍ جديدةٍ! إذ يرتبط الإنسان بالزمنيات يصير أرضًا لا سماءً، لكن إذ يقف قدام الرب تتزلزل محبة الأرض والزمنيات في أعماقه ليطلب السماء والأبديات. يقف القديس يوحنا الذهبي الفم في دهشة، إذ ينسب الرب نفسه لعبده، فيُدعَى إله يعقوب، قائلًا: [ما هذا؟ فإن الرب ينسب نفسه للعبيد. لهذا قيل: "لذلك لا يستحي بهم الله أن يُدعَى إلههم" (عب 11: 16). ولكن كيف يُدعَى إلههم؟ بقوله: "أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب" (راجع خر 3: 6)[11].] الْمُحَوِّلِ الصَّخْرَةَ إِلَى غُدْرَانِ مِيَاهٍ، الصَّوَّانَ إِلَى يَنَابِيعِ مِيَاهٍ [8]. ما هي الصخرة التي تفيض مياه حيَّة في أعماق المؤمن، إلا السيد المسيح، الذي يدعو العطاش إليه، ليُفَجِّر في داخلهم ينابيع مياه حية. من يؤمن بالسيد المسيح صخر الدهور يسكن فيه، ويُحَوِّل أعماقه إلى ينبوع يفيض بالمياه الحية. * "الذي حوّل الصخرة إلى بحيرات مياه، والصوان إلى ينابيع مياه". أي عذر لنا، أخبروني، لماذا نحن قساة وغير خاضعين؟ بينما الصخرة والصوان، مع صلابتهما وجمودهما خضعا لأمر الله، إذا بالكائن البشري مع ما وُهب من عقل ورُقِي أكثر من كل مخلوق آخر غير متجاوب أكثر من الكل؟[12] القديس يوحنا الذهبي الفم القديس غريغوريوس النيسي من وحي المزمور 114 لتُعِدْ رحلة عبوري إليك! * تبقى رحلة خروج شعبك من عبودية فرعون، أغنية كل مؤمنٍ حقيقيً يتمتع بالميلاد الجديد في المعمودية. أرسلتَ موسى وهرون للعمل، لكنك كنتَ القائد الحقيقي للرحلة. كملكٍ سماويٍ مُحبٍ وقدوس، تقدمتَ موكب شعبك. سخّرت الطبيعة لحسابهم! * طأطأت السماوات ونزلت إلينا. قمتَ بنفسك بقيادة شعبك، لتُحررهم من مملكة الظلمة، وتعبر بهم إلى مملكة النور في رحلة فريدة! من يستطيع أن يُعَّبر عن رحلة صليبك وقيامتك؟! أقمتَ ملكوتك الإلهي في داخلنا، وحوّلتَ قلوبنا إلى سماء جديدة. ارتعب البحر بكل دواماته وأمواجه أمامك. لم تستطع قوات الظلمة أن تقف أمام عمل الفداء. أثار العدو حتى البشر كالبحر للخلاص منك. صرخوا لبيلاطس: أصلبه، أصلبه! ولم يدركوا أن الطريق قد انفتح بالصليب، ليَعْبُرَ مؤمنوك إلى أحضان أبيك. تحركتَ يا مخلصي كمن في ضعفٍ لتُصلبَ. وهوذا الأنبياء مع كل مؤمني العهد القديم، صاروا كالجبال والتلال يثبون فرحًا. ما اشتهى الأنبياء والملوك أن يروه قد تحقق. * موكب صليبك زلزل الأرض! تزعزعتْ محبة الأرضيات في قلبي، هربتْ من قدامك، لكي تحتل محبة السماويات أعماقي. هوذا قلبي الصخري صار يفيض بمياه نعمتك. ومشاعري الصوان صارت تنعم بمياه روحك القدوس. يا لها من رحلة ممتعة! صليبك حوَّل حياتي إلى رحلة نحو السماء! |
||||
06 - 03 - 2014, 03:45 PM | رقم المشاركة : ( 116 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 115 - تفسير سفر المزامير تباين بين الله والأوثان جاء هذا المزمور امتدادًا للمزمور السابق. فالمزمور 114 يسبح الله لأجل مجده وبركاته، خاصة في قيادته لشعبه عند الخروج من مصر والتحرر من عبودية فرعون. يستمر هذا المزمور في نفس الفكرة بأكثر عمومية. كما يتضمن تباينًا صارخًا بين الله الحي والأوثان الجامدة بلا حياة ولا مشاعر. يقدم لنا الله بكونه معينًا لشعبه، وترسًالهم. كما يُختم بالبركات التي تحل على شعبه المتكل عليه، الأمر الذي يعلنه بأكثر وضوح في المزمور التالي. اختلف الدارسون في تحديد مناسبة هذا المزمور. فالبعض نسبه لموسى النبي عند عبور البحر الأحمر، وآخرون لداود النبي في بدء حكمه، وآخرون لمردخاي وأستير عندما أنقذ الرب شعبه على أيديهما، والبعض للثلاثة فتية حين أنقذهم الرب من أتون النار، وآخرون لحزقيال الملك الذي خلصه الرب من الأعداء. هذا المزمور هو قصيدة شكر لله الحيّ العامل في حياة مؤمنيه وشعبه. وهو تسبحة كل يومٍ في حياة المؤمن الذي يهبه الله نصرة، ويقدم له مراحم جديدة في كل صباح، في الوقت الذي لا يكف عدو الخير عن مقاومته. قدر ما يبدو المؤمن أو كنيسة المسيح في خطرٍ، يتجلى رب المجد يسوع في عمله الخلاصي. الضيق هو الطريق الذي فيه نلتقي مع المخلص، ونختبر خلاصه، وننعم بحلاوة محبته، فتنطلق أعماقنا بالتسبيح له كل أيام غربتنا، لنمارسه أيضًا في الأبدية. يقدم لنا هذا المزمور الإجابة على الأسئلة التالية: 1. أين هو إلهنا؟ [1-3] في السماء وهو القدير، من ينعم بالشركة معه، لن يقبل أن يضع ثقته في من هو أقل منه. 2. ما هي سماته؟ [4-11] إن كانت الآلهة الوثنية تقيم ممن يتعبدون لها حجارة جامدة بلا إحساس، فإن إلهنا يهبنا شركة الطبيعة الإلهية. كل إنسان يتشكل ليحمل أيقونة من يتعبد له. فمن يتعبد لمحبة العالم يحمل فيه سمات العالم الزائل، ومن يتعبد لمخلص العالم يحمل فيه سمات الحب لكل البشرية حتى لمقاوميه. إلهنا مشغول بنا، يرانا ويسمع أصواتنا ويعيننا. 3. هل نلتزم بتسبيحه؟ [12-18] يشرق القدوس بالبركة علينا، فيباركنا بغير انقطاع، فهل نباركه نحن، بقبولنا لبهائه عاملًا فينا، ونمجده بحياتنا المقدسة فيه. إنه يقدم لنا وعوده الإلهية، فهل نثق فيه، ونتكل عليه؟ هو الإله الحيّ، فهل نسبحه في أرض الأحياء، أم نستسلم للموت والانحدار نحو الصمت القاتل؟ هذا المزمور ليتورجي، يسبح هكذا: أ. الشعب: يبدأ المزمور باعتراف الشعب عن أعمالهم الخاطئة [1-2]، ويستمر في رفض الآلهة الباطلة [3-8]. ب. اللاويون: يدخلون في الحوار [9-11]. ج. الكهنة: يعلنون البركة الإلهية [12-15]. د. الشعب: يسبحون بالقرار [16-18]. 1. اعتراف جماعي 1-3. 2. تباين عن الأوثان 4-8. 3. الاتكال على الله 9-17. 4. لنبارك الرب! 18. من وحي المزمور 115 1. اعتراف جماعي حينما تحل بالإنسان تجربة قاسية، ويسقط في حالة إحباط، يعيره البعض قائلين: أين إلهك؟ (مز 42: 3)، وكما جاء في يوئيل: "لماذا يقولون بين الشعب: أين إلههم" (يوئيل 2: 17). وأيضًا قال ربشاقي الأشوري: "هكذا يقول الملك: لا يخدعنكم حزقيا، لأنه لا يقدر أن ينقذكم، ولا يجعلكم حزقيا تتكلون على الرب... هل أنقذ آلهة الأمم كل واحدٍ أرضه من يد ملك أشور؟" (إش 36: 14-18) أما ما هو أخطر من هذا، فهو أن يصدر هذا التساؤل من داخل الإنسان، حين يشعر كأن الله في سماواته لا يبالي به، ولا يهتم بإنقاذه. ولعل هذا التساؤل جاء من بعض الأمم، الذين إذ يدخلون أورشليم أو أية مدينة من مدن إسرائيل، ولا يجدون تماثيل ثمينة، يعيّرون اليهود بأنهم بلا آلهة. جاء هذا المزمور باعترافٍ جماعيٍ، أن الضيق الذي حلّ بهم ليس بسبب تجاهل الإله السماوي لهم، وإنما بسبب خطاياهم. لَيْسَ لَنَا يَا رَبُّ، لَيْسَ لَنَا، لَكِنْ لاِسْمِكَ أَعْطِ مَجْدًا، مِنْ أَجْلِ رَحْمَتِكَ مِنْ أَجْلِ أَمَانَتِكَ [1]. يقدم المؤمن هذه التسبحة لله، فإذ يتطلع إلى الأمم المحيطة به، وهي تنكر الإيمان لا يسقط في الكبرياء، حاسبًا نفسه أنه أفضل منهم، بل ينسب كل ما بلغ إليه إلى نعمة الله ومراحمه، ومن أجل أمانة الله بالرغم من عدم أمانتنا. يجحد المرتل كل برٍّ ذاتي واستحقاق بشري، ليعلن مجد الله العامل برحمته وأمانته وحقه الإلهي في حياة مؤمنيه الجادين في التمتع به. غالبًا ما يرتبط تعبير "أعطِ مجدًا" بالاعتراف بالخطية، كما حدث حين أخطأ عخان بن كرمي. "فقال يشوع لعخان: يا ابني أعطِ الآن مجدًا للرب إله إسرائيل، واعترف له، وأخبرني الآن ماذا عملت. لا تُخفِ عني" (يش 7: 19). أيضًا عندما أخذ الفلسطينيون تابوت العهد، فسقط إلههم داجون أمامه، قال لهم العرافون والكهنة: "أعطوا إله إسرائيل مجدًا، لعله يخفف يده عنكم وعن آلهتكم وعن أرضكم" (1 صم 6: 5). في هذا المزمور يعترف الشعب بأن الله بار، وما حلّ بهم من كارثة هو ثمرة طبيعية لشرورهم، وليس لهم ما يقدمونه من جهتهم ليطلبوا رحمته سوى أن يتمجد اسم الله وتظهر أمانة الله بالرغم من عدم أمانتهم. يقول الرب نفسه: "لا من أجلكم أنا صانع يقول السيد الرب، فليكن معلومًا لكم، فاخجلوا واخزوا من طرقكم يا بيت إسرائيل" (حز 36: 32). جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "أعطِ المجد على رحمتك وحقك". يقول القديس أغسطينوس إنه كثيرًا ما تربط المحبة الرحمة والحق معًا في الأسفار المقدسة. [ففي رحمته يدعو الخطاة، وفي حقه يدين الذين عند دعوتهم يرفضون المجيء إليه[1].] * لأن المسيح مات عن الخطاة (رو 5: 6)، لا يطلب الناس أي مجد لهم، بل لاسم الرب[2]. القديس أغسطينوس أَيْنَ هُوَ إِلَهُهُمْ؟ [2] يحاول عدو الخير على الدوام أن يشكك المؤمنين في رعاية الله لهم واهتمامه بهم. يبذل كل الجهد في كل العصور أن يصَّور الله في سماواته في عُزلةٍ، لا يبالي بشئون البشر. يشعر الإنسان بالمرارة حين يهين غير المؤمنين الله كأنه غير موجود، أو لا حول له ولا قوة، مع أن السبب الحقيقي فيما يحل به هو خطاياه. عندما لا يعود يُكرز بالإيمان به، إذ يأتي على السحاب ويولول غير المؤمنين، عندئذ لا يقول الأمم: أين هو إلههم؟"، بل يقفون في خوفٍ ورعدةٍ. * وكما يقول النبي: "لأن عندك ينبوع الحياة. بنورك نرى نورًا" (مز 36: 9). فالذين يشربون من غنى بيت الله، من نهر فرحه، يصيرون في نشوة. أيضًا كان داود العظيم في نشوة، لأنه خرج من نطاق نفسه إلى آفاق الفرح والسعادة الغامرة. فقد رأى الجمال الغير منظور، وصرخ بصوته الذي تقوده القوى المقدسة: "لماذا يقول الأمم أين هو إلههم" (مز 115: 2). يشرح داود بهذا التعبير كنوز الله العظيمة جدًا التي تعلو عن التعبير عنها. وقال بولس، بنيامين الجديد، وهو في نشوة السعادة والفرح العظيم: "لأننا إن صرنا مختلين فللَّه (تُعتبر النشوة والسعادة حركة ناحية الله) أو كنا عاقلين فلكم" (2 كو 5: 13). وأشار بولس بطريقة مماثلة إلى فستوس قائلًا: "لست أهذي أيها العزيز فستوس، بل أنطق بكلمات الصدق والصحو" (أع 26: 25)[3]. القديس غريغوريوس النيسي إِنَّ إِلَهَنَا فِي السَّمَاءِ. كُلَّمَا شَاءَ صَنَعَ [3]. إن كان العدو يحاول تشويه صورة الله نفسه، فيصوره في عزلة في السماء، لا عمل له، ولا دور له على الأرض، فإن المؤمنين من جانبهم يؤكدون أنه في السماء حيث لا موضع للعدو فيها ولا للشر مكان أو دور. إنه يعمل لحساب البشرية موضع حبه. كثيرًا ما يؤكد الكتاب المقدس: "الرب قريب". هو في السماء، لكنه قريب للغاية، أقرب إلينا من أعضاء أسرتنا وأحبائنا. قريب أيضًا بسبب محبته، وكما يقول رب المجد يسوع: "أبي يعمل حتى الآن، وأنا أيضًا أعمل". إن كان الله غير منظور، إلا أنه حاضر في كل مكان، ويريد أن يعمل. إنه في السماء، ويود أن يحمل المؤمنون روح القداسة اللائقة به. حينما رجع نبوخذنصر إلى عقله، وأدرك خطورة كبريائه، قال: "حسبت جميع سكان الأرض كلا شيء، وهو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض، ولا يوجد من يمنع يده، أو يقول له ماذا تفعل؟" (دا 4: 35) * إنه في السماء وعلى الأرض كما يشاء يفعل، سواء بين الذين في مراتب عليا أو دنيا من شعبه. إنه يقدم نعمته هبة مجانية، فلا يفتخر أحد باستحقاقاته الذاتية لأعماله[4]. القديس أغسطينوس 2. تباين عن الأوثان أَصْنَامُهُمْ فِضَّةٌ وَذَهَبٌ، عَمَلُ أَيْدِي النَّاسِ [4]. جاءت كلمة "أصنام" هنا بمعنى "صور". إنها من فضة وذهب، لا حياة فيها. فهي أقل من الملائكة والناس. إن كان الله هو خالق البشر، فإن أصنامهم ليست عاجزة عن الخلقة فحسب، بل هي نفسها من "عمل أيدي الناس". إنها ليست بآلهة. يميز القديس كيرلس الكبير بين الصور التي يعبدها الوثنيون كآلهة، وصور القديسين والأبرار التي تمجد الله، وترفع قلوبنا إليه. * حتى إن صنعنا صورًا للأتقياء، فهي ليست لكي نتعبد لها كآلهة، وإنما لكي ما إذا رأيناها تحثنا على الاقتداء بهم، وإن صنعنا صورة للمسيح، إنما لكي ترتفع عقولنا في اشتياقٍ إليه[5]. القديس كيرلس الكبير القديس أغسطينوس لَهَا أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُ [5]. يتعجب المرتل كيف يمكن لإنسان أن يعبد صور خرساء وعمياء، وتبقى هكذا على الدوام. يدهش القديس أغسطينوس من الوثنيين الذين يكرمون الأصنام ويعبدونها، وينسبون لها سلطانًا، مع أن الإنسان الفنان صانعها أفضل وأسمى منها. الحيوانات حتى الضارة منها مثل الفئران والحيات فيها نسمة حياة لا توجد في الأصنام. والإنسان الميت وإن كان غير حي، لكنه يومًا ما كان حيًا، أما الأصنام فلم تعرف الحياة! * صانع (الأصنام) نفسه أعظم منها، إذ قام بصبها وأوجدها بعمل أطراف جسمه، ومع هذا فأنت تخجل من أن تعبد الصانع (الفنان)، مع أنك تفعل ما لا تستطيع هي أن تفعله. حتى الحيوان يسمو عليها، إذ قيل: "لا تصرخ بحناجرها"... كيف أن الفئران والحيات وكل الحيوانات التي من نفس النوع أفضل منها، وهي تدين أصنام الوثنيين... يتحرك الإنسان بنفسه لكي يُرعب حيوانًا حيًا ويطرده عن إلهه، ومع هذا يعبد هذا الإله العاجز عن الحركة، كما لو كان صاحب سلطان... حتى الإنسان الميت يسمو على هذا الإله، الذي لم يعش وليس هو حي[7]. * مع أن الإنسان يصنع آلهته، إلا أن يصير أسيرًا لها، وذلك بمجرد قبوله التبعية لها بتعبده لها... فما هي الأصنام سوى أشياء لها أعين ولا تبصر، كما يقول الكتاب المقدس؟[8] القديس أغسطينوس لَهَا مَنَاخِرُ وَلاَ تَشُمُّ [6]. يحتاج الإنسان إلى إله يسمع وله ويتجاوب معه، وقادر على العمل والمشاركة. أما هذه الأصنام فصّماء حتى عن الشم. أما بالنسبة لله الحي، ففي محبته الفائقة يميل بأذنيه ليسمع حتى تنهدات قلوبنا، يشتم فينا رائحة البنوة، فيضمنا إلى أحضانه ويقَّبلنا. * لا تنطق بشيء أمام الله (بكبرياء) كما لو كنت صاحب معرفة، إنما اقترب إليه وأنت تحمل فكر الطفل (الواثق في أبيه)، واسلك أمامه، فتُحسب أهلًا للرعاية الأبوية التي يقدمها الآباء لأطفالهم الصغار[9]. القديس مار اسحق السرياني لَهَا أَرْجُلٌ وَلاَ تَمْشِي، وَلاَ تَنْطِقُ بِحَنَاجِرِهَا [7]. لم يكف العهد القديم عن شجب العبادة الوثنية. تعجز الأصنام عن العمل والحركة والنطق. هذه السمات التي للأصنام تدعو للسخرية مع الشعور بالعجز. وكما قيل بإشعياء النبي: "فبمن تشبهون الله، وأي شبه تعادلون به. الصنم يسكبه الصانع، والصائغ يغشيه بذهبٍ، ويصوغ سلاسل فضة. الفقير عن التقدمة ينتخب خشبًا لا يسوس، يطلب له صانعًا ماهرًا لينصب صنمًا لا يتزعزع" (إش 40: 18-20). * لقد حرر الذين يملكون الأشياء الجامدة من العبودية لها، وذلك خوفًا من أن يصيروا فيما بعد عبيدًا للأوثان، التي قيل عنها: "لها أفواه ولا تتكلم؛ لها أعين ولا تبصر، لها آذان ولا تسمع؛ لها مناخر ولا تشتم؛ لها أيدٍ ولا تلمس؛ لها أرجل ولا تمشي" (مز 5:115). من أجل هذا، دعا بولس الرسول محبة المال "عبادة أوثان"، لأنه كما أن الأمم يعبدون الأشياء الجامدة التي لا توجد فيها مشاعر ولا حياة، هكذا أيضًا الذين يحبون الغنى يخدمون ذهبًا صامتًا وفضة بلا حياة[10]. القديس مار فيلوكسينوس بَلْ كُلُّ مَنْ يَتَّكِلُ عَلَيْهَا [8]. يرى القديس أغسطينوس أن الأمم إذ عبدوا التماثيل الحجرية صاروا حجارة، كالأشياء التي اعتادوا أن يعبدوها، عبدوا الصورة الجامدة فصاروا هم أنفسهم بلا حس[11]. إن كان عابدو الأوثان في حماقتهم عبدوا المخلوقات غير العاقلة، فصاروا على مثالها، مملوءين بالحماقة، فإننا إذ نعبد الإله الخالق، نود أن نقتدي به بكونه كلي الحكمة والفهم والحب والرحمة. فالإنسان يقتدي بمن يتعبد له! كما أن الأصنام لا حول لها، هكذا العابدون لها يصيرون بلا قوة، فيشبهون آلهتهم الأصنام وعابدوها يجحدون العقل والفهم، ويتسمون بالغباء. * وماذا نقول نحن الآن؟ كانت الطبيعة البشرية في وقت من الأوقات جامدة خلال الوثنية، فتحولت طبيعة الإنسان القادرة على التغيير إلى الطبيعة التي لا حياة فيها كالأصنام التي كانوا يعبدونها. يقول الكتاب: "مثلها يكون صانعوها، بل كل من يتكل عليها" (مز 115: 8). ولا يمكن تلافي هذا الأمر، لأن كل الذين ينظرون إلى الله ويحفظون وصاياه، يكتسبون صفات الطبيعة الإلهية، بينما الذين ينحازون إلى الباطل، أي الأصنام، يتحولون إلى ما يعبدونه، ويصيرون حجارة بدلًا من بشر[12]. القديس غريغوريوس النيسي لقد تحول الإنسان إلى حيوان متوحش بعد أن صار قويًا. "مثلها يكون صانعوها، بل كل من يتكل عليها" (مز 115: 8). ويصبح الشخص نمرًا بصبغ نفسه بقذارة هذا العالم. وعندما تلوثت الطبيعة البشرية انجرفت في عبادة الأوثان، وأخطأ اليهود وسقطوا في غيرها من الشرور والخطايا. وبعد ذلك مرت الطبيعة البشرية خلال الأردن والمرّ والأعشاب العطرة والبخور وارتفعت إلى مستوى عالٍ، حتى أنها تسير الآن مع الله... يمنح العريس النفس التي تصعد إليه عمقًا في التمتع بالسمو، ويظهر جماله لها، ويذكرها بأخطائها السابقة وهي على هيئة الحيوانات المتوحشة، حتى تتمكن من الفرح في تمتعها الحالي بمقارنته بحالتها السابقة[13]. القديس غريغوريوس النيسي 3. الاتكال على الله إذ يتكئ المؤمن على صدر الله إن صح التعبير، يجد عونًا له في مقاومة الخطية التي أفسدت طبيعته، ويجد في الله ترسًا يحميه من إبليس وكل حيله. إنه يترقب يوم مجيء البرّ بفرحٍ، لأنه لا يخشى الدينونة، بل يترقب بالتهليل لقاءه بالله مخلصه. يَا إِسْرَائِيلُ اتَّكِلْ عَلَى الرَّبِّ. هُوَ مُعِينُهُمْ وَمِجَنُّهُمْ [9]. إن كان الوثنيون يثقون في الأصنام الجامدة، ويسلمون حياتهم لها، كم بالأولى أن يثق المؤمنون بالله الحي، محب البشر، المدبر والحكيم. يقول المرتل: "أنفسنا انتظرت الرب؛ معونتنا وترسناهو. لأنه به تفرح قلوبنا، لأننا على اسمه القدوس اتكلنا" (مز 33: 20-21). ليس من اتكل عليه وخزي. يوجه حديثه إلى إسرائيل، أو إلى الكنيسة كلها، من كل الطبقات، الأغنياء والفقراء، الصبيان والشيوخ. يَا بَيْتَ هَارُونَ اتَّكِلُوا عَلَى الرَّبِّ. هُوَ مُعِينُهُمْ وَمِجَنُّهُمْ [10]. إن كانت الدعوة للاتكال على الله موجهة لكل المؤمنين، فإنه يليق بالكهنة والخدام العاملين في كرم الرب أن يتكلوا عليه كمجنٍ أو ترس لهم. يَا مُتَّقِي الرَّبِّ اتَّكِلُوا عَلَى الرَّبِّ. هُوَ مُعِينُهُمْ وَمِجَنُّهُمْ [11]. بعد أن وجه الدعوة إلى جميع المؤمنين، ثم ركز على العاملين في الكرم، أراد أن يؤكد أن الذين يتمتعون بعون الرب، ويكون لهم الله بالحق مجنًا (ترسًا) هم الذين يسلكون في مخافته، ويعيشون بروح التقوى، بإخلاص وبروح التوبة. الرَّبُّ قَدْ ذَكَرَنَا، فَيُبَارِكُ. يُبَارِكُ بَيْتَ إِسْرَائِيلَ. يُبَارِكُ بَيْتَ هَارُونَ [12]. إن كان المرتل يدعونا للاتكال على الله، فلا يعني أنه محتاج أن نذَّكره، فنحن دومًا في فكره، يحبنا وينشغل بنا، ويريد على الدوام أن يباركنا. لكنه لا يُلزمنا بأن ننال بركته، إنما يليق بنا أن نتجاوب مع إرادته المقدسة. يُبَارِكُ مُتَّقِي الرَّبِّ الصِّغَارَ مَعَ الْكِبَارِ [13]. يؤكد المرتل شهوة قلب الله أن يبارك الصغار مع الكبار. ليس عند الله محاباة، ولا ينسى أحدًا. إنه أب! * ليأتِ الصغار، ليأتِ المرضى إلى الطبيب، ليأتِ الذين هم مفقودون لمخلصهم، ليأتوا ولا يُمنع أحد عن المجيء. إن كانت الفروع (الأطفال) لم ترتكب أية خطية بعد، لكنهم هلكوا بسبب أصلهم، "يبارك الرب الصغار مع الكبار" (مز 115: 13). ليلمس الطبيب الصغار مع الكبار... إذ كان الفقدان شاملًا هكذا ليكن الخلاص عامًا. كلنا ضعنا، لنوجد جميعنا في المسيح... ليته لا يُعزل أحد عن خلاصه[14]. القديس أغسطينوس عَلَيْكُمْ وَعَلَى أَبْنَائِكُمْ [14]. يحثهم المرتل على الاتكال على الله، لا لنوال عونه وبركته فحسب، وإنما تزداد هذه البركة، فيشعر المؤمن بالتجديد المستمر. وفي نفس الوقت يفتح الباب لنسله، فغالبًا ما يشتهي الإنسان البركة لأولاده وأحفاده أكثر مما يشتهيها لنفسه. أَنْتُمْ مُبَارَكُونَ لِلرَّبِّ الصَّانِعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [15]. يشتهي المؤمنون عبر الأجيال أن ينعموا بالبركة التي تمتع بها أبوهم إبراهيم. تشير البركة هنا إلى البركة التي قدمها ملكي صادق لإبراهيم "وباركه، وقال: مبارك إبرام من الله العلي، مالك السماوات والأرض" (تك 14: 19). بركة لا يمكن تقديرها، لأنها صادرة من خالق السماوات والأرض. السَّمَاوَاتُ سَمَاوَاتٌ لِلرَّبِّ، أَمَّا الأَرْضُ، فَأَعْطَاهَا لِبَنِي آدَمَ [16]. جاءت كلمة "السماوات" هنا في المرتين بصيغة الجمع، ولعله يقصد السماء الثالثة، التي لم يستطع الرسول بولس أن يصفها. فإن كان الله قد أعطى بني آدم الأرض ليعيشوا فيها خلال حياتهم الزمنية، إلا أنه يُعد لهم الأمجاد الأبدية في السماوات! يرى العلامة أوريجينوس أن الله السماوي يقدم الأبوة السماوية، فيضمنا إليه كعائلته السماوية، أما نحن الذين لنا الأرض، فنرتبط معًا خلال علاقات زمنية[15]. * السماء بالحقيقة عالية، والمسافة بينها وبيننا غير محدودة. إذ يقول: "السماوات سماوات للرب". ولكن، ليس بسبب هذا نكون مُهملين أو خائفين، كما لو كان الطريق إليها مستحيلًا، بل بالحري يلزمنا أن نكون غيورين[16]. القديس أثناسيوس الرسولي فإن كان القلب على الأرض، أي إن كان الإنسان في سلوكه يرغب في نفع أرضي، فكيف يمكنه أن يتنقى مادام يتمرغ في الأرض؟! أما إذا كان القلب في السماء فسيكون نقيًا، لأن كل ما في السماء هو نقي. فالأشياء تتلوث بامتزاجها بما هو أردأ منها، ولو كان هذا الرديء نقيًا في ذاته. فالذهب يتلوث بامتزاجه بالفضة النقية، وفكرنا يتلوث باشتهائه الأمور الأرضية، بالرغم من نقاوة الأرض، وجمال تنسيقها في ذاته. لكننا لا نفهم كلمة "السماء" هنا بمعنى مادي، لأن كل ما هو مادي يعتبر أرضًا. فالذي يكنز في السماء ينبغي عليه أن يحتقر العالم كله. فالسماء هي تلك التي قيل عنها: "السماوات سماوات للرب" (مز 16:115) أي جلد روحي. لأنه لا ينبغي لنا أن نثبت كنزنا وقلبنا في هذه السماء الزائلة، بل لنثبتهما ونكنزهما في السماء الباقية إلى الأبد. أما السماء والأرض (الماديتان) فتزولان[17]. القديس أغسطينوس وَلاَ مَنْ يَنْحَدِرُ إِلَى أَرْضِ السُّكُوتِ [17]. لا يُسمع صوت التسبيح من أفواه الأموات المنحدرين إلى أرض السكوت، أي في القبور. لهذا يليق بنا أن نتعدى الوجود في القبور، لنسبح الله أبديًا. "لأن الهاوية لا تحمدك. الموت لا يسبحك. لا يرجو الهابطون إلى الجب أمانتك. الحيّ هو يحمدك كما أنا اليوم" (إش 38: 18-19). * العيد لا يعني التمتع بأكل اللحوم والملابس الفاخرة، ولا هو أيام للترف، إنما تكمن بهجته في معرفة الله وتقديم الشكر والحمد له. هذا الشكر وهذا الحمد، يقدمه القدِّيسون وحدهم الذين يعيشون في المسيح، إذ مكتوب: "ليس الأموات يسبحون الرب، ولا من ينحدر إلى أرض السكوت. أما نحن فنبارك الرب من الآن وإلى الدهر" (مز 115: 17-18). وهكذا كان الأمر مع حزقيا الذي خلُص من الموت، فسبح الله قائلًا: "لأن الهاوية لا تحمدك. الموت لا يسبحك... الحيّ هو يحمدك كما أنا اليوم" (إش 38: 18-19). فتسبيح الله وتمجيده هو من اختصاص الذين يحيون في المسيح وحدهم، هؤلاء يصعدون إلى العيد، لأن الفصح ليس للأمم (الوثنيين عابدي الأصنام)، ولا للذين هم يهود بحسب الجسد، بل للذين يعرفون الحق، وذلك كما يقول ذاك الذي أرسل للإعلان عن مثل هذا العيد، "لأن فصحنا أيضًا المسيح، قد ذُبح لأجلنا". لذلك وإن كان الأشرار يقحمون أنفسهم لكي يحفظوا العيد، بينما عمل العيد هو تمجيد الله، لهذا فإنهم كأشرارٍ يقتحمون متطفلين في دخولهم كنيسة القدِّيسين. هؤلاء يوبخهم الله معاتبًا كل واحدٍ منهم قائلًا: "ما لك تتحدث بفرائضي" (مز 50: 16). ويوبخهم الروح القدس قائلًا بأنه ليس للتسبيح مكان في فم الخاطئ (ابن سيراخ 15: 9)، ولا للخطية وجود في مذبح الله، لأن فم الخاطئ يتكلم في الأمور الجامحة، كقول المثل: "فم الأشرار ينبع شرورًا" (أم 15: 28). لأنه كيف يمكننا أن نسبح الله بفم دنس، إذ لا يمكن أن يتفق النقيضان معًا؟ لأنه أية خلطة للبرّ والإثم؟ وأية شركة للنور مع الظلمة؟ هذا ما يقوله بولس خادم الإنجيل (2 كو 6: 14). أما البار، فإنه وإن كان يظهر ميتًا عن العالم، لكنه يتجاسر فيقول: "أنا لا أموت، بل أحيا وأحدث بأعمالك العجيبة" (مز 118: 17)، فإنه حتى الله لا يخجل من أن يُدعى لهم إلهًا، هؤلاء الذين بحق يميتون أعضاءهم التي على الأرض (كو 3: 5)، ويحيون في المسيح الذي هو إله أحياء لا إله أموات، هذا الذي بكلمته ينعش كل البشر، ويعطيهم طعامًا يحيا به القدِّيسون، كما أعلن الرب قائلًا: "أنا هو خبز الحياة" (يو 6: 48). القديس أثناسيوس الرسولي القديس مقاريوس الكبير لكن مادام البعض الذين يعلمون بالأنبياء ولا يؤمنون بما هو مكتوب، ويجادلون ضدنا، مسيئين فهم ما كُتب بحق: "لذلك لا يقوم الأشرار في الدين" (مز 5:1). حسنًا يليق بنا أن نقابلهم بطريقة سطحية بقدر الإمكان، لأنه إذا قيل: "إن الأشرار لا يقومون في الدين"، فهذا يظهر أنهم سيقومون في الدين، لأن الله لا يحتاج إلى إمعان نظر طويل إليهم، بل بعد قيام الأشرار في الحال يذهبون إلى عقابهم. وإذا قيل: "ليس الأموات يسبحونك يا رب" (مز 17:115)، فهذا يظهر أن هذه الحياة فقط هي الوقت المعين للندم والمغفرة. "والذي يهبط إلى الهاوية لا يصعد" (أي 9:7). فالذين يسرون بها (الحياة) هم الذين سيسبحون الله، أما الذين ماتوا في الخطايا، فلا يبقى لهم وقت أن يسبحوا بعد الموت كمتمتعين بالبركات. إنما ينوحون على أنفسهم، لأن التسبيح لمن يشكر، والنحيب لمن هو تحت العقاب. لذلك يقوم الأتقياء بالتسبيح، أما الذين ماتوا في الخطايا فليس لهم وقت للاعتراف (الحمد) بعد ذلك[19]. القديس كيرلس الأورشليمي 4. لنبارك الرب! يمد الله يده ويبارك مؤمنيه، ويشعر المؤمنون أنهم في فكر الله على الدوام، يحفظ وعوده، أمين في تحقيق ميثاقه. أَمَّا نَحْنُ فَنُبَارِكُ الرَّبَّ، مِنَ الآنَ وَإِلَى الدَّهْرِ. هَلِّلُويَا [18]. يليق بالكنيسة أن تبارك الرب من الآن وإلى الأبد. حقًا إنها تواجه متاعب، لكن رجاءها في الله مخلصها، وتطلعها إلى الأمجاد الأبدية، يجعلها في فرحٍ دائمٍ حتى في لحظات التعب والألم. * كما أن ملكوت الشيطان يكون بقبول الخطية، فإن ملكوت الله يُنال بعمل الفضيلة في نقاوة قلب وبمعرفة روحية، وأينما وجد ملكوت السماوات فبالتأكيد تكون الحياة الأبدية بفرحٍ، وحيثما وجد ملكوت الشيطان، فبلا شك يوجد الموت والقبر. ومن يكون في ملكوت الشيطان، لن يقدر أن يحمد الله، إذ يخبرنا النبي قائلًا: "ليس الأموات يسبّحون الرب، ولا مَن ينحدر إلى أرض السكوت. أما نحن (الأحياء الذين نعيش لله وليس للخطية أو للعالم)، فنبارك الرب من الآن وإلى الدهر، هلليلويا" (مز 17:115، 18). "لأنهُ ليس في الموت ذكرك. في الهاوية (الخطية) مَنْ يحمدك" (مز 5:6). فالإنسان ليس كيفما كان،بل ولو دعا نفسه مسيحيًا آلاف المرات أو راهبًا لا يقدر أن يعترف بالله إن كان يخطئ متمسكًا بخطيته[20]. الأب موسى من وحي المزمور 115 أنت معيني وترسي! * نعمتك العجيبة تعمل فيّ. ليس لي أن افتخر بعملٍ ما. إنما رحمتك تسندني، وأمانتك تتعهدني. وعودك صادقة وأمينة. * في وقت ضيقي ليس لي إلا أن أدين نفسي. خطاياي تفسد سلامي. بنعمتك تغفر كل آثامي. * اعتز الوثنيون بأصنامهم، خاصة المصنوعة من ذهبٍ وفضةٍ. لم يدركوا أنها عاجزة عن الخلق، إذ هي نفسها من عمل أيدي الناس. لأعتز بك يا خالق السماء والأرض. فلا يكون للذهب ولا للفضة مكان في قلبي. لتحتل القلب كله، يا خالق الكل! * أشتاق أن أسمع صوتك العذب، يا خالق الفم. لأراك وأتمتع ببهائك. يا من صنعت لي عينين، وقدمت لي بصيرة داخلية لمعاينة أسرارك. أمل أذنك، فأنت وحدك تسمع أنات قلبي، وتدرك ما وراءها. هب لي رائحة أطيابك، فأصير موضع بهجة السمائيين. لتبسط يدك وتحتضني، فليس من معزٍ مثلك. دائمًا تبحث عني، وتسعى إليّ، لتردني إليك. * لتمتد يدك يا رب وتباركني. وليفرح قلبي بعمل نعمتك في حياة الكثيرين. فينضم إلى كنيسة المسيح كل اليوم الذين يخلصون، ينعمون بالحياة السماوية المطوّبة. |
||||
06 - 03 - 2014, 03:49 PM | رقم المشاركة : ( 117 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 116 (114، 115 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير الانطلاق إلى أرض الأحياءيضم هذا المزمور مزمورين حسب الترجمة السبعينية وهما مزمور 114 و115. يرى البعض أن واضع المزمور هو داود النبي بإعلان الروح القدس عندما كان شاول يحاول قتله أو أثناء تمرد ابنه أبشالوم عليه. لقد عانى مرة من المرض الشديد [3، 8]، وربما وضع في قيود [3، 16]. أدرك أنه أسير الموت [3]، وعلّة ذلك أن كل إنسان يكذب عليه [11]. لكن الله المحرر واهب الحياة، لا يشاء موت قديسيه، بل يسمح لهم بالموت كجزء من خطته الإلهية المحبوبة (مز 31: 15؛ 139: 6). شعر المرتل كأن آلام الموت حوّطت به، فامتلأت نفسه قلقًا، لكن الرب أحسن إليه ووهبه تعزيات سماوية [7]. يعتبر هذا المزمور مسيانيًا، يشير إلى آلام السيد المسيح وموته ونصرته. يرى كثير من الآباء مثل القديسين يوحنا الذهبي الفم وباسيليوس الكبير وجيروم أنه يعَّبر عن صرخة قلب كل إنسان مؤمن روحي، مشتاقًا للتمتع بالحياة الأبدية ويعاني من التجارب والمتاعب التي تلحق به في هذه الحياة. ويرى القديس أغسطينوس أن هذه الأغنية يترنم بها كل إنسانٍ مع مصاف القديسين، إذ يشعر أنه كان كمن هو متغرب عن الرب أثناء رحلته في العالم، لكن الرب اجتذبه إليه، فالتهب قلبه بالحب نحو الله الذي سمع تضرعاته حين كان ضالًا، وميتًا، فرده إليه، وأعاد إليه الحياة، وضمه إلى جماعة القديسين. تستخدمه كنيسة إنجلترا في تقديم صلاة شكر عندما يُولد طفل. يراه كثيرون أنه مزمور شكر مبهج يقدمه المؤمن عندما ينقذه الرب من ضيقة. يبدأ المرتل المزمور يتضرع إلى الله ليميل بأذنيه وينصت إلى صرخات سجين في أسر الموت، وينتهي إلى كائن متهلل يسبح الله ويشكره ويمجده. 1. المجاهرة بالإيمان العملي 1-2. 2. الضيقة والخلاص 3-6. 3. رجوع النفس إلى راحتها الحقيقية 7-11. 4. ماذا أرد للرب؟ 12-15. 5. ذبيحة الحمد والشكر 16-19. من وحي المزمور 116 1. المجاهرة بالإيمان العملي أَحْبَبْتُ لأَنَّ الرَّبَّ يَسْمَعُ صَوْتِي تَضَرُّعَاتِي [1]. كلمة "أحببت" هنا تشير إلى التمتع بلذة صادقة وبهجة في الالتصاق بالرب والتعرف على إرادته الإلهية مع العرفان بالجميل والشكر لرحمته وحنوه. كما تعبَّر عن الرغبة في الالتصاق بالله والفرح بحضوره الدائم في أعماق النفس. حقًا تتهلل النفس وتمتلئ فرحًا حينما تدرك أن الله خالق السماوات والأرض، ينصت إليها، ويستجيب لها فيما هو لبنيانها. غير أن المرتل لم يقل "فرحت لأن الرب يسمع صوت تضرعاتي" وإنما يقول "أحببت". وكأنه إذ يتأمل حب الله له وتواضعه بأن يميل بأذنه ليسمع له ويستجيب لتضرعاته، تصير رأس كل الوصايا "حب الرب إلهك" أمرًا سهلًا بل وطبيعيًا. يرى القديس جيروم[1] كلمة "أحببت" جاءت في صيغة الماضي، بينما "يسمع صوتي" في صيغة المستقبل. فإننا نحب الرب دون أن ننتظر حتى يسمع تضرعاتنا، وإن كنا في ثقة أنه في الوقت المعين يستجيب تضرعاتنا. * ماذا يحب؟ الرب إلهه من كل قلبه... وكمكافأة لحبه يتقبل استجابة صلواته[2]. البابا أثناسيوس الرسولي الأب أنسيمُس الأورشليمي * "أحببت أن يسمع الرب صوت تضرعي". ليت النفس التي تتجول في تغرب عن الرب تغني هكذا. ليت الخروف الذي كان ضالًا يغني هكذا. ليت الابن الذي كان ميتًا فعاش وكان ضالًا فوُجد (لو 15: 6، 24)يفعل هذا...لنغنِ هكذا مع القديسين: "أحببت أن يسمع الرب صوت تضرعي"[3]. القديس أغسطينوس فَأَدْعُوهُ مُدَّةَ حَيَاتِي [2]. كثيرًا ما يصور الكتاب المقدس الله وهو يتنازل ليميل بأذنه نحو الإنسان (مز 17: 6؛ 31: 2؛ 40: 1؛ 78: 1). ما أروع أن يدرك المؤمن أبوة الله الحقيقية، ويشعر بأنه يستمع لصرخات المسكين ويستجيب لطلبته. تعبير "أدعوه" يستخدم بمعنى "أعبده" (تك 4: 26)، خاصة ممارسة الصلاة، وأحيانًا تُستخدم بمعنى "أشكره". يرى القديس جيروم أن تعبير "مدة حياتي" جاءت لتعني "أيامي (بالنهار)". فالمؤمن حياته كلها نهار ونور، كما يقول الرسول بولس. لسنا نعرف الليل، لأن لا مكان للظلمة في قلوبنا، ولا أمام أعيننا، لأننا مسكن المسيح النور الحقيقي، ودومًا في حضرته. * "لأنه يميل أذنه إليّ" (مز 116: 2). لأننا صغار وأسفل، وعاجزون عن أن نرفع أنفسنا إليه، فإن الرب ينحني إلى أسفل نحونا في حنو رأفته متنازلًا للاستماع إلينا. في الحقيقة إذ نحن بشر ولا نستطيع أن نكون آلهة، فإن الله صار إنسانًا، وتنازل كما هو مكتوب: "طأطأ السماوات ونزل" (مز 18: 9). "فأدعوه مدة أيامي" هنا يثور سؤال طبيعي: كيف يدعو الإنسان الرب في وقت النهار (أيامه) ولا يصلي بالليل؟ ولماذا يقول مزمور آخر: "في منتصف الليل أقوم لأشكرك" (مز 119: 62). مادام القديسون يمارسون الصلاة بالليل؟ وفي مزمور آخر يقول: "بالليالي ارفعوا أيديكم نحو القدس، وباركوا الرب" (مز 134: 1-2). إذن ماذا يقصد المرتل عندما يقول: "أدعوه مدة أيامي (النهار)"؟ إنه لا يقول أدعوه (في الحاضر) وإنما سأدعوه في المستقبل. مادمنا في العالم الحاضر ندعو الرب بالليل، وفي العالم العتيد ندعوه في النهار. لهذا يقول المرتل: "في أيامي (النهار)، التي هي بالنسبة للخطاة ليل، وأما بالنسبة لي فهو نهار[4]. القديس جيروم ما هي أيامكم التي فيها دعوتموه؟ هل هي ملء الزمان حيث أرسل الله ابنه (غل 4: 4)، هذا الذي قال: "في وقت القبول استجبتك، وفي يوم الخلاص أعنتك" (إش 49: 8)... بالحري أدعو أيامي أيام بؤسي، أيام موتي، الأيام التي بحسب آدم مملوءة تعبًا وعرقًا، الأيام التي حسب الفساد القديم. إذ "غرقت في حمأة عميقة" (مز 69: 2)... في هذه الأيام دعوتك[5]. القديس أغسطينوس الأب أنسيمُس الأورشليمي 2. الضيقة والخلاص اكْتَنَفَتْنِي حِبَالُ الْمَوْتِ. أَصَابَتْنِي شَدَائِدُ الْهَاوِيَةِ. كَابَدْتُ ضِيقًا وَحُزْنًا [3]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "لأن أوجاع الموت قد اكتنفتني، وشدائد الجحيم أصابتني". ليس من وجه للمقارنة بين متاعب الجسد مهما اشتدت ومتاعب النفس، فقط تدفع الإنسان أحيانًا إلى اشتهاء الموت ولا يجده. لا ندهش إن كان المرتل وهو رجل الله يشعر أحيانًا أنه ليس واقفًا على جبلٍ عالٍ، بل يئن لأنه يسلك في وادي ظل الموت. ما يعنيه المرتل هنا بحبال الموت وشدائد الهاوية التعبير عن حالة الضيق والحزن والمرارة التي يعاني منها المرتل. يقارن القديس أغسطينوسبين حياة الإنسان وهو متغرب عن الرب في تيهٍ وضلالٍ، فيحسبها أيامه، وبين حياته في الرب حين جاء السيد في ملء الزمان وردنا إليه، فيحسبها أيام الرب. في أيام الإنسان يلهو بملذات العالم، وفي الحقيقة يسقط في فخ الهاوية وهو لا يدرى، ويصيبه الموت الأبدي، وهو يظن أنه يسعد بالحياة. أما في أيام الرب، فيتمتع المؤمن بالحياة الجديدة، ويتحرر من شدائد الهاوية. * أيامي تختلف عن أيام الرب. إنني أدعو هذه أيامي التي فيها تجاسرت بنفسي أقمتها لنفسي، والتي فيها هجرته... استحققت السجن، أي تقبلت ظلمة الجهالة وقيود الموت... في أيامي هذه "اكتنفتني حبال الموت، أصابتني شدائد الهاوية". ما كان للآلام أن تكتنفي، لو لم أضل عنك. الآن قد اكتنفتني، فلم أعد أجدها وأنا أتلذذ بترف العالم، حيث خدعتني بالأكثر شباك الهاوية[6]. القديس أغسطينوس "كابدت ضيقًا وحزنًا". لا يسعى القديس نحو الراحة بل نحو التعب؛ إنه يعرف "أن الضيق ينشئ صبرًا، والصبر تزكية، والتزكية رجاءً، والرجاء لا يُخزي" (رو 5: 3-5)... فإن كلمتك المُرة كانت لي للفرح والبهجة (راجع إر 15: 16). في هذا العالم لا أطلب سوى الضيق، لكي أنال السعادة والراحة في العالم التالي... إذ خرج شعب الرب من مصر جاء إلى مارة التي تعني مرارة، ومن مرارة إلى سيناء التي تعني تجربة. مرة أخرى يقول إرميا: "جلست وحدي لأني امتلأت مرارة" (راجع إر 15: 17)[7]. القديس جيروم الأب أنسيمُس الأورشليمي آهِ يَا رَبُّ نَجِّ نَفْسِي [4]. وسط الضيق الشديد لا يجد المؤمن سندًا حقيقيًا يعنيه سوى الالتجاء إلى الله. يقول القديس جيروم إنه جاءت كلمة "آه" في العبرية Anma والتي تعني "أتوسل وأتضرع". إذ يعاني النبي من ضيق خطير وحزن يستخدم أسلوب التضرع والتوسل. يرى القديس أغسطينوس أن المرتل أدرك أنه في ضيق وحزن، ليس فقط بسبب متاعب الحياة، وإنما حتى بملذات الحياة الزمنية ومقتنياتها. فإنه إذ ينال شيئًا زمنيًا، يخشى أن يفقده، فيحل به الحزن. لقد دعا اسم الرب ليحرره من الاتكال على العون البشري والتمتع بالملذات الزمنية، وبهذا يحيا في الحرية. إنه يليق بشعب الله المقدس أن يدعو اسم الرب للتمتع بهذه الحرية، وإذ يسمع الوثنيون ذلك يكتشفون أنهم في ضيق وحزن، فيدعون هم أيضًا اسم الرب. * بعد أن وجدت ضيقًا وحزنًا "باسم الرب دعوت"... ظننت أنني أفرح وأتهلل بعون الإنسان الباطل. لكنني إذ سمعت من ربي: "طوبى للحزانى لأنهم يتعزون" (مت 5: 4)، لم أنتظر حتى أفقد تلك البركات الزمنية التي أفرح بها وعندئذ أحزن، إنما صرت مهتمًا ببؤسي نفسه الذي جعلني أفرح بمثل هذه الأشياء، والتي أخشى أن أفقدها ومع ذلك لم أستطع أن أحفظها... وهكذا "باسم الرب دعوت. آه يا رب نجِ نفسي"[8]. القديس أغسطينوس وَإِلَهُنَا رَحِيمٌ [5]. كلمة "صديق" أو "بار" هنا وهي تخص الله إنما تعني عدل الله الذي ليس فيه ظلم أو إجحاف. إن كان الله يسمع صوت تضرعاتي ويميل أذنه إليّ كأب يحنو على ابنه، يود أن ينتشله من شباك الموت، فهو إله حنان وصدّيق (بار) ورحوم. في حنانه هو بار أو عادل، وفي عدله يؤدب لكنه يرحم. لا يمكن عزل رحمته عن عدله. حقًا الله عادل، ولا يستطيع أحد أن يتبرر أمامه. لكنه حنان ورحيم، يحوط عدله بالحنو والرحمة، يسبقه الحنان وتلحقه الرحمة، كما على اليمين واليسار. فمع تقديرنا لعدله يلزمنا أن نلجأ إلى حنوه ورحمته بالتوبة. إنه يطيل أناته على الإنسان في حنوٍ، وإذ لا يرتدع بالحنو يؤدب، وفي تأديبه ينتظر لكي يقبله كابنٍ له. يقول القديس أغسطينوس [يبدأ بالحنو، لكنه يؤدب، ويقبله، لأنه "يجلد كل ابن يقبله" (عب 12: 6). فجلداته لي ليست مُرَّة، مادام قبوله لي حلو[9].] * منتصر هو ذاك الذي يترجى نعمة الله، وليس الذي يعتمد على قوته الذاتية. لأنه لماذا لا تعتمد على النعمة، مادام لك ديان رحيم في الصراع؟ "الرب حنان وعادل، وإلهنا رحيم" (مز 116: 5 LXX). يُشار للرحمة مرتين، أما العدل فمرة واحدة. العدل في الوسط وتحوط به أسوار الرحمة من الجانبين. الخطايا مفرطة، لذا فلتكن الرحمة مفرطة. مع الرب يوجد فيض من كل القوات، إذ هو رب القوات. مع هذا لا توجد عدالة بدون رحمة، ولا يوجد عدل دون ممارسة الرحمة، لذلك كُتب: "لا تكن بارًا كثيرًا" (جا 7: 16). ما هو فوق القياس المطلوب لا تقدر أن تحتمله، حتى وإن كان صالحًا. احفظ القياس فتنال حسب القياس[10]. القديس أمبروسيوس القديس جيروم تَذَلَّلْتُ فَخَلَّصَنِي [6]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "الذي يحفظ الأطفال هو الرب. اتضعت فخلصني". كلمة "حافظ" هنا لا تقف عند الحراسة والحماية، لكنها تعني الحنو والاهتمام والرعاية الإلهية. كلمة "البسطاء" وردت في المزامير ثلاث مرات وفي الأمثال 13 مرة وفي حزقيال مرة واحدة. وهي تحمل معنى البساطة ووردت مرة واحدة بمعنى الغباوة أو الجهل في أمثال 9: 6. يرى البعض أنها تشير إلى الصغار أو الأطفال العاجزين على تدبير أمورهم بأنفسهم وحماية أنفسهم، والبعض يرى أنها تشير إلى الضعفاء في الفكر، الذين ليس لهم قدرة فكرية أو تعقل لتدبير حياتهم. كل إنسان في الحقيقة إن تأمل نفسه يدرك أنه ضمن فئة البسطاء العاجزين عن تحقيق اشتياقاتهم بأنفسهم دون العون لإلهي. "فخلصني" تعني "أنقذني" أو "أعانني" وهو تناسب الذين يعانون من مرض أو فقر أو ظلم أو تجربة أو إحباط أو ظلمة روحية. يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن المرتل يتطلع إلى الجنين الذي في بطن أمه، حيث لا حول له ولا قوة، يرعاه الله ويهتم وهو في الرحم، وأيضًا حين يخرج إلى العالم. هكذا من يشعر بضعفه وعجزه ويتكل على الرب، فالرب يحفظه ويخلصه. * كيف لا يحفظ الرب الصغار، مادام يجلد أولئك الذين عندما يصيروا بالغين ويطلب أن يجعلهم ورثة. لأنه أي ابن لا يؤدبه أبوه؟ كنت في بؤس وأعانني، لأن الألم الذي يسببه الطبيب بمشرطه ليس عقوبة بل هو صحيَّ[11]. القديس أغسطينوس "تذللت فخلصني" تفهم بطريقتين: إما أخطأت وهو خلصني، أو عندما تكبرت تواضع هو وخلصني[12]. القديس جيروم القديس إسحق السرياني القديس مقاريوس الكبير القديس أثناسيوس الرسولي لماذا ركز الناسك على التواضع وحده، تاركًا هذه جميعها إلى جنب بالرغم من احتياجنا إليها؟ إنه بهذا يُظهر لنا أنه لا يمكن لمخافة الرب أو الرحمة أو الإيمان أو ضبط النفس أو أية فضيلة أخرى أن تنمو بدون التواضع، هذا بجانب ما للتواضع من قدرة على إفساد كل سهام العدو. فجميع القديسين سلكوا طريق التواضع، وجاهدوا فيه: "أنظر إلى ذلي وتعبي، واغفر لي جميع خطاياي" (مز 18:25)، وأيضًا: "تذللت فخلصتني" (مز 6:116). الأب دوروثيؤس 3. رجوع النفس إلى راحتها الحقيقية ارْجِعِي يَا نَفْسِي إِلَى رَاحَتِكِ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْكِ [7]. لا نستطيع أن نتمتع بخلاص نفوسنا من الموت ما لم نتمتع بالراحة الحقيقية، أي بالمسيح يسوع نفسه. جاءت كلمة "راحة" بصيغة الجمع. كان كثير من مؤمني العهد القديم يظنون أن راحتهم هي السكنى في أرض الميعاد. لكن كما يقول الرسول بولس: "لأنه لو كان يشوع قد أراحهم لما تكلم بعد ذلك عن يومٍ آخر، إذ بقيت راحة لشعب الله" (عب 4: 8). راحة النفس الحقيقية هي التمتع بالشركة مع ربنا يسوع. فهو شبعنا وفرحنا وإكليلنا، أما الدخول إليه فيتحقق أيضًا به، إذ هو الطريق والحق والحياة. أوضح القديس يوحنا الذهبي الفم كيف استخدم طقس التجنيز التسبيح بالمزامير، إذ يقول: [فكر بماذا ترنم في هذه المناسبة؟ "ارجعي يا نفسي إلى موضع راحتك لأن الرب قد أحسن إليك" (مز 116: 7). وأيضًا: "لا أخاف شرًا لأنك أنت معي" (مز 23: 4). وأيضًا: "أنت ملجأي من الغم الذي أحاط بي" (مز 32: 7).. تأمل، ماذا تعني هذه المزامير؟ لكنك لا تعطي اهتمامًا لمعانيها، بل تسكر حزنًا. تأمل باهتمام أن الأحزان الخاصة بموت الغير إنما هي لعلاجك. "ارجعي يا نفسي إلى راحتك لأن الرب أحسن إليك". أخبرني، هل تقول إن الرب أحسن إليك وأنت تبكي؟ أما يكون هذا تمثيلًا، أو يكون رياءً؟ فإن كنت تؤمن حقًا بما تقول فلا موضع لحزنك، لكن إن كنت تقوم بدور تمثيلي وتظن أن هذه الأمور واهية، فلماذا تُغني بالمزامير...؟ لماذا لا تطرد المرتلين بها؟"[15]] * "ارجعي يا نفسي إلى راحتك، لأن الرب قد أحسن إليك". هذا معناه: ارجعي يا نفسي إلى الفردوس، ليس لأنكِ تستحقين ذلك، وإنما من أجل حنو الرب. خروجك من الفردوس كان من عمل رذيلتك، أما رجوعك إليه فهو من عمل حنو الرب. ليتنا أيضًا تقول لنفسك ارجعي إلى راحتك. راحتنا هو المسيح إلهنا. إن كنا في ضيقات عظيمة، وأفكارنا مستعدة أن تذعن للخطية، فلنصرخ: "ارجعي يا نفسي إلى راحتك"[16]. القديس جيروم القديس أغسطينوس * النفس بطبيعتها حسَّاسة للموسيقى، فلكي يحرم الله الشياطين من أن توحي للبشر بالأغاني الخليعة وضع لهم المزامير لحمايتهم، فهي نافعة ومحببة في نفس الوقت. بالأناشيد الروحية تنطلق النفس مع الشفتين بنعمة الروح القدس. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس باسيليوس الكبير الأب أنسيمُس الأورشليمي * يعرف (داود) أن الموت من أجل المسيح أكثر مجدًا من أن يحكم الإنسان هذا العالم، لأنه أي شيء أسمى من أن تكون ذبيحة من أجل المسيح؟ إذ نقرأ كثيرًا عن الذبائح التي قدمها داود للرب، مضيفًا هذه العبارة: "أقدم لك ذبيحة التسبيح"، لا يقول "أقدم ذبيحة، إنما "سأقدم لك ذبيحة"، بمعنى أن الذبيحة ستكمل عندما يقف كل واحدٍ أمام الرب، متحررًا من قيود هذا الجسد، ويقدم نفسه ذبيحة تسبيح. فقبل الموت لا تكمل تسبحة، ولا يستطيع أي أحدٍ في هذه الحياة أن يسبح تسبحة نهائية، لأن أعماله الأخيرة غير أكيدة. فالموت إذن هو تحرر النفس من الجسد[20]. القديس أمبروسيوس وَعَيْنِي مِنَ الدَّمْعَةِ، وَرِجْلَيَّ مِنَ الزَّلَقِ [8]. يصرخ المرتل فقد حلت به الشرور من كل جانب، لحقت بنفسه فدخلت بها إلى الموت، وبعينيه فلم تتوقف عن البكاء، وبرجليه فتعثرتا. لكن جاء المخلص لينقذ ويعين في الوقت المناسب وبالكمال. نعمته فيها كل الكفاية. لا يكف المؤمن عن الصراخ لمخلصه، فهو يحتاج دومًا إلى تطلع المخلص إليه! * من لا يبكي في العالم الحاضر، يسكب الدموع في العالم الآتي. "طوبى للحزانى لأنهم يتعزون" (مت 5: 5)... لأن قدمي لم يثبتا على الصخرة "كادت تزل قدماي، لولا قليل لزلقت خطواتي" (مز 73: 2). لقد ُأنقذت رجلي من الزلق. لماذا؟ لأن نفسي رجعت إلى راحتها[21]. القديس جيروم القديس باسيليوس الكبير جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "أرضي (سأرضي) الرب أمام كورة الأحياء". السلوك قدام الرب يشير إلى التحرك المستمر والنمو الدائم داخل كنيسة المسيح، حتى الرحيل إلى الحياة العتيدة. الحياة في المسيح يسوع حركة دائمة ومستمرة خلال نعمة الله للتمتع بالنمو الدائم، والصعود كما من مجدٍ إلى مجدٍ. ما يشغل قلب المرتل لا ما يقوله الناس، بل ما يراه الله عليه، لأنه سيقف أمام الله الفاحص القلوب. * يظن الناس أني بار، أنا الذي ليس لي أعمال صالحة. يظن الناس أني قديس، أنا الذي ليس لي كلمات صالحة. هكذا يقول داود والقديسون والرسل أيضًا، لأن الخطاة لا يقولون هذا. ماذا يقول البار؟ ليس لي أعمال صالحة ولا كلمات صالحة، ويظنون فيَّ أني قديس، ويمدحونني؛ لكنني أعرف ضميري. أنا أعلم بأي نوع من الأفكار يتلاطم قلبي من هنا وهناك.أنا أعرف كم من شهوات جامحة تمسك بي. إني "أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية" (رو 7: 24). ولهذا أصرخ: "ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت" (رو 7: 24)... لقد أطلت هذه العظة هكذا لتأكيد هذه النقطة أنه في العالم الحاضر ليس أحد قادرًا أن يكون بارًا بالتمام، لا داود ولا الرسل ولا أي أحد من القديسين. ليس أحد طاهرًا من خطية ولو كانت حياته يومًا واحدًا (أي 14: 4-5). حيث أن الرسل والقديسين لم يجسروا أن يقولوا "نحن قديسون"، ولا يجسرون أن يقولوا: "أرضي (الرب)" وإنما "سأرضي"، فإن النبي يعد بالنسبة للمستقبل بما يعترف أنه لم يفعله في الماضي: "سأرضي الرب"... أين سأرضي الرب؟ "في كورة الأحياء". هذه الأرض هي أرض الأموات، أما الأخرى فهي أرض الأحياء... لقد عرف (داود) هذا العالم ليس كأرض الأحياء بل أرض الأموات. هل تريد أن تعرف أرض الأحياء؟ يخبرنا الرب في الإنجيل: "أنا إله إبراهيم، وإله إسحق وإله يعقوب" (مت 22: 32)، وكانوا أمواتًا[23]. القديس جيروم الأب أنسيمُس الأورشليمي أَنَا تَذَلَّلْتُ جِدًّا [10]. لن يبقى الإيمان حبيس الفكر المجرد، إنما يُعلن خلال الكلام والسلوك، كما في داخل القلب والعقل. دائمًا يُعلَن الإيمان خلال الحياة العملية المقامة. يقول الرسول بولس: "فإذ لنا روح الإيمان عينه حسب المكتوب: آمنت لذلك تكلمت، نحن أيضًا نؤمن ولذلك نتكلم أيضًا. عالمين أن الذي أقام الرب يسوع، سيقيمنا نحن أيضًا بيسوع ويحضرنا معكم". (2 كو 4: 13-14). لن يبقى الإيمان معطلًا داخل القلب، إنما يلزم إعلانه بالسلوك العملي في المسيح يسوع. * بماذا أؤمن؟ أنني سأرضي الرب في كورة الأحياء. هذا هو ما أومن به، هذا هو السبب أني أتكلم. وما هو الذي أتكلم به؟ "أنا تذللت (تواضعت)". يا له من فهم عميق جدًا للمنطوق الإلهي! يقول: "آمنت أنني سأرضي الرب، سأصير ملاكًا، وسأكون في السماء، ولم أتكبر. لم انتفخ بل بالحري تذللت جدًا. وذلك بسبب مراحم الله العظيمة سأكون في أرض الأحياء. إنني أعرف نفسي جيدًا، إني تراب ورماد، لذا بالحقيقة تذللت. بماذا يفتخر التراب والرماد؟[24]" القديس جيروم القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي القديس أمبروسيوس كُلُّ إِنْسَانٍ كَاذِبٌ [11]. وسط الضيقات شعر كأن كل البشر حتى ألصق الأصدقاء له عاجزون عن تقديم أية مساعدة لائقة. جاءت كلمة "كاذب" هنا بمعنى "باطل". لقد فقد المرتل رجاءه في البشر، لهذا يلزمه أن يتكل على الله. هذا هو الطريق الآمن للخلاص من الظلمة والتمتع بالنور الحقيقي. لقد عانى الرسول بولس أيضًا، إذ قال: "الجميع تركوني". وإن كان قد وُجد من بين أحبائه من لم يخجل من سلسلته. قال أحد المختبرين: معارفي يملأون كاتدرائية ضخمة، وأصدقائي صاروا منبرًا للوعظ، لكن من يقدر أن يدخل أعماقي ويرد لي سلامي غير السيد المسيح. يرى القديس أغسطينوس أن الإنسان في حيرته يقول إن كل الناس كاذبون، هذا ما حدث مع القديس بطرس حينما اتكل على نفسه، فتعلم أن كل الناس كاذبون، فلا يتكل على ذراع بشر، حتى على ذراعه هو. * "أنا قلت في حيرتي كل الناس كاذبون". يقصد بالحيرة الخوف الذي يحدث عندما يهدد المضطهدون، وعندما تحل آلام عذابات الموت، وعندما يتألم الضعف البشري. نفهم ذلك لأن صوت الشهداء يُسمع في ها المزمور. تُستخدم الحيرة أيضًا بمعنى آخر، عندما لا يحل الخوف بالعقل، وإنما حينما يحل إيحاء خاص برؤيا[27]. * كنت في الأصل لا شيء وهو خلقني. كنت مفقودًا وهو بحث عني ووجدني. عندما كنت أسيرًا خلصني. اشتراني ورعاني. كنت عبدًا، وجعلني له أخًا؛ فماذا أرد للرب؟ ليس لديكم شيئًا تقدمونه له. فإنكم تطلبون منه كل شيء، فماذا تعطون؟[28] القديس أغسطينوس * "أنا قلت في حيرتي كل إنسانٍ كاذب"... ما يقوله النبي هو هذا: سأرضي الرب في كورة الأحياء، ومع هذا إذ أتطلع إلى الحياة البشرية وأتأمل في كل أنواع الخطأ لا أجد الحق في هذا العالم... هذا هو ما أقوله: كل ما نراه، وكل ما نتمعن فيه بفطنة هو كذب. كيف هو كذب؟ "كذب" هنا تُستخدم بمعنى "ظل"، كما لو كانت خيالًا. وكما يقول مزمور آخر: "إنما كخيالٍ يتمشى الإنسان" (مز 39: 7). بنفس المعنى يقول مزمورنا كما جاء بالعبرية، كل إنسان كاذب، بمعنى كل إنسان خيال[30]. القديس جيروم كلمة "كاذب" هنا بمعنى "باطل" و"فانٍ". وكأن قوله يعني أن سعادة الإنسان وغناه وعلمه زائل وسريع الزوال. كل ما كان موجودًا للإنسان في هذا العمر الحاضر، سريع التحول والانقلاب، إن كان مسرًا أو مضرًا، فلا يدوم على حالٍ واحدٍ مطلقًا. الأب أنسيمُس الأورشليمي الشهيد كبريانوس القديس غريغوريوس النيسي يوسابيوس أسقف إمسا القديس أغسطينوس القديس ديديموس الضرير 4. ماذا أرد للرب؟ مَاذَا أَرُدُّ لِلرَّبِّ مِنْ أَجْلِ كُلِّ حَسَنَاتِهِ لِي؟ [12]. لم يقل المرتل: ماذا أقدم أو أعطي الرب؟ لأن ليس للإنسان ما يقدمه للرب إلا أن يرد القليل مما وهبه الرب. حتى ما قدمه الشهداء للرب هو أن يردوا له الحب بالحب الذي وهبهم إياه بروحه القدوس، وقدموا دمهم مسفوكًا، مقابل سفكه دمه لأجل خلاصهم. أمام عطايا الله العجيبة، حيث وهبنا وجودنا نفسه من العدم، ووهبنا أن نكون على صورته، كما تجسد لكي يفدينا، ليس لنا ما نقدمه سوى ذبيحة الشكر. يرى القديس أغسطينوس أن المرتل يقدم الشكر لله لا من أجل عطاياه وإنما من أجل إحساناته أو صلاحه الذي يرده له. فالمرتل يشعر أنه يصنع شرًا، والرب يرد الشر بالخير. على عكس ما فعله الكرامون الذين لما رأوه قالوا: "هذا هو الوارث هلموا نقتله" (مت 21: 38)، فردوا صلاحه بالشر[36]. * بأي استحقاق أرد للرب؟ أنا طين، أنا تراب. إنه وعدني أنني سأرضيه في أرض الأحياء. جعلني معلمًا. لذلك آمنت وتكلمت. ماذا يليق بي لأقدمه مقابل هذا الإحسان وهذا الحنو؟ ما أعطيه هو بالحقيقة له، فأنا لا أعطيه، بل أرد له مما له. ليس لي ما أقدمه سوى أن أسفك دمي لأجله، وأن أموت شهيدًا من أجله. هذا هو الأمر الوحيد الذي أرده، أن أقدم الدم مقابل الدم. إذ خلصنا بواسطة المخلص، نفرح بسفك دمنا لأجله[37]. القديس جيروم القديس أنبا أنطونيوس أنبا ثيؤفيلس البطريرك الأب قيصريوس أسقف آرل لهذا عندما أدرك أحد القديسين النعمة مع عجزه عن أن يرد لله مقابلها، قال: "ماذا أرد للرب من أجل كثرة حسناته لي" (مز 116: 12). لأنه عوض الموت تقبل حياة، وبدل العبودية نال حرية، وبدل القبر وهب له ملكوت السماوات. لأنه منذ وقت قديم "تسلط الموت من آدم إلى موسى"، أما الآن فإن الصوت الإلهي قال: "اليوم تكون معي في الفردوس". وإذ يشعر الإنسان القديس بهذه النعمة يقول: "لولا أن الرب كان معي، لهلكت نفسي في الهاوية". علاوة على هذا، يشعر الإنسان بعجزه عن أن يرد للرب عن إحساناته، لكنه يعرف عطايا الله، كاتبًا في النهاية: "كأس الخلاص أتناول، وباسم الرب أدعو... عزيز في عينيّ الرب موت أتقيائه" (مز 116: 13، 15). القديس أثناسيوس الرسولي القديس أغسطينوس وَبِاسْمِ الرَّبِّ أَدْعُو [13]. كان الكاهن يقدم سكيبًا من الخمر على الذبيحة، إشارة إلى الفرح، لأن الخمر يشير إلى الفرح الروحي، وسط الآلام.وسط الآلام نتقبل من يد الرب كأس الخلاص، أو كأس الفرح الداخلي أو التعزيات الإلهية. لقد ارتبط طقس الفصح عند اليهود بأكثر من كأس يشترك فيه الحاضرون علامة الفرح الجماعي بخلاص الله. هذا ويرتبط هذا الكأس بالتسبيح بالمزامير. إذا قدم لنا الخلاص المجاني، ودفع الثمن على الصليب، يلذ لنا أن نُصلب معه، أي نشترك في الآلام. فإن الدعاء باسم الله لا يقف عند الطلبة بالشفتين، وإنما بالقلب كما بالعمل. * من لا يقبل كأس الخلاص ببهجةٍ وطيب نفس؟ من لا يشتهي بفرح وسرور أن يرد لربه شيئًا مما له؟ من لا يقبل بشجاعةٍ وبدون تردد الموت العزيز في عيني الرب، لكي يُسر عينيه، هذا الذي يتطلع علينا من فوق إلى أسفل، نحن الذين نصارع من أجل اسمه؛ يستند إرادتنا، ويعين في الجهاد لنوال الأكاليل مقابل الصبر والصلاح والحب، فيكلل فينا ما يهبه هو لنا، ويكرَّم ما حققه فينا؟[42] الشهيد كبريانوس القديس جيروم العلامة أوريجينوس مُقَابِلَ كُلِّ شَعْبِهِ [14]. اعتاد البعض أن ينذروا للرب نذورًا عندما يكونون في ضيقة. كانت النذور إما تقديم عطايا مالية أو ذبائح. وكان عند تقديم الذبائح يأخذ مقدم النذر جزءً من الذبيحة ويقيم وليمة يدعو إليها الأرامل والأيتام والفقراء ليشتركوا مع الأسرة في فرحهم بالله الذي يرعى شعبه، خاصة وسط الضيق. وكانت تسابيح الشكر لله أمر جوهري في مثل هذه الولائم. هنا يقدم المرتل النذور أمام كل الشعب لا حبًا في الظهور أو نوال مديح من أحدٍ، وإنما لبث روح الشكر لله والثقة فيه. ما هو نذرنا للرب، سوى التزامنا أن نسلك بما يليق بنا كأولاد له، وهبنا التبني، وأعطانا روحه القدوس، فنسلك حسب الروح لا الجسد. * الصلاة هي التي تقدم شيئًا كنذرٍ لله، ويسميها اليونانيون "نذرًا". فما جاء "أوفي نذوري للرب"، يُترجم عن اليونانية "أوفي صلواتي للرب"، كذلك نجد في سفر يشوع بن سيراخ: "إذا نذرت للرب نذرًا، فلا تؤخره أيضًا" (3:5)، وأيضًا في (تث 21:23) و (جا 4:5، 5) جاء في اليونانية بمعنى "إذا صلّيت صلاة للرب، فلا تتأخر في إيفائها"... ويكون إيفاء الصلاة هكذا: بزهدنا هذا العالم، وإماتتنا عن كل الأفعال العالمية... واعدين بأن نخدم الرب بنية صادقة من القلب. ونحن ننفذ الصلاة عندما نَعِد باحتقار الكرامة الأرضية، وازدرائنا بالغنى الزمني، ملتصقين بالرب في حزن قلبي وانسحاق روحي. ونصلّي عندما نَعِد بأن نعضد على الدوام نقاوة الجسد العُظمى والصبر الثابت، وعندما ننذر بأن نقتلع من قلوبنا جذور الغضب تمامًا، وأصل الحزن الذي يعمل للموت. أما إذا ضعفنا بالكسل وعُدنا إلى خطايانا القديمة، فإننا نكون قد فشلنا في إيفاء الصلاة، وبهذا نخطئ بصلواتنا ونذورنا، وتنطبق علينا هذه الكلمات: "إنه من الأفضل ألا ننذر عن أن ننذر ولا نفي"، والتي تطابقها في اليونانية أنه من الأفضل ألا نصلّي عن أن نصلّي ولا نفي[45]. الأب إسحق ليس شيء أو أحد في العالم يعادل عند الرب نفس الإنسان التقي. وإن كان موت الأتقياء عزيز في عيني الرب، فكم يكون موت رب الأتقياء القدوس من أجل تقديم الخلود وعدم الفساد والإكليل لمؤمنين به! * ثمين هو الموت الذي يجلب الخلود بتقديم الدم تكلفة له، والذي يقدم الإكليل... يا لفرح المسيح به![46] * ليته لا يفكر أحد في الموت بل في الخلود، لا في التأديب الزمني، بل في المجد الأبدي، فقد كُتب: "عزيز موت قديسيه"[47]. الشهيد كبريانوس 1. موت في الخطية - وهو شرير. 2. موت عن الخطية - وهو صالح. 3. موت محايد - ليس بصالحٍ ولا شريرٍ في ذاته، وهو ما نسميه بالموت "الجسماني" أو "العادي". * هؤلاء إذ ماتوا عن العالم، وجحدوا أموره، نالوا موتًا مكرمًا، فإنه: "عزيز في عيني الرب موت قديسيه"[50]. * القدِّيسون الذين يمارسون الفضيلة ممارسة حقيقية، "هؤلاء أماتوا أعضاءهم التي على الأرض، الزنا والنجاسة والهوى والشهوة الرديئة" (كو 3: 5)، فيتحقق فيهم، بسبب هذه النقاوة وعدم الدنس، وعد مخلصنا، "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 8). هؤلاء صاروا أمواتًا عن العالم، وازدروا بمقتنياته، مقتنين موتًا مشرفًا، إذ هو "عزيز في عينيّ الرب موت أتقيائه" (مز 116: 15). هؤلاء أيضًا قادرون على الاقتداء بالرسول القائل: "مع المسيح صلبت، لأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ" (غل 2: 20). هذه هي الحياة الحقيقية التي يحياها الإنسان في المسيح، فإنه وإن كان ميتًا عن العالم، إلاَّ أنه كما لو كان قاطنًا في السماء، منشغلًا في الأمور العلوية، كمن هو هائم في حب تلك السكنى السماوية، قائلًا: "فإن سيرتنا نحن هي في السماوات" (في 3: 2). القديس أثناسيوس الرسولي "كريم أمام الرب موت قديسيه" (مز 116: 15). العمل اللائق الذي نستطيع أن نعمله نظير ما فعله معنا، هو أن نقدم دمًا بدمٍ. وبما أننا اُفتدينا بدم المسيح، فلائق بنا أن نقدم حياتنا لمن افتدانا. القدِّيس إبرونيموس ابونيوس Aponius الأب قيصريوس أسقف آرل القديس يوحنا الذهبي الفم 5. ذبيحة الحمد والشكر <SPAN lang=ar-sa> آهِ يَا رَبُّ. لأَنِّي عَبْدُكَ. أَنَا عَبْدُكَ، ابْنُ أَمَتِكَ. حَلَلْتَ قُيُودِي [16]. يؤكد المرتل مدى التصاقه بالرب، فهو عبد للرب وابن لأمته، يرتبط بالرب الذي يحرره من قيود الحزن. * في حبٍ أبديٍ لا نهائي يتقدم يسوع ليحمل خطاياي وخطاياك. متَّهمًا بالتجديف وفعل الشر، وفي هذا يُساق للذبح دون أن يفتح فاه! <FONT size=6>"فأخذ يهوذا الجند وخدامًا من عند |
||||
06 - 03 - 2014, 03:51 PM | رقم المشاركة : ( 118 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 117 (116 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير بركة لكل الأممظن البعض أن هذا المزمور هو مجرد مجدلة ختامية لأي مزمور آخر، غير أن النص العبري يؤكد بطلان هذا الرأي، بل هو مزمور كامل مستقل. في الحقيقة هو قصيدة قصيرة، لكنها تقدم مشاعر حيَّة ملتهبة[1]. هو مزمور مسياني، ونبوة خاصة بقبول كل الأمم الإيمان، وقيام كنيسة العهد الجديد. تسبح به الكنيسة في بدء مزامير الغروب، إشارة إلى قيام الكنيسة في ملء الزمان، وانفتاح باب الإيمان أمام الأمم بكونهم أصحاب الساعة الحادية عشرة. مع صغر حجم المزمور إلا أنه غاية في العذوبة يعطي رجاءً في قبول العالم للسيد المسيح، وبث روح التسبيح والحمد لله في كل موضع. قام السيد المسيح بشرح هذا المزمور عمليًا قبل صعوده مباشرة، إذ قال لتلاميذه: "دُفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض. فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم له. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (مت 28: 18-20؛ راجع مر 16: 15-16). أخيرًا فقد جاء هذا المزمور المختصر للغاية كما أيضًا المزمور 119 الذي يُدعى بالمزمور الكبير، وكأن العبادة لا تُقاس بالزمن وطول العبادة أو قُصرها، إنما بعمق العبادة وحرارتها الروحية. يشتهي الله أن يكون شعبه كله بركة لكل الأمم، فيكون الكل بالحق أبناء إبراهيم الذي نال وعدًا إلهيًا: "وتكون بركة" (تك 12: 2)، وتتحقق وصية السيد المسيح لتلاميذه أن يصيروا بركة للعالم كله (مت 28: 18-20). لقد قدم السيد المسيح الخلاص لحساب العالم على الصليب، وأرسل لنا روحه القدوس لنكون بركة لمن نعرفهم ومن لا نعرفهم. إنه مزمور مفرح يهب النفس طمأنينة أن معرفة الله تنتشر في كل المسكونة، كما تملأ المياه المحيطات. سَبِّحُوا الرَّبَّ يَا كُلَّ الأُمَمِ. احَمِّدُوهُ يَا كُلَّ الشُّعُوبِ [1] هذه نبوة تعلن عن حب الله لكل البشرية واشتياقه أن يتمتع الكل بخلاصه، وأن يتحول الجميع مع الطغمات السمائية إلى خورس للتسبيح. كثيرًا ما عانى شعب إسرائيل من العجز في تقديم تسابيح لائقة بقدسية الهيكل. أما الآن فإذ تشترك كل الأمم في التسبيح لله، تُقدم بأيادٍ طاهرة وقلوب نقية. لقد وعد السيد المسيح نفسه: "لي خراف ُأخر ليست من هذه الحظيرة، ينبغي أن آتي بتلك أيضًا، فتسمع صوتي، وتكون رعية واحدة وراع واحد" (يو 10: 16-17). تحقق ذلك عندما بدأت الكرازة بين الأمم بدخول كرنيليوس الإيمان، إذ قيل: "كانوا يمجدون الله، قائلين إذًا أعطى الله الأمم أيضًا التوبة للحياة" (أع 11: 18). * يدعو المزمور ليس أمة واحدة ولا اثنتين ولا ثلاثة بل كل الأرض والبحر. هذا ما حدث فعلًا عندما أشرق مجيء المسيح. وبعد ذلك يشير إلى سبب خلاصهم، أنه ليس لأجل أعمالهم الصالحة قد خلصوا، ولا لأجل حياتهم ولا أجل ثقتهم، إنما من أجل حنوه وحده. "رحمته علينا قد ثبتت"... إنها قوية وأكثر صلابة من الصخر. إنها تنمو يومًا فيومًا (إذ يقبلها كثيرون)[2]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أمبروسياتر وَأَمَانَةُ الرَّبِّ إِلَى الدَّهْرِ. هَلِّلُويَا [2]. جاء في الترجمة السبعينية والقبطية: "لأن رحمته قد قويت علينا، وحق الرب يدوم إلى الدهر. هللويا". ظهرت رحمة الله بكل قوة في ثلاث حقائق إنجيلية هامة: قيامة السيد المسيح التي قدمت لنا الحياة الجديدة المُقامة، وصعود المسيح الذي فتح لنا أبواب السماء، وقبول الأمم للإيمان، حيث تحققت وعود الله بتجديد قلوب الأمم وأفكارهم للتمتع بوعود الله الصادقة. قبولهم للإنجيل أذهل العالم، وشهادة لأمانة الرب إلى الدهر. قدم إنجيل المسيح للمؤمنين عزاءً أبديًا ورجاءً صالحًا بالنعمة (2 تس 2: 16). قدم محبة الآب العملية، واهبًا الحياة الأبدية خلال ذبيحة الابن الوحيد الجنس. يرى القديس أغسطينوس أن المرتل يشير إلى أمرين: رحمة الرب وحق الرب أو عدله، وذلك كما ورد في المزمور 116: 5. خضع الأمم لاسم الرب خلال وعده بالرحمة للأتقياء، كما خلال تهديده الأشرار (بعدله). * يخبر هذا المزمور بأكثر إيضاح عن كرازة الرسل القديسين بالإنجيل في كل الأرض، وانضمام جميع الأمم ودخولهم إلى الإيمان بالمسيح، كما جاء في نبوة زكريا: "ترنمي وافرحي يا بنت صهيون، لأني هأنذا آتي وأسكن في وسطك، يقول الرب. فيتصل أمم كثيرة بالرب في ذلك اليوم، ويكونون لي شعبًا، فأسكن في وسطك، فتعلمين أن رب الجنود قد أرسلني إليك" (زك 2: 10-11). يقول زكريا النبي جهارًا إن الآب رب الجنود الذي أرسل الرب... الذي جعل الأمم شعبه. جاء ابنه الوحيد وسكن في كنيسته المقدسة. وقد قويت رحمته غالبة خطايا الأمم، وحق كلامه الذي أوصاه لأنبيائه سابقًا قد أنجزه. وهو يدوم إلى الدهر مع دوام الإيمان بالمسيح. الأب أنسيمُس الأورشليمي القديس يوحنا الذهبي الفم من وحي المزمور 117 لنصر جميعًا كنيسة واحدة مقدسة! * تسبحك يا رب نفسي، من أجل كثرة إحساناتك لي. بل وأدعو كل الأمم معي، لنقدم تسبحة الشكر على غنى حبك لنا. لن يستريح قلبي حتى أرى الكل قد اجتمعوا مع السمائيين. لنصر جميعًا كنيسة واحدة مقدسة! نلهج دومًا بحبك ورعايتك. * رحمتك يا رب هي سرّ قوتنا. حررتنا من عبودية إبليس، وأقمتنا أبناء لله الآب أبيك. حطمت متاريس الهاوية، وأعطيتنا جناحي الروح، فنطير وننطلق إليك. فتحت لنا أبواب السماء، وقدمت لنا برَّك برًّا لنا. حقك يسندنا إلى الأبد. لك المجد يا محب البشر! |
||||
06 - 03 - 2014, 03:56 PM | رقم المشاركة : ( 119 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 118 (117 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير هوشعنا (خلصنا)هذا المزمور هو خاتمة مزامير هلليل المصرية Egyptian Hallel. وهو خاص بمدخل الليتورجيا التي تُقام ربما عند باب الهيكل المدعو باب البرّ [19]. اعتاد اليهود أن يسبحوا في عيد الفصح المزامير 113-118. بهذا فإن السيد المسيح سبَّح هذه المزامير قبل ذهابه إلى البستان للقبض عليه (مت 26: 30). وكأن هذا المزمور هو سند للمؤمن بالمصلوب عندما يسقط الظلم عليه، حيث يتلمس يد الله القوية، ويرى الله يفتح له أبواب الحرية، ويحسب نفسه غير أهلٍ أن يشارك السيد المسيح آلامه. تطلع إليه آباء الكنيسة الأولين أنه مزمور مسياني. فقد صرخت الجماهير بالعبارتين 25-26 للفصح الجديد (مت 21: 9). كما اقتبس السيد المسيح العبارتين 22-23 في حواره مع قادة اليهود (مت 21: 33-46). اقتبس منه العهد الجديد (عب 13: 6؛ مر 12: 10-11؛ أع 4: 11، 1 بط 2: 7؛ مر 11: 9). بنيان مزمور ليتورجي يربط التقليد اليهودي هذا المزمور بعيد المظال. وجاء في المشناه Mishnah أنهم كانوا يلوحون بحزمة من سعف النخل وفروع الآس (نبات عطري) والصفصاف في بدء الترنم به وعند نهايته، ثم يضعون فروع الصفصاف على المذبح كمزمور ليتورجي يُستخدم في الأعياد، خاصة عيد المظال وعيد الفصح. نلاحظ أن كل الفئات تشترك فيه: الشعب والكاهن والملك، كما توجد تسبحة شخصية يتغنى بها المؤمن في حديث شخصي مع الرب. تزود المزامير 15، 24، 118 مدخل الليتورجيا في المناسبات الخاصة بتقديم الشكر له. كان الحجاج القادمين إلى أورشليم للاحتفال بعيد المظال يسبحون المزمور 118. كما يظهر من صُلب المزمور نفسه، إذ نلاحظ الآتي: أ. يشير عدد 15 إلى خيام الصديقين التي كان يعيش فيها المحتفلون بعيد المظال لمدة ثمانية أيام. ب. يشير عدد 24 إلى "اليوم"، فقد كان عيد المظال له تقديره الخاص عند اليهود فيدعونه "العيد" (نح 8: 14؛ مز 81: 4) دون ذكر اسم العيد، إذ هو عيد مميز. ج. وردت كلمة "هوشعنا" في عدد 26 وهو القرار الذي كان يتردد في هذا العيد، أو "مبارك الآتي باسم الرب". وهو نفس القرار الذي اُستخدم عند دخول السيد المسيح إلى أورشليم كملكٍ. د. أُشير إلى الأنوار في العدد 27، وهو طقس بارز لعيد المظال. كما كان هذا المزمور يُستخدم في طقس عيد الفصح أثناء ملء الكأس الرابع من الخمر. تستخدم العبارات 24-29 كلحنٍ خاصٍ بعيد القيامة في كثير من الكنائس في الشرق والغرب. تستخدمه الكنيسة القبطية في قراءات اليوم الثاني من عيد الصليب، بكون الصليب هو تمجيد لاسم يسوع المصلوب: "يمين الرب صانعه ببأس" [15]، يمين الرب مرتفعة، يمين الرب صانعة ببأسٍ [16]، "إلهي فأرفعك" [28]. مزمور ليتورجي وشخصي لهذا المزمور أهمية خاصة في حياة الكنيسة كما في حياة المؤمن الداخلية الشخصية: 1. هو المزمور الأخير من مزامير هلليل المصرية، يُسبح على لسان الشعب وهو خارج من مذلة عبودية فرعون. وكأنه قد سبح به الشعب أثناء تهليله بالخروج تحت قيادة موسى النبي مستلم الشريعة وهرون الكاهن. إنه مزمور كنيسة العهد الجديد المتهللة بالحرية التي صارت لها في المسيح يسوع كلمة الله ورئيس الكهنة السماوي. 2. مزمور أو تسبحة جماعية شخصية، تارة يستخدم صيغة الجمع وأخرى صيغة المفرد بالتناوب. إذ كان يشترك في تسبيح هذا المزمور الشعب والملك والكهنة كما كل مؤمن صادق ومخلص في علاقته مع الله مخلصه. 3. إنه تسبحة كل مؤمن يلمس يمين الرب الصانعة ببأس، يختبر قوة الصليب في حياته. هو تسبحة الأجيال كلها إلى أن يأتي الرب على السحاب في مجده ومجد أبيه، فتردد الكنيسة الجامعة: "خلصنا، مبارك الآتي باسم الرب" [26]. وهي تسبحة كل يوم يعيشه المؤمن فيشعر أنه يوم الرب لا يومه هو الذاتي، فيتغنى: "هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، نبتهج ونفرح فيه" [24]. 4. يمكن أن ندعو هذا المزمور "هوشعنا" [25]. بكونه تسبحة دخول السيد المسيح إلى أورشليمنا الداخلية، ليملك في قلوبنا، ويعلن نصرته على الشر، ويسترد ما قد سلبه إبليس! كما يمكن دعوته: "أبواب البرّ المفتوحة للرب". 1. حمد جماعي 1-4. 2. حمد شخصي 5-21. 3. تسبيح وصلاة للجماعة 22-25. 4. بركة كهنوتية 26-27. 5. تجاوب للملك 28. 6. ختام جماعي 29. من وحي المزمور 118 1. حمد جماعي يُفتتح المزمور بتسبيح جماعي، يردده كل الشعب بروح الفرح والقوة، يشكرون الرب على غنى رحمته. تقف الجماعة كلها لتدعو بيت هرون الكهنوتي وكل أتقياء الرب، ليشكروا الرب على مراحمه الغزيرة الدائمة إلى الأبد. اِحْمَدُوا الرَّبَّ، لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [1]. من الذي يدعو كل البشرية "أحمدوا الرب لأنه صالح..." ربما الملك في ذلك الحين أو رئيس الكهنة. إنه صوت كل مؤمنٍ الذي يتمتع بروح الملوكية، فيشتهي أن يرى البشرية كلها كنيسة المسيح الواحدة المقدسة، تسبح الله من أجل رحمته التي سجلها عمليًا على الصليب بسفك الدم الثمين! * بما أن الرب صالح، وبما أن رحمته دائمة إلى الأبد، لا يشاء موت الخاطي، بل يريد رجوعه وتوبته، فإذا أيها المشغولون بالخطايا اعترفوا له، معترفين بذنوبكم، واشكروه على رحمته. الأب أنسيمُس الأورشليمي إِنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [2]. يطلب المرتل من بيت إسرائيل أن يذكروا أعمال الله معهم منذ أطلقهم من عبودية فرعون، وجاء بهم إلى أرض الموعد كعربون لحرية مجد أولاد الله، مقدمين ذبيحة شكر لله، ومنهم تجسد كلمة الله ليقدم الخلاص للعالم كله. * "فليقل بيت إسرائيل إنه صالح. إن إلى الأبد رحمته" [2 LXX]. لماذا يشير إلى بيت إسرائيل الذي عانى من السبي بلا حدود. فقد اُستعبد في مصر، واُقتيد إلى أقاصي الأرض، وعانى متاعب لا حصر لها في فلسطين. يقول: حقًا إنهم على وجه الخصوص شهود لخيراته الكثيرة، وتمتعوا أكثر من غيرهم. أتعابهم ذاتها علامة على رعايته العظيمة. وإن فحصت الأمر بدقةٍ، فإنهم يلتزمون بتقديم التشكرات على مجيء المسيح منهم فوق كل شيء. أقصد إن كانوا قد عانوا من محنٍ، فبسبب جحودهم، لا بسبب من جاء (يسوع المسيح). فقد جاء إليهم وكما ترون، وأخبرهم دومًا: "لم ُأرسل إلا إلى خراف إسرائيل الضالة" (مت 15: 24). كما قال للتلاميذ: "إلى طريق أمم لا تمضوا... بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (مت 10: 5، 6). وقال للمرأة الكنعانية: "ليس حسنًا أن يُؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب" (مت 15: 26). صنع كل شيء في الواقع، وشغل نفسه بخلاص هذا الشعب. الآن إن أظهروا أنهم ليسوا أهلًا لهذا الإحسان، فليفكروا في انحطاطهم وجحودهم الزائد[1]. القديس يوحنا الذهبي الفم إِنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [3]. بعد الطلب من الشعب، يطلب من بيت هرون أن يقدموا ذبيحة حمد وشكر لله، لأنه اختارهم للعمل الكهنوتي. فمن أجلهم أنزل نارًا من السماء لمساندتهم، وتزلزلت الأرض وابتلعت الذين مارسوا هذا العمل في حسدٍ لبيت هرون، كما جعل عصا هرون تفرخ لتؤيدهم. * هنا يدعو الكهنة كجماعة متميزة للتسبيح، مظهرًا إلى أي مدى يسبق الكهنوت الآخرين؛ كلما كانت أهميتهم (في الخدمة) أكثر من غيرهم يتمتعون بكرامة أعظم من الله، ليس لأجل كهنوتهم فحسب، وإنما لأجل أمور أخرى[2]. القديس يوحنا الذهبي الفم إِنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [4]. يقدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفم الأسباب التي بسببها لا يشعر البعض بأن رحمة الله عظيمة وإلى الأبد، وبالتالي يعجزون عن تسبيحه كما يجب: أ. الذين لديهم مشكلة في بصيرتهم الداخلية، فكما لا تستطيع العين الضعيفة أن تنظر في الشمس بسبب ضعفها، هكذا الضعفاء روحيًا يعجزون عن رؤية وإدراك معرفة الله، وذلك بسبب سمو حكمته التي تفوق الإدراك البشري. ب. وجود شهوات شريرة في حياة الجهال، تحرمهم وتعوقهم عن رؤية رحمة الله. ج. الجهل والانحراف في إدراك حقيقة الأمور والتطلع إليها. وذلك كمن لا يحتمل أن يرى أبًا يؤدب ابنه، فيظن أنه ينتقم منه، ولا يعمل لنفعه. د. من يخطئ في حكمه، فلا يعرف ما هو صالح مما هو شرير. هـ. من لا يبالي بخطاياه. و. من لا يدرك الفارق بين الله الذي لا يُعبر عنه والكائنات البشرية. ز. من لا يعرف حقيقة أن الله لا يريد أن يعلن كل شيءٍ دفعة واحدة، بل يعلن حكمته جزئيًا حسبما يقتضي الأمر. إذ لا يليق بالإنسان أن يبالغ في التعرف على أمورٍ لا يستطيع إدراكها، أو لم يحن الوقت المعين لإعلانها. * أتقياء الرب هم الأمميون الذين صارت لهم رحمة الله بحضور ربنا الذي أنقذهم من عدم الإيمان ومن عبادة الشياطين، وأنارهم، وزادهم نعمة أفضل من غيرهم... بما أن النعمة فاضت على الجميع على السواء، لأجل هذا يحث النبي داعيًا الكل إلى الشكر لله. الأب أنسيمُس الأورشليمي 2. حمد شخصي بعد الصوت الجماعي المفرح الذي يدعو كهنة الله وقديسيه للتسبيح [1-4]، يبدأ التسبيح بصوتٍ منفردٍ، ربما يقوم به الملك كما في العدد 28، أو رئيس الكهنة أو شخص متميز، حتى تتفاعل الجماعة مع الفرد. ويشعر الكل أن التسبحة يلزم أن تكون جماعية وشخصية في نفس الوقت. فالجماعة لا تُفقد العلاقة السرية بين الإنسان والله. والعلاقة الشخصية للمؤمن لا تغنيه عن العمل الجماعي. مِنَ الضِّيقِ دَعَوْتُ الرَّبَّ، فَأَجَابَنِي مِنَ الرُّحْبِ [5]. إن كان المرتل تحول من صيغة الجمع إلى صيغة المفرد، فإن المرتل حين يسبح، إنما يعبد الرب باسم الجماعة كلها، لأنه يحملها في قلبه. وحين تتعبد الجماعة بالروح والحق، إنما تقدم لله كل إنسان بشخصه، لأنها أم لجميع البشرية، وتشتهي ألا يهلك أحد. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم، إنه هنا يظهر صلاح الله وحنوه، فهو لا ينقذ من الضيق لأجل استحقاقنا، ولا من أجل أعمالٍ صالحةٍ فعلناها، وإنما من أجل الضيقة نفسها. فعندما أنقذ شعبه قال: "إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر، وسمعت صراخهم" (خر 3: 7). لم يقل رأيت فضيلة شعبي وتقدمهم، بل رأيت مذلتهم، وسمعت صراخهم. فهو أب رءوف يتحرك لخلاصهم من أجل الضيقة ذاتها. أما قول المرتل: "وأخرجني إلى السعة" أو "إلى الرحب"، فيكشف عن السبب الذي لأجله يسمح الله بالضيق: [الآن سمح بضيقتهم، لكي يجعل المتضايقين في حال أفضل وأسمى.] * كتب الرسول: نحن نفتخر بالأحزان، عالمين أن الحزن ينشئ صبرًا، والصبر امتحانًا، والامتحان رجاءً، والرجاء لا يخزى، لأن محبة الله انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا (رو 5: 5). وكما أن المصارع لا يسأل زوال الجهاد، بل يلتمس القوة والمعونة ومؤازرة عروضه، كذلك الصديق لا يطلب رفع الشدة عنه، لئلا يعدم الثواب، بل يسأل الرب الصبر. الأب أنسيمُس الأورشليمي مَاذَا يَصْنَعُ بِي الإِنْسَانُ؟ [6] لا يخاف خائف الرب إنسانًا ما، حتى إن اجتمعت كل البشرية كجيشٍ ضده، فإن حضرة الله في أعماقه تملأ حياته بتعزيات الروح وفرح السماء. نعمة الله تهبه منظورًا مستقبليًا مفرحًا. * يقولون: لماذا لا تسندكم (العناية الإلهيّة) حين تُضطهدون...؟ أي شر يصيبنا مادمنا نتطلع إلى الموت كانطلاق، به نذهب إلى الرب، وكأنما هو تغيير في الحياة، نخرج من حياة إلى حياة أخرى...؟! يقول كل منّا بثقة: "الرب لي معين فلا أخاف، ماذا يفعل بي الإنسان؟" (مز 118: 6). "فإن نفوس الأبرار في يد الرب لا يمسها أذى" (حك 3: 1)... إنهم يضطهدوننا ليس لأنّنا فعلة شر، لكنهم يظنون إنّنا كمسيحيين نخطئ ضدّ الحياة، وإنّنا نعمل ضدّ أنفسنا[3]. القديس إكليمنضس السكندري الله يحبكم يا أعزائي، لهذا فهو يجتذبكم بعيدًا من كل شيء ولا يربطكم به. إنه يتلف كل شيء ويسحبكم إليه[4]. القديس يوحنا الذهبي الفم فردوس الآباء وَأَنَا سَأَرَى بِأَعْدَائِي [7]. ما يشغل قلب المرتل أن الله هو معينه، لا يطلب الانتقام من أعدائه، أي الشياطين والخطايا، إنما يترك أمرهم في يدي الله. يحارب المؤمن في جهاده الروحي ضد إبليس والخطية، تحت قيادة رب المجد نفسه الذي جنده، "رئيس (قائد) خلاصنا" (عب ٢: ١٠)، القائد الذي غلب إبليس على الصليب، ولا يزال يغلبه خلالنا (رؤ ٨: ٣٧). * يصوب الشيطان سهامًا ضدي، لكن أنا معي سيف. هو معه قوس، أما أنا فجندي أحمل سلاحًا ثقيلًا... إنه حامل قوسٍ لكنه لا يجسر أن يقترب إليّ، إذ يلقى بسهامه من بعيد[5]. * لا ندع اليأس يتملكنا، إذ لنا حوافز كثيرة في رجاء صالح، حتى وإن أخطأنا كل يوم، فلنتقرب إليه، متوسلين ومتضرعين، طالبين المغفرة من خطايانا، لأنه هكذا نبتعد عن الخطية أكثر، كلما حان الوقت العتيد الآتي، وهكذا نطرد الشيطان، ونستدعي محبة ورأفات الله، وننال بركات الدهر الآتي بنعمة ربنا يسوع المسيح ومحبته للإنسان[6]. القديس يوحنا الذهبي الفم * تضر الشيّاطين فقط الذين يخافون منها، الذين لا تحميهم يد الله القويّة العالية؛ الذين لم يتلقّنوا سرّ الحق. لكن الشيّاطين تخشى الأبرار. لاكتانتيوس حاول العدو أن يجذبه بنشوة الملذات، أما هو فإذ امتلأ غضبًا وحزنًا، حوَّل تفكيره إلى تهديد الله (للإنسان) بالنار والدود الذي لا يموت، فجاز التجربة دون أن يُمسَّ بأذى. كل هذا أخزى عدوَّه، لأنه إذ كان يعتبر نفسه كإله هزأ به شابٌ. ذاك الذي افتخر على اللحم والدم اضطر أن يهرب أمام إنسان في الجسد، لأن الرب كان يعمل مع أنطونيوس. الرب الذي من أجلنا أخذ جسدًا، يهب الجسد نُصرةً على إبليس حتى يستطيع كل من يحارب بإخلاصٍ أن يقول: "لستُ أنا، بل نعمة الله التي معي" (1 كو 15: 10). وأخيرًا لما عجز التنين عن غلبة أنطونيوس، ووجد نفسه أنه قد طُرد تمامًا من قلبه، صرَّ على أسنانه، كما هو مكتوبٌ، وخرج عن شكله وظهر لأنطونيوس كولدٍٍ قبيحٍ في شكلٍ منظور يتفق مع عقله. وإذ تظاهر بالتذلُّل أمامه لم يشأ أن يُلحّ عليه بأفكار فيما بعد، لأنه لما تنكَّر هُزِم أمامه. وأخيرًا، تكلم بصوتٍ بشريٍّ، وقال: "لقد خدعتُ كثيرين، وطرحتُ كثيرين، ولكنني برهنتُ على ضعفي، إذ هاجمتُك وهاجمتُ كل جهودك وأتعابك كما هاجمتُ كثيرين غيرك". فسأله أنطونيوس: "مَنْ أنت يا من تتكلم هكذا معي؟" أجاب بصوتٍ أسيفٍ: "أنا صديق الزنا، وقد التحفتُ بالإغراءات التي تدفع الشبان إلى الزنا، وأنا أُدعى روح الشهوة. كم خدعتُ كثيرين ممن أرادوا أن يعيشوا بالاحتشام! وما أكثر أهل العفة الذين أقنعتهم بإغراءاتي!؟ أنا الذي من أجلي يوبِّخ النبي أولئك الذين سقطوا قائلًا: "روح الزنا قد أضّلكم" (هو 4: 12)، لأنهم بي قد أُعثِروا. أنا الذي ضايقتك كثيرًا، وغُلِبتُ منك كثيرًا!" أما أنطونيوس، فإذ قدَّم الشكر للرب، قال له بكل شجاعةٍ: "إذًا فأنت حقيرٌ جدًا، لأنك مظلم القلب، وضعيف كطفلٍ، ومن الآن لن أجزع منك، لأنّ "الرب معيني، وأنا سأرى بأعدائي" (مز 118: 7)". وإذ سمع هذا هرب في الحال مرتجفًا من الكلام، ولم يجسر حتى على الاقتراب إلى الرجل. * إنه لأمرٌ عجيبٌ أنّ شخصًا وحيدًا في بريّةٍ كهذه لم يخشَ الشياطين التي هاجمته، ولا وحشية الوحوش والزحافات، لأنها كانت كثيرة جدًا، ولكنه حقًا كما هو مكتوب: "توكل على الرب مثل جبل صهيون" (مز 125: 1)، بإيمانٍ لا يتزعزع ولا يضطرب، حتى هربت الشياطين منه، ووحوش البرية سالمته كما هو مكتوب (أي 5: 23). بستان الرهبان خَيْرٌ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى إِنْسَانٍ [8]. وسط الاحتفالات بالعيد، إذ يتلامس المؤمن بحب الله الفائق وعمله الخلاصي، يعترف بثقته في الرب التي ترفعه تمامًا فوق كل اتكال على ذراعٍ بشريٍّ، حتى على ذراعه هو وقدراته وحكمته وخبرته ومعرفته. * ليس شيء أكثر وهنًا من هذا الرجاء. إنه أضعف من نسيج العنكبوت. أو بالحري ليس فقط ضعيفًا بل ومحفوف بالمخاطر. الذين لهم هذه العادة الخاصة بالثقة في الناس يتحققون من هذا، فإنهم يسحبون على الأرض بواسطة نفس هؤلاء الناس. أما الرجاء في الرب فعلى العكس ليس فقط قويًا بل وفيه أمان، غير معرض للتغير. لذلك قال بولس: "الرجاء لا يخزى" (رو 5: 5). ويقول حكيم آخر: "انظروا الأجيال القديمة، انظروا هل ترجى أحد الرب وخزي" (سي 2: 10)... إن خزيتم، فلأنكم لم تترجوا كما ينبغي[7]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي خَيْرٌ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى الرُّؤَسَاءِ [9]. ماذا يقصد هنا بالإنسان؟ إذ يتطلع المؤمن أثناء خروجه من عبودية فرعون، يدرك أن ما حدث ليس بقوة موسى النبي ولا هرون ولا غيرهما من القادة، إنما هو عمل إلهي سماوي فائق! يستخدم الله الرؤساء والقادة، لكنه هو العامل الحقيقي، الذي يبني البيت، ويحرس المدينة، ويهب النمو والثمر لكرمه. * (إلى الكاهن نيبوتيان) تجنب التسلية مع أهل العالم، خاصة الذين بسبب كرامتهم ابتلعهم الكبرياء. أنت كاهن المسيح الفقير والمصلوب الذي عاش على خبز الغرباء. إنه لأمر مُخزٍ بك أن يقف أمام بابك القنصل والرجال اللكتور lectors (موظفون مهمتهم إفساح الطريق للحاكم الروماني في الاحتفالات العامة)، وإن كان حاكم الولاية يجد مأدبته عندك أفخم من تلك التي في قصره. إن قدمت عذرًا بأنك ترغب في التشفع في البائسين والمظلومين، فإن القاضي العالمي يختلف عن رجل الدين الذي ينكر ذاته، ولا يكون غنيًا، فإنه سيقدر قداستك أكثر من ثروتك[8]. القديس جيروم بِاسْمِ الرَّبِّ أُبِيدُهُمْ [10]. لعل المرتل هنا هو الملك، وقد أحاطت به الأمم الوثنية التي لا تطيق عبادة الله الحي. إنها صورة رمزية كملكٍ روحيٍ لا يتوقف عدو الخير بكل قواته عن مقاومته. * يدعو النبي (الله) من أجل أوجاع البشر المختلفة، وأيضًا القوات الشريرة، ومحاربي الإيمان بالمسيح، لأن هؤلاء جميعهم يحوطون بالصديق، ويجتهدون على سقوطه، لأن سيرته تخاصمهم وتوبخهم. لكنه بقوة المسيح يقهرهم ويطردهم مهما كانوا. الأب أنسيمُس الأورشليمي بدأ الشيطان يتطلع إلى الإنسان كخليقة سفلية، إلا أنه كان له رجاء في الحياة الأبدية، بينما وهو من طبيعة أسمى منه سقط، وصار جزءً من الوجود السفلي[9]. القديس أمبروسيوس بِاسْمِ الرَّبِّ أُبِيدُهُمْ [11]. تارة يصفه الكتاب المقدس كتنين رهيب أو أسد يزمجر أو تمساحٍ يفترس الخ، وأخرى كثعلب صغير لا قوة له. فإن واجه الإنسان عدو الخير بقدراته الذاتية يرتعب أمام هذا العدو العنيف، وإن اختفى في نعمة الله يراه حقيرًا. عاجزًا عن الإضرار به. قيل عن إبليس في سفر أيوب: "أتلعب معه كالعصفور، أو تربطه لأجل فتياتك؟" (أي 41: 5). الطير الذي يُروض يمكن اللعب به لأجل التسلية والترفيه، لكن الأمر ليس هكذا بالنسبة للوياثان. لأجل التسلية تُصطاد الطيور، وتوضع في أقفاص، لتقف حولها الفتيات الصغيرات يتمتعن برؤيتها. في بعض البلاد غير المتقدمة يقوم الآباء بربط الطيور بخيط لكي ما يلهو به أطفالهم كنوعٍ من التسلية. * جلس الشيطان وقوات الظلمة ورؤساؤها منذ تعدى آدم الوصية في قلبه وعقله وجسده كأنه عرشهم. لهذا جاء الرب وأخذ جسده من العذراء. لأنه لو شاء أن ينزل إلينا بلاهوته المكشوف بدون جسد، من كان يستطيع الإنسان أن يحتمل ذلك؟ لهذا تكلم مع الناس بواسطة الجسد كأداة. بهذه الوسيلة قضى على أرواح الشر التي كانت قد اتخذت لها كرسيًا في الجسد، أي عروش العقل والفكر التي سكنت فيها، فقام الرب بتطهير الضمير وجعل لنفسه عرش العقل والأفكار والجسد[10]. القديس مقاريوس الكبير انْطَفَأُوا كَنَارِ الشَّوْكِ. بِاسْمِ الرَّبِّ أُبِيدُهُمْ [12]. يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن كنيسة المسيح هي النحلة الحكيمة التي مع صغرها تنتج عسلًا وشمعًا. أما الهراطقة، فإنهم يحاولون التشبه بالكنيسة لكي يبثوا عقائدهم الخاطئة. إنهم ليسوا نحلًا، وإنما "مثل النحل". * إن النحلة بصيغة المفرد التي كُتب عنها في سفر الأمثال هي كنيسة المسيح، لأنها تنتج عسلًا وشمعًا، وينتفع بها الملوك والعامة. تعاليمها لذيذة ومعتقداتها الإلهية مستقيمة. وقد شُبهت بالنحلة، لأن النحلة مُكرمة بسبب حكمتها، وهي صغيرة الحجم، لكنها قوية بشوكتها التي تلدغ بها من يهجم لإتلاف عسلها. كذلك كنيسة المسيح قبلت الحكمة وأكرمتها... ويُظن أنها صغيرة لعدم استعمالها العلم العالمي (الفلسفة)، لكنها بكلمة الحق تشق وتُمزق كلمة الهراطقة الذين يهاجمونها لإفساد تعليمها. هذه النحلة واحدة وفريدة، أما الهراطقة فكثيرون، ولم يدعُهم النبي نحلًا، بل مثل النحل، لأنهم زنابير يشبهون النحل وليسوا نحلًا. إنهم لا ينتجون عسلًا ولا شمعًا يُنتفع به، بل يفسدون عمل الخير، ويجتهدون على إتلاف ما كان جيدًا. وأيضًا دعاهم مثل النحل، لأن بكلامهم المموه يلذذون السماع، ويصنعون عسلًا ينقط من شفتي الزانية كما قال الحكيم. وعندما يلدغون بشوكتهم يهلكون أنفسهم ويبادون. فأقوال هؤلاء تترضض مثل الشوك؛ وتنسحق تحت مداس الأقوياء بالمسيح، ويحترقون بها في نار لا تُطفأ. إنهم يهجمون على النفس بالشهوة والغضب بشدة، ويوقدوا حريقهم السريع كالنار في أشواكهم، لكن الصديق يقهرهم بقوة الرب الإله. الأب أنسيمُس الأورشليمي القديس يوحنا الذهبي الفم أَمَّا الرَّبُّ فَعَضَدَنِي [13]. * عندما تبلغ الأمور إلى درجة اليأس من الرجاء البشري يقوم الله بالمساعدة من جانبه. حدث هذا في حالة جليات (1 صم 17)، وأيضًا بنفس الطريقة مع الرسل. لذلك قال بولس: "لكن كان لنا في أنفسنا حكم الموت، لكي لا نكون متكلين على أنفسنا، بل على الله الذي يقيم الأموات" (2 كو 1: 9)[12]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأنبا بفنوتيوس وَقَدْ صَارَ لِي خَلاَصًا [14]. هذه التسبحة الرائعة: "قوتي وتسبحتي (ترنمي) هو الرب، وقد صار لي خلاصًا"، تسبحة النصرة التي كثيرًا ما كان يرددها الأنبياء (خر 15: 2؛ إش 12: 2) وتنشدها الكنيسة، خاصة في يوم الجمعة العظيمة. يعلق الأب أنسيمُس الأورشليمي على كلمة "صار"، قائلًا بأن ابن الله كان وكائن ولم يزل كائنًا، أي هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد، لكنه "صار" بالنسبة لنا. وذلك كقول الرسول بولس: "صار لنا حكمة من الله وبرًّا وقداسة وفداء" (1 كو 1: 30). فعندما نصير حكماء به، ونتبرر من خطايانا، ونتطهر ونخلص من عبودية الخطية، يُقال عنه إنه صار لنا حكمة وبرًا الخ. هكذا أيضًا يقال إن الله الآب صيره مسيحًا وربًا، لا يعني أنه لم يكن مسيحًا ولا ربًا، ثم صار هكذا. وإنما عندما خضعنا له بالإيمان صار لنا ربًا، أي عرفناه أنه رب وملك على الكل. بهذا المعنى يقول المرتل: "قوتي وتسبحتي هو الرب، وقد صار لي خلاصًا. أي إني عرفت بأن الخلاص منه وأيضًا القوة، فأسبحه. * "قوتي وتسبحتي هو الرب، وقد صار لي خلاصًا". وكأنه يقول: "هو قوتي وعوني". الآن ما هي قوة قوله "تسبحتي"؟ مجدي وتسبحتي وزينتي وسموي! إنه ليس فقط يحرر من الخطر، وإنما يجعل الإنسان ساميًا ومشهورًا. في كل موضع يمكنكم أن تروا الخلاص مرتبطًا بالمجد. إنه يلمح إلى شيء مثل هذا... يقول: "بالنسبة لي هذه هي أغنيتي الدائمة، وصراخي المستمر، والتسبحة التي أقدمها له، هذا هو دوري أن أسبحه باستمرار. ليت أولئك الذين فسدوا بالأغاني الشيطانية يدركون الضرر المخيف الذي يخضعون له، مقدمين العذر بأنهم يجدون في أغاني الشيطان مرحًا، بينما يمجد المرتل المخلص باستمرار[14]. القديس يوحنا الذهبي الفم يقول بحسب الطبيعة البشرية التي أخذها إنه لا يستطيع عمل أي شيءٍ من نفسه، بينما نحن التراب والرماد نظن أننا لسنا في حاجة إلى معونة الله في ما يتعلق بخلاصنا. هكذا لنتعلم في كل شيءٍ أن نشعر بضعفنا الطبيعي، وفي نفس الوقت ندرك معونته، فنقول مع القديسين: "دحرتني دحورًا لأسقط، أما الرب فعضدني. قوتي وتسبحتي الرب، وقد صار لي خلاصًا" (مز 13:118-14)، "لولا أن الرب معيني لسكنت نفسي سريعًا أرض السكوت، إذ قلت قد زلّت قدماي، فرحمتك يا رب تعضدني" (مز 17:94-19). ناظرين أيضًا أن قلوبنا تتقوى في مخافة الرب وفي الصبر، فنقول: "وكان الرب سندي، أخرجني إلى الرحب" (مز 18: 18-19). وإذ نعلم أن المعرفة تنمو بالتقدم في العمل، نقول: "لأنك تضيء مصباحي أيها الرب، يا إلهي أنر ظلمتي، لأن بك أخلص من التجربة، وبك أتحصن". حينئذ نشعر نحن أنفسنا بالانتماء إلى الشجاعة والصبر، ونسير في طريق الفضيلة مباشرة وبسهولة عظيمة وبغير جهد، فنقول: "إنه الله الذي يمنطقني بالقوة، ويجعل طرقي كاملة، الذي يجعل قدميّ كقدميّ الإيل، ويجلسني في الأعالي، ويعلم يديّ الحرب"[15]. القديس يوحنا كاسيان يَمِينُ الرَّبِّ صَانِعَةٌ بِبَأْسٍ [15]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "صوت التهليل والخلاص في مساكن الأبرار". كان خورس المسبحين يرددون عددي 15، 16 بكونهما القرار. * لم تكن مساكن الأبرار مزخرفة ومزينة بفرشٍ ووسائدٍ، بل كانت مزينة بالصدقة والرحمة وضيافة الغرباء مثل خيمة إبراهيم وأمثاله. فكل من يجعل مسكنه بريئًا من الظلم والاغتصاب، يكون فيه صوت الابتهاج والخلاص. أيضًا مساكن الأبرار في هذه الحياة هي هياكل الله، وفي الدهر العتيد هي المنازل المُعدة لهم في ملكوته. وفي كليهما يوجد صوت الابتهاج مع التمجيد على الخلاص. وأما مساكن الأشرار، ففيها صراخ وقتال وشتائم، أجارنا الله منها. أما ثيؤدورس فقال إن غذاء الأبرار في الدهر العتيد فهو الابتهاج مع التمجيد لله. الأب أنسيمُس الأورشليمي القديس يوحنا الذهبي الفم يَمِينُ الرَّبِّ صَانِعَةٌ بِبَأْسٍ [16]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "يمين الرب صنعت قوة. يمين الرب رفعتني. يمين الرب صنعت قوة" [15-16]. * يمين الرب هو ابن الله، وأيضًا أعماله وقدرته التي بها يقوي شعبه وخاصته في مواجهة الذين يضطهدونهم، ويرفعهم، ويقهر أعداءهم. أما تثليث كلمة "يمين" فتدل على أن الله المثلث الأقانيم صنع بالإنسان ثلاثة أنواع من إحسانه: أولًا: يمين الله صنعت قوة، عندما أخذ ترابًا وجبل الإنسان على صورته ومثاله. ثانيًا: عندما أخذ أقنوم ابنه الطبيعة البشرية، ورفعها إلى فوق أعلى السماوات بصعوده، ومجدّها بمفاخر فائقة. ثالثًا: صنعت قوة عندما قدمت للإنسان مواهب الروح القدس التي هي شفاء الأمراض وصنع الآيات وأجناس الألسنة، وما شاكل هذا. وكما قال بولس الرسول: "أستطيع كل شيء في المسيح يسوع الذي يقويني". الأب أنسيمُس الأورشليمي القديس ديديموس الضرير وَأُحَدِّثُ بِأَعْمَالِ الرَّبِّ [17]. يمين الرب تعطي قوة لمن كانت معتقداته يمينية (مستقيمة)، وأعماله توجب له الوقوف عن يمين الديان العادل، وترفعه، وتبلغ به إلى عدم الموت الحاصل من الخطية، حتى يقول: "فلن أموت بعد، بل أحيا وأحدث بأعمال الرب" [17]. وإحساناته. أيضًا تنجيه من مصارعة معيشة الأشرار الجابلة للموت. * يقول: "لا أموت" الموت الآخر الذي أشار إليه المسيح بقوله: "من آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل من كان حيًا وآمن بي، فلن يموت إلى الأبد" (يو 11: 25-26) [18]. القديس يوحنا الذهبي الفم وَإِلَى الْمَوْتِ لَمْ يُسْلِمْنِي [18]. * "تأديبًا أدبني الرب، وإلى الموت لم يسلمني"... لا يشكر المرتل لأنه يتحرر (من الضيق)، وإنما يدرك أيضًا النعمة العظيمة التي نزل فيها، فأشار إلى فائدة التجربة. ما هي؟ يقول: "تأديبًا أدبني الرب". هذه هي قيمة المخاطر، فإنها تجعل الإنسان في حالة أفضل[19]. القديس يوحنا الذهبي الفم يظهر المعلِّم هذا التوبيخ حين يقول في الكتاب: "كم مرَّة أردتُ أن أجمع أولادك، كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا" (مت 23: 37). ويقول الكتاب أيضًا: "زنوا وراء الأصنام والحجر، وقرَّبوا محرقاتهم للبعل". إنه لدليل عظيم على حبِّه، فمع أنه يعرف خزي الذين رفضوه، وأنهم جروا بعيدًا عنه، مع ذلك يحثَّهم على التوبة. ويقول بحزقيال: "أما أنت يا ابن آدم، لا تخف أن تكلِّمهم، فربَّما يسمعون" (راجع حز 2: 6). ويقول لموسى: "اذهب وقل لفرعون أن يُطلق شعبي. ولكن أنا أعلم أنه لن يطلقهم." هنا يظهر كلا الأمرين: أُلوهيَّته، التي تظهر من سابق علمه بالذي سوف يحدث، وحبُّه، بإتاحته الفرصة لهم أن يختاروا التوبة لأنفسهم. وباهتمامه بالشعب وبَّخهم في إشعياء قائلًا: "هذا الشعب أكرمني بشفتيه، وأما قلبه فمُبتعد عنِّي" (إش 29: 13). ويقول أيضًا: "باطلًا يعبدونني، وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس" (مت 15: 9). هنا رعايته المُحبَّة تظهر خطاياهم والخلاص جنبًا إلى جنب[20]. القدِّيس إكليمنضس السكندري القديس أمبروسيوس الأب أنسيمُس الأورشليمي أَدْخُلْ فِيهَا، وَأَحْمَدِ الرَّبَّ [19]. لم يكن يُسمح للاشتراك في موكب العيد سوى لأتقياء الرب الذين يدخلون من أبواب البرّ. "ارفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن، وارتفعن أيتها الأبواب الدهريات، فيدخل ملك المجد" (مز 24: 7). * يتجاسر بعضكم فيفسر النبوة التي تقول: "ارتفعي أيتها الأبواب، وأنتم أيها الرؤساء، ارتفعن أيتها الأبواب الدهريات ليدخل ملك المجد" (مز 24: 7). البعض يفسرها أنها تنطبق على حزقيا، وآخرون منكم أنها تعني سليمان. لكنها لا تخص الأخير ولا الأول، ولا أحد الملوك الآخرين. فإن كانت تشير إلى ملكٍ، فهي تشير إلى مسيحنا وحده. هذا الذي ظهر بلا جمالٍ ولا مجدٍ كقول إشعياء وداود، والكتاب المقدس كله. إنه هو رب الجنود، الذي بإرادة الله (الآب) أسبغ عليه الكرامة، وقام أيضًا من الأموات وصعد إلى السماوات. وكما أعلن المزمور والكتاب المقدس أنه رب الجنود، ومن ثم يسهل عليكم أن تقتنعوا بالأحداث الماثلة أمام أعينكم[22]. * الفضائل العامة والجامعة هي أربع: البرّ (العدل) والفطنة والرجولة (النضوج) والعفة. هذه الأربع لها أبواب للدخول فيها، وهي الأعمال الصالحة الجزئية. هذه الأبواب، تُفتح لمن يقبل بنشاط تأديب الرب، والمهتم بخلاص نفسه. وتُغلق لمن لا يقبل تأديب الرب وللشرير. وكما أن أبواب السوء التي هي المعاصي مفتوحة لمن يُريد الراحة الزمنية ولا يهتم بخلاص نفسه، ومغلقة بالنسبة للأبرار، فأبواب الفضائل تفتح أبواب السماوات لمن يقرع عليها. أما أبواب الرذائل فتفتح لمتبعيها أبواب الجحيم. الأب أنسيمُس الأورشليمي يليق بالأبواب أن تؤمر بأن ترفع مداخلها وذلك حسب تدبير وسرّ الجسد، وفي توافقِ مع نصرة الصليب. إنه يعود فيدخل إلى السماء بأكثر قوة (حيث يدخل بكنيسته معه) عما كان عليه عند نزوله إلى الأرض[23]. القديس جيروم وتقول الكنيسة متحدثة عنه: "صوتُ أخي يطرق الباب". يقف، لكن ليس وحده، إذ يُحضر أمامه الملائكة قائلين: "ارتفعي أيتها الأبواب، وأيها القوات". أية أبواب، تلك التي يترنم بها المرتل، وفي موضع آخر أيضًا: "افتحي لي يا أبواب البرّ" (مز 118: 19). إذن افتحوا أبوابكم للمسيح، ليدخل إليكم. افتحوا أبواب البرّ، أبواب العفة، أبواب الجرأة والحكمة. آمنوا برسالة الملائكة، "ارتفعي أيتها الأبواب الدهرية، ليدخل ملك المجد، رب الصباؤوت". بابكم هو الاعتراف الجهوري عاليًا بصوتٍ مؤمنٍ: إنه باب الرب، الذي يشتاق الرسول أن ينفتح له، إذ يقول: "حتى يفتح لي (الرب) بابًا للكلام لأعلن (أجاهر) بسرّ المسيح" (كو 4: 3). فلينفتح إذن بابكم للمسيح. لا تفتحوه فقط، بل ارفعوه إن كان فعلًا بابًا دهريًا، وغير محكوم عليه بالهلاك، إذ هو مكتوب: "ارتفعي أيتها الأبواب الدهريات". لقد ارتفعت قائمة باب إشعياء النبي، حينما لمس الساروف شفتيه، ورأى إشعياء رب الصاباؤوت (إش 6)[24]. القديس أمبروسيوس تُفهم العبارة بالتأويل الرمزي، إنها أبواب السماء التي أُغلقت بالنسبة للأشرار، والتي يلزمكم أن تقرعوا عليها بالفضيلة والصدق والبرّ[25]. القديس يوحنا الذهبي الفم الصِّدِّيقُونَ يَدْخُلُونَ فِيهِ [20]. يبدأ الدخول من أبواب البرّ بصيغة المفرد ثم الجمع، ولعله يشير إلى دخول المسيح الأول كبكر القائمين من الأموات الذي يسبقنا بصعوده إلى السماء، فيفتح أبوابها لمؤمنيه الذين منه يُحسبون صديقين. كان للأبواب أو أقواس الزينة الخاصة بمناطق مقدسة أسماء ذات مدلولات معينة. كمثال عند جبل سيناء 4000 درجة تبلغ بالسائح أو الحاج إلى قمة الجبل، يعبر الإنسان إليها خلال "باب الاعتراف". * الذي يدخل أبواب فضائل كثيرة ينتهي إلى بابٍ واحدٍ، ليس له ثانٍ، وهو ربنا يسوع المسيح، كقوله: "أنا هو باب الخراف، إن دخل بي أحد، فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى" (يو 10: 9). هذا الباب لا يدخله أحد سوى الأبرار، لأنه يؤدي إلى معاينة الله، ولن يعاينه غير أنقياء القلب. إلى هذا الباب الواحد تهدينا أبواب الفضائل وأبواب التعاليم. أيضًا الشريعة والأنبياء طرقوا لنا منهجًا إلى المسيح المؤدي إلى حضن الله أبيه، وإلى ملكوت السماوات. هذا يبلغه السالكون الطريق الشاقة من الباب الضيق، لا الذين يحبون الراحة والسعة في هذا العالم. الأب أنسيمُس الأورشليمي كما يوجد الجبن، وهو باب للموت؛ في حين الشجاعة هي باب صهيون. نقص التعقل هو باب الموت، وعلى العكس التعقل هو باب صهيون. وفي مقابل جميع أبواب "العلم الكاذب الاسم" (1 تي 20:6) يوجد باب واحد يجابهها، هو باب المعرفة المنزهة عن الكذب. ولكن إذا وضعنا في الاعتبار أن "مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحمٍ" (أف 12:6)، يمكن القول إن كل قوة ورئيس عالم هذه الظلمة، وكل واحدٍ من "أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 12:6)، هو باب للجحيم والموت. العلامة أوريجينوس السُلَّم الذي رآه يعقوب هو رمز مخلِّصنا، الذي بواسطته يصعد الصدِّيقون من المملكة السفلى إلى المملكة العُليا[26]. القديس أفراهاط الحكيم الفارسي إنه باب البرّ الذي يفتح الطريق للحياة، كما هو مكتوب: "افتحوا لي أبواب البرّ، أدخل فيها، وأحمد الرب. هذا هو باب الرب، والصدّيقون يدخلون فيه" (مز ١١٨: ١٩-٢٠). الحب يقود إلى أعالٍ لا يُخبر بها! الحب يوحِّدنا مع الله، إذ "المحبّة تستر كثرة من الخطايا" (١ بط ٤: ٨؛ أم ١٠: ٢)... بالحب يصير مختارو الله كاملين، وبدونه ليس شيء يرضي الله. بالحب يأخذنا الرب إليه. بالحب يحملنا يسوع المسيح الذي أراق دمه عنّا بإرادة الله، وأعطانا جسده عن جسدنا، ونفسه عن نفوسنا. انظروا أيها الأحبّاء، كم هو عظيم - الحب - ومدهش! كماله لا يمكن وصفه...! يجلس الكاملون في الحب بالنعمة الإلهيّة في مجالس القدّيسين، ويظهرون عند إعلان ملكوت المسيح. القديس إكليمنضس الروماني القديس يوحنا الذهبي الفم لم يقل المزمور إن الرسل والشهداء، بل الصديقون يدخلون فيه. كل إنسانٍ يعيش في برّ ويتأهل أن يكون بين عبيد الرب المحبين يدخل منه، فإن الرب لا يطلب دم الذين يشهدون له، وإنما الإيمان الذي خلاله سفكوا الدم. إن كان إيماننا قويًا حتى الاستشهاد، فهذا يكون لحسابنا. القديس جيروم وَصِرْتَ لِي خَلاَصًا [21]. كما تسبحه الجماعة هكذا يسبحه كل عضو في الجماعة شخصيًا. فالخلاص مُقدم للجميع كما هو عطية إلهية، تُقدم لكل عضوٍ في الجماعة. * إنه يشكر، ليس من أجل ما وُهب له، وإنما من أجل ما تعلمه. هذا في الواقع السبب الذي سُمع له[28]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي 3. تسبيح وصلاة للجماعة يُقال إن الشعب كان يدور في موكب حول المذبح كل يوم من أيام عيد المظال، وفي اليوم الثامن يدورون سبع مرات وهم يسبحون. وبعد السبي صار الكهنة يفعلون هذا في "دار الكهنة". الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ، قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ [22]. حجر الزاوية هو أهم حجر في البناء، يربط الحوائط معًا في الأساس، وأيضًا يوجد حجر زاوية يربط قوس الباب معًا وهو في أعلى الباب يربط القوس بضلعيه عن اليمين واليسار على شكل حرف V، بدونه ينهار الباب، ولا يقدر أحد أن يعبر إلى المبنى. كأن حجر الزاوية مخفي في الأساس أسفل المبنى، وظاهر في الباب في أعلى المدخل، فهو الخفي والظاهر، الأول والآخر، بدونه لا يقوم المبنى، وبدونه لا يدخل أحد. إنه حجر الزاوية المرذول من الأشرار، يطلبون صلبه مع الكتبة والفريسيين. وهو المحبوب من الأبرار، يقيم منهم مبنى على الصخر، بل ويجعل منهم حجارة حية. يقول القديس ديديموس الضرير: [الذين يقبلون الإنجيل، والمولودون من زرع لا يفنى هم جنس مختار ومُزكى. وفي نفس الوقت يصيرون حجارة حيَّة مبنيين على قمة الحجر الحي، المختار والمُكرم، أساس الرسل والأنبياء، لكي يُقام بيت الله الروحي[29].] * هذا الحجر معناه هو ذاته ربنا يسوع المسيح كما جاء في الإنجيل المقدس. من أجله جاء في نبوة إشعياء قوله: "هأنذا أؤسس في صهيون حجرًا، حجر امتحان (منتخبًا)، حجر زاوية، كريمًا أساسًا مؤسسًا، من آمن (به) لا يخزى" (إش 28: 16). من أجله أيضًا جاء في نبوة دانيال: "قُطع حجر بغير يدين" (دا 2: 34)، وهو ربنا يسوع المسيح الذي وُلد من القديسة مريم البتول التي لم تعرف رجلًا، هذا الذي وضعه أساسًا لكنيسته المقدسة. هذا الحجر الذي رذله البناؤون، الذين هم الكتبة والفريسيون ورؤساء اليهود الذين دعاهم الروح القدس في نبوة حبقوق: "ويل للباني مدينة بالدماء، والمؤسس قرية بالإثم" (حب 2: 11)، هؤلاء لم يقبلوا إنذاره. صار رأس الجامعة الذي ضم الطائفتين: الذين آمنوا من أهل الختان، والذين من الأمم. هذا الاتحاد لم يحدث من قبل البشر، ولا الملائكة، لكنه من عمل الرب الذي جمع في أقنومٍ واحدٍ اللاهوت والناسوت، كما ضم الشعوب المتفرقة إلى إيمان واحد. وهذا أمر عجيب في أعيننا. الأب أنسيمُس الأورشليمي * لتتأملوا فقط في وضع المسيح بين اليهود والأمم، أليس هو حجر الزاوية؟ إنكم تشاهدون في حجر الزاوية نهاية حائط وبداية آخر. فتقيسون حائطًا إلى هذا الحجر، ومنه أيضًا تقيسون حائطًا آخر، لذلك فإن حجر الزاوية الذي يربط الحائطين يُحصى مرتين، لهذا فإن يكنيا في رمز للرب كان كما لو كان على مثال حجر الزاوية، فإذ لم يسمح له أن يملك على اليهود، بل عبروا إلى الأمم، كذلك بالنسبة للمسيح "الحجر الذي رفضه البناؤون، قد صار رأسًا للزاوية" (مز 118: 22). فينبغي أن يصل الإنجيل إلى الأمم[31]. * بدون حجر الزاوية الذي هو المسيح لا أرى كيف يمكن للبشر أن يُبنَّوا في بيت الله، لكي يسكن الله فيهم[32]. القديس أغسطينوس العلامة أوريجينوس القديس كيرلس الكبير القديس ديديموس الضرير اجتمع قادة الشعب معًا ضده، وأرادوا إسقاطه، لأن تعاليمه لم تسرهم. لكنه قال: "من سقط هو عليه يسحقه"، لأنه قاوم الوثنية من بين أمورٍ أخرى: "أما الحجر الذي ضرب التمثال، فصار جبلًا كبيرًا، وملأ الأرض كلها" (دا 2: 35)[36]. القديس مار أفرام السرياني القديس يوحنا الذهبي الفم تعجّب الشيخ من هذا الحديث، ولما رآه الإخوة متعجِّبًا ألقوا بأنفسهم على قدميه متوسلين إليه قائلين: "قُلْ لنا، يا أبانا، معنى هذا القول." فقال لهم: "يوجد سرٌّ عظيمٌ في هذا القول يا أولادي، هنا الحجر يُشبَّه بربنا يسوع المسيح كما هو مكتوبٌ بخصوصه: "الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية، من قِبَل الرب كان هذا، وهو عجيبٌ في أعيننا" (مز 118: 22-23؛ مت 21: 42). هذا هو أيضًا الحجر الحقيقي الكثير الثمن الذي لأجله باع التاجر كل مشتهيات قلبه واشتراه (مت13: 45-46)، ووضعه في خفايا قلبه، وقد وجده أحلى من العسل والشهد (مز 19: 10). هذا هو ربنا يسوع المسيح، لأنّ الإنسان الذي يحفظ هذا الحجر في قلبه سيأخذ أجرًا في مجد ربنا يسوع المسيح في ملكوت السماوات الأبدي. في الحقيقة إنّ ربنا يسوع المسيح قد جعل وجهه مثل حجر صلب، حسب قول الرسول: "الصخرة كانت هي المسيح" (1 كو 10: 4). وقد "بذل ظهره للضاربين، وخدّيه للناتفين، ووجهه لم يستر عن العار والبصق" (إش 50: 6) لأجل خلاصنا نحن البشر. وإذ ضغط ربنا يسوع المسيح علينا بواسطة الأمراض بسبب عظم محبته لنا تبقى النفس في عدم الموت بسبب نقاوة القلب من الأوجاع. والشيطان من ناحيته عاجزٌ مثل البوص، فإذا سقط على إنسان وسيطر عليه بطغيانه، ولم ينتبه إليه الإنسان، ولم يصرخ إلى صلاح الله، فعندما يسقط في أوجاع إبليس ينسحب روح الله من هذا الإنسان، وهكذا تموت النفس بالرغم من أنها تكون أيضًا في الجسد بسبب السُّكْر بالأوجاع ونتانتها. فردوس الآباء وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا [23]. * إذ يُرذل منكم، يصير حجر الزاوية؛ وتجتمع الكنيسة الأولى من اليهود والمؤمنين من الأمم، يوحدها في قطيع واحد، وسرّ إلهي واحد. "من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا" (مز 118: 23). إنه عجيب أننا نحن الذين قبل آلام الرب كنا بدون عهدٍ وبدون شريعة، يصير لنا التبني لله. وبينما المتزرون القدامى كانوا ينحلون ويسقطون، ينسج الله نفسه شعبًا آخر. أنتم لكم الكتب المقدسة، ونحن لنا فهم الكتب المقدسة. أنتم تقرأون الكتب، ونحن نؤمن بذاك الذي عنه كتبت الكتب. أنتم تلتصقون بالصفحات، ونحن نلتصق بمعاني الصفحات. أنتم تطوون جلد الحيوانات الميتة، ونحن نملك الروح واهب الحياة. أي شيء أكثر رعبًا من سرٍّ كهذا؟ القديس جيروم نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ فِيهِ [24]. من يسلك في شركة مع السيد المسيح، شمس البرّ، يسلك في النهار، وتصير حياته يومًا مفرحًا. أما من يعتزل مسيحه، فتكتنفه ظلمة الخطية، وتصير حياته ليلًا لا نور فيه. يرى القديس إيرينيؤس أن هذه العبارة تشير إلى مجيء السيد المسيح في اليهودية[38]. * ما هو معنى: "هذا صنعه الرب"؟ إنه ليس بصنع بشري أن يُعد حجر الزاوية... ولا بملائكة ولا رؤساء ملائكة. على أي الأحوال ليس لأحد سلطان، لا بار، ولا نبي، ولا ملاك، ولا رئيس ملائكة، إنما هو عمل الله نفسه. هذا العمل يمثل سمته فوق كل شيءٍ[39]. القديس يوحنا الذهبي الفم نقرأ أنه عندما خلق السماء والأرض، قال الله: "ليكن نور" وكان نور، ودعا الله النور نهارًا، والظلمة ليلًا (تك 3:4-6). لكن يوجد يوم آخر تأسس حسنًا وبطريقة محددة نمتدحه، يقول عنه الرسول: "لنسلك كما يليق بالنهار". ذاك اليوم عامة يُدعى "اليوم"، يتحقق بشروق الشمس وغروبها. غير أنه لا يزال يوجد يوم حيث يشرق كلمة الله على قلوب المؤمنين ويبدد الظلمة، لا عن الأعين، بل العادات الشريرة. لنعترف إذن بهذا النور. لنفرح فيه، ولنصغِ للرسول وهو يقول: "نحن أبناء النور، أبناء النهار، لسنا من ليلٍ ولا من ظلمةٍ" (راجع 1 تس 5:5)[40]. القديس أغسطينوس فمن أجل أعمال الرب هذه نبتهج ونفرح لقبولنا مواهبه بإشراقه. وقد دعا النبي هذه المدة يومًا، لأن أول يوم للخليقة كان رسمًا لها، والذي هو معتزل عن سائر الأيام التي خلقها الله، إذ خلق النور الذي بإشراقه وغروبه يصنع النهار والليل، اللذين بعد ذلك صارا اليوم، ولهذا دعاه الله "يومًا واحدًا". الأب أنسيمُس الأورشليمي أية سماء هذه؟ هي الثبات في الإيمان بالمسيح (لو 8: 15). وأية أرضٍ؟ هي القلب الصالح (إش 61: 11). أقول كما قال الرب، الأرض التي تشرب المطر الذي يسقط عليها، وتجعل السنابل حاملة الثمار تنضج. في هذه الخليقة الجديدة، الشمس هي الحياة النقية، والنجوم هي الفضائل، والهواء هو المدينة الطاهرة، والبحر هو عمق غنى الحكمة والمعرفة، الخضرة والعشب هما التعاليم الصالحة الإلهية، حيث يرعى شعب مرعاه (مز 75: 7)، أي رعية الله. والشجر الذي يثمر هو تتميم الوصايا. في هذا اليوم خُلق الإنسان الحقيقي، الذي صار بحسب صورة الله ومثاله (تك 1: 26)[41]. القديس غريغوريوس النيسي القديس كيرلس الكبير القديس أمبروسيوس * [عن أحد القيامة] كما أن العذراء مريم، والدة الرب، تحتل المكان الأول بين النساء، هكذا هذا اليوم هو أم الأيام بين كل الأيام. سأخبركم بشيءٍ جديدٍ، معتمدًا على الكتاب المقدس. هذا اليوم هو واحد من السبعة (أيام) وواحد يتعدى السبعة. يُدعى هذا اليوم بالثامن، وهو السبب في أن بعض المزامير عنوانها "لأجل الثامن for the octave". هذا هو اليوم الذي فيه ينتهي المجمع، وتُولد الكنيسة. هذا هو اليوم من جهة العدد، فإن ثمانية نفوس حفظت في فلك نوح (تك 7: 14)، وهو يطابق الكنيسة كقول بطرس (1 بط 3: 20-21)[45]. * اليوم (أحد القيامة) أزال المسيح - ومعه اللص - السيف الملتهب (تك 3: 24)، وأعاد فتح باب الفردوس الذي لا يستطيع أحد أن يقتحمه. اليوم يقول للملائكةٍ: "افتحوا لي باب البرّ فأدخل به، وأحمد الرب" (راجع مز 118: 19). ما أن فُتح الباب لم يعد يُغلق بالنسبة للذين يؤمنون[46]. القديس جيروم آهِ يَا رَبُّ أَنْقِذْ! [25] جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "يا رب تخلصنا؛ يا رب تسهل طريقنا". جاءت كلمة "خلص" هنا باليونانية ωσαννά "هوشعنا Hosanna". * الذين يمتلئون من إحسانات تجسدك خلصهم من شرك الخطية، ووفقهم، أي يسر سبيلهم إلى الصلاح. الأب أنسيمُس الأورشليمي 4. بركة كهنوتية تحمل صدى البركة الواردة في سفر العدد 6: 24-26. مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ. بَارَكْنَاكُمْ مِنْ بَيْتِ الرَّبِّ [26]. * يأتي العمال العاديون إلى ابن يوسف مرتلين: مبارك هو مجيئك يا سيد العاملين في كل موضع. أثر عملك يُرى في التابوت (خر 25: 10-16). وفي شكل خيمة الاجتماع (خر 26). في الجماعة التي كانت إلى حين فقط[47]. القديس مار أفرام السرياني أَوْثِقُوا الذَّبِيحَةَ بِرُبُطٍ إِلَى قُرُونِ الْمَذْبَحِ [27]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "رتبوا عيدًا في الواصلين إلى قرون المذبح". * لما رأى بعين روحية حضوره بالجسد إلى العالم، والخيرات الحاصلة منه للمؤمنين، امتلأ فرحًا، وطفق يعرفهم بقيام عيد وفرح من أجل إحسان الله... أما "الواصلين" (المكتنفين) فهما كاروبا المجد المصنوعان من الذهب، اللذان بأجنحتهما كانا يكتنفان ويظللان غطاء تابوت العهد من فوق. وأيضًا المكتنفون باليونانية تعني المتكاثرين. فالمعنى إذن: أقيموا عيدًا، واجتمعوا بالعيد، لتكونوا كثرة متكاتفة حتى تبلغوا إلى قرب المذبح... قول داود المغبوط: "أقيموا عيدًا في المكتنفين حتى قرون المذبح" فحواه ألقوا عيدًا بفرحٍ على ما نلتم من النعم، وقربوا له فضائل متكاثرة تبلغ حتى صليب المسيح... أي اقبلوا الموت لأجل محبته، والضيق والامتحان من أجل الإيمان، ناطقين بالحق. كما قال له المجد: "من أراد أن يتبعني فلينكر نفسه، ويحمل صليبه ويتبعني". قولوا: "إلهنا أنت كنز". الأب أنسيمُس الأورشليمي القديس كيرلس الكبير 5. تجاوب للملك للمرة الثانية نجد صوت انفرادي يقدمه الملك. إِلَهِي أَنْتَ فَأَحْمَدُكَ. إِلَهِي فَأَرْفَعُكَ [28]. 6. ختام جماعي احْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [29]. * لا يكفيه أن يقدم هذه الذبيحة، إنما يدعو الكثيرين لكي يشاركوه التسبيح والشكر، ويعلنوا عن حنو الله، ممجدين أبديته وعظمته في كل مكان[49]. القديس يوحنا الذهبي الفم من وحي المزمور 118 إنني أدعو الكل لنشترك جميعًا في تسبيحك! * أعماقي تصرخ إلى كل البشرية: هلم نسبح الرب ونشكره. نعترف له بخطايانا، ونلتصق به، لأنه وحده غافر الخطايا. * سمِّر خوفك في قلوبنا. فنحبك ونهابك، نحيا بك ونسبحك إلى الأبد. * أشكرك لأنك تسمح لي بالضيق. لأنك كأب تطلب بنيان نفسي. أصرخ إليك في ضيقي، لست أطلب خلاصًا من الضيق، إنما أن تدخل بي إلى السعة. تدخل بي وبإخوتي إلى رحب سماواتك. تدخل بنا إلى أحضانك، فنختبر نيران حبك العجيب. * في ضيقي لست أنشغل بالآلام، ولا أطلب من إنسانٍ أن ينقذني. إنما أتطلع إليك، أحتمي فيك يا ملجأ الصارخين إليك. لتهج كل قوات الظلمة عليّ، فإنها لن تسحب عيني عنك. تدفعني للهلاك، وتريد أن تلهب قلبي بنيران الإثم، لكنك أنت قوتي، فلن تحل بي هزيمة. أنت تسبحتي، فلن يأسرني الحزن الباطل. أنت خلاصي، فلن أهلك مادمت في يدك! تحول ضيقي إلى خبرة جديدة للتمتع بمراحمك. * يود العدو أن يحطمني بالضيق. بصلاحك تحول الضيق إلى طريق للالتقاء معك. أنت هو باب البرَّ، بل أنت هو البرّ عينه. لأدخل إلى أحضانك، والتصق ببرِّك، فيتحول كياني كله إلى قيثارة، يعزف عليها روحك القدوس. * أنت هو حجر الزاوية. أنت هو صخر الدهور. أنت هو باني نفسي! من يقدر أن يحطم عملك فيّ! أية قوة تقف أمام نعمتك! تجعل من أعماقي عجبًا! عوض فسادي، تهبني عدم الفساد! عوض أيامي، تهبني يومك الذي يشبهك. تصير حياتي كلها هي يومك، تصنعه بنفسك، ولا تأتمن خليقة ما على خلاصي. * إلهي كلما أسبحك يزداد لهيب قلبي شوقًا إليك. إنني أدعو الكل لنشترك جميعًا في تسبيحك! لتمتلئ كل قلوب البشرية بفرح الروح، وليجتمع الكل مع السمائيين، وتتحول حياتنا إلى فرح أبدي! |
||||
06 - 03 - 2014, 04:00 PM | رقم المشاركة : ( 120 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مقدمة مزمور 119 - تفسير سفر المزامير غنى كلمة الله ولذتهامزمور كلمة الله مقدمة يقسم المرتل البشرية إلي صنفين تسبحة التسابيح! سمات هذا المزمور الكلمات الإرشادية (مفتاح السفر) المزمور 119 (118) وبلوغ الكمال مركز التوراة عند اليهود سمات كلمة الله الإطار العام من وحي المزمور 119 هذا المزمور هو أطول أصحاح في الكتاب المقدس، يبدو أن لا علاقة له بأية مناسبة خاصة بالكنيسة اليهودية أو الأمة اليهودية 1، إنما يمجّد وصية الله، ويكشف عن كرامتها وسموها ونفعها؛ كما يعلن عن التلذذ بناموس الرب، ويشهد عن سمات الكتاب المقدس من جوانب متعددة، وذلك في شكل صلاة. قراءة هذا المزمور تكشف عن مفهوم داود النبي لكلمة الله، التي كانت مركز تفكيره واهتمامه وحبه، ولهجه ليلًا ونهارًا. في كل المزمور يوجد فقط عددان (122، 132) لا يتحدثان عن كلمة الله. يقسم البعض سفر المزامير إلي خمسة أقسام تقابل أسفار موسى الخمسة، وقد جاء هذا المزمور في القسم الخامس الذي يقابل سفر التثنية وهو سفر الوصايا أو سفر "الكلمة الإلهية". يقول J. R. Church2: [يقع هذا المزمور في الكتاب (القسم) الخامس من سفر المزامير، وهو يطابق الكتاب الخامس لأسفار موسى، أي "التثنية". لعلك تتذكر العنوان العبري للتثنية وهو "دابار Dabar" (يعني "كلمة") "مأخوذ عن تث 1:1 "هذا هو الكلام".[ يقسم المرتل البشرية إلي صنفين: Sermon 7:1. أ. الأتقياء، وهم الذين يرتبطون بكلمة الله، ليدركوا أرادة الله ويتمموها. إنهم يصلون بغيرة طالبين النمو في الحكمة الإلهية والتمتع بالفهم كعطية إلهية، كما يثابرون على طلب نعمة الله لكي تسندهم على ممارسة الوصية لعلهم يبلغون حياة الكمال. هؤلاء يختبرون الحياة المطوَّبة بالرغم من مقاومة الأشرار لهم، وتتحول كلمة الله بالنسبة لهم إلي تسبحة مفرحة تحمل عذوبة خاصة. حياة هؤلاء الأتقياء بما تحمله من قدسية ونقاوة مع استنارة وحكمة تكشف. عن صدق كلمة الله وقوتها. إنها شهادة حية وكتاب مقروء من الجميع، يترجم كلمة الله في حياة المؤمن التي ترفعه من مجدٍ إلي مجدٍ حتى تدخل به إلي كمال المستقبل المجيد.ب. الأشرار، وهم الذين يرفضون كلمة الله ويقاومونها، كما يقاومون من يتمسك بها، لكن خططهم تنتهي حتمًا بالفشل وينهزمون. تسبحة التسابيح! يتطلع آباء الكنيسة إلي سفر المزامير بكونه قلب الكتاب المقدس، يقدم لنا كلمة الله بلغة التسبيح والفرح حتى في أحلك اللحظات! ويترجم لنا السفر الشركة الحقيقية مع الله بلغة السمائيين وسط الواقع المرّ الذي يعيشه المؤمن. هذا المزمور هو أنشودة النفس التي تتمتع بكلمة الله وتختبر فاعليتها في حياتها اليومية، وبه تستعد لملاقاة العريس السماوي. لهذا يحتل المزمور مركز الصدارة في صلاة نصف الليل حيث تتجه الصلوات نحو مجيء العريس... وكأن الكنيسة تجد في هذا المزمور عزاءها بعد إجهاد اليوم كله وتعب الليل، فتتغنى للعريس "كلمة الله" الذي يأتي إليها ليحملها معه إلي شركة أمجاده. يقول القديس أغسطينوس: [هذا المزمور عميق جدًا، لا أستطيع الوصول إلي عمقه. ومع هذا فهو لا يحتاج إلي مفسرٍ، لكنه يحتاج إلي من يقرأه ومن يسمعه.] يقول Venn: [هذا هو المزمور الذي غالبًا ما كنت ألجأ إليه حين كنت لا أجد في قلبي روحًا للصلاة، بعد مدة تلتهب النار فيَّ وأستطيع أن أصلي1.] يتحدث هذا المزمور عن الشريعة الإلهية كسندٍ للمؤمن في غربته، فيرى فيها: 1. سرّ تعزيته وسط آلام البرية [16، 47، 103]. 2. سرّ تسبيحه وتهليل نفسه [54]. 3. سرّ غناه الداخلي [72]. 4. قائدة النفس ومرشدة لها وسط مضايقات الأعداء [16، 61، 62]. 5. سرّ حياته [25]. 6. سرّ الاستنارة [105، 135]. 7. أخيرًا تقدم له الوصية في روحها وأعماقها شخص المخلص، كلمة الله المتجسد، لذا يقول المرتل: "لكل كمال رأيت حدًا، أما وصاياك فواسعة جدًا" [96]. * تحمل الوصية في داخلها السيد المسيح؛ من يدخل إلي أعماقها ويعيشها بالروح يلتقي بالكلمة الإلهي نفسه. القديس مرقس الناسك سمات هذا المزمور 1. مدرسة صلاة: يعتبر هذا المزمور مدرسة صلاة نموذجية، تكشف عن حياة الصلاة من خلال الواقع الحيّ الذي عاشه المرتل، القائل: "أما أنا فصلاة" مز4:109. يمكننا من خلال هذا المزمور أن نكتشف كيف مارس المرتل الصلاة. أ. لا يفصل المرتل بين ناموس الرب الروحي أو وصيته أو كلمته وبين عبادته، خاصة الصلاة. فإن كان المزمور في جوهره هو تمجيد للوصية الإلهية إلا أنه قطعة صلاة رائعة. وكأن غاية الوصية هو دخولنا إلي الاتحاد مع الله القريب منا، بل والساكن فينا، نحاوره ويحاورنا، نناجيه ويناجينا، كما أن غاية الصلاة هو التمتع بطوباوية الطاعة الكاملة للوصية، حيث بالصلاة نطلب أن ينعم الله علىنا بمشيئته عاملة فينا. ب. في هذا المزمور نكتشف "وحدة الإنسان"، فلا يعرف المرتل ثنائية في حياته، إنما يشترك الجسد مع النفس، ويتناغم القلب مع الفم واللسان. فمن جهة يحرص المرتل على صلاة القلب الكاملة، إذ يقول: "من كل قلبي طلبتك، فلا تبعدني عن وصاياك" 10. "أخفيت أقوالك في قلبي" 11. "فهمني فأبحث عن ناموسك، واحفظه بكل قلبي..." "أمل قلبي إلي شهاداتك" 34،36. "ترضيت وجهك بكل قلبي" 58. "ليصر قلبي بلا عيب في عدلك، لكي لا أخزى" 80. "صرخت من كل قلبي فاستجب لي" 145. ومن جهة أخرى لا يتجاهل المرتل صلاة الفم واللسان ليشترك الجسد مع القلب: "تفيض شفتاي السبح إذا ما علمتنى حقوقك، ينطق لساني بأقوالك... " 171. هكذا يرى المرتل في كل كيانه قيثارة متنوعة الأوتار تقدم سيمفونية حب عملية خلال حياة الصلاة والطاعة يشترك فيها الجسد مع النفس! ج. مع كل نسمة من نسمات حياته يرفع المرتل قلبه للصلاة، فيتقدس كل زمان عمره بعمل الله فيه، لذا نراه يصلي كل حين [20]، طول النهار [97]، سبع مرات في النهار [164]، وفي الليل [55]، كما في نصف الليل [62]، وفي السحر [148]، وفي الصباح [147]. د. يناجى المرتل الثالوث القدوس، فيتحدث عن الآب [90،73] والابن [176] والروح القدس [131]. يمكننا تلخيص موضوع صلاة المرتل هنا في الآتي: * لكي يكشف له الله عن وصاياه. * لكي يعطيه فهمًا لإدراك أعماق الوصية. * لكي يتمتع بالنعمة الإلهية فيجد عذوبة في الوصية الصعبة فيشتاق إليها. * لكي يمارس الوصية الإلهية وينمو فيها. 2. هذا المزمور أساسًا هو مزمور تعلىمي أو إرشادي، وفي نفس الوقت هو تسبحة وصلاة، إذ يصعب فصل التعليم الروحي عن العبادة. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذا المزمور، قائلًا: [دعْ الفم يرنم والعقل يتهذب، فإن هذا ليس بالأمر القليل. فإننا ما أن نعلم اللسان التسبيح حتى تخجل النفس من أن تسلك طريقًا مضادًا لما تسَّبح به1.] يقولالقديس جيروم: [المزمور 118 (119) أبجدي في تكوينه، أخلاقي في سماته، ويحوي إرشادات لحياتنا2.] 3. يتطلع البعض إليه كمزمورٍ ليتورجي، يخص العبادة العامة. 4. يرى العلامة أوريجينوس أن استخدام المزمور للحروف الأبجدية كلها في بداية المقاطع بالترتيب يشير إلي احتوائه "اللاهوت الأدبي كله"، كما يقول: [على حسب معرفتي لا يوجد أي موضع آخر تناول موضوع "اللاهوت الأدبي" بإسهاب كما تناوله هذا المزمور.] ويرى القديس أثناسيوس الرسولي أن هذا المزمور يكشف لنا عن منهج حياة القديسين في جوانبها الثلاثة: الحرب الروحية، النعمة الإلهية، التمتع بالأمجاد الأبدية، إذ يقول: [يصف المرتل في هذا المزمور منهج حياة القديسين: * المحاربات والآلام والتجارب والهجمات الشيطانية وتسلل آلاف الأفكار والشِباك والفخاخ. * لكنه أيضًا يصف كل ما يسمح بالنصرة والغلبة: الناموس والتعلىم والصبر والعون القادم من العلى. * وأخيرًا يصف ما يحل بعد المتاعب من المكافآت والأكاليل.] 5. السمة المميزة لهذا المزمور هي الاقتناع العميق بأن حفظ وصايا الله لا يقوم على الجهد البشرى، إنما يحتاج إلي نعمة الله التي تهب الأرادة المقدسة والقدرة على تنفيذها كما تعطى لأولاد الله عذوبة لا يُنطق بها في التمتع بكلمته، لهذا تحقق هذا المزمور بطريقة عجيبة خلال نعمة الله التي وُهبت لنا في العهد الجديد لكي تنقش الوصية في قلوبنا (إر 31:31 -33). الوصية ليست مجرد إرشادات مسجلة في كتاب أو نسمعها خلال كلمة وعظ، وإنما هي عطية الروح القدس القادر وحده أن يسجلها في أعماقنا، فنختبرها كروحٍ وحياةٍ، ونتلمس فاعليتها في أعماقنا. الوصية في حقيقتها هي خبرة "الحياة المقامة"، لذلك كثيرًا ما يردد المرتل العبارة: "حسب قولك فأحيا"... هذه هبة روح الله الذي يعطينا شركة مع المسيح القائم من الأموات، لنقول: "أقامنا معه" أف 6:2، أي يهبنا الحياة المقامة الجديدة. 6 . يناسب هذا المزمور جميع المؤمنين في كل العصور، فهو يمثل صرخة النفس المتعطشه لله كي تعمل كلمته فيها، وتحميها من تجارب العدو الذي يحاربها من الداخل كما من الخارج. غير أن كثيرين يرون أنه مزمور يلائم بالأكثر الشباب الذين يسألون الرب الاستنارة الداخلية والقوة للعمل والجهاد بنعمته الغنية تحت قيادة كلمته العذبة. 7. يرى البعض أن الناموس أو كلمة الله هنا تحتل مكانة الله نفسه، وفي الحقيقة ابتداء من الآية 4 فصاعدًا ماعدا الآية 115 فإن كل آية هي مناجاة أو صلاة مقدمة لله 1، باستخدام أنواع عديدة من التوسل. إننا نمجد الناموس الإلهي، لأنه يعبر عن الله نفسه ويعلن عن أرادته للإنسان، هذا ولا يمكن فصل "كلمة الله" عنه بكونه أقنوم إلهي وهو واحد مع الآب والروح القدس في ذات جوهر الطبيعة الإلهية. ما يؤكده المرتل هنا هو أنه بقدر ما نقترب من الكلمة الإلهية نقترب من الله نفسه، وبقدر ما نحيا فيها نحيا مع الله. 8. يحمل المزمور طابعًا تأمليًا، حيث تظهر مشاعر المرتل وظروفه في شكل صلوات وتعجبات! 9. يقول كلارك: [كثير من القدامى، خاصة الآباء اليونان، يعتبرونه ملخصًا لحياة داود، حيث يعبَّر فيه عن كل الحالات التي مرّ بها، بما تشمله من محاكمات واضطهادات ومساعدات وتشجيعات تلقاها. ويرى الآباء اللاتين في المزمور أنه يشمل كل مبادئ السلوك الخاصة بالإنجيل، وأنه يحكم سلوك الإنسان في كل موقف من مواقف الحياة2.] يرى البعض أن داود لم يكتب هذا المزمور في ظرف معين واحدٍ، وإنما كان أشبه بمذكرات يومية3، بدأها في شبابه واستمر فيها حتى شيخوخته. كل المؤمنين مدعوون للتأمل فيه لكي يجد كل واحدٍ نفسه فيه مرة ومرات، متأملًا في قيمة كلمة الله الثمينة وعذوبتها ومجدها. احتفظ داود بمذكراته هذه مبرزًا أن كلمة الله هي موضوع سنده ولهجه وعذوبته منذ شبابه حتى شيخوخته، وها هو يقدمها لنا كي نقبل كلمة الله بكونه "الأول والآخر، البداية والنهاية" في كل حياتنا (رؤ 8:1). 10. يرى البعض أن السيد المسيح هو المتحدث في هذا المزمور. يقول J. R.Church: [يشير هذا المزمور بروح النبوة إلي ربنا يسوع المسيح الذي قُدم في إنجيل يوحنا أنه "كلمة الله"]. كما يقول أيضًا: [يوجد سبب آخر يجعلني أحسب المزمور 119 يشير بروح النبوة إلي يسوع المسيح. فهناك ثمان آيات لكل من الاثنين والعشرين مقطعًا (استيخون Stanza) التي لهذا المزمور، وأن رقم 8 هو الرقم الأوحد "للبداية الجديدة" (اليوم الأول من الأسبوع)، مشيرًا إلي أنه لا يوجد آخر سوى يسوع المسيح، فإن اسم "يسوع" في اليونانية يعادل رقم 888 وذلك مقابل رقم ضد المسيح 666 المذكور في رؤيا 18:13.1] ويقول Arno C. Gaebelein [إن رقم 8 هنا يشير إلي "الحياة من الموت"، فإن السيد المسيح لم يقم في اليوم السابع بل في الثامن، هذا يقدم لنا مفتاح السفر.2] ويرى العلامة أوريجينوس أن استخدام رقم 8 هنا له معناه الخاص، فإنه إذ يحوى المزمور 22 مقطعًا، وكل مقطع يبدأ بحرف من الأبجدية العبرية بالترتيب لكونه يضم كل اللاهوت الأدبي، فإن استخدام الحرف ثمان مرات يعني الدخول إلي كمال النقاوة والمعرفة، لأن النجاسة استمرت لمدة سبعة أيام حيث حُسب العالم أغلفًا، إلي أن جاء السيد المسيح وأختتن في اليوم الثامن فتمتعنا فيه بالطهارة والنقاوة .هذه الطهارة تحققت بعمل قيامة السيد المسيح، إذ قام في اليوم الثامن أو الأول من الأسبوع الجديد. يقول العلامة أوريجينوس [لقد تطهرنا جميعًا دون استثناء في ختان السيد المسيح، نحن الذين دُفنا وقُمنا معه كقول الرسول بولس (رو 4:6).] يلاحظ أن هذا المزمور أبجدي يضم 22 استيخونًا (مقطعًا) حسب عدد حروف الأبجدية العبرية، كل استيخون يحوي 8 عبارات تبدأ كلها بحرفٍ واحدٍ، وقد جاءت الحروف مرتبة ترتيبًا هجائيًا بالعبرية. واضع المزمور يرى بعض الدارسين الحديثين أن هذا المزمور من وضع عزرا الكاتب الذي اهتم بتجميع أسفار العهد القديم بعد السبي، فسجل هذا المزمور ليعبر عن فاعلية كلمة الله في حياة المؤمنين. غير أن التقليد اليهودي وأيضًا المسيحي ينسب المزمور لداود النبي، وقد نادى كثير من المفسرين المحدثين بذات الرأي. الكلمات الإرشادية (مفتاح السفر)3 يستخدم هذا المزمور مرادفات متعددة "للإعلان الإلهي" تصف كلمة الرب؛ يرى البعض أنها ثمانية، بينما يضيف إليها البعض المرادفين "طريق الرب، وحق الرب". وهي ليست مرادفات حرفية لغوية مجردة، إنما تشير إلي خصائص معينة لكلمة الله، توضح سموها وكمالاتها المتعددة. 1. الشريعة (الناموس أو التوراة torah): الكلمة العبرية (توراة) تعنى بالأكثر أسفار موسى الخمسة؛ وقد تكررت هذه الكلمة 25 مرة، وردت في كل استيخون (قطعة) فيما عدا الاستيخون "ب". المعنى الحرفي لكلمة "التوراة" هو "التعليم"، أي التعليم الذي استلمه موسى على جبل سيناء. وقد ترجمها اليهود الهيلينيون "أصحاب الفكر اليوناني، "نوموس"، أي "الناموس"1. جاءت الكلمة مشتقة من فعل معناه "يوجه"، "يقود"، "يهدف"، "يصَّوب إلي قدام". هكذا تُدعى كلمة الله "شريعة الرب" أو "ناموسه"، لأنها توجهنا أو تقودنا إلي التعرف على أرادة الله المقدسة، لكي تربطنا بالحياة المطوّبة (مز 1:1) وتهبنا سلام الله وحقه الإلهي خلال الطاعة له. يلزمنا الخضوع لناموسه بكونه ملكنا الذي يقود حياتنا بقانون مملكته؛ لكنه في هذا لا يطلب لنفسه سلطانًا علينا بل يعلن أرادته لكي نحملها فينا لبنياننا وتقديسنا. يحدثنا هذا المزمور عن حالة التطويب التي يعيش فيها الساكنون في شريعة الرب، فمن هم هؤلاء السالكون في ناموس الرب إلا الذين يتَّحدون بالسيد المسيح الرأس، الذي وحده بلا عيب، وقادر أن يهب جسده الطاعة لناموسه، لا على مستوى الحرف القاتل بل الروح الذي يبني؟! والطاعة لشريعة الرب هنا لا تعني التنفيذ الحرفي لطقوسها، إنما تتميمها في المسيح يسوع بعمل الروح القدس فينا، الذي هو روح المسيح. فلا يستطيع إنسان بذاته أن يتمم شريعة الرب أو ناموسه، لذلك صار الكل في حاجة إلي عمل السيد المسيح الذي تممه من أجل الذين هم تحت اللعنة، لأنه مكتوب: ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به" غلا 10:3. * ها أنتم ترون كيف يبرهن أن الذين يلتصقون بالناموس هم تحت اللعنة، إذ يستحيل عليهم أن يتمموه (غلا 10:3، 11)، ثم كيف جاء الإيمان يحمل قوة التبرير هذه... استبدل المسيح هذه اللعنة بلعنة أخرى: "ملعون كل من عُلق على خشبة"... لم يأخذ المسيح لعنة عدم التقوى بل اللعنة الأخرى، لكي ينتزع اللعنة عن الآخرين. "على أنه لم يعمل ظلمًا ولم يكن في فمه غش" إش 9:53. إذ بموته خلص الأموات من الموت، هكذا بحمله اللعنة في نفسه خلصهم منها2. القديس يوحنا الذهبي الفم * لم يُعطَ الناموس لشفاء الضعفاء، وإنما للكشف عن ضعفهم وإظهاره (غلا 19:3)... لقد تسلموا الناموس الذي لم يستطيعوا أن يتمموه. لقد عرفوا داءهم، والتمسوا عون الطبيب، مشتاقين أن يبرأوا إذ عرفوا أنهم في كربٍ، الأمر الذي ما كانوا يعرفونه لولا عدم قدرتهم على تتميم الناموس الذي تسلموه.3 القديس أغسطينوس 2. الشهادات (إيدوث edoth): وتعنى شهادة الله عن أرادته أو الكشف عنها لكي يسلك المؤمن حسبها. ويرى بعض الآباء أنها تعني الشهادة الإلهية عن الحب الحقيقي نحو الإنسان والذي تحقق في كماله عندما شهد السيد المسيح الشهادة الحسنة أمام بيلاطس بنطس، مسلمًا حياته مبذولة من أجل الإنسان. وتتحقق الشهادات بقبولنا هذا الحب وتجاوبنا معه بالحب، فنشهد عنه بتقديم حياتنا ذبيحة حيَّة مقدسة مرضية عند الله (رو 1:12). يُدعى الكتاب المقدس "شهادة (عهد) الله"، إذ يحوى شهادة عن فكر الله وأرادته، كما يحوى شهادة عن وعود الله لشعبه وتحقيقها خلال الصليب. هنا أيضًا إشارة إلي تابوت الشهادة أو تابوت العهد. فمن لا يحفظ وصايا الله لا يُحسب حافظًا لعهده معه بل كاسرًا له. 3. الفرائض أو الأوامر (Piqqudim): وردت 21 مرة في هذا المزمور، في كل الاستيخونات ماعدا ثلاث منها، كما وردت ثلاث مرات في أماكن أخرى في الكتاب المقدس، وهي تفيد الالتزام بواجب معين. يرى البعض أن الكلمة العبرية مشتقة من كلمة معناها "تعهد أمر ما في يدٍ أمينة موضع ثقة"، أي أن يعهد إلي الإنسان بأمورٍ إلهية تخصه، كي يمارسها كمسئولٍ ومُلتزمٍ، وذلك بدافع من ضميره الداخلي وأمانته. يرى آخرون أن الكلمة مشتقة من كلمة معناها "يلاحظ"، "يهتم بشيء ما"، "يصغي"، "يُقدِّر الأمر"، لأن غاية الفرائض الإلهية هي رعاية طريق الإنسان بواسطة الله الذي يهتم به ويصغي إليه بكونه موضع تقديره. وفي نفس الوقت تعلن الوصايا عن واجبنا وتوجهنا لنحيا ونسلك كما يليق بتقدير الله لنا. 4. الحِكَمْ (chuqqim): تكررت في كل الاستخونات ما عدا أربع. جاءت في المؤنث في آية 16، 19 مرة في الآيات 5 - 171. الكلمة مشتقة من فعل معناه "ينحت" أو "ينقش" بكونها حِكَمْ لها أهميتها الكُبرى، تُنحت كعلامات في الطريق نتبعها، وأي انحراف عنها يؤدي بحياتنا إلي الضلال والتيه والهلاك. السيد المسيح هو الحكمة الحقيقية الذي ينقش صليبه في قلوبنا كعلامة للطريق الملوكي، وهو يهبنا روحه القدوس الذي لا ينقش وصايا أو حِكَمْ على ألواح حجرية بل ينحتها في قلوبنا، قادرة أن ترفعنا إلي الحياة السماوية كما بجناحي حمامة. 5. الوصاياmitsvot: وردت 22 مرة في هذا المزمور، ذُكرت في جميع الاستيخونات ماعدا ثلاث. والكلمة تحمل معنى السلطان، فقد عهد الله بها إلينا بكونه صاحب سلطان لنطيعها، نعرف ما نقبله وما نرفضه. يقدمها الله لنا كوديعة، علامة تقديره لنا، فنرد حبه لنا بطاعتنا له، أي نرد الحب بالحب. 6. الأحكام misphatim: وردت هنا 23 مرة، في كل الاستيخونات ماعدا في اثنين. تعني واجبًا يُوضع على عاتق الإنسان بحكم إلهي أو بقرار من الله. جاءت الكلمة عن فعل معناه "يحكم" أو "يدين" أو "يقرر"؛ فالأحكام تعني قرارات إلهية شرعية يلزم الكل بالخضوع لها، وهي تحكم كل تصرفات الإنسان من جهة أفكاره وأحاسيسه ومشاعره وعواطفه وعلاقاته بجسده وبإخوته وبالخليقة كما بالله، إنها تنظم حياته لا خلال شرائع حرفية وإنما خلال الفكر الروحي الإلهي. دُعيت أحكام، لأنه يجب أن تكون دستورنا في الحكم على كل الأمور الخفية والظاهرة، وبموجبها أيضًا يديننا الله. 7، 8. الكلمة والأقوال: في العبرية يوجد تمييز واضح بين الاصطلاحين (dabar وimrah). جاءت "الكلمة" 24 مرة في المزمور، في كل الاستيخونات ماعدا ثلاث؛ و"الأقوال" 19 مرة، في كل الاستيخونات ماعدا أربع. يدعى الكتاب المقدس كلمة الله أو أقواله، تصدر عن فمه، ويعلنها لنا. والكلمة تعني إعلان الله عن فكره؛ والسيد المسيح هو الكلمة السرمدي الواحد مع الله في جوهره ومساوٍ له، هو عقله الناطق أو نطقه العاقل. شتان ما بين كلمة الله وكلمة الإنسان، فالله كلمته ليست خارجة ومنفصلة عنه، أما كلمة الإنسان وأقواله فتخرج عنه وتتلاشى. يقول القديس إكليمنضس الإسكندري: [يقول كلمة الله: "أنا هو الحق" يو 6:14. إذن الكلمة يتأملها العقل1.] * الابن، بكونه الكلمة، يعلن عن أرادة أبيه... الكلمات المنطوق بها (كحرفٍ) ليس لها فاعلية مباشرة في ذاتها، إنما كلمة الله وحدها التي ليست بمنطوق بها ولها مفهوم داخلي، كما يدعونها، تعمل بفاعلية، وهي حيّة ولها قوة الإبراء. "لأن كلمة الله حيَّة وفعّالة وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلي مفرق النفس والروح والمفاصل والمِخاخ" عب 12:4... لا تطلب إذن مقارنته بالكلمة الخارجة من الفم. * يا للغباء، يتكلمون كمن لا يعرفون الفرق بين الكلمة المنطوق بها والكلمة الإلهي، السرمدي، المولود من الآب، أقول إنه مولود وليس فقط منطوقًا به، الذي ليس فيه ربط لمقاطع بل كمال اللاهوت الأزلي والحياة التي بلا نهاية. * نعم، من ينظر إلي الابن يرى الآب في الصورة (يو9:14 -10). لاحظ أية صورة يُقال عنها. إنها الحق والبرّ وقوة الله؛ ليست خرساء، لأنه الكلمة ليست جامدة لأنه الحكمة، ليست باطلة، لأنه القوة...، ليست ميتة لأنه القيامة2. القديس أمبروسيوس 9. الطريق dereh: وردت هذه الكلمة 13 مرة في هذا المزمور، وهي تعني القاعدة التي تقوم عليها عناية الله وأيضًا طاعتنا. كلمة الله تُدعى "الطريق"، إذ يقدمها لنا كي نسلك فيها كما بسلّمٍ ملوكي، فنبلغ ملكوت السموات. هذا الطريق هو كلمة الله المتجسد نفسه الذي يعلمنا ويدربنا ويحملنا بروحه القدوس إلي حضن الآب، واهبًا إيانا برَّه لكي نشاركه مجد ميراثه. * "أنا هو الطريق والحق والحياة، ليس أحد يأتي إلي الآب إلا بي" يو 6:14... إن كنت أنا الطريق، فإنكم لا تحتاجون إلي أحد يمسك بأيديكم... إنه يقول: "إن كنت أنا هو السلطة الوحيدة التي تُحضر إلي الآب، أنتم بالتأكيد تأتون إليه، فإنكم لا تستطيعون أن تأتوا بطريق آخر3. القديس يوحنا ذهبي الفم 10. الحق أو الأمانة Orach: وردت الكلمة العبريةخمسمرات [30، 75، 86، 90،138]. يُدعى كلمة الله المتجسد "الحق"، هذا الذي له وحده القوة والسلطة أن يحطم أباطيل الشيطان والجهالة، ويملك على حياتنا الداخلية، معلنًا عن ذاته وعن أسراره بكونه الحق السرمدي، واهبًا إيانا المعرفة كعطية إلهية. * هذا الحق أظهره المسيح لنا في إنجيله، قائلًا: "أنا هو الحق" يو 6:14. لذلك إن كنا في المسيح، ولنا المسيح فينا، إن كنا نسكن في الحق ويسكن الحق فينا، لنتمسك بهذه الأمور التي هي حق4. الشهيد كبريانوس ويمكننا أن نلخص الكلمات الإرشادية للإعلان الإلهي في الآتي: 1. الشريعة: التي تقودنا وتوجهنا للتعرف على الإرادة الإلهية، لكننا سقطنا تحت لعنة العصيان حتى جاء من يحررنا من اللعنة. 2. الشهادات: التي تشهد عن أرادة الله وتكشف عن حبه الباذل المُعلن خلال الصليب. 3. الفرائض: حيث يتعهد المؤمن بالسلوك بأمانة فيما عُهد به إليه. 4. الحِكَمْ: وهي علامات إلهية على أرض القلب، يثبتها الله. 5. الوصايا: حيث يأمرنا الله صاحب السلطان فنطيع. 6. الأحكام: فإن كلمة الله تحكم كل تصرفات الإنسان في داخله وفي سلوكه مع إخوته ومع الخليقة كلها كما مع الله. 7. الكلمة: حيث نتمتع بالأقنوم الإلهي، الكلمة الإلهي. 8. الأقوال: تدخل بنا إلي القول الإلهي الذي يفوق الفاظ بشرية. 9. الطريق: كلمة الله هو طريق ملوكي يدخل بنا إلي حضن الآب. 10. الحق أو الأمانة: نتمتع بالحق الإلهي، فلا نعيش في جهالة. المزمور 119 (118) وبلوغ الكمال يرى القديس جيروم أنه بعد المزمور 119 يأتي في الترتيب مباشرة مزامير الصعود الخمسة عشرة (120-134)، حيث يصعد المؤمن السبع درجات التي للدار الخارجية والثمان درجات التي للهيكل، وكأنه بترنم هذا المزمور يدخل الإنسان إلي المقادس الإلهية1. يمكننا القول أن كلمة الله التي هي موضوع تسبحة هذا المزمور تهيئ النفس البشرية هكذا: *تصعد بعمل الروح القدس لتنعم بالارتفاع فوق كل ضيق زمني وكل مقاومة للحق (مز 120). *ترفع العينين الداخليتين إلي الجبال المقدسة لتجد الرب حافظها (مز 121). *تسكن مع الرب في بيته السماوي (122) حيث تنعم بأورشليم العليا وقد فُتحت أبوابها أمامها... عندئذ بحق تترنم بتسبحة النصرة الأبدية: "لولا أن الرب كان معنا لابتلعونا ونحن أحياء... عبرت نفوسنا السيل... "الفخ انكسر ونحن نجونا" (مز 122). "إن الرب قد عظم الصنيع معهم، عظم الرب الصنيع معنا فصرنا فرحين" (مز 124). هذا هو عمل الكلمة الإلهية في حياتنا التي تهبنا عربون الكمال السماوي والمجد الأبدي. مركز التوراة عند اليهود 1. التوراة في عرف الربيين موجودة قبل خلقة العالم. أصل الأسفار الخمسة مثل كل ما هو سماوي تتكون من نارٍ كُتبت بحروف سوداء نارية على أرض نارية بيضاء2. 2. التوراة في حضن الله: [عندما يكون الله جالسًا على عرش مجده تكون التوراة في حضنه]. 3. التوراة هي ابنة الله. 4.التوراة هي حياة العالم، من يفصل نفسه عن التوراة يموت فورًا1، إذ تفنيه النار ويسقط في الجحيم2. 5. جاء في المدراش في التعليق على سفر المزامير: [الحق هو التوراة]. 6. ترفع التوراة الإنسان إلي ما فوق الزمنيات: [اعتاد هلليل أن يقول: "يجب أن تتعلم أن من ينتفع بكلمات الناموس يسحب حياته من العالم3]. 7. التوراة هي حكمة الله نفسها، كان لها مشورة مع الله في أمر الخلقة. وهي أول إعلان إلهي كشف عن الله نفسه4. 8. تضيء التوراة إلي الأبد5. 9. تعطي التوراة مجدًا لدارسها: "الأممي الذي يدرس التوراة يصير عظيمًا كرئيس الكهنة"6. سمات كلمة الله 1. لذيذة [14،16]: لا تعطى مجرد لذة فكرية، إنما لذة الفرح بالحياة المطوّبة، والتعرف على أرادة الله والتمتع بها. 2. غنية: هي ميراث المؤمن [111]؛ أثمن من الذهب والحجارة الكريمة [127] والغنائم الوافرة [162]. 3. محبوبة، تدخل في ودٍّ معنا [48]. 4. مهوبة [161]. 5. ثابتة في السموات إلي الأبد [89]. 6. تهب الطوباوية [1]، والرحابة أو اتساع القلب [45]، والتحرر من الآلام [133]، والاستنارة [130]، والحياة [93]، والسلام [165]، والفرح العظيم [162]، وتستدرّ مراحم الله وخلاصه [41]... لذا فهي أساس الرجاء [43]. الإطار العام 1. تطويب الطاعة بقلبٍ غير منقسمٍ [1 -8]. 2. الوصية... كنز خفي [9 -16]. 3. الوصية... عزاء في الغربة [17 -24]. 4. إحيني ككلمتك [25 -32]. 5. اهدني في سبيل وصاياك [33 -40]. 6. الشهادة لكلمة الله [41 -48]. 7. كلامك عزّاني في مذلتي [49 -56]. 8. ترضيت وجهك بكل قلبي [57 -64]. 9. خير لي أنك أذللتني حتى أتعلم حقوقك [65 -72]. 10. أحكامك عادلة [73 -80]. 11. رجاء وسط الظلمة [81 -88]. 12. كلمتك دائمة في السموات [89 -96]. 13. كلماتك حلوة في حلقي [97 -104]. 14. مصباح لرجلي كلامك [105 -112]. 15. اعضدني حسب قولك [113 -120]. 16. لا تسلمني إلي الذين يظلمونني [121 -128]. 17. عجيبة هي شهاداتك [129 -136]. 18. عادلة هي شهادتك إلي الأبد [137 -144]. 19. قريب أنت يا رب [145 -152]. 20. بعيد هو الخلاص عن الخطاة [153 -160]. 21. سلام عظيم للذين يحبون اسمك [161 -168]. 22. علمني، أعني، ابحث عني! [169 -176]. من وحي المزمور 119 لأقترب إلي كلمتك فأقترب إليك! * كلمتك الإلهية تعلن لي عن عظمة حبك. تكشف لي عن أرادتك الإلهية، وتسندني لأتممها،فأصير أيقونة حيَّة لك. تدفعني مع كل نسمة من نسمات حياتي نحو الكمال، فتصير حياتي بكل جهادها تسبحة نصرة عذبة! تحولني إلي إنجيل مقروء من الجميع، يشهد لصدق كلمتك، ويُعلن عن قوتها. * من هم الأشرار إلا رافضوا كلمتك؟! ليقاوموها في شخصي المسكين والضعيف، فإنهم حتمًا يفشلون، أما أنا فأنعم بقوة كلمتك! * في نصف الليل أسبح بهذا المزمور (119)، فهو أغنية الكنيسة المترقبة مجيء عريسها، الساهرة بروح الفرح والتهليل. أسبح كلمة الله التي تملأ نفسي بتعزيات الروح في رحلة غربتي! تحول هموم العالم ومتاعبه إلي تسبحة مفرحة! تطرد محبة العالم عن أعماقي ليصير كلمة الله ذهبي وكنزي! تقود فكري وعواطفي وأحاسيسي كعمود نورٍ وسط البرية. تهب الحياة لقلبي الذي صار قبرًا قائمًا. تنير ذهني بالأسرار الإلهية، وتبدد ظلمة الجهالة التي حاصرتني. تقدم لي فوق الكل كلمة الله المتجسد مخلصًا وصديقًا شخصيًا! * يبقى هذا المزمور مدرسة للصلاة خلالها أناجيك يا إلهي. أتتلمذ فيها كل أيام حياتي، أتعلم الصلاة الداخلية من كل قلبي، ويشترك فمي ولساني وكل كياني معًا، كقيثارة يضرب عليها روحك القدوس سيمفونية حب رائعة! أطلب منك أن تكشف لي عن وصيتك الإلهية، تعطيني فهمًا فأدخل أعماق جديدة لكلمتك، نعمتك تهبني الأرادة الصالحة والقدرة فأتمم وصيتك وأنمو فيها. * لأقترب يا إلهي إلي كلمتك، فأقترب إليك! ولأحيا في وصيتك، فأحيا فيك وبك! أراك أيها المسيح كلمة الله مختفيًا وراء حروف المزمور! أريد أن أتعرف عليك، وألتقي بك، وأراك يا سرّ حبي كله! * ماذا أرى في كلمتك يا إلهي؟ إنها ناموسك الذي كسرته فسقطت تحت لعنته، وجاء مسيحك يحمل اللعنة عني! دخل دائرة اللعنة لا بكسر ناموسك بل برفعه على خشبة. حملني من دائرة اللعنة ودخل بي إلي أحضانك الإلهية! إنها شهاداتك، التي تشهد عن حبك الباذل، هب لي أن أشهد ببذل دمي، فأرد الحب بالحب! إنها الفرائض التي تُسلم إليّ كما إلي أيدٍ أمينة. إنها الحكم أو الحكمة، تشبه علامات تضعها في الطريق، فلا انحرف يمينًا ولا يسارًا عن الطريق الملوكي، حتى أدخل إلي السموات عينها! إنها الوصايا التي التزم بها كابن يخضع لوصايا أبيه. إنها الأحكام التي تحكم حركات نفسي الخفية وسلوكي الظاهر، تقدم لي دستورًا ينظم علاقتي بك يا إلهي، كما بالسمائيين والأرضيين. إنها الكلمة الإلهية ليست الفاظًا وحروفًا، بل هي روح وحياة لي! إنها أقوالك، لا كأقوالي التي تخرج من فمي فتتضمحل، لكنها هي واحد معك، أقتنيها فأقتنيك! إنها الطريق الملوكي، الذي يدخل بي إلي أحضانك. إنها الحق الذي يبدد جهالاتي وينزع عني أباطيل إبليس. * بماذا أمدح كلمتك يا سيدي؟! هي حلوة، أشهي من العسل والشهد، كنز يفوق الذهب وكل اللآلئ الثمينة، مهوبة، تسمر خوفك المقدس في لحمي، مُحًبة، تدخل بي إلي أحشائك الملتهبة حبًا لي. ثابتة إلي الأبد، تنقلني إلي سمواتك. مطوَّبة، تقدم لي رحابة قلب واتساع الذهن، وتحررني من كل هوى. نور لرجلي، تقودني إليك أيها الساكن في نور لا يُدنى منه. مشبعة لنفسي، تهبني الحياة الجديدة مع الفرح العظيم والسلام الفائق. نعم! كلمتك تفتح لي أبواب الرجاء، وتدخل بي إلي شركة أمجادك السماوية! |
||||
|