خطورة المتكآت الأولى
الإنسان في بدء حياته الروحية يعيش في حياة الاتضاع والانسحاق. ويعيش النعمة قريبة منه، لأنه "قريب هو الرب من المنسحقين بقلوبهم".
وهكذا بالاتضاع وبالانسحاق والنعمة يعيش في حرارة روحية.
ولكن يحدث كلما ينمو أن تعهد إليه بمسئوليات، ويبدأ أن يجلس في المتكآت الأولي.
وليست الخطورة في المتكآت الأولي ذاتها، وإنما في ارتفاع القلب بها، والبعد عن حياة الحرص والتدقيق والاتضاع، وبهذا تفتر الحياة الروحية.
في بادئ توبته، كان يدخل إلى الكنيسة، وهو يقول: نشاز أنا يا رب في هذا اللحن الجميل. وغريب أنا في وسط جماعة القديسين. وغير مستحق أن أكون في هذا الموضع المقدس.. بل أنا" بكثرة رحمتك أدخل إلى بيتك"..
أما الآن، فإنه يدخل إلى الكنيسة لكي يعلم، أو لكي ينظم، أو لكي يدبر!
يدخل كأحد القادة، وقد نسي الشعور بعدم الاستحقاق... ربما في غير خشوع وفي غير ركوع، وفي غير دموع... كما كان قبلًا!
ربما يدخل إلى الكنيسة لكي يأمر هذا أو ذاك، أو لكي ينتهر هذا أو ذاك أو ليناقش نظامًا معينًا، أو ليدبر عملًا ما. أو ليقوم بخدمة أو بنشاط من أنشطة العديدة. ومن الجائز في هذا كله، أن ينسي أن هذا هو بيت الله.
وطبعًا قد اختفيت تمامًا عبارته السابقة... أنا نشاز في لحن جميل...
ومن الجائز هنا أن تكون -الكلفة- قد رفعت بين هذا (التائب) وبين بيت الله! وتكون الكنيسة قد فقدت هيبتها في نظره، ويصبح وهو داخل الكنيسة يتحدث مع هذا وذاك، ويحك مع أصدقائه، ويرتفع صوته وهو ينادي على من يريده في غير خشية.
وقد يتطور الأمر، فيفقد الخشية بالنسبة إلى الصلوات والأسرار.
فالصلوات بالنسبة إليه تصبح ألحانًا يتقن موسيقاها، وألفاظًا يعرفها، ويعرف أعماق معناها، وليست حديثًا موجهًا إلى الله.
أيوجد فتور أكثر من هذا؟
والعجيب أنه قد يغطي على كل هذا الفتور، بأنه ارتفع إلى مستوي المحبة التي تطرح الخوف إلى خارج (1يو4: 18)!!
وإذ يفقد الخشوع والاتضاع، وإذ ينسي حياة الانسحاق، يحيا في فتور.
احترس يا أخي من أن تعتبر نفسك عمودًا من أعمدة الكنيسة، شاعرًا بأهميتك، وشاعرًا بأنك إذا غبت ستترك فراغًا لا يمكن ملؤه..
واحترس من أنك إذا اختلفت يومًا مع المسئولين عن الخدمة، تهددهم بأنك ستترك الخدمة، ظانًا أن تركك للخدمة لابد سيزعزع أساسات الكنيسة.. اعلم أن وراء كل هذا شعورًا بأهمية الذات، تكمن وراءه كبرياء خفية هي سبب فتورك..
من أجل هذا لا مانع لدي الرب أن يبعدك بعض الوقت عن الخدمة، ليريك أن الكنيسة مازالت هي الكنيسة من غيرك، ولكي يتضع قلبك، ويعود إليك انسحاقك، فتعود إليك أيضًا حرارتك الروحية...
إن إيليا النبي العظيم، بعد انتصاره في جبل الكرمل، وبعد تخليصه الجو الروحي من كل أنبياء البعل وأنبياء السواري، وبعد أن انفتحت السماء بصلواته مرة أخري، قال له الرب تلك العبارة المؤثرة:
"واذهب راجعًا.. وامسح اليشع بن شافاط نبيًا عوضًا عنك" (1مل19: 15، 16).
وأخذ اليشع اثنين من روح إيليا، وعمل معجزات أكثر منه، وبقيت الأرض بعد ارتفاع إيليا إلى السماء، ولم يكن هذا انتقاصًا من قدر هذا النبي العظيم، الذي مجده الله يرفعه إلى السماء وبوقوفه على جبل التجلي..
إنما في جبعه الله سهام كثيرة.. وهو" قادر أن يقيم من الحجارة أولادًا لإبراهيم" (مت3: 9)..
لذلك إن أستأمنك الله على خدمة، قل له: من أنا يا رب حتى تجعلني من عداد خدامك، وأنا ثقيل الفم واللسان (خر4: 10). وقد أكون عثرة للخدمة، أو مقصرًا في كل مسئولياتها وعندك ولا شك خدام كثيرون أفضل مني.. إنه تشجيع منك لي أن تستخدمني في كرامك، على غير استحقاق منى.
بهذه الروح المتضعة ينبغي أن تسلك في المتكآت الأولي، حتى لا تفتر، وإن أتاك مديح من الناس، تذكر خطاياك وضعفاتك..
واحذر من أن تقبل المديح، أو أن تجعله يدخل إلى نفسك، لئلا تفارقك النعمة وتبرد حرارتك. بل ارجع المجد كله الله.. وقل كما قال القديس بولس المتواضع:
" ولكن لا أنا، بل نعمة الله التي معي" (1كو15: 10).
وإذا دخلت إلى المتكآت الأولي كمعلم ضع أمامك قاعدة هامة وهي:
احترس من أن تتحول من عابد إلى عالم..
احترس من أن يجرفك الفكر، وتجرفك الكتب، وتصبح باحثًا عن مجرد المعرفة أو أن تتحول إلى مصدر من مصادر المعلومات.
وفي ميدان الفكر تنسي الروح..!!
تستهويك الكتب والقراءة، وتلهيك عن نفسك وعن أبديتك..
واحترس من أن يستهويك الجدل، فتنشغل به، وفي سبيله تقع في خصومات لا تحصي، وتفقد محبتك للآخرين، وتحب أن تنتصر في النقاش وتهزم غيرك..
أو أنك في جدلك تتعالي على الآخرين، أو تجرحهم وتهينهم وتنقص من قدرهم أو أن تثق بنفسك في كل ما تقول، وتعتد برأيك، ولا تريد أن تتنازل عن شيء..
واحترس من أنك في جدالك لا تقبل أن يعارضك أحد، ولا تقبل أن يناقشك أحد، ولا تكلم أحدًا من فوق.
كل هذه الأساليب في الجدل، حتى إن كانت من أجل العقيدة، تصيبك بالفتور الروحي، وقد تكسب الجدل عقليًا، وتخسر نفسك روحيًا.. وربما تخسر الاثنين..
كثيرون أصبحوا خزانة معلومات، بينما أرواحهم بقيت فارغة..
قليل من العلم، مع اهتمام بالتطبيق أهم بكثير، من علم أوسع بلا تطبيق. قد تهتم بقراءة عدد من الإصحاحات كل يوم، بدون عمق في الفهم، وبدون تأمل وبدون تطبيق، وبدون تداريب، وبدون صلاة، فلا تستفيد روحيًا.
وتظل حياتك فاترة على الرغم من القراءات الكثيرة.
ليس المهم هو مقدار ما نقرأ، وإنما روحانية القراءة وعمقها..
لا تضع نفسك في المتكآت الأولي، ولا تسع إلى ذلك، سواء كان ذلك في المستوي الإداري أو العلمي أو القيادي. وكن صغيرًا في عيني نفسك ولا تدع المعرفة بكل شيء، ولا مانع في بعض الأمور أن تقول لا أعرف..