عندما كتب زكريا الأبكم على لوح "اسمه يوحنا"، انحلّت عقدة لسانه وتكلّم. ما يعني أنّ اسم يوحنا، الذي اوحاه الله بفم الملاك، يحقّق ما يعنيه. فلفظة يوحنا بالعبرية تعني "الله رحوم". وحقّقها الله في الواقع، فأعرب عن رحمته لزكريا بإعادة النطق إليه، من بعد أن حرمه منه علامةً لتحقيق وعده الذي شكّك به زكريا. كما كشف الله رحمته لزكريا وإليصابات العجوزَين العاقرَين، والبارَّين أمام الله، بمنحهما ولداً في شيخوختهما، قال عنه الربّ يسوع: "لم يولدْ مثله في مواليد النساء" (لو7: 28). وأظهر رحمته لشعبه الذي افتقده. وهكذا تجلّى الله لنا أنّه رحوم، بل "الغني بالرحمة"، كما كتب بولس الرسول (أفسس2: 4). وقد سبقه كاتب سفر الخروج حيث نقرأ: "رحمة الله وأمانته لرحمته تدوم لألف جيل. فإنّه رحومٌ شفوق، بطيءٌ للغضب، وغنيّ بالرحمة والأمانة" (خروج 34: 6). هذه الرحمة الإلهية أخذت جسدًا بشريًّا بشخص يسوع المسيح، لكي تكون من صميم طبيعة الانسان
إنّنا نلتمس من الله، في هذه الذبيحة المقدّسة، فضيلة الرحمة التي يحتاج إليها مجتمع اليوم حاجة ماسّة
إنّنا نرحّب بكم جميعاً، وقد توافدتم من مختلف المناطق. ونُحَيّي بنوع خاص وفد مؤتمر شبيبة مار منصور، وعلى رأسهم السيد ألبير الزغبي، النائب العام للرئيس العالمي لجمعية مار منصور دي بول. هذا الوفد شارك بالمؤتمر الذي انعقد بموضوع "الشبيبة المنصورية وسنة الايمان"؛ وقد نُظِّم لشبيبة الشرق الاوسط وشمالي أفريقيا. وضمّ مشاركين توافدوا من لبنان وسوريا (من مدن الحسكة ودمشق وحلب) والأردن وفلسطين والعراق ودبي وأبوظبي وقطر ومصر وتونس. كما شاركت فيه بعثة فرنسية. إنّنا نبارك هذه المبادرة، راجين لهذا المؤتمر أفضل الثمار، ولاسيما نشر ثقافة المحبة التي كان القديس منصور دي بول رسولها.
تودّع اليوم كنيسة الروم الارثوذكس الانطاكية، بجناز رسمي، سنشارك فيه ظهراً، أباها ورأسها المثلّث الرحمة البطريرك اغناطيوس الرابع هزيم. فإنّنا نشاطرها الأسى والصلاة لراحة نفسه الطاهرة، ونقدّم تعازينا الحارّة لآباء المجمع الانطاكي المقدّس والبطريركية وآل هزيم، ونصلّي لكي يرسل الله لهم خلفًا أباً ورأساً، راعياً صالحاً مثل قلبه (إرميا 3: 15). لقد كانت تشدّنا إلى المثلّث الرحمة البطريرك اغناطيوس الرابع روابط محبة ومودّة وتقدير. فكان بالنسبة إلينا، كما يُلقّب باستحقاق، بطريرك المشرق وكنيسة الحوار، وبطريرك الحوار والتسامح، وبطريرك العمل بالرؤية الأنطاكيّة المشرقيّة
نشكر الله على هذا الاسبوع الذي انقضى، وكان اسبوعًا كنسيًّا بامتياز. ففي أيامه الثلاثة الأولى، انعقد المؤتمر الثاني لبطاركة وأساقفة الشرق الأوسط الكاثوليك في دار بيت عنيا – حريصا، حول التطبيق المشترك بين الكنائس للإرشاد الرسولي: "الكنيسة في الشرق الاوسط، شركة وشهادة"، الذي سلّمنا إياه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر أثناء زيارته التاريخية للبنان في ايلول الماضي. وفي الأيام الثلاثة الاخيرة كانت الدورة السنوية لمجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان في الكرسي البطريركي – بكركي، للاطّلاع على تقارير اللجان الاسقفية والهيئات التابعة للمجلس، ولتجديد هيكلياتها وتوجيه نشاطاتها إلى توطيد الشركة بكل أبعادها، وإحياء الشهادة للمحبة في كل مساحاتها. فثمّنّا كثيراً حضور الكنيسة باجهزتها ومؤسساتها في مختلف القطاعات، كما ثمّنّا أنشطتها التي تُعزّز الشركة والشهادة. ولكنّنا ادركنا أيضاً اتّساع الحاجات عند شعبنا وخطورة الصعوبات التي يواجهها، فالتزمنا بما يقدّم الارشاد الرسولي من توجيهات، موطّدين رجاءنا بالمسيح الذي قال: "سيكون لكم في العالم ضيق، لكن ثقوا، أنا غلبتُ العالم"(يو16: 33). وبعد ظهر أمس ختمنا بلقاءٍ مع لجان العائلة في الأبرشيات حول موضوع: دور العائلة في الإعلان الجديد للإنجيل، في ضوء الارشاد الرسولي: "الكنيسة في الشرق الاوسط، شركة وشهادة". وبهذا اللقاء اكتملت نظرة الكنيسة في لبنان والشرق الاوسط إلى كيفية تحفيز الشركة والشهادة في العائلة والمجتمع والدولة
"إسمه يوحنا – الله رحوم". نتذكّر اليوم في ذكرى مولد يوحنّا أنّنا نتعلّم الرحمة في مدرسة المسيح: من مثله وكلامه وأفعاله، ولا سيّما من ذبيحة القدّاس التي نشترك فيها كلّ أحد، المعروف بيوم الربّ ويوم الإنسان. فالعالم بحاجة إلى رحمة، لكي يتمكّن الناس من أن يتصالحوا من كلّ القلب، ويتبادلوا الغفران عن الإساءات، ويعيشوا فرح المصالحة وسعادتها؛ ولكي يمارس المسؤولون العدالة والإنصاف، ولكي يعطف الجميع على الفقراء والمُعوزين. الرحمة تنفي الظلم والاستبداد والاستكبار. الرحمة تلطّف العدالة، وبدونها تصبح العدالة ظلما
إنّنا نصلّي لكي تنفتح قلوب المسؤولين السياسيين لقبول المحبة والرحمة من الله، فيتحمّلوا مسؤولياتهم في تأمين الخير العام والاستقرار والامن والسلام، ويشعروا مع المواطنين في حاجاتهم، فيُخرجونهم من حالة العوز والبطالة والهجرة النفسية والحسّية، ويعطفوا على الأطفال والأجيال الطالعة والشبيبة، فيفتحون أمامهم آفاقاً جديدة ومستقبلاً واعداً
الإنسان من دون محبة ورحمة يفقد إنسانيّته، فينقضّ على أخيه الانسان ويعتدي على حياته ويعتبره عدوًّا، يستغلّ ضعفه وحاجته ليكسب مال الحرام بالسرقة والرشوة والتلاعب بالأسعار وفرض المال من دون وجه حقّ، وصولاً إلى تزوير الادوية. كما أنّه يستقوي عليه ويمارس ضدّه العنف والإرهاب. ويحجم عن مدّ يد المساعدة له في حاجته. فباسم الرحمة، ندعو الى احترام كرامة الشخص البشري، وندعو أرباب العمل لاحترام كرامة موظفيهم، وتأمين حقوقهم وحقوق عائلاتهم بالعدل والانصاف
ولأنّ الله محبة، فهو غنيٌّ بالرحمة اللامتناهية التي بلغت به إلى مغفرة الخطايا مهما عظمت، إذا تابَ عنها الخاطئ من صميم القلب. بمحبته ورحمته، عطف الرب يسوع على الخطأة، واقترب منهم، وأكل على مائدتهم وأعلن أنّه أتى ليدعو الخطأة لا الأبرار (مر2: 17)، وأعرب عن الفرح في السماء لخاطئ واحد يتوب (لو15: 7). وبلغت محّبته الرحوم إلى تقديم ذاته ذبيحة فداء على الصليب لمغفرة الخطايا (متى 26: 28). ودعانا لنكون رحماء لكي نستحق رحمة الله: "طوبى للرحماء فإنّهم سيُرحمون" (متى 5: 7
فباسم الرحمة ندعو المتخاصمين في العائلة والمجتمع والدولة الى المصالحة. فالمصالحة تنبع من رحمة الله الذي، كما يقول بولس الرسول، "صالح العالم مع نفسه بالمسيح، واودعنا كلمة المصالحة، وجعلنا لها سفراء المسيح"(2كور5: 19-20). فليتصالح الجميع أولاً مع الله بالتوبة عن خطاياهم الشخصية، فتسهل مصالحتهم مع بعضهم البعض وتتحقّق. عندما يختبر الخاطئ فرح غفران خطاياه من الله، يرى نفسه مدعوّاً ليصالح أخاه، لكي يكتمل فرحه، ويشمل غيره. ما اجمل الحياة وأسعدها عندما يعيش الناس فرح الغفران والمصالحة
باسم الرحمة الألهيّة، ندعو أهل باب التبانه وجبل محسن في طرابلس الفيحاء لإيقاف دوّامة المعارك وعمليات القنص والقتل، للبلوغ إلى المصالحة والتفاهم. وندعو فعاليّات طرابلس السياسيّة وهيئات المجتمع المدني للتوسّط لأجل هذه الغاية. والكلّ يتطلّع إلى الجيش والقوى الأمنيّة لفرض الأمن والاستقرار. فلا يمكن القبول بمعاناة طرابلس، ولا بتحويل العاصمة اللّبنانيّة الثانية في الشمال من مدينة تاريخية نموذجيّة في العيش معاً والغنى الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والإنساني، إلى مدينة شبه مهجورة، يُشوّه وجهُها الحضاري بما يجري على أرضها من أحداث دامية بين الإخوة. وكم تمنّينا أن نزورَها من أجل توجيه الدعوة من على أرضها ومع المقيمين إلى المصالحة والتفاهم ووضع حدّ للعنف، وإلى إعادة المدينة إلى سابق عهدها الأمني الزاهر. لكنّنا لا ندّخر أي جهد في هذا السبيل عبر سيادة المطران جورج بو جوده، راعي أبرشيتنا المارونية في طرابلس، وبالتعاون مع سماحة مفتي المدينة الشيخ مالك الشعار، الذي نحيّيه ونتمنّى له كلّ خير وسلام
وباسم الرحمة الالهية نواصل نداء مؤتمر بطاركة وأساقفة الشرق الكاثوليك الى القوى المتصارعة في كل بلد من بلدان الشرق الاوسط، ولاسيما في سوريا ومصر وسواهما، لفتح باب الحوار الوطني، وإجراء الاصلاحات اللازمة، والبلوغ إلى المصالحة، والعمل معاً لتوطيد السلام العادل والدائم، نابذين العنف والحرب، رحمة بالمواطنين. كما ندعو المجتمع الدولي العمل على الحدّ من شحن النفوس، وعلى إيجاد الحلول التي ترضي الجميع
في يوم تجلّي رحمة الله، ندرك خطورة قول الرب يسوع: "أريد رحمة لا ذبيحة"(متى12:7). فهو يعني أن كل اعمالنا وإنجازاتنا لا قيمة لها بنظر الله ما لم تقترن بالرحمة، وتؤول إلى الرحمة بكل ابعادها الروحية والمادية والانمائية السياسية. فيا ربنا الغني بالرحمة، أغننا من رحمتك، فنرفع بأفعالنا وصلاتنا نشيد المجد والتسبيح للثالوث المجيد الآب والابن والروح القدس، ينبوع كل رحمة، الى الأبد، آمين