رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
القلق من الغد فلا تهتموا للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه يكفي اليوم شره (مت 6: 34) لقد أصبح القلق سِمة نفسيّة للعصر الحالي، والغد هو الرُّعب الأكبر الذي يرهبه الجميع!! يلتقيه البعض بنظرة تشاؤميّة تعكس آلامه الداخليّة، ويستقبله آخرون وهم مذعورون من نَسَمَات هبوبه على الحاضر، ويحاول الكثيرون الهرب من الغد بالانغماس في لذّة اللّحظة الحاضرة؛ إذ” يحسبون تنعُّم يومٍ، لذّة..” (2بط 2: 13)، وكأنَّ اللّذة هي دواء القلب المريض والذهن المُنجرِح بخوف الغدّ!! بيد أن القلق من الغد هو في جوهره بمثابة فقدان للثقة فيمَنْ يبعث لنا بالغدِ، في رسالة الحياة المتجدِّدة كلّ صباح. الخوف من الغد هو يعني خوفٌ من الله الذي يَدفَع لنا بالغد، وكأنّه عطيِّة مُفخَّخة، حالما تَصِلنا، تنفجر في وجوهنا!! هذا لأننا لا نسأل السؤال الصحيح في أغلب الأحيان، إذ نتساءل: ما الذي سيحدث؟؟ ولكن السؤال ينبغي أن يكون: مَنْ الذي سيُحْدِث؟؟ ولعلّ هذا الخوف غير المُبرَّر من الله!! ينبع من شعورنا بالخوف من عواقب يومنا.. شعورنا بالألم من نتائج أخطائنا، وكأنَّ الله يدفع بالغد ليؤدِّبنا ويعاقبنا على يومٍ تلوّث بالخطيئة!! إن لطف الله وإمهاله إنما يقتادنا للتوبة، بحسب ما أكّد لنا القديس بولس، لذا فالغد هو تعبير عن لطف الله ومحبّته المتأنيّة، إنه فرصة مُتجدِّدة لتصحيح أخطاء اليوم، ولتعديل مسار الحياة، ولقبول الله من جديد، ولتحويل الزمن الحاضر إلى ميراث أبدي. بل إنّ الغد هو فرصة ثمينة لنا لتحويل العالم الشاحب، من خلال إطلاق نور الثالوث، ليصير عَالمًا مُضيِئًا وهّاجًا بضياء الأبديّة. والله لم يكن يومًا جلاّدًا قاسيًا يبعث لنا ببرقيّات تهديد ووعيد على أجنحة الغد، فهو إله تُحرِّكه على الدوام، قوى الحبّ الذاتيّة في طبيعته، الحبّ الذي لا يتوقّف من نحونا، حبُّ يصفح عن كلّ أخطاء اليوم المنقضي، ويغفر كل تعديّات الحاضر الساقط في آبار الظلمة. ولنتذكّر كلمات القديس بولس الذي قال:” ونحن أعداء قد صولحنا مع الله، بموت ابنه” (رو 5: 10). فعداوة البشرية لله بالسُكْنَى في أودية الشرّ، لم تمنع الله من التجسُّد وقبول الموت من أجل أولئك الذين أرادهم بنينًا أحرارًا من قيد الخوفِ والقلق والمستقبل. فبالتجسُّد أصبح المستقبل يعني حركة إيجابيّة نحو الأبديّة. وقد يتساءل البعض، عن النصوص المليئة بالتحذيرات الإلهيّة، إنْ لم نرجع عن طرق الشرّ؟؟ إن تلك البرقيات الإلهيّة، هي تحذير بأنّ عاقبة الخطيئة من داخلها، ونتائجها من داخلها. الخطيئة تمامًا كالنّار التي تظل تضطرم من ذاتها وتحرق كلّ ما يمّسها. ومن يضرم النار، بالخطيئة، لا ينبغي أن يصرخ في الله لماذا الألم؟؟ وكأنّ الله مصدر للألم فـ”لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، لأَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَداً “(يع 1: 13). إذ أنّ الألم والقلق والاضطراب يستدعيه الإنسان بذاته حينما يستدعي طيف الخطيئة ويستظلّ به.. فالخطيئة مصدر كلّ قبحٍ وتشوُّشٍ وقلقٍ في الكون. إنّ أعظم تأديبٍ قد يصيبنا من الله هو أن يتركنا لنتائج خطيئتنا داخليًّا وخارجيًّا؛ ولكنّه إذ يعاملنا بعين الأبوّة ينتهج معنا منهج الجرح والعصب، السحق والشفاء. فما من ضربة تصيب أولاد الله إلاّ ويصاحبها ضمادة إلهيّة وحضن دافئ ليؤكِّد، في خضمّ ألمنا، أنّه محبّة. لذا فإنّ مَنْ يرفض الله يرفض عونًا ونعمةً ومعيّة ترافقه على درب الحياة فيكون عرضة أكثر من غيره للألم جرّاء ما يلاقيه من أحداث، بينما معيّة الله، لمن يقبله كلّ يومٍ بتجديد عهد العلاقة معه، قلبيًّا وذهنيًّا وإفخارستيًّا.. تجعله أكثر صمودًا وقوّة على مواجهة الحياة، بل وتجعله ينعم بسلامٍ وإن كان الأتون متصاعد اللّهب؛ فالسلام والراحة هي موقف داخلي لا يعني ورديّة الحياة الخارجيّة، ولكن بالأحرى، تلقِّي آلام الحياة على” أيدي النعمة” التي تمتص الصدمة عن الإنسان وترشده لكيفيّة التعامل معها للخروج دون خسائر تلمس روحه. إنَّ القلق من الغد لو استولَى على إنسانٍ ما، قد يتحوّل إلى مرضٍ يمنعه من اتّخاذ أيّ قرارٍ في حياته. وقد يمنعه من العمل بإيجابيّة من أجل مستقبله؛ لذا فهناك فرقٌ كبيرٌ بين التفكير في الغد والقلق من الغد. التفكير في الغد أمرٌ إنسانيٌّ طبيعي بل وضروري، فيجب على الإنسان أنْ يُخطِّط لحياتِه بشكلٍ مُنظَّم، ويَحْلُم بغدٍ يحمل له بركات اليوم المغمور في العمل. ولكنَّ القلق من الغد هو التحوُّل المَرَضي من التفكير السوي إلى التفكير المريض.. من التفكير الإيجابي إلى التفكير السلبي.. هذا ويجب علينا أن ندرك: إننا لا نستطيع أن نغيِّر الغد بالقلق، ولكنك تستطيع أن نغيِّره بالعمل الجّاد، والطموح الصادق المرتكز على الأعمال لا نتائجها. ولعلّ كلمات المسيح هي أبلغ ردٍّ على الذين يُكبِّلهم القلق بقيوده الحديدية. ها هو يقول: ” ومن منكم إذا اهتمّ، يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا واحدةً” مت 6: 27 وكأنّه يقول لنا اليوم:
إنَّ الغد دائمًا هو وليد اليوم؛ فعمل اليوم نحصد ثماره في الغد، وكسل اليوم نجني ثماره أيضًا في الغد. فلو كان يومك يفوح منه شذى العمل الجاد المُخْلِص (في أيّ مجالٍ، وفي كلّ مجالٍ) الحالِم بغدٍ أفضل، سيحمل لك الغد بالفعل؛ البركة والبهجة والسلام والأمان، داخليًّا، وإن كانت براكين العالم تقذف حممها من الأحداث المُضْطَرِبة والمُقلقة، ولكن إنْ كان يومك أسيرُ الرقاد واليأس واللّهو سيحمل لك الغد، القلق والخوف والشكوك.. ولكنه في جميع الأحوال فرصة ثمينة، للتنعُّم ببركات اليوم المثمر أو لتعديل نتائج اليوم العاقر.. إنّه فرصة لا تتكرّر كثيرًا.. وما يعبر لن يعود من جديد.. فليكن لنا الغد تلاقٍ مع الثالوث، ولقاءَ مع الإنسان، في ثوب الحبّ الفاعل والنابض بالحياة.. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
القلق لا يحل مشاكل الغد |
القلق من الغد الراهب سارافيم البرموسي |
القلق لايمنع ألم الغد |
القلق لا يمنع ألم الغد لكنّه يسرق متعة اليوم |
القلق لا يغيّر شيئاً تجاه الغد |