مزمور 105 - تفسير سفر المزامير
أمانة الله الدائمة مع شعبه
يُعتبَر هذا المزمور الرابع من بين المزامير التي تتغنى بمعاملات الله مع شعبه عبر التاريخ، أما المزامير الأخرى فهي 78، 106، 136. لا تهدف هذه المزامير نحو تقديم عرض تاريخي، وإنما عن معاملات الله، وإبراز حنو الله وأمانته في تحقيق ميثاقه ووعوده بالرغم من عدم أمانة الإنسان.
يؤكد هذا المزمور أن أرض الموعد هي عطية إلهية.
يُمَثِّل هذا المزمور دعوة للشعب كما لكل مؤمنٍ أن يبحث في أعمال الله العجيبة، سواء كخالقٍ أو مُدَبِّرٍ ومُعتنٍ بشعبه عبر الأجيال. إنه يُرَكِّز أنظارنا على مراحم الله، ويسألنا أن نمتلئ رجاءً من جهة وعود الله الصادقة.
مناسبته [1]
1. يرى البعض أن واضع المزمور هو داود النبي، تغنَّى به عند إحضار تابوت العهد إلى المدينة المقدسة (1 أي 16: 8-22).
2. يوجد شبه إجماع أن كاتب المزمور 104 هو نفسه كاتب هذا المزمور، وهو داود النبي.
3. لا توجد كلمة أو عبارة يُشتَّم منها أنه داود النبي ليس بواضعه.
إن كان إسرائيل يجد مادة خصبة للاحتفال بعمل الله معه، خلال التحرر من عبودية فرعون، بالأكثر يلتهب قلب الإنسان المسيحي بالفرح والتهليل لتمتعه بالخلاص من عبودية إبليس بواسطة الصليب.
1. دعوة للتسبيح وتذكُّر مراحم الله
1-6.
2. ميثاق الله وأرض الموعد
7-15.
3. يوسف في مصر
16-22.
4. الشعب في مصر
23-38.
5. التمتع بالميراث
39- 45.
العنوان
جاء العنوان حسب الترجمة السبعينية والقبطية: "مرسوم بالليلويا".
* إن لفظة الليلويا عبرانية، تأويلها "سُبحًا لله". هذا المزمور هو أول المزامير التي عنوانها "الليلويا"، يحث المؤمنين على تسبيح الله.
1. دعوة للتسبيح وتذكُّر مراحم الله
يُعْتَبَر التأمل في البطاركة ووعد الله لهم فريد في هذا المزمور. العبادة للرب هنا تتركز في "اطلبوا الرب" [4].
اِحْمَدُوا الرَّبَّ.
ادْعُوا بِاسْمِهِ.
عَرِّفُوا بَيْنَ الأُمَمِ بِأَعْمَالِهِ [1].
الكلمة المترجمة هنا "احمدوا"، تترجم أحيانًا "سبِّحوا" وأحيانًا "اعترفوا"، مع انفتاح القلب على كل الأمم.
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "اعترفوا للرب، وادعوا باسمه. نادوا في الأمم بأعماله".
* "اخبروا الشعب (الأممي) بأعماله"، وجاءت الترجمة الحرفية عن اليونانية، كما ورد في بعض النسخ اللاتينية: "اكرزوا بإنجيل أعماله بين الأمم". إلى من يُوجَّه هذا إلا إلى الإنجيليين، خلال النبوة؟[2]
* عار على اليهود القائلين أن عجائبه وأعماله تحققتْ في إسرائيل وحدها[3].
* قال القديسان يوحنا الذهبي الفم وايسيشيوس: يحث الروح القدس المؤمنين أن يعترفوا بذنوبهم، ثم يدعوا باسم الرب، أعني من قلوب طاهرة وعقولٍ نقية تقدم سُبحًا لله.
قال أثناسيوس الجليل: يأمر الروح القدس الرسل ويحثهم على أخبار الأمم بعجائب الله القديمة والجديدة، لأن اليهود عصوا ولم يقبلوا الإنذار. وأن الأمم الذين لم يسمعوا ولم يعرفوا إحسانات الله القديمة لليهود وإنكارهم حسناته وقصاصهم على ذلك.
غَنُّوا لَهُ.
رَنِّمُوا لَهُ.
أَنْشِدُوا بِكُلِّ عَجَائِبِهِ [2].
جاءت العبارات 1-5 دعوة للمؤمن لعبادة الرب، بروح التواضع، لكن في فرحٍ وبهجةٍ، بغير مذلةٍ أو يأسٍ.
يدعونا المرتل إلى التسبيح والتوسل والصلاة والاعتراف والغناء والافتخار باسم الرب القدوس والتأمل في أعماله العجيبة والتمتع بالحضرة الإلهية والحوار المفرح معه.
* سبحوه بالكلمة والعمل، فإننا نُغَنِّي بالصوت كما نعزف على آلة، أي بأيادينا[4].
* من يفهم الأسفار المقدسة؛ من يتأمل على الدوام في شريعة الرب، ويفكر مليًا في أمور السماء، ذاك يُغَنِّي لله. أضفْ إلى هذا من يقتني كل فضيلة، ويصير ماهرًا في الأعمال الصالحة وأنماطها، كما لو كانت قيثارة للفضائل وأغانٍ تُسَبِّح الرب. يقول المزمور 106 (107): "النازلون إلى البحر في السفن، العاملون عملًا في المياه الكثيرة. هم رأوا أعمال الرب وعجائبه في العمق" (مز 107: 23-24). إن كنا في السفينة الجسدية نُبحِر خلال الحياة غير الفاسدة، ولا تُغرقنا عاصفة، ولا تُحَطِّمنا صخرة، ولا تكسر سفينتنا إلى أجزاء، فإننا نستطيع أن نعلن أعمال الله العجيبة. بالحق المعجزة العظيمة هي أن نُبحر خلال هذا العالم بدون لومٍ[5].
افْتَخِرُوا بِاسْمِهِ الْقُدُّوسِ.
لِتَفْرَحْ قُلُوبُ الَّذِينَ يَلْتَمِسُونَ الرَّبَّ [3].
يقول الرسول: "من يفتخر فليفتخر بالرب"، إذ يجد المؤمن في مجد الرب مصدرًا صادقًا وأمينًا لفرح قلبه الداخلي، مع اشتياق حقيقي ومتزايد نحو التماس الرب أو البحث عنه في أعماق النفس.
* "افتخروا باسمه القدوس". هذه نبوة بخصوص الأمم، أننا نوجد، ونُدْعَى مسيحيون على اسم ربنا يسوع المسيح.
"لتفرح قلوب الذين يلتمسون الرب". ليفرح الرهبان، لأن القلوب التي تطلب الرب تفرح. إن كانت قلوب الذين يلتمسون الرب مملوءة فرحًا، فكم بالأكثر تكون قلوب الذين يجدونه؟ حقًا إن الذين يجدونه لن يدعوه يذهب عنهم[6].
* لا يكن افتخاركم بكثرة المال والمجد أو أي شيء من أمور هذا العالم الزائل، بل باسم الرب القدوس كما قال المسيح، ولا تلتمسوا شيئًا آخر سواه. يلتمس الرب كل من يعتقد بما يرضيه، ويفكر فيه دائمً، ويخاطبه بالصلاة.
كل من يلتمس الرب بهذا الحال يحصل له من ذلك فرح وسرور لقلبه وروحه.
اُطْلُبُوا الرَّبَّ وَقُدْرَتَهُ.
الْتَمِسُوا وَجْهَهُ دَائِمًا [4].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "ابتغوا الرب واعتزوا (تقوا). اطلبوا وجهه في كل حين".
من يبحث بفرح وبهجة عن الرب ويطلبه ليعلن ذاته له، يختبر قوته وينعم بحضرته الإلهية على الدوام.
إن كان الشعب القديم عند خروجه من مصر شعر بذراع الرب القوية، واختبر عذوبة حضرة الإلهية. وفي أرض الموعد، كان الشعب يترقَّب الأعياد السنوية الثلاثة، حيث ينطلق الكل إلى أورشليم ليحتفل بالأعياد ببهجة قلب، فإن المسيحي الحقيقي يصير هيكلًا مقدسًا للرب يتجلى فيه المخلص مع الآب وروحه القدوس على الدوام.
* بصوابٍ، يجعلنا الإيمان بالفعل نجده، أما الرجاء فيجعلنا نبقى نبحث عنه. أما المحبة فتضم الاثنين معًا. نجده بالإيمان، ونبحث عنه حتى نراه، حيث نجده ويُشبعنا، فلا نعود نبحث عنه. فإنه ما لم يكشف الإيمان عنه في هذه الحياة لا يُقال: "اطلبوا الرب". أيضًا إن كنا نجده بالإيمان ولسنا نبقى نبحث عنه باجتهاد لما قيل: "ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره، فإننا نتوقعه بالصبر" (رو 8: 25)... وهذا بالحق معنى الكلمات: "التمسوا وجهه دائمًا"، بمعنى أن هذا الكشف لا يُنهِي ذاك البحث، الذي به يُختبَر الحب. ولكن بنمو الحب يزداد البحث عن اكتشافه بالأكثر[7].
* "انظروا إلى الرب في قوته". قبلما نلتمس الرب كنا ضعفاء ومتقلبين. الآن إذ ارتبطتْ قلوبنا به، فنحن أقوياء وشجعان. كم بالأكثر جدًا يكون كمالنا إن كنا نجده؟ "اطلبوا أن تعبدوه على الدوام". طُلِبَ من اليهود أن يظهروا أمام الرب (خر 23: 17) ثلاث مرات في السنة... على أي الأحوال يحث النبي هنا المؤمنين بالله أن يلتمسوه دائمًا، وذلك كما يأمرنا العهد الجديد أن نصلي بلا انقطاع (1 تس 5: 17؛ لو 18: 1)[8].
* تقول الكنيسة للرب في نشيد الأناشيد: "إني مجروحة حبًا" (نش 2: 5). بحق إذ تحمل في قلبها جرح الحب تسعى برغبة ملتهبة لعلها تنال الشفاء برؤيتها للطبيب[9].
البابا غريغوريوس (الكبير)
* اطلبوا الرب أيها الخطاة وتقووا في أفكاركم من أجل الرجاء. اطلبوا وجهه بالتوبة في كل الأوقات (مز 105: 4)، فتتقدسون بقداسة حضرته، وتَتطهرون من إثمكم (حز 36: 25). أسرعوا إلى الرب أيها الخطاة، فإنه يمحو الإثم ويزيل الخطايا. لقد أقسم: "إني لا أُسر بموت الشرير" (حز 33: 11)، بل أن يتوب الخاطئ ويحيا؟ "بسطت يديَّ طول النهار إلى شعبٍ متمرد" (إش 65: 2). و"لماذا تموتون يا بيت يعقوب؟" (حز 33: 11)، "ارجعوا إليّ، فأرجع إليكم" (راجع زك 1: 3)[10].
* الذين يتمسكون بالمعتقدات المستقيمة، ويُفَتِّشون عن الحق، ويلازمون تلاوة الكتب الإلهية مع أعمالهم الصالحة، هؤلاء يبتغون الرب، ويطلبون وجهه، ويرونه بالروح.
أما وجه الرب فيُقال عن المعرفة به.
قال الذهبي الفم: إن وجه الرب يُقال عن ظهوره بعنايته ومعونته ونصرته لأتقيائه.
قال ديديموس: إن وجه الرب هو ابنه الوحيد، لأنه صورة أقنوم الآب، وشعاع مجده. فمن يرى الابن يرى الآب. أولياء الله كل حين يطلبون المسيح، وبرؤيته تفرح قلوبهم، وتتشدد قوتهم في كل عملٍ صالحٍ.
* سؤال من الأب نفسه إلى الشيخ الكبير نفسه: يعلّمنا يسوع الذي يبحث عن الخراف الضالة أيضًا كيف نبحث عن الراعي. أيها الأب، توجد كلمة واحدة أريد أن أسألك عنها: حيث إنه مكتوب: "اطلبوا الرب وقدرته، التمسوا وجهه دائمًا" (مز 105: 4)، فكيف يمكن لإنسانٍ خاطئ أن يلتمس الرب دائمًا؟ علِّمنا ذلك لأجل ذاك الذي جعلك حكيمًا، وذلك لكي نلتمس نحن أيضًا دائمًا وجه الرب. لأنّ له المجد إلى الأبد، آمين.
جوابالقديس برصنوفيوس: يا أخ أوثيميوس، أتوسل إلى محبتك أن تتعب معي في الصلاة لله محب البشر، لأنّ محبتك طلبتْ مني أن أكتب لك عن كيف ينبغي أن نبحث عن الراعي. ومن أول يوم حتى الآن أنا أتوسل إلى الله بخصوص هذا السؤال، وهو يقول لي: ”نقِّ قلبك من أفكار الإنسان العتيق، وأنا أعطيك الإجابة على أسئلتك مجانًا، لأنّ عطاياي تجد في الأنقياء مكانًا فتُعطَى لهم. ولكن طالما أنّ قلبك يتحرك بالغضب، وتذكُّر الشر وأهواء الإنسان العتيق المشابهة؛ فإنّ الحكمة لا تدخل فيه. إن كنتَ ترغب في مواهبي بجدِّيّةٍ، فأطرح عنك أواني الغريب (اُنظرْ نح 13: 8)، فتأتيك أوانيَّ من ذاتها. ألم تسمع: "لا يقدر أحدٌ أن يخدم سيِّدين" (مت 6: 24)؟ فإن كنتَ تخدمني حينئذٍ لا تخدم الشيطان، وإن كنتَ تخدم الشيطان فلا تخدمني. وعلى ذلك، فإذا رغب أحدٌ أن يُحسَب مستحقًا لمواهبي، فعليه أن يُراعِي خطواتي، لأنني كحمل بلا عيب قبلتُ جميع الآلام دون أن أقاوم في شيءٍ (اُنظرْ إش53: 7)، وأنا أخبرتك أن تكون لك أُلفة (أو وداعة) مثل الحمام، وبدلًا من كل ذلك فأنت لك شراسة من أهواء الشهوات. فانظر إنني لم أقل لك: "اسلك بنور نارك" (إش 50: 11).
يرى القديس باخوميوس أننا نطلب الرب ونتمتع بقوته، ليس بالشفاه فحسب، وإنما بالعمل:
[اطلبوا الله مثل إبراهيم الذي أطاع الله، وقدَّم ابنه ذبيحة لله الذي دعاه "صديقي".
اطلبوا الله مثل يوسف الذي صارع ضد النجاسة، حتى صار حاكمًا على أعدائه.
اطلبوا الرب مثل موسى، الذي تبع ربه، وجعله الله مُستَلِمًا للشريعة، وجعله يعرف شبه الله.
طلب دانيال الله، وعلَّمه الله أسرارًا عظيمة، وأنقذه من جب الأسود.
طلب الثلاثة قديسين الله، ووجدوه في أتون النار.
التجأ أيوب إلى الله، فشفاه من قروحه.
طلبتْ سوسنة الله، وأنقذها من أيدي الأشرار.
طلبتْ يهوديت الله، ووجدته في خيمة هولوفرينس[11].]
اذْكُرُوا عَجَائِبَهُ الَّتِي صَنَعَ،
آيَاتِهِ وَأَحْكَامَ فَمِه [5].ِ
يدعونا المرتل أن نعود بذاكرتنا إلى معاملات الله معنا، لا من حيث تفاصيل الأحداث، إنما من جهة عجائبه التي صنعها لأجل خلاصنا، وآياته التي تكشف عن عنايته بنا، وأحكام فمه التي تُعْلِن عن حبه وشوقه للحوار معنا.
في أعماله الإلهية سواء من جهة الخلق أو خلاصه ورعايته الدائمة يبدو كأن ما يشغل فكر الله وقلبه هو الإنسان. إنه دائم العمل لحسابنا، ولا زال في السماء يُعِد لنا مكانًا لكي يأتي ويأخذنا معه.
يَا ذُرِّيَّةَ إِبْرَاهِيمَ عَبْدِهِ،
يَا بَنِي يَعْقُوبَ مُخْتَارِيهِ [6].
إن كان الله قد قطع عهدًا مع إبراهيم أب الآباء، ويعقوب الذي اختاره، فإن هذا العهد وهذا الاختيار ليسا لإبراهيم ويعقوب وحدهما، بل لنا جميعًا كأبناء روحيين لإبراهيم، وكمختاري الرب لننعم ببرِّه وخلاصه.
* إن كنتم أبناء إبراهيم فلتعملوا أعمال أبيكم (يو 8: 39). لذلك أولئك الذين هم مملوءون كبرياء ليسوا أبناء، وإن كانوا ذرية فهم خدام، يخضعون لناموس الخوف، ليس لهم المحبة الكاملة التي تطرد الخوف خارجًا (1 يو 4: 18). نحن أبناء يعقوب، الذي احتل مكان أخيه وأخذ منه الباكورية، فإن كثيرين دُعوا، وقليلون اُختيروا (مت 20: 16)[12].
* هؤلاء الرسل القديسون الذين وُلدوا من ذرية إبراهيم وإسرائيل وآمنوا أيضًا بالمسيح الإله، ويقال عنهم إنهم منتخبون كقوله: "أنا اخترتكم من العالم. فإذًا الروح القدس يحث الرسل أن يذكروا عجائب الله وآياته للأمم، ويجعلوهم بني إبراهيم وإسرائيل حسب الإيمان، وعبيدًا لله.
2. ميثاق الله وأرض الموعد
لما كانت أرض الموعد تشير إلى كنعان السماوية، فقد صار وعد الله للآباء بخصوصها هو أساس الميثاق في الكتاب المقدس. كل العطايا الإلهية تنبع من هذه العطية المجانية.
أقام الله العهد مع إبراهيم ويعقوب، ليس معهم وحدهم، بل ومع نسلهم بكونهم شعبه.
يؤكد المرتل مبادرة الله بإقامة العهد، فهو الذي يبحث عنا ويختارنا ويقيمنا شعبًا له.
هُوَ الرَّبُّ إِلَهُنَا،
فِي كُلِّ الأَرْضِ أَحْكَامُهُ [7].
لم يقل: "هو الرب في إسرائيل"، إنما "في كل الأرض أحكامه". إن كان قد قطع عهدًا مع إبراهيم واختار يعقوب، فهو رب البشرية كلها ومخلصها، يدعو البشرية كلها لتنعم ببركاته الأبدية في الابن الوحيد الجنس، الذي بدمه الثمين قدَّم عهدًا جديدًا أبديًا.
لم يترك نفسه بلا شاهد في الأرض كلها (أع 14: 17).
* "في كل الأرض أحكامه". هل هو إله اليهود وحدهم (رو 3: 29)؟ حاشا! "هو الرب إلهنا"، لأن الكنيسة التي يُكرَز فيها بأحكامه هي في كل العالم[13].
* الله الذي أعطى قديمًا الشريعة لبني إسرائيل فقط هو الذي تجسد ونشر أحكامه في كافة المسكونة بواسطة رسله، إذ قال لهم: تلمذوا كل الأمم وعلموهم ما قد أوصيتكم به.
ذَكَرَ إِلَى الدَّهْرِ عَهْدَهُ،
كَلاَمًا أَوْصَى بِهِ إِلَى أَلْفِ دَوْرٍ [8].
إذ يتحدث عن عهده مع الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب، يذكره إلى ألف جيل، فما قدمه للآباء، إنما قدمه لكل الأمم إلى ألف جيل. يرى البعض رقم 1000 يشير إلى الأبدية، وكأن ما قدمه للآباء لا يقف عند وعود زمنية، ولا أرض موعد مادية، إنما تمتد الوعود إلى الوطن السماوي لكل المؤمنين عبر الأجيال.
إن كان الله يطالبنا أن نُذَكِّره أعماله العجيبة معنا، فمن جانبه هو يذكر تعهداته وميثاقه معنا معلنًا أمانته في مواعيده. إنه لن ينساها!
* هذا العمر يُقال عنه ألف جيل كما كتب بطرس الرسول: "إن يومًا واحدًا عند الرب كألف سنة، وألف سنة..." (2 بط 3: 8). ودانيال النبي قال: "ألوف ألوف يخدمونه". فإذًا كلمة "ألف" لا تعني العدد المعروف، بل يعني الكثير.
الَّذِي عَاهَدَ بِهِ إِبْرَاهِيمَ،
وَقَسَمَهُ لإِسْحَاق [9].
جاء ميثاقه الذي قطعه مع إبراهيم في تكوين 15: 17-18، وقسمه مع إسحق في تك 26: 3. لقد عبّر زكريا الكاهن عن هدف مثل هذه المواثيق والقسم مع الآباء والأنبياء بقوله: "أقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه، كما تكلم بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر" (لو 1: 69-70).
فَثَبَّتَهُ لِيَعْقُوبَ فَرِيضَةً،
وَلإِسْرَائِيلَ عَهْدًا أَبَدِيًّا [10].
جاء تثبيت العهد مع يعقوب في تك 28: 10-15؛ 35: 9-15. في المناسبة الأخيرة غيّر اسمه من يعقوب إلى إسرائيل.
هذه العهود مع الآباء، وإن كانت تحمل جانبًا شخصيًا وامتيازًا، غير أنها أبدية، لكنها في جوهرها هي عهد مع البشرية في المسيح يسوع لتنعم بالأمجاد والميراث الأبدي في السماوات.
قَائِلًا: لَكَ أُعْطِي أَرْضَ كَنْعَانَ، حَبْلَ مِيرَاثِكُمْ [11].
إن كان هؤلاء الآباء لم ينالوا المواعيد في حياتهم الزمنية، لكن نسلهم دخلوا أرض الموعد، وصارت نصيب ميراثهم. أما ما هو أعظم فبتجسدك قدَّمتَ لنا ملكوتك حالًا فينا، وفتحت لنا أبواب سماواتك، لننعم بها بكونها كنعان السماوية، حبل (نصيب) ميراثنا الأبدي.
إِذْ كَانُوا عَدَدًا يُحْصَى قَلِيلِينَ وَغُرَبَاءَ فِيهَا [12].
عند نزولهم إلى مصر في أيام يوسف كانوا قلة قليلة، وصاروا مُتَغَرِّبين (66 شخصًا تك 46: 26، أو 70 شخصًا بما فيهم عائلة يوسف خر 1: 5).
ذَهَبُوا مِنْ أُمَّةٍ إِلَى أُمَّةٍ،
مِنْ مَمْلَكَةٍ إِلَى شَعْبٍ آخَرَ [13].
إن كان الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب الذين دخلوا في عهود مع الله عاشوا كمُتَجَوِّلين وغرباء، ليس لهم موضع استقرار، فإنه يليق بنسلهم حتى بعد نوالهم أرض الموعد أن يتحققوا من تَغَرُّبهم ماداموا في هذا العالم، كما يليق بنا نحن المؤمنين أن نحمل ذات المشاعر.
* نَعْبُر خلال ممالك كثيرة لنبلغ إلى أرض الموعد[14].
فَلَمْ يَدَعْ إِنْسَانًا يَظْلِمُهُمْ،
بَلْ وَبَّخَ مُلُوكًا مِنْ أَجْلِهِم [14].
تُرَنِّم الكنيسة بهذه العبارة في عشية عيدي موسى وزكريا، أي في 8 توت، حيث اضطهد فرعون موسى النبي، وهيرودس زكريا الكاهن، ولم يصب أحد منهما بأذية. فقد نال موسى كرامة خلاص الله خلال الخروج من أرض العبودية، وتمتع زكريا بأن يصير أبًا ليوحنا المعمدان الملاك الذي هيأ الطريق للمسيح الرب.
تتعرض حياة المؤمنين دومًا لمتاعب كثيرة، لكن الله بعنايته يحفظهم من الإصابة بأذية، حتى وإن كان المقاومون لهم أصحاب سلاطين وملوك جبابرة (تك 12: 14-20؛ 20: 1-9؛ 26: 7-11، 26-33؛ 35: 5).
* حُذِّر كل من ملك جيرار وملك المصريين من السماء ألا يؤذيا إبراهيم (تك 12: 17-20؛ 20: 3)، وحُذِّر ملك آخر ألا يؤذي إسحق (تك 26: 8-11)، وآخرون ألا يؤذوا يعقوب (تك 32، 33)، بينما كانوا قلة قليلة جدًا وغرباء[15].
قَائِلًا: لاَ تَمَسُّوا مُسَحَائِي،
وَلاَ تُسِيئُوا إِلَى أَنْبِيَائِي [15].
لم نسمعْ عن أحد الآباء الأولين قد مُسِحَ بدهن ملوكي، لكنهم كانوا ممسوحين بروح الله القدوس لرسالة تمس خلاص البشرية.
يتساءل القديس أغسطينوس كيف يمكن دعوة إبراهيم وإسحق ويعقوب مسحاء، مع أنه لم يكن بعد قد عُرفتْ المسحة التي صار الملوك يُمسَحون بها، ويدعون مسحاء. ويجيب أنه سريَّا يُحسبون هكذا، فإنه وإن كان جسد المسيح جاء منهم، فإن المسيح نفسه، أي الكلمة قَبْل التجسد، كان قبلهم. وذلك كما قال لليهود: "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (يو 8: 58). وقد أعلنوا عن الرب مُقَدَّمًا. فإنه لن يمكن لأحدٍ أن يتصالح مع الله خارج ذاك الإيمان الذي في المسيح يسوع، سواء قبل تجسده أو بعده. وقد أوضح الرسول ذلك بقوله: "لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح" (1 تي 2: 5)
* يا للعار بالنسبة لليهود الذين يقولون ما لم يُدهَن الشخص بدهن ملوكي لا يمكن أن يُدعَى "مسيحًا". يقولون إن ربنا ليس المسيح، لأنه لم يُمْسَحْ بزيوت ملوكية. لكن قبل الشريعة لم يُدهَن البطاركة بدهن ملوكي، ومع هذا يدعو مسحاء. المسحاء هم الذين يمسحهم الروح القدس، لهذا بحق يُدعَى ربنا المسيح. ينكرون هذا ، وهم في هذا يضادون الأسفار المقدسة[16].
* يحمل المستنيرون (المُعَمَّدون) ملامح قوة المسيح وصورته. التشبُّه بشكل الكلمة (المسيح) يُطبَعُ عليهم، وتتحقق فيهم خلال المعرفة الأكيدة والإيمان. هكذا يؤكد المسيح روحيًا في كل أحدٍ. ولهذا فإن الكنيسة تتمخض حتى يتصور المسيح فينا (غل 4: 19)، كأن كل واحدٍ من القديسين، إذ يشترك في المسيح يلد مسيحًا. بهذا المعنى قيل في الكتاب المقدس: "لا تمسوا مسحائي، ولا تسيئوا إلى أنبيائي".
هؤلاء الذين يتعمدون في المسيح يصيرون كما لو كانوا مسحاء آخرين، وذلك خلال شركة الروح[17].
* "جعلنا لنكون على صورة جسد مجده" (في 3: 21)، حيث أننا نصبح "شركاء المسيح" (عب 3: 14).
وبحق دُعيتم للمسيح، وعنكم قال الله: "لا تمسُّوا مسحائي، ولا تسيئوا إلى أنبيائي" (مز 105: 15).
جُعلتم مسحاء بقبولكم خِتْم الروح القدس. وكل الأشياء عُمِلتْ فيكم امتثالًا (بالمسيح)، لأنكم صورة المسيح. هو اغتسل في نهر الأردن، ونشر معرفة ألوهيته في الماء، وصعد منه وأضاء عليه الروح القدس في تمام وجوده، وحلّ كذلك عليه. ولكم أنتم فشبه ذلك بعد أن صعدتم من بركة المياه المقدسة صار لكم دهن شبه الذي مُسِحَ به المسيح. وهذا هو الروح القدس الذي قال عنه المطوَّب إشعياء في نبوته عن شخص الرب: "روح السيد الرب عليّ، لأن الرب مسحني" (إش 61: 1)[18].
القديس كيرلس الأورشليمي
* كثيرًا ما يحدث أن يرغب إنسان في الإساءة إلى آخر، ولأن الله لا يسمح له بذلك تُبْطَل مشورته. وهكذا فإن مشيئات الناس توضع فقط تحت الاختبار. فكم من مؤامرة شر دُبرتْ للآباء القديسين، ولأن الله لم يسمحْ بها فلم يقدر أحد أن يسيء إليهم كما هو مكتوب: "لم يدع إنسانًا يظلمهم، بل وبَّخ ملوكًا من أجلهم قائلًا: لا تمسُّوا مسحائي، ولا تسيئوا إلى أنبيائي" (مز 104: 14-15). وحينما كان يريد أن يُظهِر قدرته كان يحرِّك بالشفقة قلوب الذين لا شفقة عندهم، كما هو مكتوب في سفر دانيال: "وأعطى الله دانيال نعمةً ورحمةً عند رئيس الخصيان" (دا 9:1).
3. يوسف في مصر
دُعي يوسف وهو سجين ليُعَّلم ملوكًا وعظماء غرباء [16-22].
لم يُشر إلى الضربات في مصر لإبراز قسوة قلب فرعون، وإنما قوة الله المتعددة الجوانب، والعاملة لحساب شعب الله.
دَعَا بِالْجُوعِ عَلَى الأَرْضِ.
كَسَرَ قِوَامَ الْخُبْزِ كُلَّهُ [16].
يتحدث هنا عن المجاعة كشخص خادم لله، يستدعيها ليحقق رسالة معينة لحساب مؤمنيه.
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن المرتل يشير هنا إلى المجاعة التي حدثت في أيام يوسف، وكان ذلك لتأديبهم حتى يعرفوا الله الحقيقي بمشاهدتهم يوسف الذي كان يبيع لهم الطعام. ويعرفوا الله الذي يعبده يوسف أنه إله حقيقي، يجب العبادة له.
بقوله "قوام الخبز كله" يعني أن الأرض عدمتْ الحنطة وكل ما يقوم مقامه الخبز بسد الرمق من أنواع الحبوب.
* "دعا بالجوع على الأرض". غالبًا يحدث ما يبدو كأنه تناقض ضد العناية الإلهية.
لو أن إخوة يوسف لم يحسدوه ويبيعوه، كيف كان قد نزل إلى مصر؟
لو لم تحدث المجاعة كيف كان يمكن للآباء أن يدخلوا إلى مصر ويتعرف عليهم أخوهم؟
كيف كان يمكن أن يضرب بالعشر ضربات؟ كيف كان يمكن أن يخرج شعب الله من مصر؟
وكيف كانت تخرج مياه من الصخرة في البرية؟
كيف كان يمكن للأسرار أن تتحقق في البرية كرمز (للسيد المسيح المصلوب)؟
لو لم يخن يهوذا الرب كيف كنا نخلص؟
لو لم يصلبه اليهود ويتشككوا كيف كنا نحن نؤمن؟
هكذا حدث أن نزل يوسف إلى مصر ليعد حسن الضيافة والطعام لإخوته[19].
جاءت الأحداث الخاصة بيوسف تحمل رمزًا ونبوة عن شخص السيد المسيح من جوانب كثيرة.
* كان يوسف مضطَهدًا، وكان إخوته هم المُضطهِدِين. يوسف تمجَّد، ومُضطِهدوه سجدوا له، فتحققتْ أحلامه ورؤياه.
كان يوسف المُضطَهَد رمزًا ليسوع المُضطَهَد.
يوسف ألبسه والده قميصًا بألوان كثيرة، ويسوع ألبسه أبوه جسدًا من البتول.
يوسف أحب أبوه أكثر من إخوته، ويسوع هو العزيز المحبوب لدي أبيه.
رأي يوسف رؤى وحلم أحلامًا، وتحققت الرؤى والأنبياء في يسوع.
كان يوسف راعيًا مع إخوته، ويسوع هو رئيس الرعاة.
عندما أرسله أبوه ليفتقد إخوته رأوا يوسف قادمًا وخططوا لقتله، وعندما أرسل الآب يسوع ليفتقد إخوته قالوا: "هذا هو الوارث، هلم نقتله" (مت 21: 38).
ألقي إخوة يوسف أخاهم في الجب، ويسوع أنزله إخوته ليسكن بين الموتى.
يوسف صعد من الجب، ويسوع قام من بين الأموات.
يوسف بعد أن قام من الجب صار له سلطان على إخوته، ويسوع بعد أن سكن بين الأموات أعطاه أبوه اسمًا عظيمًا ممجدًا (في 2: 9) ليخدمه إخوته ويخضع أعداؤه تحت قدميه.
يوسف بعد أن عرفه إخوته خجلوا وخافوا واندهشوا أمام عظمته، وعندما يأتي يسوع في آخر الزمان، ويعلن عظمته سيخجل إخوته ويخافون ويرتعبون أمامه لأنهم صلبوه.
علاوة على هذا فإن يوسف بيع إلي مصر بناء على مشورة يهوذا، ويسوع سُلِّم لليهود بيدي يهوذا الإسخريوطي.
عندما باعوا يوسف لم يجب إخوته بكلمة، ويسوع أيضًا لم ينطق ولا أجاب على القضاة الذين حاكموه.
يوسف سلَّمه سيده للسجن ظلمًا، ويسوع أدانه أبناء شعبه ظلمًا.
سلَّم يوسف ثوبيه، واحد في أيدي إخوته، والآخر في يد زوجة سيده، ويسوع سلَّم ثيابه وقسمت بين الجند.
يوسف إذ كان في الثلاثين من عمره وقف أمام فرعون وصار سيد مصر، ويسوع إذ بلغ الثلاثين جاء إلي الأردن ليعتمد وقبل الروح وخرج يكرز.
يوسف عال مصر بالخبز، ويسوع عال العالم كله بخبز الحياة.
يوسف أخذ ابنة الكاهن الشرير النجس زوجة له، ويسوع خطب لنفسه الكنيسة من الأمم النجسين.
مات يوسف ودُفن في مصر، ومات يسوع ودُفن في أورشليم.
عظام يوسف أصعدها إخوته من مصر، ويسوع أقامه أبوه من مسكن الموت ولبس جسده وارتفع به إلي السماء في غير فساد[20].
القدِّيس أفراهاط الحكيم الفارسي
أَرْسَلَ أَمَامَهُمْ رَجُلًا.
بِيعَ يُوسُفُ عَبْدًا [17].
إن كان يوسف قد بيع بسبب حسد إخوته له، لكن الله هو الذي سمح له بذلك، حتى حسب المرتل الله أنه هو الذي بعثه لرسالة هامة، لصالح يوسف وإخوته ونسلهم أيضًا. له الكلي الصلاح يستخدم شرور الناس لعمل الخير والصلاح.
لاحظ القديس أغسطينوس قول المرتل: "أرسل أمامهم رجلًا"، مع أن هذا الرجل، أي يوسف، ذهب إلى مصر بسبب خطية إخوته. لكن الله حوَّل شرهم إلى خير، حتى صار ذهاب يوسف إلى مصر إرسالية من قِبَل الله نفسه. يقول القديس أغسطينوس: [يلزمنا أن نتأمل في هذا الموضوع الهام والضروري. كيف يستخدم أعمال البشر الشريرة بطريقة صالحة، كما من الجانب الآخر هم يستخدمون أعمال الله الصالحة بطريقة شريرة[21].]
آذُوا بِالْقَيْدِ رِجْلَيْهِ.
فِي الْحَدِيدِ دَخَلَتْ نَفْسُه [18].
إذ قُيِّد يوسف في السجن ظُلمًا بسبب ادعاءات امرأة سيده الباطلة، تأذتْ نفسه كما جسده، وكأن القيود الحديدية قد لحقت بكل كيانه.
يقول المرتل: "في الحديد دخلت نفسه" إشارة إلى مرارة القسوة التي حلَّتْ بنفسه، وهي أكثر مرارة من القيود الحديدية التي وُضعتْ في رجليه. هذا التعبير يشبه ما قاله سمعان الشيخ للقديسة مريم: "يجوز في قلبكِ سيف" (لو 2: 35)، ويقصد بالسيف تطلعها إلى آلام الرب، وموقف اليهود خاصة القادة منه.
* لقد أثقلوه بالقيود، لأنه لم يُرِدْ أن يوافق إغراءات المرأة المصرية. لقد أثقلوه بالقيود، لكنهم لم يستطيعوا أن يحطموا العدالة. عندما كان عمره 16 عامًا سقطتْ امرأة في حبه، ومع أنه كان في هذا السن الذي فيه يستسلم الشخص للشهوة بسهولة، رفض أن يخضع للشر،لأنه خشي بالأكثر من الخطر على نفسه.
"في الحديد دخلت نفسه". إنه حديد قيود الخطية التي تقتل النفس. ولعل العبارة تعني أنه كان في خطر، حيث اُتهم بخطية مرعبة بواسطة زوجة سيده. كانت المرأة ملتهبة نحوه، كما هو مكتوب: "كل الزناة بقلوبٍ مثل الأتون". "إلى وَقْتِ مجيء كلمته" [19]، كلمة الرب نفسه الذي خلَّصه[22].
إِلَى وَقْتِ مَجِيءِ كَلِمَتِهِ.
قَوْلُ الرَّبِّ امْتَحَنَهُ [19].
بقوله: "إلى وقت مجيء كلمته"، ربما يشير إلى الوقت المُعَيَّن من قِبَل الله لتحقيق الأحلام التي سبق فرآها يوسف وهو في بيت أبيه. أو ربما يقصد بعد مرور عامين حيث نسيه ساقي الملك بعد أن فَسَّر له يوسف الحلم. في كل الحالات إن لكل شيء وقت مُعَيَّن في ذهن الله يحقق فيه وعوده لمؤمنيه.
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "وقول الرب أحماه".
* "وكلمة الرب ألهبته". لو لم يلهبه الروح القدس لما كان يستطيع أن يغلب الشهوة. روح الرب ألهبه، وأحرق نار الشهوة[23].
أَرْسَلَ الْمَلِكُ فَحَلَّهُ.
أَرْسَلَ سُلْطَانُ الشَّعْبِ، فَأَطْلَقَهُ [20].
إذ حلّ وقت خلاصه من السجن وتمتعه بالمجد أرسل الملك إلى السجن ليطلقه ويلتقي به.
ما أحوجنا أن نلجأ إلى ملك الملوك، الذي وعد: "إن حرركم الابن بالحقيقة تكونون أحرارًا". هو وحده القادر أن يُحَرِّرَنا من عبودية إبليس وقيود الخطية.
* "أرسل الملك فحلَّه". تاريخيًا أرسل فرعون وحلَّه. وبتفسير آخر، فإن من كان مُجَرَّبًا بشهوة خليعة، لا يقدر أن يهرب من الخطية، ما لم يظهر الرب ويحله[24].
أَقَامَهُ سَيِّدًا عَلَى بَيْتِهِ،
وَمُسَلَّطًا عَلَى كُلِّ مُلْكِهِ [21].
سلَّم له فرعون تدبير شئون مملكته، بل وتدبير القصر الملكي نفسه (تك 41: 40-45).
لم ينقذه من الضيق فحسب، وإنما حوَّل ضيقاته إلى أمجاد وكرامات لم تكن تَخْطُر على فكره.
لِيَأْسِرَ رُؤَسَاءَهُ حَسَبَ إِرَادَتِهِ،
وَيُعَلِّمَ مَشَايِخَهُ حِكْمَةً [22].
أُعطِي يوسف سلطانًا لا لتدبير الأمور المادية فحسب كتخزين الحنطة وتوزيعها، وإنما ليكون له أيضًا سلطان على رجال القصر والدولة. الكل يسمع له ويطيعه وإلا يخضعون لعقوبات مشددة.
هنا تبرز شخصيته العجيبة، فمع ما ذاقه من مرارة لسنوات طويلة بسبب حسد إخوته بقي الإنسان المحب للكل، حتى لمشايخ الملك الوثنيين، فعلَّمهم الحكمة، ولم يبخل عليهم بشيءٍ. لم يُخْفِ الحكمة عنهم لتثبيت مركزه في القصر، لكن بقدر عطائه حتى الحكمة للآخرين، تزداد مخازن قلبه وفكره بعطايا الله المجانية.
* غالبًا ما يثير الصبر المتصنع الغضب بأكثر حذاقة مما يثيره الكلام. وبالصمت المؤذي يزيد شتائم الغير بطريقة أكثر مما يثيرها الكلام، وجراحات الأعداء تُحتَمَل بأكثر سهولة من مداهنة الساخرين المملوءة مكرًا، والتي قيل عنها حسنًا بالنبي: "ليأسر رؤَساءهُ حسب إرادتهِ" (مز 22:105). وفي موضع آخر قيل: "كلام النَّمام مثل لُقَم حلوة، فينزل إلى مخادع البطن" (أم 22:26). هنا ينطبق القول: "لسانهم سهم قتال، يتكلم بالغش. بفمهِ يكلم صاحبهُ بسلام، وفي قلبهِ يضع لهُ كمينًا" (إر 8:9). وعلى أي الأحوال هو يخدع الغير، إذ "الرجل الذي يطري صاحبهُ يبسط شبكة لرجليهِ" (أم 5:29)[25].
4. الشعب في مصر
فَجَاءَ إِسْرَائِيلُ إِلَى مِصْرَ،
وَيَعْقُوبُ تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ حَامٍ [23].
* "يعقوب تغرب في أرض حام". الإنسان البار لا يقدر أن يقطن على الدوام على الأرض، إنه مُجَرَّد سائح[26].
جَعَلَ شَعْبَهُ مُثْمِرًا جِدًّا،
وَأَعَزَّهُ عَلَى أَعْدَائِهِ [24].
تعرض نسل يعقوب أو إسرائيل للعبودية في مصر، لكن بقدر ما أذلوهم كانوا ينمون جدًا ويثمرون، بل وصاروا أكثر قوة وعزة من أعدائهم، إذ كانت بركة الرب معهم.
* "إنه جعل شعبه مثمرًا". حوالي 75 نفسًا نزلوا إلى مصر، وخرج من مصر 600 شخصًا[27].
حَوَّلَ قُلُوبَهُمْ لِيُبْغِضُوا شَعْبَهُ،
لِيَحْتَالُوا عَلَى عَبِيدِهِ [25].
إذ تزايد عددهم من عائلة ضخمة إلى شعب يتزايد وينمو، امتلأ المصريون بالغيرة مع الخوف منهم والحسد، فامتلأ الملك ورجاله كراهية من نحوهم. هذه البغضة كانت بسماح من الله ليطلعهم إلى الأرض الموعد.
إنه لم يبعث فيهم روح البغضة نحو شعبه، إنما رفع يديه عن قلوبهم ليكشف ما في داخلها، ويتركهم يُعَبِّرون عما في داخلهم من كراهية عمليًا.
أَرْسَلَ مُوسَى عَبْدَهُ،
وَهَارُونَ الَّذِي اخْتَارَهُ [26].
يبرز المرتل أن سرّ نجاح موسى وهرون هو دعوة الله لهما، وإن كان لكل منهما دوره الخاص به، لتحقيق خطة الله نحو شعبه.
أَقَامَا بَيْنَهُمْ كَلاَمَ آيَاتِهِ،
وَعَجَائِبَ فِي أَرْضِ حَامٍ [27].
لقد أعلن بتصريحات خاصة لحساب شعبه، مؤكدًا إياها بعجائب لتحقيقها.
أَرْسَلَ ظُلْمَةً فَأَظْلَمَتْ،
وَلَمْ يَعْصُوا كَلاَمَهُ [28].
يبدأ المرتل بالضربة التاسعة الخاصة بحلول الظلمة، وفي هذا يختلف عما ورد في (خر 7-11؛ ومز 78). يرى البعض أن الظلمة تشير بوجه عام إلى أية كارثة يصعب احتمالها، فتُدعَى ظلمة. ويرى آخرون أنه بدأ بهذه الضربة لأنها حرَّكتْ الشعب بكل قوة للامتثال لطلب موسى وهرون مهما كلَّفهم الأمر للخلاص من هذه الكارثة، ولكن فرعون بعد خضوعه لطلب الشعب للخروج من المأزق عاد وتراجع كما حدث مع الضربات السابقة لها.
* لم يأتِ عليهم بأسودٍ ونمورٍ وضباعٍ تأكلهم، ولا بقتلهم مرة واحدة، بل كان يجلدهم رويدًا رويدًا بنكبات تبدأ بأمورٍ خفيفة، وذلك للآتي:
أولًا: ليجلبهم إلى التوبة بوفرة رحمته.
ثانيًا: لتَظْهَر قوته أنه يقدر بالآت بسيطة ودنيئة يحارب جموعًا أقوياء.
ثالثًا: لئلا يبقى عُذْر لمن يقول إنه لو عالجهم الله بوفرة رحمته ولم يهلكهم لكانوا يلينون من قسوتهم.
رابعًا: لكي يعرف الإسرائيليون أيضًا قدرة الله ومحبته لهم ويتذكرون إحسانه. وإذا عدموا المواهب الإلهية يشعرون بذنوبهم ويندمون.
خامسًا: ليعرف الكل إنه إله، وحده خلق العالم، مُسَخِّر العناصر لطاعته. وأيضًا ليصير الأمر مشهورًا في كافة الأمم.
حَوَّلَ مِيَاهَهُمْ إِلَى دَمٍ،
وَقَتَلَ أَسْمَاكَهُمْ [29].
هذه هي الضربة الأولى حيث تحركتْ الطبيعة نفسها لتقف أمام الإنسان المُقاوِم للأمر الإلهي (خر 7: 19-25).
تحوَّلتْ المياه التي في البحر والنهر وفي الآبار والأغادير، حتى التي في أوعيتهم إلى دم، ولئلا يظنوا بأن اللون فقط قد تغيَّر وليس جوهر الماء، لذلك ماتت جميع الحيتان التي في البحر والنهر تأكيدًا للتحوُّل.
أَفَاضَتْ أَرْضُهُمْ ضَفَادِعَ،
حَتَّى فِي مَخَادِعِ مُلُوكِهِمْ [30].
جاء في المزمور 78: 45 "أرسل عليهم... ضفادع فأفسدتهم"، حيث أفسدت الضفادع الميتة الكثيرة الهواء نفسه، فسبب هلاكًا للبعض.
ذكر على وجوه الخصوص دخول الضفادع إلى بيوت الأسرة الملكية، تأكيدًا أن الجند لم يستطيعوا أن يحموا القصر الملكي حتى من الضفادع.
أَمَرَ فَجَاءَ الذُّبَّانُ وَالْبَعُوضُ فِي كُلِّ تُخُومِهِمْ [31].
يتحدث هنا عن الضربتين الثالثة والرابعة.
جَعَلَ أَمْطَارَهُمْ بَرَدًا وَنَارًا مُلْتَهِبَةً فِي أَرْضِهِمْ [32].
يرى البعض أن الله سمح بنوع من البَرَدْ لم تعتده مصر، إذ تعتمد على نهر النيل لا على الأمطار، وإن النار هنا تشير إلى رعود عنيفة وبروق غير معتادة.
جاء في سفر الحكمة (أصحاح 16) أن الطبيعة خالفت قوانينها، فكلما سقط بَرَد لم يكن يطفئ النيران المشتعلة بل يزيدها، وكلما التهبت النيران بالأكثر يزداد البَرَد.
ضَرَبَ كُرُومَهُمْ وَتِينَهُمْ،
وَكَسَّرَ كُلَّ أَشْجَارِ تُخُومِهِمْ [33].
تحولت حدائقهم إلى مناطق برية قاحلة، حيث ضرب الله كل أشجارها.
أَمَرَ فَجَاءَ الْجَرَادُ وَغَوْغَاءُ بِلاَ عَدَدٍ [34].
فَأَكَلَ كُلَّ عُشْبٍ فِي بِلاَدِهِمْ.
وَأَكَلَ أَثْمَارَ أَرْضِهِمْ [35].
هذه هي الضربة الثامنة (خر 10: 12-15).
قَتَلَ كُلَّ بِكْرٍ فِي أَرْضِهِمْ،
أَوَائِلَ كُلِّ قُوَّتِهِمْ [36].
هذه هي الضربة العاشرة والأخيرة (خر 12: 29-30). كانت التجربة غاية في الرعب، لأنها تمت في منتصف الليل، وسط الظلام الدامس.
فَأَخْرَجَهُمْ بِفِضَّةٍ وَذَهَبٍ،
وَلَمْ يَكُنْ فِي أَسْبَاطِهِمْ عَاثِرٌ [37].
لقد أعطاهم الرب نعمة في أعين المصريين، عندما سألوهم فضة وذهبًا قدموهما لهم بغير تردد. هذا ولم يوجد بينهم عاثر أي ضعيف أو مريض يعجز عن القيام برحلة الخروج. هكذا أخرجهم الرب بيدٍ قوية وذراعٍ رفيعة.
* أمرهم أن يستعير كل منهم من جاره المصري أوانٍ ذهبية وفضية، وخرجوا من مصر، بينما كان المصريون يدفنون أبكارهم. خرجوا فرحين من العبودية القاسية. أما الحزن والبكاء، فكان من نصيب المصريين بسبب هلاك أبكارهم. ولذلك قال موسى: "هذه الليلة هي للرب" (خر 12: 42) التي وعد أن يفتدينا فيها. وكل هذه الأشياء إنما هي سرّ النفس التي اُفتديتْ بمجيء المسيح، لأن كلمة "إسرائيل" تُفَسَّر بمعنى العقل الذي يعاين الله، فإنه يتحرر من عبودية الظلمة، أي من المصريين روحيًا[28].
* أما ثيابهم وأحذيتهم وأبدانهم فقد فقدت ضعفها الطبيعي. فثيابهم وأحذيتهم لم تبل بعامل الزمن، وأرجلهم لم تتورم رغم كثرة السير. ولم يذكر قط أن بينهم كان أطباء أو دواء أو أي شيء من هذا القبيل. وهكذا قد انتُزِعَ كل ضعفٍ من بينهم. فقد قيل: "فأخرجهم بفضة وذهب، ولم يكن في أسباطهم عاثر (هزيل)" (مز 105: 37)... أشعة الشمس في حرارتها لم تضربهم، لأن السحابة كانت تظللهم، وتحيط بهم كمأوى مُتَحَرِّك يحمي أجساد الشعب كله. ولم يحتاجوا إلى مشعل يبدد ظلام الليل، بل كان لهم عمود النار كمصدر إضاءة لا يُنطَق به يقوم بعمليْن: الإضاءة مع توجيههم في طريق رحلتهم... قائدًا هؤلاء الضيوف الذين بلا عدد في وسط البرية بدقة أفضل من أي مُرشِدٍ بَشَرِي. ولم يرحلوا فقط على البرّ بل وفي البحر كما لو كان أرضًا يابسة... فقد قاموا بتجربة جريئة تخالف قوانين الطبيعة. إذ وطئوا البحر الثائر، سائرين فيه كما على صخرٍ يابسٍ صلبٍ. فإذ وضعوا أقدامهم فيه، صارت مادته كالأرض اليابسة... وإذ وصل إليه الأعداء عاد إلى ما كانت عليه طبيعته، فصارت للأولين مركبة وللأعداء قبرًا... فقام البحر الذي لا يفهم بدور مُحْكَم كأعقل وأذكى إنسان، قام بدور حارس مرة، وبدور منتقم مرة أخرى، مُعْلِنًا هذا العمل المتناقض في يوم واحد[29].
* كل من كان فيكم "ثيؤفيلس" (لو 1: 3) فهو "عزيز" (ممتاز) وقوي جدًا. هذا ما تعنيه كلمة θεοφιλος في اليونانية. ليس من ثيؤفليس من هم ضعيف. يقول الكتاب عن شعب إسرائيل عند خروجهم من مصر: "لم يكن في أسباطهم ضعيف" (مز 105: 37). أستطيع في جسارة أن أقول إن كل واحدٍ هو ثيؤفيلس نشيط، لديه غيرة وقوة من عند الله ومن كلمته. يستطيع أن يتعرف على الحق، وعلى تلك الكلمات التي بها يتعلم، ويفهم كلمة الإنجيل في المسيح. الذي له المجد والسلطان إلى دهر الدهور[30].
فَرِحَتْ مِصْرُ بِخُرُوجِهِمْ،
لأَنَّ رُعْبَهُمْ سَقَطَ عَلَيْهِمْ [38].
حوَّط الله حول شعبه، وحفظهم بطرق متعددة عجيبة، حتى فرحتْ مصر بخروجهم.
بقدر ما كان فرعون ورجاله وشعبه يقاومون خروجهم بإصرار، صاروا فرحين بخروجهم. عوض مقاومة الخروج صاروا يسندونهم ويُقَدِّمون لهم التسهيلات برضا ليخرجوا.
5. التمتع بالميراث
في القسم السابق قدَّم الله لشعبه احتياجات شعبه الجسدية من خبز ولحم وماءٍ. أما هنا فيُقَدِّم لهم طعامًا وشرابًا للنفس ألا وهو الفرح والبهجة والترنم.
بَسَطَ سَحَابًا سَجْفًا،
وَنَارًا لِتُضِيءَ اللَّيْلَ [39].
لم يجعلهم في عوزٍ إلى شيءٍ، فيُرسِل لهم سحابًا كسقفٍ يحميهم، ونارًا لا لتحرقهم بل تضيء لهم في ظلمة الليل. بمعنى آخر يهتم بهم نهارًا وليلًا، ويحميهم من حرارة الشمس ويُنير لهم الطريق (خر 13: 21؛ عد 9: 16؛ 10: 34).
يصير الله لهم ملجأ وحصنًا كما يصير قائدًا في رحلتهم.
* إنه يوقد ناره في نفوسنا، ويظهر عمله فيها إن وجدها نقية من رطوبة الشهوات الزمنية[31].
* صلِّ من أجلي بحق ربنا كي تجتذبني بلده التي بداخلك، فأدخل إليها في الوقت الذي فيه نطلب إليه باشتياق أن يَخرُج إليّ فأراه.
إنه يوقد ناره في نفوسنا، ويظهر عمله فينا، إن وجدها طاهرة من رطوبة الشهوات المادية (مز 39:105)[32].
الشيخ الروحاني (يوحنا الدّلياتي)
سَأَلُوا فَأَتَاهُمْ بِالسَّلْوَى،
وَخُبْزَ السَّمَاءِ أَشْبَعَهُمْ [40].
جعل الله البرية القفر تفيض على شعبه التائه بالخبز واللحم والماء.
إنه الأب السماوي الذي يعرف ما هو لنفعنا، يهتم حتى بطعامنا الجسدي. أما من جانبنا فيلزمنا ألا نشتهي شيئًا، بل نسأله أن يُطعِمنا بما يراه لائقًا بنا ولبنياننا. إنه يود أن يُدَرِّبنا على التمتع بخبز السماء وطعام والملائكة.
شَقَّ الصَّخْرَةَ فَانْفَجَرَتِ الْمِيَاهُ.
جَرَتْ فِي الْيَابِسَةِ نَهْرًا [41].
يُسَجِّل لنا موسى النبي هذا الأمر في (خر 17: 6 و عد 20: 11).
ما هي الصخرة إلا السيد المسيح الذي بصليبه فجرَّ لنا ينابيع مياه الروح القدس، ووهبنا أن نشرب من النهر الذي يُفَرِّح مدينة الله.
"يروون من دسم بيتك، ومن نهر نعمك تسقيهم" (مز 36: 8).
"نهر سواقيه تفرح مدينة الله مقدس مساكن العلي" (مز 46: 4).
"حول البحر إلى يبس، وفي النهر عبروا بالرجل هناك فرحنا به" (مز 66: 6).
"ويملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض" (مز 72: 8).
"مدت قضبانها إلى البحر، وإلى النهر فروعها" (مز 80: 11).
"شق الصخرة فانفجرت المياه، جرت في اليابسة نهرًا" (مز 105: 41).
"من النهر يشرب في الطريق لذلك يرفع الرأس" (مز 110: 7).
* دعنا نتأمل الآن في كلمات الإنجيل التي أمامنا. "فالأردن" يرمز إلى "النزول إلى أسفل". وتقترب كلمة "يارد" (تك 5) من الجانب اللفظي من كلمة "الأردن"، إذا جاز هذا القول. إذ تؤدي إلى نفس معنى "النزول إلى أسفل". "فيارد" وُلِدَ من "مهللئيل"، كما جاء في كتاب "أخنوخ"، إذا تقبَّلنا صِدْق ذلك الكتاب، وذلك في الأيام التي فيها (نزل) أبناء الله، واتخذوا لأنفسهم بنات الناس.
فبالنسبة لهذا النزول افترض البعض أن هناك إشارة مبهمة إلى "نزول" الأنفس إلى الأجساد. ناظرين إلى كلمتي "بنات الناس" كتعبيرٍ مجازي عن ذلك المسكن الأرضي. فإذا كان الأمر كذلك، فأي نهر سيكون إليه نزولهم، حيث لابد من أن يأتي المرء للتطهير، نهر ينحدر، لا من خلال نزوله هو، بل بنزولهم هم، أي الناس، إلا مخلصنا الذي يفرز الذين أخذوا أنصبتهم من موسى عن أولئك الذين حصلوا عليها من خلال يسوع (يشوع). فتيار هذا النهر، الذي يتدفق في مجراه يُفْرِحُ مدينة الله، كما ورد في المزامير (4:46). هذه المدينة التي ليست هي أورشليم المرئية، إذ ليس بجوارها نهر، بل كنيسة الله التي هي بلا لوم، المبنيِّة عل أساس الرسل والأنبياء، مع يسوع المسيح حجر الزاوية الرئيسي فيها.
لا بد أن نفهم كلمة "الأردن" أنه كلمة الله الذي صار جسدًا وهيكلًا بيننا، يسوع حجر زاويتنا الرئيسي الذي يعطينا إنسانيته التي اتخذها كإرث. هذه إذ قد أُصْعِدَت إلى لاهوت ابن الله، قد غُسِلَت، ثم تقبَّلت في ذاتها حمامة الروح النقية والبريئة، وارتبطت بها إذ لا تستطيع الطيران بعيدًا عنها فيما بعد.
لأَنَّهُ ذَكَرَ كَلِمَةَ قُدْسِهِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ عَبْدِهِ [42].
لقد مرت فترة طويلة على الشعب كانوا يشعرون كمن في ظلمة ومرارة مع حيرة، لكن الله وهبهم بهجة عند خرجوهم، فامتلأتْ أعماقهم بالفرح والتسبيح لله من أجل غِنَى نعمته.
فَأَخْرَجَ شَعْبَهُ بِابْتِهَاجٍ،
وَمُخْتَارِيهِ بِتَرَنُّمٍ [43].
وَأَعْطَاهُمْ أَرَاضِيَ الأُمَمِ.
وَتَعَبَ الشُّعُوبِ وَرَثُوهُ [44].
في الوقت المُعَيَّن، إذ امتلأ كيْل الوثنيين، طُرِدوا من أراضيهم، وفقدوا تعب أياديهم، ليرثه المؤمنون المُقَدَّسون له.
* لذلك على الذين يتمتعون بخيرات هذه الحياة أن يفكروا بحكمة أن هذه الخيرات هي في حوزتهم لكي تُحَفِّزهم للحياة الأفضل. لكنها في بعض الأحيان تؤدي بهم إلى لعنة أبدية مريرة. لأجل ذلك وعد الله بأرض كنعان لشعب إسرائيل ليحثهم في الأخير على الرجاء في الأمور الأبدية. ولأن هذا الشعب الذي لم يتعلم بعد قد ذاق شيئًا ما من الأمور الوقتية التي وعدهم بها الله، ووثقوا بتلك الوعود التي كانت في المنظور البعيد. وحتى يتقوى أيضًا رجاءهم بالأبديات، لم يدفعهم هذا فقط إلى الأمور المادية، بل منها إلى الرجاء في السماويات. هذا يشهد به صاحب المزامير بوضوح حينما يقول: "وأعطاهم أراضي الأمم وتعب الشعوب ورثوه. لكي يحفظوا فرائضه ويطيعوا شرائعه" (مز 105: 44-45)[33].
الأب غريغوريوس (الكبير)
لِكَيْ يَحْفَظُوا فَرَائِضَهُ،
وَيُطِيعُوا شَرَائِعَهُ. هَلِّلُويَا [45].
غاية أعمال الله وعجائبه أن يحفظ المؤمنون وصاياه ويطيعوه، فيصيرون أبناء مُقَدَّسين له!
من وحي مزمور 105
لأكشف لك نفسي، يا من تعرف أعماقي
فتكشف لي أسرارك، لأني لا أعرفك كما أنتَ!
* أعترف لك بكل ما في أعماقي،
فإني خاطئ، وضعيف، ومستحق كل تأديب!
ولتكشف لي ذاتك،
فأُدرك أسرار حبك!
أراك غافر الخطايا،
ومُنقِذ نفسي من الفساد!
* لأُخبر كل الأمم بعجائبك.
فإنني أُحب كل البشرية،
وأشتهى خلاص كل إنسانٍ!
يفرح قلبي، وتُغَنِّي لك أعماقي،
وأنا ألتمس حضورك،
وأطلب التَعَرُّف على أسرارك!
كم بالأكثر يتهلل كل كياني حين أجدك حالًا فيّ!
وكم يزداد فرحي حين يتمتع الكل بحضورك!
* أفتخر باسمك يا أيها القدوس.
أحمل الانتساب إليك كمسيحي،
لأنك المسيح مخلص العالم.
تطلبك أعماقي، ليختبر العالم كله قدرتك العجيبة!
* كم كان اليهود يتهللون حين يظهرون أمامك في الأعياد.
في كل عام يصعد الكل إلى هيكلك ثلاث مرات.
يُعَيِّدون ويحسبون أنفسهم كمن هم في السماء!
أما وقد تجسدتَ وصرتَ كواحدٍ منا،
فيتهلل العالم كله بحضورك الدائم في وسط كنيستك!
لا أنتظر عيدًا، فأصعد إلى أورشليم.
بل أحتفل على الدوام بملكوتك في داخلي كما في السماء!
أنت هو عيدي الدائم الذي لا ينقطع.
أصرخ في أعماقي ليختبر العالم كله عذوبة حضورك!
وينعم الكل بالصلاة إليك بغير انقطاع!
ويرتفع قلب كل بشر إلى أورشليم العليا.
* هبْ لي مع التواضع الحقيقي روح الفرح السماوي.
أُسَبِّحك، وأُغَنِّي لك، وأحمدك، وأعترف لك.
أتوسل إليك، وأُصَلِّي بلا انقطاع.
أفتخر باسمك القدوس، وأتأمل في أعمالك.
أختبر دومًا عذوبة حضرتك،
ولا أكف عن الحوار المفتوح معك.
* معاملاتك معي كما مع كل الشعب عجيبة!
عجائبك لا تتوقف، إذ تجعل من شعبك عجبًا!
آياتك هي عنايتك الإلهية التي لا تتوقف!
أحكام فمك تكشف عن حبك الفائق لنا.
ماذا نرد لك من أجل حبك العجيب نحونا؟
كأنه ليس في السماء ولا على الأرض غيرنا.
حبك للبشرية يدهش كل الخليقة!
* قطعتَ عهدًا مع أبينا إبراهيم،
لكي ننعم نحن أبناؤه
بهذا الميثاق الأبدي كأبناء لك.
اخترت أبانا يعقوب، وجعلته بكرًا،
لكي تقيم منا أعضاءً في كنيسة الأبكار السماوية.
في كل المواثيق والعهود والأقسام تشير إلى تجسدك وخلاصك.
* تهلل آباؤنا بهذه العهود المُفْرِحة معك.
وأدركوا أنها في جوهرها كشف عن حبك لكل البشر.
هي عهود أبدية، تتمتع بها كل الأجيال خلال صليبك.
وتَحْمِل الكل لخبرة عربون السماء،
والرجاء في الأمجاد الأبدية.
هي عهود شخصية مع كل أب،
وهي عهود لكل مؤمن عبر الأجيال،
تَحْمِله إلى تذوُّق حبك الفائق.
* لم يعد نصيب ميراثنا أرضًا تفيض عسلًا ولبنًا،
يمكن أن يُنزَع منا، أو نُنزَع نحن منها،
كما نُزع إسرائيل ويهوذا بواسطة أشور وبابل.
إنما صار نصيب ميراثنا في داخلنا،
عربون الميراث السماوي الذي لن يسحبه العدو منا!
* رعايتك لنا في أرض غربتنا وأثناء رحلة هذه الحياة فائقة.
تسمح لنا بالضيقات،
لكنك تحفظنا، فلا تصيبنا أذية.
يقف ضدنا جبابرة قساة،
لكنك توبخهم وتبطل مؤامراتهم!
* أنت كلي الصلاح،
تستخدم حتى شرور الأشرار لخير الكثيرين.
تُخرِج من الآكل أكلًا، ومن الجافي حلاوة.
* وعودك صادقة وأمينة،
ورعايتك فائقة وعجيبة،
لكننا كثيرًا ما نتعجل تحقيقها،
ولا ننتظر الوقت المُعَيَّن حسب خطتك الإلهية.
* تسمح لنا بالضيقات التي تبدو مُرَّة للغاية،
ولا نعلم أنها هي طريق المجد والكرامة المعدة لنا!
عوض المذلة والضعف والحرمان،
تهبنا كرامة وقوة وإمكانيات جبارة.
* تُرسِل على الدوام قادة،
تختارهم لتحقيق خطتك،
وتُقَدِّم لهم آيات ومعجزات تسندهم.
تُحَرِّك الطبيعة غير العاقلة لكي تقف أمام المقاومين لك.
تعمل الطبيعة لحسابنا، بأمرٍ من لدنك.
* تُحَوِّل يا رب حتى المقاومين لنا إلى سَنَدٍ.
يساهمون في تحقيق خطتك معنا بفرح!
عوض المقاومة والعنف، يصيرون عونًا لنا في خلاصنا!
* تقود بنفسك رحلة حياتنا إليك.
تحمينا وتحرسنا من كل ضربة،
وتقودنا بنورك وسط ظلمة العالم!