رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تفسير الاصحاح الثالث من سفر التكوين إذ هيأ الله للإنسان كل إمكانيات الحياة كمتسلط علي الأرض بكل إمكانياتها وهبه أعظم عطية: الحرية الإنسانية، علامة تقدير من الله نحو أكمل خليقة علي الأرض؛ لكن سرعان ما سقط الإنسان بإرادته تحت غواية العدو إبليس متجاهلاً حب الله له: 1. الحيّة المخادعة 1-6. 2. انفتاح أعينهما 7. 3. اهتمام الله بالإنسان 8-13. 4. لعنة الحيّة 14. 5. الوعد بالخلاص 15. 6. تأديب الإنسان 16-19. 7. القميص الجلدي 20-21. 8. طرد الإنسان 22-24. 1. الحيّة المخادعة: إذ قدم الله للإنسان كل شيء أقامه في الفردوس، ووهبه الوصية ليرد الحب بالطاعة. ولعله كان في ذهن الله هبات أعظم يود أن يقدمها للإنسان كمكافأة له عن طاعته المستمرة للوصية، لكن عدو الخير حسد الإنسان فأراد أن يهبط به إلى الموت مستخدمًا الحيّة ليدخل مع الإنسان في حوار مهلك. يقول الكتاب: "وكانت الحيّة أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الله، فقالت للمرأة: أحقًا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟! فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا" [1– 3.] لقد استخدم العدو الخليقة الصالحة التي من عمل الله كوسيلة لتحطيم الإنسان، فكان العيب لا في الوسيلة، وإنما في الإنسان الذي قبل أن يدخل في حوار باطل مع الحيّة، خاصة وأن المرأة بدأت تحرّف كلمات الله إذ ادعت أنه طالبهما ألا يمسا الثمر، الأمر الذي كان فيه مبالغة! لهذا يسألنا الرسول بولس أن نهرب من مثل هذا الحوار المفسد للعقل والنفس، قائلاً: "المباحثات الغبية والسخيفة اجتنبها" (2 تي 2: 23). كثيرًا ما أكد القديس يوحنا الذهبي الفم أنه ما كان يمكن للشيطان أن يتسلل إلينا ويغلبنا ما لم نعطه الفرصة بالتراخي أو الدخول معه في حوار باطل، فمن كلماته: [قد يقول قائلاً: ألم يؤذِ الشيطان آدم، إذ أفسد كيانه وأفقده الفردوس؟ لا إنما السبب في هذا يكمن في إهمال من أصابه الضرر ونقص ضبطه للنفس وعدم جهاده. فالشيطان الذي استخدم المكائد القوية المختلفة لم يستطع أن يخضع أيوب له، فكيف يقدر بوسيلة أقل أن يسيطر علي آدم، لو لم يغدر بنفسه علي نفسه؟[94]] [التراخي والكسل وليس إبليس هما اللذان يصرعان غير اليقظين... إنما هذان يسمحان لإبليس لكي يفرط في الشر[95].] [لم أنطق بهذه الأمور لأبرئ الشيطان من الذنب، لكن لكي أحذركم من الكسل. فإن الشيطان يرغب في أن نلقي باللوم عليه عندما نخطئ... بهذا نغرق في كل صنوف الشر ونزيد علي أنفسنا العقوبة، ولا ننال العفو، إذ ننسب العلة إليه (دون أن نقدم توبة) [96].] أما عن الحوار الباطل الذي دخلت فيه حواء مع الحيّة، فيقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان يجب عليها أن تصمت؛ كان يلزمها ألا تبادلها الحديث، ولكن في غباء كشفت قول السيد، وبذلك قدمت للشيطان فرصة عظيمة... انظروا أي شر هذا أن نسلم أنفسنا في أيدي أعدائنا والمتآمرين علينا؟! لهذا يقول السيد المسيح: "لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير (لئلا تدوسها بأرجلها) وتلتفت فتمزقكم" (مت 7: 6). هذا هو ما حدث مع حواء. لقد أعطت القدس للكلاب. والخنازير، فداست عليها بأرجلها والتفتت ومزقت المرأة[97].] ليتنا لا نخاف الشيطان فإنه لا يستطيع أن يقتحم قلبنا بالعنف وإنما نخاف من أنفسنا إذ نقبل حيله وأضاليله، فنسمح له بالتسلل إلى أعماقنا ليتسلم قيادة إرادتنا ويسيطر علي القلب والفكر والحواس، ونسقط تحت عبوديته المرة. في هذا الحوار الذي دار بين حواء والحيّة لم يقدم الشيطان للإنسان إلاَّ وعودًا، قائلاً: "لن تموتا، بل الله عالم أن يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر" [4، ٥.] مجرد وعد أنهما يكونان كالله (كبرياء!) وينالان معرفة، لكنه لم يقدم عملاً لصالحهما وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم يظهر الشيطان عملاً صالحًا - قليلاً كان أو كثيرًا - بل أغوي المرأة بالكلام المجرد ونفخها برجاء باطل، وهكذا خدعها، ومع هذا نظرت إلى الشيطان كموضع ثقة أكثر من الله، مع أن الله أظهر إرادته الحسنة بأعماله[98].] كما يقول: [إذ لم يكن الشيطان قادرًا علي تقديم شيء عمليًا قدم بالأكثر وعودًا في كلمات. هكذا هي شخصية المخادعين[99].] حقًا لقد كان يمكن لحواء أن تعرف خديعة العدو وتدرك مضاداته لله ومقاومته لكلماته، فبينما يقول الله لآدم: "موتًا تموت"، يقول الشيطان: "لن تموتا". وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كيف يليق بالإنسان أن يدرك العدو والخصم إلاَّ من هذه الإجابة المناقضة لأقوال الله؟! كان يليق بحواء أن تهرب للحال من الطُعم وتتراجع عن الشبكة[100].] بمعني آخر ليتنا نقبل الله كقائد لحياتنا ونرفض إبليس كمخادع لنا ومهلك لنفوسنا. وكما يقول القديس أغسطينوس: [الله هو قائدنا والشيطان هو مهلكنا، القائد يقدم وصيته، وأما المهلك فيقترح خدعة، فهل نصغي للوصية أم للخداع؟![101]] حدثنا آباء الكنيسة عن خداع إبليس لآدم (وحواء)، وقد رأوا في هذا الخداع ثلاث خطايا رئيسية قدمها العدو لتحطيم البشرية كلها، وعاد ليحارب آدم الثاني (السيد المسيح) بذات الخطايا، حاسبًا أنه قادر علي اقتناصه في شباكه، وكما يقول الأب سرابيون: [كان يلزم بحق لربنا أن يُجرب بنفس الأهواء التي جُرب بها آدم حين كان في صورة الله قبل إفسادها، وهي النهم والطمع والكبرياء، التي تشابكت وأفرخت بعدما تعدي الوصية وأفسد صورة الله وشبهه. لقد جُرب آدم بالنهم حين أخذ الفاكهة من الشجرة الممنوعة، وجُرب بالطمع حين قيل له: "تنفتح أعينكما"، وبالكبرياء حين قيل: "تكونا كالله عارفين الخير والشر" (تك 3: 5) وأيضًا جُرب مخلصنا بالخطايا الثلاثة، بالفهم حين قال له الشيطان: "قل أن تصير هذه الحجارة خبزًا" (مت 4: 3)، وبالكبرياء حين قال له: "إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، وبالطمع حين رآه جميع ممالك الأرض ومجدها، وقال له: "أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي" (مت 4: 9). لقد أعطانا الرب نفسه مثالاً كيف يمكننا أن ننتصر كما انتصر هو حين جُرب. لقد لقب كلاهما بآدم، أحدهما الأول في الهلاك والموت، والثاني كان الأول في القيامة والحياة، بالأول صارت البشرية كلها تحت الدينونة وبالثاني تحررت البشرية[102].] وقد ركز كثير من الآباء علي خطية الكبرياء بكونها رأس الخطايا، خلالها تحطم إبليس وجنوده، مقدمًا ذات الوسيلة ليحطم البشرية. يقول القديس أغسطينوس عن الأبوين الأولين اللذين خدعهما الشيطان بروح الكبرياء: [لقد أنصتا لصوت المخادع: "تصيران كالله" فهجرا الله الذي أراد أن يجعلهما إلهين لا خلال عزلتهما عنه وإنما خلال شركتهما فيه[103].] كما يقول: [بالكبرياء نفشل في بلوغ هذا الخلود... إن كنا بالكبرياء قد جُرحنا فبالاتضاع ننال الشفاء. جاء الله في اتضاع لكي يشفي الإنسان من جرح الكبرياء الخطير[104].] هكذا يكشف لنا الآباء خداع العدو إبليس، هذا الذي تسلل إلى حواء خلال الحيّة، لكي بدورها تسحب رجلها إلى السقوط معها، إذ قيل: "فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل" [٦.] وهكذا فقدت حواء رسالتها الأصيلة كمعينة (2: 18) بل صارت فخًا لرجلها ومحطمة لحياته. يري القديس ديديموس الضرير أن إبليس أو الشيطان عمل خلال الحيّة التي أغوت المرأة، هذه التي بدورها سحبت معها رجلها، وكأن العدو في حربه يبدأ خلال الشهوة كحية تتسلل إلينا، لكي تخدع الحواس التي تمثل المرأة، والحواس بدورها يكون لها فاعليتها في العقل (الرجل)، فيفقد العقل اتزانه وحكمته وينحرف إلى الشر. 2. انفتاح أعينهما: "فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر" [7.] ماذا يعني انفتاح العينين لتريا أن الجسد عريان، إلاَّ أن الإنسان بالخطية يدرك أنه دخل إلى حالة من الفساد تظهر خلال أحاسيس الجسد وشهواته التي لا تُضبط؟! بهذا يدخل الإنسان في معرفة جديدة، هي خبرة الشر التي امتزج بحياته وأفسد جسده تمامًا؛ إنه يتعرف علي جسده الذي صار عنيفًا في الشر بلا ضابط. يقول القديس أغسطينوس: [لقد اختبرا إحساسًا جديدًا في جسديهما اللذين صارا عاصيين لهما كمكافأة حازمة لعصيانهما الله. فالنفس الثائرة علي خدمة الله محتقرة هذا العمل بكامل حريتها تفقد سيطرتها التي كانت لها قبلاً علي الجسد[105].] كما يقول: [انفتحت أعينهما لا لينظرا، فإنهما كانا ينظران من قبل، إنما ليميزا الخير الذي فقداه والشر الذي سقطا فيه[106]]، [لقد عرفا أنهما عريانان، عريانان من تلك النعمة التي حفظتهما من خزي عري الجسد، بينما قدمت لهما شريعة الخطية عدم ثبات لذهنهما[107].] يقول القديس أمبروسيوس: [صار لك معرفة أنك عريان، لأنك فقدت ثوب الإيمان الصالح. هذه هي الأوراق التي بها تطلب أن تستر نفسك. لقد رفضت الثمر وأرادت الاختفاء وراء أوراق الناموس ولكنك خُدعت[108].] هكذا إذ يري الإنسان نفسه عاريًا عن ثمرة النعمة الإلهية التي تعمل في أعماق القلب الداخلي يتستر وراء حرفية الناموس وشكليات ظاهرة دون التمتع بالتغيير الداخلي. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). ويري القديس ديديموس الضرير أن الإنسان يلجأ إلى أوراق التين يحيكها مآزرًا لنفسه لا تقدر أن تستره، بالتعلل بأعذار واهية لما يرتكبه، إذ يقول: [أحيانًا يحيك الخاطئ لنفسه أعذارًا عن خطاياه. أليس هذا هو ما نراه في كثير من الناس؟! فالغضوب مثلاً يخترع أعذارًا لكي يبرر غضبه مظهرًا أنه علي حق، مستعينًا أحيانًا بالكتاب المقدس، هذا هو معني "خاطا أوراق تين"، وذلك بإهمالهما للثمر وإقامة نوع من الحماية غير الكاملة كمآزر لهما. فالغضوب مثلاً نسمعه يقدم (إيليا) مثالاً بأنه غضب وأهلك رئيس الخمسين (2 مل 1: 9-12)[109].] 3. اهتمام الله بالإنسان: إن كان الإنسان قد قابل حب الله بالعصيان، فالله يقابل حتى هذا العصيان بالحب لكي يسحب قلبه من مرضه الذي أصابه، ويقيمه من الموت الذي ملك عليه (رو 5: 14). لقد جاء صوت الله ماشيًا في الجنة ليلتقي مع الإنسان الساقط. يقول الكتاب: "وسمعا صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة عند هبوب ريح النهار" [٨.] لقد سمعا "صوت الرب" ماشيًا مع أن الصوت لا يمشي، لكنه هو "صوت الرب" أي (كلمته)، الابن وحيد الجنس الذي جاء مبادرًا بالحب ليقتنص الإنسان الساقط ويقيمه. جاء عند هبوب ريح النهار، إذ نلتقي به بالروح القدس، لأن كلمة "روح" و "ريح" في العبرية هي واحدة. جاء في وسط النهار لنتعرف عليه خلال نوره. وكما يقول المرتل: "بنورك يا رب نعاين النور" بمعني آخر لن نسمع صوت الرب متمشيًا فينا ما لم يهب بروحه القدوس علي جنته في أعماقنا ويضيء عليها بنوره الإلهي فنصير كمن في وسط النهار. لم ينتظر الله الإنسان ليأتي إليه معتذرًا عن خطاياه، إنما تقدم إليه لكي بالحب يجتذبنا إلى معرفة خطايانا والاعتراف بها. بنفس الروح يطالبنا ربنا يسوع أن نذهب نحن إلى أخينا الذي أخطأ إلينا ونعاتبه ولا ننتظر مجيئه إلينا (مت 18: 15). وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن المخطئ غالبًا ما يحجم عن المجيء بسبب خجله، لذا يليق بنا أن نذهب إليه أولاً بمفردنا لكي بالحب نربحه لأنفسنا كما يربح هو نفسه. هكذا بادر كلمة الله بالحب، فنادي آدم وقال له: "أين أنت؟" [9.] لم يكن يجهل موضعه لكنه أراد الدخول معه في حوار، كاشفًا له أنه قد صار غير مستحق أن يكون موضع معرفة الله، وكأنه قد صار مختفيًا عن النور الإلهي. يقول القديس أغسطينوس أن الشرير يخرج بشره من دائرة نور الله فيصبح كمن هو خارج معرفة الله، لا بمعنى أن الله لا يعرفه، وإنما لا يعرفه معرفة الصداقة والشركة معه، لهذا يقول للجاهلات: "الحق أقول لكن إني ما أعرفكن" (مت 15: 14). يقول القديس جيروم: [سمعنا أن الله لا يعرف الخطاة، لنتأمل كيف يعرف الأبرار؟!.] الآن، ما هو موقف الإنسان تجاه هذه المبادرة الإلهية؟ أولاً: "اختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة" [٨.] هذا الهروب هو ثمر طبيعي للعصيان والانفصال عن دائرة الرب، إذ لا تطيق الظلمة معاينة النور، وكما يقول آدم: "سمعت صوتك في الجنة فخشيت، لأني عريان فاختبأت" [10.] يحدثنا القديس أمبروسيوس عن سر هروب الخاطئ من وجه الرب بقول: [الضمير المذنب يكون مثقلاً حتى أنه يعاقب نفسه بنفسه دون قاضٍ، يود أن يتغطى لكنه يكون أمام الله عاريًا[110].] كأن الخطية تفقد الإنسان سلامه الداخلي وتدخل به إلى حالة من الرعب. ويعلل القديس ديديموس الضرير اختفاء آدم بقوله ان الإنسان قد طلب المعرفة خلال خبرة الشر فاختبأ من وجه الرب بابتعاده عن معرفة الله النقية. ويري العلامة أوريجانوس أن الأشرار يختفون عن وجه الرب إذ قيل" "حَوّلوا نحوي القفا لا الوجه" (إر 2: 27)، أما الأبرار فيقفون أمامه بثقة ليهبهم الحياة المقدسة (1 يو 3: 21)، قائلين مع إليشع النبي: "حيّ هو الرب الذي أنا واقف أمامه" (2 مل 5: 16). هكذا أختفي آدم بعد السقوط ولم يقدر أن يعاين الرب لا لأن الرب مرعب ومخيف وإنما لأن الإنسان في شره فقد صورة الله الداخلية التي تجتذبه بالحب نحو خالقه محب البشر، فصار الله بالنسبة له مرعبًا وديانًا لخطاياه، فالغيب في الإنسان الذي فقد نقاوة طبيعته وخسر استنارة بصيرته الداخلية. لذلك يعلق القديس ديديموس الضرير علي اختفاء آدم برعب، هكذا: [يعلل آدم عريه كسبب لخوفه، هذا العري الذي نجم عن فقدانه للفضيلة التي تستره، فالفضيلة بالحق هي ملبس إلهي. بهذا يعظ الرسول: "البسوا الرب يسوع" (رو 13: 14)، "البسوا أحشاء رآفات" (كو 3: 12)، أي زينوا أنفسكم بسلوك الرأفة حسب المسيح، أو "نلبس أسلحة النور" (رو 13: 12)، حتى نقدر أن نحارب الأعداء (الروحيين)[111].] ثانيًا: عندما التقي الله بالإنسان خلال مبادرته بالحب بالرغم من هروب الأخير وتخوفه، فإن الأخير لم ينكر خطأه لكنه برر خطأه بإلقاء اللوم علي الغير، فقال آدم: "المرأة التي جعلتها معي هي التي أعطتني من الشجرة فأكلت" [12]، وقال المرأة: "الحيّة غرّتني فأكلت" [13.] هكذا ألقي آدم باللوم علي حواء بل علي الله الذي أعطاه حواء، وألقت المرأة باللوم علي الحيّة، ولم يعتذر أحد منهما عما ارتكبه. يعلق القديس ديديموس الضرير علي إجابة آدم بقوله: [كان يليق به أولاً أن يفكر بأنه استلم زوجته من الرب لخيره، وأنه لم يتسلمها لتعطيه دروسًا بل لتتمثل هي به[112].] كما يعلق علي إجابة حواء بقوله: [الآن تعترف أنها انخدعت... فإن هذا هو حال المخدوعين لا يدركون الشر إلاَّ بعد إتمامه، إذ تخفي الشهوة عنهم إدراكهم للحقيقة وتنزع عنهم المعرفة[113].] 4. لعنة الحيّة: "فقال الرب الإله للحية: لأنكِ فعلتِ هذا ملعونة أنتِ من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، علي بطنك تسعين وترابًا تأكلين كل أيام حياتك" [14.] إذ حملت الحيّة خداعات إبليس للإنسان نالت اللعنة التي تصيب كل نفس تقبل سمات هذه الحيّة فيها وترتضي أن تكون آلة الحساب عدو الخير وإغراءاته. أما اللعنة فهي: "علي بطنك تسعين وترابًا تأكلين كل أيام حياتك". هكذا كل إنسان يقبل أن يكون أداة للعدو الشرير يصير كالحيّة، يسعى علي بطنه محبًا للأرضيات، ليس له أقدام ترفعه عن التراب، ولا أجنحة تنطلق به فوق الزمنيات. يصير محبًا أن يملأ بطنه بالتراب، ويزحف بجسده لتشبع أحشاؤه مما يشتهيه. هذا ومن جانب آخر فإن من يقبل مشورة الحيّة يشتهي الأرضيات فيصير هو نفسه أرضًا وترابًا، أي يصير مأكلاً للحية التي تزحف لتلتهمه. أما من له أجنحة الروح القدس فيرتفع فوق التراب منطلقًا نحو السماء عينها فلا تقدر الحيّة الزاحفة علي الأرض أن تقترب إليه وتلتهمه. ويقول القديس أغسطينوس: [يلتصق (الأشرار) بالأرضيات، وإذ هم مولودون من الأرض يفكرون فيها، وبكونهم أرضًا يصيرون طعامًا للحية[114]]، كما يقول: [إذ يطأ العدو حياتي يجعلها أرضًا فتصير له طعامًا[115]]، [أتريد ألا تكون مأكلاً للحية؟! لا تكن ترابًا تجيب: وكيف لا أكون ترابًا؟ إن كنت لا تتذوق الأرضيات[116].] 5. الوعد بالخلاص: إذ لعن الحيّة التي أغوت الإنسان حتى نرفضها ونرفض سماتها فينا، قدم لنا أول وعد بالخلاص، قائلاً للحيّة: "واضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، وهو يسحق رأسكِ وأنتِ تستحقين عقبه" [١٥.] صارت الحيّة تمثل إبليس نفسه، الذي دُعي "الحيّة القديمة" (رؤ 20: 2)، وقد وضع الله عداوة بين إبليس والمرأة حتى يأتي السيد المسيح من نسل المرأة - دون زرع بشر - يسحق رأس الحيّة التي سحقت عقب البشرية. سحق السيد المسيح - مولود الامرأة - بصليبه رأس الحيّة، كقول الرسول: "إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظاهرًا بهم فيه (في الصليب)" (كو 2: 14)، لكن الحيّة تسحق كل إنسان ينزل عن الحياة العلوية التي في الرب ليصير عقبًا يرتبط بالتراب. يري القديس أغسطينوس أن رأس الحيّة هو الكبرياء الذي يحدر حياة الإنسان فيجعلها عقبًا، عندئذ تقدر أن تنفس فيه سمومها، إذ يقول: [تترقب الحيّة عقب الكبرياء، عندما تراك تسقط بالكبرياء وتنحدر. إذن فلتلاحظ أنت رأسها أي الكبرياء بكونه رأس كل الخطايا[117].] كما يري أن رأس الحيّة هو بداية انطلاق الخطية فينا خلال الفكر الشرير، لذا يليق بنا أن نسحقه في بدايته قبل أن يحدرنا إلى العقب ويقتلنا. إنه يقول: [ما هذه الرأس؟ إنها بداية كل اقتراح شرير. فعندما يقترح عليك (العدو) فكرًا شريرًا القه عنك قبلما تثور اللذة فيك وتقبله. لتتجنب رأسه فر يمسك بعقبك[118].] 6. تأديب الإنسان: إذ قدم الوعد بالخلاص أعلن تأديبه للإنسان؛ فتح باب الرجاء بإعلان الخلاص قبلما يقدم التأديب المرّ حتى لا يسقط الإنسان تحت ثقل اليأس. وقد أعلن تأديبه للمرأة أولاً ثم للرجل. 7. القميص الجلدي: "ودعا آدم امرأته حواء، لأنها أم كل حيّ" [٢٠.] إن كان آدم وحواء قد سقطا تحت التأديب، فإنهما أبوانا الأولان، نجد في آدم أبًا لكل البشرية، وفي حواء أمًا للجميع... لكن خلال هذه الوالدية تسربت إلينا الخطية وسقطنا معهما تحت ذات التأديب حتى جاء آدم الثاني يهب الحياة الحقة للمؤمنين وصارت امرأته - حواء الجديدة - الأم الصادقة لكل حيّ. يقول القديس ديديموس الضرير: [الكنيسة هي أم المؤمنين، والمسيح هو أب لهم، الذي فيه تنبع كل أبوة ما في السموات وما علي الأرض (أف 3: 15)[123].] ويقول القديس جيروم: [كما توجد حواء واحدة هي أم كل الأحياء، هكذا توجد كنيسة واحدة هي والدة كل المسيحيين[124].] والآن إذ سقط الأبوان الأولان تحت التأديب الإلهي أعلن الله محبته لهم قبل طردهما من الجنة، إذ صنع لهما أقمصة من جلد وألبسهما [21] عوض أوراق التين التي صنعاهما لأنفسهما مآزر. هذه الأقمصة ربما تعلن عن كشف الله للإنسان الأول عن أهمية الذبيحة كرمز لذبيحة الخلاص... وكأن الله سلم آدم وحواء طقس الذبيحة الدموية. هذا والأقمصة الجلدية التي لا تجف ترمز إلى السيد المسيح الذبيح الذي نلبسه كساتر لخطايانا ونازع لفضيحة طبيعتنا القديمة. يري القديس امبروسيوس في الأقمصة الجلدية إشارة إلى أتعاب أعمال التوبة، إذ يقول: [ألبسهما الله أقمصة من الجلد لا من الحرير[125].] 8. طرد الإنسان: إذ صنع الله للإنسان قميصًا من جلد وألبسه، معلنًا رعايته الفائقة له خلال ذبيحة الصليب وستره لا بجلد حيوانات ميتة وإنما بالرب يسوع نفسه واهب الحياة، الذي يخفيه داخله ويستر عليه، قام بطرده من الفردوس... لماذا؟ أولاً تأديب المرأة: "تكثيرًا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادًا، وإلى رجلك يكون إشتياقك، وهو يسود عليك" [١٦.] هذا التأديب الذي سقطت تحته حواء بسبب الخطية، تحول بمراحم الله إلى بركة حينما قبلت الكنيسة - حواء الجديدة - أن تلد أولادًا روحيين لله خلال آلامها. يقول القديس أغسطينوس: [تحبل الكنيسة - عروس المسيح - بالأطفال وتتمخض بهم. كمثال لها دُعيت حواء أم كل حيّ [٢٠.] يقول أحد أعضاء هذه الكنيسة التي تتمخض: "يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضًا إلى أن يتصور المسيح فيكم" (غلا 4: 19). لكن الكنيسة لا تتمخض باطلاً، ولا تلد باطلاً، إنما تجد البذار المقدسة عند قيامة الأموات، تجد الأبرار الذين يتعثرون الآن (بالآلام) في العالم كله[119].] وما تحتمله الكنيسة - حواء الجديدة - من آلام في حبلها بالأولاد الروحيين وإنجابهم في الرب إنما تحتمله أيضًا كل نفس ككنيسة وهي تحبل بثمر الروح لتلد أولادًا يفرحون قلب الله. وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [تنجب الكنيسة أولادًا وهي في العالم خلال الألم، لأن الفضيلة تستلزم الحزن، والندامة تنشئ توبة للخلاص بلا ندامة (2 كو 7: 10)... "ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة؟!" (مت 7: 13)، لكنه "واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك وكثيرون هم الذين يدخلون منه". أما عن الدموع فهي ممدوحة[120].] وكما تحولت ولادة البنين بالتعب إلى بركة بقبول حواء الجديدة. الأتعاب لإنجاب أبناء في الرب، هكذا تحول أيضًا التأديب الآخر: "إلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك" إلى بركة روحية حين تقدم كلمة الله المتجسد إلى حواء الجديدة كرجلها، يسود عليها بالحب الباذل، وتشتاق هي إليه لتنعم به كسر حياتها وتتمتع بسماته فيها لتدخل معه إلى أمجاده الأبدية. ثانيًا تأديب الرجل: "ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكًا وحسكًا تنبت لك وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود" [١٧- ١٩.] خلق الله الأرض من أجل الإنسان، وبسببه باركها لتثمر له بركات، فإذ عصى الرب سقطت تحت اللعنة لتثمر له شوكًا وحسكًا يتناسب مع عصيانه أو فكره الداخلي. وما حدث للأرض بصورة حرفية تحقق في الأرض الرمزية أي الجسد، الذي بسبب عصياننا لله فقد اتزانه وخسر تقديسه فصار ينبت لنا شوكًا وحسكًا يفسد النفس ويحطمها. هكذا بقيت أرضنا بلا ثمر روحي. حتى جاءت القديسة مريم، فقدّسها الروح القدس بقبولها الوعد الإلهي، فأنتجت لنا الثمر البكر الذي يفرح قلب الآب ويبهج حياتنا. وكما يقول القديس جيروم: [أعطيت هذه الأرض غلتها، فما فقدته في جنة عدن وجدته في الابن[121].] هكذا بتجسد كلمة الله أمكن لأرضنا أن تنتج ثمرًا عوض الشوك والحسك، خاصة وأن السيد حمل هذا الشوك علي جبينه عوض أرضنا حتى يرد لأرضنا بهجتها. حملت الأرض اللعنة بسبب خطايانا، فصارت الحياة بالنسبة للإنسان - بعد سقوطه - صعبة وقاسية، إذ قيل: "بعرق وجهك تأكل خبزًا". أخيرًا إذ يشتهي الإنسان الأرض أو التراب عوض السماء يقال له: "لأنك تراب وإلى التراب تعود"، وبهذا صار مأكلاً للحيّة التي قيل لها: "ترابًا تأكلين كل أيام حياتك" [14.] من أجل هذا جاء كلمة الله السماوي لينزع عنا الطبيعة الترابية واهبًا إيانا السمات السماوية. وكما يقول القديس جيروم: [كما يُقال للخاطي: أنت تراب وإلى التراب تعود، هكذا يُقال للقديس: أنت سماء وإلى السماء تعود[122].] أولاً: إن كان الله قد طردنا من الفردوس، ففي حقيقة الأمر نحن طردنا أنفسنا بأنفسنا، إذ خلال العصيان صارت طبيعتنا الفاسدة لا تليق بالحياة الفردوسية المقدسة بل تناسب الأرض التي تخرج الشوك والحسك. لهذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لقد وهبنا الله الفردوس، وهذا من صنع عنايته المتحننة؛ ونحن أظهرنا عدم استحقاقنا للعطية، وهذه نتيجة إهمالنا الخاص بنا، لقد نزع العطية من أولئك الذين صاروا غير مستحقين لها، وهذا نابع عن صلاحه... [126].] ثانيًا: طرد الإنسان من الفردوس لا يعني الله حرمانه من عمل يديه وإنما تهيئته للتمتع بفردوس أعظم وحياة أبدية لا تنتهي. فيقول القديس ثاوفيلس الأنطاكي: [أن الطرد وإن كان عقوبة لكنه حمل صلاحًا من جهة الله، إذ أراد معاقبة الخطية وإصلاح الإنسان ورده بعد إعادة تجديده[127].] ويقول القديس أمبروسيوس: [أعطي الموت كعلاج إذ يضع حدًا للشرور[128].] بنفس الفكر يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تأمل ماذا يكون موقف قايين لو بقي في الفردوس وهو سافك دم؟!... لقد أعطي الفردوس للإنسان، وعندما أظهر الإنسان عدم استحقاقه طرده، حتى يصير ببقائه خارجًا وبإهانته إلى حال أحسن (بإظهار التوبة) فيقمع نفسه أكثر ويستحق العودة. وهكذا عندما صنع هذا وصار في حال أفضل أعاده مرة أخري، قائلاً: "إنك اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23: 34). هل رأيت كيف أنه ليس فقط إعطاء الفردوس بل وطردنا منه هو علامة عظم اهتمام مملوءة ترفقًا؟! فلو لم يعانِ الإنسان الطرد من الفردوس ما كان يمكن أن يظهر مستحقًا له مرة أخري[129].] لقد خشي الرب أن يأكل الإنسان من شجرة الحياة وهو فاسد في طبيعته فيبقي في شره أبديًا، إذ يقول الكتاب: "وقال الرب الإله: هوذا الإنسان قد صار كواحد منه عارفًا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا إلى الأبد" [٢٢.] ويبدو أن المتحدث هنا هو الثالوث القدوس، إذ يقول: "قد صار كواحد منا" من جهة معرفة الخير والشر، لكن الإنسان نال المعرفة خلال خبرة الشر القاتلة. يعلق الأب شيريمون علي هذه المعرفة، قائلاً: [لا يمكننا أن نظن بأن الإنسان كان قبلاً جاهلاً الخير تمامًا، وألاَّ يكون مخلوقًا غير عاقل كالحيوان العجموات، وهذا القول غريب تمامًا عن إيمان الكنيسة الجامعة. علاوة علي هذا يقول سليمان الحكيم: "الله صنع الإنسان مستقيمًا" (جا 7: 29)، بمعني أنه علي الدوام يتمتع بمعرفة الخير وحده، "أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة" (جا 7: 29)، إذ صارت لهم معرفة الخير والشر كما قيل. لقد صار لآدم بعد السقوط معرفة الشر الذي لم يكن يعرفه قبلاً، لكنه لم يفقد معرفته للخير الذي كان يعرفه[130].] أخيرًا إذ طُرد الإنسان من الفردوس أقام الله كاروبًا للحراسة... حتى جاء الجالس علي الكاروبيم نفسه يحملنا في جنبه المطعون ليدخل بنا إلى فردوسه السماوي. |
13 - 05 - 2012, 02:59 AM | رقم المشاركة : ( 2 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
مشكوووووووووووووووووووووووووووووووووورر
|
|||
13 - 05 - 2012, 05:09 AM | رقم المشاركة : ( 3 ) | ||||
| غالى على قلب الفرح المسيحى |
|
موضوع جميل اوى مرسي على تعب محبتكم الرب يبارك حياتكم
|
||||
13 - 05 - 2012, 05:58 AM | رقم المشاركة : ( 4 ) | ||||
† Admin Woman †
|
شكرا على الموضوع يا قمر ربنا يبارك حياتك |
||||
13 - 05 - 2012, 06:16 AM | رقم المشاركة : ( 5 ) | ||||
..::| مشرفة |::..
|
ميرسي كتييييييييير للمرور الجميل |
||||
|